عليهما مسائل متعددة، قد ذكرناها في ((كتاب القواعد في الفقه)) .
الطريق الثاني:(8/10)
855 - ثنا سعيد بن عفير: ثنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب: زعم عطاء، أن جابر بن عبد الله زعم، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا – أو قال: فلعتزل مسجدنا -، وليقعد في بيته)) .
وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى بقدر فيه خضروات من بقول، فوجد لها ريحا، فسأل، فأخبر بما فيها من البقول، فقال: ((قربوها)) –الي بعض أصحابه كان معه -، فلما رأه كره أكلها. قال: ((كل، فإني أناجي من لا تناجي)) .
وقال أحمد بن صالح، عن ابن وهب: ((أُتي بِبَدرٍ)) .
قال ابن وهب: يعني: طبقاً فيه خضرواتٌ.
ولم يذكر الليث وأبو صفوان، عن يونس قصةَ القدرِ، فلا أدري: هو من قول الزهري، أو في الحديث؟
قالَ الخطابي: قول ابن شهاب: ((زعم عطاء، أن جابراً زعمَ)) ليس على معنى التهمة لهما، ولكن لما كان أمراً مختلفاً فيه حكىعنهم بالزعم، وقد يستعمل فيما يختلف فيه كما يستعمل فيما يرتاب به، ويقال: في قولِ فلانٍ مزاعمٌ، إذا لميكن موثوقاً به.
وذكر: أن رواية ((القدر)) تصحيفٌ، إنما الصواب ((ببدرٍ)) وهو الطبق،(8/10)
كما قاله ابن وهب، وسمي بدراً لاستدارئه وحسن اتساقه، تشبيهاً بالقمر.
قال: وإن لم يكن ((القدر)) تصحيفاً، فلعله كان مطبوخاً، ولذلك لم يكره أكله لأصحابه، ثم بين أن كراهته لا تبلغُ التحريمَ لقوله: ((أناجي من لا تناجي)) ، يريد: الملك. انتهى.
وخرج ابن جرير الطبري بإسناد فيه ضعفٌ من حديث أبي أيوب الأنصاري، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال –لما امتنعَ من أكل الطعام الذي أرسله إليه -: ((إن فيها هذه البقلةَ: الثومَ، وأنا رجلٌ أقربُ الناسَ وأناجيهم، فأكره أن يجدُوا مني ريحهُ، ولكن مُر أهلكَ أن يأكلوها)) .
وهذه الرواية: تدلُ على أنه كره أكلها لكثرةِ مخالطتهِ للناس وتعليمهم القرآن والعلمَ، فيستفاد من ذلك: أن من كان على هذه الصفة، فإنه يكره ذلك من ذلك ما لا يكره لمن لم يكن مثلَ حاله.
ولكن؛ روى مالكٌ، عن ابن شهاب، عن سليمان بن يسار، قالَ: كانَ
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يأكل الثوم ولا البصل ولا الكراث من أجل أن الملائكة تأتيه، مِن أجل أنه يكلم جبريل عليه السلام.(8/11)
وهذا مرسلٌ.
ولا ينافي التعليلُ بمناجاتِ الملك التعليلَ بمناجاةِ بني آدم، كما وردً تعليلٌ النهي عن قربانِ أكل الثومِ للمساجد بالعلتين جميعاً، كما سبق ذكرُه.
وقد ذكر البخاري: أن قصة إتيانه بقدرٍ أو بدرٍ لم يذكرها في هذا إلا ابن وهبٍ عن يونسَ، وأن الليث بن سعدٍ وأبا صفوان –وهو: عبدُ الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان –رويا عن يونس أول الحديث دون هذه القصةِ الآخرة، وأن ذلك يوجب التوقفَ في أن هذه القصةَ: هل هي من تمام حديثِ جابرٍ، أو مدرجةٌ من كلامِ الزهري؛ فإن الزهريَ كان كثيراً ما يروي الحديث، ثم يدرجُ فيه أشياءَ، بعضها مراسيلُ، وبعضها من رأيه وكلامه.
وقد خرّج البخاري في ((الأطعمةِ)) الحديث من رواية أبي صفوان، عن يونس، مقتصراً على أول الحديثِ.
وخرّج البخاري في ((الأطعمةِ)) الحديثَ عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب، وفي حديثه: ((ببدر)) ، وذكر مخالفة سعيد بن عفيرٍ له، وأنه قال: ((بقدرٍ)) .(8/12)
وأما حديث أنسٍ:
فقال:
856 -(8/13)
حدثنا أبو معمرٍ: ثنا عبدُ الوارثِ، عن عبد العزيز، قال: سأل رجلٌ أنساً: ما سمعتَ نبيَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الثوم؟ فقال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا، ولا يصلين معنا)) .
وخَّرجه في موضع آخر، وقال: ((فلا يقرَبنَّ مسجدنا)) .
وفي النهي لمن أكلهما عن قربان الناس: دليلٌ على أنه يكره له أن يغشى الناس حتى يذهب ريحها، ولكن حضوره مجامع الناسِ للصلاةِ والذكر ومجالسته لأهل العلمِ والدين أشد كراهةً من حضوره الأسواق ومجالسته الفساق.
ولهذا في حديث جابر المتقدم: ((وليقعد في بيته)) .
وفي ((صحيح مسلمٍ)) من حديث أبي سعيدٍ الخدريَ، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر على زراعة بصل هو وأصحابه، فنزلَ ناسٌ منهم، فأكلوا منه، ولم يأكل اخرون، فرحنا إليهِ، فدعا الذين لم يأكلوا البصلَ، وأخر الاخرينَ، حتى ذهب ريحها.(8/13)
وقد روي عن عمرَ، أنه قال: من أكل البصل والكراث فلا يأكله عند قراءة القرآن، ولا عند حضورِ المساجد.
خرّجه عثمان الدارمي في ((كتاب الأطعمةِ)) .
ومن أغرب ما روي في هذا الباب: ما خَّرجه أبو داود وابن حبان في
((صحيحه)) من حديث حذيفةَ –بالشكَّ في رفعه -: ((من أكل منهذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا ثلاثاً)) .
وهذا مشكوك في رفعه.
وقدرواه جماعةٌ من الثقات، فوقفوه على حذيفة بغير شك، وهو الأظهر والله أعلم.
ويحتمل أن في الكلام حذفاً، تقديره: قالها ثلاثاً. يعني: أنه اعاد هذه الكلمة ثلاث مراتٍ.
وقد دلت أحاديث هذا الباب على أن أكل الثوم غير محرمٍ في الجملة، وإنما ينهى من أكله عن دخولِ المسجدِ حتى يذهبَ ريحه، وعلى هذا جمهور العلماءِ.
وذهب إلى تحريمِ أكله طائفةٌ قليلةٌ من أهل الظاهرِ. وروي عن بعض المتقدمين –أيضاً -، والنصوصُ الصحيحةُ صريحةٌ برد هذا الكلامِ.(8/14)
وأما كراهةٌ أكل ذلك، فمن العلماء من كره أكله نيئاً حتى يُطبخ، منهم: عمر وابن عمر والنخعي، وهو قول أحمد، وقال: الثوم أشدُّ.
وروي عنه روايةٌ، أنه قال: لا أحب أكل الثوم خاصة، وإن طبخ، لأنه لا يذهب ريحه إذا طبخ، قال: وإن أكله من علةٍ فلا بأس، وقال: الذي يأكلها يتجنب المسجد، وكل ما له ريحٌ، مثلُ البصلِ والثومِ والكراثِ والفجلِ فإنما أكرهه لمكانِ الصلاةِ.
وسئل عن أكل ذلك بالليلِ؟ فقال: أليس يتأذى به الملكُ.
وظاهرُ هذا: يدل على كراهةِ أكل ما له ريحٌ كريهةٌ، وان كان وحده.
وقد روي عن سعد بن أبي وقاصٍ، أنه كان إذا اراد أن ياكل الثوم بدا –يعني: خرج إلى البادية.
وعن عكرمة، قال: كنا نأكله ونخرجُ من الكعبةِ.
خَّرجه ابن جريرٍ الطبريُ.
ولو أكله، ثم دخل المسجد كُره له ذلكَ.
وظاهر كلامِ أحمد: أنه يحرمُ، فإنه قال في رواية إسماعيل بن سعيد: إن أكل وحضر المسجدَ أثمَ.
وهو قولَ ابن جرير – أيضاً - وأهل الظاهر وغيرهم.
قال ابنُ جرير: وإذا وجد منه ريحةً في المسجد، فإن السلطان يتقدم اليه بالنهي عن معاودة ذلك، فإن خالف وعاد، أمر بإخراجه من البلد إلى أن تذهب منه الرائحة. واستدل بحديث عمر –رضي الله عنه -، وقد سبق(8/15)
ذكره.
وقد استدل قومٌ من العلماء بأحاديث هذا الباب على أن حضور الجماعة في المساجد ليست فرضاً؛ لأنها لو كانت فرضاً لم يرخص في أكل الثوم وينهى من أكله عن حضور المسجد، وجعلوا أكل هذهِ البقولِ التي لها ريحٌ خبيثةٌ عذراً يبيح ترك الجماعةِ.
ورد عليهم آخرون:
قال الخطابي: قد توهم هذا بعضُ الناس؛ قال: وإنما هو – يعني: النهي عن دخول المسجد – توبيخٌ له وعقوبةٌ على فعله إذ حرم فضيلة الجماعةَ.
ونقل ابن منصورٍ، عن إسحاق، قال: إن أكل الثوم من علةٍ حادثةٍ به فإن ذلك مباح، وان لم يكن علة لا يسعه أكله، لكي لا يترك الجماعةَ.
وهذا مجمولٌ على ما إذا أكله بقربِ حضورٍ الصلاة ويعلم [ ... ] فريضة.
ودخولُ المسجد مع بقاء ريح الثوم محرمٌ، وهو قولُ طائفةٍ من أصحابنا وابن جرير وغيرهم من العلماء.
ويشهدُ لهذا: أن الخمر قبل أن تحرم بالكلية كانت محرمة عند حضور الصلاةِ، كيلا يمنع من الصلاةِ، حيث كان الله قد انزل فيها {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] ، فكان منادي(8/16)
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينادي: ((لا يقرب الصلاة سكرانٌ)) . وفي ضمن ذلك، النهي عن السكر بقرب وقت الصلاة، ثم حرمت بعد ذلك على الإطلاق بالآية التي في سورة المائدة.
وقد تقدم نص أحمد بإنه قال: أكرهه في وقت الصلاة، لمكانِ المسجدِ.
وهذا يحتملُ كراهة التنزيه، وكراهة التحريم.
وروى ابن وهب، عن مالك، أنه سئل عن أكل الثوم يوم الجمعة؟ فقال: بئسما صنع حين أكل الثوم وهو ممن يجب عليه حضورُ الجمعة.
وقد ذكرنا: أن هذ الحكم يتعدى إلى كل مأكول له رائحةٌ كريهةٌ، كالفجل وغيره، وأن أحمد نص عليه.
وكذلك قال مالكٌ: الكراثُ كالثوم، إذا وجدت ريحهما يؤذي.
وألحق أصحاب مالكٍ به: كل من له رائحةٌ كريهةٌ يتأذى بها، كالحراث والحوات.
وفيه نظر، فإن هذا أثر عملٍ مباحٍ، وصاحبه مخحتاج اليه، فينبغي أن يؤمر إذا شهد الصلاة في جماعته بالغسل وإزالة ما يتأذى برائحته منه، كما أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كان يشهد الجمعة من الأنصار الذين كانوا يعملون في نخلهم ويلبسون الصوف ويفوح ريحهم بالغسل، وأمرهم بشهود الجمعة في ثوبين غير ثوبي المهنة.(8/17)
وذكر ابن عبد البر عن بعض شيوخه، أنه ألحق بأكل الثوم من كان أهل المسجد يتأذون بشهوده معهم من اذاه لهم بلسانه ويده، لسفهه عليهم وإضراره بهم، وأنه يمنع من دخول المسجد ما دام كذلك، وهذا حسنٌ.
وكذلك يمنعُ المجذومُ من مخالطة الناس في مساجدهم وغيره؛ لما روي من الامر بالفرار منه. والله أعلمَ.(8/18)
وفي ((تهذيب المدونةِ)) : ويقامُ الذي يقعدُ في المساجد يوم الخميس وغيره لقراءة القرآن.
ولعلَ مراده: إذا كان يقرأ جهراً، ويحصلُ بقراءته أذى لأهلِ المسجدِ، ويشوش عليهم. والله أعلم.
* * *
161 -(8/19)
باب
وضوء الصبيان، ومتى يجب عليهم الغسل والطهور
وحضورهم الجماعة والعيدين والجنائز، وصفُوفهم
لما أن تعين ذكر صفة الصلاة، وكان الغالبُ على أحكامها يختصً بالرجال المكلفين، افرد لحكم الصبيان باباً مفرداً، ذكر فيه حكم طهارتهم من الوضوء والغسل، وذكر صلاتهم وحضورهم الجماعات مع الرجال فيالصلوات المفروضات وفي العيدين والجنائز، وصفوفهم مع الرجال.
وذكر في الباب أحاديث ستة، يُستنبط منها هذهِ الأحكام التي بوب عليها.
ولم يبوب على وقت وجوب الصلاة عليهم؛ لأن الأحاديث في ذلك ليست على شرطهِ.
وهي نوعان:
أحاديث: ((مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم على تركها لعشرٍ)) .
وقد رُويت من وجوهٍ متعددةٍ، أجودها: من حديث سبرة بن معبدٍ الجهني، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((مروا الصبيَّ بالصلاة إذا بلغَ سبعَ سنينَ، واذا بلغ عشر سنينَ فاضربوه عليها)) .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود – وهذا لفظه – والترمذي –وقال: حسنٌ صحيحٌ –وابن خزيمة في ((صحيحه)) والحاكمُ –وقال: على شرط(8/20)
مسلم.
وقد ذهبَ إلى هذا الحديث جماعةٌ من العلماء، وقالوا: يُؤمر بها الصبيُ لسبعٍ، ويضرب على تركها لعشرٍ، وهو قولُ مكحولٍ والأوزاعي وأحمد وإسحاق.
وتقل ابن منصورٍ، عنهما، أنهما قالا: إذا ترك الصلاة بعد العشر يعيد.
واختلف أصحابنا: هل هي واجبةٌ عليه في هذه الحال، أم لا؟ فأكثرهم على أنها لا تجب على الصبي، لكن يجب على الولي أمره بها لسبعٍ، وضربه إذا نركها لعشر.
ومنهم من قال: هي واجبةٌ عليه إذا بلغ عشراً، يضربه على تركها.
وقد قيل: إن الضرب على الترك، تارةً يكون في الدنيا والآخرة كالوضوء على المسلمِ البالغِ العاقل، وتارةً يكون في الآخرة دون الدنيا كوجوب فروع الاسلام على الكفار، وتارةً يكون فغي الدنيا خاصة كضرب الصبي إذا ترك الصلاة لعشر، ولا يلزم من ذلك أن يعاقب عليها في الآخرة.
ومن العلماء من قال: يؤمر الصبي بالصلاة إذا عرف يمينه من شماله، روي عن ابن سيرين والزهري، وروي عن الحسن وابن عمر،(8/21)
وفيه حديث مرفوع، خَّرجه أبو داود، وفي إسناده جهالةٌ، وهو اختيار الجوزجاني.
وروي عن عمر، أنه مر على امرأة توقظ ابنها لصلاة الصبح وهو يتلكا، فقال: دعيه لا يعنيه، فإنها ليست عليه حتى يعقلها.
وعن عروة، وميمون بن مهران، قالا: يؤمر بها إذا عقلها.
وعن بعض التابعين: يؤمر بها إذا أحصى عدد عشرين.
وعن النخعي ومالك: يؤمر بها إذا ثغر –يعني: تبدلت اسنانه.
النوع الثاني: أحاديث: ((رُفع القلم عن ثلاث)) ، منهم: ((الصبي حتى
يحتلم)) .
وفي ذلك أحاديث متعددة:
منها: عن عمر وعلي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خَّرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذيُ والنسائي.
وقد اختلف في رفعه ووقفه، ورجح الترمذي والنسائي والدارقطني وغيرهم وقفه على عمر، وعلى عليّ من قولهما.
وله طرق عن علي.
ومنها: عن عائشة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: ((وعن الصبي حتى يكبر)) .(8/22)
خَّرجه أبو داود وابن حبان في ((صحيحه)) من رواية حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة.
وقال النسائي: ليس في هذا الباب صحيحٌ إلاحديث عائشة؛ فإنه حسن.
ونقل الترمذي في ((علله)) عن البخاري، أنه قالَ: ارجو أن يكون محفوظاً. قيل له: رواه غير حماد؟ قال: لا أعلمه.
وقال ابن معين: ليس يرويه أحد، إلا حماد بن سلمة، عن حمادٍ.
وقال ابن المنذر: هو ثابت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والى هذا الحديث ذهب أكثر العلماء، وقالوا: لا تجب الصلاة على الصبي حتى يبلغ. والله أعلم.
وقد تقدم: أن البخاري خرج في هذا الباب ستة أحاديث:
الأول:
857 -(8/23)
حدثنا محمد بن المثنى: ثنا غندر: ثنا شعبة: سمعت سليمان(8/23)
الشيباني: سمعت الشعبي، قال: أخبرني من مر مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على قبرٍ منبوذ، فأمهم وصفوا عليه، فقلت: يا أبا عمرو: من حدثك؟ قالَ: ابن عباس.
مراد البخاري من هذا الحديث في هذا الباب: أن ابن عباس صلى خلف النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أصحابه على القبر، وابن عباس كانَ صغيراً لم يبلغ الحلم، وقد سبق ذكر الاختلاف في سنه عندَ وفاة النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ((كتاب العلم)) ، فدّل على أن الصبي يشهد صلاة الجنائز مع الرجال، ويصلي معهم عليها، ويصف معهم.
وقدر خَّرجه البخاري في موضع آخر من ((كتابه)) هذا بلفظ آخر، وفيه:
((فقام فصففنا خلفه، قال ابن عباس: وأنا فيهم، فصلى عليه)) .
وقد خَّرجه الدارقطني من طريق شريك، عن الشيباني بهذا الإسناد، وقال في حديثه: ((فقام فصلى عليه، فقمت عن يساره، فجعلني عن يمينه)) .
وهذه زيادة غريبة، لا أعلم ذكرها غير شريك، وليس بالحافظ، فإن كانت محفوظة استدل بها على صفوف الجنائز كصفوف سائر الصلوات.
وقد اختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: كذلك، وهو ظاهر كلام أحمد؛ لأنه نص على كراهة صلاة الفذ وحده في صلاة الجنازة.(8/24)
ومنهم من قال: يصلي على الجنازة الرجل وحده، منفرداً خلف الصفوف، منهم: القاضي أبو يعلى في ((خلافه)) وابن عقيل.
وقالوا: إذا لم يكن جعل الصفوف في صلاة الجنازة ثلاثة إلا بقيام واحد
صفاً وحده كان أفضل.
واستدل بما روى عبد الله بنعمر العمري، قال: سمعت أم يحيى قالت: سمعت أنس بن مالك يقول: مات ابن أبي طلحة، فصلى عليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقام أبو طلحه خلف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأم سليمٍ خلف أبي طلحة كأنهم عرفُ ديكٍ، وأشار بيده.
خَّرجه الإمام أحمد.
وخرج أبو حفص العكبري – من أصحابنا – بإسناده. عن خير بن نعيم الحضرمي، أن أبا الزبير – أو عطاء بن أبي رباح – أخبره. أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على جنازةٍ، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابعهم، فجعلهم ثلاثة صفوفٍ، الصف الأول ثلاثة، والصف الثاني رجلين، والصف الثالث رجلاً، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أيديهم.
وهذا مرسلٌ.
وقد نص أحمد على أنه يستحب جعلهم في صلاة الجنائز ثلاثة صفوف، إذا أمكن أن يكون في كل صف اثنان فصاعداً، واستدل بحديث مالك بن هبيرة، أنه كان إذا صلى على جنازة فتقال الناس عليها جزأئهم ثلاثة اجزاء، ثم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب)) .
خَّرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي.(8/25)
وقال: حديث حسن.
الحديث الثاني:
858 -(8/26)
ثنا علي بن عبد الله: ثنا سفيان: حدثني صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)) .
مراده بهذا الحديث هاهنا: الاستدلال به على أن الغسل الواجب لا يجب إلا على من بلغ الحلم، وهو المراد بالمحتلم في هذا الحديث، كما أن قوله: ((لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمارٍ)) ، إنما أراد به من بلغت(8/26)
المحيض.
وقد اختلف العلماء في معنى الوجوب في هذا الحديث: هل هو على ظاهره، أم المراد به التأكيد؟ وفيه خلاف يأتي في موضع آخر –إن شاء الله سبحانه وتعالى.
فإن قيل: أنه علي ظاهره، وإنه يأثم بتركه، فإن هذا الوجوب يختص بالبالغ ولا يدخل فيه الصبي، اللهم، إلا على رأي من أوجب الصلاة على من بلغ عشراً من الصبيان، كما هو قول طائفةٍ من أصحابنا، فإنهم اختلفوا في وجوب الجمعة عليه، ولهم فيه وجهان، أصحهما: لا يجب.(8/27)
فإن قيل بوجوبها عليه توجه وجوب الغسل عليه – أيضاً -، وهو ضعيف لأنه مبطلٌ فائدة تخصيص الوجوب في هذا الحديث بالمحتلم.
وإن قيل: أن الوجوب في الحديث إنما أريد به تأكيد الاستحباب، فهل يدخل فيه الصبي؟
لا يخلو الصبي، إما أن لا يريد حضور الجمعة، فلا يؤمر بالغسل لها، وإما أن يريد حضورها مع الرجال، ففي استحباب الغسل له وجهان لأصحابنا.
وينبغي أن لا يتأكد الاستحباب في حقه كتاكيده على الرجال؛ لئلا تبطل فائدة تخصيص الوجوب بالمحتلم في الحديث.
ومذهب مالك؛ أنه يغتسل إذا أراد شهود الجمعة.
وأما وجوب الغسل على الصبي إذا وجد منه ما يوجب الغسل على البالغ، مثل أن يطأ ويولج في فرج امرأة، أو تكون الزوجة الموطأة صغيرةً لم تبلغ، فيطؤها الرجل، فهل يجب عليها وعلى الصبي الواطء - بغير إنزال – الغسل؟ فيه قولان مشهوران
للفقهاء:
أحدهما: يجب، وهو نص أحمد، واختيار ابن شاقلا وغيره من أصحابنا، وهو قول إسحاق بن راهويه.
وقالت الشافعية: يصير بذلك جنباً، ويمنع مما يمنع منه الجنب حتى يغتسل، ويلزم وليه أن لا يمكنه مما يمنع منه الجنب حتى يغتسل.
ولم يقولوا: أن غسله واجبٌ، لئلا يتوهم(8/28)
أنه مكلف به.
والثاني: لا يجب، بل يستحب، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وأبي ثور، وأصحابنا؛ لأن الغسل عبادة بدنية، فلا تلزم الصبي، كالصوم والصلاة.
قال المحققون من أصحابنا: وهذا لا يصح؛ لأنه ليس المعني بوجوبه تأثيمه بتركه لينافيه الصغر، بل فائدته اشتراطه لصحة صلاته وطوافه، وتمكينه من مس المصحف، وقراءة القرآن، واللبث في المسجد، وإلزامه به إذا بلغ، وتغسيلنا له يشبه ما لو قتل شهيداً قبل أن يغتسل، وغير ذلك من الأحكام، والصغر لا ينافي ذلك، كما لم يناف إيجاب الوضوء عليه بموجباته بهذا المعنى –أيضاً.
ولا نعلم خلافاً أن الصبي المميز تصح طهارته ويرتفع حدثه، ولو بلغ بعد أن توضأ لجاز أن يصلي بذلك الوضوء الفرض، ولا نعلم في ذلك خلافاً، إلا وجهاً شاذاً للشافعية، لا تعويل عليه.
ولكن؛ هل يوصف وضوؤه قبل بلوغه بالوجوب؟ فيه لأصحابنا وجهان.(8/29)
وهذا الخلاف يشبه الخلاف في تسمية غسله واجباً، على ما سبق.
ويشبه تخريج هذا الخلاف في تسميته واجباً عليه بدون إرادة الصلاة، على الخلاف في أن الموجب للطهارة، هل هو الحدث، أو إرادة الصلاة؟ وفيه اختلافٌ مشهورٌ.
ويمكن أخذه من اختلاف الروايتين عن أحمد في غسل الحائض للجنابة في حال حيضها.
وأما أن الصبي ممنوعٌ من الصلاة بدون الطهارة، فمتفقٌ عليه.
نعم؛ في جواز تمكين الصبي من مس لوحه الذي يكتب فيه القرآن روايتان عن أحمد، ومن أصحابنا من حكى الخلاف في مسهم لمصاحفهم.
ووجه عدم اشتراطه: أن حاجتهم إلى ذلك داعيةٌ، ويشق منعهم منه بدون طهارة، لتكرره، ووضوؤهم لا يحتفظ غالباً.
وهو - أيضاً – قول الحنفية، وأصح الوجهين للشافعية؛ لهذا المعنى.
وهذا كله في حق الصبي المميز، فأما من لا تميز له فلا طهارة له ولا صلاة، ولو توضأ لم يؤثر استعماله في الماء شيئاً.
وأما المميز إذا توضأ بالماء، فهل يصير مستعملاً؟ فيه لأصحابنا وجهان.
ويحسن بناؤها على أن وضوءه: هل يوصف بالوجوب، أو بالاستحباب؟
والأظهر: أنه يصير مستعملاً، لأنه قد رفع حدثه، وأزال منعه من(8/30)
الصلاة.
وهو – أيضاً – أصح الوجهين للشافعية.
والثاني لهم: ليس بمستعمل، لأنه لم يؤدَّ به فرضاً.
قالوا: والصحيح: أنه مستعمل؛ لأن المراد بفرض الطهارة ما لا تجوز الصلاة ونحوها إلا به، لا ما يأثم بتركه.
الحديث الثالث:(8/31)
859 - حديث ابن عباس: بت عند خالتي ميمونة ليلة، فقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما كان في بعض الليل قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتوضأ من شنَّ معلقٍ، وضوءا خفيفا، ثم قام يصلي، فقمت فتوضأت نحواً مما توضأ، ثم جئت فقمت عن يساره، فحولني فجعلني عن يمينه، ثم صلى –وذكر الحديث.
وقد تقدم في أوائل ((كتاب الوضوء)) بهذا الاسناد والسياق الذي خرَّجه في هذا الباب.
والمقصود منه هاهنا: أن ابن عباسٍ توضأ كما توضأ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قام إلى جانب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي معه، وأنه لما قام عن يساره ولم يكن موقفاً للمأموم حوله عن يمينه إلى موقف المأموم، فهذا يدل على صحة طهارة الصبي وصلاته، وإئتمامه بالإمام،(8/31)
ومصافته للإمام، فإن ابن عباس كان إذ ذاك صبياً، كما سبق ذكره.
وقد تقدم الكلام على انعقاد الجماعة بالصبي، وعلى أن من وقف مع صبي، فهل هو فذٌ، أم لا؟
الحديث الرابع:
861 -(8/32)
حديث ابن عباس: أقبلت راكباً على حمارٍ أتانٍ، وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس بمنىً إلى غير جدارٍ، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك علي أحدٌ.
قد سبق هذا الحديث في ((باب: سترة الإمام سترةٌ لمن خلفه)) من طريق مالك، خرَّجه هناك عن عبد الله بن يوسف، عن مالكٍ، وخرَّجه هنا عن عبد الله بن مسلمة –هو: القعنبي -، عن مالكٍ.
والمراد بتخريجه هاهنا: الاستدلال على صحة صلاة النبي، وأنه يدخل في صف الرجال ويقف معهم.
وقد استدل بهذا مالكٌ على أن الأفضل أن يجعل في الصف بين كل رجلين صبياً؛ ليتعلم أدب الصلاة وخشوعها.
وهو أحد الوجهين للشافعية.
والثاني لهم: يقف الصبيان إذا كثروا صفاً خلف الرجال.
وهو(8/32)
مذهبنا ومذهب أبي حنيفة.
استدلوا لذلك بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ليلني أولوا الأحلام منكم والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) .
خرَّجه مسلم.
وبما روى شهر بن حوشبٍ: حدثنا عبد الرحمبن غنمٍ، أن أبا مالكٍ الأشعري جمع قومه، فقال: اجتمعوا واجمعوا نسائكم وأبنائكم أعلمكم صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاجتمعوا وجمعوا نساءهم وأبناءهم، وأراهم كيف يتوضأ، فأحصى الوضوء أماكنه، حتى لما أن فاء الفيء وانكسر الظل قام فأذن، وصف الرجال في أدنى الصف، وصف الولدان خلفهم، وصف النساء خلف الولدان، ثم اقام الصلاة، فتقدم فصلى – وذكر قصة الصلاة، ثم قال: إنها صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرَّجه الإمام أحمد بتمامه، وخرَّجه أبو داود مختصراً.
ولو قام الصبي في وسط الصف، ثم جاء رجلٌ، فله أن يؤخره ويقوم مقامه، نص عليه، وفعله أبي بن كعبٍ بقيسِ ابن عبادٍ، وروي نحوه عن عمر – أيضاً -، فهذا قول الثوري وأحمد، وقد سبق ذكره في ((أبواب الصفوف)) .(8/33)
ولو كان الصبي في آخر الصف، فقام رجلٌ خلفه في الصف الثاني، فقال أحمد: لا بأس به، هو متصلٌ بالصف.
وحمله القاضي على أن الصف إذا كان فيه خللٌ، فوقف رجلٌ لم يبطل اتصاله؛ لأن الصبي لا يصاف في الفرض، على المنصوص لأحمد.
ومن أصحابنا من قال: لا يصاف في الفرض ولا في النفل، ولو قلنا: تصح إمامته في النفل.
وهذه طريقة أبي الخطاب، أنه تصح مصافته في الفرض والنفل، وهو قول الأوزاعي وإسحاق؛ لأنه محكومٌ بصحة صلاته، وان لم تصح إمامته للرجال.
وكذا قال الثوري ومالكٌ وأبو حنيفة والشافعي، لكنه يجيز إمامته للرجال ومصافته أولى.
وكل هؤلاء يقولون فيمن أم رجلاً وصبياً: إنهما يقفان خلفه، وعند أحمد: يقفان عن يمينه، أو يقف بينهما، وعليه حمل وقوف ابن مسعودٍ بين علقمة والأسود، وقال: كان الأسود غلاماً.
وحديث ابن عباسٍ الذي خرَّجه البخاري في هذا الباب يدل على أن دخول الصبي المميز في صف الرجال في الصلاة المفروضة هو السنة. والله أعلم.
الحديث الخامس:
862 -(8/34)
حديث عائشة:(8/34)
أعتم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العشاء، حتى ناداه عمر: قد نام النساء والصبيان، فخرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر الحديث.
وقد سبق في ((أبواب المواقيت)) ، وذكرنا هنالك إسناد هذه الرواية التي في هذا الباب، وأنها من وجهين: مسندٍ ومعلقٍ، وبقية الحديث.
والمقصود منه هاهنا: أن الصبيان كانوا يشهدون مع الرجال الصلاة المكتوبة في المسجد مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الحديث السادس:
863 -(8/35)
حدثنا عمرو بن عليَّ: ثنا يحيى: حدثنا سفيان: حدثني عبد الرحمن بن عابس، قال: سمعت ابن عباسٍ، وقال له رجلٌ: شهدت الخروج مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم، ولولا مكاني منه ما شهدته –يعني: من صغره – وذكر بقية الحديث.
ويأتي في ((صلاة العيدين)) – إن شاء الله.
وقد خرَّجه هناك عن مسددٍ، عن يحيى، وفيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لابن عباسٍ: أشهدت العيد مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم.
والمراد في هذه الرواية بالخروج: الخروج للعيد.
والمقصود من الحديث هاهنا: أن الصبيان كانوا يشهدون صلاة العيد(8/35)
مع النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قوله: ((لولا مكاني منه ما شهدته –يعني: من صغره)) ، يدل على أن من كان في سنه لم يكن خروجه إلى العيد معتاداً، وإنما أخرج ابنٍ عباس لقربه من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكأن الإمام له مزية على الناس في الخروج إلى العيد، حتى يخرج حاشيته كلهم، صغيرهم وكبيرهم.
ولعل ابن عباسٍ أشار إلى خروجه في عيد وهو صغيرٌ في أول سن التمييز، والإ فقد أدرك من حياة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك مدةً؛ فإنه كان في حجة الوداع مناهزاً للاحتلام، كما سبق في الحديث الماضي.
* * *
162 -(8/36)
باب
خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس
لما فرغ من ذكر أحكام صلاة الرجال وصلاة الصبيان شرع في ذكر حكم صلاة النساء، فأفرد لذلك أبواباً وابتدأها بخروجهن إلى المساجد في الليل وغلس الفجر.
وخرج فيه ستة أحاديث:
الحديث الأول:
864 -(8/37)
حدثنا أبو اليمان: أنا شعيبٌ، عن الزهري: أخبرني عروة، عن عائشة، قالت: أعتم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعتمة، حتى ناداه عمر: نام النساء والصبيان – وذكر بقية الحديث.
وقد ذكرنا باقيه في ((أبواب المواقيت)) .
والمقصود منه هاهنا: الاستدلال على شهود النساء صلاة العشاء مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الحديث الثاني:
865 -(8/37)
ثنا عبيد الله بن موسى، عن حنظلة، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى(8/37)
المساجد فأذنوا لهن)) .
تابعه: شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
((حنظلة)) ، هو: السدوسي.
وقد رواه الترمذي –أيضاً - عن سالم.
وخرَّجه البخاري فيما بعد، ويأتي قريباً –إن شاء الله.
وليس فيها: ذكر الليل.
وكذلك رواه نافعٌ، عن ابن عمر، وغيرهم –أيضاً.
ورواية الأعمش، عن مجاهدٍ، عن ابن عمر التي علقها البخاري، خرَجها مسلمٌ في ((صحيحه)) من رواية أبي معاوية وعيسى بن يونس، كلاهما عن الأعمش، به، ولفظه: ((لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل)) .
وخرَّجه – أيضاً – من رواية عمروٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد)) .
وخرّج البخاريُّ في ((كتاب الجمعة)) من طريق عمروٍ – أيضاً -، وسياتي –إن شاء الله سبحانه وتعالى.(8/38)
ومراد البخاري بالمتابعه، ذكر الليل، مع أن مسلماً خَرج حديث حنظلة عن سالمٍ، ولم يذكر فيه: ((بالليل)) .
وقال الإمام أحمد في رواية حنظلة، عن سالم عن أبيه: إسنادٌ حسنٌ.
الحديث الثالث:
866 -(8/39)
حدثنا عبد الله بن محمد: حدثنا عثمان بن عمر: أخبرنا يونس، عن الزهري: حدثتني هند بنت الحارث أن أم سلمه زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبرتها، أن النساء في عهد الرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كن إذا سلمن من المكتوبة قمن وثبت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فاذا قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام الرجال.
قد سبق هذا الحديث وهذا السياق أتم مما تقدم.
وليس في هذا الحديث: ذكر الليل، والظاهر أنه كان نهاراً، أو أعم من ذلك.
الحديث الرابع:
867 -(8/39)
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالكٍ –ح وحدثنا عبد الله بن يوسف: أخبرنا مالكٌ، عن يحيى بن سعيد، عن(8/39)
عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشه، قالت: إن كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلي، الصبح فينصرف النساء متلفعاتٍ بمروطهن، ما يعرفن من الغلس.
قد سبق هذا الحديث في"أبواب المواقيت "من روايه الزهري، عن عروة عن، عائشة –بمعناه.
وفيه: دليلٌ على شهود النساء صلاة الصبح مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجوعهن في غلس الظلام.
الحديث الخامس:
868 -(8/40)
حدثنا محمد بن مسكين - يعني: ابن نملية -: ثنا بشر بن بكرٍ: أنبأ الأوزاعي: حدثني يحيى بن أبي كثيرٍ، عن عبد الله ابن أبي قتادة، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إني لأقوم إلى الصلاة، وأنا أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي كراهة أن أشق على أمه)) .
((نملية)) بالنون، ذكره ابن ماكولا، وهو يماميٌ ثقةٌ.
وقد تقدم هذا الحديث في "أبواب الإمامه"مع أحاديث أخر متعددةٍ في هذا المعنى.
والمراد هاهنا من ذلك: أن النساء كن يشهدن الصلاة خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد، ومعهن صبيانهن، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعلم ذلك، ويراعي في صلاته حالهن، ويؤثر ما عليهن، ويجتنب ما يشق(8/40)
عليهن، وذلك دليل على أن حضورهن الجماعه معه غير مكروهٍ، ولولا ذلك لنهاهن عن الحضور معه للصلاة.
الحديث السادس:
869 -(8/41)
حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالكٌ، عن يحيى بن سعيدٍ، عن عمرة، عن عائشه: قالت لو أدرك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أحدث النساء [بعده] لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل.
قلت لعمرة: أو منعن؟ قالت: نعم.
تشير عائشةُ – رضي الله عنها –إلى أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرخص في بعض ما يرخص فيه حيث لم يكن في زمنه فسادٌ، ثم يطرأ الفساد ويحدث بعده، فلو أدرك ما حدث بعده لما استمر على الرخصه، بل نهى عنه؛ فإنه إنما يأمرُ بالصلاح، وينهى عن الفساد.
وشبيهٌ بهذا: ما كان في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعهد أبي بكرٍ وعمر من خروج الإماء إلى الأسواق بغير خمارٍ حتى كان عمر يضرب الأمه إذا رآها منتقبةً أو مستترةً، وذلك لغلبة السلامه في ذلك الزمان، ثم زال ذلك وظهر الفساد وانتشر، فلا يرخص حينئذٍ فيما كانوا يرخصون فيه.
فقد اختلف العلماء في حضور النساء مساجد الجماعات للصلاة مع(8/41)
الرجال: فمنهم من كرهه بكل حالٍ، وهو ظاهر المروي عن عائشه - رضي الله عنها -، وقد استدلت بأن الرخصة كانت لهن حيث لم يظهر منهن ما ظهر، فكانت لمعنىً وقد زال ذلك المعنى.
قال الإمام أحمد: أكره خروجهن في الزمان؛ لأنهن فتنتةٌ.
وعن أبي حنيفة روايةٌ: لا يخرجن الإ للعيدين خاصةً.
وروى أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي، قال: حقٌ على كل ذاتِ نطاقٍ أن تخرج للعيدين. ولم يكن يرخص لهن في شيء من الخروج الإ في العيدين.
ومنهم من رخص فيه للعجائز دون الشوابَّ، وهو قول مالكٍ –في رواية - والشافعي وأبي يوسف ومحمدٍ، وطائفةٍ من أصحابنا أو أكثرهم.
حكاه ابن عبد البر عن العلماء، وحكاه عن مالكٍ من روايه أشهب: أن العجوز تخرج إلى المسجد ولا تكثر التردد، وأن الشابه تخرج مرةً بعد مرة.
وقال ابن مسعودٍ: ما صلت امرأة صلاةً أفضل من صلاتها في بيتها، الإ أن تصلي عند المسجد الحرام، إلا عجوزاً في منقلها.
خرَّجه وكيع وأبو عبيدٍ.
وقال: يعني: خفها.
وخرَّجه البيهقي، وعنده: إلا في مسجد الحرام، أو مسجد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(8/42)
ومنهم من رخص فيه للجمع، إذا أمنت الفتنه، وهو قول مالكٍ - في رواية ابن القاسم، ولم يذكر في ((المدونة)) سواه -، وقول طائفه من أصحابنا المتأخرين.
ثم اختلفوا: هل يرخص لهن في الليل والنهار، أم في الليل خاصةً؟ على قولين.
أحدهما: يرخص لهن في كل الصلوات، وهو المحكي عن مالكٍ والشافعي وأبي يوسف ومحمدٍ، وقول أصحابنا.
واستدلوا بعموم الأحاديث المطلقة، وبخروجهن في العيدين، فأما المقيدة بالليل، فقالوا: هو تنبيهٌ على النهار من طريق الفحوى؛ لأن تمكن الفساق من الخلوة بالنساء والتعرض لهن بالليل أظهر، فإذا جاز لهن الخروج بالليل ففي النهار أولى.
وقالت طائفةٌ: إنما يرخص لهن في الليل، وتبويب البخاري يدل عليه، وروي مثله عن أبي حنيفة، لكنه خصه بالعجائز.
وكذا قال سفيان: يرخص لهن في العشاء والفجر. قال: وينهى عن حضورهن تراويح رمضان.
ومذهب إسحاق كأبي حنيفة والثوري في ذلك، الإ أنه رخص لهن في حضور التراويح في رمضان.(8/43)
وهؤلاء استدلوا بالأحاديث المقيدة بالليل، وقالوا: النهار يكثر انتشار الفساق
فيه، فأما الليل فظلمته مع الاستتار تمنع النظر غالباً، فهو أستر وروي عن أحمد ما يدل على أنه يكره للمراة أن تصلي خلف رجلٍ صلاةً جهرية.
وهذا عكس قول من رخص في خروج المرأة إلى المسجد بالليل دون النهار.
قال مهنا: قال أحمد: لا يعجبني أن يؤم الرجل النساء، الإ أن يكون في بيته، يؤم أهل بيته، أكره أن تسمع المرأة صوت الرجل.
وهذه الروايه مبينة –والله أعلم - على قول أحمد: إن المرة لا تنظر إلى الرجل الأجنبي، فيكون سماعها صوته كنظرها إليه، كما أن سماع الرجل صوت المرأة مكروهٌ كنظره إليها؛ لما يخشى في ذلك من الفتنة.
وإن صلى الرجل بنساءٍ لا رجلٌ معهن، فإن كن محارم له أو بعضهن جاز، وإن كن أجنبياتٍ فإنه يكره.
وإنما يكره إذا كان في بيتٍ ونحوه، فأما في المسجد فلا يكره؛ لاسيما إن كان فيه رجالٌ لا يصلون معهم.
فقد روي أن عمر - رضي الله عنه - جعل للنساء في قيام رمضان إماماً يقوم بهن على حدة كما جعل للرجال إماماً.
وأما في بيت ونحوه فيكره؛ لما فيه من الخلوة.
فإن كان امرأةٌ واحدةٌ، فهو محرمٌ، وإن كان امرأتان فهل يمنع ذلك الخلوة؟ فيه لأصحابنا وجهان.(8/44)
ومتى كثر النساء فلا يحرم، بل يكره.
ومن أصحابنا من علل الكراهة بخشيه مخالطة الوسواس له في صلاته.
ومذهب الشافعي: إن صلى بامرأتين أجنبيتين فصاعداً خالياً بهن فطريقان، قطع جمهورهم بالجواز. والثاني: في تحريمه وجهان.
وقيل: أن الشافعي نص على تحريم أن يؤم الرجل نساء منفرداتٍ، إلا أن يكون فيهن محرمٌ له، أو زوجةٌ، وإن خلا رجلان أو رجالٌ فالمشهور عندهم تحريمه.
وقيل: إن كانوا ممن يبعد مواطأتهم على الفاحشة جاز.
فإن صلي بهن في حال يكره، كرهت الصلاة وصحت، وإن كان في حال
تحريم، فمن أصحابنا من جزم ببطلان صلاتهما.
وكره طائفة من السلف أن يصلي الرجل بالنساءِ الأجنبيات وليس خلفه صفٌ من الرجال منهم: الجزري.
وكذلك قال الإمام أحمد –في روايه الميموني -: إذا كان خلفه صف رجال صلى خلفه النساء؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بأنس واليتيم وأم سليم وراءهم.
قيل لهُ: فإن لم يكن رجال، كانوا نساء؟
قالَ: هذه مسأله مشتبهةٌ. قيل لهُ: فصلاتهم جائزة؟(8/45)
قال: أما صلاته فهي جائزة قيل له: فصلاة النساء؟ هذه مسألةٌ مشتيهةٌ.
فتوقف في صحة صلاتهن دونه.
* * *
164 -(8/46)
باب
صلاة النساء خلف الرجال
فيه حديثان:
الأول:
870 -(8/47)
حديث أم سلمة: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه ويمكث في مقامه هو يسيراً قبل أن يقوم.
قال: فنرى –والله أعلم –أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحدٌ من الرجال.(8/47)
خرَّجه عن يحيى بن قزعة، عن إبراهيم بن سعد. وقد خرَّجه فيما تقدم من طريقتين. عنه.
ووجه استدلاله به على تأخير النساء: أن النساء إذا كن يصلين في مؤخر المسجد أمكن أن يتبادرن إلى القيام والخروج قبل الرجال فلو كن يصلين في مقدم المسجد لم يتمكن من ذلك.
الثاني:
871 -(8/48)
حديث أنس: صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيت أم سليم، فقمت ويتيم خلفه، وأم سليم خلفنا.
خرَّجه عن أبي نعيم، عن ابن عيينه، عن إسحاق بن عبد الله، عن أنس.
ووجه الاستدلال به ظاهرةٌ الإ أن الأول هذه الجماعة لم تكن في المسجد.
وقد خرج فيما تقدم حديث سهل بن سعدٍ: كان الناس يصلون مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاقدي أزرهم من الصغر على رقابهم، فقيل للنساء: ((لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرحال جلوساً)) .
خرَّجه في ((أبواب: اللباس)) وفي ((أبواب: السجود)) .
وهو صريح في أن النساء كن يصلين خلف الرجال.
وخرج أبو داود من حديث أسماء بنت أبي بكر، قالت: سمعت(8/48)
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((من كان منكنَّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رؤسهم)) كراهية من أن يرين عورات الرجال. وقد تقدم حديث أبي مالكٍ الأشعري في وصفه صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وصفهٍ الرجال، ثم الصبيان، ثم النساء.
وقد روي عن ابن مسعود، أنه قال: أخروهن من حيث أخرهن الله.
وخرّج مسلم من حديث سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال:
((خيرُ صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)) .
ولا خلاف بين العلماء في أن المراد بتأخير مقامها في الصلاة عن مقام الرجل، إلا أن تكون صغيرة، لم تبلغ فإنه قد روي، عن أبي الدرداء، أنه كان يفهم أم الدرداء –وهي صغيرة لم تبلغ – صف الرجال. والجمهور على خلافه.
وقد سبق حكم إبطال الصلاة بمصافتها الرجال، أو تقدمها عليهم في ((باب: إذا أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد)) .
* * *
165 -(8/49)
باب
سرعة انصراف النساء من الصبح
وقلة مقامهن في المسجد(8/50)
872 - حدثنا يحيى بن موسى: ثنا سعيد بن منصور: ثنا فليح، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي الصبح بغلس، فينصرفن نساء المؤمنين، لا يعرفن من الغلس –أو لا يعرف بعضهنَّ بعضاً.
قد سبق هذا الحديث في ((المواقيت)) من رواية الزهري، عن عروة، عن عائشة –بمعناه -، وفيه: ((ثم ينقلين إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يعرفهن أحد من
الغلس)) .
وهذا يدل على سرعة خروجهن من المسجد عقيب انقضاء الصلاة مبادرة لما بقي من ظلام الغلس، حتى ينصرفن فيه، فيكون أستر لهن.
وهذا المعنى لا يوجد في غير الصبح من سائر الصلوات؛ فلذلك خصه البخاري بالتبويب عليه. والله أعلم.
* * *
166 -(8/50)
باب
استئذان المراة زوجها بالخروج إلى المسجد(8/51)
873 - حدثنا مسدد: ثنا يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا استأذنت امرأة أحدكم فلا يمنعها)) .
قد تقدم هذا الحديث بأتم من هذا السياق.
وقد روي هذا المعنى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه أخر:
خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود من رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات)) .
خرَّجه الإمام أحمد من حديث زيد بن خالد الجهني وعائشة، وفي حديث عائشة أنها قالت: لو رأى حالهنَّ اليوم لمنعهن.
فهذه الأحاديث: تدل على أمرين:
أحدهما:
أن المرأة لا تخرج إلى المسجد بدون اذن زوجها، فإنه لو لم يكن له اذن في ذلك لأمرها أن تخرج أن اذن أو لم يأذن.(8/51)
وخرج ابن أبي شيبة من حديث ابن عمر – مرفوعاً -: ((حق الزوج على زوجته لا تخرج من بيتها إلا بأذنه، فإن فعلت لعنتها ملائكة الله، وملائكة الرحمة، وملائكة الغضب، حتى تتوب أو تراجع)) .
وفي إسناده: ليث بن أبي سليم، وقد اختلف عليه في إسناده.
وخرج البزار نحوه من حديث ابن عباسٍ.
وفي إسناده: حسين بن علي الرحبي، ويقال له: حنش، وهو ضعيف الحديث.
وخرج الترمذي وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث قتادة، عن مورق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((المرأة عورة، فاذا خرجت استشرفها الشيطان)) .
زاد ابن حبان: ((وأقرب ما تكون من ربها إذا هي في قعر بيتها)) .
وصَححه الترمذي.
وإسناده كلهم ثقات.
قال الدارقطني: رفعه صحيح من حديث قتادة، والصحيح عن أبي إسحاق وحميد بن هلال، أنهما روياه عن أبي الأحوص، عن عبد الله(8/52)
موقوفاً.
ولا نعلم خلافاً بين العلماء: أن المرأة لا تخرج إلى المسجد الإ بأذن زوجها، وهو قول ابن المبارك والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم.
لكن من المتقدمين من كان يكتفي في اذن الزوج بعلمه بخروج المرأة من غير منع؛ كما قال بعض الفقهاء: إن العبد يصير مأذونا له في التجارة بعلم السيد بتصرفه في ماله من غير منعٍ.
فروى مالكٍ، عن يحيى بن سعيد، أن عاتكة بنت زيد كانت تستأذن زوجها عمر بن الخطاب إلى المسجد، فيسكت، فتقول: والله، لأخرجنَّ، إلا أن تمنعني، فلا يمنعها.
وروي عن ابن عمر، قال: كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في جماعة، فقيل لها: لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟ فقالت: ما يمنعه أن ينهاني؟ قالوا: يمنعه قول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)) .
خرَّجه البخاري من حديث عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر.
وخرَّجه الإمام أحمد من رواية سالم، عن عمر – منقطعاً.
والأمر الثاني:
أن الزوج منهيٌ عن منعها إذا استأذنته، وهذا لابد من تقييده بما إذا لم يخف فتنةً أو ضرراً.
وقد أنكر ابن عمر على ابنه لما قال له: والله، لمنمعهن، أشد الأنكار، وسبه، وقال له: تسمعني اقول: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتقول: لنمنعهن؟! .(8/53)
وقد تقدم من عمر عدم المنع.
وممن قال: لا يمنعن: ابن المبارك ومالك وغير واحد.
وحكي عن الشافعي، أن له المنع من ذلك وقاله القاضي أبو يعلى وغيره من أصحابنا.
وروى سعيد بن أبي هلال، عن محمد بن عبد الله بن قيس، أن رجالاً من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتو رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: إن نساءنا استاذنونا في المسجد، فقال: ((احبسوهن)) ، ثم إنهن عدن إلى أزواجهن، فعاد أزواجهن إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال:
((احبسوهن)) ، ثم إنهن عدن إلى أزواجهن، فقالوا: يا رسول الله، قد استأذننا حتى إنا لنخرج. قال: ((فإذا أرسلتموهن، فأرسلوهن تفلات)) .
وهذا مرسلٌ غريب.
ومن هؤلاء من حمل قوله: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)) على النهي عن منعهن من حجة الاسلام، وهو في غاية البعد، ورواية من روى تقييده بالليل تبطل ذلك.
ومنهم من حمله على الخروج للعيدين، وهو بعيد –أيضاً -؛ فان النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن من عادته صلاة العيدين في المسجد.
ومن أصحابنا من قال: يكره منعهن إذا لم يكن في خروجهن ضررٌ(8/54)
ولا فتنهٌ، فحملوا النهي على الكراهة.
وقال صاحب ((المغني)) منهم: ظاهر الحديث يمنعه من منعها.
قلت: وهوظاهر ما روي عن عمر وابن عمر، كما تقدم.
وكذلك مذهب مالكٍ: لا يمنع النساء من الخروج إلى المسجد.
وبكل حال؛ فصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد.
خرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهنَّ خيرٌ لهنَّ)) .
وخرج الإمام أحمد وابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) من حديث أم حميد –امرأة أبي حميد -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: ((صلاتك في بيتك خيرٌ من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي)) .
قال: فأمرت، فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها واظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل.(8/55)
وخرج أبو داود معناه من حديث ابن مسعود.
والبيهقي معناه –أيضاً - من حديث عائشة.
وخرج الإمام أحمد والحاكم من حديث أم سلمة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((خيرُ مساجد النساء قعر بيوتهن)) .
وخرَّجه الطبراني من وجه أخر عن أم سلمة، بمعنى الأحاديث التي قبله.
وقد تقدم عن ابن مسعود، أن صلاتها في مسجد مكة والمدينة أفضل من صلاتها في بيتها.
* * *(8/56)
بسم الله الرحمن الرحيم
11
كتاب الجمعة
1 - باب
فرض الجمعة
لقول الله عز وجل: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] الآية.
صلاة الجمعة فريضة من فرائض الأعيان على الرجال دون النساء، بشرائط أخر، هذا قول جمهور العلماء، ومنهم من حكاه إجماعاً كابن المنذر.
وشذ من زعم أنها فرض كفايةٍ الشافعية، وحكاه بعضهم قولاً للشافعي، وأنكر ذلك عامة أصحابه، حتى قال طائفة منهم: لا تحل حكايته عنه.(8/58)
وحكاية الخطابي لذلك عن أكثر العلماء وهم منه، ولعله أشتبه عليه الجمعة
بالعيد.
وحكي عن بعض المتقدمين: أن الجمعة سنةٌ.
وقد روى ابن وهبٍ، عن مالكٍ، أن الجمعة سنة.
وحملها ابن عبد البر على أهل القرى المختلف في وجوب الجمعة عليهم خاصة، دون أهل الأمصار.
ونقل حنبلٌ، عن أحمد، أنه قال: الصلاة –يعني: صلاة الحمعة –فريضةٌ، والسعي إليها تطوعٌ، سنةٌ مؤكدةٌ.
وهذا إنما هو توقف عن اطلاق الفرض على اتيان الجمعة، وأما الصلاة نفسها، فقد صرح بأنها فريضةٌ، وهذا يدل على أن ما هو وسيلة إلى الفريضة ولا تتم الإ به لا يطلق عليه اسم الفريضة؛ لأنه وإن كان مأموراً به فليس مقصوداً لنفسه، بل لغيره.
وتأول القاضي أبو يعلى كلام أحمد بما لا يصح.
وقد دل على فرضيتها: قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] .
والمراد بالسعي: شدة الاهتمام بإتيانها والمبادرة إليها. فهو من سعي القلوب، لا من سعي الأبدان،(8/59)
كذا قال الحسن وغيره، وسيأتي بسط ذلك فيما بعد –إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وفي ((صحيح مسلم)) عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة، إنهما سمعا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على أعواد منبره: ((لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين)) .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث أبي الجعد الضمري –وكانت له صحبة -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من ترك الجمعة تهاوناً ثلاث مرات طبع على قلبه)) .
وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ.
وخرَّجه ابن حبان في ((صحيحه)) .
وروي معناه من وجوهٍ كثيرةٍ:(8/60)
وفي ((صحيح مسلمٍ)) عن ابن مسعودٍ، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هم أن يحرق على من يتخلف عن الجمعة بيوتهم، وقد سبق ذكره.
وخرج أبو داود بإسنادٍ صحيحٍ، عن طارق بن شهابٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
((الجمعة حقٌ واجبٌ في جماعةٍ، إلا أربعة: عبدٌ مملوكٌ، أو امرأةٌ، أو صبيٌ، أو
مريضٌ)) .
قال أبو داود: طارق بن شهابٍ راى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يسمع منه شيئاً. قال البيهقي: وقد وصله بعضهم عن طارق، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس وصله بمحفوظٍ. وخرج النسائي من حديث حفصة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((رواح الجمعة واجبٌ على كل محتلم)) .
وخرج ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطبهم، فقال في خطبيه: ((إن الله فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا، من عامي هذا الى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعدي، وله إمام عادل أو جائرٌ، استخفافاً بها أو جحودا(8/61)
لها فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ولا زكاة له، ولا حج له، ولا صوم له، ولا بركة حتى يتوب، فمن تاب تاب الله
عليه)) .
وفي إسناده ضعفٌ واضطرابٌ واختلافٌ، قد أشرنا إلى بعضه فيما تقدم في ((أبواب الإمامة)) وفيه: دليلٌ على أن الجمعة إنما فرضت بالمدينة؛ لأن جابراً إنما صحب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشهد خطبته بالمدينة، وهذا قول جمهور العلماء.
ويدل عليه –أيضاً -: أن سورة الجمعة مدنيةٌ، وأنه لم يثبت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي الجمعة بمكة قبل هجرته.
ونص الإمام أحمد على أن أول جمعةٍ جمعت في الإسلام هي التي جمعت بالمدينة مع مصعب بن عميرٍ.
وكذا قال عطاء والأوزاعي وغيرهما. وزعم طائفةٌ من الفقهاء: أن الجمعة فرضت بمكة قبل الهجرة، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصليها بمكة قبل أن يهاجر.
واستدل لذلك: بما خرَّجه النسائي في ((كتاب الجمعة)) من حديث المعافى بن عمران، عن إبراهيم بن طهان، عن محمد ابن زياد، عن أبي هريرة قال: إن أول جمعةٍ جمعت –بعد جمعة جمعت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة –بجواثاء بالبحرين –قرية لعبد(8/62)
القيس.
وقد خرَّجه البخاري –كما سيأتي في موضعه – من طريق أبي عامر العقدي، عن إبراهيم بن طهمان، عن أبي جمرة، عن ابن عباسٍ، أن أول جمعة جمعت –بعدجمعة في مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين.
وكذا رواه وكيع، عن إبراهيم بن طهمان، ولفظه: إن أول جمعة جمعت في الإسلام –بعد جمعة جمعت في مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة –لجمعة جمعت بجواثاء – قرية من قرى البحرين.
خرَّجه أبو داود.
وكذا رواه ابن المبارك وغيره، عن إبراهيم بن طهمان.
فتبين بذلك: أن المعافى وهم في إسناد الحديث ومتنه، والصواب: رواية
الجماعة، عن إبراهيم بن طهمان.
ومعنى الحديث، أن أول مسجدٍ جمع فيه –بعد مسجد المدينة -: مسجد جواثاء، وليس معناه: أن الجمعة التي جمعت بجواثاء كانت في الجمعة الثانية من الجمعة التي جمعت بالمدينة، كما قد يفهم من بعض ألفاظ الروايات؛ فإن عبد القيس إنما وفد على
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الفتح، كما ذكره ابن سعد، عن عروة بن الزبير وغيره.
وليس المراد به –أيضاً - أن أول جمعة في الإسلام في مسجد المدينة، فإن أول جمعة جمعت بالمدينة في نقيع الخضمات، قبل(8/63)
أن يقدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، وقبل أن يبني مسجده.
يدل على ذلك: حديث كعب بن مالكٍ، أنه كان كلما سمع أذان الجمعة استغفر لأسعد بن زرارة، فسأله ابنه عن ذلك، فقال: كان أول من صلى بنا صلاة الجمعة قبل مقدم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مكة في نقيع الخضمات، في هزم النبيت، من حرة بني بياضة، قيل له: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعين رجلاً.
خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه –مطولاً.
وروى أبو إسحاق الفزاري في ((كتاب السير)) له، عن الأوزاعي، عمن
حدثه، قال: بعث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مصعب بن عمير القرشي إلى المدينة، قبل أن يهاجر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ((أجمع من بها من المسلمين، ثم انظر اليوم الذي تجمر فيه اليهود لسبتها، فإذا مال النهار عن شطره فقم فيهم، ثم تزلفوا إلى الله بركعتين)) .
قال: وقال الزهري: فجمع بهم مصعب بن عمير في دار من دور الأنصار، فجمع بهم وهم بضعة عشر.
قال الأوزاعي: وهو أول من جمع بالناس.(8/64)
وقد خرّج الدارقطني –أظنه في ((أفراده)) –من رواية أحمد بن محمد بن غالب الباهلي: نا محمد بن عبد الله أبو زيد المدني: ثنا المغيرة بن عبد الرحمن: ثنا مالكٌ، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباسٍ، قال: أذن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجمعة قبل أن يهاجر، ولم يستطع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجمع بمكة ولا يبين لهم، وكتب إلى مصعب بن عمير: ((أما بعد، فانظر اليوم الذي تجمر فيه اليهود لسبتهم، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله بركعتين)) .
قال: فهو أول من جمع مصعب بن عمير، حتى قدم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، فجمع عند الزوال من الظهر، وأظهر ذلك.
وهذا إسنادٌ موضوعٌ، والباهلي هو: غلام خليلٍ، كذاب مشهور بالكذب، وإنما هذا أصله من مراسيل الزهري، وفي هذا السياق ألفاظٌ منكرةٌ.
وخرج البيهقي من رواية يونس، عن الزهري، قال: بلغنا أن أول ما جمعت الجمعة بالمدينة قبل أن يقدمها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجمع بالمسلمين مصعب بن عميرٍ.
وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) عن معمر، عن الزهري، قال: بعث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مصعب بن عمير إلى أهل المدينة ليقرئهم القرآن، فاستأذن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجمع بهم، فاذن له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس(8/65)
يومئذٍ بأميرٍ، ولكنه انطلق يعلم أهل امدينة.
وذكر عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: من أول من جمع؟ قال: رجلٌ من بني عبد الدار –زعموا -، قلت: أفبأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فمه.
وخرَّجه الأثرم من رواية ابن عيينة، عن ابن جريج، وعنده: قال: نعم، فمه. قال ابن عيينة: سمعت من يقول: هو مصعب بن عميرٍ.
وكذلك نص الإمام أحمد في - رواية أبي طالب – على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو امر مصعب بن عمير أن يجمع بهم بالمدينة.
ونص أحمد –أيضاً - على أن أول جمعة جمعت في الإسلام هي الجمعة التي جمعت بالمدينة مع مصعب بن عمير.
وقد تقدم مثله عن عطاء والأوزاعي.
فتبين بهذا: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بإقامة الجمعة بالمدينة، ولم يقمها بمكة، وهذا يدل على أنه كان قد فرضت عليه الجمعة بمكة.
وممن قال: إن الجمعة فرضت بمكة قبل الهجرة: أبو حامد الاسفراييني من الشافعية، والقاضي أبو يعلى في ((خلافه الكبير)) من أصحابنا، وابن عقيل في ((عمد الادلة)) ، وكذلك ذكره طائفة من المالكية، منهم: السهيلي وغيره.
وأما كونه لم يفعله بمكة، فيحمل أنه إنما امر بها أن يقيمها في دار(8/66)
الهجرة، لا في دار الحرب، وكانت مكة إذ ذاك دار حربٍ، ولم يكن المسلمون يتمكنون فيها من إظهار دينهم، وكانوا خائفين على أنفسهم، ولذلك هاجروا منها إلى المدينة، والجمعة تسقط بأعذارٍ كثيرةٍ منها الخوف على النفس والمال.
وقد أشار بعض المتأخرين من الشافعية إلى معنى آخر في الامتناع من إقامتها بمكة، وهو: أن الجمعة إنما يقصد بإقامتها اظهار شعار الإسلام، وهذا إنما يتمكن منه في دار الإسلام.
ولهذا لا تقام الجمعة في السجن، وإن كان فيه أربعون، ولا يعلم في ذلك خلافٌ بين العلماء، وممن قاله: الحسن، وابن سيرين، والنخعي، والثوري، ومالك، وأحمد، وإسحاق وغيرهم.
وعلى قياس هذا: لو كان الأسارى في بلد المشركين مجتمعين في مكانٍ واحدٍ؛ فإنهم لا يصلون فيه جمعةً، كالمسجونين في دار الإسلام وأولى؛ لا سيما وأبو حنيفة وأصحابه يرون أن الإقامة في دار الحرب – وإن طالت – حكمها حكم السفر، فتقصر فيها الصلاة أبداً، ولو اقام المسلم باختياره، فكيف إذا كان أسيراً مقهوراً؟
وهذا على قول من يرى إشتراط إذن الإمام لإقامة الجمعة، أظهر، فأما على قول من لا يشترط إذن الإمام، فقد قال الإمام أحمد في الأمراء إذا أخروا الصلاة يوم الجمعة: فيصليها لوقتها ويصليها مع الإمام، فحمله القاضي أبو يعلى في ((خلافه)) على أنهم يصلونها جمعة لوقتها.
وهذا بعيدٌ جداً، وإنما مراده: أنهم يصلون الظهر لوقتها، ثم(8/67)
يشهدون الجمعة مع الأمراء.
وكذلك كان السلف الصالح يفعلون عند تأخير بني أمية للجمعة عن وقتها، ومنهم من كان يومئ بالصلاة وهو جالسٌ في المسجد قبل خروج الوقت، ولم يكن أحد منهم يصلي الجمعة لوقتها، وفي ذلك مفاسد كثيرة تسقط الجمعة بخشية بعضها.
وفي ((تهذيب المدونة)) للمالكية: وإذا أتى من تأخير الأئمة ما يستنكر جمع الناس لأنفسهم أن قدروا، وإلا صلوا ظهراً، وتنفلوا بصلاتهم معهم.
قال: ومن لا تجب عليه الجمعة مثل المرضى والمسافرين وأهل السجن فجآئز أن يجمعوا.
وأراد بالتجميع هنا: صلاة الظهر جماعةً، لا صلاة الجمعة؛ فإنه قال قبله: وإذا فاتت الجمعة من تجب عليهم فلا يجمعوا.
والفرق بين صلاة الظهر جماعةً يوم الجمعة، ممن تجب عليه وممن لا تجب عليه: أن من تجب عليه يتهم في تركها، بخلاف من لا تجب عليه فإن عذره ظاهرٌ.
وقد روي عن ابن سيرين، أن تجميع الانصار بالمدينة إنما كان عن رأيهم، من غير أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالكلية، وأن ذلك كان قبل فرض الجمعة.
قال عبد الله ابن الإمام أحمد في ((مسائله)) : ثنا أبي: ثنا اسماعيل –هو: ابن عليه -: ثنا ايوب، عن محمد بن سيرين، قال: نبئت أن الانصار(8/68)
قبل قدوم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم المدينة قالوا: لو نظرنا يوماً فاجتمعنا فيه، فذكرنا هذا الأمر الذي أنعم الله علينا
به، فقالوا: يوم السبت، ثم قالوا: لا نجامع اليهود في يومهم، قالوا: يوم الأحد، قالوا: لا نجامع النصارى في يومهم.
قالوا: فيوم العروبة: قال: وكانوا يسمون يوم الجمعة: يوم العروبة، فاجتمعوا في بيت أبي أمامة أسعد بن زرارة، فذبحت لهم شاةٌ، فكفتهم.
وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) عم معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقبل أن تنزل الجمعة، وهم الذين سموها الجمعة، فقالت الأنصار: لليهود يومٌ يجتمعون فيه كل ستة أيامٍ، وللنصارى –أيضاً - مثل ذلك، فهلم فلنجعل يوماً نجتمع فيه، ونذكر الله عز وجل، ونصلي ونشكره –أو كما فقالوا -، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوا يوم
العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة: يوم العروبة، فاجتمعوا إلى اسعد بن زرارة، فصلى بهم وذكرهم، فسموه: يوم الجمعة حين اجتمعوا اليه، فذبح أسعد بن زراره لهم شاة، فتغدوا وتعشوا من شاة واحدة ليلتهم، فأنزل الله بعد ذلك: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] .
فوقع في كلام الإمام أحمد: أن هذه هي الجمعة التي جمعها مصعب بن عميرٍ، وهي التي ذكرها كعب بن مالكٍ في حديثه، أنهم كانوا أربعين رجلاً.
وفي هذا نظرٌ.
ويحتمل أن يكون هذا الاجتماع من الأنصار كان باجتهادهم قبل قدوم مصعبٍ إليهم، ثم لما قدم مصعب عليهم جمع بهم(8/69)
بأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان الإسلام حينئذ قد ظهر وفشا، وكان يمكن إقامة شعار الإسلام في المدينة، وأما اجتماع الأنصار قبل ذلك، فكأن في بيت اسعد بن زرارة قبل ظهور الإسلام بالمدينة وفشوه، وكان باجتهاد منهم، لا بأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال البخاري –رحمه الله -:(8/70)
876 - نا أبو اليمان: أنا شعيب: نا أبو الزناد، أن عبد الرحمن بن هرمز الاعرج مولى ربيعة بن الحارث حدثه، أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غدٍ)) .
قوله: ((نحن الآخرون)) –يعني: في الزمان؛ فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاتم النبيين، وأمته آخر الأمم.
وقوله: ((السابقون)) –يعني: في الفضل والكرامة على الله؛ قالَ الله تعالى: ... {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:11] .
وفي حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أنتم موفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل)) .(8/70)
وفي رواية أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهذا الحديث -: ((نحن الآخرون من أهل الدنيا، الأولون يوم القيأمة، المقضى لهم قبل الخلائق)) .
خرَّجه مسلم. امة
وخرَّجه من حديث حذيفة –بمثله.
وخرّج من حديث أبي صالحٍ، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في هذا الحديث زيادةٌ: ((ونحن أول من يدخل الجنة)) .
وهذا كله –أيضاً - من سبقهم؛ فإنهم أول من يحاسب يوم القيأمة، ومن يجوز على الصراط، ومن يدخل الجنة.
وقوله: ((بيد)) ، هو اسمٌ ملازم للإضافة إلى ((أن)) وصلتها، ومعناه - هاهنا -: غير، ولا يستثنى به في الاتصال، بل في الانقطاع.
والمعنى: لكن أهل الكتاب أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتينا نحن الكتاب من
بعدهم، فلهم السبق في الزمان بهذا الاعتبار في الدنيا، لا في الفضل، ولا في الآخرة.
ونقل الربيع، عن الشافعي: أنه قال: ((بيد أنهم)) : من أجل أنهم –فجعله تعليلاً.
وقوله: ((ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه)) .
((ثم)) –هاهنا - لترتيب الاخبار، ويحتمل أنه لترتيب المخبر به، والمراد: أنهم أوتوا الكتاب، ثم فرض عليهم هذا اليوم –والاشارة إلى يوم الجمعة -، فاختلفوا(8/71)
فيه، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق باذنه، فالناس لنا فيه تبعٌ.
وهذا - أيضاً - مما حازت به الأمة السبق مع تأخر زمانهم، فإن اليهود والنصارى لما فرض عليهم تعظيم الجمعة، والعبادة فيه لله، واتخاذه عيداً للاجتماع فيه لذكر الله فيه، ضلوا عنه، فاختارت اليهود السبت؛ لأنه يوم فرغ فيهِ الخلق، واختارت النصارى الأحد؛ لأنه يوم بدئ فيه الخلق، فهدانا الله للجمعة، فصار عيدنا أسبق من عيدهم، وصاروا لنا في عيدنا تبعاً، فمنهم من عيده الغد من يوم الجمعة، ومنهم من عيده بعد
غدٍ.
وإنما ضلت الطائفتان قبلنا لتقديمهم رأيهم على ما جاءت به رسلهم وانبياؤهم، واهتدت هذه الأمة باتباعهم ما جاءهم به رسلهم عن ربهم، من غير تغيير له ولا تبديلٍ.
وفي الحديث: دليلٌ على أن الجمعة فرض من الله واجب علينا، كما كان على من قبلنا، فإن الله فرض عليهم تعظيم يوم الجمعة، واتخاذه عيداً ومجمعاً لذكر الله
وعبادته، فبدلوه بغيره من الايام، وهدانا الله لهُ، فدل ذَلِكَ على أنه مفروض علينا تعظيمه، واتخاذه عيداً؛ لذكر الله والاجتماع فيه لعبادته، وهذا من أدل دليلٍ على أن شهود الجمعة فرض على هذه الأمة.
* * *
2 -(8/72)
باب
فضل الغسل يوم الجمعة
وهل على الصبي شهود يوم الجمعة، أو على النساء؟
فيه ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
877 -(8/73)
ثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالكٌ، عن نافعٍ، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل)) .
ليس في هذا الحديث، ولا فيما بعده من الأحاديث المخرجة في هذا الباب ذكر فضل الغسل وثوابه، كما بوب عليه، بل الأمر به خاصةً.
وقد خرج فيما بعد هذا الباب أحاديث في فضل الغسل مع الرواح، أو مع الدهن والطيب، وستأتي في مواضعها –إن شاء الله تعالى.
وقد بوب على أن الصبي والمرأة: هل عليهما شهود الجمعة؟
فأما الصبي، فسيأتي الحديث الذي يؤخذ منه حكمه.
وأما حكم المرأة، فكأنه أخذه من هذا الحديث، وهو قوله: ((إذا جاء أحدكم الجمعة)) ، فإن الخطاب كان للرجال، والضمير يعود إليهم، لأنه ضمير تذكيرٍ، فلا يدخل فيه النساء.(8/73)
وقد اختلف المتكلمون في أصول الفقه في صيغ الجموع المذكرة: هل يدخل فيها النساء تبعاً، أم لا؟ وفي ذلك اختلاف مشهورٌ بينهم.
وأكثر أصحابنا على دخولهن مع الذكور تبعاً.
ومن أصحابنا من قال: لا يدخلن معهم، وهو قول أكثر الشافعية والحنفية ولفظة: ((أحد)) وإن لم تكن جمعاً، إلا أنها مقتضية للعموم، إما بطريق البدلية، أو الشمول، كما في قوله: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة:285] .
ولكن الأمر هنا بالغسل، لا بمجيء الجمعة، ولكن المأمور به بالغسل هو الذي يأتي الجمعة، بلفظ يقتضي أنه لابد من المجيء إلى الجمعة، فإن ((إذا)) إنما يعلق بها الفعل المحقق وقوعه غالبا قد يقتضي –أيضاً –العموم، لكن هذا العموم يخرج منه المرأة، بالأحاديث الدالة على أنه لا جمعة عليها، وقد سبق بعضها.
وخرّج أبو داود من حديث أم عطية، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة جمع نساء الأنصار في بيتٍ، فأرسل إليهن عمر، فقال: أنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليكن، وأمرنا بالعيدين أن نخرج فيهما الحيض والعتق، ولا جمعة علينا.
وقد حكى ابن المنذر وغيره الإجماع على أن النساء لا تجب عليهن الجمعة، وعلى أنهن إذا صلين الجمعة مع الرجال أجزأهن من الظهر.
ومن حكى من متأخري أصحابنا في هذا خلافاً، فقد غلط، وقال ما لا حقيقة
له.(8/74)
وروى أبو داود في ((مراسليه)) بإسناده، عن الحسن، قال: كن النساء يجمعن مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وعن واصلٍ، عن مجاهدٍ، قال: كان الضعفاء من الرجال والنساء يشهدون الجمعة مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم لا يأوون إلى رحالهم إلا من الغد، من الضعف.
وواصلٌ، فيه ضعفٌ.
وروي، عن ابن مسعودٍ، أنه قال للنساء يوم الجمعة: إذا صليتن مع الإمام فبصلاته، وإذا صليتن وحدكن فتصلين أربعاً.
وعنه، أنه كان يخرج النساء من المسجد يوم الجمعة، ويقول: أخرجن؛ فإن هذا ليس لكن.
خرّجهما البيهقي.
ولعله كره أن يضيقن المسجد على الرجال لكثرة زحام الجمعة، أو كره لهن الخروج من بيوتهن بالنهار.
ومن الشافعية من استجب للعجائز حضور الجمعة.
وعند أصحابنا: لا يكره للعجائز حضور الجمعة.
وفي كراهته للشواب وجهان.
الحديث الثاني:
878 -(8/75)
ثنا عبد الله بن محمد بن أسماء: أنا جويرية،(8/75)
عن مالكٍ، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن عمر بينا هو قائم في الخطبة يوم الجمعة، إذ دخل رجلٌ من المهاجرين الأولين من اصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فناداه عمر: اية ساعةٍ هذه؟ قالَ: إني
شغلت، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت المنادي، فلم أزد أن توضأت، فقال: والوضوء أيضاً؟! وقد علمت أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر بالغسل.
وهذا –أيضاً - ليس فيه ذكر فضل الغسل، إنما فيه إلامر به، ولعل مراده بتخريجه في هذا الباب: أن فيه ما يشعر بأن الأهل لا يخرجن إلى الجمعة؛ فإن هذا الرجل لما قال لعمر: ((لم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت المنادي، فلم أزد أن توضأت)) ، وسمع ذلك عمر ومن حضره من الصحابة، دل على اتفاقهم على أن خروج الأهل إلى الجمعة غير واجب. والله أعلم.
الحديث الثالث:(8/76)
879 - ثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالكٌ، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسارٍ، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلمٍ)) .
وهذا الحديث إنما يدل على تخصيص المحتلمين بوجوب الغسل، كما سبق ذكره في ((باب: وضوء الصبيان وطهارتهم)) .
وقد تقدم ما يدل(8/76)
على أن المأمورين بالغسل هم الآتون للجمعة، فيستدل بذلك على اختصاص إلاتيان للجمعة بمن بلغ الحلم، دون من لم يبلغ.
وقد خرج النسائي من رواية عياش بن عباسٍ، عن بكير بن الأشج، عن نافعٍ، عن ابن عمر، عن حفصة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((رواح الجمعة واجبٌ على كل
محتلم)) .
وهذا صريحٌ بأن الرواح إنما يجب على المحتلم، فيفهم منه أنه لا يجب على من لم يحتلم.
وخرَّجه أبو داود وابن حبان في ((صحيحه)) ، ولفظ أبي داود: ((على كل محتلمٍ رواح الجمعة، وعلى كل من راح إلى الجمعة الغسل)) .
وقد أعل، بأن مخرمة بن بكيرٍ رواه عن أبيه، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير ذكر حفصة.
وهو أصح عند الإمام أحمد والدارقطني وغيرهما؛ فإن ابن عمر صرح بأنه سمع حديث الغسل من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكن هل حديث مخرمة موافق لحديث عياش في لفظه، أم لا؟
وقد سبق القول في وجوب الجمعة على من لم يحتلم من الصبيان في ((باب: وضوء الصبيان)) .
وحديث عمر وابن عمر فيهما التصريح بأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغسل للجمعة، وحديث أبي سعيد فيه التصريح بوجوبه.(8/77)
وقد أختلف العلماء في غسل الجمعة: هل هو واجبٌ –بمعنى: أنه يأثم بتركه مع القدرة عليه بغير ضرر -، أم هو مستحبٌ –فلا ياثم بتركه بحال –؟
ولم يختلفوا أنه ليس بشرط لصحة صلاة الجمعة، وأنها تصح بدونه، ولهذا أقر عمر والصحابة من شهد الجمعة ولم يغتسل، ولم يأمروه بالخروج للغسل.
وقد استدل –أيضاً - بذلك الشافعي وغيره على أنه غير واجب؛ لأنه لو كان واجباً لأمروه بالخروج له.
وأجاب بعضهم عن ذلك: بأنهم قد يكونوا خافوا عليه فوات الصلاة لضيق الوقت.
وأكثر العلماء على أنه يستحب، وليس بواجب.
وذكر الترمذي في ((كتابه)) أن العمل على ذلك عند أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم.
وهذا الكلام يقتضي حكاية الإجماع على ذلك.
وقد حكي عن عمر وعثمان، ومستند من حكاه عنهما: قصة عمر مع الداخل إلى المسجد؛ فإنه قد وقع في روايةٍ أنه كان عثمان، وسنذكرها –إن شاء الله تعالى.
وممن قال: هو سنة: ابن مسعودٍ.
وروي عن عباسٍ، أنه غير واجبٍ، وعن عائشة وغيرهم من الصحابة، وبه قال جمهور فقهاء الأمصار: الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد –في ظاهر مذهبه -، وإسحاق.
ورواه ابن وهبٍ عن مالكٍ، وأنه قيل له: في(8/78)
الحديث: ((هو واجبٌ)) ؟ قال ليس كل ما في الحديث: ((هو واجبٌ)) يكون كذلك.
وهواختيار عبد العزيز بن أبي سلمة وغيره من أصحابه.
واستدل من قال: ليس بواجبٍ: بما روي عن الحسن، عن سمرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن أغتسل فالغسل أفضل)) .
خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وحسنه.(8/79)
وقد أختلف في سماع الحسن من سمرة.
وخرَّجه ابن ماجه من حديث يزيد الرقاشي، عن انس –مرفوعاً - أيضاً.
ويزيد، ضعيف الحديث.(8/80)
وفي ((صحيح مسلمٍ)) عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فدنا واستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام)) .
وهذا يدل على أن الوضوء كافٍ، وان المقتصر عليه غير أثمٍ ولا عاصٍ، وأما إلامر بالغسل فمحمول على إلاستحباب.
وقد روي من حديث عائشة وابن عباسٍ ما يدل على ذلك، وسيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى.
وأما رواية الوجوب، فالوجوب نوعان: وجوب حتم، ووجوب سنةٍ وفضلٍ.
وذهبت طائفة إلى وجوب الغسل، وروي عن أبي هريرة، والحسن، وروي - أيضاً - عن سعدٍ، وعمارٍ، وابن عباسٍ –في رواية أخرى عنه -، وعن عبد الرحمن بن يزيد بن الأسود، وعطاء بن السائب، وعمرو بن سليمٍ وغيرهم من المتقدمين.
وحكي رواية عن أحمد، قال أحمد - في رواية حربٍ وغيره -: أخاف أن يكون واجباً، إلا أن يكون بردٌ شديدٌ.
وهذا لا يدل على الوجوب جزماً.
وهو رواية عن مالكٍ، ولم يذكر في ((تهذيب المدونة)) سواها.
ذكر ابن عبد البر: أنه لا يعلم أحداً(8/81)
قال: إنه يأثم بتركه، غير أهل الظاهر، وأن من أوجبه، قال: لا يأثم بتركه.
وحكى –أيضاً - إلاجماع على أنه ليس بفرضٍ واجبٍ.
وذكر عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاءٍ: غسل الجمعة
واجبٍ؟ قال: نعم، من تركه فليس بأثمٍ.
قال عبد الرزاق: وهو أحب القولين إلى سفيان، يقول: هو واجبٌ.
يعني: وجوب سنةٍ.
وذكر ابن عبد البر قولين للعلماء، وذكر أنه أشهر الروايتين عن مالكٍ.
والثاني: أنه مستحب وليس بسنةٍ، بل كالطيب والسواك، وحكاه رواية عن مالكٍ.
وحكى عن بعضهم: أن الطيب يغني عنه، حكاهٌ عن عطاء الخراساني، وعن
عبد الكريم بن الحارث المصري، وعن موسى بن صهيبٍ، قالَ: كانوا يقولون ذَلِكَ.
وعن النخعي، قالَ: ما كانوا يرون غسلاً واجبً إلا غسل الجنابة، وكانوا يستحبون غسل الجمعة.
فابن عبد البر لم يثبت في وجوب غسل الجمعة –بمعنى كونه فرضاً يأثم بتركه – اختلافاً بين العلماء المعتبرين، وإنما خص الخلاف في ذَلِكَ باهل الظاهر.
والأكثرون: أطلقوا حكاية الخلاف في وجوب غسل الجمعة، وحكوا(8/82)
القول بوجوبه عن طائفة من السلف، كما حكاه ابن المنذر، عن أبي هريرة وعمار، وعن مالكٍ –أيضاً.
والذي ذكره ابن عبد البر هوَ التحقيق في ذَلِكَ –والله أعلم -، وأن من أطلق وجوبه إنما تبع في ذَلِكَ ما جاء عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إطلاق اسم ((الواجبٍ)) عليهِ، وقد صرح طائفة منهم بأن وجوبه لا يقتضي إلاثم بتركه، كما حمل أكثر العلماء كلام النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على مثل ذَلِكَ –أيضاً.
وممن صرح بهذا: عطاءٌ، كما سبق ذكره عنه، ومنهم: يحيى بن يحيى النيسابوري، والجوزجاني.
وقد تبين بهذا أن لفظ ((الواجبٍ)) ليس نصاً في إلالزام بالشيء والعقاب على تركه، بل قد يراد به ذَلِكَ - وهو الأكثر -، وقد يراد به تأكد إلاستحباب والطلب.
ولهذا قالَ إسحاق: إن كل ما في الصَّلاة فهوَ واجبٌ. وإن كانت الصَّلاة تعاد من ترك بعضه، كما سبق ذكره عنه.
وسبق –أيضاً -، عن الشافعي وأحمد في لفظ: ((الفرض ما يدل على نحو ذَلِكَ، فالواجب أولى؛ لأنه دون الفرض.
ونص الشافعي –في رواية البويطي –على أن صلاة الكسوف ليست بنفلٍ، ولكنها واجبةٌ وجوب السنة.
وهذا تصريح منه بأن السنة المتأكدة تسمى ((واجباً)) . والله أعلم.
* * *
3 -(8/83)
باب
الطيب للجمعة(8/84)
880 - حدثنا علي: ثنا حرمي بن عمارة: ثنا شعبة، عن أبي بكر بن المنكدر، قال: حدثني عمرو بن سليم إلانصاري، قال: اشهد على أبي سعيد، قال: أشهد على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((الغسل يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلم، وان يستن، وأن يمس طيباً إن وجد)) .
قال عمروٌ: أما الغسل، فأشهد أنه واجبٌ، وأما الاستنان والطيب، فالله أعلم واجبٌ هو، أم لا؟ ولكن هكذا في الحديث.
قال أبو عبد الله: هو أخو محمد بن المنكدر، ولم يسم أبو بكرٍ هذا، روى عنه بكير بن الأشج وسعيد بن أبي هلال وعدةٌ.
وكان محمد بن المنكدر يكنى بأبي بكرٍ، وأبي عبد الله.
((علي)) شيخ البخاري، هو: ابن المديني، وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث –فيما ذكره الدارقطني في ((علله)) -:
فرواه عنه تمتامٌ، كما رواه(8/84)
عنه البخاري.
ورواه الباغندي عنه، فزاد في إسناده: ((عبد الرحمن بن أبي سعيدٍ)) ، جعله: عن عمرو بن سليمٍ، عن عبد الرحمن، عن أبيه.
وكذا رواه سعيد بن أبي هلالٍ، عن أبي بكر بن المنكدر، عن عمروٍ، عن
عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه.
خرَّجه مسلمٌ من طريقه كذلك.
وخرَّجه –أيضاً - من رواية بكير بن الأشج، عن أبي بكرٍ بن المنكدر، ولم يذكر في إسناده: ((عبد الرحمن)) .
وعن الدارقطني: أنه ذكر ((عبد الرحمن)) في إسناده أصح من إسقاطه.
وتصرف البخاري يدل على خلاف ذلك؛ فإنه لم يخرج الحديث إلا بإسقاطه، وفي روايته: أن عمروٍ بن سليم شهد على أبي سعيدٍ، كما شهد(8/85)
أبو سعيدٍ على النَّبيّ
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا صريح في أنه سمعه من أبي سعيد بغير واسطةٍ.
وكذا رواه إبراهيم بن عرعرة، عن حرمي بن عمارة –أيضاً.
وخرَّجه عنه المروزي في ((كتاب الجمعة)) .
وكذا رواه القاضي إسماعيل، عن علي بن المديني، كما رواه عنه البخاري.
خرَّجه من طريقه ابن منده في ((غرائب شعبة)) .
وكذا خرَّجه البيهقي من طريق الباغندي، عن ابن المديني.
وهذا يخالف ما ذكره الدارقطني عن الباغندي.
وذكر الدارقطني: أن بكير بن الأشج زاد في إسناده: ((عبد الرحمن بن أبي
سعيدٍ)) ، وهو –أيضاً - وهم منه.
فالظاهر: أن إسقاط عبد الرحمن من إسناده هو الصواب، كما هي طريقة البخاري.
وأما أبو بكر بن المنكدر، فهو: اخو محمد بن المنكدر، وهو ثقة جليل، ولم يسم، كذا قاله البخاري هاهنا، وأبو حاتمٍ الرازي.
وإنما نبه البخاري على ذلك لئلا يتوهم أنه محمد بن المنكدر، وأنه ذكر بكنيته؛ فإن ابن المنكدر كان يكنى بابي بكرٍ وبأبي عبد الله.
ويعضد هذا الوهم: أن سعيد بن سلمة بن أبي الحسام روي عنه هذا الحديث، عن محمد بن المنكدر، عن عمرو بن سليمٍ، عن أبي سعيدٍ، وروي عنه، عن محمد بن المنكدر، عن اخيه أبي بكرٍ، عن عمرو، عن(8/86)
أبي سعيدٍ، وهو الصواب.
وفي الطيب للجمعة أحاديث أخر، يأتي بعضها –إن شاء الله تعالى.
وأكثر العلماء على استحباب الطيب للجمعة:
روى وكيعٌ، عن العمري، عن نافعٍ، عن ابن عمر، أن عمر كان يجمر ثيابه للمسجد يوم الجمعة.
وروى عبيد الله بن عمر، عن نافعٍ، قال: كان عمر إذا راح إلى الجمعة أغتسل وتطيب بأطيب طيب عنده.
وروي عنه، أنه كان يستجمر للجمعة بالعود.
وروي عن عمر، أنه كان يأمر بتجمير المسجد يوم الجمعة.
ولم تزل المساجد تجمر في أيام الجمع من عهد عمر.
وفي الأمر بتجميرها في الجمع حديثٌ مرفوعٌ، خرَّجه ابن ماجه من حديث واثلة بن الأسقع، وإسناده ضعيف جداً.
ومذهب مالكٍ: أن يتصدق بثمن ما يجمر به المسجد، أو يحلق، وقال: هو أحب إلي: - ذكره في ((تهذيب المدونة)) .
وسيأتي عن ابن عباسٍ التوقف في الطيب للجمعة.
وقد يقال: إنما توقف في وجوبه، كما توقف عمروٍ بن سليم الأنصاري،(8/87)
فقد روى ابن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوسٍ، قال: سمعت أبا هريرة يوجب الطيب يوم الجمعة، فسألت ابن عباسٍ عنه، فقال: لا أعلمه.
قال سفيان: وأخبرني ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عباسٍ، قال: من أتى الجمعة فليمس طيبا، أن كان لأهله، غير مؤثمٍ من تركه.
وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث البراء بن عازب، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((حقاً على المسلمين أن يغتسلوا يوم الجمعة، وليمس أحدهم من طيب أهله، فإن لم يجد فالماء طيب)) .
وقال الترمذي: حسنٌ.
وذكر في ((علله)) أنه سأل البخاري عنه، فقال: الصحيح: عن البراء موقوف.
* * *
4 -(8/88)
باب
فضل الجمعة(8/89)
881 - ثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي صالحٍ السمان، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكانما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فاذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)) .
قوله: ((من اغتسل يوم الجمعة، ثم راح)) يدل على أن الغسل المستحب للجمعة أوله طلوع الفجر، وآخره الرواح إلى الجمعة، فإن اغتسل قبل دخول يوم الجمعة لم يات بسنة الغسل، كما لو اغتسل بعد صلاة الجمعة.
وممن قال: لا يصيب السنة بالغسل للجمعة قبل طلوع الفجر: مالكٌ، والشافعي، وأحمد، وأكثر العلماء.
وروى معناه عن ابن عمر.(8/89)
خرَّجه حربٌ الكرماني بإسناد فيه نظرٌ.
وأجازه الأوزاعي، وهذا الحديث حجةٌ عليه، وكذلك حديث أبي سعيدٍ المتقدم: ((غسل يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلم)) .
وحكي عن أحمد ما يدل على صحته سحراً – أيضاً.
وروي عن الشعبي ومجاهدٍ، وهو وجه للشافعية - أيضاً - وقول يحيى بن يحيى النيسابوري.
وقوله: ((غسل الجنابة)) في تأويله قولان:
أحدهما: أن المراد به: تعميم بدنه بالغسل، كما يعمه بغسل الجنابة.
ويشهد لذلك: الحديث الآخر الذي فيه: ((فيغسل رأسه وجسده)) .
فيكون المعنى: اغتسأله للجمعة كاغتسألة للجنابة، في المبالغة وتعميم البدن
بالماء، وهذا قول اكثر الفقهاء من الشافعية وغيرهم.
والثاني: أن المراد به: غسل الجنابة حقيقةً، وأنه يستحب لمن له زوجة أو أمة أن يطأها يوم الجمعة، ثم يغتسل، وهذا هو المنصوص عن أحمد، وحكاه عن غير واحد من التابعين، منهم: هلال بن يساف، وعبد الرحمن بن الأسود وغيرهما.
وروي عن عبد الرحمن بن الأسود، قال: كان يعجبهم أن يواقعوا النساء يوم الجمعة؛ لأنهم قد أمروا أن يغتسلوا، وأن يغسلوا.
وقول طائفةٍ من الشافعية، وحملوا عليه –أيضاً - حديث أوس بن أوسٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من غسل يوم الجمعة واغتسل)) –الحديث.(8/90)
وقالوا: المراد: من اغتسل بنفسه وغسل من يطؤه من زوجة أو أمةٍ.
فعلى هذا: يستدل بالحديث على أن من عليه غسل الجنابة، فاغتسل للجنابة يوم الجمعة، فإنه يجزئه عن غسل الجمعة، وسواء نوى به الجمعة، أو لم ينو.
أما إن نواهما بالغسل، فإنه يحصل له رفع حدث الجنابة وسنة غسل الجمعة بغير خلافٍ بين العلماء، روي ذلك عن ابن عمر، وتبعه جمهور العلماء.
وللشافعية وجهٌ ضعيفٌ: لا يجزئه عنهما، وقاله بعض الظاهرية.
وحكي عن مالكٍ، وقيل: إنه لا يصح عنه، إنما قاله بعض المتأخرين من
أصحابه، وقد ذكر ذلك للإمام أحمد عن مالكٍ فأنكره.
وأما أن نوى بغسله الجنابة خاصةً، فإنه يرتفع حدثه من الجنابة.
وهل يحصل له سنة إلاغتسأل للجمعة؟ على قولين: أشهرهما: لا يحصل له، وروي عن أبي قتادة الأنصاري صأحب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الأعمال بالنيات، وإنما لامريءٍ ما نوى)) ، وهو المشهور عن مالكٍ، وروي نحوه عن الأوزاعي، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي وأحمد، ونص عليه أحمد في رواية الشالنجي.
والثاني: يحصل له غسل الجمعة بذلك، وهو أحد قولي الشافعي، وقول أشهب المالكي، وهو نص الشافعي، وقول أبي حنيفة وإسحاق، مع كون أبي حنيفة يعتبر النية لنقل الطهارة، وحكاه ابن عبد البر عن عبد العزيز بن أبي سلمة والثوري والشافعي والليث بن سعد(8/91)
والطبري، وهو أحد الوجهين لأصحابنا.
وأما إن نوى الجنب غسل الجمعة، ولم ينو غسل الجنابة، فهل يرتفع حدث الجنابة بذلك؟ فيه قولان للشافعي، وروايتان عن أحمد.
ومن أصحابنا من رجح: أنه لا يرتفع، لأن غسل الجنابة ليس سببه الحدث؛ ولهذا يشرع للطاهر.
وعلى هذا: فهل يحصل له به سنة غسل الجمعة مع بقاء غسل الجنابة عليه؟ فيه وجهان لأصحابنا والشافعية، أصحهما: أنه يحصل له ذلك.
وأختلف أصحاب مالكٍ: هل يرتفع حدثه بنية غسل الجمعة؟
فقال: ابن القاسم: لا يجزئه، وحكاه ابن عبد الحكم عن مالكٍ.
وقال أشهب وابن وهب والأكثرون منهم: يجزئه: وهو قول المزني.
وقوله: ((ثم راح)) يدل على أنه لا تحصل سنة إلاغتسأل للجمعة إلا قبل صلاة الجمعة، وأنه لو اغتسل بعد الصلاة في بقية اليوم لم يكن آتياً بفضيلة الغسل المأمور به، وقد حكى ابن عبد البر وغيره إلاجماع على ذلك.
وأظن بعض الظاهرية يخالف فيه، ويزعم: أن الغسل لليوم لا للصلاة، ولا يعبأ بقوله في ذلك.
ويدل على أنه يحصل المقصود بالغسل، وإن اغتسل أول نهار الجمعة إذا كان الرواح متعقباً له.
فإن لم يتعقبه الرواح، بل أخر الرواح إلى بعده، فقال أكثر العلماء: تحصل له –أيضاً - سنة الغسل، فقالوا: (((8/92)
ثُمَّ)) تقتضي التراخي، فيصدق ذلك بأن يؤخر الرواح إلى الزوال.
وتأخير الغسل إلى حين الرواح أفضل، نص عليه أحمد وغيره.
وذهب طائفة إلى أنه لا تحصل له فضيلة الغسل إلا بأن يتعقبه الرواح، وهو قول مالكٍ، وحكاه الطحاوي عن الأوزاعي، وهو يخالف قوله المشهور عنه: أن الغسل للجمعة يجزئ من الليل، كما تقدم.
ومذهب مالكٍ في ذلك، أنه لا يجزئ الغسل إلا متصلا بالروح، فإن اغتسل وراح، ثم أحدث أو خرج من المسجد إلى موضع قريب، لم ينتقض غسله، وإن تباعد أو تغدى أو نام انتقض غسله وأعاده -: ذكره في ((تهذيب المدونة)) .
واستدلوا بقوله: ((إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل)) .
ويجاب عنه: بأن هذا كقوله تعالى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] الآية، المراد: أنه يتضيق الوجوب على القائم للصلاة، فكذلك يتضيق وقت الغسل على الآتي إلى الجمعة.
فاما أن كان قد فعله قبل ذلك فإنه يجزئه، ولا اعادة عليه منذ قيامه ورواحه.
كمن أدى الدين الواجبٍ عليه قبل تضايق وقت أدائه، فإنه لا يؤمر بأدائه مرة آخرى بعد ذلك.
ولو اغتسل للجمعة ثم انتفض وضؤوه، فهل يستحب له اعادته، أم يكفيه الوضوء؟ فيهِ قولان:
أحدهما: يكفيه الوضوء، وهو قول عبد الرحمن بن أبزى والحسن ومجاهدٍ ومالكٍ والليث والأوزاعي(8/93)
والشافعي وأحمد.
والثاني: أنه يعيد غسله، وهو قول طاوس والزهري وقتادة ويحيى بن أبي كثيرٍ.
وروى ابن أبي شيبة باسناده، عن إبراهيم التيمي، قال: كانوا يحبون لمن اغتسل يوم الجمعة أن لا يكون بينه وبين الجمعة حدثٌ. قال: وكانوا يقولون: إذا أحدث بعد الغسل عاد إلى حاله التي كان عليها قبل أن يغتسل.
وعن أبي يوسف، أنه بنى هذا إلاختلاف على أن الغسل هل هو لليوم أو للصلاة، فمن قال: أنه لليوم قال: يجزئه غسله، ومن قال: إنه للصلاة قال: يعيده؛ لأنه إذا توضأ فإنما شهد الصلاة بوضوء لا بغسلٍ.
وخالف الأكثرون في ذلك، وقالوا: بل شهد الصلاة بغسلٍ، لأن الحدث الموجب للوضوء ليس منافياً للغسل، وحصول النظافة به.
ولو أحدث حدثاً موجباً للغسل، مثل أن اجنب، فحكي عن الأوزاعي، أنه يعيد غسل الجمعة –أيضاً -؛ لأنه قد أتى بما يبطل الغسل.
وعن الجمهور خلافه؛ لأنه إنما أتى بما يوجب غسل الجنابة، فيكتفي به، ولا حاجة إلى إعادته لغسل الجمعة.
وقوله: ((ثم راح فكانما قرب بدنةً)) المراد: راح في الساعة الأولى؛(8/94)
بدليل قوله: ((ومن راح في الساعة الثانية)) .
وقد خرَّجه مالكٍ في ((الموطإ)) عن سمي بهذا إلاسناد، وفيه التصريح بذكر الساعة الأولى.
وقد اختلف العلماء في المراد بهذه الساعات: هل هي من أول النهار، أو بعد زوال الشمس؟ على قولين:
أحدهما: أن المراد بها أخر الساعة التي بعد زوال الشمس؛ لأن حقيقة الرواح إنما تكون بعد الزوال، والغدو يكون قبله، كما قال تعالى: {?غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12] .
واستدلوا –أيضاً –بالحديث الآخر: ((المهجر إلى الجمعة كالذي يهدي بدنةٍ)) ، فجعل البدنة بالتهجر، والتهجير إنما هو إلاتيان بالمهاجرة، وإنما يكون ذلك بعد الزوال.
هذا تأويل مالكٍ وأكثر أصحابه، ووافقهم طائفة من الشافعية على ذلك.
والقول الثاني: أن المراد بالساعات من أول النهار، وهو قول الأكثرين.
ثم اختلفوا: هل أولها من طلوع الفجر، أو من طلوع الشمس؟
فقالت طائفةٌ: أولها من طلوع الفجر، وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد.
واستدلوا بقوله: ((إذا كان الجمعة، كان على أبواب المسجد ملائكةٌ يكتبون الناس الأول فالأول)) - الحديث، كما سيأتي ذكره –أن شاء الله تعالى.
وظاهره: أن ذلك يكون بعد طلوع الفجر.
وقالت طائفة: أولها من طلوع الشمس، وحكي عن الثوري وأبي(8/95)
حنيفة ومحمد بن إبراهيم البوشنجي، ورجحه الخطابي وغيره، لأن ما قبله وقت للسعي إلى صلاة الفجر.
ورجح هذا القول عبد الملك بن حبيبٍ المالكي.
وهؤلاء حملوا الساعات على ساعات النهار المعهودة، وهو الظاهر المتبادر إلى الفهم.
وأما ذكر الرواح، فعنه جوابان:
أحدهما: أنه لما كان آخر الساعات بعد الزوال، وهو رواحٌ حقيقيٌ، سميت كلها رواحاً، كما يسمى الخارج للحج والجهاد حاجاً وغازياً قبل تلبسه بالحج والغزو؛ لأن امره ينتهي إلى ذلك.
والثاني: أن الرواح هنا اريد به القصد والذهاب، مع قطع النظر عن كونه قبل الزوال أو بعده.
قال الأزهري وغيره: الرواح والغدو عند العرب يستعملان في السير، أي وقتٍ كان من ليلٍ أو نهارٍ، يقال: راح في أول النهار وآخره، وغدا بمعناه.
وأما التهجير، فيجاب عنه، بأنه استعمل في هذا المعنى بمعنى التبكير –أيضاً – لا بمعنى الخروج في الهاجرة.
وقيل: أنه ليس من الهاجرة، بل من الهجرة، والمراد بها: هجر الأعمال الدنيوية للسعي إلى الجمعة.
وقد دل على استحباب التبكير من أول النهار حديث أوس بن أوسٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من اغتسل يوم الجمعة وغسل، وبكرٍ وابتكر، ودنا واستمع كان له بكل خطوة يخطوها اجر سنة(8/96)
صيامها وقيامها)) .
خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في
((صحيحه)) .
وحسنه الترمذي.
وله طرقٌ متعددةٌ، قد ذكرناها في ((شرح الترمذي)) .
وفي رواية للنسائي: (((8/97)
وغدا وابتكر)) .
وفي بعض رواياته: ((ومشى ولم يركب)) .
وظاهر الحديث: يدل على تقسيم يوم الجمعة إلى اثني عشر ساعة، وأن الخطبة والصلاة يقعان في السادسة منها.
ومتى خرج الخطيب طوت الملائكة صحفها، ولم يكتب لأحدٍ فضل التبكير، وهذا يدل على أنه بعد الزوال لا يكتب لأحد شيءٌ من فضل التبكير إلى الجمعة بالكلية.
وظاهر الحديث: يدل على تقسيم نهار الجمعة إلى اثني عشر ساعةً مع طول النهار وقصره، فلا يكون المراد به الساعات المعروفة من تقسيم الليل والنهار إلى أربعة وعشرين ساعة؛ فإن ذَلِكَ يختلف باختلاف طول النهار وقصره.
ويدل على هذا: حديث جابر، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة، لا يوجد مسلم يسأل الله شيئاً إلا آتاه إياه،(8/100)
فالتمسوها آخر ساعةٍ بعد
العصر)) .
خرَّجه أبو داود والنسائي بإسناد كلهم ثقاتٌ.
وظاهره: يدل علي أن ساعة إلاجابة جزء من هذه إلاجزاء إلاثني عشر المتساوية في جميع فصول السنة.
وزعم بعض الشافعية: أنه ليس المراد بالساعات في التبكير الأربع والعشرون، بل ترتيب الدرجات، وفضل السابق على الذي يليه، لئلا يستوي في الفضيلة رجلان جاءا في طرفي ساعة.
ورد ذلك آخرون منهم، وقالوا: من جاء في أول ساعةٍ من هذه الساعات وآخرها مشتركان في تحصيل أصل البدنة أو البقرة أو الكبش مثلا، ولكن بدنة الأول أو بقرته أكمل مما للذي جاء في آخرها، وبدنة المتوسط متوسطةٌ.
وهذا هو الأقرب، وعليه يحمل الحديث الذي خرَّجه عبد الرزاق، عن ابن
جريج، عن سميَّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا كان يوم الجمعة فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة، ثم غدا في أول ساعةٍ، فله من إلاجر مثل الجزور، وأول الساعة وآخرها سواء)) - وذكر مثل ذلك في الثانية، والثالثة، والرابعة، يقول: ((أولها وآخرها سواءٌ)) ، وزاد في آخر الحديث: ((ثم غفر له إذا استمع وأنصت ما بين الجمعتين، وزيادة ثلاثة أيامٍ)) .
وفي هذه الرواية: ذكر الغدو إلى الجمعة،(8/101)
والغدو يكون من أول النهار.
وقوله: ((فكأنما قرب بدنةً، فكأنما قرب بقرةً)) –إلى آخره – يدل على أن أفضل ما يتقرب به من الهدايا البدن، ثم البقر، ثم الغنم، وهو قول الجمهور، خلافاً لمالكٍ، ويذكر في موضعٍ آخر مستوفىَ –أن شاء الله تعالى.
ويدل –أيضاً - على أن الجمعة فيها شبهٌ من الحج، وقد روي في حديث ضعيف: ((الجمعةُ حجُ المساكين)) .
قال ابن المسيب: شهود الجمعة أحب الي من حجةٍ نافلةٍ.
وخرج البيهقي من حديث سهل بن سعد –مرفوعاً -: ((إن لكم في كل جمعة حجةً وعمرةً، فالحجة التهجير للجمعة، والعمرة انتظار العصر بعد الجمعة)) .
وقال: هو ضعيف ٌ.
وقد روي: ((إن المؤمن يصبح يوم الجمعة كالمحرم، فلا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره حتى يصلي)) .
وقد حكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنهما كرها أن يجعل يوم الجمعة ميقاتاً لأخذ الشعر والظفر، واستدل لهما بهذا الحديث.
وقدروي من حديث علي –مرفوعاً -: أن ذلك يكون يوم الخميس، وإسناده لا يصح.
واستحب بعض أصحابنا فعله يوم الخميس؛ لذلك.
والحديث الذي ذكر فيه إلاحرام، هو بإسنادٍ مجهولٍ، عن أبي معشرٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر –مرفوعاً -: ((يصبح الرجل محرماً يوم الجمعة، فلا(8/102)
يحل حتى يصلي، فاذا جلس في مكانه حتى يصلي العصر رجع بحجةٍ وعمرةٍ)) .
وهو منكرٌ، لا يصح.
قال البيهقي: قد روي عن ابن عباسٍ – مرفوعاً – في ((المؤمن يوم الجمعة كهيئة المحرم، لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى تنقضى الصلاة)) ، وعن ابن عمر – مرفوعاً -: ((المسلم يوم الجمعة محرمٌ، فاذا صلى فقد أحل)) ، فانما رويا عنهما باسنادين ضعيفين، لا يحتج بمثلهما.
قال: وفي الرواية الصحيحة عن ابن عمر من فعله دليلٌ على ضعف ما خالفه.
وروي من طريق ابن وهبٍ، بإسنادٍ صحيح، عن نافعٍ، أن ابن عمر كان يقلم أظفاره ويقص شاربه في كل جمعةٍ.
قال: وروينا عن أبي جعفرٍ - مرسلاً -، النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستحب أن ياخذ من شاربه وأظفاره يوم الجمعة.
وروى بإسناده، عن معاوية بن قرة: قال: كان لي عمان قد شهدا الشجرة، يأخذان من شواربهما وأظفارهما كل جمعة.
وخرّج البزار في ((مسنده)) والطبراني من رواية إبراهيم بن قدامه، عن الأغر، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقلم أظفاره ويقص شاربه(8/103)
يوم الجمعة، قبل أن يخرج إلى الصلاة.
قال البزار: لم يتابع إبراهيم بن قدامة عليه، وهو إذا انفرد بحديثٍ لم يكن حجةً؛ لأنه ليس بمشهورٍ.
قلت: وقد روي عنه، عن عبد الله بن عمروٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال ابن أبي عاصمٍ: أحسب هذا – يعني: عبد الله بن عمروٍ –رجلاً من بني
جمحٍ، أدخله يعقوب بن حميد بن كاسبٍ في ((مسند قريش)) في الجمحيين.
يشير إلى أنه ليس ابن العاص.
وكذا ذكر ابن عبد البر، وزاد أن في صحبته نظرا.
وفي الباب – أيضاً - من حديث ابن عباسٍ وعائشة وأنسٍ، أحاديث مرفوعة، ولا تصح أسانيدها.
وقال راشد بن سعد: كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقولون: من اغتسل يوم الجمعة واستاك وقلم أظفاره فقد اوجب.
خرَّجه حميد بن زنجويه.
وممن استحب ذلك: النخعي.
قال مكحولٌ: من قص شاربه وأظفاره يوم جمعة لم يمت من الماء الأصفر.
وقال حميدٌ الحميري من قص أظفاره يوم الجمعة أخرج الله منه الداء، وادخل فيه الشفاء.
وكان الإمام أحمد يفعله.
واستحبه أصحاب الشافعي وغيرهم؛(8/104)
فإنه من كمال التنظف والتطهر المشروع في يوم الجمعة، فيكون مستحبا فيه، كالطيب والدهن، والمحرم بخلاف ذلك.
ويشهد لذلك: ما خرَّجه ابن حبان في ((صحيحه)) من حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من فطرة إلاسلام: الغسل يوم الجمعة، والاستنان، وأخذ الشارب، وإعفاء اللحى؛ فإن المجوس تحفى شواربها وتحفى لحاها، فخالفوهم، خذوا شواربكم وأعفوا لحاكم)) .
فقرن أخذ الشارب بغسل يوم الجمعة والاستنان، وقد صح الأمر بالاستنان في يوم الجمعة –أيضاً.
* * *
5 -(8/105)
باب(8/106)
882 - حدثنا أبو نعيم: ثنا شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن عمر بن الخطاب بينما هو يخطب يوم الجمعة، إذ جاء رجلٌ، فقال عمر بن الخطاب: لم تحتسبون عن الصلاة؟ فقالَ الرجل: ما هوَ إلا أن سمعت النداء، فتوضأت. فقالَ: ألم تسمعوا النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((إذا راح أحدكم إلى الجمعة
فليغتسل)) ؟ .
وخرَّجه مسلم من طريق الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، وسمى الداخل:
((عثمان بن عفان)) وقال في حديثه: فعرض به عمر، فقال: ما بال رجال يتأخرون بعد النداء؟
وهذا يستدل به على إنكار الإمام علي من يتأخر إلى بعد النداء، خصوصاً إن كان من أهل الفضائل الدينية، وكذلك ينكر عليه تقصيره في إلاخلال ببعض سنن الجمعة ومندوباتها المكتوبة، كالغسل ونحوه.(8/106)
وقد روي هذا المعنى – مرفوعاً – من وجوه:
خرّج ابن حبان في ((صحيحه)) من حديث ابن إسحاق: حدثني أبان بن صالحٍ، عن مجاهدٍ، عن جابرٍ، قال: دخل سليكٌ الغطفاني المسجد، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الناس، فقال له: ((أركع ركعتين، ولا تعودن لمثل هذا)) ، فركعهما، ثم جلس.
قال ابن حبان: أراد: لا تعودن إلى إلابطاء في المجيء الىالجمعة، لأن في حديث أبي سعيدٍ، أنه امره بالركعتين –أيضاً – في الجمعة الثانية.
وخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن يسر، قال: جاء رجلٌ يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أجلس، فقد آذيت
وآنيت)) .
وخرَّجه أبو داود والنسائي، وليس عندهما: ((وآنيت)) .
ومعنى: ((آنيت)) : ابطأت في المجيء، وأخرته عن آوانه.
وخرَّجه ابن ماجه من حديث جابر، بإسنادٍ ضعيفٍ.
وخرّج الطبراني وغيره من رواية عمر بن الوليد الشني، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: جاء رجلٌ والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة،(8/107)
فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يلهو أحدكم، حتى إذا كادت الجمعة تفوته جاء يتخطى رقاب الناس يؤذيهم)) . فقال:
يا رسول الله، ما فعلت، ولكني كنت راقداً، فاستيقظت، ثم تؤضأت وجئت. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أو يوم وضوءٍ هذا؟!)) .
وعمر بن الوليد: ضعيف الحديث.
وقد روى عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ: اخبرني عمروٍ بن دينارٍ، عن عكرمة، أن عثمان جاء وعمر يخطب –فذكر الحديث بمعنى رواية أبي سلمة، عن أبي هريرة التي خرجها البخاري هاهنا.
وهذا أصح. والله أعلم.
* * *
6 -(8/108)
باب
الدهن للجمعة
فيه عن سلمان، وأبي هريرة:
أما حديث سلمان:
فقال:
883 -(8/109)
ثنا آدم: ثنا ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، قال: أخبرني أبي، عن ابن وديعة، عن سلمان الفارسي، قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا يغتسل رجلٌ يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه – أو يمس من طيب بيته -، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ماكتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) .
هذا الحديث تفرد بتخريجه البخاري دون مسلمٍ؛ لاختلاف وقع في إسناده.
وقد خرَّجه البخاري هاهنا عن آدم بن أبي إياسٍ، عن ابن أبي ذئبٍ. ثم خرَّجه بعد ذلك من طريق
ابن المبارك، عن ابن أبي ذئب بهذا إلاسناد –أيضاً وكذا رواه جماعةً عن ابن أبي ذئب.
ورواه بعضهم، عن ابن أبي ذئب، عن سعيدٍ المقبري، عن ابن وديعة، عن سلمان – لم يذكر في(8/109)
إسناده: ((أبا سعيدٍ المقبري)) .
ورواه الضحاك بن عثمان، عن المقبري بهذا إلاسناد –أيضاً - مع إلاختلاف عليه في ذكر ((أبي سعيدٍ)) وإسقاطه.
وزاد الضحاك في حديثه: قال سعيدٌ المقبري: فحدثت بذلك عمارة بن عمرو بن حزمٍ، فقال: أوهم ابن وديعة؛ سمعته من سلمان يقول: ((وزيادة ثلاثة أيامٍ)) .
ورواه ابن عجلان، عن سعيدٍ بن أبي سعيدٍ المقبري، عن أبيه، عن عبد الله بن وديعة، عن أبي ذر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعناه.
قال ابن عجلان: فذكرته لعبادة بن عامر بن عمرو بن حزمٍ، فقال: صدق،
((وزيادة ثلاثة أيامٍ)) .
خرَّجه الإمام أحمد وابن ماجه، ولم يذكر آخره.
وقد روى ابن أبي حاتم - مرةً -، عن أبي زرعة، أنه قال: حديث ابن عجلان أشبه.
يعني: قوله: ((عن أبي ذر)) .
ونقل –مرةً أخرى -، عن أبيه وأبي زرعة، أنهما قالا: حديث سلمان الأصح.
وكذا قال علي بن المديني والدارقطني، وهو الذي يقتضيه تصرف البخاري.
وكذا قال ابن معينٍ: ابن أبي ذئبٍ أثبتُ في المقبري من ابن عجلان.(8/110)
وعبيد الله بن وديعه – ويقال: عبد الله -، قال أبو حاتمٍ الرازي: الصحيح
عبيد الله.
وقال أبو زرعة: الصحيح عبد الله.
وقد رواه أبو داود الطيالسي، عن ابن أبي ذئبٍ، فسماه: عبيد الله بن عدي بن الخيار، وهو وهم منه -: قاله أبو حاتمٍ.
وقد رواه جماعةً، عن سعيدٍ المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، منهم: ابن جريجٍ وعبيد الله بن عمر وأخوه عبد الله وغيرهم. وزاد ابن جريجٍ: وعن عمارة بن عامرٍ الأنصاري.
قال الدارقطني: ووهم في ذلك؛ إنما أراد عمارة بن عمرو بن حزمٍ، كما ذكر الضحاك.
ورواه صالحٌ بن كيسان، عن سعيدٍ المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال أبو زرعة وأبو حاتم: هو خطأ؛ إنما هوَ ما قاله ابن أبي ذئبٍ وابن عجلان.
ولا ريب أن الذي قالوا فيهِ: ((عن أبي هريرة)) جماعةٌ حفاظٌ، لكن الوهم يسبق كثيراً إلى هذا إلاسناد؛ فإن رواية ((سعيدٍ المقبري، عن أبي هريرة - أو عن أبيه، عن أبي هريرة)) سلسلةٌ معروفةُ، تسبق إليها الالسن، بخلاف رواية ((سعيدٍ)) عن
أبيه، عن ابن وديعة، عن سلمان)) ؛ فانها سلسلةٌ غريبةٌ، لا يقولها إلا حافظ لها متقنٌ.
ورجح ابن المديني قول من(8/111)
رواه عن سلمان، [بأن حديثه ... ] ، فإنه قدر رواه النخعي، عن علقمة، عن القرثع، عن سلمان، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فقوله: ((لا يغتسل رجلٌ يوم الجمعة)) يؤخذ منه اختصاص الغسل بالرجال، كما هو قول أحمد، ويأتي ذكره فيما بعد – إن شاء الله تعالى.
وقوله: ((ويتطهر ما استطاع من طهر)) ، الظاهر: أنه أراد به المبالغة في
التنظف، وإزالة الوسخ، وربما دخل فيه تقليم الأظفار، وإزالة الشعر من قص الشعر وحلق العانة ونتف إلابط؛ فإن ذَلِكَ كله طهارة.
ويدل عليهِ: ما خرَّجه البزار من حديث أبي الدرداء، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ:
((الطهارات أربعٌ: قص الشارب، وحلق العانة، وتقليم الأظفار، والسواك)) .
وفي إسناده: معاوية بن يحيى، قال البزار: ليس بالقوي، وقد حدث عنه أهل العلم، واحتملوا حديثه.
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث عبد الله بن عمروٍ بن العاص، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((أمرت بيوم الأضحى عيداً جعله الله لهذه الأمة)) . فقال رجلٌ: أرأيت إن لم أجد إلا منيحة أنثى، أفأضحي بها؟ قالَ:
((لا، ولكن تأخذ من شعرك،(8/112)
وتقلم أظفارك، وتقص شاربك، وتحلق عانتك، فذلك من تمام أضحيتك عند الله عز وجل)) .
وهذا يشعر باستحباب هذه الطهارات في الأعياد كلها، وأنها من تمام النسك المشروع فيها، والجمعة من جملة الأعياد، وهي عيد الأسبوع، كما أن عيد الفطر والأضحى عيد العام.
وقوله: ((ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته)) ، ظاهره: التخيير بين الأمرين، إما الأدهان، أو التطيب، وأن أحدهما كاف.
وقوله: ((من طيب بيته)) يشير إلى أنه ليس عليه أن يطلب ما لا يجده، بل يجتزئ بما وجده في بيته.
والأدهان: هو دهن شعر الرأس واللحية مع تسريحه، وهو الترجل، وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله.
وفي ((صحيح مسلمٍ)) عن جابر بن سمرة، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد شمط مقدم رأسه ولحيته فكأن إذا ادهن لم يتبين، وإذا شعث رأسه تبين، وكان كثير شعر الرأس واللحية - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستعمل الطيب في شعره.
وقد خرّج البخاري في ((كتابه)) هذا من حديث ربيعة، قال: رأيت شعراً من شعره – يعني: النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحمر، فسألت عنه، فقيل لي: أحمر من الطيب.(8/113)
وخرّج البزار في ((مسنده)) من حديث ابن عقيل، عن أنس، أن عمر بن
عبد العزيز سأله عن خضاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال له: اني رأيت شعراً من شعره قد لون؟ فقال: إنما هذا الذي لون من الطيب الذي كان يطيب شعر رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقوله: ((ثم يخرج)) يشير إلى أنه يفعل ذلك كله في بيته قبل خروجه، ثم بعد ذلك يخرج إلى المسجد.
وقوله: ((فلا يفرق بين أثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم
الإمام)) .
يأتي الكلام على هذه الثلاثة فيما بعد – إن شاء الله تعالى.
وقوله: ((إلاّ غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) . والمراد بذلك: الصغائر؛ بدليل ما خرَّجه مسلم من حديث أبي هريرة، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفراتٌ لما بينهن، ما اجتنبت الكبائر)) .
وفي حديث عمارة بن عمروٍ بن حزم، عن سلمان: ((وزيادة ثلاثة أيام)) .
وخرج مسلم من حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من اغتسل، ثم أتى الجمعة، فصلى ما قدر له، ثم انصت حتى يفرغ الإمام من خطبته، فصلى معه غفر له ما بينه وبين الجمعة إلاخرى، وفضل ثلاثة أيام)) .
وخرَّجه أبو داود من وجهٍ آخر عن أبي هريرة، وجعل ذكر الثلاثة من قول أبي هريرة، قال: وكان أبو هريرة يقول: ((وثلاثة أيامٍ زيادةً؛ إن(8/114)
الله جعل الحسنة بعشر أمثالها)) .
وأما حديث ابن عباسٍ:
فقال:
884 -(8/115)
ثنا أبو اليمان: نا شعيب، عن الزهري: قال طاوسٌ: قلت لابن عباسٍ: ذكروا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((اغتسلوا يوم الجمعة، واغسلوا رءوسكم، وان لم تكونوا جنباً وأصيبوا من الطيب)) ؟ قال ابن عباسٍ: أما الغسل، فنعم، وأما الطيب، فلا أدري.(8/115)
885 - حدثنا إبراهيم بن محمد بن موسى: أنا هشام، أن ابن جريجٍ أخبرهم، قال: أخبرني إبراهيم بن ميسرة، عن طاوسٍ، عن ابن عباسٍ، أنه ذكر قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الغسل يوم الجمعة، فقلت لابن عباسٍ: أيمس طيبا، أو دهناً، إن كان عند أهله؟ فقال: لا أعلمه.
مضمون هذا: أن ابن عباسٍ روى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغسل للجمعة، وأنه لم يكن عنده من ذكر الطيب والدهن علمٌ، فيحتمل أنه نفى أن يكون يعلم ذلك عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحتمل أنه نفى أن يكون ذلك مستحباً بالكلية؛ فإنه إذا لم يكن عنده عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه شيء، فإنه يقتضي التوقف في استحبابه.
وفي سماع الزهري لهذا الحديث من طاوسٍ نظرٌ، ولعله بلغه عنه؛ فإنه كانَ كثير الإرسال.
* * *
7 -(8/115)
باب
يلبس أحسن ما يجد(8/116)
886 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالكٌ عن نافعٍ عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب رأى حلةً سيراء عند باب المسجد فقال يا رسول الله لو اشتريت هذه، فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخره)) - وذكر بقيه حديث.
وقد خرَّجه بتمامه في ((اللباس)) وغيره.
والمقصود منه هاهنا: أنّ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقر عمر على ما ذكره من التجمل بحسن اللباس للجمعة والظاهر: أن ذلك كان عادته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فلهذا قال له عمر ما قال وإنما امتنع من هذه الحلة لإنها كانت حريراً خالصاً أو أكثرها حريرٌ وقد قيل: أن السيراء نوعٌ من البرود، يخالطة حريرٌ، سمي سيراء لتخطيطٍ فيه، والثوب المسير الذي فيه سيرٌ، أي: طرائق.
وقال الخطابي: الحله السيراء هي المضلعة بالحرير، وسميت سيراء لما فيها من الخطوط التي تشبه السيور.(8/116)
وفي حديث عبد الله بن وديعه عن أبي ذر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((من اغتسل يوم الجمعه فأحسن الغسل، ثم لبس من صالح ثيابه)) - وذكر بقيه الحديث.
خرَّجه الإمام أحمد وابن ماجه، وقد سبق ذكره.
وخرّج أبو داود معناه من حديث أبي هريره وأبي سعيدٍ وعبد الله بن عمروٍ بن العاص عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرج – أيضاً - من حديث يوسف بن سلام أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على المنبر
((ما على أحدكم إن وجد ثوبين للجمعة سوى ثوبي مهنته)) .
وفي روايةٍ له: عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرَّجه ابن ماجه وعنده: يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرَّجه – أيضاً - من حديث عائشه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإسنادٍ ضعيفٍ.
وخرَّجه البيهقي من روايه حجاج بن أرطاة، عن أبي جعفرٍ، عن جابر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة.(8/117)
كذا رواه حفص بن غياثٍ عن حجاجٍ.
ورواه هشيم عن حجاج عن أبي جعفرٍ – مرسلاً - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلبس يوم الجمعة برده الأحمر ويعتم يوم العيدين.
خرَّجه ابن سعدٍ في ((طبقاته)) .
وكذا خرَّجه عبد الرزاق، عن ابن جريحٍ، عن جعفرٍ، عن أبيه – مرسلاً.
وهذا المرسل أشبه.
وخرّج الطبراني من رواية سعد بن الصلت، عن جعفر بن محمدٍ، عن أبيه عن علي بن حسينٍ عن ابن عباسٍ قالَ: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبس يوم العيد بردة حمراء.
وهذا إلاسناد غير محفوظٍ.
وخرّج الإمام أحمد من رواية فليح بن سليمان، عن أبي بكرٍ بن المنكدر، عن أبي سعيدٍ الخدري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((حقٌ على كل محتلمٍ الغسل يوم الجمعه، ويلبس من صالح ثيابه، وإن كان له طيبٌ مس منه)) .
كذا رواه فليحٌ، إنما رواه أبو بكرٍ بن المنكدر، عن عمرو بن سيلمٍ، عن أبي سعيدٍ.
وقد خرَّجه البخاري فيما تقدم بغير هذا اللفظ.(8/118)
ولا خلاف بين العلماء – فيما نعلمه - في استحباب لبس الثياب أجود الثياب لشهود الجمعة والأعياد.
وروى وكيعٌ في ((كتابه)) عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: أدركت أشياخ الأنصار من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كانَ يوم الجمعه اغتسلوا، ولبسوا أحسن ثيابهم، وتطيبوا بأطيب طيبهم، ثُمَّ راحوا إلى الجمعة.
* * *
8 -(8/119)
باب
السواك يوم الجمعة
وقال أبو سعيدٍ عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يستن.
حديث أبي سعيدٍ قد خرَّجه فيما سبق في ((باب: الطيب للجمعة)) ولفظه
((الغسل يوم الجمعة واجبٍ على كل محتلم، وأن يستن، وأن يمس طيباً إن وجد)) .
قال عمروٍ: أما الغسل، فأشهد أنه واجبٌ وأما الطيب وإلاستنان فالله أعلم.
وهذا مما استدل به جمهور العلماء على أن المراد بالوجوب هاهنا: تأكد الاستحباب؛ لأنه قرنه بما ليس بواجبٍ اجماعاً وهو الطيب والسواك.
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود من حديث ابن إسحاق: حدثني محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة وأبي أمامة بن سهلٍ عن أبي هريرة وأبي سعيدٍ، قالا: سمعنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((من اغتسل يوم الجمعة، واستن، ومس من طيب – إن كانَ عنده – ولبس أحسن ثيابه ثُمَّ جاء إلى المسجد ولم يتخط رقاب الناس ثُمَّ ركع ما شاء الله أن يركع ثُمَّ انصت إذا خرج إمامه حتَّى يصلي، كانت كفارةً لما بينها وبين الجمعة التي كانت
قبلها)) . يقول أبو هريرة: وثلاثة أيامٍ زيادةً؛ لأن الله قد جعل الحسنة بعشر أمثالها.(8/120)
وفي إسناده اختلافٌ.
وروى مالكٍ في ((الموطإ)) عن ابن شهاب، عن عبيد بن السباق، أن النبي ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال – في جمعة من الجمع -: ((يا معشر المسلمين، أغتسلوا، ومن كان عنده طيبٌ فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك)) .
وقد روي عن الزهري، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والمرسل: هو الصحيح.
ورواه صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن عبيد بن السباق، عن ابن
عباسٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرَّجه ابن ماجه.
ولا يصح –أيضاً -، والصحيح: رواية مالكٍ.
ويدل عليه: إنكار ابن عباسٍ للطيب، كما سبق عنه.
وخرّج الإمام أحمد من رواية محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن رجلٍ من الأنصار من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((حقٌ على كل مسلمٍ أن يغتسل يوم الجمعة، ويتسوك، ويمس من طيب أن كان لاهله)) .(8/121)
وخرَّجه بهذا إلاسناد موقوفاً –أيضاً.
وروي –أيضاً – عن ثوبان، عن أبي سعيدٍ الخدري – مرفوعاً.
وروي عن ابن ثوبان، عن رجلٌ، عن أبي سعيدٍ الخدري –مرفوعاً وموقوفاً.
وعن أبي زرعة وأبي حاتمٍ: أن الموقوف أصح.
خرّج البخاري في هذا الباب أحاديث ثلاثة، في السواك للصلاة، ولكن لا اختصاص لها بالجمعة:
الحديث الأول:
887 -(8/122)
ثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالكٌ، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لولا أن أشق على أمتي –أو على الناس – لأمرتهم بالسواك مع كل صلاةٍ)) .
وفيه: دليلٌ على أن الحرج والمشقة مرفوعاًن عن هذه الأمة، كما قال تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
وقد سبق ذكر ذلك في تأخير عشاء الآخرة، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحب تأخيرها، ولولا المشقة على أمته لجعل وقتها ثلث الليل أو نصفه.
وفيه: دليل على أن السواك ليس بفرض كالوضوء للصلاة، وبذلك قال جمهور العلماء، خلافاً لمن شذ منهم من الظاهرية.(8/122)
وقد حكي عن إسحاق، أنه لو تركه عمداً اعاد الصلاة. وقيل: أنه لا يصح عنه.
وهذا الحديث: نص على أنه غير واجبٍ على الأمة؛ فإن المراد: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك أمر فرضٍ وأيجابٍ، لا أمر ندبٍ واستحبابٍ؛ فإنه قد ندب اليه واستحبه، ولكن لم يفرضه، ولم يوجبه.
وقد صرح بذلك في حديث آخر:
خرَّجه الإمام أحمد من حديث تمام بن العباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك، كما فرضت عليهم الوضوء)) .
وخرّج ابن أبي شيبة نحوه من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن رجلٍ من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ويروى نحوه من حديث أبي هريرة، وأبي سعيدٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي الحديث: دليل على استحباب السواك مع كل صلاةٍ، فدخل في ذلك صلاة الجمعة وغيرها.
والسواك مع الصلاة نوعان:
أحدهما: السواك مع الوضوء للصلاة، وقد سبق ذكره في ((الطهارة)) .(8/123)
والثاني: السواك للصلاة عند القيام إليها.
وقد خرّج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث زيد بن خالدٍ الجهني، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل
صلاةٍ)) فكأن زيد بن خالدٍ يشهد الصلوات في المسجد وسواكه على أذنه موضع القلم من أذن الكاتب، لا يقوم إلى صلاةٍ إلا استن، ثم رده إلى موضعه.
وقال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ.
وهذا مذهب الشافعي وأصحابنا.
وروى أبو يحيى الحماني، عن أبي سعدٍ، عن مكحولٍ، عن واثلة بن الأسقع، قال: كان أناسٌ من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يربطون مساويكهم بذوائب سيوفهم، فاذا حضرت الصلاة استاكوا، ثم صلوا.
خرَّجه البيهقي في ((صلاة الخوف)) من ((سننه)) .
وقال: أبو سعدٍ البقال، غير قوي.
وقد أنكر طائفة من العلماء السواك عند إرادة الصلاة المفروضة في المسجد، وقالوا: ليس فيه نص عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام من الليل للتهجد في بيته.
وحكي عن مالكٍ، أنه يكره السواك في المساجد،(8/124)
والذي رأيناه في ((تهذيب المدونة)) : أنه يكره أن يأخذ المعتكف من شعره أو أظفاره في المسجد، وإن جمعه
وألقاه؛ لحرمة المساجد.
وقد روي عن عثمان بن عفان، أنه كانَ يخطب يوم الجمعة، فذكر أنه لم
يستك، فنزل فاستاك.
وهذا يدل على أنه إنما نزل ليستاك خارج المسجد، وأنه رأى السواك في الجمعة عند الوضوء لا عند الصلاة.
وخرج الحاكم في ((أماليه)) من رواية أبي ايوب الأفريقي، عن صالح بن أبي
صالح، أظنه عن أبيه، عن زيد بن خالد الجهني، قال: ما كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج من بيته لشيءٍ من الصلوات حتى يستاك.
وهذا غريبٌ.
ويستدل به: على أنه إنما كان يستاك في بيته قبل خروجه إلى المسجد.
الحديث الثاني:
888 -(8/125)
نا أبو معمر: نا عبد الوارث: نا شعيب: نا أنس بن مالكٍ، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((قد أكثرت عليكم في السواك)) .
المراد بإكثاره عليهم في السواك: كثرة حثهم عليه؛ وترغيبهم فيهِ، بذكر فضله.(8/125)
وقد روي عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قالَ: ((السواك مطهر للفم، مرضاة للرب)) .
وقد علقه البخاري في موضع آخر، ويأتي في موضعه –إن شاء الله تعالى.
وقدروي عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه أكثر عليه في امره بالسواك:
ففي ((مسند الإمام أحمد)) من رواية إبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن
عباسٍ. أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لقد أمرت بالسواك، حتى خشيت أن يوحى الي فيه)) .
التميمي، اسمه: أربد، ويقال: أربدة.
ومن حديث واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أمرت بالسواك، حتى خشيت أن يكتب علي)) .
وفي إسناده: ليث بن أبي سليمٍ.
ويستدل به: على أن السواك لم يكن واجباً على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد قيل: إنه كان واجباً عليه.
وخرّج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن حنظلة بن الغسيل، أن(8/126)
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أمر بالوضوء لكل صلاة، طاهراً كان أو غير طاهرٍ، فلما شق ذلك على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء، إلا من حدثٍ.
وخرَّجه ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحهما)) والحاكم.
وقال: على شرط مسلم.
وليس كما قال.
وخرَّجه البزار في ((مسنده)) ، ولفظه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر بالوضوء عند كل صلاةٍ، فلما شق عليهم أمر بالسواك عند كل صلاة.
وقد روي من حديث عنبسة - مرفوعاً - أن السواك كان عليه فريضةً، وهو لأمته تطوعٌ.
خرَّجه الطبراني.
ولا يصح إسناده. والله أعلم.
الحديث الثالث:
889 -(8/127)
نا محمد بن كثير: نا سفيان، عن منصور وحصين، عن أبي وائلٍ، عن حذيفة، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام من الليل يشوص فاه.
قد سبق هذا الحديث في ((الطهارة)) من رواية جريرٍ، عن منصورٍ وحده، وسبق الكلام على معناه مستوفى.
* * *
9 -(8/127)
بابٌ
من تسوك بسواك غيره(8/128)
890 - حدثنا إسماعيل: حدثني سليمان بن بلال: قال هشام بن عروة: أخبرني أبي، عن عائشة، قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكرٍ، ومعه سواكٌ يستن به، فنظر اليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت له: أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن، فاعطانيه، فقصمته، ثم مضغته، فاعطيته رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاستن به، وهو مستند إلى صدري.
يروي: ((فقصمته)) بفتح الصاد المهملة، أي: كسرته، فأبنت منه الموضع الذي كان استن به عبد الرحمن، والقصأمة: ما يكسر من رأس السواك.
هذا هو الذي ذكره الخطابي، وقال: أصل القصم: الدق.
ويروى: ((فقصمته)) ، بكسر الضاد المعجمة، من القضم، وهو العض بالأسنان، ومنه: الحديث: ((فيقضمهما كما يقضم الفحل)) .
[ ... ] الإستياك بسواك غيره في ((باب: دفع السواك إلى الأكبر)) من ((كتاب(8/128)
الطهارة)) فأغنى عن إعادته هاهنا.
وفي الحديث: دليلٌ على أن إلاستياك سنةٌ في جميع الأوقات، عند إرادة الصلاة وغيرها، فإن استياك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا السواك كان في مرض موته عند خروج نفسه، ولم يكن قاصداً حينئذ لصلاةٍ ولا تلاوة.
وقد قيل: إنه قصد بذلك التسوك عند خروج نفسه الكريمة؛ لأجل حضور الملائكة الكرام، ودنوهم منه لقبض روحه الزكية الطاهرة الطيبة.
وقد أمر سلمان الفارسي –رضي الله عنه – امرأته عند احتضاره أن تطيب موضعه بالمسك؛ لحضور الملائكة فيه، وقال: أنه يزورني أقوام، يجدون الريح، ولا يأكلون الطعام –أو كما قال.
* * *
10 -(8/129)
باب
ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة(8/130)
891 - حدثنا أبو نعيمٍ ومحمد بن يوسف: ثنا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الرحمن –هو: ابن هرمز -، عن أبي هريرة، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الفجر يوم الجمعة {آلم تنزيل} السجدة، {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [إلانسان:1] .
هذا الحديث خرَّجه البخاري هاهنا، وفي ((سجود القرآن)) .
في أحدهما: خرَّجه عن محمد بن يوسف الفريابي، عن سفيان –هو: الثوري.
وفي الآخر: عن أبي نعيمٍ، عن سفيان.
وفي رواية محمد بن يوسف زيادة: ذكر السجدة.
ففي بعض النسخ في هذا الباب: رواية محمد بن يوسف، وفي الآخر: رواية أبي نعيمٍ، وفي بعضها - في الموضعين: - عن محمد بن يوسف.
وإلاول: أصح. والله أعلم.
وقد ذكر الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في ((مستخرجه)) : أن البخاري خرَّجه في هذا الباب، عن أبي نعيمٍ.(8/130)
وقد رواه يحيى القطان، عن سفيان، فقال في حديثه: وفي الثانية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] .
خرَّجه من طريقه إلاسماعيلي في ((صحيحه)) .
والظاهر: أن ذلك وهمٌ منه.
وقد روي هذا الحديث عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية جماعةٍ من الصحابة، ولم يخرجه البخاري إلاّ من هذا الوجه.
وخرَّجه مسلم منه، ومن حديث ابن عباسٍ –أيضاً.
وقوله: ((كان يقرأ)) يدل على تكرر ذلك منه، ومداومته عليه.
وقد روي، أنه كان يديم ذلك:
خرَّجه الطبراني من طريق عمروٍ بن قيس الملائي، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرا في صلاة الصبح يوم الجمعة {آلم تنزيل} السجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان:1] .
يديم ذلك.
ورواته كلهم ثقاتٌ، إلا أنه روي عن أبي إلاحوص مرسلاً.
وإرساله أصح عند البخاري وأبي حاتم والدارقطني.(8/131)
وقد خرَّجه ابن ماجه من وجه أخر عن أبي الأحوص، عن عبد الله، موصولاً –أيضاً -، بدون ذكر المداومة.
وقد اختلف العلماء في قرءاة سورةٍ معينةٍ في صلاةٍ معينةٍ.
فكرهة طائفة، وحكي عن أبي حنيفة ومالك.
ولم يكرهه الأكثرون، بل استحبوا منه ما روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وممن استحب قراءة سورة {آلم} سورة السجدة و {هلْ أَتَى} في صلاة الفجر يوم(8/132)
الجمعة: الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو خيثمة وابن أبي شيبة وسليمان بن داود الهاشمي والجوزجاني وغيرهم من فقهاء الحديث.
وهذا هو المروي عن الصحابة، منهم: عليٌ وابن عباسٍ وأبو هريرة.
ثم اختلفوا: هل يستحب المداومة على ذلك في كل جمعةٍ؟
فقال بعضهم: لا يستحب ذلك، بل يستحب فعله أحياناً، وهو قول الثوري وأحمد –في المشهور عنه - وإسحاق.
وعللا بأنه يخشى من المداومة عليه اعتقاد الجهال وجوبه، وان صلاة الفجر يوم الجمعة فيها زيادة سجدة، أو أنها ثلاث ركعات، ونحو ذلك مما قد يتخيله بعض من هو مفرطٌ في الجهل.
وقال الأكثرون: بل يستحب المداومة عليه، وهو قول الشافعي، وسائر من سمينا قوله.
وهو ظاهر ما نقله اسماعيل بن سعيدٍ الشالنجي عن أحمد؛ فإنه قالَ: سألته عن القراءة في الفجر يوم الجمعة؟ فقال: نراه حسناً، أن تقرأ {آلم تنزيل} السجدة،
و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان:1] .
ورجحه بعض أصحابنا، وهو الأظهر.
وكان السلف يداومون:
قال الأعرج: كان مروان وأبو هريرة يقرءان في صلاة الصبح بـ {آلم تنزيل} سورة السجدة و {هلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [إلانسان:1] .
وقال الشعبي: ما شهدت ابن عباسٍ قرأ يوم الجمعة إلا {تنزيل} و {هلْ أَتَى} [الإنسان:1] .
خرَّجه ابن أبي شيبة.
واعتقاد فرضية ذلك بعيدٌ جداً، فلا يترك لأجله السنة الصحيحة، واتباع عمل الصحابة.
وكان كثيرٌ من السلف يرى أن السجدة مقصودةٌ قراءتها في فجر يوم الجمعة:(8/133)
قال سعيدٍ بن جبيرٍ: ما صليت خلف ابن عباسٍ يوم الجمعة الغداة إلا قرأ سورة فيها سجدةً.
وعن ابن عوان، قال: كانوا يقرءون يوم الجمعة سورة فيها سجدةٌ، قال: فسألت محمداً –يعني: ابن سيرين -، فقال: لا أعلم به بأساً.
وعن النخعي، أنه صلى بهم يوم جمعة الفجر، فقرأ بـ {كهيعص} [مريم:1] .
خرج ذلك ابن أبي شيبة في ((كتابه)) .
ونقل حربٌ، عن إسحاق، قال: لا بأس أن يقرأ الإمام في المكتوبة سورة فيها سجدةٌ، وأحب السور الينا {آلم تزيل} السجدة، {هلْ أَتَى} [إلانسان:1] ، ويقرأ بهما في الجمعة، ولابد منهما في كل جمعة، وان أدمنهما جاز.
وهذا يدل على أنه يستحب قراءةٌ فيها سجدةٌ، وافضلها {آلم تنزيل} .
وروى أبو بكرٍ بن أبي داود باسناده، عن ابن عباسٍ، قال: غدوت على
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم جمعة في صلاة الفجر، فقرأ في الركعة الأخيرة سورةً من المئين فيها سجدةٌ، فسجد فيها.
وقد روي عن أحمد ما يشهد لهذا –أيضاً -، وأن السجدة مقصودة في صلاة الفجر يوم الجمعة؛ فإن أبا جعفر الوراق روى، أن أحمد صلى(8/134)
بهم الفجر بوم الجمعة، فنسي قراءة آية السجدة، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتي السهو.
قال القاضي أبو يعلى: إنما سجد للسهو، لأن هذه السجدة من سنن الصلاة، بخلاف بقية السجداًت في الصلاة؛ فإنها من سنن القراءة.
وقد زعم بعض المتأخرين من أصحابنا والشافعية: أن تعمد قراءة سورة سجدة غير {آلم تنزيل} في فجر الجمعة بدعةٌ، وقد تبين أن الأمر بخلاف ذلك.
وقدصلى الإمام أحمد صلاة الفجر يوم الجمعة بـ {آلم} السجدة، وسورة
{عبس} ، وهذا يدل –أيضاً - على أن ابدال {هلْ أَتَى} بغيرها غير مكروه.
وفي هذه الصلاة نسي قراءة السجدة، وسجد سجدتي السهو، وهو يدل على أن من نسي أن يسجد في صلاته للتلاوة لم يعد السجود بعد فراغه من الصلاة، وقد صرح به أصحابنا.
قال القاضي أبو يعلى في ((الجامع الكبير)) : ظاهره: أن من نسي سجود التلاوة سجد للسهو، كما إذا نسي دعاء القنوت.
قال: ولا يلزم على هذا بقية سجود التلاوة في غير صلاة؛ لأنه يحتمل أن يقال فيه مثل ذلك، ويحتمل أن يفرق بينهما، بأن الحث والترغيب وجد في هذه السجدة اكثر، وهو مداومة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقراءتها. انتهى ما ذكره.
والتحقيق في الفرق: ما ذكره في موضعٍ آخر: أن السجدة في فجر يوم الجمعة من سنن الصلاة، فهي كقنوت الوتر، وفي غيرها من سنن القراءة التي لا تختص بالصلاة.(8/135)
وممن قال: إن من نسي السجود للتلاوة في صلاته سجد للسهو إذا قضى صلاته: حمادٌ وابن جريجٍ -: ذكره عبد الرزاق عنهما في ((كتابه)) ، ولم يفرق بين سجدة يوم الجمعة وغيرها، ويحتمل أن مذهبهما وجوب سجود التلاوة، فيجبره إذا نسيه بسجود السهو.
ومذهب مالكٍ: أن نسي سجودها في الركعة الأولى من النافلة حتَّى يرفع رأسه من ركوعه، قالَ: فأحب الي أن يقرأها في الثانية، ويسجدها، ولا يفعل ذَلِكَ في الفريضة، وإن ذكرها وهو راكعٌ في الثانية من النافلة تمادى، ولا شيء عليهِ، إلا أن يدخل في نافلة اخرى، فإذا قام قرأها وسجد.
ذكره في ((تهذيب المدونة)) ، ولم يذكر لذلك سجود سهوٍ.
وعند أصحاب الشافعي: إذا نسي سجود التلاوة حتَّى سلم، فإن لم يطل الفصل سجد للتلاوة بعد سلامه، وان طال ففي قضاء السجود لهم قولان.
وأما من أوجب السجود للتلاوة، فقالَ سفيان فيمن قرأ سجدةً، فركع ناسياً، فذكر في آخر صلاته: سجدها، ثُمَّ ركع.
* * *
11 -(8/136)
باب
الجمعة في القرى والمدن
فيه حديثان:
أحدهما:
قال:
892 -(8/137)
نا محمد بن المثنى: نا أبو عامرالعقدي: نا إبراهيم بن طهمان، عن أبي جمرة الضبعي، عن ابن عباسٍ، قال: أن أول جمعة جمعت في الأسلام –بعد جمعة في مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين.
قد ذكرنا هذا الحديث في أول ((كتاب الجمعة)) ، وذكرنا بعض الأختلاف في إسناده ومتنه، وأن معناه: أنه لم يجمع في الأسلام بعد التجميع بالمدينة إلا في مسجد عبد القيس بالبحرين، فكأن أول بلدٍ أقيمت الجمعة فيه المدينة، ثم بعدها قرية جوثاء بالبحرين.
وهذا يدل على أن عبد القيس أسلموا قبل فتح مكة، وجمعوا في(8/137)
مسجدهم، ثم فتحت مكة بعد ذلك، وجمع فيها.
والمقصود: أنهم جمعوا في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قرية جواثاء، وإنما وقع ذلك منهم باذن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمره لهم؛ فإن وفد عبد القيس أسلموا طائعين، وقدموا راغبين في إلاسلام، وسألوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مهمات الدين، وبين لهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قواعد إلايمان وأصوله، وقد سبق ذكر حديثهم في ((كتاب الإيمان)) .
فيدل ذلك على جواز إقامة الجمعة بالقرى، وأنه لا يشترط لإقامة الجمعة المصر الجامع، كما قاله طائفة من العلماء.
وممن ذهب إلى جواز إقامة الجمعة في القرى: عمر بن عبد العزيز وعطاءٌ ومكحولٌ وعكرمة والأوزاعي ومالك والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق.
وروى القناد، عن سفيان نحوه.
وكان ابن عمر يمر بالمياه بين مكة والمدينة، فيرى أهلها يجمعون، قلا يعيب عليهم.
ذكره عبد الرزاق، عن العمري، عن نافعٍ، عنه.
وروى ابن المبارك، عن أسامة بن زيدٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر: لا(8/138)
جمعة في سفر، ولا جمعة إلا في مصر جامع.
وهذا –مع الذي قبله – يدل على أنه أراد بالمصر القرى.
وروى الأثرم بإسناده، عن أبي ذر، أنه كان يجمع بالربذة مع الناس.
وقالت طائفة: لا جمعة إلا في مصرٍ جامعٍ، روي ذلك عن علي، وبه قال النخعي والثوري – في المشهور عنه – وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن.
وقال الحسن وابن سيرين: لا جمعة إلا في مصرٍ.
وقد روي عن علي خلاف ذلك، روى وكيعٌ، عن قيس بن الربيع، عن طالب بن السميدع، عن أبيه، أن علياً جمع بالمدائن.
وعن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي، أن حذيفة جمع بالمدائن.
وعن شعبة، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أبي رافعٍ، عن أبي هريرة، قال: كتبت إلى عمر بن الخطاب أسأله عن الجمعة بالبحرين، فكتب الي: أن اجمعوا حيثما كنتم.
قال الإمام أحمد: هذا إسنادٌ جيدٌ.
وروى وكيعٌ باسناده، عن النخعي، أنه جمع بحلوان.(8/139)
وهذا كله يدل على أن من قال: لا جمعة إلا في مصرٍ جامعٍ، فإنه أراد بذلك القرى التي فيها والٍ من جهة الإمام، فيكون مراده: أنه لا جمعة إلا بإذن الإمام في مكان له فيه نائب يقيم الجمعة بإذنه.
وبذلك فسره أحمد في روايةٍ عنه.
وكذلك روى عن محمد بن الحسن –صاحب أبي حنيفة - تفسير المصر: أن الإمام إذا بعث إلى قرية نائبا له لإقامة الحدود، فهو مصرٌ، فلو عزله ألحق بالقرى.
وروي نحوه عن أبي يوسف، وعن أبي حنيفة –أيضاً.
قال أحمد: المصر إذا كان به الحاكم، ولا يقال للقرى: مصرٌ.
وقال إسحاق: كل قرية فيها أربعون رجلاً يقال لها: مصرٌ.
وهذا بعيدٌ جداً.
وعن سفيان روايتان في تفسير المصر:
إحدهما: أنه كل مصرٍ فيه جماعةً وإمامٌ.
والثانية - نقلها عنه ابن المبارك -: أن المصر الجامع ما عرفه الناس أنه جامعٌ.
وقال عمرو بن دينارٍ: سمعنا: أن لا جمعة إلا في قريةٍ جامعةٍ.
وعنه، قال: إذا كان المسجد تجمع فيه الصلوات فلتصل فيه الجمعة.
وقد تقدم حديث كعب بن مالك، أن أول جمعةٍ جمعت بالمدينة في نقيع الخضمات في هزم من حرة بني بياضة، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع أول ما(8/140)
قدم المدينة في مسجد بني سالم.
وهذه كلها في حكم القرى خارج المدينة.
الحديث الثاني:
893 -(8/141)
نا بشر بن محمد: أنا عبد الله بن المبارك: أنا يونس، عن الزهري، قال: أخبرني سالمٌ، عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((كلكم راع)) .
وزاد الليث: قال يونس: كتب رزيق بن حكيم الىابن شهابٍ، وأنا معه يومئذ بوادي القرى: هل ترى أن أجمع؟ ورزيقٌ عاملٌ على أرض يعملها، وفيها جماعةً من السودان وغيرهم، ورزيقٌ يومئذ عاملٌ على أيلة، فكتب ابن شهاب - وأنا اسمع - يامره أن يجمع، يخبره أن سألما حدثه، أن عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته، الإمام راع ومسول عن رعيته)) –وذكر بقية الحديث.
والمقصود منه: أن الزهري استدل بهذا الحديث –في رواية الليث، عن يونس، عنه، التي ذكرها البخاري تعليقاً – على أن الأمير في البلدان(8/141)
والقرى – وإن لم يكن من الأمصار الجامعة – أن يقيم الجمعة لأهلها، لأنه راع عليهم، ومسئول عنهم، ومما يجب عليه رعايته: أمر دين رعيته، واهمه الصَّلاة.
وقال الخطابي: فيه دليلٌ على جواز إقامة الجمعة بغير سلطانٍ.
وفيما قاله نظر؛ وابن شهابٍ إنما استدل به على أن نائب السلطان يقيم الجمعة لأهل بلدته وقريته، وان لم يكن مصراً جامعاً، ولا يتم إلاستدلال بذلك حتَّى يقوم دليل على جواز اقأمة الجمعة في غير الأمصار الجامعة، وإلا فاذا اعتقد الإمام أو نائبة أنه لا جمعة إلا في مصر جامع، ولم يقم الجمعة في قريته وبلدته الصغيرة؛ فإنه لا يلام على
ذلك، ولا يأثم أهل قريته وبلدته بترك الجمعة في هذه الحال.
قال أحمد - في الإمام إذا لم يول عليهم من يصلي بهم الجمعة -: ليس عليهم في ذلك إثمٌ.
وروى حجاج بن أرطاة، عن الزهري، قال: كتب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ناس من أهل المياه، بين مكة والمدينة، أن يصلوا الفطر والأضحى، وأن يجمعوا.
خرَّجه حربٌ الكرماني وغيره.
وهو مرسلٌ ضعيفٌ، وحجاجٌ مدلسٌ، ولم يسمع من الزهري.
* * *
12 -(8/142)
باب
هل على من لم يشهد الجمعة غسلٌ من النساء والصبيان وغيرهم؟
وقال ابن عمر: إنما الغسل على من تجب عليه الجمعة.
مراده: أن من لا يلزمه شهود الجمعة من النساء والصبيان وغيرهم كالمسافرين، هل عليهم غسلٌ، أم لا؟
والمعنى: هل يلزمهم الغسلٌ على قول من يرى الغسلٌ واجباً، أو يستحب لهم على قول من يراه مستحباً؟
وقد ذكر عن ابن عمر –تعليقاً -، أنه قالَ: إنما الغسلٌ على من تجب عليهِ
الجمعة.
وروى وكيعٌ: نا خالج بن عبد الرحمن بن بكيرٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر، قال: إنما الغسلٌ على من أتى الجمعة.
يعني: ليس على النساء جمعةٌ.
وروى عبد الرزاق بإسناده، عن سالمٍ ونافعٍ، أن ابن عمر كان لا يغتسل في السفر يوم الجمعة.
وإنما ذهب ابن عمر إلى هذا، تمسكاً بما رواه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: ((من أتى الجمعة فليغتسل)) ، فحمله على أن المراد: من لزمه إتيان الجمعة(8/143)
فليغتسل، وهو أعلم بما روى، وأفهم له.
وقد فهم آخرون منه أنه: من أراد إتيان الجمعة فلغتسل، سواء كان إتيانه للجمعة واجباً عليه، أو غير واجبٍ، وأما من لم يرد إتيانها كالمسافر والمريض المنقطع في بيته، ومن لا يريد حضور الجمعة من النساء والصبيان، فلم يدل الحديث على غسل أحدٍ
منهم.
وقد ذهب إلى أنهم يغتسلون للجمعة طائفةٌ من العلماء، فصارت إلاقوال في المسألة ثلاثةٌ:
اما اختصاص الغسلٌ بمن تلزمه الجمعة.
أو بمن يريد شهود الجمعة، سواءٌ لزمته، أو لا.
وأما أنه يعم الغسلٌ كل مكلف يوم الجمعة، سواءٌ أراد شهودها، أو لم يرده.
والقول الأول -: وجه لأصحابنا، وهوظاهر اللفظ الذي ذكره البخاري عن ابن عمر –تعليقاً -، وتبويب البخاري يدل على اختياره.
والثاني -: هو قول الأكثرين، كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق، إلا أن أحمد استثنى منه المرأة خاصة، الحاقا لغسلٌها بتطيبها، وهي منهيةٌ عنه إذا حضرت المسجد.
واستحبه الآخرون، وبعض أصحاب أحمد، حيث لم يكن خروجها للجمعة مكروهاً.
وقال عطاءٌ والشعبي: ليس على المسافر غسلٌ يوم الجمعة.(8/144)
وأما القول الثالث -: فهو قول طائفة من العلماء، أن كان من أهل وجوب الجمعة، وإن كان له عذر يمنع الوجوب؛ فإنه يغتسل يوم الجمعة، مريضاً كان أو مسافراً، أو غير ذلك.
وروي عن طلحة بن عبيد الله ومجاهدٍ وطاوسٍ وسعيدٍ بن جبير، وهو قول إسحاق وأبي ثورٍ، ووجهٌ للشافعية.
ولهم وجه آخر: يسن لكل أحدٍ، مكلفاً كان بها أو غير مكلف، كفسل العيد، لما روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: ((حقٌ على كل مسلمٍ أن يغتسل في سبعة أيامٍ يوماً)) ، وسيأتي ذكره.
وروى الحسن، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوصاه بثلاثٍ، لا يدعهن في حضرٍ ولا سفرٍ، فذكر منها: ((والغسلٌ يوم الجمعة)) .
خرَّجه الإمام أحمد.
والحسن، لم يسمع من أبي هريرة، على الصحيح عند الجمهور.
والمعروف: حديث وصية أبي هريرة بثلاثٍ، ليس فيها: ((غسلٌ الجمعة)) ، كما يأتي في موضعه –إن شاء الله سبحانه وتعالى.(8/145)
واستدل الأكثرون بقوله: ((من أتى الجمعة فليغتسل)) .
وفي رواية: ((إذا أراد أن يأتي الجمعة فلغتسل)) .
وبأن الغسل مقرونٌ بالرواح إلى الجمعة في غير حديث، وهذا مقيد، فيقضي على المطلق.
ولأنه شرع للنظافة؛ لئلا يؤذي الحاضرون بعضهم بعضاً بالرائحة الكريهة، وهذا غير موجود في حق من لا يحضر الجمعة.
خرج في هذا الباب خمسة أحاديث:
الحديث الأول:
894 -(8/146)
نا أبو اليمان: أنا شعيبٌ، عن الزهري: حدثني سالم بن عبد الله، أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((من جاء منكم الجمعة فليغتسل)) .
لما كان الخطاب في هذا للرجال لمن جاء منهم الجمعة، دل على أنه لا غسل على من لا يأتي منهم الجمعة، كالمسافر والمريض والخائف على نفسه، ولا على من ليس من الرجال، كالنساء والصبيان؛ فإن الصبيان لا يدخلون في خطاب التكليف.
الحديث الثاني.(8/146)
895 - حديث: أبي سعيدٍ الخدري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: ((غسلٌ يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلمٍ)) .
خرَّجه: عن القعنبي، عن مالكٍ.
وقد سبق إسناده.
ويستدل به على أن من لم يبلغ الحلم فلا غسلٌ عليه.
الحديث الثالث:
896 -(8/147)
نا مسلم بن إبراهيم: نا وهيبٌ، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه، عن أبي
هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((نحن الآخرون السابقة يوم القيامة، أوتوا الكتاب من قبلنا، وأتيناه من بعدهم، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، وهدانا الله اليه، فغداً
لليهود، وبعد غد للنصارى)) .
897 -(8/147)
فسكت، ثم قال: ((حقٌ على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام
يوماً، يغسلٌ فيه رأسه وجسده)) .
898 -(8/147)
رواه أبان بن صالح، عن مجاهدٍ، عن طاوسٍ، عن أبي هريرة، قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الله تعالى على كل مسلم حق: أن يغتسل في كل(8/147)
سبعة أيام يوماً)) .
إنما ذكر رواية أبان بن صالح المعلقة؛ ليبين أن آخر الحديث –وهو: ذكر الغسلٌ –مرفوع إلى النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لئلا يتوهم أن القائل: ((حقٌ على كل مسلمٍ)) في آخر حديث وهيبٍ، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه -: هو أبو هريرة، وأنه مدرج في آخر الحديث.
وقد خرج مسلمٌ في ((صحيحه)) ذكر الغسلٌ من طريق وهيبٍ، وصرح برفعه إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وتوهم آخرون: أن ذكر الغسل في آخر الحديث مدرج من قول أبي هريرة.
قال الدارقطني: رفعه أبان بن صالحٍ، عن مجاهدٍ: عن طاوسٍ، عن أبي هريرة، واختلف عن عمروٍ بن دينار: فرفعه عمر بن قيس، عنه. وقيل: عن شعبة، عنه –مرفوعاً. وقيل: عنه –موقوفٌ. ورواه ابن جريجٍ وابن عيينة، عن عمروٍ - موقوفاً. وكذلك رواه إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس –موقوفاً، وروي عن ابن جريجٍ، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس –مرسلاً -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحيح الموقوف على أبي هريرة. انتهى.(8/148)
ولم يذكر رواية وهيبٍ المخرجة في ((الصحيحين)) .
وكذا رواه أبو الزبير، عن طاوسٍ، عن أبي هريرة –موقوفاً.
ورواه داود بن أبي هند، عن أبي الزبير، عن جابر –مرفوعاً -: ((على كل رجلٍ مسلمٍ في كل سبعة أيامٍ غسل)) ، وهو يوم الجمعة.
خرَّجه الإمام أحمد والنسائي وابن حبان في ((صحيحه)) .
وقال أبو حاتم الرازي: هو خطأ، إنما هو –على ما رواه الثقات -: عن أبي الزبير، عن طاوسٍ، عن أبي هريرة –موقوفاً.
وهذا الحديث هو الذي استدل به من قال: إن غسل الجمعة يكون لليوم لا لشهود الجمعة، فيغتسل من حضر الجمعة، ومنلم يحضرها، كما سبق ذكره عنهم.
واستدل بع بعضهم على أن الغسلٌ للأسبوع، لا لخصوص يوم(8/149)
الجمعة، وأن من اغتسل في الأسبوع مرةً كفاه من غسلٌ الجمعة.
نقل حربٌ، عن إسحاق، قال: إن كان مغتسلاً سبعة أيام مرةً، فجاء يوم الجمعة، وقدكان غسلٌ رأسه واغتسل في كل سبعة أيامٍ مرةً جاز له ترك غسلٌ يوم الجمعة؛ قال ذلك ابن عباسٍ ومن بعده، أنهم كانوا يؤمرون بغسل رءوسهم وأجسادهم في كل سبعة أيام مرةً، فحول الناس إلى يوم الجمعة.
وقوله: ((يغسل رأسه وجسده)) يشير إلى أنه يعم بدنه بالغسل، فإن الرأس إلى الغسلٌ [ ... ] لشعره، وقد كانت لهم شعورٌ في رءوسهم.
وعلي مثل هذا حمل طائفةٌ من العلماء قوله ((من غسل واغتسل)) ، فقالوا: غسل رأسه واغتسل في بدنه، وقالوا: كانت للقوم جممٌ.
الحديث الرابع:(8/150)
899 - نا عبد الله بن محمد: نا شبابة: نا ورقاء، عن عمرو بن دينار، عن
مجاهدٍ، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد)) .
وقد سبق من وجه أخر عن ابن عمر – بنحوه.
الحديث الخامس:
900 -(8/151)
نا يوسف بن موسى: نا أبو اسأمة: نا عبيد الله بن عمر، عن نافعٍ، عن ابن عمر، قال: كانت امرأةٌ لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد، فقيل لها: لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟ قالت: فما يمنعه أن
ينهاني؟ قالَ: يمنعه قول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله عز وجل)) .
ومراده بهذين الحديثين في هذا الباب: أن إلاذن في خروج النساء إلى المساجد إنما كانَ بالليل خاصةً، وحديث عمر يبين انهن إنما كن يخرجن كذلك، وقد سبق ذكر ذَلِكَ في ((باب: خروج النساء إلى المساجد في الليل والغلس)) .
وحينئذ؛ فلا تكون الجمعة مما اذن لهن في الخروج اليها؛ لانها منصلاة النهار، لا من صلوات الليل، وإنما أمر بالغسلٌ من يجيء إلى الجمعة، كما في حديث ابن عمر المتقدم،(8/151)
فيدل ذلك على أن المرأة ليست مأمورة بالغسلٌ للجمعة، حيث لم يكن مأذونا لها بالخروج إلى الجمعة.
وقد رود لفظٌ صريحٌ بالغسل للنساء يوم الجمعة.
خرَّجه ابن حبان في ((صحيحه)) من طريق عثمان بن واقد العمري، عن نافعٍ، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل)) .
وخرَّجه بلفظٍ أخر، وهو: ((الغسل يوم الجمعة على كل حالم من الرجال، وعلى كل بالغٍ من النساء)) .
وخرَّجه البزار في ((مسنده)) باللفظ الأول.
وقال: أحسب عثمان بن واقدٍ وهم في هذا اللفظ.
وعثمان بن واقدٍ هذا، وثقه ابن معين، وقال أحمد والدارقطني: لا بأس به.
قال أبو داود: هو ضعيفٌ، حدث أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل)) لا نعلم أن أحداً قال هذا غيره.
يعني: أنه لم يتابع عليه، وأنه منكرٌ لا يحتمل منه تفردا به.(8/152)
14 - باب
الرخصة إن لم يحضر الجمعة في المطر(8/153)
901 - حدثنا مسددٌ: نا إسماعيل: أخبرني عبد الحميد –صاحب الزيادي -: نا عبد الله بن الحارث –ابن عم محمد بن سيرين -: قال ابن عباس لمؤذنه يوماً مطيراً: اذا قلت: ((أشهد أن محمداً رسول الله)) فلا تقل: ((حي على الصلاة)) ، قل: ((صلوا في بيوتكم)) ، فكان الناس استنكروا، فقال: فعله من هو خيرٌ مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أخرجكم، فتمشون في الطين والدحض.
قد سبق هذا الحديث في موضعين: في ((باب: الكلام في الأذان)) ، وفي ((أبواب الجماعة)) في ((باب: هل يصلي لمن حضر، وهل يخطب يوم الجمعة في المطر)) .
وفي هذه الرواية: زيادةٌ، وهي قوله: ((إن الجمعة عزمةٌ)) ، ولم يذكر فيما تقدم لفظ الجمعة.
وقد قال الإسماعيلي في ((صحيحه)) : هذه(8/153)
اللفظة ما إخالها صحيحةً، فإن في هذا الحديث بيان أن العزمة قوله: ((حي على الصلاة)) فكأن الدعاء إليها يوجب على السامع الإجابة، ولا أدري هذا في الجمعة أو غيرها، فلو كان المعنى: الجمعة عزمةٌ، لكانت العزمة لا تزول بترك بقية الأذان، لأن الجمعة قائمة، وإن لم يدع إليها الناس، والعزمة –إن شاء الله – هي الدعاء إلى الصلاة. والله أعلم. انتهى ما ذكره.
ولكن ذكر الخطبة يشهد لأنه كان في يوم جمعة.
وقد ورد التصريح بان ذلك كان يوم جمعةٍ في رواياتٍ أخر:
فخرج مسلمٌ ذكر الجمعة في هذا الحديث، من طريق شعبة، عن عبد الحميد.
قال البيهقي: ورواه –أيضاً - معمر، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن الحارث. وذكره –أيضاً - وهيبً، عن أيوب، عن عبد الله بن الحارث.
والظاهر: أن المراد: أن الجمعة فرض عينٍ حتمٌ، لا رخصة لأحدٍ في تركه، إلا بإذن الإمام للناس في التخلف في الأذان؛ فإن الأذان الذي بين يدي الإمام هوَ الموجب للسعي إليها على الناس، فلذلك احتاج أن يرخص(8/154)
للناس فيهِ في التخلف.
وقد ذكرنا فيما تقدم، عن أحمد، أنَّهُ قالَ: إذا قالَ المؤذن في أذانه: ((صلوا في الرحال)) فلك أن تتخلف، وإن لم يقل، فقد وجب عليك أذاً قالَ: ((حي على الصَّلاة، حي على الفلاح)) .
ولم يفرق بين جمعةٍ وغيرها.
وسبق ذكر حكم التخلف عن حضور الجمعة للمطر والوحل بما فيهِ كفاية. والله أعلم.
* * *
15 -(8/155)
باب
من أين تؤتى الجمعة، وعلى من تجبُ؟
لقول الله عز وجل: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] .
وقال عطاء: إذا كنت في قرية جامعةٍ، فنودي بالصلاة من يوم الجمعة، فحقٌ عليك أن تشهدها، سمعت النداء أو لم تسمعه.
وكان أنس بن مالكٍ في قصره، أحيانا يجمع، وأحياناً لا يجمع، وهو بالزاوية على فرسخين.
تضمن هذا الذي ذكره مسألتين:
إحدهما:
أن من هو في قرية تقام فيها الجمعة، فإنه إذا نودي فيها بالصلاة للجمعة وجب عليه السعي إلى الجمعة، وشهودها، سواء سمع النداء أو لم يسمعه، وقد حكاه عن
عطاء.
وهذا الذي فيالقرية، إن كان من أهلها المستوطنين بها، فلا خلاف في لزوم السعي إلى الجمعة له، وسواءُ سمع النداء أو لم يسمع، وقد نص على ذلك الشافعي وأحمد، ونقل بعضهم الاتفاق عليه.
وإن كان من غير أهلها، فإن كان مسافراً يباح له القصر، فأكثر العلماء على أنه لا يلزمه الجمعة مع أهل القرية، وقد ذكرنا فيما تقدم أن المسافر لا جمعةٍ عليه.(8/156)
وحكي عن الزهري والنخعي، أنه يلزمه تبعاً لأهل القرية.
وروي عن عطاءٍ - أيضاً -، أنه يلزمه.
وكذا قال الأوزاعي: أن أدركه الأذان قبل أن يرتحل فليجب.
وإن كان المسافر قد نوى إقامة بالقرية تمنعه من قصر الصلاة، فهل يلزمه الجمعة؟ وفيه وجهان لأصحابنا.
وأوجب عليه الجمعة في هذه الحال: مالكٌ وأبو حنيفة، ولم يوجبها عليه الشافعي وأصحابه.
المسألة الثانية:
أن من كان خارج القرية أو المصر الذي تقام فيه الجمعة، هل تلزمه الجمعة مع أهل القرية أو المصر، أم لا؟ هذا مما اختلف فيه العلماء:
فقالت طائفةٌ: لا تلزم من كان خارج المصر أو القرية الجمعة مع أهله بحالٍ، إذا كان بينهم وبين المصر فرجة، ولو كانوا من ربض المصر.
وهذا قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه، الحاقاً لهم بأهل القرى، فإن الجمعة لا تقام عندهم في القرى.
وقال أكثر أهل العلم: تلزمهم الجمعة مع أهل المصر أو القرية، مع القرب دون البعد.
ثم اختلفوا في حد ذلك:(8/157)
فقالت طائفةٌ: المعتبر: إمكان سماع النداء، فمن كان مو موضع الجمعة بحيث يمكنه سماع النداء لزمه، وإلا فلا. هذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق.
واستدلوا: بظاهر قول الله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] .
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب وعمرو بن شعيب.
وروي عن أبي أمامة الباهلي –معناه.
وخَّرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((الجمعة على من سمع النداء)) .
وروي موقوفاً، وهو أشبه.
وروى إسماعيل، عن عبد العزيز بن عبد الله، عن محمد بن عمرو بن عطاءٍ، عن عبيد الله بن كعب بن مالكٍ، عن أبيه –يرفعه -، قال: (((8/158)
لينتهين أقوامٌ يسمعون النداء يوم الجمعة، ثم لا يشهدونها، أو ليطبعن الله على قلوبهم، وليكونن من الغافلين، أو ليكونن من أهل النار)) .
عبد العزيز هذا، شامي تكلموا فيه.
وقالت طائفةٌ: تجب الجمعة على من بينه وبين الجمعة فرسخٌ، وهو ثلاثة أميالٍ، وهوقول ابن المسيب والليث ومالكٍ ومحمد بن الحسن، وهو رواية عن أحمد.
ومن أصحابنا من قال: لا فرق بين هذا القول والذي قبله، لأن الفرسخ هو منتهى ما يسمع فيه النداء – غالباً -، فإن أحمد قال: الجمعة على من سمع النداء، والنداء يسمع من فرسخٌ، وكذلك راواه جماعة عن مالكٍ، فيكون هذا القول والذي قبله
واحدا.
وخرّج الخلال من رواية مندل، عن ابن جريج، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((عسى أحدكم أن يتخذ الصبة على رأس ميلين أو ثلاثة، تأتي عليه الجمعة لا يشهدها، ثم تأتي(8/159)
الجمعة لا يشهدها –ثلاثاً -، فيطبع على قلبه)) .
مندل، فيه ضعف.
وخرّج الطبراني نحوه من حديث ابن عمر – مرفوعاً.
وفي إسناده: إبراهيم بن يزيد الخوزي، وهو ضعيف.
وروى معدي بن سليمان، عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين، فيتعذر عليه الكلا، فيرتفع، ثم تجئ الجمعة، فلا يجيء ولا يشهدها، وتجيء الجمعة، فلا يشهدها، وتجيء الجمعة، فلا يشهدها حتى يطبع على قلبه)) .
خرّجه ابن ماجه.
وخرّجه أبو بكر النحاد وابن عبد البر، وفي روايتيهما: ((ميلين أو ثلاثة)) .
ومعدي هذا، تكلم فيه أبو زرعة غيره، وقال أبو حاتم: شيخ.(8/160)
وقالت طائفةٌ: تجب الجمعة على من بينه وبينها أربعة أميالٍ؟، وروي عن ابن المنكدر والزهري وعكرمة وربيعة.
وروي عن الزهري –أيضاً - تحديده بستة أميالٍ، وهي فرسخان.
وروي عن أبي هريرة، قال: تؤتى الجمعة من فرسخين.
خرّجه ابن أبي شيبة بإسناد ضعيف.
وروى عبد الرزاق بإسناد منقطع، عن معاذ، أنه كان يقوم على منبره، فيقول لقوم بينهم وبين دمشق أربع فراسخ وخمس فراسخ: إن الجمعة لزمتكم، وأن لا جمعةٍ الا معنا.
وبإسناد منقطع، عن معاوية، أنه كان يامر بشهود الجمعة من بينه وبين دمشق أربعة عشر ميلاً.
وقال بقية: عن محمد بن زياد: أدركت الناس بحمص تبعث الخيل نهار الخميس إلى جوسية وحماة والرستن يجلبون الناس إلى الجمعة، ولم يكن يجمع إلا بحمص.
وعن عطاءٍ، أنه سئل: من كم تؤتى الجمعة؟ قال: من سبعة أميالٍ.
وعنه، قال: يقال: من عشرة أميالٍ إلى بريد.(8/161)
وعن النخعي، قال: تؤتى الجمعة من فرسخين.
وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أنه أمر أهل قباء، وأهل ذي الحليفة، وأهل القرى الصغار حوله: لا يجمعوا، وأن يشهدوا الجمعة بالمدينة.
وعن ربيعة - أيضاً -، أنه قال: تجب الجمعة على من إذا نودي بصلاة الجمعة خرج من بيته ماشياً أدرك الجمعة.
وقالت طائفةٌ: تجب الجمعة على من آواه الليل إلى منزله.
قال ابن المنذر: روي ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة وأنس والحسن ونافع مولى ابن عمر، وكذلك قال عكرمة والحكم وعطاء والأوزاعي وأبو ثور. انتهى.
وهو قول أبي خيثمة زهر بن حرب وسليمان بن داود الهاشمي.
وحكى إسماعيل بن سعيد الشالنجي، عن أحمد نحوه، واختاره الجوزاني.(8/162)
وفيه حديث مرفوع، من حديث أبي هريرة.
وقد ذكره الترمذي، وبين ضعف إسناده، وأن أحمد أنكره أشد الإنكار.
وفيه - أيضاً -، عن عائشة، وإسناده ضعيف.
وفيه –أيضاً - من مراسيل أبي قلابة، وفي إسناده ضعف.
وقالت طائفةٌ: تؤتى الجمعة من فرسخين، قاله النخعي وإسحاق -:(8/163)
نقله عنه حرب.
لكنهما لم يصرحا بوجوب ذلك، وقد تقدم نحوه عن غير واحد.
وخرّج حرب من طريق ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، أنه كان يجمع من الزاوية، وهي فرسخان.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن ثابت، عن أنس، أنه كان يكون بينه وبين البصرة ثلاثة أميالٍ، فيشهد الجمعة بالبصرة.
وقد ذكر البخاري، عنه، أنه كان أحياناً لا يجمع.
وكذلك روي عن أبي هريرة، أنه كان بالشجرة –وهي ذو الحليفة -، فكان أحياناً يجمع، وأحياناً لا يجمع.
وقد روي عنه الأمران جميعاً.
وكذلك سعد بن أبي وقاص، كان في قصره بالعقيق، فكأن أحياناً يجمع، وأحياناً لا يجمع، وكان بينه وبين المدينة سبعة أميالٍ أو ثمانية.
وكذلك روي عن عائشة بنت سعد، أن أباها كان يفعل.(8/164)
قال البخاري:
902 -(8/165)
نا أحمد: نا عبد الله بن وهبٍ: أخبرني عمرو بن الحارث، عن عبيد الله بن أبي جعفر، أن محمد بن جعفرٍ بن الزبير حدثه، عن عروة بن الزبير، عن عائشة –زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت: كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم والعوالي، فياتون في الغبار، يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق، فأتى إنسان منهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو عندي -، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا)) .
((أحمد)) هذا، قد سبق الاختلاف فيه: هل هو ابن أخي ابن وهبٍ، أو ابن صالح، أو ابن عيسى التستري؟(8/165)
وذكر أبو نعيم في ((مستخرجه)) : أنه ابن عبد الله.
كذا قال، ولم يبين من هو؟
وفي أكثر النسخ: ((فيأتون في الغبار)) ، وفي بعضها: ((في العباء)) ، وهو الأشبه.
وفي النسخ: ((فيخرج منهم العرق)) ، وفي ((صحيح مسلم)) : ((فيخرج منهم الريح)) .
وفيه - أيضاً -: ((العباء)) .
وهذا من أوضح الأدلة على أن غسل الجمعة ليس بواجب، حتى ولا على من له ريح تخرج منه، وإنما يؤمر به ندباً واستحباباً، لقوله: ((لو أنكم تطهرتم ليومكم
هذا)) .
ومقصود البخاري من هذا الحديث: أن أهل العوالي كانوا يشهدون الجمعة مع النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،(8/166)
وليس في هذا ما يدل على وجوب الجمعة على من كانَ خارج المصر، فإنه ليس فيهِ أمر النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم بشهود الجمعة.
وكذا، ما خرّجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر، قالَ: إن أهل قباء كانوا يجمعون مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
لكن قد روي عنه، أنه أمرهم بذلك.
خرّجه الترمذي من رواية إسرائيل، عن ثوبر –هوَ: ابن أبي فاختة -، عن رجل من أهل قباء، عن أبيه – وكان من أصحاب النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: أمرنا النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نشهد الجمعة من قباء.
وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
قالَ: ولا يصح في هذا الباب شيء. انتهى؟
وثوير، ضعيف الحديث: وشيخه مجهول.
وقد خرّجه وكيع في ((كتابه)) عن إسرائيل، به، ولفظه: كنا نجمع من قباء - ولم يذكر: أمرهم بذلك.
وقال الزهري: كانوا يشهدون الجمعة مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذي الحليفة.
خرّجه ابن أبي شيبة وغيره.(8/167)
ومراسيل الزهري ضعيفة.
وقد ذكر الإمام أحمد أن بين ذي الحليفة والمدينة فرسخين، وقال: كانوا يتطوعون بذلك من غير أن يجب عليهم.
ويشهد لقوله: أن أبا هريرةكان بذي الحليفة، وكان أحياناً ياتي الجمعة، وأحياناً لا يأتيها.
وكذلك ذكر عمرو بن شعيب، أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكون بالرهط، فلا يشهد الجمعة مع الناس بالطائف، وانما بينه وبين الطائف أربعة أميالٍ أو ثلاثة.
خرّجه عبد الرزاق.
وروى عطاءٍ بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أنه كان يشهد الجمعة بالطائف من الرهط.
وهذا يدل على أنه كان يشهدها أحياناً، ويتركها أحياناً، كما فعل غيره من الصحابة – رضي الله عنهم.
* * *
16 -(8/168)
باب
وقت الجمعة إذا زالت الشمس
وكذلك يروى عن عمر، وعلي، والنعمان بن بشيرٍ، وعمرو بن حريثٍ.
اما المروي عن عمر: فروى مالكٌ في ((الموطإ)) ، عن عنه أبي سهيل، عن أبيه، قال: كنت ارى طنفسةً لعقيل بن أبي طالبٍ يوم الجمعة تطرح إلى جدار المسجد الغربي، فاذا غشي الطنفسة كلها ظل الجدار خَّرج عمر بن الخطاب فصلى الجمعة. قال: ثم نرجع بعد الجمعة فنقبل قائلة الضحى.
وأما المروي عن عليّ: فمن طريق إسماعيل بن سميع، عن أبي رزينٍ، قال: صليت خلف علي بن أبي طالب الجمعة حين زالت الشمس.
وأما المروي عن النعمان بن بشيرٍ وعمرو بن حريثٍ: فخرجه ابن أبي شيبة من طريق سماكٍ، قال: كان النعمان بن بشيرٍ يصلي بنا الجمعة(8/169)
بعدما تزول الشمس.
ومن طريق الوليد بن العيزار، قال: ما رأيت إماماً كان أحسن صلاةً للجمعة من عمرو بن حريث، وكان يصليها إذا زالت الشمس.
وقد روي هذا - أيضاً - عن معاذ بن جبل، لكن من وجهٍ منقطعٍ.
وهو قول أكثر الفقهاء، منهم: الحسن، والنخعي، والثوري، وأبو حنيفة، ومالكٌ، والشافعي.
وذهب كثير من العلماء إلى أنه يجوز إقامتها قبل الزوال، وسنذكر ذلك فيما بعد – أن شاء الله تعالى.
خَّرج البخاري في ها الباب ثلاثة احاديث:
الحديث الأول:
903 -(8/170)
ثنا عبدان: أنا عبد الله –هو: ابن المبارك -: أنا يحيى بن سعيد؟ أنه سأل عمرة عن الغسل يوم الجمعة، فقالت: قالت عائشة: كان الناس مهنة أنفسهم، وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم، فقيل لهم: ((لو اغتسلتم)) .
هذا مما يستدل به على أن الغسل للجمعة غير واجبٍ، كما سبق.
والمراد بالمهنة: الخدمة، وقضاء الحوائج والأشغال، وذلك يوجب(8/170)
الوسخ والشعث.
ووجه احتجاج البخاري به في هذا الباب: أن فيه ذكر رواح الناس إلى الجمعة، والرواح إنما يكون بعد الزوال، فدل على أن الجمعة إنما كانت تقام في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الزوال.
وقد يقال: ذكر الرواح في هذا الحديث كذكر الرواح في قوله: ((من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنةً)) – الحديث، ولم يحمله أكثر العلماء على ما بعد
الزوال، كما سبق، فالقول في هذا كالقول في ذاك.
الحديث الثاني:
904 -(8/171)
نا سريج بن النعمان: ثنا فليح بن سليمان، عن عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، عن أنس بن مالكٍ، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس.
ومعنى ((تميل)) : أي تزول عن كبد السماء، بعد استوائها في قائم الظهيرة.
وهذا يدل على انهذه كانت عادة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغالبة، ولا يدل على أنه لم يكن يخل بذلك.
وقد قال أنسٌ: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر والشمس مرتفعةٌ.
وقالت عائشة: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر والشمس في حجرتي.
وقال أبو برزة: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الهجير(8/171)
حين تدحض الشمس - الحدث
بطوله.
وإنما أرادوا: أن ذلك كان الغالب عليه، وإلا فقد يؤخرها عن ذلك أحياناً، كما أخرها لما سأله السائل عن مواقيت الصلاة، وأخرها يوم الخندق، وغير ذلك.
الحديث الثالث:
905 -(8/172)
ثنا عبدان: أنا عبد الله: أنا حميد، عن أنس: قال: كنا نبكر بالجمعة، ونقيل بعد الجمعة.
هذا ما يستدل به من يقول بجواز إقامة الجمعة قبل الزوال، لأن التبكير والقائلة لايكون إلا قبل الزوال. وقد تقدم إنهم كانوا في عهد عمر يصلون معه الجمعة، ثم يرجعون فيقيلون قائلة الضحى، وهذا يدل على أن وقت الضحى كان باقياً.
وكل ما استدل به من قال: تمنع إقامة الجمعة قبل الزوال ليس نصاً صريحاً في
قوله، وإنما يدل على جواز إقامة الجمعة بعد الزوال أو على استحبابه، إما منع إقامتها قبله فلا، فالقائل بأقامتها قبل الزوال يقول بجميع الأدلة، ويجمع بينها كلها، ولا يرد منها شيئاً.
فروى جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، عن عبد الله بن سيدان، قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر الصديق، فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر، فكانت صلاته وخطبته إلى أن نقول: انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان، فكانت صلاته وخطبته إلى أن نقول: مال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره.(8/172)
خرّجه وكيع في ((كتابه)) عن جعفر، به.
وخرّجه عنه ابن أبي شيبة في ((كتابه)) .
وخرّجه عبد الرزاق في ((كتابه)) عن معمر، عن جعفر، به.
وخرّجه الأثرم والدارقطني.
ورواه الإمام أحمد –في رواية ابنه عبد الله -، عن وكيع، عن جعفر، واستدل
به.
وهذا إسنادٌ جيدٌ:
وجعفر: حديثه من غير الزهري حجةٌ يحتج به -: قاله الإمام أحمد والدارقطني وغيرهما.
وثابت بن الحجاج: جزري تابعيٌ معروفٌ، لا نعلم أحداً تكلم فيه، وقد خَّرج له أبو داود.
وعبد الله بن سيدان السلمي المطرودي، قيل: إنه من الربذة، وقيل: إنه
جزريٌ، يروي عن أبي بكر وحذيفة وأبي ذر، وثقه العجلي، وذكره ابن سعدٍ في
((طبقة الصحابة)) ممن نزل الشام، وقال: ذكروا أنه رأى النبي ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال القشيري في ((تاريخ الرقة)) : ذكروا أنه أدرك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأما البخاري، فقال: لا يتابع على حديثه – كأنه يشير إلى حديثه هذا.
وقول ابن المنذر: إن هذا الحديث لا يثبت. هو متابعة لقول(8/173)
البخاري، وأحمد أعرف الرجال من كل من تكلم في هذا الحديث، وقد استدل به وأعتمد عليه.
وقد عضد هذا الحديث: أنه قد صح من غير وجه أن القائلة في زمن عمر وعثمان كانت بعد صلاة الجمعة، وصح عن عثمان أنه صلى الجمعة بالمدينة وصلى العصر بمللٍ. خرّجه مالك في ((الموطإ)) ، وبين المدينة ومللٍ اثنان وعشرون ميلاً، وقيل: ثمانية عشر ميلاً، ويبعد أن يلحق هذا السائر بعد زوال الشمس.
وروى شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: صلى بنا عبد الله بن مسعود الجمعة ضحى: وقال: خشيت عليكم الحر.
وروى الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن سويد، قال صلى بنا معاوية الجمعة ضحى.
وروى إسماعيل بن سميع، عن بلالٍ العبسي، أن عماراً صلى للناس الجمعة، والناس فريقان، بعضهم يقول: زالت الشمس، وبعضهم يقول: لم تزل.
خرّج ذلك كله ابن أبي شيبة.(8/174)
وخرّج –أيضاً - من طريق الأعمش، عن مجاهد، قال: ما كان للناس عيدٌ إلا أول النهار.
ومن طريق يزيد بن أبي زياد، عن عطاءٍ، قال: كان من كان قبلكم يصلون الجمعة وإن ظل الكعبة كما هو.
وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، قال: كل عيد حين يمتد الضحى: الجمعة، والأضحى، والفطر، كذلك بلغنا.
وروى وكيع في ((كتابه)) عن جعفر بن برقان، عن حبيب بن أبي مرزوق، عن عطاءٍ، قال: كل عيد في صدر النهار.
وعن شعبة، عن الحكم، عن حماد، قال: كل عيد قبل نصف النهار.
وروى أبو سعدٍ البقال، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعودٍ، قال: ما كان عيدٌ قط إلا في صدر النهار، ولقد رأيتنا وأنا لجمع مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ظل الخطبة.
أبو سعدٍ، فيه ضعفٌ.(8/175)
وحكى الماوردي في كتابه ((الحاوي)) عن ابن عباسٍ، أنه يجوز صلاة الجمعة قبل الزوال.
وهو مذهب أحمد وإسحاق -: نقله عنهما ابن منصورٍ، وهو مشهورٌ عن أحمد، حتى نقل أنه لا يختلف قوله في جواز إقامة الجمعة قبل الزوال، كذا قاله غير واحد من أصحابه، ومنهم: ابن شاقلا وغيره.
وقد روى حنبل، عن أحمد، قال: صلاة الجمعة تعجل، يؤذن المؤذن قبل أن تزول الشمس، وإلى أن يخطب الإمام، وتقام الصلاة، قد قام قائم الظهيرة، ووجبت الصلاة، ويقال: إن يوم الجمعة صلاةٌ كله لا تحرى فيها الصلاة، وكان أصحاب
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحرون بصلاة الجمعة، إلا أنه لا ينبغي أن تصلى حتى تزول الشمس لأول الوقت، هذه السنة التي لم يزل الناس يعملون عليها بالمدينة والحجازٍ، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه على ذلك.
وظاهر هذه الرواية: أنه إنما يقدم على الزوال الأذان والخطبة خاصة، وظاهرها: أنه يجوز الصلاة في وقت الزوال يوم الجمعة خاصةً.
وقال صالح بن أحمد: سألت أبي عن وقت الجمعة؟ فقالَ: إذا زالت الشمس.
ونقل صالح - أيضاً -، عن أبيه - في موضع أخر -، أنه قال: إن فعل ذلك قبل الزوال فلا أعيبه، فأما بعده فليس فيه شكٌ.
ونحوه نقل ابن منصورٍ، عن أحمد وإسحاق.
ونقل أبو طالب، عنه، قال: ما ينبغي أن يصلي قبل الزوال، وقد صلى ابن مسعودٍ.(8/176)
ونقل عنه جماعة ما يقتضي التوقف.
ونقل عنه عبد الله، أنه قال: لا بأس أن يصلي قبل الزوال، قد صلى ابن
مسعود.
وقد نقل عنه ابن القاسم، قال: وقت الجمعة قبل الزوال وبعد الزوال، أي ذلك فعل جاز.
ونقل عنه أحمد بن الحسن الترمذي، أنه قال: على ما جاء من فعل أبي بكر وعمر: لا أرى به بأسا، لأنها عيد، والأعياد كلها في أول النهار.
وكذا نقل عبد الله، عن أبيه، قال: يجوز أن تصلى الجمعة قبل الزوال، يذهب إلى أنها كصلاة العيد.
قال أبو بكر: وعلى هذا استقرت الروايات عنه، وعليه العمل.
واختلف أصحابنا في الوقت الذي يجوز فعلها فيه:
فقال الخرقي: في الساعة السادسة –وفي بعض النسخ: الخامسة.
وقال القاضي وكثير من أصحابه: يجوز فعلها في وقت جواز صلاة العيد، وهو إذا ارتفعت الشمس بعد طلوعها، وزال وقت النهي.
وهو ظاهررواية عبد الله، عن أبيه.
ومن أصحابنا من ثال: يجوز فعلها من وقت طلوع الفجر يوم الجمعة، إذا دخل وقت الفجر، حكاه ابن عقيل في ((مفرداته)) و ((عمد الأدلة)) .(8/177)
وهذا القول غلوٌ من قائله، وكيف يجوز إقامة الجمعة في وقت صلاة الفجر؟! وهل فعل هذا أحدٌ سلفاً أو خلفاً؟! وإذا كانت صلاة لا تفعل قبل طلوع الشمس، ووقتها قبل الزوال دون ما بعده، فكيف تصلي الجمعة قبل طلوع الشمس، وإنما جاز تقديمها على الزوال إلحاقاً لها بالعيد، وتشبيهاً لها بها.
وبكل حالٍ؛ فلا يجب فعلها إلا بعد الزوال، على الصحيح من المذهب. وعليه جمهور الأصحاب.
وإنما يجوز تقديمها قبله وتعجيلها كما تعجل الصلاة المجموعة؛ فإن صلاة الجمعة سببها: اليوم؛ ولهذا تضاف إليه، فيقال: صلاة الجمعة، وشرطها:
الزوال، فيجوز تقديمها على شرطها بعد وجود سببها، وهو اليوم، كما يجوز تعجيل الزكاة بعد كمال النصاب، وهو سبب الوجوب، وقيل: الحول، وهوشرطه.
وهذا هو الذي تخيله من قال من الأصحاب: يجوز فعلها في وقت صلاة الفجر، لكن الصحيح: أنه غير جائز، ما دام وقت الفجر باقياً؛ لئلا يتداخل وقت الصلاتين، فإذا خرج وقت صلاة الفجر، وزال وقت النهي، ودخل وقت صلاة العيد والضحى جاز تقديم صلاة الجمعة حينئذٍ.
ومع هذا، فلا تصلى في حال استواء الشمس في السماء، ويجوز قبله، نص عليه أحمد، وقال: ما يعجبني، وأتوقاه في صلاتها في قائم الظهيرة، مع قوله: يجوز صلاتها قبل الزوال.(8/178)
وأما آخر وقت الجمعة: فهو آخر وقت الظهر، هذا هو قول جمهور العلماء، وهو قول أبي حنيفة، والثوري، والحسن بن حي، ومالك - في رواية -، والشافعي، وأحمد، وعبد العزيز بن الماجشون.
واتفقوا: على أنه متى خَّرج وقت الظهر، ولم يصل الجمعة فقد فاتت ويصلي الظهر.
وأما أن صلى الجمعة، ثم خَّرج الوقت وهم في الصلاة، فقال أبو حنيفة والشافعي: تبطل الصلاة، إلا أن يخرج قبل السلام –على رأي أبي حنيفة وحده.
والمنصوص عن أحمد: أنه أن خَّرج الوقت وهم في التشهد أتموا الجمعة.
واعتبر الخرقي من أصحابنا أن يكون قد أدرك في الوقت ركعة فصاعدا، فإن خرج الوقت قبل إدراك ركعةٍ صلوا ظهراً.
وحكي رواية عن مالكٍ كذلك.
ومن أصحابنا من قال: تلحق الجمعة بتكبيرة الإحرام في الوقت كسائر
الصلوات.
ونقل ابن القاسم، عن مالكٍ، أن آخر وقتها: غروب الشمس.
قال ابن القاسم: من صلى من الجمعة ركعةً، ثم غربت الشمس صلى الركعة الثانية بعد غروب الشمس، وكانت جمعةً.
والعجب ممن ينصر هذا القول، ويحتج له، مع أنه لا يعرف العمل به إلاّ عن ظلمة بني أمية واعوانهم، وهو مما ابتدعوه في الإسلام، ثم ينكر على من قدم الجمعة على الزوال متابعة لأصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكثيرٍ من التابعين لهم بإحسان!
فإن قيل: فقد كان الصحابة يصلون مع من يؤخر الجمعة إلى بعد(8/179)
العصر، والى قريب من غروب الشمس؟
قيل: كانوا يصلون الظهر والعصر في بيوتهم قبل مجيئهم، ثم يجيئون إتقاء شر الظلمة، كما أمرهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، ومنهم من كان يومئ بالصلاة، وهو جالسٌ في المسجد إذا خاف فوت الوقت.
وسنذكر ذلك في الباب الآتي – أن شاء الله تعالى.
* * *
17 -(8/180)
بابٌ
إذا اشتد الحر يوم الجمعة(8/181)
906 - حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي: ثنا حرمي بن عمارةً: ثناابو خلدة –هو: خالد بن دينار -، قال: سمعت أنس بن مالكٍ يقول: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذا أشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا أشتد الحر أبرد بالصلاة –يعني: الجمعة.
وقال يونس بن بكير: أنا أبو خلدة، وقال: ((بالصلاة)) ، ولم يذكر:
((الجمعة)) .
وقال بشر بن ثابت: ثنا أبو خلدة: صلى بنا أمير المؤمنين الجمعة، ثم قال لأنسٍ: كيف كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الظهر؟
خرّج الإسماعيلي في ((صحيحه)) –وهو ((المستخرج على صحيح البخاري)) –من طريق هارون بن عبد الله، عن حرمي بن عمارة: حدثني أبو خلدة، قالَ: سمعت أنس بن مالكٍ –وناداه يزيد الضبي: يا أبا حمزة، قد شهدت الصَّلاة مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وشهدت الصَّلاة معنا، فكيف كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الجمعة؟ - فقال: كان إذا أشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا أشتد الحر أبرد بالصلاة.
وخرّجه –أيضاً - من رواية محمد بن المثنى، عن حرمي، ولم يذكر في حديثه:
((الجمعة)) .
وخرّج –أيضاً - رواية يونس بن بكير التي علقها البخاري، ولفظ(8/181)
حديثه: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد بكر بها –يعني: الظهر.
وخرّج - أيضاً - حديث بشر بن ثابت الذي علقه البخاري - أيضاً -، ولفظ حديثه: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان الشتاء يبكر بالظهر، وإذا كان الصيف أبرد بها، ولكن يصلي العصر والشمس بيضاء.
وخرّجه البيهقي من رواية بشر بن ثابت – بهذا المعنى.
وخرّج - أيضاً - رواية يونس بن بكيرٍ: ثنا أبو خلدة: سمعت أنس بن مالكٍ – وهو جالسٌ مع الحكم أمير البصرة على السرير – يقول: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد بكر بالصلاة.
وروى هذا الحديث – أيضاً – خالد بن الحارث: ثنا أبو خلدة، أن الحكم ابن أيوب أخر الجمعة يوماً، فتكلم يزيد الضبي. وقال: دخلنا الدار وأنس معه على السرير، فقال له يزيد: يا أبا حمزة، قد صليت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحضرت صلاتنا، فأين صلاتنا من صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: إذا كان الحر برد بالصلاة، وإذا كان البرد يبكر بالصلاة، ولم يسمعه، ولكنه قد شهد الأمر.
خرّجه النسائي في ((كتاب الجمعة)) .(8/182)
وهذه الرواية تخالف رواية البخاري التي فيها التصريح بالسماع.
وقد رواه سهل بن حمادٍ، عن أبي خلدة، قال: بينا الحكم بن أيوب يخطب في البصرة إذ قام يزيد الضبي، فناداه، فقال: أيها الأمير: إنك لا تملك الشمس، فقال: خذاه، فأخذ، فلما قضى الصلاة أدخل عليه، ودخل الناس، وثم أنس بن مالكٍ، فأقبل على أنس، فقال: كيف كنتم تصلون مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبرد بالصلاة في الحر، ويبكر بها في الشتاء.
خرّجه المروزي في ((كتاب الجمعة)) .
فقد تبين بهذه الروايات أن سبب سؤال أنس إنما كان تأخير الحكم بن أيوب.
وقضية يزيد الضبي مع الحكم بن أيوب في إنكاره عليه تأخير الجمعة وهو يخطب معروفة، وكان أنس بن مالكٍ حاضراً.
وقد خرّجها بتمامها ابن أبي الدنيا في ((كتاب الأمر بالمعروف)) من رواية جعفر بن سليمان: حدثني المعلى بن زياد، قال: حدثني يزيد الضبي، قال: أتيت الحسن ثلاث مراتٍ، فقلت: يا أبا سعيدٍ، غلبنا على كل شيء، وعلى صلاتنا نغلب؟! فقال الحسن: إنك لن تصنع شيئاً، إنما تعرض نفسك لهم.
قال: فقمت والحكم بن أيوب ابن عم الحجاج يخطب، فقلت: الصلاة يرحمك الله، قال: فجاءتني الزبانية، فسعوا الي من كل جانب، فأخذوا بلبتي، وأخذوا بلحيتي ويدي وكل شيء، وجعلوا يضربوني بنعالهم وسيوفهم، قال: وسكت الحكم بن
أيوب، وكدت أن أقتل دونه، ففتح باب المقصورة، فادخلت عليه، فقال: أمجنونٌ أنت؟!(8/183)
قلت: ما بي من جنون، قالَ: أوما كنا في صلاة؟ قلت: أصلحك الله، هل من كلام أفضل من كتاب الله؟ قال: لا، قلت: لو أن رجلاً نشر مصحفه فقرأه غدوة حتى يمسي، ولا يصلي فيما بين ذلك، كان ذلك قاضياً عنه صلاته؟ قال الحكم: إني لأحسبك مجنوناً: قال: وأنس بن مالكٍ جالس قريباً من المنبر، على وجههٌ خرقة
خضراء، فقلت: يا أبا حمزة، أذكرك الله، فانك صحبت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخدمته، أحقٌ أقول أم باطلٌ؟ قال: فو الله ما أجابني بكلمةٍ، فقال له الحكم: يا أنس، قال: لبيك، أصلحك الله – قال: وقد كان فات ميقات الصلاة – قال: يقول له أنس: قد كان بقي من الشمس بقيةٌ؟ فقال: احبساه. قال: فحبست، فشهدوا أني مجنونٌ.
قال جعفر: فإنما نجا من القتل بذلك – وذكر بقية القصة.
فقد تبين بهذا السياق أن الصحابة والتابعين كانوا كلهم خائفين من ولاة السوء الظالمين، وإنهم غير قادرين على الإنكار عليهم، وأنه غير نافع بالكلية؛ فإنهم يقتلون من أنكر، ولا يرجعون عن تأخير الصلاة على عوائدهم الفاسدة.
وقد تكلم بعض علماء أهل الشام في زمن الوليد بن عبد الملك في ذلك، وقال: أبعث نبيٌ بعد محمدٍ يعلمكم هذا – أو نحو ذلك؟ فأخذ فأدخل الخضراء، فكان آخر العهد به.
ولهذا لم يستطع أنس أن يجيب يزيد الضبي بشئ حين تكلم يزيد، وإنما قال للحكم لما سأله: قد بقي من الشمس بقيةٌ – يريد: قد بقي من ميقات العصر بقيةٌ -، وهو كما قال لكن وقت الجمعة كان قد فات، ولم(8/184)
يستطع أن يتكلم بذلك، فلما دخل الحكم داره، وأدخل معه أنساً ويزيد الضبي، فسئل أنس في ذلك الوقت عن وقت صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبر أنه كان يعجل في البرد، ويبرد في الحر، ومراده –والله أعلم -: صلاة الظهر، وهذا هو الذي امكن أنسا أن يقوله فيذلك الوقت، ولم يمكنه الزيادة على
ذلك.
وأكثر العلماء على أن الجمعة لا يبرد بها بعد الزوال، بل تعجل في أول الوقت، وللشافعية في ذلك وجهان.
وقد كان الصحابة والتابعون مع أولئك الظلمة في جهدٍ جهيدٍ، لا سيما في تأخير الصلاة عن ميقاتها، وكانوا يصلون الجمعة في أخر وقت العصر، فكان أكثر من يجيء إلى الجمعة يصلي الظهر والعصر في بيته، ثم يجيء إلى المسجد تقية لهم، ومنهم من كان إذا ضاق وقت الصلاة وهو في المسجد أومأ بالصلاة خشية القتل.
وكانوا يحلفون من دخل المسجد أنه ما صلى في بيته قبل أن يجيء.
قال إبراهيم بن مهاجرٍ: كنت أنا وسعيد بن جبيرٍ وإبراهيم نصلي الظهر، ثم نجلس فنتحدث والحجاج يخطب يوم الجمعة.
خرّجه أبو نعيمٍ الفضل بن دكين في ((كتاب الصلاة)) .
وخَّرج –أيضاً - بإسناده، عن أبي بكر بن عتبة، قال صليت إلى جنب أبي جحيفة، فتمسى الحجاج بالصلاة، فقام يصلي الجمعة، ثم قام فصلى ركعتين، ثم قال: يا أبا بكر، أشهدك أنها الجمعة.(8/185)
وهذا غريبٌ، يدل على أنه يصح أن يصلي الرجل الجمعة وحده.
وبإسناده: عن الأعمش، عن إبراهيم وخيثمة، أنهما كانا يصليان الظهر
والعصر، ثم يأتيان الحجاج يوم الجمعة، فيصليان معه.
وعن أبي وائل، أنه كان يأمرهم أن يصلوا في بيوتهم، ثم يأتوا الحجاج فيصلون معه الجمعة.
وعن محمد بن أبي إسماعيل، قال: كنت في مسجد منى، وصحف تقرأ للوليد، فأخروا الصلاة: قال: فنظرت إلى سعيدٍ بن جبير وعطاء يومئان، وهما قاعدان.
وقد ذكر أبو زيد عمر بن شبة النميري البصري في ((كتاب أدب السلطان)) باباً في تأخير الأمراء الصلاة، خَّرج فيه الأحاديث المرفوعة، والآثار الموقوفة في ذلك، وقد سبق ذكر بعضها في ((أبواب: المواقيت)) .
وروى فيه بإسناده: أن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعودٍ كان يروح إلى المسجد وقد صلى الظهر والعصر، فيجلس فينتظر، فيقول: ماله قاتله الله؟!
يصيح على منبره صياحاً، وقد فاتته العصر، ولم يصل الظهر بعد.
وبإسناده: عن عمرو بن هرم، قال: كان أنس بن مالكٍ يصلي الظهر والعصر في بيته، ثم يأتي الحجاج فيصلي معه الجمعة.
وبإسناده: عن عبد الله بن أبي زكريا، أنه كان يجمع مع الوليد بن عبد الملك ما صلى الوليد في وقت الظهر الجمعة، ويعتد بها جمعةً، فإن أخرها عن وقت الظهر صلى الظهر في آخر وقت الظهر أربعاً إيماءً، ثم(8/186)
صلى الجمعة معه، وجعلها تطوعا، فإن أخر العصر حتى يخرج وقتها صلاها في آخر وقتها ايماءً.
وبإسناده: عن حصينٍ، قال: كان أبو وائل إذا أخر الحجاج الجمعة استقبل القبلة، يومئ ايماءً: يتناعس.
وبإسناده: عن جريرٍ، قال: شهدت الجمعة مع ابن هبيرة، فأخر الصلاة إلى قريب من العصر، فرأيت الناس يخرجون، فرأيت أبا حنيفة خَّرج، فكأن شيخ يصيح في المسجد: لو كان الحجاج ما خرجوا، وجعل فضيل بن غزوان ويقول: إنهم، إنهم.
وبإسناده: عن ابن سيرين، أنه حضر الجمعة، فأخر الأمير الصلاة، فأدمى
ظفره، ثم قام فخرج، وأخذته السياط حتى خَّرج من المسجد. وعن عطاءٍ بن السائب: قال: رأيت سعيدٍ بن جبير وأبا البختري وأصحابه يومئون يوم الجمعة، والحجاج
يخطب، وهم جلوسٌ.
وعن محمد بن إسماعيل، قال: رأيت سعيد بن جبير وعطاء، وأخر الوليد الجمعة والعصر، فصلاهما جميعاً، قال: فأومئا إيماءً، ثم صليا معه بمنىً.
وبإسناده: عن حميدٍ، أن الوليد بن عبد الملك خَّرج بمنىً بعد العصر، فخطب حتى صارت الشمس على رؤس الجبال، فنزل فصلى الظهر، ثم صلى العصر، ثم صلى المغرب.(8/187)
وروى بإسنادٍ له: عن سالم، أنه ذكر أن الوليد قدم عليهم المدينة، فما زال يخطب ويقرأ الليث حتى مضى وقت الجمعة، ثم مضى وقت العصر، فقال القاسم بن محمد لسالم: أما قمت فصليت؟ قال: لا. قال: أفما اومأت؟ قال: لا. وقال: خشيت أن يقال: رجل من آل عمر.
وروى بإسناده: عن عمارة بن زاذان: حدثني مكحولٌ، قال: خطب الحجاج بمكة، وأنا إلى جنب ابن عمر، يحبس الناس بالصلاة، فرفع ابن عمر راسه، ونهض، وقال: يا معشر المسلمين، انهضوا إلى صلاتكم، ونهض الناس، ونزلالحجاج، فلما صلى قال: ويحكم، من هذا؟ قالوا: ابن عمر.
قال: أما والله لولا أن به لمماً لعاقبته.
وروى أبو نعيم في ((كتاب الصلاة)) : ثنا زهير، عن جابر –وهو: الجعفي -، عن نافع، قال: كان ابن عمر يصلي خلف الحجاج، فلما اخرهاترك الصلاة معه.
وكان الحسن يأمر بالكف عن الإنكار عليهم، ثم غلبه الأمر فأنكر على الحجاج، وكان سبب اختفائه منه حتى مات الحجاج، والحسن متوار عنه بالبصرة.
وقد روى أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب ((مناقب الحسن)) بإسناد له، أن الحسن شهد الجمعة مع الحجاج، فرقى الحجاج المنبر، فأطال الخطبة حتى دخل في وقت العصر، فقال الحسن: أما من رجل يقول:(8/188)
الصلاة جامعةٌ؟ فقالَ رجل: يا أبا سعيدٍ، تأمرنا أن نتكلم والإمام يخطب؟ فقال: إنما أمرنا أن ننصت لهم فيما أخذوا من أمر
ديننا، فإذا أخذوا في أمر دنياهم أخذنا في أمر ديننا، قوموا، فقام الحسن وقام الناس لقيام الحسن، فقطع الحجاج خطبته، ونزل فصلى بهم، فطلب الحجاج الحسن فلم يقدر عليه.
وهذا كله مما يدل على اجتماع السلف الصالح على أن تأخير الجمعة إلى دخول وقت العصر حرام لا مساغ له في الإسلام.
ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة صلى الجمعة في أول وقتها على ما كانت عليه السنة.
فروى إسماعيل بن عياش، عن عمرو بن مهاجرٍ، أن عمر بن عبد العزيز كان يصلي الجمعة في أول وقتها حين يفيء الفيء ذراعا ونحوه، وذلك في الساعة السابعة.
وقال ابن عونٍ: كانوا يصلون الجمعة في خلافة عمر بن عبد العزيز والظل هنية.
* * *
18 -(8/189)
باب
المشي إلى الجمعة
وقول الله عز وجل: {فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ومن قال: السعي العمل والذهاب، لقوله {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا?} [الإسراء:19] .
وقال ابن عباسٍ: يحرم البيع حينئذ.
وقال عطاءٌ: تحرم الصناعات كلها.
وقال إبراهيم بن سعدٍ، عن الزهري: إذا اذن المؤذن يوم الجمعة وهو مسافر، فعليه أن يشهد.
اشتمل كلامه –هاهنا - على مسائل:
إحداها:
المشي إلى الجمعة، وله فضل.
وفي حديث أوس بن أوس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من بكر وابتكر، وغسل واغتسل، ومشى ولم يركب)) . وقد سبق.
وفي حديث اختصام الملأ الأعلى، ((إنهم يختصمون في الكفارات والدرجات، والكفارات إسباغ الوضوء في الكريهات، والمشي على الأقدام إلى الجمعات)) .
وقد خرّجه الإمام أحمد والترمذي من حديث(8/190)
معاذٍ.
وله طرق كثيرة، ذكرتها مستوفاة في ((شرح الترمذي)) .
وروى ابن أبي شيبة بإسنادٍ فيه انقطاعٌ، أن عبد الله بن رواحة كان يأتي الجمعة ماشياً، فإذا رجع كيف شاء ماشياً، وإن شاء راكباً.
وفي رواية: وكان بين منزلة وبين الجمعة ميلان.
وعن أبي هريرة، أنَّهُ كان يأتي الجمعة من ذي الحليفة ماشياً.
وذكر ابن سعدٍ في ((طبقاته)) بإسناده، عن عمر بن عبد العزيز، أنه كتب ينهى أن يركب أحد إلى الجمعة والعيدين.
وقال النخعي: لا يركب إلى الجمعة.
المسألة الثانية:
أنه يستحب المشي بالسكينة مع مقاربة الخطا، كما في سائر الصلوات، على ماسبق ذكره في موضعه.
فأما قول الله عز وجل: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى(8/191)
ذِكْرِ
اللَّهِ} [الجمعة:9] ، فقد حمله قوم من المتقدمين علىظاهره، وأنكر ذلك عليهم
الصحابة.
فروى البيهقي من حديث عبد الله بن الصامت، قال: خرجت إلى المسجد يوم الجمعة، فلقيت أبا ذر، فبينا أنا امشي اذ سمعت النداء، فرفعت في المشي؛ لقول الله عز وجل: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ، فجذبني جذبة
كدت أن ألاقيه، ثم قال: أو لسنا في سعي؟ .
فقد أنكر أبو ذر على من فسر السعي بشدة الجري والعدو، وبين أن المشي إليها سعي؛ لأنه عمل، والعمل يسمى سعياً، كم قال تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4] ، وقال: {?وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء:19] ومثل هذا كثير في القرآن.
وبهذا فسر السعي في هذه الآية التابعون فمن بعدهم، ومنهم: عطاءٍ، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، ومالك، والثوري، والشافعي وغيرهم.
وروي عن ابن عباسٍ –أيضاً - من وجه منقطع.
ومنهم من فسر السعي بالجري والمسابقة، لكنه حمله على سعي القلوب والمقاصد والنيات دون الأقدام، هذا قول الحسن.
وجمع قتادة بين القولين –في روايةٍ -، فقال: السعي بالقلب والعمل.(8/192)
وكان عثمان وابن مسعودٍ وجماعة من الصحابة يقرءونها: ((فامضوا إلى ذكر
الله)) .
وقال النخعي: لو قرأتها ((فسعوا)) لسعيت حتى يسقط ردائي.
وروي هذا الكلام عن ابن مسعودٍ من وجهٍ منقطعٍ.
المسألة الثالثة:
في تحريم البيع وغيره مما يشغل به عن السعي بعد النداء.
وقد حكى عن ابن عباسٍ تحريم البيع وغيره.
وروى القاضي إسماعيل في كتابه ((أحكام القرآن)) من روايةٍ سليمان بن معاذ، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: لا يصلح البيع يوم الجمعة حين ينادى بالصلاة، فاذا قضيت الصلاة فاشتر وبع.
وبإسناده: عن ميمون بن مهران، قال: كان بالمدينة إذا نودي بالصلاة من يوم الجمعة نادوا: حرم البيع، حرم البيع.
وعن أيوب، قال: لأهل المدينة ساعة، وذلك عند خروج الإمام، يقولون: حرم البيع، حرم البيع.
وعن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يمنع الناس من البيع يوم الجمعة إذا(8/193)
نودي بالصلاة.
وعن الحسن وعطاء والضحاك: تحريم البيع إذا زالت الشمس من يوم الجمعة.
وعن الشعبي، أنه محرمٌ.
وكذا قال مكحولٌ.
وحكى إسحاق بن راهويه الإجماع على تحريم البيع بعد النداء.
وحكى القاضي إسماعيل، عمن لم يسمه، أن البيع مكروه، وانه استدل بقوله {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} [الجمعة:9] .
ورد عليه: بأن من فعل ما وجب عليه وترك ما نهي عنه فهو خيرٌ له، كما قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء:171] .
وحكي القول بأن البيع مردود عن القاسم بن محمد وربيعة ومالكٍ.
ورواه ابن عيينة، عن عبد الكريم، عن مجاهد أو غيره.
وهو مذهب الليث والثوري وإسحاق وأحمد وغيرهم من فقهاء أهل الحديث.
وخالف فيه أبو حنيفة والشافعي واصحابهما وعبيد الله العنبري، وقالوا: البيع غير مردودٍ؛ لأن النهي عن البيع هنا ليس نهياً عنه لذاته بل لوقته.
والأولون يقولون: النهي يقتضي فساد المنهي عنه، سواء كان لذات المنهي عنه أو لوقته، كالصوم يوم العيد، والصلاة وقت النهي، فكذلك العقود.(8/194)
وقال الثوري –فيما إذا تصارفا ذهباً بفضة وقبضا البعض، ثم دخل وقت النداء يوم الجمعة -: فإنهما يترادان البيع.
وهذا يدل على أن القبض عند شرط لانعقاد الصرف، فلا يتم العقد الا به، وهو الصحيح عند المحققين من أصحابنا –أيضاً.
وأما ما ذكره عن عطاءٍ، أنه تحرم الصناعات حينئذ، فإنه يرجع إلى أنه إنما حرم البيع؛ لأنه شاغلٌ عن السعي إلى ذكر الله والصلاة، فكل ما قطع عن ذلك فهو محرم من صناعة أو غيرها، حتى الاكل والشرب والنوم والتحدث وغير ذلك، وهذا قول الشافعية وغيرهم –أيضاً.
لكن لأصحابنا في بطلان غير البيع من العقود وجهان، فإن وقوعها بعد النداء نادر، بخلاف البيع، فإنه غالب، فلو لم يبطل لادى إلى الاشتغال عن الجمعة به، فتفوت الجمعة غالباً.
وأكثر أصحابنا حكوا الخلاف في جواز ذلك، وفيه نظرٌ؛ فإنه إذا وجب السعي إلى الجمعة حرم كل ما قطع عنه.
وقد روي عن زيد بن أسلم، قال: لم يأمرهم الله أن يذروا شيئاً غيره، حرم البيع، ثم أذن لهم فيه إذا فرغوا.
وهذا ضعيف جدا؛ فإن البيع إنما خص بالذكر لأنه أكثر ما يقع حينئذ مما يلهي عن السعي، فيشاركه في المعنى كل شاغل.
وأستدل بعض أصحابنا على جواز غير البيع من العقود بالصدقة، وقال: قد أمر به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يخطب.(8/195)
وهذا لا يصح؛ فإن الصدقة قربة وطاعة، وإذا وقعت في المسجد حيث لا يكره السؤال فيه فلا وجه لمنعها.
فإن الحق بذلك عقد النكاح في المسجد قبل خروج الإمام كان متوجهاً، مع أن بعض أصحابنا قد خص الخلاف بالنكاح، وهو ابن عقيل.
وعن أحمد روايةٍ: إنه يحرم البيع بدخول وقت الوجوب، وهو زوال الشمس.
وقد سبق مثله عن الحسن، وعطاء، والضحاك، وهو - أيضاً - قول مسروق، ومسلم بن يسارٍ، والثوري، وإسحاق.
وقياس قولهم: إنه يجب السعي بالزوال، ويحرم حينئذ كل شاغلٍ يشغل عنه.
والجمهور: على أنه لا يحرم بدون النداء.
ثم الأكثرون منهم على أنه النداء الثاني الذي بين يدي الإمام؛ لأنه النداء الذي كان في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا ينصرف النداء عند إطلاقه إلا إليه.
وفي ((صحيح الإسماعيلي)) من حديث الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: كان النداء الذي ذكر الله في القرآن يوم الجمعة إذا خَّرج الإمام، وإذا قامت الصلاة في زمن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر.
وعن أحمد روايةٌ: أنه حرم البيع ويجب السعي بالنداء الأول.
وهو قول مقاتل بن حيان، قال: وقد كان النداء الأول قبل زوال الشمس.
ونقله ابن منصورٍ، عن إسحاق بن راهويه –صريحاً.
وعن أحمد، أنه قال: أخاف أن يحرم البيع، وإن أذن قبل الوقت.
ومجرد الشروع في الأذان يحرم به البيع عند أصحابنا والشافعية؛(8/196)
لأنه صار نداءً مشروعاً مسنوناً سنة الخلفاء الراشدين.
قال أصحابنا: ولو اقتصر عليه اجزأ، وسقط فرض الأذان.
وعند أصحاب الشافعي: يحرم البيع بمجرد الشروع في النداء الثاني بين يدي
الإمام، إذا كان قاطعاً عن السعي، فأما إن فعله وهو ماش في الطريق ولم يقف، أو هو قاعد في المسجد كره ولم يحرم.
وهذا بعيد، والتبايع في المسجد بعد الأذان يجتمع فيه نهيان؛ لزمانه ومكانه، فهو أولى بالتحريم.
المسألة الرابعة:
حكى عن الزهري: أن المسافر إذا سمع النداء للجمعة، فعليه أن يشهدها، وقد سبق ذكر ذلك عنه، وعن النخعي والأوزاعي وعن عطاءٍ: أن عليه شهودها، سمع الأذان أو لم يسمعه، وأن الجمهور على خلاف ذلك.
وهل للمسافر أن يبيع ويشتري بعد سماع النداء؟ فيهِ اختلاف بين أصحابنا، يرجع إلى أن من سقطت عنه الجمعة لعذر، كالمريض: هل لهُ أن يبيع بعد النداء، أم
لا؟ فيه روايتان عن أحمد.
وأما من ليس من أهل الجمعة بالكلية، كالمرأة، فلها البيع والشراء بغير خلاف، وكذا العبد، إذا قلنا: لا يجب عليه الجمعة.
خَّرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث:(8/197)
الأول:
907 -(8/198)
ثنا علي بن عبد الله: ثنا الوليد بن مسلمٍ: ثنا يزيد بن أبي مريم: ثنا عباية بن رفاعة، قال: أدركني أبو عبسٍ وأنا اذهب إلى الجمعة، فقال: سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار)) .
((يزيد بن أبي مريم)) ، هو: الأنصاري الشامي، وهو بالياء المثناة من تحت، وبالزاي.
وأما: بريد بن أبي مريم –بالباء الموحدة، والراء المهملة -، فبصري، لم يخرج له البخاري في ((صحيحه)) شيئاً.
وخرّج الإسماعيلي في ((صحيحه)) هذا الحديث بسياق تام، ولفظه: عن يزيد بن أبي مريم: بينما أنا رائحٌ إلى الجمعة إذ لحقني عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج
الأنصاري، وهو راكب وأنا ماشٍ، فقال: احتسب خطاك هذه في سبيل الله، فاني سمعت أبا عبس بن جبر الأنصاري يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار)) .
وخرّجه الترمذي والنسائي –بمعناه.
ففي هذه الرواية أن هذه القصة جرت ليزيد مع عباية، وفي روايةٍ البخاري أنها جرت لعباية مع أبي عبس، وقد يكون كلاهما محفوظاً. والله أعلم.(8/198)
وليس عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث ذكر المشي إلى الجمعة، إنما فيه فضل المشي في سبيل الله، فأدخل الرواي المشي إلى الجمعة في عموم السبيل، وجعله شاملاً له
وللجهاد.
والأظهر في اطلاق سبيل الله: الجهاد، وقد يؤخذ بعموم اللفظ، كما أذن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن جعل بعيره في سبيل الله أن يحج عليه، وقال: ((الحج من سبيل الله)) ، وقد ذكرناه في موضع آخر.
وقد كان كثير من السلف يختارون المشي إلى الجمعة، كما سبق من غير واحدٍ من الصحابة.
وقد روي عن عبد الله بن رواحة –رضي الله عنه -، أنه كان يبكر إلى الجمعة، ويخلع نعليه، ويمشي حافياً، ويقصر في مشيه.
خرّجه الأثرم بإسناد منقطع.
الحديث الثاني:
908 -(8/199)
حديث: أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاتموا)) .(8/199)
وقد تقدم في ((كتاب: الصلاة)) باختلاف أسانيده وألفاظه.
الحديث الثالث:
909 -(8/200)
حديث: يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة –قال أبو عبد الله: ولا أعلمه إلاّ عن أبيه -، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((لا تقوموا حتَّى تروني، وعليكم السكينة)) .
وقد تقدم –أيضاً - باختلاف ألفاظه.
وليس في هذا – والذي قبله – ذكر الجمعة، إنما فيهِ ذكر الصَّلاة، وهي تعم الجمعة وغيرها.
وحديث أبي هريرة إنما يدل على النهي عن السعي عندَ سماع الإقامة، وحديث أبي قتادة إنما فيهِ الأمر بالسكينة في القيام إلى الصَّلاة، لا في المشي إليها.
* * *
19 -(8/200)
باب
لا يفرق بين اثنين يوم الجمعة(8/201)
910 - ثنا عبدان: أنا عبد الله: أنا ابن أبي ذئب، عن سعيدٍ المقبري، [عن
أبيه] ، عن ابن وديعة، عن سلمان الفارسي، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من اغتسل يوم الجمعة، وتطهر بما استطاع من طهر، ثم ادهن أو مس من طيبٍ، ثم راح ولم يفرق بين اثنين، فصلى ما كتب له، ثم إذا خَّرج الإمام أنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) .
التفريق بين اثنين يدخل فيه شيئان:
أحدهما:
أن يتخطاهما ويتجاوزهما إلى صف متقدمٍ.
وقد خرج أبو داود نحو هذا الحديث من حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيدٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه: ((ولم يتخط رقاب الناس)) .
ومن حديث عبد الله بن عمرو –أيضاً -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(8/201)
وخرّجه الإمام أحمد من حديث أبي أيوب، ومن حديث نبيشة الهذلي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي حديثهما: ((ولم يؤذ أحداً)) .
ومن حديث أبي الدرداء، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي حديثه: ((ولم يتخط أحداً، ولم يؤذه)) .
وقد تقدم حديث عبد الله بن بسر، قال: جاء رجلٌ يتخطى رقاب الناسِ يوم الجمعة، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اجلس، فقد آذيت)) .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.
وخرّجه ابن ماجه من حديث جابر.(8/202)
وخرّج الإمام أحمد والترمذي من حديث زبان بن فائد، من حديث سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من تخطي رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسراً إلى جهنم)) .
وزبان، مختلف في أمره.
ورواه عنه ابن لهيعة ورشدين بن سعدٍ.
وخرّج الإمام أحمد من حديث أرقم بن الأرقم المخزومي، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
((الذي يتخطى الناس يوم الجمعة ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كالجار قصبة إلى النارِ)) .(8/203)
وفي إسناده: هشام بن زياد أبو المقدام، ضعفوه، وقد اختلف عليه في إسناده.
وأكثر العلماء على كراهة تخطي الناس يوم الجمعة، سواء كان الإمام قد خَّرج أو لم يخرج بعد.
وقالت طائفةٌ: لا يكره التخطي إلا بعدَ خروجهِ، كما دل عليه حديث الأرقم، منهم: الثوريُ، ومالكٌ، والأوزاعي – في روايةٍ -، ومحمد بن الحسنِ.
وذكر مالكٌ، عن أبي هريرة، قال: لأن يصلي أحدكم بظهرة الحرة خيرٌ له من أن يقعد حتى إذا قام الإمام يخطبُ جاء يتخطى رقاب الناس يوم الجمعةِ.
فإن وجد فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي، ففيه قولان:
أحدهما:(8/204)
يجوز له التخطي حينئذ، وهو قول الحسن، وقتادة، والأوزاعي والشافعي، وكذا قال مالكٌ في التخطي قبل خروج الإمام، وكذا روى معمر عن الحسن وقتادة.
والثاني: أنه يكره، وهو قولُ عطاءٍ، والثوريّ.
وعن أحمد روايتان في ذلك، كالقولين.
وعنه روايةٌ ثالثةٌ: إن كان يتخطى واحداً أو اثنين جاز، وان كان أكثر كره.
وحمل بعض أصحابنا رواية الجواز عن أحمد على ما إذا كان الجالسون قد جلسوا في مؤخر الصفوف، وتركوا مقدمها عمداً، ورواية الكراهة على ما إذا لم يكن منهم تفريطٌ.
وفي كلام الأوزاعي وغيره ما يدل على مثل هذا - أيضاً -، وكذلك قال الحسن، قال: لا حرمة لهم.
ومتى احتاج إلى التخطي لحاجة لابد منها من وضوء أو غيره، أو لكونه لا يجد موضعا للصلاة بدونه، أو كان إماماً لا يمكنه الوصول إلى مكانه بدون التخطي، لم
يكره.
وقد سبق حديث عقبة بن الحارث في قيام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صلاته مسرعاً، يتخطى رقاب الناسِ.
وكذا لو ضاق الموضع وآذتهم الشمسُ، فلهم –إذا أقيمت الصلاة – أن يشقوا الصفوف ويدخلوا لأذى الشمس، نص عليه أحمد في روايةٍ الأثرمِ.
وحكى ابن المنذر عن أبي نضرة: جواز تخطيهم بإذنهم، وعن قتادة: يتخطاهم إلى مجلسه.
ثم قال ابن المنذر: لا يجوز شيء من ذلك(8/205)
عندي، لأن الأذى يحرم قليلة وكثيرة، وهذا اذى، لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اجلس، فقد آذيت)) .
فظاهر كلامه: تحريمه بكل حال، والاكثرون جعلوا كراهته كراهة تنزيهٍ.
ومتى كان بين الجالسين فرجة، بحيث لا يتخطاهما، جاز له أن يمشي بينهما، فإن تماست ركبهما بحيث لا يمشي بينهما إلاّ بتخطي ركبهما كره له ذلك، فإن كانا قائمين يصليان، فمشى بينهما ولم يدفع أحداً، ولم يؤذه، ولم يضيق على أحد جاز، وإلاّ فلا.
قال ذلك كله عطاءٍ -: ذكره عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ، عنه.
الثاني –مما يدخل في التفريق بين اثنين -:
الجلوس بينهما إن كانا جالسين، أو القيام بينهما أن كانا قائمين في صلاة.
فإن كان ذلك من غير تضييق عليهما ولا دفع ولا أذى، مثل أن يكون بينهما فرجة، فإنه يجوز، بل يستحب، لأنه مامور بسد الخلل في الصف، وإلاّ فهو منهي عنه، إلاّ أن ياذنا في ذلك.
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
((لا يحل للرجل أن يفرق بين اثنين، إلا باذنهما)) .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي.
وقال: حديثٌ(8/206)
حسنٌ.
فإن كان الجالسان بينهما قرابة، أو كانا يتحدثان فيما يباح، كان أشد كراهةً.
وفي ((مراسيل أبي داود)) عن المطلب بن حمطب، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لا يفرق بين الرجل ووالده)) .
وخرّجه الطبراني من حديث سهل بن سعدٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لا يجلس الرجل بين الرجل وابيه في المجلس)) .
وفي إسناده نظر.
وروي عن ابن عمر – مرفوعاً، وموقوفاً -: ((إذا كان اثنان يتناجيان فلا يدخل بينهما إلا بإذنهما)) .
قال الإمام أحمد في الرجل ينتهي إلى الصف وقد تم فيدخل بين رجلين: أن علم أنه لا يشق عليهم.
قال القاضي أبو يعلى: أن شق عليهم لم يجز؛ لأن فيهِ أذية لهم، وشغلاً لقلوبهم.
* * *
20 -(8/207)
باب
لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد مكانه(8/208)
911 - حدثنا محمد بن سلام: ثنا مخلد: أنا ابن جريجٍ: سمعت نافعا يقول: سمعت ابن عمر يقول: نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقيم الرجلُ الرجل من مقعده، ثم يجلس فيهِ)) .
قلت لنافع: الجمعة؟ قال: الجمعة وغيرها.
وقد خرّجه البخاري في مواضع متعددة، وفي بعضها زيادة: ((ولكن تفسحوا وتوسعوا)) .
وخرّج مسلم من حديث أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،(8/208)
قال: ((لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الحمعة ليخالف إلى مقعده فيقعد فيه، ولكن يقول: افسحوا)) .
وخَّرج الإمام أحمد من حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن افسحوا يفسح الله لكم)) .
وروى ابن أبي حاتم بإسناده، عن مقاتل بن حيان، قال: أنزلت هذه الآية – يعني: قوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ فَافْسَحُوا} [المجادلة:11] –في يوم جمعة، وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ في الصفة، وفي المكان ضيقٌ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء اناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسلموا عليه، ثم سلموا على القوم، فقاموا على ارجلهم ينتظرون أن يفسح لهم، فلم يوسع لهم، فشق ذلك على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار –من غير أهل بدر -: ((قم أنت(8/209)
يا فلان، وأنت
يا فلان)) ، فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، وعرف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكراهة في وجوههم، وتكلم في ذلك المنافقون، فبلغنا أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((رحم الله رجلاً فسح لاخيه)) ، فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعاً، فيفسح القوم لاخوانهم، ونزلت الآية يوم الجمعة.
فظاهر هذا: يدل على أن إقامة الجالس نسخ بهذه الآية، وانتهى الأمر إلى التفسح المذكور فيها.
وقال قتادة: كان هذا للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن حوله خاصة.
يشير إلى إقامة الجالسين ليجلس غيرهم؛ فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك إكراماً لأهل الفضائل والاستحقاق، وغيره لا يؤمن عليه أن يفعله بالهوى.
ويستثنى من ذلك: الصبي، إذا كان في الصف، وجاء رجلٌ، فله أن يؤخره ويقوم مقامه، كما فعله أبي بن كعب بقيس بن عباد، وقد ذهب اليه الثوري وأحمد، وقد تقدم ذلك.
فإن كان الذي في الصف رجلاً، وكان أعرابياً أو جاهلاً، لم يجز تاخيره من موضعه.
قال أحمد: لا أرى ذلك.
وفي ((سنن أبي داود)) ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من سبق إلى ما لم(8/210)
يسبق اليه أحد فهو أحق به)) .
واستثنى بعض الشافعية – أيضاً - ثلاث صور، وهي: أن يقعد في موضع الإمام، أو طريق الناس ويمنعهم الاجتياز، أو بين يدي الصف مستقبل القبلة.
ويستثنى من ذلك، أن يكون المتاخر قد ارسل من ياخذ له موضعاً في الصف، فاذا جاء الجالس وجلس الباعث فيه. وقد ذكره الشافعي وأصحابنا وغيرهم.
وروي عن ابن سيرين، أنه كان يفعله.
واما إن قام احد من الصف تبرعاً واثر الداخل بمكانه، فهل يكره ذلك، أم لا؟ أن انتقل إلى مكان أفضل منه لم يكره، وإن انتقل إلى ما دونه فكرهة الشافعية.
وقال أحمد فيمن تاخر عن الصف الأول، وقدم اباه فيه: هو يقدر أن يبرَّ أباه بغير هذا.
وظاهره: الكراهة، وأنه يكره الإيثار بالقرب.
وأم الموثر، فهل يكره له أن يجلس في المكان الذي اوثر به؟ فيهِ قولان(8/211)
مشهوران.
أشهرهما: لا يكره، وهو قولُ أصحابنا والشافعية وغيرهم.
والثاني: يكره، وكان ابن عمر لا يفعل ذلك، وكذلك أبو بكرة.
وخَّرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر، قال: جاء رجل إلى
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقام له رجل من مجلسه، فذهب ليجلس فيه، فنهاه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرّج أحمد وأبو داود من حديث أبي بكر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معناه –أيضاً.
ولو بادر رجلٌ وسبق المؤثر إلى المكان، فهل هو أحق به من الموثر، أم لا؟ فيه وجهان لأصحابنا وغيرهم.
وأما من فسح له في مجلسٍ اوصفٍ، فلا يكره له الجلوس فيه.
وفي مراسيل خالد بن معدان، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا جاء أحدكم(8/212)
إلى المجلس، فوسع له، فليجلس؛ فإنها كرامة)) .
خرّجه حميد بن زنجوية.
فإن كان في جلوسه تضييق على الناس، أو لم يصل إلى المكان الا بالتخطي، فلا يفعل.
وقد روي عن أبي سعيدٍ الخدري، أنه أوذن بجنازة في قومه، فتخلف حتى جاء الناس واخذوا المجالس، ثم جاء بعد، فلما رآه القوم توسعوا له، فقال: لا؛ إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((إن خيرٌ المجالس أوسعها)) ، ثم تنحى فجلس في مجلس واسع.
وخَّرج أبو داود منه المرفوع فقط.
وروى الخرائطي –بإسناد فيه جهالة -، عن أبي هريرة –مرفوعاً -: ((لا توسع المجالس إلا لثلاثة: لذي علم لعلمه، وذي سن لسنه، وذي سلطان لسلطانه)) .
ودخل خالد بن ثابت الفهمي المسجد يوم الجمعة، وقد امتلأ من الشمس، فرآه بعض من في الظل، فأشار اليه ليوسع له، فكره أن يتخطى(8/213)
الناس إلى ذلك الظل، وتلا: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17] ، ثم جلس في الشمس.
خرّجه حميد بن زنجويه.
* * *
21 -(8/214)
باب
الأذان يوم الجمعة(8/215)
912 - حدثنا آدم: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان، وكثر الناس، زاد النداء الثالث على الزوراء.
قال أبو عبد الله: الزوراء: موضع بالسوق بالمدينةِ.
الأذان يوم الجمعة قد ذكره الله تعالى في كتابه، وفي قوله {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، وقد ذهب طائفةٌ من العلماء إلى وجوبه، وان قيل: أن الأذان سنة، وهو الذي ذكره ابن أبي موسى من أصحابنا، وقاله طائفةٌ من الشافعية –أيضاً.
وقد دل الحديث على أن الأذان الذي كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر هو النداء الذي بين يدي الإمام عند جلوسه على المنبر، وهذا لا اختلاف فيه بين العلماء.
ولهذا قال أكثرهم: أنه هو الأذان الذي يمنع البيع، ويوجب السعي إلى الجمعة، حيث لم يكن على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سواه.(8/215)
وما ذكره ابن عبد البر عن طائفةٌ من أصحابهم، أن هذا الأذان الذي يمنع البيع، لم يكن على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما أحدثه هشام بن عبد الملك، فقد بين ابن عبد البر أن هذا جهل من قائله، لعدم معرفته بالسنة والاثار.
فإن قال هذا الجاهل: أنه لم يكن أذان بالكلية في الجمعة، فقد باهت، ويكذبه قولُ الله عز وجل: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} .
وإن زعم أن الأذان الذي كان في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر هو الأذان الأول الذي قبل خروج الإمام، فقد أبطل، ويكذبه هذا الحديث واجتماع العلماء على ذلك.
وقوله في هذه الرواية: ((أوله إذا جلس الإمام على المنبر)) ، معناه: أن هذا الأذان كان هو الأول، ثم تليه الإقامة، وتسمى: أذاناً، كما في الحديث المشهور: ((بين كل اذانين صلاةٌ)) .
وخرّجه النسائي من روايةٍ المعتمر، عن أبيه، عن الزهري، ولفظه: كان بلال يؤذن إذا جلس رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر يوم الجمعة، فاذا نزل أقام، ثم كان كذلك في زمن أبي بكر وعمر، فلما زاد عثمان النداء الثالث صار هذا الثالث هو الأول، وصار الذي بين يدي الإمام هو الثاني.(8/216)
وقد خَّرج أبو داود هذا الحديث من طريق ابن إسحاق، عن الزهري، عن السائب، قال: كان يؤذن بين يدي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد، وأبي بكر وعمر.
ففي هذه الرواية: زيادة: أن هذا الأذان لم يكن في نفس المسجد، بل على بابه، بحيث يسمعه من كان في المسجد ومن كان خارج المسجد، ليترك أهل الأسواق البيع ويسرعوا إلى السعي إلى المسجد.
وقوله: ((فلما كان عثمان)) –يريد: لما ولي عثمان – ((وكثر الناس في زمنه زاد النداء الثالث على الزوراء)) ، وسماه: ثالثاً؛ لأن به صارت النداآت للجمعة ثلاثة، وإن كان هو أولها وقوعاً.
وخرّجه ابن ماجه، وعنده –بعد قوله: ((على دار في السوق، يقال لها:
الزوراء)) -: ((فاذا خَّرج أذن، وإذا نزل أقام)) .
وهو من روايةٍ: ابن إسحاق، عن الزهري.
وروى الزهري، عن ابن المسيب: معنى حديثه عن السائب بن يزيد، غير أنه قال: ((فلما كان عثمان كثر الناس، فزاد الأذان الأول، واراد أن يتهيأ الناس للجمعة)) .(8/217)
خرّجه عبد الرزاق في ((كتابه)) عن معمر، عنه.
وقد رواه إسماعيل بن يحيى التميمي – وهو ضعيف جداً -، عن مسعر، عن القاسم، عن ابن المسيب، عن أبي أيوب الأنصاري، قال ما كان الأذان على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة إلا قدام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو على المنبر، فاذا نزل أقاموا الصلاة، فلما ولي عثمان أمر أن يؤذن على المنارة ليسمع الناس.
خرّجه الإسماعيلي في ((مسند مسعر)) ، وقال في القاسم: هو مجهولٌ.
قلت: والصحيح: المرسل.
وقد أنكر عطاءٍ الأذان الأول، وقال: إنما زاده الحجاج، قال: وإنما كان عثمان يدعو الناس دعاء.
خرّجه عبد الرزاق.
وقال عمرو بن دينار: إنما زاد عثمان الأذان بالمدينة، وأما مكة فأول من زاده الحجاج، قال: ورأيت ابن الزبير لا يؤذن له حتى يجلس على المنبر، ولا يؤذن له إلا أذان واحد يوم الجمعة.(8/218)
خرّجه عبد الرزاق –أيضاً.
وروى مصعب بن سلام، عن هشام بن الغاز، عن نافع، عن ابن عمر، قال: إنما كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعد على المنبر أذن بلالٌ، فإذا فرغ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من خطبته اقام الصلاة، والاذان الأول بدعة.
وروى وكيع في ((كتابه)) عن هشام بن الغاز، قال: سألت نافعاً عن الأذان يوم الجمعة؟ فقالَ: قالَ ابن عمر: بدعةٌ، وكل بدعة ظلالة، وإن رآه الناس حسناً.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لم يكن في زمان النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا أذانان: أذان حين يجلس على المنبر، وأذان حين تقام الصَّلاة. قال: وهذا الأخير شيء أحدثه الناس بعد.
خرّجه ابن أبي حاتمٍ.
وقال سفيان الثوري: لا يؤذن للجمعة حتى تزول الشمس، وإذا أذن المؤذن قام الإمام عى المنبر فخطب، وإذا نزل أقام الصلاة، قال: والأذان(8/219)
الذي كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر أذان وأقامة، وهذا الأذان الذي زادوه محدثٌ.
وقال الشافعي –فيما حكاه ابن عبد البر -: أحب إلي أن يكون الأذان يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر بين يديه، فإذا قعد أخذ المؤذن في الأذان، فإذا فرغ قام فخطب، قال: وكان عطاءٍ ينكر أن يكون عثمان أحدث الأذان الثاني، وقال: إنما أحدثه معاوية.
قال الشافعي: وأيهما كان، فالأذان الذي كان على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو الذي ينهى الناس عنده عن البيع.
ولأصحابه في أذان الجمعة – على قولهم: الأذان سنة - وجهان:
أحدهما: أنه سنة –أيضاً.
والثاني: أنه للجمعة خاصة فرض كفاية.
فعلى هذا: هل تسقط الكفاية بالأذان الأول، أو لا تسقط الا بالاذان بين يدي الإمام؟ على وجهين –أيضاً.
ومن أصحابنا من قال: يسقط الفرض بالأذان الأول، وفيه نظر. والله أعلم.
وقال القاضي أبو يعلى: المستحب أن لا يؤذن الا أذان واحد، وهو بعد جلوس الإمام على المنبر، فإن أذن لها بعد الزوال وقبل جلوس الإمام جاز، ولم يكره.
ثم ذكر حديث السائب بن يزيد هذا.
ونقل حرب، عن إسحاق بن راهويه: أن الأذان الأول للجمعة محدث،(8/220)
احدثه عثمان، رأى أنه لا يسمعه إلا أن يزيد في المؤذنين، ليعلم الأبعدين ذلك، فصار سنة: لأن على الخلفاء النظر في مثل ذلك للناس.
وهذا يفهم منه أن ذلك راجع إلى رأي الإمام، فإن احتاج اليه لكثرة الناس فعله، وإلا فلا حاجة إليه.
* * *
22 -(8/221)
باب
المؤذن الواحد يوم الجمعة(8/222)
913 - حدثنا أبو نعيمٍ: ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن الزهري، عن السائب بن يزيد، أن الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان، حين كثر أهل المدينة، ولم يكن للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير مؤذنٍ واحدٍ، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام –يعني: على المنبر.
قوله: ((ولم يكن للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا مؤذن واحد)) –يعني: في الجمعة؛ فإن في غير الجمعة كان له مؤذنان، كما سبق في ((الأذان)) .
وقد قيل: إنه يحتمل أن يكون مراد السائب: أنه لم يكن للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة إلا تأذين واحد، فعبر بالمؤذن عن الأذان -: ذكره الإسماعيلي.
وهذا يرده قوله: ((فزاد عثمان النداء الثالث)) ، فإنه يدل على أنه كان للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذانان –يعني: الأذان والاقامة - والمؤذن الواحد في الجمعة.
وقد تقدم في روايةٍ النسائي لحديث السائب بن يزيد، ويفهم من(8/222)
حديث ابن عمر –أيضاً.
وخرّج ابن ماجه من روايةٍ عبد الرحمن بن سعدٍ بن عمار: حدثني أبي، عن
أبيه، عنجده –وهو: سعدٍ القرظ -، أنه كان يؤذن يوم الجمعة على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان الفيء مثل الشراك.
وهذا إسنادٌ ضعيف، ضعفه ابن معين وغيره.
وإنما كان سعدٍ يؤذن بقباء في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يكن بقباء جمعةٌ.
وقد حكى ابن عبد البر اختلافاً بين العلماء في الأذان يوم الجمعة بين يدي الإمام: هل يكون من مؤذن واحد، أو مؤذنين؟
فذكر من روايةٍ ابن عبد الحكم، عن مالكٍ، أنه قالَ: إذا جلس الإمام على
المنبر، ونادى المنادي منع الناس من البيع.
قال: وهذا يدل على أن النداء عنده واحدٌ بين يدي الإمام.
وفي ((المدونة)) من قول ابن قاسم، وروايته، عن مالكٍ: إذا جلس الإمام على المنبر، وأخذ المؤذنون في الأذان حرم البيع.
فذكر ((المؤذنين)) بلفظ الجماعة.
قال: ويشهد لهذا حديث مالكٍ، عن ابن شهاب، عن ثعبلة بن أبي مالكٍ، أنهم كانوا في زمن عمر بن(8/223)
الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر، فاذا خَّرج وجلس على المنبر وأخذ المؤذنون.
هكذا بلفظ الجماعة.
قال: ومعلوم عند العلماء أنه جائز أن يكون المؤذنون واحداً وجماعة في كل
صلاة، إذا كان ذلك مترادفاً، لا يمنع من إقامة الصلاة في وقتها.
وذكر من كلام الشافعي، أنه قال: إذا قعد الإمام اخذ المؤذنون في الأذان.
ومن كلام الطحاوي في ((مختصره)) : حكاية قولُ أبي حنيفة وأصحابه: إذا جلس الإمام على المنبر، وأذن المؤذنون بين يديه – بلفظ الجمع.
ووقع في كلام الخرقي من أصحابنا: واخذ المؤذنون في الأذان –بلفظ الجمع.
وقال مكحول: إن النداء كان في الجمعة مؤذنٌ واحدٌ حين يخرج الإمام، ثم تقام الصلاة، فأمر عثمان أن ينادى قبل خروج الإمام حتى يجتمع الناس.
خرّجه ابن أبي حاتم.
قال حربٌ: قلت لأحمد: فالأذان يوم الجمعة إذا أذن على المنارة عدة؟ قال: لا بأس بذلك، قد كان يوذن للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلال وابن أم مكتوم، وجاء أبو محذورة وقد أذن رجل قبله، فأذن أبو محذورة.
وظاهر هذا: أنه لو أذن على المنارة مؤذن بعد مؤذن جاز، وهذا قبل خروج الإمام.(8/224)
وقال القاضي أبو يعلى: يستحب أن يكون المؤذن للجمعة واحداً، فإن أذن أكثر من واحد جاز، ولم يكره.
ومراده: إذا أذنوا دفعة واحدة بين يدي الإمام، أو اذنوا قبل خروجه تترى، فأما أن أذنوا بعد جلوسه على المنبر، مرةً بعد مرة، فلا شك في كراهته، وأنه لم يعلم وقوعها في الإسلام قط.
وكذا قال كثيرٌ من أصحاب الشافعي: أنه يستحب أن يكون للجمعة أذان واحد عند المنبر، ويستحب أن يكون المؤذن واحداً؛ لأنه لم يكن يؤذن للجمعة للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا بلالٌ.
ونقل المحاملي هذا الكلام عن الشافعي، والذي نقله البويطي عن الشافعي يخالف ذلك؛ فإنه نقل عنه، أنه قال: النداء للجمعة هو الذي يكون والإمام على المنبر، يكون المؤذنون يستفتحون الأذان فوق المنارة جملة حين يجلس الإمام على المنبر، ليسمع الناس فيؤبون إلى المسجد.
وهذا تصريح بأنهم يكونون جماعة، وأنهم يؤذنون على المنارة لإسماع الناس، لا بين يدي المنبر في المسجد.
وقد خرّج البخاري في ((صحيحه)) هذا في ((باب: رجم الحُبلى)) ، من حديث ابن عباسٍ، قال: جلس عمر على المنبر يوم الجمعة، فلما سكت المؤذنون قام، فأثنى على الله –وذكر الحديث.
وروي عن المغيرة بن شعبة، أنه كان له في الجمعة مؤذنٌ واحدٌ.
وخرّج الإمام أحمد من روايةٍ ابن إسحاق، عن العلاء بن(8/225)
عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي سعيدٍ الخدري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد، يكتبون من جاء، فاذا أذن وجلس الإمام على المنبر طووا الصحف، ودخلوا المسجد يستمون الذكر)) .
وهذا لفظ غريب.
وروى عبد الرزاق بإسناده، عن موسى بن طلحة، قال: رأيت عثمان بن عفان جالساً على المنبر في يوم الجمعة، والمؤذنون يؤذنون يؤم الجمعة، وهو يسأل الناس عن أسعارهم وأخبارهم.
ويحتمل أن يكون مراد من قال: ((المؤذن)) –بلفظ الافراد -: الجنس، لا
الواحد، فلا يبقى فيهِ دلالة على كونه واحداً.
* * *
23 -(8/226)
باب
يجيب الإمام على المنبر إذا سمع النداء(8/227)
914 - ثنا ابن مقاتل: أنا عبد الله: أنا أبو بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان، وهو جالس على المنبر، اذن المؤذن، فقال: ((الله أكبر الله أكبر)) . قال معاوية: ((الله أكبر الله أكبر)) , فقال: ((أشهد أن لا إله الا الله)) . فقال معاوية: ((وأنا)) قال: ((أشهد أن محمداً رسول الله)) . قال معاوية: ((وأنا)) ، فلما قضى التاذين قال: يأيها الناس، إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذا المجلس حين أذن المؤذن يقول ما سمعتم مني من مقالي.(8/227)
المقصود من هذا الحديث في هذا الباب: أن الإمام يجيب المؤذن على المنبر إذا أذن بين يديه، كما يجيبه غيره من السامعين، وليس في ذلك خلافُ؛ فإن الإمام من جملة السامعين للمؤذن، فيدخل في عموم قوله: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول)) .
وقد سبق في ((الأذان)) الكلام على اجابة المؤذن مستوفىً.
وفي حديث معاوية: دليل على أن من سمع مخبراً يخبر عن نفسه بشئ، فقال هو - مجيباً له -: ((وأنا)) ، أنه يصير مقراً بمثل ما أقر به.
وعلى هذا: فلو سمع الكافر مؤذناً يؤذن، فقال –مجيباً له -: ((وأنا)) ، فهل يصير مسلماً؟
وقد قال أحمد في ذمي مر بمؤذن، يؤذن، فقال له: كذبت: إنه يقتل.
وكذا لو سمع رجل رجلاً قال لامرأته: أنت طالق، أو قال: امرأتي طالق، فقال: وأنا، ونوى الطلاق، فهل تطلق امرأته؟
وقد حكى القاضي أبو يعلى في ((تعليقه)) فيما إذا قالَ رجل لرجل: يا زان، فقالَ لهُ: لا، بل أنت، فهل يحد الثاني، لكونه قاذفا، أم لا؟ على وجهين.
* * *
24 -(8/228)
باب
الجلوس على المنبر عند التأذين(8/229)
915 - حدثنا يحيى بن بكير: ثنا الليث، عن عقيلٍ، عن ابن شهابٍ، أن السائب بن يزيد أخبره، أن التأذين الثاني يوم الجمعة أمر به عثمان بن عفان حين كثر أهل المسجد، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام.
إنما سماه ((الثاني)) باعتبار الأذان عند الجلوس على المنبر، فهما أذانان بهذا الاعتبار، و ((الإقامة)) لا تسمى أذاناً عند الاطلاق.
وجلوس الإمام على المنبر يوم الجمعة إذا رقى المنبر حتى يفرغ من الأذان سنة مسنونة، تلقاها الأمة بالعمل بها خلفاً عن سلف.
إلا أن ابن عبد البر حكى عن أبي حنيفة: أنه غير مسنون. ولا خلاف أنه غير واجبٍ.
* * *
25 -(8/229)
باب
التأذين عند الخطبة(8/230)
916 - حدثنا محمد بن مقاتل: أنا عبد الله: أنا يونس: عن الزهري، قال: سمعت السائب ين يزيد يقول: إن الأ ان يوم الجمعة كان أوله حين يجلس الإمام يوم الجمعة على المنبر، في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر، فلما كان في خلافة عثمان وكثروا أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث فأذن به على الزوراء، فثبت الأمر على ذلك.
المقصود بهذا الباب: أن الأذان يوم الجمعة يكون عند جلوس الإمام على المنبر للخطبة، فهذا هو الأذان الذي كان في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر، وهو المجتمع على مشروعيته.
وهل يكون بين يدي المنبر في المسجد، أو على المنارة؟ فيه كلام سبق ذكره، وان الشافعي نص في ((كتاب البويطي)) على أنه يكون على المنارة.
وكذا مذهب مالكٍ، قال في ((تهذيب المدونة)) : يجلس الإمام في أول خطبته حتى يؤذن المؤذنون على المنار، ثم يخطب.
ونقل مثنى الأنباري عن أحمد، أنه سئل عن الأذان الذي يجب على من كان خارجاً من المصر، أن يشهد الجمعة؟ قال: هو الأذان الذي في المنارة.(8/230)
وهذا يحتمل أنه يريد به ما قاله الشافعي: أن أذان الجمعة بين يدي الإمام عند جلوسه على المنبر يكون على المنارة.
ويحتمل أنه يريد به: أنه يجب السعي بالأذان الأول، كما يحرم البيع به، على روايةٍ عنه؛ فإن قوله: ((الذي على المنارة)) إخبار عن الواقع في زمانه، ولم يعهد في زمانه الأذان على المنارة سوى الذي زاده عثمان.
ويحتمل أنه إنما قال ذلك فيمن كان خارج المصر؛ لأن الأذان الأول يكون لإعلامهم، فليزمهم السعي به، بخلاف أهل المصر، فإنهم يلزمهم السعي من غير سماع أذان، فلا يجب عليهم السعي بالأذان الأول، بل بالثاني، والله أعلم.
وقد تقدم في روايةٍ ابن إسحاق، عن الزهري، عن السائب بن يزيد لهذا الحديث: أن هذا الأذان على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبي بكرٍ وعمر كان على باب المسجد.
وقوله في هذه الرواية التي خرجها البخاري هنا: ((فثبت الأمر على ذلك)) ، يدل على أن هذا من حين حدده عثمان أستمر، ولم يترك بعده.
وهذا يدل على أن علياً اقر عليه، ولم يبطله، فقد أجتمع على فعله خليفتان من الخلفاء الراشدين –رضي الله عنهم أجمعين.
* * *
26 -(8/231)
باب
الخطبة على المنبر
وقال أنس: خطب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر.
حديث أنس هذا: الظاهر أنه يريد به حديثه في دعاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالاستسقاء يوم الجمعة على المنبر، وسيأتي في مواضع أخر من الكتاب – إن شاء الله سبحانه وتعالى.
فيه ثلاثة أحاديث:
الأول:
917 -(8/232)
نا قتيبة: نا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله القاري الاسكندراني: نا أبو حازم بن دينار، أن رجالاً أتوا سهل بن سعدٍ الساعدي، وقد امتروا في المنبر: مم عوده؟ فسألوه عن ذَلِكَ، فقالَ: إني والله: لأعرف مما هوَ، ولقد رأيته أول يوم وضع، وأول يوم جلس عليهِ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أرسل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى فلانة –امرأة قد سماها سهل -: ((مري غلامك النجار أن يعمل لي أعواداً أجلس عليهن إذا كلمت الناس)) ، فأمرته، فعملها من طرفاء الغابة، ثُمَّ جاء بها، فارسلت إلى
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فامر بها فوضعت هاهنا، ثُمَّ رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليها، وكبر وهو عليها، ثُمَّ ركع وهو عليها، ثُمَّ نزل القهقري فسجد في أصل المنبر ثُمَّ عاد، فلما فرغ أقبل على الناس، فقال: ((ياأيها الناس،(8/232)
إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي)) .
قد خرّجه فيما تقدم من حديث ابن عيينة عن أبي حازم، وهذا السياق أتم.
وفي روايةٍ ابن عيينة: ((من أثل الغابة)) ، و ((الأثل)) و ((الطرفاء)) : يشبه بعضه بعضاً. و ((الغابة)) : خارج المدينة مشهورة.
وخرّجه البخاري –أيضاً - مختصراً في ((أبواب المساجد)) ، في ((باب: الاستعانة بالصناع والنجار في عمل المسجد والمنبر)) من حديث عبد العزيز بن أبي حازم، وذكرنا الاختلاف في رسم الذي عمل المنبر.
وخرّجه مسلم من حديث عبد العزيز بتمامه، وفي حديثه: أن المنبر كان ثلاث درجاتٍ.
وقد روي هذا الحديث عن سهل من وجه أخر، وفيه: حنين الخشبة.
خرّجه ابن سعدٍ في ((طبقاته)) : ثنا أبو بكر بن أبي أويس: حدثني سليمان بن بلال، عن سعدٍ بن سعيدٍ بن قيس، عن عباسٍ بن سهل بن سعدٍ، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقوم يوم الجمعة إذا خطب إلى خشبة ذات فرضتين –قال: أراه كانت من دومة كانت في مصلاه -،(8/233)
فكأن يتكئ عليها، فقال له أصحابه: يا رسول الله، إن الناس قد كثروا، فلو أتخذت شيئاً تقوم عليه إذا خطبت نراك؟ فقال: ((ما شئتم)) .
قال سهل: ولم يكن بالمدينة إلا نجار واحد، فذهبت أنا وذلك النجار إلى الخانقين، فقطعنا هذا المنبر من أثله. قال: فقام عليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحنت الخشبة، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ألا تعجبون لحنين هذه الخشبة؟)) فأقبل الناس وفرقوا من حنينها حتى كثر بكاؤهم، فنزل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتاها، فوضع يده عليها، فسكنت، فامر بها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدفنت تحت منبره – أو جعلت في السقف.
ورواه أبو إسماعيل الترمذي، عن أيوب بن سليمان بن بلال، عن أبي بكر ابن أبي أويس، به.
وهذا إسنادٌ جيد، ورجاله كلهم يخرج لهم البخاري، الا سعدٍ بن سعيدٍ بن قيس –وهو: اخو يحيى بن سعيدٍ -؛ فإن البخاري استشهد به، وخَّرج له مسلم، وتكلم بعضهم في حفظه.
الحديث الثاني:
918 -(8/234)
نا سعيدٍ بن أبي مريم: أنا محمد بن جعفر بن أبي كثير: أخبرني يحيى بن سعيدٍ: أخبرني ابن أنس: سمع جابر بن عبد الله قال: كان جذع يقوم اليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما وضع له المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشار، حتى نزل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوضع يده
عليه.
قال سليمان، عن يحيى: أخبرني حفص بن عبيد الله بن أنس: سمع جابر بن
عبد الله.
روايةٍ سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيدٍ: قد أسندها البخاري في ((أعلام النبوة)) .
والمقصود من ذكرها هاهنا: أن فيها تسمية ابن أنس الذي ابهم في روايةٍ محمد بن جعفر، وأنه حفص بن عبيد الله بن أنس.
والظاهر: أن البخاري أبهمه في روايةٍ محمد بن جعفر، لأن محمد بن جعفر سماه: ((عبيد الله بن حفص بن أنس)) ، ووهم في ذلك -: قاله الدارقطني.
وقد خرّجه الإسماعيلي من طريق سعيدٍ بن أبي مريم، عن محمد بن جعفر، عن حفص بن عبيد الله بن أنس على الصواب.
وخرّجه من طريق يعقوب بن محمد: نا عبد الله بن يعقوب بن إسحاق: ثنا
يحيى بن سعيدٍ: حدثني عبيد الله بن حفص بن أنس.(8/235)
قال يعقوب: وإنما هو: حفص بن عبيد الله، ولكن هكذا ثنا.
وفي روايةٍ البخاري: التصريح بسماع حفص لهذا الحديث من جابر، وهذا يرد ما قاله أبو حاتم الرازي: إنه لا يدري: هل سمع من جابر، أم لا؟ قال: ولا يثبت له السماع إلا من جده أنس.
ورواه سليمان بن كثير، عن يحيى بن سعيدٍ، عن سعيدٍ بن المسيب، عن جابر، ووهم في قوله: ((سعيدٍ بن المسيب)) -: قاله أبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني.
و ((العشار)) : النوق الحوامل، واحدتها: عشراء، وهي التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر، فتسمى بذلك حتى تضع، وبعد أن تضع.
وقد خَّرج البخاري هذا الحديث في ((الأعلام)) من روايةٍ عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر –نحوه.
الحديث الثالث:
919 -(8/236)
نا آدم: نا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على المنبر: ((من جاء إلى الجمعة فلغتسل)) .
والمقصود من هذا: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب على المنبر، ويعلم الناس دينهم
عليه.(8/236)
ولو جمعت الأحاديث التي فيها ذكر خطب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر وكلامه عليه لكانت كثيرة جدا، وكذلك احاديث اتخاذ المنبر كثيرةٌ –أيضاً.
وقد خَّرج منها البخاري في ((دلائل النبوة)) من حديث ابن عمر، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب إلى الجذع، فلما أتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع، فأتاه فمسح يده عليه.
خرّجه عن محمد بن المثنى: نا يحيى بن كثير أبو غسان: نا أبو حفص –واسمه: عمر بن العلاء، أخو أبي عمرو بن العلاء -، قال: سمعت نافعاً، عن ابن عمر –
فذكره.
ثم قال:
وقال عبد الحميد: أنا عثمان بن عمر: أنا معاذ بن العلاء، عن نافع، عن ابن عمر – بهذا.
ورواه أبو عاصم، عن ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ?. انتهى.
وعبد الحميد هذا، قيل: أنه عبد بن حميد.
وقد خرّجه الترمذي عن أبي حفص الفلاس، عن عثمان بن عمر(8/237)
ويحيى ابن كثير –كلاهما -، عن معاذ بن العلاء، عن نافع.
وخرّجه البيهقي من روايةٍ عباسٍ الدوري، عن عثمان بن عمر، عن معاذ.
وكذا رواه غير واحدٍ عن عثمان بن عمر.
وخرّجه ابن حبان في ((صحيحه)) من روايةٍ أبي عبيدة الحداد، عن معاذ بن العلاء –أيضاً.
وكذا رواه وكيع ويحيى بن سعيدٍ ومعتمر بن سليمان، عن معاذ بن العلاء.
وليس لأبي حفص عمر بن العلاء ذكر في غير روايةٍ البخاري المسندة، وقد قيل أنها وهم من محمد بن المثنى.(8/238)
ولكن خرّجه أبو أحمد الحاكم من روايةٍ عبد الله بن رجاء الغذاني، عن أبي حفص بن العلاء –أيضاً.
وقد رواه يحيى بن سعيدٍ ومعتمر بن سليمان عن معاذ بن العلاء، وكنياه: ((أبا غسان)) .
قال أبو أحمد الحاكم: والله أعلم، أهما أخوان: أحدهما يسمى:(8/239)
عمر، والآخر: معاذ، وحدثا بحديث واحد؟ أو أحدهما محفوظ، والآخر غير محفوظ؟
وذكر: أن معاذ بن العلاء أخا أبي عمرو مشهورٌ، وأن أبا حفص لا يعرفه إلا في هاتين الروايتين. قال: والله أعلم بصحة ذلك. انتهى.
والصحيح في هذا الحديث: معاذ بن العلاء -: قاله أحمد والدارقطني وغيرهما.
وأما روايةٍ أبي عاصم، عن ابن أبي رواد التي علقها البخاري، فخرجها أبو
داود، ولفظ حديثه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بدن، قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبراً يارسول الله، يجمع عظامك، أو يحمل عظامك؟ قالَ: ((بلى)) ، فاتخذ لهُ منبراً
مرقاتين.
ولم يزد على هذا.
وخرّجه البيهقي، وزاد: ((فاتخذ له مرقاتين - أو ثلاثة -، فجلس عليها.
قال: فصعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحن جذع في المسجد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خطب يستند
إليه، فنزل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاحتضنه، فقال شيئاً لا أدري ما هو؟ ثم صعد المنبر، وكانت اساطين المسجد جذوعاً، وسقائفه جرائد)) .
وعنده - في أوله -: ((لما أسن وثقل)) .
ورواه عامر بن مدرك، عن ابن أبي رواد، عن نافع، عن تميم الداري –بنحوه، وفي حديثه: ((فصنع له منبراً مرقاتين، والثالثة مجلس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائماً، فإذا عي قعد فاستراح، ثم قام فخطب –ووذكر الحديث.
ورواية أبي عاصم أصح.(8/240)
ومن أغرب سياقات أحاديث اتخاذ المنبر: ما رواه عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى جذع، إذ كان المسجد عريشاً، وكان يخطب إلى ذلك الجذع، فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله، هل لك أن نجعل لك شيئاً تقوم عليه يوم الجمعة حتى يراك الناس وتسمعهم؟ قالَ:
((نعم)) ، فصنع له ثلاث درجات التي على المنبر –ثم ذكر حنينه إليه وسكونه بمسحه بيده -، ثم قال: وكان إذا صلى صلى إليه، فلما هدم المسجد وغير اخذ ذلك الجذع أبي بن كعب، فكأن عنده حتى بلي وأكلته الأرضة، وعاد رفاتاً.
خرّجه الإمام أحمد.
وفي روايةٍ له: أن القائل: ((فلما هدم المسجد)) –إلى اخره، هو الطفيل بن أبي بن كعب.
وخرّجه ابن ماجه –بمعناه.
وخرّجه عبد الله بن الإمام أحمد في ((زيادات المسند)) ، وعنده: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: ((أن تشأ غرستك في الجنة فياكل منك الصالحون، وإن تشأ أعيدك كما كنت حطباً)) فاختار الآخرة على الدنيا، فلما قبض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع إلى أبي، فلم يزل عنده حتى أكلته الأرضة.(8/241)
وقد خرّجه الطبراني بنحو هذه الزيادة، بإسناد ضعيف، عن عائشة، وفيه: أن المنبر كان أربع مراقٍ. وفي آخره: أن الجذع غار فذهبَ.
وفي ((مسند البزار)) ، بإسناد لا يصح، عن [ ... ] معاذ، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم، وان اتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم)) .
وقد أنكره أبو حاتم الرازي وغيره.
وقد قالَ بعض السلف: إن إبراهيم –عليهِ السلام – هوَ أول من خطب على المنابر.
والصحيح: أن المنبر كانَ ثلاث مراق، ولم يزل على ذَلِكَ في عهد خلفائه الراشدين، ثُمَّ زاد فيهِ معاوية.
وقد عد طائفةٌ من العلماء: تطويل المنابر من البدع المحدثة، منهم: ابن بطة من أصحابنا وغيره.
وقد روي في حديث مرفوع: أن ذَلِكَ من أشراط الساعة، ولا يثبت إسناده.
وكره بعض الشافعية المنبر الكبير جداً، إذا كانَ يضيق به المسجد.
* * *
27 -(8/242)
باب
الخطبة قائما
وقال أنس: بينا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائماً.
حديث أنس، هو الذي فيه ذكر الاستسقاء في الجمعة، وسيأتي –أن شاء الله سبحانه وتعالى - فيما بعد.(8/243)
920 - حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري: نا خالد بن الحارث: نا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائماً، ثم يقعد، ثم يقوم كما يفعلون الان.
وفي الخطبة قائماً احاديث أخر.
وخَّرج مسلم من حديث سماك، عن جابر بن سمرة، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائماً، فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب، فقد –والله – صليت معه أكثر من ألفي صلاةٍ.(8/243)
وخَّرج مسلم بإسناده من حديث كعب بن عجرة، أنه دخل المسجد
وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعداً، فقال: انظروا الخبيث، يخطب قاعداً، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة:11] .
وخرّج ابن ماجه من حديث إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعودٍ، أنه سئل: أكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائماً أو قاعداً؟ قالَ: إما تقرأ {تَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة:11] ؟
وهذا إسنادٌ جيد.
لكن روي، عن إبراهيم، عن علقمة من قوله. وعن إبراهيم، عن عبد الله منقطعاً.
واستدل بهذه الآية على القيام في الخطبة جماعة، منهم: ابن سيرين، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعودٍ.
وإنما احتاجوا إلى السؤال عن ذلك، لأنه كان في زمن بني امية من يخطب
جالساً، وقد قيل: أن أول من جلس معاوية -: قاله الشعبي والحسن وطاوس.
وقال طاوس: الجلوس على المنبر يوم الجمعة بدعة.
وقال الحسن: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر وعثمان يخطبون(8/244)
قياماً، ثم أن عثمان لما رق وكبر كان يخطب، فيدركه ما يدرك الكبير فيستريح ولا يتكلم، ثم يقوم فيتم خطبته.
خرّجه القاضي إسماعيل.
وخَّرج –أيضاً - من روايةٍ ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، أنه قال: أول من جعل في الخطبة جلوساً عثمان، حين كبر واخذته الرعدة جلس هنية، قيل له: هل كان يخطب عمر إذا جلس؟ قال: لا أدري.
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يخطب الخطبة الأولى جالساً، ويقوم في الثانية.
خرّجه ابن سعدٍ.
والظن به أنه لم تبلغه السنة في ذلك، ولو بلغته كان أتبع الناس لها.
وقد قيل: أن ذلك لم يصح عنه؛ فإن الأثرم حكى: أن الهيثم بن خارجة قال لأحمد: كان عمر بن عبد العزيز يجلس في خطبته؟ قال: فظهر منه أنكار لذلك.
ورواية ابن سعدٍ له عن الواقدي، وهو لا يعتمد.
وقد روي عن ابن الزبير –أيضاً - الجلوس في الخطبة الأولى –أيضاً.(8/245)
خرّجه القاضي إسماعيل.
واختلف العلماء في الخطبة جالساً: فمنهم من قال: لا يصح، وهو قولُ
الشافعي، وحكى روايته عن مالكٍ وأحمد.
وقال ابن عبد البر: اجمعوا على أن الخطبة لا تكون إلا قائماً لمن قدر على القيام.
ولعله أراد إجماعهم على استحباب ذلك؛ فإن الاكثرين على أنها تصح من
الجالس، مع القدرة على القيام، مع الكراهة. وهو قولُ أبي حنيفة ومالك، والمشهور عن أحمد، وعليه أصحابه، وقول إسحاق –أيضاً.
* * *
28 -(8/246)
باب
يستقبل الإمام القوم
واستقبال الناس الإمام إذا خطب
واستقبل ابن عمر وأنس الإمام.(8/247)
921 - حدثنا معاذ بن فضالة: نا هشام، عن يحيى، عن هلال بن أبي ميمونة: نا عطاءٍ بن يسار: سمع أبا سعيدٍ الخدري: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلس ذات يوم على المنبر، وجلسنا حوله.
هذا أول حديث طويل، ذكر فيه قولُ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)) ، وضرب مثل الدنيا بنبات الربيع.
وهو حديث عظيم، قد خرجاه بتمامه في ((الصحيحين)) من حديث هشام الدستوائي.
وهذا لم يكن في خطبة الجمعة؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يجلس في خطبة الجمعة.
وأما ما ذكره عن ابن عمر وأنس.(8/247)
فمن طريق ابن عجلان، عن نافع، أن ابن عمر كان يفرغ من سبحته يوم الجمعة قبل خروج الإمام، فاذا خَّرج لم يقعد الإمام حتى يستقبله.
ومن طريق ابن المبارك، قال: قال أبو الجويرية: رأيت أنس بن مالك إذا أخذ الإمام يوم الجمعة في الخطبة يستقبله بوجهه حتى يفرغ الإمام من الخطبة.
وقال يحيى بن سعيدٍ الأنصاري: هو السنة.
وقال الزهري: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أخذ في خطبة استقبلوه بوجوههم.
خرجها البيهقي.
وخَّرج الأثرم من حديث الضحاك بن عثمان، عن نافع، أن ابن عمر كان يتهيأ للإمام قبل أن يخرج، ويتوجه قبل المنبر.
وروى وكيع، عن العمري، عن نافع، أن ابن عمر كان يستقبل الإمام يوم الجمعة إذا خطب.
وفي الباب أحاديث مرفوعة متصلة، لا تصح أسانيدها -: قاله(8/248)
الترمذي، وقد ذكرتها بعللها في ((شرح الترمذي)) .
وذكر الترمذي: أن العمل على ذلك عند أهل العلم من الصحابة وغيرهم: يستحبون استقبال الإمام إذا خطب، قال: وهو قولُ سفيان والشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال ابن المنذر: هو كالإجماع.
وروي عن الشعبي، قال: هو السنة.
وقد تقدم مثله عن يحيى بن سعيدٍ، وكذا قال مالكٍ.
وقال ابن عبد البر: لا أعلمهم يختلفون فيه.
وقال عمر بن عبد العزيز: كل واعظ قبلة.
يعني: أنه يستقبل كما تستقبل القبلة.
وقد روي عن بعض التابعين: أنه يستقبل القبلة حال الخطبة. وهو محمول على إنهم كانوا يفعلونه مع أمير ظالم يسب السلف، ويقول ما لا يجوز استماعه، وكانوا قد ابتلوا بذلك في زمن بني أمية.
والأكثرون على إنهم إنما يستقبلوه في حال الخطبة، وهو قولُ(8/249)
أحمد.
وقال إسحاق: يستقبلونه إذا خرج، وهو قولُ أبي بكر بن جعفر من أصحابنا.
وقال الأوزاعي: يغفى بصره، ويلقي السمع، فإن نظر إلى الإمام فلا حرج.
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود من حديث علي: سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول – وذكر يوم الجمعة -: ((إذا جلس الرجل مجلساً يستمكن فيه من الإستماع والنظر، فأنصت ولم يلغ كان له كفلان من الأجر)) .
وفي إسناده من ليس بمشهورٍ.
وخرّج ابن سعدٍ بأسانيد له متعددةً حديثاً طويلاً، فيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خطب استقبله الناس بوجوههم، وأصغوا بأسماعهم، ورمقوه بأبصارهم.
وهذا لا يصح. والله أعلم.
أما استقبال الإمام أهل المسجد واستدباره القبلة فمجمع عليه –أيضاً -، والنصوص تدل عليه –أيضاً -؛ فإنه يخاطبهم ليفهموا عنه –أيضاً.
وذلك كله سنة، فلو خالفها الإمام فقد خالف السنة، وصحت جمعته.
ولأصحاب الشافعي وجه صعيف: أنها لا تصح. والله أعلم.
* * *
29 -(8/250)
باب
من قال في الخطبة بعد الثناء: ((أما بعد))
رواه عكرمة، عن ابن عباسٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
حديث عكرمة، عن ابن عباسٍ قد أسنده في آخر الباب، فلا أدري لأي معنى علقه في اوله؟
وقد ذكر أبو نعيم في ((مستخرجه)) هذا في الباب الذي قبله.
قال:
922 -(8/251)
وقال محمود: نا أبو أسامة: نا هشام بن عروة: أخبرتني فاطمة ابنة
المنذر، عن أسماء ابنة أبي بكر، قالت: دخلت على عائشة والناس يصلون.
فذكرت حديث الكسوف، وفيه:
قالت: ثم انصرف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد تجلت الشمس، فحمد الله واثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: ((إما بعد)) –وذكر بقيةٌ الحديث.(8/251)
هكذا ذكره هنا تعليقاً عن محمود –وهو: ابن غيلان -، عن أبي اسامة.
وذكر بعضه في ((الكسوف)) تعليقاً - أيضاً - عن أبي أسامة.
وأسند الحديث في ((كتاب: العلم)) من حديث وهيب. وفي ((الكسوف)) وغيره من حديث مالكٍ –كلاهما -، عن هشام، وليس في حديثهما: ذكر: ((أما بعد)) .
وخرّج مسلم الحديث بهذه اللفظة من طريق ابن نمير وأبي أسامة –كلاهما - عن هشام، به.
ثم قال البخاري:
923 -(8/252)
نا محمد بن معمر: نا أبو عاصم، عن جريرٍ بن حازم، قال: سمعت الحسن: نا عمرو بن تغلب، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتي بمال –أو سبي -، فقسمه، فاعطى رجالاً وترك رجلاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((أما بعد، فوالله، إني لأعطي الرجل والذي أدع أحب الي من الذين أعطي)) .(8/252)
وذكر
الحديث.
سماع الحسن من عمرو بن تغلب مختلف فيه، فأثبته أبو حاتم والبخاري، ونفاه علي بن المديني شيخ البخاري.
وكذلك يحيى بن معين –فيما نقله عنه جعفر بن محمد بن أبان الحراني -، قال: لم يسمع منه، ولم يرو حديثه إلاّ جريرٍ بن حازم، وليس بشيء.(8/253)
واختلف عن أحمد:
فنقل عنه ابنه صالح، قال: سمع الحسن من عمر بن تغلب أحاديث.
ونقل عنه ابنه عبد الله، قال: كانت سجية في جريرٍ بن حازم: نا الحسن، نا عمرو بن تغلب، وأبو الأشهب يقول: عن الحسن، قال: بلغني أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمرو بن تغلب.
يريد: أن قول جريرٍ بن حازم: نا الحسن: نا عمرو بن تغلب كانت(8/254)
عادة له، لا يرجع فيها إلى تحقيق.
وقد ذكر أبو حاتم نحو هذا في أصحاب بقيةٌ بن الوليد، أنهم يروون عنه، عن شيوخه، ويصرحون بتحديثه عنهم، من غير سماع له منهم.
وكذلك قال يحيى بن سعيد القطان في فطر بن خليفة: أنه كان يقول: ((ثنا فلان بحديث)) ، ثم يدخل بينه وبينه رجلاً أخر، كان ذلك سجية منه.
ذكره العقيلي في ((كتابه)) .
وكذا ذكر الإسماعيلي: أن أهل الشام ومصر يتسامحون في قولهم: ((ثنا)) من غير صحة السماع، منهم: يحيى بن أيوب المصري.
وقال:
924 -(8/255)
نا يحيى بن بكير: نا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب: أخبرني عروة، أن عائشة - رضي الله عنها – اخبرته، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَّرج ليلة من جوف الليل، فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته.(8/255)
فذكره، وفيه:
فلما قضى الفجر اقبل على الناس، فتشهد، ثم قال: ((أما بعد، أنه لم يخف علي مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها)) .
تابعه: يونس.
يعني: عن الزهري، في لفظه: ((أما بعد)) ، وهو من روايةٍ ابن وهبٍ، عن يونس.
ورواه مالكٍ عن الزهري، لم يذكر فيه هذه اللفظة.
وخرّج البخاري حديثه في موضع آخر.
ثم قال:
925 -(8/256)
نا أبو اليمان: أنا شعيب، عن الزهري: أخبرني عروة، عن أبي حميد الساعدي، أنه أخبره أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام عشية بعد الصلاة، فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: ((أما بعد)) .
تابعه: أبو معاوية وأبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن أبي حميد(8/256)
الساعدي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((أما بعد)) .
وتابعه: العدني، عن سفيان.
هذا قطعة من حديث بعث ابن اللتبية على الصدقة، وقد خرّجه في مواضع تأتي –أن شاء الله سبحانه وتعالى.
وخرّجه في ((الأحكام)) بتمامه من طريق عبدة، عن هشام، وفيه: فقام
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الناس، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال: ((أما بعد، فإني استعمل رجالاً منكم)) –وذكر الحديث.
وقد ذكر أن هذه اللفظة ذكرها في الحديث: أبو معاوية وأبو أسامة.
وقد خرّجه في ((الزكاة)) من طريق أبي أسامة، فاختصره ولم يتمه.
وخرّجه مسلم من طريق أبي أسامة بتمامه، وفيه ((أما بعد)) .
وخرّجه مسلم –أيضاً - من روايةٍ أبي معاوية، ولم يسق لفظ حديثه بتمامه. وكذلك خرّجه عن العدني، عن سفيان، ولم يسقه بلفظه.
ثم قال:
926 -(8/257)
نا ابواليمان: أنا شعيب، عن الزهري: حدثني علي بن الحسين، عن المسور بن مخرمة، قال: قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسمعته حين تشهد يقول: ((أما بعد)) .
تابعه: الزبيدي، عن الزهري.
والحديث مختصر من قصة خطبة علي لابنة أبي جهل، وقيام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطيباً، فذكر فضل فاطمة عليها السلام.
وقد خرّجه بتمامه في ((مناقب فاطمة)) .
وذكره متابعة الزبيدي، لأن جماعة من أصحاب الزهري رووا الحديث، فلم يذكروا فيه: لفظة: ((أما بعد)) .
وللمسور حديث آخر في المعنى، في قصة قدوم هوازن وإسلامهم، ورد سبيهم عليهم.
خرّجه البخاري في ((الهبة)) من روايةٍ الزهري، عن عروة، عن المسور بن
مخرمة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين جاءه وفد هوزان قام في الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: ((أما بعد، فإن أخوانكم جاءونا تائبين)) –الحديث.
ثم قال:(8/258)
927 - ثنا إسماعيل بن ابان - هو: الوراق -: نا ابن الغسيل –واسمه: عبد الرحمن بن سليمان -: نا عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: صعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنبر –وكان أخر مجلس جلسه –متعطفاً ملحفة على منكبه، قد عصب رأسه بعصابة دسمة، فحمد الله وأثنى
عليه، ثم قال: ((أيها الناس، إلي)) ، فثابوا اليه، ثم قال: ((أما بعد، فإن هذا الحي من الأنصار يقلون ويكثر الناس، فمن ولي شيئاً من أمة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستطاع أن يضر فيه أحداً أو ينفع فيه أحداً، فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم)) .
وفي الباب أحاديث أخر.
وقد خَّرج البخاري في ((المغازي)) حديث عائشة في قصة الافك بطولها، وفيه: فتشهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين جلس ثم قال: ((أما بعد، يا عائشة، فإنه بلغني عنك كذا وكذا)) –الحديث.
وخرّجه في موضع أخر، وليس فيه: ((أما بعد)) .
وخرّج مسلم في ((صحيحه)) من حديث جريرٍ البجلي، قال: ((كنت جالساً عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتاه قوم مجتابي النمار، فصلى الظهر، ثم صعد(8/259)
منبراً صغيراً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((إما بعد؛ فإن الله أنزل في كتابه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1] –)) وذكر الحديث في الحثّ على الصدقة.
وخرّجه من طريق أخرى، ليس فيها لفظه: ((أما بعد)) .
وخرّج – أيضاً - من حديث سعيدٍ بن جبير، عن ابن عباسٍ، أن ضماداً قدم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا محمد، إني أرقي من هذه الريح، وان الله يشفي على يدي من
يشاء، فهل لك؟ فقالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الحمد لله نستعينه، من يهده الله فلا مضل
له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد)) .
فدلت هذه الأحاديث كلها على أن الخطب كلها، سواء كانت للجمعة أو
لغيرها، وسواء كانت على المنبر أو على الارض، وسواء كانت من جلوس أو قيام، فإنها تبتدا بحمد الله والثناء عليه بما هو أهله، ثم يذكر بعد ذلك ما يحتاج إلى ذكره من موعظة أو ذكر حاجة يحتاج إلى ذكرها، ويفصل بين الحمد والثناء، وبين ما بعده بقوله: أما بعد.
وقد قيل: أن هذه الكلمة فضل الخطاب الذي أوتيه داود –عليه السلام -، وقد سبق ذكر ذلك في أول الكلام في الكلام على حديث كتاب(8/260)
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى هرقل: ((أما بعد؛ فاني ادعوك بدعاية الإسلام)) .
والمعنى في الفصل بأما بعد: الإشعار بأن الأمور كلها وان جلت وعظمت فهي تابعة لحمد الله والثناء عليهِ، فذاك هوَ المقصود بالاضافة، وجميع المهمات تبع له من أمور الدين والدنيا.
ولهذا قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أقطع)) ، وفي روايةٍ: ((أجذم)) .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة.
وقد روي مرسلاً.
فالحمد لله متقدم على جميع الكلام، والكلام كله متأخر عنه وتبع له.
ولا يستثنى مما ذكرناه من الخطب إلا خطبة العيد، فقد قيل: إنها تستفتح
بالتكبير.(8/261)
وقد روى عن أبي موسى الأشعري، أنه استفتح خطبتي العيدين بالحمد، ثم كبر بعد الحمد. وهو الأظهر.
وكذا قيل في خطبة الاستسقاء.
ومن الناس من قال: تستفتح بالحمد –أيضاً.
وقد ذكر بعض ائمة الشافعية: أن الخطب كلها تستفتح بالحمد بغير خلافٍ، وإنما التكبير في العيد يكون قبل الخطبة، وليس منها، وإن ذلك نص الشافعي.
وكذا ذكر طائفةٌ من أصحابنا: أن ظاهر كلام أحمد أنه يكبر إذا جلس على المنبر قبل الخطبة، وأنه ليس من الخطبة، فإذا قام استفتح الخطبة بالحمد.
وذكروا: قولُ عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: يكبر الإمام على المنبر يوم العيد قبل الخطبة تسعاً، وبعدها سبعاً.
فأما خطبة الجمعة، فلا خلاف أنها تستفتح بالحمد.
وخرّجه مسلم في ((صحيحه)) من حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خطب أحمرت عيناه، وعلا(8/263)
صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول: ((صبحكم ومساكم)) ، ويقول ((بعثت أنا والساعة
كهاتين)) ، ويقرن بين أصبعيه: السبابة والوسطى، ويقول: ((أما بعد؛ فإن خيرٌ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة
ضلالة)) ، ثم يقول: ((أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي)) .
وفي روايةٍ له - أيضاً - بهذا الإسناد: كانت خطبة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه، ثم يقول على إثر ذلك، وقد علا صوته - ثم ساق الحديث بمثله.
وفي روايةٍ له – أيضاً -: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الناس، يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: ((من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله)) –ثم ساق الحديث بمثل الرواية الأولى.
وقد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر بهذه الخطبة لكل من له حاجة، أن يبدأ بها قبل ذكر
حاجته، كما خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث ابن مسعودٍ، قال: علمنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(8/264)
خطبة الحاجة: ((إن الحمد لله نستعينه ونستغفرة، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا إله الا الله، واشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يا ايها الذين امنوا اتقوا الله الذي تساءلون به والارحام أن الله كان عليكم رقيبا} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}
[آل عمران:102] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا} - إلى قوله -: {فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:7107] .
وهذا لفظ أبي داود.
وفي روايةٍ له: ((الحمد لله)) ، بغير ((إن)) ، وهي روايةٍ الأكثرين.
وفي روايةٍ له: ((في خطبة الحاجة في النكاح وغيره)) .
وعند ابن ماجه: ((الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفرة، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا)) –وذكر الحديث، وفيه: زيادة: ((وحده لا شريك
له)) .
وحسن الترمذي هذا الحديث، وصححه جماعة، منهم: ابن خراش وغيره.
وخرّج النسائي في ((اليوم والليلة)) من حديث أبي موسى، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((فإن شئت أن تصل خطبتك بآيٍ من القرآن)) - فذكر آلايات الثلاث، ثم قال: ((أما بعد، ثم يتكلم بحاجته)) .(8/265)
وخرّجه أبو داود من وجه آخر، عن ابن مسعودٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان إذا تشهد قال: ((الحمد لله)) - فذكره كما تقدم، زاد فيه –بعد قوله: ((وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)) -: ((أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً)) .
وروى أبو مالكٍ الأشجعي، عن نبيط بن شريط، أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب عند الجمرة فقال: ((الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفرة، وأشهد أن لا إله الا الله، وان محمداً عبده ورسوله، واوصيكم بتقوى الله)) –وذكر الحديث.
وخرّج أبو داود في ((مراسليه)) من روايةٍ يونس، عن ابن شهاب، أنه سأله عن تشهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة؟ فقالَ ابن شهاب: ((أن الحمد لله وحده واستعينه
واستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل لهُ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله فقد غوى، نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه، ويطيع رسوله، ويتبع رضوانه، ويجتنب سخطه؛ فإنما نحن به وله)) .
وخرّجه في ((السنن)) مختصراً.
وخرّجه في ((المراسيل)) –أيضاً - من روايةٍ عقيل، عن ابن شهاب، قال: كان صدرخطبة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره)) – فذكره بمثله.(8/266)
ومن روايةٍ يونس، عن ابن شهاب، قال: بلغنا عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يقول إذا خطب: ((كل ما هو آت قريب، لا بعد لما هو آت، لا يعجل الله فيعجله أحد، ولا يخف لامر الناس، ما شاء الله لا ما شاء الناس، يريد الناس أمراً، ويريد الله أمراً، ما شاء الله كان، ولو كره الناس، ولا مبعد لما قرب الله، ولا مقرب لما بعد الله، لا يكون شيء إلا بإذن الله عز وجل)) .
ومن طريق هشام بن عروة، عن أبيه، أنه قال: كان أكثر ما كان رسول الله ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على المنبر: ((أتقوا الله وقولوا قولاً سديداً)) .
وفي خطب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحاديث أخر مرسلة، يطول ذكرها.
فظهر بهذا: أن خطبة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت تشتمل على حمد الله والثناء عليه بما هو
أهله، وعلى الشهادة لله بالتوحيد، ولمحمد بالرسالة.
وقد خرّج أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،(8/267)
أنه قال: ((كل خطبة ليس فيها تشهدٌ فهي كاليد الجذماء)) .
ورجاله ثقاتٌ.
وأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعظ الناس ويذكرهم بالله وبوحدانيته، وتفرده بالربوبية والمشيئة، ويحثهم على تقواه وطاعته.
وكان - غالباً - يفصل بين التحميد وتوابعه من الشهادتين، وما بعد ذلك من الوعظ والأمر والنهي، بقوله: ((أما بعد)) .
وكان –أيضاً - يتلو من القرآن في خطبته.
وفي ((الصحيحين)) عن يعلى بن أمية، أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ على المنبر:
{وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} [الزخرف:77] .
وفي ((صحيح مسلم)) ، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ كل جمعةٍ على المنبر، إذا خطب الناس: {ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ} [ق:1] .
وفيه - أيضاً -، عن جابر بن سمرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت له خطبتان، يجلس
بينهما، يقرأ القرآن، ويذكر الناس.
وخرّجه النسائي، ولفظه: ((كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم، ويقرأ آيات، ويذكر الله)) .
وترجم عليه: ((القراءة في الخطبة الثانية والذكر فيها)) .
وخرّجه ابن ماجه، ولفظه: ((ثم يقوم فيقرأ آياتٍ)) .
فإن كان ذلك(8/268)
محفوظاً فهو صريح فيما بوب عليه النسائي.
وظاهر كلام الخرقي من أصحابنا يدل على مثله –أيضاً.
وفي القراءة في الخطبة أحاديث كثيرةٌ:
وروى ابن لهيعة: حدثني أبو صخر –وهو: حميد بن زياد -، عن نافعٍ، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يدع قراءة سورة الأعراف في كل جمعةٍ.
خرّجه ابن عدي.
فإن كان هذا محفوظاً فلعله كان يواظب على ذلك؛ لما فيها من قوله: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ?وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف:204) فيكون مقصوده: الأمر بالاستماع والانصات للخطبة والموعظة.
وقد قال الإمام أحمد: أجمعوا أن هذه الآية نزلت في الصلاة، وفي الخطبة.
وكان عثمان بن عفان يأمر في خطبته بالإنصات؛ ولهذا اعتاد الناس في هذه الأزمان أن يذكروا قبل الخطبة بين يدي الخطيب بصوت عال يسمع الناس حديث أبي هريرة في الأمر بالإنصاف، كما سيأتي ذكره –أن شاء الله سبحانه وتعالى.(8/269)
وكان مع ذلك مقتصداً في خطبته ولا يطيلها، بل كانت صلاته قصداً وخطبته قصداً.
خرّجه مسلم من حديث جابر بن سمرة.
وخَّرج –أيضاً - من حديث عمار، عن {النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال} : ((أن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة؛ فإن من البيان سحراً)) .
ولم ينقل عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يصلي على نفسه في الخطبة، بل كان يشهد لنفسه بالعبودية والرسالة؛ ولكن روي عنه الأمر بالإكثار من الصلاة عليه في يوم الجمعة وليلة الجمعة، وان الصلاة عليه معروضة عليه.(8/270)
وقد روي في حديث مرسل، رواه ابن إسحاق، عن المغيرة بن عثمان بن محمد بن الاخنس، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: أول خطبة خطبها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة، أن قام فيهم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: ((أما بعد، ايها الناس، فقدموا لأنفسكم، تعلمن والله، ليصعقن أحدكم، ثم ليدعن غنمه، ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه –ليس له ترجمانٌ، ولا حاجب يحجبه دونه -: ألم يأتك رسولي، فيبلغك، وآتيتك مالاً، وأفضلت، فما قدمت لنفسك؟ فينظر يميناً وشمالا، فلا يرى شيئاً، ثم ينظر قدامه، فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يفعل فبكلمة طيبة؟ فإن بها تجزئ الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام على رسول الله ورحمته وبركاته)) .
فالصلاة والسلام عليه في الخطبة يوم الجمعة حسنٌ متأكد الاستحباب، لكن لا يظهر أنه تبطل الخطبة بتركه، بل الواجب الشهادتان مع الحمد والموعظة.(8/271)
وأما القراءة، فالأكثرون على وجوبها في الخطبة، وهو المشهور عن أحمد. وحكي عنه روايةٍ، أنها مستحبةٌ غير واجبةٍ.
واكثر أصحابنا على ايجاب الصلاة علىالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومنهم من قال: الواجب الشهادة له بالرسالة والعبودية.
وفي وجوب ذلك كله –في كل واحدة من الخطبتين - نظر، والأشهر عند أصحابنا: وجوبه.
وظاهر كلام الخرقي: أن الموعظة تكون في الخطبة الثانية.
ولأصحابنا وجه في القراءة، أنها تجب في احدى الخطبتين.
والمنصوص عن أحمد: ما نقله عنه محمد بن الحكم، وقد سأله عن الرجل يخطب يوم الجمعة، فيكبر، ويصلي على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحمد الله، تكون خطبةً؟ وقلت له: إن أصحاب ابن مسعودٍ يقولون: إذا كبر، وصلى {على} النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحمد الله، تكون خطبةً؟ قال: لا تكون خطبةً، إلا كما خطب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو خطبةً تامةً.
وهذا يدل على أنه لا بد من ذلك من موعظةٍ.
وقد صرح به في روايةٍ حنبل، فقال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خطب وعظ فأنذر وحذر الناس.
فهذا تفسير قوله: لا تكون خطبةً إلا كما خطب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومذهب الشافعي وأصحابه: لا يصح(8/272)
35 - باب
الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة(8/273)
933 - حدثنا إبراهيم بن المنذر: ثنا الوليد: ثنا أبو عمرو: حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالكٍ، قال: اصابت الناس سنةٌ على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبينا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب في يوم جمعةٍ قام أعرابيٌ، فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه - وما نرى في السماء قزعة - ـ، فوالذي نفسي بيده، ما وضعها حتى ثار السحاب امثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى. وقام ذلك الأعرابي –أو قال: غيره -، فقال: يا رسول الله، تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه فقال: ((اللهم، حوالينا، ولا علينا)) . فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب الا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجوبة وسال الوادي –قناة - شهراً، ولم يجئ احد من ناحية الا حدث بالجود)) } .
باهرة من آيات النبوة ومعجزاتها.
و ((لجوبة)) –بفتح الجيم -: الفجوة بين البيوت، والفجوة متسع في الارض –وغيرها –فارغ.
وقال الخطابي: المراد بالجوبة: الترس. قال: وفي حديث أخر: ((فبقيت المدينة كالترس)) ، والمراد: أنها بقيت في استدارتها غير ممطورةٍ.
ورواه بعضهم: ((الجونة) - بالنون -، وهو تصحيفٌ.
والمراد: أن السحاب انكشط عن المدينة وبقي على ما حولها.
وهذا يدل على أن القائم إليه في الجمعة الثانية كان من أهل المدينة، وأنه شكا ضررهم؛ ولذلك لم يدع برفع المطر عن غيرهم.
و ((قناة)) : اسم وادٍ بالمدينة، تجري عند السيول و ((الجود)) –بفتح الجيم -: المطر العظيم.(8/273)
36 - باب
الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب
وإذا قال لصاحبه: ((أنصت)) ، فقد لغا
وقال سلمان، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وينصت إذا تكلم الإمام)) .
حديث سلمان، خرّجه البخاري فيما تقدم في موضعين.(8/274)
934 - حدثنا يحيى بن بكير: نا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب: أخبرني سعيدٍ بن المسيب، أن أبا هريرة أخبره، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: انصت –والإمام يخطب –فقد لغوت)) .
حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالكٍ، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا قلت لصاحبك: أنصت، فقد لغوت)) .
هذا الحديث الثاني، يوجد في بعض روايات هذا الكتاب، ولا يوجد في أكثرها.
الفضل في الجمعة، وحصول التكفير بها مشروط بشروط،(8/274)
منها: أن يدنو من الإمام، ويستمع وينصت، ولا يلغو.
وقد ورد ذلك في أحاديث متعددة، قد ذكرنا بعضها فيما تقدم.
و ((اللغو)) : هو الكلام الباطل المهدر، الذي لا فائدة فيه.
ومنه: لغو اليمين، وهو مالا يعبأ به ولا ينعقد.
ومنه: قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاما} (الفرقان:72) ، وقوله {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً?} (النبأ:35) .
وقد جعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذ الحديث الأمر بالإنصات في حال الخطبة لغواً، وإن كان أمر بمعروف ونهيا عن منكرٍ، فدل على أن كل كلام يشغل عن الاستماع والإنصات فهو في حكم اللغو، وإنما يسكت المتكلم بالإشارة.
وكان ابن عمر يشير اليه، وتارة يحصبه بالحصى.
وكره علقمة رميه بالحصى.
ولا خلاف في جواز الإشارة اليه بين العلماء، الا ما حكي عن طاوس وحده، ولا يصح؛ لأن الإشارة في الصلاة جائزةٌ، ففي حال الخطبة اولى.(8/275)
وروى أنس، أن رجلاً دخل المسجد والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فأشار الناس اليه أن اسكت، فساله ثلاث مراتٍ، كل ذلك يشيرون اليه أن اسكت، فقال له رسول الله ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ويحك، ما أعددت لها)) –وذكر الحديث.
خرّجه البيهقي وغيره.
ولا يستثنى من ذلك إلا ما لابد منه، مما يجوز قطع الصلاة لأجله، كتحذير الأعمى من الوقوع في بئر ونحوه.
فأما رد السلام وتشميت العاطس، ففيه اختلاف سبقت الإشارة اليه، وكذلك حكم كلام الإمام ومن يكلمه لمصلحةٍ.
وأجمع العلماء على أن الأفضل لمن سمع خطبةً الإمام أن ينصت ويستمع، وانه افضل ممن يشتغل عن ذلك بذكر الله في نفسه، أو تلاوة قرآن أو دعاءٍ.
قال عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ، قلت لعطاء: أسبح في يوم الجمعة واهلل، وأنا اعقل الخطيب. قال: لا، إلا الشيء اليسير، واجعله بينك وبين نفسك.
وروى بإسناده، عن طاوسٍ، قال: إذا كان الإمام على المنبر فلا يدع احد بشيء، ولا يذكر الله، إلا أن يذكر الإمام.(8/276)
وقول مالكٍ كقول عطاءٍ -: ذكره في ((تهذيب المدونة)) .
وروى حرب بإسناده، عن سفيان، عن منصورٍ، عن إبراهيم، قال: سألت علقمة: متى يكره الكلام يوم الجمعة؟ قال: إذا خَّرج الإمام، وإذا خطب الإمام. قلت: فكيف ترى في رجل يقرأ في نفسه؟ قال: لعل ذلك لا يضره، أن شاء الله.
قال سفيان: ذاك إذا لم يسمع الخطبة.
وروي عن سعيدٍ بن جبير والنخعي: الرخصة في القراءة والإمام يخطب.
ولعله إذا لم يسمع الخطبة أو إذا تكلم الإمام بما لا يجوز استماعه.
وكره الأوزاعي لمن سمع الخطبة أن يتشهد، وقال: قد جهل، ولم تذهب جمعته.
واختلفوا: في الإمام إذا صلى على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة: هل يوافقه المأموم؟
فقالت طائفةٌ: يصلي المأموم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفسه، وهو قولُ مالكٍ وأبي يوسف وأحمد وإسحاق.
واستدلوا: بأن الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خصوصاً يوم الجمعة متأكدة الاستحباب، ومختلف في وجوبها كلما ذكر، فيشرع الاتيان بها في حال الخطبة عند ذكره، لأن سببها(8/277)
موجود، فهو كالتأمين على دعاء الإمام، وأولى.
وقال بعض الشافعية: إذا قرأ الإمام: {إِنَّ اللَّهَ?وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى
النَّبِيِّ} (الأحزاب:56) –الآية، جاز للمأموم أن يصلي على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويرفع بها صوته.
وقالت طائفةٌ: بل ينصت، وهو قولُ سفيان وأبي حنيفة ومحمد والليث بن سعدٍ ومالك –في روايةٍ – والشافعي.
وقال الأوزاعي: ينبغي للإمام إذا صلى على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة أن يسكت حتى يصلي الناس، فإن لم يسكت فأنصت، وأمن على دعائه.
واختلفوا فيمن لم يسمع الخطبة لبعده: هل يذكر الله ويقرأ القرآن في نفسه، أو ينصت؟ على قولين:
أحدهما: يذكر الله في نفسه ويقرأ، وهو قولُ علقمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق.
وقولهم هذا شبه قول الأكثرين في قراءة المأموم إذا لم يسمع قراءته.
والثاني: أنه ينصت ولا يتكلم بشيء، وهو قولُ الزهري والأوزاعي ومالك وأبي حنيفة.
واستدلوا: بقول عثمان: إن للمنصت(8/278)
الذي لا يسمع مثل ما للسامع المنصت.
خرّجه مالكٌ في ((الموطإ)) .
وقالت طائفةٌ: من لا يسمع لا إنصات عليه، بل يباح له الكلام، وهو قولُ عروة بن الزبير، وطائفة من أصحاب الشافعي.
وأومأ إليه أحمد، فإنه قال: يشرب الماء إذا لم يسمع الخطبة.
واختاره القاضي أبو يعلى من أصحابنا.
وقال ابن عقيل منهم: له أن يقرئ القرآن، ويذاكر بالعلم.
وهو بعيدٌ؛ فإن رفع الصوت ربما منع من أقرب منه إلى الإمام ممن يسمع من السماع، بخلاف الذكر في نفسه والقراءة.
واختلفوا: هل انصات من سمع الخطبة واجبٌ، وكلامه في تلك الحال محرم، أو هو مكروه فقط، فلا يأثم به؟ على قولين:
أحدهما: أنه محرم، وهو قول الأكثرين، منهم: الأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي –في القديم – وأحمد –في المشهور عنه.
والمنقول عن أكثر السلف يشهد له.
وقال عطاءٌ ومجاهد: الانصات يوم الجمعة واجبٌ.
وقد أمر ابن مسعودٍ بقرع رأس المتكلم بالعصى، وكان ابن عمر يحصبه
بالحصباء.
وروي عنه، أنه قال: المتكلم لا(8/279)
جمعةٍ له، ولمن أجابه: أنت حمارٌ.
وقال ابن مسعودٍ وغيره لمن تكلم في جمعةٍ: هذا حظك من صلاتك.
ويدل على تحريمه: قولُ الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204] ، وقد تقدم قولُ الإمام أحمد: اجمعوا أنها نزلت في الصلاة والخطبة.
ولأن الخطبة وجبت في الجمعة تذكيراً للناس وموعظةً لهم، فاذا لم يجب استماعها لم تبق فائدة في وجوبها في نفسها؛ فإن إيجاب المتكلم بما لا يجب استماعه يصير لغواً لا فائدة له.
وفي ((مسند الإمام أحمد)) من حديث مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباسٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له: أنصت، لا جمعةٍ له)) .
وإنما شبهه بالحمار يحمل أسفاراً، لأن الحمار لا ينتفع من حمله الأسفار بشيء، فكذلك من لم يستمع الإمام يوم الجمعة.
وهذا المثل ضربه الله لليهود الذين لم ينتفعوا بشيء من علمهم، وليس لنا مثل بالسوء، ولا التشبه بمن ذمه الله من أهل الكتاب قبلنا، فيما ذموا عليه.
وخَّرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث علي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،(8/280)
قال: ((من دنا من الإمام فلغا، ولم يستمع ولم ينصت، كان له كفل من الوزر، ومن قال له: مه فقد لغا، ومن لغا فلا جمعةٍ له)) .
والقول الثاني: أنه مكروه غير محرم، وهو قولُ الشافعي –الجديد – وحكي روايةً عن أحمد.
واختلف من قال بتحريمه: هل تبطل به الجمعة؟
واختلف من قال بتحريمه: هل تبطل به الجمعة؟
فحكي عن طائفةٌ أنه تبطل به الجمعة.
قال عطاءٌ الخراساني وعكرمة: من لغا فلا جمعةٍ له.
وقال الأوزاعي: من تكلم عمداً صارت جمعته ظهراً، ومن تكلم ساهياً لم يتره الله فضلها، إن شاء الله تعالى.
وزعم بعضهم أن قولُ الأوزاعي هذا يخالف الإجماع، وليس كذلك، ولم يرد الأوزاعي أنه يصلي ظهراً، إنما أراد أن ثواب جمعته يفوته، ويبقى له فضل صلاة الظهر، وتبرأ ذمته منها.
وكذلك قال فيمن قال كتاباً والإمام يخطب، قال: ذاك حظه من جمعته، ولم يامره باعادة الصلاة. وكذلك قال فيمن شرب الماء والإمام يخطب.
وقد روي في احاديث متعددةٍ مرسلةٍ، وبعضها متصلة الأسانيد، وفيها ضعف، أن من لغا لا جمعةٍ له، وأن ذلك حظه منها.
والمراد: أنه(8/281)
يفوته ثواب الجمعة، وبذلك فسره عطاءٍ وابن وهبٍ –صاحب
مالكٍ.
وقال إسحاق: يخشى عليه فوات الأجر.
قال عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ: يقال: من تكلم فكلامه حظه من الجمعة –يقول: من أجر الجمعة، فأما أن يوفي أربعاً، فلا.
وقال –أيضاً -: قلت لعطاء: هل تعلم شيئاً يقطع جمعةٍ الإنسان، حتى يجب أن يصلي أربعاً، من كلام أو تخطي رقاب الناس، أو شيء غير ذلك؟ قال: لا.
وكذا قال الحسن والزهري، فيمن تكلم والإمام يخطب: يصلي ركعتين.
وقال الثوري: يستغفر الله، ويصلي.
ولا يصح عن أحدٍ خلاف ذلك. والله أعلم.
واختلفوا: متى يجب الإنصات يوم الجمعة؟
فقال الجمهور: بشروع الإمام في الخطبة، وهو المروي عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه -، وكانوا يفعلونه في زمانه، وروي عن سعدٍ بن أبي وقاص وابن عباسٍ.
وقالت طائفةٌ: ينقطع بخروج الإمام، وإن لم يتكلم، كما تنتطع الصلاة
بخروجه، وهو قولُ طائفةٌ من الكوفيين، منهم: الحكم، وحكي عن أبي حنيفة، وروي عن ابن عمر وابن عباسٍ.(8/282)
وقد خرّج البخاري حديث سلمان الفارسي في الانصات بلفظين: في أحدهما: ذكر خروج الإمام، وفي الآخر: ذكر كلامه.
فمن الناس من قال: رواية الخروج مطلقة، تحتمل حالة الكلام وغيرها، ورواية الكلام مقيدة فتقضي على المطلقة.
ومنهم من قال: إن الرواية المطلقة إنما دلت على اثبات فضل ترك الكلام
بالخروج، لا على منعه وتحريمه.
واستحب عطاءٌ: أن يتكلم من حضر الجمعة قبل أن يخطب الإمام.
وذكر عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ: قال: إذا خرج الإمام يوم الجمعة فافصل بكلام قبل أن يخطب. قلت: سلم الإمام، فرددت عليه أيكون ذلك فصلا؟ قال: إني أحب أن تزيد –أيضاً - بكلام، السلام في القرآن.
يعني: أن السلام لا يكفي في الفصل؛ لأنه مما في القرآن، والمقصود: الفصل بكلام من كلام الآدميين.
وهذا قولُ غريبٌ.
واختلفوا: إلى أي وقتٍ ينتهي النهي عن الكلام؟
فقال الجمهور: ينتهي بفراغ الإمام من الخطبتين، ويجوز الكلام مع نزوله، وبين الصلاة والخطبة.(8/283)
وقالت طائفةٌ: ينتهي النهي إلى الدخول في الصلاة.
وقد سبق ذكر ذلك عند ذكر الكلام بين الإقامة والصلاة بما يغني عن إعادته
هاهنا.
واتفقوا على أن النهي عن الكلام يستمر ما دام يتكلم بما يشرع التكلم به في الخطبة، من حمد الله والثناء، والصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقراءة القرآن، والموعظة وغير ذلك.
وحكى ابن عبد البر عن طائفةٌ، منهم: الشعبي وأبو بردة، أنه لا ينهى عن الكلام إلاّ في حال قراءة القرآن خاصةً، ويجوز في غيرها.
وهذا لا يصح عنهم، وسنذكر وجه ما روي عنهم فيما بعد –أن شاء الله تعالى.
ولو شرع الإمام في خطبته في كلامٍ مباحٍ أو مستحب كالدعاء، فإنه يستمع له وينصت، وهذا قولُ جمهور العلماء، منهم: عطاءٌ وغيره.
ولأصحابنا ثلاثة أوجهٍ: أحدها: تحريم الكلام في الحالين. والثاني: لا يحرم. والثالث: أن كان مستحباً كالدعاء حرم الكلام معه، وإن كان مباحاً لم يحرم.
فأما أن تكلم بكلام محرم، كبدعةٍ أو كسب السلف، كما كان يفعله بنو أمية، سوى عمر بن عبد العزيز –رحمة الله عليه -، فقالت طائفةٌ: يلحق بالخطب وينصت لهُ، روي عن عمرو بن مرة وقتادة.(8/284)
والأكثرون على خلاف ذلك، منهم: الشعبي وسعيد بن جبيرٍ وأبو بردة وعطاءٌ والنخعي والزهري وعروة والليث ابن سعدٍ.
وهو الصحيح؛ فإن الله تعالى يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68] الآية، وما كانَ محرماً حرم استماعه والانصات إليه، ووجب التشاغل عنه كسماع الغناء والآت اللهو، ونحو ذلك.
ولعل قول عمرو بن مرة وقتادة في كلامٍ مباحٍ لا في محرمٍ.
وفي بطلان الخطبة بالكلام المحرم قبل فراغ أركان الخطبة وجهان لأصحابنا، كالوجهين لهم في بطلان الأذان بالكلام المحرم في أثنائه.
وفي جواز الكلام في جلوس الإمام بين الخطبتين وجهان لأصحابنا والشافعية، ومنعه أصحاب مالكٍ.
وهذا كله في حق الجالس في المسجد من حين خروج الإمام، فأما من دخل المسجد في حال الخطبة، فقال طائفةٌ: إنما يمتنع عليه الكلام إذا جلس وأخذ مجلسه، وما دام يمشي فله أن يتكلم ويكلم من معه، وهذا قولُ الزهري وقتادة والثوري والشافعي.
وعموم قوله: ((إذا قلت لصاحبك: أنصت - والإمام يخطب – فقد لغوت)) ، ويشمل القائم والقاعد والماشي.
* * *
37 -(8/285)
باب
الساعة التي في يوم الجمعة(8/286)
935 - حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالكٍ عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر يوم الجمعة، فقال: ((فيه ساعةٌ لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ، وهو قائمٌ يصلي يسال الله شيئاً، إلا أعطاه إياه)) - وأشار بيده يقللها.
وخرّجه في ((كتاب الطلاق)) في ((باب: الإشارة في الطلاق وغيره)) من طريق آخر، فقال:
نا مسددٌ: نا بشر بن المفضل: نا سلمة بن علقمة، عن محمد(8/286)
بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال أبو القاسم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((في الجمعة ساعةٌ، لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ، قائمٌ يصلي، يسأل الله خيراً، إلا أعطاه)) –وقال بيده، ووضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر، قلنا: يزهدها.
وخرّجه في ((الدعوات)) - أيضاً - من روايةٍ أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة – بمعناه، وقال فيه: وقال بيده. قلنا: يقللها، يزهدها.
قوله: ((في الجمعة)) - وفي الرواية الأخرى: ((في يوم الجمعة –ساعةٌ)) .
يقتضي أنها في كل يوم جمعةٍ: وهذا قولُ جمهور العلماء.
وقد تنازع في ذلك أبو هريرة وكعب، فقال: أبو هريرة في كل يوم جمعةٍ.
وقال كعبٌ: في السنة مرةً، ثم رجع كعب إلى قولُ أبي هريرة، ثم ذكر أبو هريرة لعبد الله بن سلامٍ ما قاله كعبٌ أولاً، فكذبه فقال له: إنه رجع عنه.
وقد زعم قوم أن ساعة الإجابة في الجمعة رفعت.
فروى عبد الرزاق في ((كتابه)) بإسناده، أن أبا هريرة قيل له: زعموا أن ليلة القدر رفعت. قال: كذب من قال ذلك. قيل له: فهي في كل رمضان نستقبله؟ قال: نعم. فقيل له: إنهم زعموا أن الساعة في يوم الجمعة التي لا يدعو فيها مسلم إلا استجيب له رفعت. قال: كذب من قال ذلك. قيل له: هي في كل جمعةٍ نستقبلها؟ قال: نعم.(8/287)
وقوله: ((ساعةٌ)) يحتمل أنه أراد بها الساعة الزمنية من ساعات النهار.
زقال عبد الله بن سلامٍ: النهار اثنا عشرة ساعةً، والساعة التي تذكر من يوم الجمعة آخر ساعات النهار.
خرّجه عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ: حدثني موسى بن عقبة، أنه سمع أبا سلمة بن عبد الرحمن، أنه سمع عبد الله بن سلام يقوله.
وهذا إسنادٌ صحيحٌ.
وقد رواه الجلاح أبو كثيرٍ، عن أبي سلمة، عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعناه.
خرّجه أبو داود والنسائي.
وعندي: أن روايةٍ موسى بن عقبة الموقوفة أصح.
ويعضده: أن جماعةً رووه، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام، ومنهم من قال: عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن عبد الله بن سلامٍ، كما سياتي.
وظاهر هذا: أنها جزء من اثني عشر جزء من النهار، فلا تختلف بطول النهار وقصره، ولكن الإشارة إلى تقليلها يدل على أنها ليست ساعةً زمانيةً، بل هي عبارة عن زمن يسيرٍ.(8/288)
وقوله –في الرواية الأخرى -: ((يزهدها)) ، معناه: يقللها –أيضاً -، ومنه الزهد في الدنيا، وهو احتقارها وتقليلها وتحقيرها، هو من اعمال القلوب، لا من أعمال الجوارح.
وقد روي حديث يدل على أنها بعض ساعةٍ:
فروى الضحاك بن عثمان، عن سالمٍ أبي النضر، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلامٍ، قال: قلت –ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالسٌ -: إنا لنجد في كتاب الله: في يوم الجمعة ساعة، لا يوافقها عبد مؤمن يصلي، يسأل الله شيئاً، إلا قضى له حاجته. قال عبد الله: فاشار الي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أو بعض ساعة)) . قلت: صدقت ((أو بعض ساعة)) . قلت: أي ساعة هي؟ قال: ((آخر ساعة من ساعات النهار)) . قلت: إنها ليست ساعة صلاةٍ؟ قال: ((بلى، أن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس، لا يجلسه إلا الصلاة، فهو في صلاة)) .
خرّجه الإمام أحمد وابن ماجه، وهذا لفظه.
ورواته كلهم ثقات؛ لكن له علةٌ مؤثرةٌ، وهي أن الحفاظ المتقنين رووا هذا الحديث، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في ذكر ساعة الإجابة، وعن عبد الله بن سلامٍ في تعيينها بعد العصر.
كذلك رواه محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
خرّجه من طريقه مالكٍ في ((الموطإ)) ، وأحمد وأبو داود والترمذي، وصححه.
وذكر فيه: ((خيرٌ(8/289)
يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه ساعة الإجابة)) ورفع ذلك كله.
ثم ذكر أبو هريرة، عن عبد الله بن سلامٍ، أنه قال له: هي بعد، وأنه ناظره في الصلاة فيها.
وكذا رواه محمد بن عمرو، عن أبي سلمة مختصراً.
ورواه سعيدٍ بن الحارث، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة –مرفوعاً.
وفي روايةٍ عنه بالشك في رفعه في ساعة الإجابة، وجعل ذكر تعيينها من روايةٍ أبي سلمة، عن عبد الله بن سلامٍ.
وكذا رواه معمرٌ، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة.
ورواه الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فجعل الحديث كله عن كعب في: ((خيرٌ يومٍ طلعت فيه الشمس يوم الجمعة)) .
لم يرفع منه شيئاً، وقال: لم اسمعه من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حدثني به كعبٌ.
ورواه حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن كعب، قال: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم جمعةٍ، فيه خلق الله آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة.(8/290)
ورواه معاوية بن سلامٍ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة –موقوفاً.
ورواه محمد بن كثير، عن الأوزاعي، فرفعه.
ورفعه خطأٌ.
ورجح هذه الرواية أبو زرعة الدمشقي.
ويعضده –أيضاً -: روايةٍ حماد بن سلمة، عن قيس بن سعدٍ، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فرفع منه ذكر ساعة الإجابة، وجعل باقي الحديث في فضل يوم الجمعة، وما فيه من الخصال، وتعيين ساعة الإجابة كله من قولُ كعب.
ولعل هذا هو الأشبه.
وقد سبق أن موسى بن عقبة روى عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلامٍ قوله في تعيين ساعة الإجابة –أيضاً.
وخَّرج الإمام أحمد من روايةٍ فليح بن سليمان، عن سعيدٍ بن الحارث، عن أبي سلمة، أنه سمع أبا هريرة يحدث، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ساعة الإجابة.
قال: فلما توفي أبو هريرة قلت: لو جئت أبا سعيدٍ فسألته عن هذه الساعة.
أن يكون عنده منها علم، فاتيته، فسالته، فقال:(8/291)
سألنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها، فقال: ((إني كنت أعلمتها، ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر)) . قال: ثم خرجت من
عنده، فدخلت على عبد الله بن سلامٍ.
هكذا ساقه الإمام أحمد، ولم يذكر ما قاله ابن سلامٍ.
وقد خرّجه البزار بتمامه، وذكر فيه: أن ابن سلامٍ قال له: خلق الله آدم يوم الجمعة، وأسكنه الجنة يوم الجمعة، وأهبطه إلى الأرض يوم الجمعة، وتوفاه يوم الجمعة، وهو اليوم الذي تقوم فيه الساعة، وهي آخر ساعةٍ من يوم الجمعة. قلت: ألست تعلم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((في صلاةٍ)) ؟ قال: أولست تعلم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من انتظر الصلاة فهو في صلاة)) ؟ .
فهذه الرواية –أيضاً - تدل على أن ذكر فضل يوم الجمعة وما فيه من الخصال إنما هو من رواية أبي سلمة عن عبد الله بن سلامٍ، ورواية الأوزاعي وغيره تدل على أن هذا القدر كان أبو هريرة يرويه عن كعبٍ.
وقد روي عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((خيرٌ يومٍ طلعت فيه الشمس يوم الجمعة)) ، وذكر ما فيه من الخصال من طرق متعددة، وهي معللة بما ذكرناه؛ ولذلك لم يخرّج البخاري منها شيئاً.
وقد خرّجه مسلم من طريق الاعرج، عن أبي هريرة –مرفوعاً.
وخرّجه ابن حبان من روايةٍ العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة –(8/292)
مرفوعاً.
وروي عن العلاء، عن إسحاق أبي عبد الله، عن أبي هريرة –مرفوعاً.
فتحرر من هذا: أن المرفوع عن أبي هريرة من الحديث ذكر ساعة الجمعة.
وزعم ابن خزيمة: أن قوله: ((خيرٌ يومٍ طلعت فيه الشمس يوم الجمعة)) مرفوع –أيضاً - بغير خلافٍ، وأن الاختلاف عن أبي هريرة فيما بعد ذلك من ذكر الخصال التي في الجمعة.
وحديث أبي سعيدٍ يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنسي معرفة وقتها، كما انسي معرفة ليلة القدر.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تعيينها أحاديث متعددةٌ:
ومن أغربها: أن ساعة الإجابة هي نهار الجمعة كله.
وهو من روايةٍ هانئ بن خالدٍ، عن أبي جعفر الرازي، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((الساعة التي في يوم الجمعة ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس)) .
خرّجه العقيلي.
وقال: هانئ بن خالد حديثه غير محفوظ، وليس بمعروف بالنقل، ولا يتابع
عليه، ولا يعرف إلا به.
ومنها: أنها آخر نهار الجمعة:
روى عبد السلام بن حفص، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة،(8/293)
عن النبي ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إن الساعة التي يتحرى فيها الدعاء يوم الجمعة هي آخر ساعة من
الجمعة)) .
خرّجه ابن عبد البر.
وقال: عبد السلام هذا مدني ثقةٌ.
قلت: رفعه منكرٌ، وعبد السلام هذا وان وثقه ابن معين، فقد قال فيه أبو حاتم الرزاي: ليس بالمعروف.
ولا يقبل تفرده برفع هذا.
وليته يصح موقوفاً، فقد روى شعبة والثوري، عن يونس بن خباب، عن
عطاء، عن أبي هريرة، قال: الساعة التي في الجمعة بعد العصر.
وخرّجه عبد الرزاق، عن الثوري، به، ولفظه: الساعة التي تقوم في يوم الجمعة ما بين العصر إلى أن تغرب الشمس.
وخرّجه وكيعٌ عن يونس، به.
ويونس بن خباب، شيعيٌ ضعيفٌ.
قال الدارقطني في ((العلل)) : ومن رفعه عن الثوري فقد وهم.(8/294)
وقال: وفيه نائلٌ: ((عن يونس بن عبيدٍ)) ، ووهم فيه - أيضاً.
وروى إسماعيل بن عياش، عن سهيل بن أبي صالحٍ، عن مسلم بن مسافر، عن أبي رزين، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إن في الجمعة ساعةً)) –يقللها بيده - ((لا يوافقها عبدٌ مؤمنٌ وهو يصلي، فيسأل الله فيها إلا استجاب له)) . قيل: أي الساعات هي يا رسول الله؟ قال: ((ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس)) .
خرّجه أبو أحمد الحاكم وأبو بكر عبد العزيز بن جعفر.
وإسناده(8/295)
لا يصح، وروايات إسماعيل بن عياش عن الحجازيين رديئةٌ.
وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) ، عن ابن جريجٍ: حدثني العباس، عن محمد بن مسلمة الأنصاري، عن أبي سعيدٍ الخدري وأبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إن في الجمعة ساعةً، لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ، يسأل الله عز وجل فيها خيراً، إلا أعطاه إياه، وهي بعد العصر)) .
وخرّجه الإمام أحمد في ((مسنده)) ، عن عبد الرزاق.
وخرّجه العقيلي في ((كتابه)) .
وقال: العباس رجلٌ مجهولٌ، لا نعرفه، ومحمد بنمسلمة –أيضاً - مجهولٌ. وذكر عن البخاري، أنه قال: محمد بن مسلمة الأنصاري، عن أبي سعيدٍ وأبي هريرة - في ساعة الجمعة -: لا يتابع عليه.
قال العقيلي: الرواية في فضل الساعة التي في يوم الجمعة ثابتهٌ عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير هذا الوجه، فأما التوقيت، فالرواية فيه لينةٌ.
يعني بالتوقيت: تعيين ساعة الإجابة.
وروى فرج بن فضالة، عن علي بن أبي طلحة، عنابي هريرة، قال: قيل للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لأي شيءٍ سمي يوم الجمعة؟ قال: ((لأن فيها طبعت طينة أبيك آدم، وفيها الصعقة والبعثة، وفيها البطشة، وفي أخر ثلاث ساعاتٍ منها ساعةٌ، من دعا الله فيها استجيب له)) .(8/296)
خرّجه الإمام أحمد.
وفرج بن فضالة، مختلفٌ فيه، وقد ضعفه ابن معينٍ وغيره.
وعلي بن أبي طلحة، لم يسمع من أبي هريرة.
وروى محمد بن أبي حميد، عن موسى بن وردان، عن أنسٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إلتمسوا الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد العصر، إلى غيبوبة الشمس)) .
خرّجه الترمذي.
وقال: غريبٌ.
ومحمد بن أبي حميد، منكر الحديث.
وخرّجه الطبراني من طريق ابن لهيعة، عن موسى بن وردان –بنحوه، وزاد في آخر الحديث: ((وهي قدر هذا)) –يعني: قبضةً.
ويروى من حديث فاطمة –عليها السلام -، عن أبيها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال في هذه الساعة: ((إذا تدلى نصف الشمس للغروب)) .
وفي إسناده اضطرابٌ وانقطاعٌ وجهالةٌ، ولا يثبت إسناده.(8/297)
وروى عبد الرزاق، عن عمر بن ذر، عن يحيى بن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في صلاة العصر يوم الجمعة، والناس خلفه إذ سنح كلبٌ ليمر بين أيديهم، فخر الكلب فمات قبل أن يمر، فلما أقبل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوجهه على القوم قال: ((أيكم دعا على هذا الكلب؟)) فقال رجل من القوم: أنا دعوت عليه. فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((دعوت عليه في ساعة يستجاب فيها الدعاء)) .
وهذا مرسلٌ.
ويروى بإسنادٍ منقطعٍ، عن أبي الدرداء –نحوه، إلا أن فيه: أنه دعا الله باسمه الأعظم، ولم يذكر الساعة.
ومنها: أنها الساعة التي تصلى فيها الجمعة:
فخرج مسلم في ((صحيحه)) من حديث ابن وهبٍ، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن أبي بردة بن أبي موسى، قال: قال عبد الله بن عمر:(8/298)
أسمعت أباك يحدث عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شأن الجمعة؟ قلت: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة)) .
وروى البيهقي بإسناده، عن مسلمٍ، أنه قال: هذا أجود حديث وأصحه في ساعة الجمعة.
وقال الدارقطني: تفرد به ابن وهبٍ، وهو صحيح عنه. ورواه أبو إسحاق، عن أبي بردة، واختلف عليه، فرواه إسماعيل بن عمرو، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ثم خرّجه بإسناده من هذه الطريق، ولفظه: ((الساعة التي يرجى فيها يوم الجمعة عند نزول الإمام)) .
وخالفه النعمان بن عبد السلام، فرواه عن الثوري بهذا الإسناد –موقوفاً.
يعني: على أبي موسى.
ثم أسنده من طريقه كذلك، ولفظه: ((الساعة التي تذكر في الجمعة ما بين نزول الإمام عن منبره إلى دخوله في الصلاة)) .
قال: وخالفهما يحيى القطان، فرواه عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة – قوله.
وكذلك رواه عمار بن رزيق، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة – قوله.
وكذلك رواه معاوية بن قرة ومجالد، عن أبي بردة – من قوله.(8/299)
وحديث مخرمة بن بكرٍ أخرجه مسلم في ((الصحيح)) .
والمحفوظ: من روايةٍ الآخرين، عن أبي بردة –قوله، غير مرفوع. انتهى.
وكذلك رواه واصل بن حيانٍ، عن أبي بردة، قال: ذكر عند ابن عمر الساعة التي في الجمعة، فقلت: إني أعلم أي الساعة هي. قال: وما يدريك؟ قلت: هي الساعة التي يخرج فيها الإمام، وهي أفضل الساعات. قال: بارك الله عليك.
وروى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إن في الجمعة ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئاً ألا آتاه إياه)) . قالوا:
يا رسول الله، أية ساعة هي؟ قال: ((حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها)) .
خرّجه ابن ماجه والترمذي.
وقال: حسنٌ غريبٌ.
وكثيرٌ هذا، يحسن البخاري والترمذي وغيرهما أمره. وقال بعضهم: أحاديثه عن أبيه عن جده أحبُ إلينا من مراسيل ابن المسيب. وضعف الأكثرون حديثه. وضرب الإمام أحمد عليه، ولم يخرجه في (((8/300)
مسنده)) .
قال أبو بكر الأثرم: إما وجه اختلاف هذه الأحاديث، فلن يخلو من وجهين: إما أن يكون بعضها أصح من بعضٍ، وإما أن تكون هذه الساعة تنتقل في الأوقات، كانتقال ليلة القدر في ليالي العشر.
قال: وأحسن ما يعمل به في ذلك: أن تلتمس في جميع هذه الأوقات، احتياطاً واستظهاراً. انتهى.
فأما القول بانتقالها فهو غريبٌ.
وقد روي عن كعبٍ، قال: لو قسم إنسان جمعة في جمع أتى علي تلك الساعة.
يعني: أنه يدعو كل جمعةٍ في ساعة ساعة حتى يأتي على جميع ساعات اليوم.
قال الزهري: ما سمعنا فيها بشيء عن احد احدثه الا هذا.
وهذا يدل على أنها لا تنتقل، وهو ظاهر أكثر الأحاديث والآثار.
وأما التماسها في جميع مظانها، فقد روي نحوه عن أبي هريرة.
فحكى ابن المنذر، عنه، أنه قال: هي بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس.(8/301)
وهذا رواه ليث بن أبي سليم، عن مجاهد وطاوس، عن أبي هريرة، وفي ليث مقال، لا سيما إذا جمع في الاسناد بين الرجال.
ولم يرد أبو هريرة –والله أعلم – أنها ساعتان: في أول النهار وآخره، إنما أراد أنها تلتمس في هذين الوقتين.
ونقل ابن منصورٍ، عن إسحاق، قال: بعد العصر، لا أكاد أشك فيه، وترجى بعد زوال الشمس.
كذا نقله ابن منصورٍ في ((مسائله)) عنه، ونقله الترمذي في ((جامعه)) عن
أحمد.
وإنما نقله ابن منصورٍ عن أحمد، والترمذي إنما ينقل كلام أحمد وإسحاق من ((مسائل ابن منصورٍ، عنهما)) كما ذكر ذلك في آخر ((كتابه)) .
ولا أعلم في التماسها في أول النهار عن أحدٍ من السلف غير هذا.
والمشهور عنهم قولان:
أحدهما: أنها تلتمس بعد العصر إلى غروب الشمس، وقد سبق عن أبي هريرة وعبد الله بن سلامٍ.
وروى سعيدٍ بن منصورٍ بإسناده، عن أبي سلمة، قال: اجتمع ناسٌ من(8/302)
أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتذاكروا الساعة التي في يوم الجمعة، فتفرقوا ولم يختلفوا أنها آخر ساعةٍ من يوم الجمعة.
وروى سعيدٍ بن جبير، عن ابن عباسٍ، أنه سئل عن تلك الساعة التي في الجمعة، فقال: خلق الله آدم بعد العصر يوم الجمعة، وخلقه من أديم الأرض كلها، فأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته فلله ما أمسى ذلك اليوم حتى عصاه، فأخرجه منها.
خرّجه عبد الرزاق وغيره.
وهذا يدل على ترجيح ابن عباسٍ لما بعد العصر في وقت هذه الساعة؛ لخلق آدم فيها، وإدخاله الجنة، وإخراجه منها، وهو يشبه استنباطه في ليلة القدر، أنها ليلة سابعة.
وكذلك كان طاوس يتحرى الساعة التي في يوم الجمعة بعد العصر.
وعنه، أنه قال: الساعة من يوم الجمعة التي تقوم فيها الساعة، والتي أنزل فيها آدم، والتي لا يدعو الله فيها المسلم بدعوة صالحة إلا استجيب له: من حين تصفر الشمس إلى أن تغرب.
وهذا يشبه قول عبد الله بن سلامٍ، أنها آخر ساعةٍ من نهار الجمعة.
وروي مثله عن كعبٍ –أيضاً.(8/303)
فأهل هذا القول، منهم من جعل وقت التماسها ما بين العصر وغروب الشمس، ومنهم من خصه بآخر ساعةٍ من الساعات.
وقال أحمد –في روايةٍ ابن منصورٍ -: أكثر الأحاديث بعد العصر.
وقال - في روايةٍ الميموني –كذلك، وزاد: قيل له: قبل أن تطفل.
الشمس للغروب؟ قالَ: لا أدري، إلا أنها بعد العصر.
وظاهر هذا: أن ما بعد العصر إلى غروب الشمس كله في التماسها سواءٌ.
والقول الثاني: أنها بعد زوال الشمس.
وقد تقدم عن ابن عمر وأبي بردة، أنها ساعةٍ صلاة الجمعة.
وروى عبد الله بن حجيرة عن أبي ذر، أنها من حين تزيغ الشمس بشبر إلى
ذراعٍ.
وعن عائشة، أنها إذا أذن المؤذن بصلاة الجمعة.(8/304)
وقال عوف بن مالكٍ: اطلبوا ساعةٍ الجمعة في إحدى ثلاث ساعات: عند تأذين الجمعة، أو ما دام الإمام على المنبر، أو عند الاقامة.
خرّجه محمد بن يحيى الهمداني في ((صحيحه)) .
وعن الحسن وأبي العالية، قالا: عند زوال الشمس.
وعن الحسن، قال: هي إذا قعد الإمام على المنبر حتى يفرغ.
وعن أبي السوار العدوي، قال: كانوا يرون أن الدعاء مستجابٌ ما بين أن تزول الشمس إلى أن تدركك كل صلاة.
وعن ابن سيرين، قال: هي الساعة التي كان يصلي فيها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وعن الشعبي، قال: هي ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل.
وعنه، قال: مابين خروج الإمام إلى انقضاء الصلاة.
وعن الشعبي، عن عوف بن حصيرة، قال: هي من حين تقام الصلاة إلى انصراف الإمام.
وروي، أن عمر سأل ابن عباسٍ عنها؟ فقال: أرجو أنها الساعة التي يخرج لها الإمام.(8/305)
خرّجه الإسماعيلي في ((مسند عمر)) بإسنادٍ ضعيفٍ.
وذكر عن أبي القاسم البغوي، أنه قال: هذا واهٍ، وقد روي عن ابن عباسٍ خلافه.
يشير إلى أن المعروف عنه أنها بعد العصر، كما رواه عنه سعيد بن جبير، وقد تقدم.
فهذه الاقوال متفقة على أنها بعد زوال الشمس، ومختلفة في الظاهر في قدر امتدادها.
فمنهم من يقول: وقت الأذان.
ومنهم من يقول: ما دام الإمام على المنبر.
ومنهم من يقول: عند الاقامة.
ومنهم من يقول: من حين تقام الصلاة إلى انصراف الإمام فيها.
ومنهم من يقول: ما بين أن يحرم البيع بالنداء أو تزول الشمس –على اختلاف لهم فيما يحرم به البيع – إلى أن يحل بانقضاء الصلاة.
وهذا القول –أعني: أنها بعد زوال الشمس إلى انقضاء الصلاة، أو أنها ما بين أن تقام الصلاة إلى أن يفرغ منها –أشبه بظاهر قولُ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ قائمٌ يصلي يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه إياه)) ، فإنه أن أريد به صلاة الجمعة كانت من حين إقامتها إلى الفراغ منها، وإن أريد به صلاة التطوع كانت من زوال الشمس إلى خروج الإمام؛ فإن هذا وقت صلاة تطوعٍ، وإن أريد بها أعم من ذلك –وهو الأظهر – دخل فيه صلاة التطوع بعد زوال الشمس، وصلاة الجمعة إلى انقضائها.(8/306)
وليس في سائر الأوقات التي قالها أهل القول الأول وقت صلاة؛ فإن بعد العصر إلى غروب الشمس، وبعد الفجر إلى طلوع الشمس وقت نهي عن الصلاة فيه، اللهم إلاّ أن يراد بقولهم: بعد العصر: دخول وقت العصر والتطوع قبلها.
ومرسل يحيى بن إسحاق بن أبي طلحة يشهد له.
من قال: إن منتظر الصلاة في صلاةٍ صحيحٌ، لكن لا يقال فيه قائم.
وقول يصلي؛ فإن ظاهر هذا اللفظ حمله على القيام الحقيقي في الصلاة الحقيقية.
وقد روى عبد الرزاق في ((كتابه)) نا يحيى بن زمعة: سمعت عطاءً يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((في يوم الجمعة ساعةٌ، لا يوافقها عبدٌ وهو يصلي، أو ينتظر الصلاة، يدعو الله فيها بشيء إلا استجاب له)) .
وهذا غريبٌ.
ويحيى بن زمعة هذا، غير مشهورٌ، ولم يعرفه ابن أبي حاتم باكثر من روايته عن عطاءٍ، ورواية عبد الرزاق عنه.
وهذه الرواية تدل على أن المراد بالصلاة حقيقة الصلاة؛ لأنه فرق بين المصلي ومنتظر الصلاة، وجعلهما قسمين.
وتدل على أن ساعةٍ الجمعة يمكن فيها وقوع الصلاة وانتظارها، وهذا بما بعد الزوال أشبه؛ لأن أول تلك الساعة ينتظر فيها الصَّلاة ويتنفل فيها بالصلاة، وآخرها يصلى فيهِ الجمعة.(8/307)
وخَّرج ابن أبي شيبة بإسناده، عن هلال بن يساف، قالَ: قالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن في الجمعة لساعةً، لا يوافقها رجلٌ مسلمٌ، يسأل الله فيها خيراً، إلا أعطاه)) فقالَ رجل: يا رسول الله، فماذا اسال؟ فقال: ((سل الله العافية في الدنيا والآخرة)) .
وهذا مرسلٌ.
* * *
38 -(8/308)
باب
إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة
فصلاة الإمام ومن بقي تامةٌ(8/309)
936 - حدثنا معاوية بن عمرو: ثنا زائدة، عن حصين، عن سالم بن أبي الجعد: ثنا جابر بن عبد الله، قال: بينما نحن نصلي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اذ أقبلت عيرٌ تحمل طعاماً فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاّ إثنا عشر رجلاً، فنزلت هذه الآية: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة:11] وخرّجه في "التفسير " عن حفص بن عمر قالَ: ثنا خالد بن عبد الله: أنبا حصين، عن سالم بن أبي الجعد –وعن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله –فذكره بمعناه.
وفي هذه الرواية: متابعة أبي سفيان لسالم بن أبي الجعد على روايته عن جابر، وإنما خرّج لأبي سفيان متابعةً.
وقد خرّجه مسلم بالوجهين – أيضاً.
وفي أكثر رواياته: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب يوم الجمعة.
وفي روايةٍ له: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب قائماً يوم الجمعة – فذكره بمعناه.(8/309)
وفي روايةٍ له: فلم يبق إلا اثنا عشر رجلاً، أنا فيهم.
وفي روايةٍ له –أيضاً -: فيهم أبو بكر وعمر – رضي الله عنهما.
وقوله في الرواية التي خرجها البخاري: ((بينا نحن نصلي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) لم يرد به أنهم انفضوا عنه في نفس الصلاة، إنما أراد –والله أعلم – إنهم كانوا مجتمعين للصلاة، فانفضوا وتركوه.
ويدل عليه: حديث كعب بن عجرة، لما قال: انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً، وقد قال الله تعالى: {انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة: 11] .
وكذلك استدلال ابن مسعودٍ وخلق من التابعين بالآية على القيام في الخطبة.
وروى علي بن عاصمٍ هذا الحديث عن حصين، فقال فيه: فلم يبق معه الا أربعون رجلاً، أنا فيهم.
خرّجه الدارقطني والبيهقي.
وعلي بن عاصمٍ، ليس بالحافظ، فلا يقبل تفرده بما يخالف الثقات.
وقد استدل البخاري وخلقٌ من العلماء على أن الناس إذا نفروا عن الإمام وهو يخطب للجمعة، وصلى الجمعة بمن بقي، جاز ذلك، وصحت جمعتهم.
وهذا يرجع إلى أصلٍ مختلفٍ فيه، وهو: العدد الذي تنعقد به الجمعة، وقد اختلف في ذلك:(8/310)
فقالت طائفةٌ: لا تنعقد الجمعة بدون أربعين رجلاً، روي ذلك عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعمر بن عبد العزيز، وهو قولُ الشافعي وأحمد – في المشهور عنه – وإسحاق ورواية عن مالكٍ.
وقالت طائفةٌ: تنعقد بخمسين، روي عن عمر بن عبد العزيز - أيضاً –وهو روايةٍ عن أحمد.
وقالت طائفةٌ تنعقد بثلاثة، منهم: ابن المبارك والأوزاعي والثوري وأبو ثور، وروي عن أبي يوسف، وحكي رواية عن أحمد. وقالت طائفةٌ: تنعقد بأربعةٍ، وهو قولُ أبي حنيفة وصاحبيه –في المشهور عنهما – والأوزاعي ومالك والثوري – في رواية عنهما – والليث بن سعدٍ.
وحكي قولاً قديماً للشافعي، ومنهم من حكاه أنها تنعقد بثلاثةٍ.
وقالت طائفةٌ: يعتبر أربعون في الأمصار وثلاثةٌ في القرى، وحكي روايةً عن أحمد، صححها بعض المتأخرين من أصحابه.
وقالت طائفةٌ: تنعقد بسبعة، وحكي عن عكرمة، ورواية عن أحمد.
وقالت طائفةٌ: تنعقد باثني عشر رجلاً، حكي عن ربيعة.
وقد قام الزهري: أن مصعب بن عمير أول ما جمع بهم بالمدينة كانوا إثنى عشر رجلاً.
وتعلق بعضهم لهذا الحديث بحديث جابر المخرج(8/311)
في هذا الباب.
وقال طائفةٌ: تنعقد الجمعة بما تنعقد به الجماعة، وهو رجلان، وهو قولُ الحسن بن صالح وأبي ثور - في روايةٍ – وداود، وحكي عن مكحولٍ.
وتعلق القائلون بالأربعين كعب بن مالكٍ، أن أول جمعةٍ جمع بهم أسعد بن
زرارة، كانوا أربعين، وقد سبق ذكره في أول ((كتاب الجمعة)) .
وقد ذكر القاضي أبو يعلى وغيره وجه الاستدلال به: أن الجمعة فرضت بمكة، وكان بالمدينة من المسلمين أربعةٌ وأكثر ممن هاجر إليها وممن أسلم بها، ثم لم يصلوا [ ... ] كذلك حتى كمل العدد أربعين، فدل على أنها لا تجب على أقل منهم، ولم يثب أبو بكر الخلال خلافه عن أحمد في اشتراط الأربعين.
قال: وإنما يحكى عن غيره، أنه قال بثلاثةٍ، وباربعةٍ، وبسبعةٍ، ولم يذهب إلى شيء من ذلك، وهذا الذي قاله الخلال هو الأظهر. والله أعلم.
وفي عدد الجمعة أحاديث مرفوعة، لا يصح فيها شيء، فلا معنى لذكرها.(8/312)
وإذا تقرر هذا الأصل، فمن قال: أن الجمعة تنعقد بإثني عشر رجلاً أو بدونهم، فلا إشكال عنده في معنى حديث جابر؛ فإنه يحمله على أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الجمعة بمن بقي معه، وصحت جمعتهم.
ومن قال: لا تصح الجمعة بدون أربعين، فإنه يشكل عليه حديث جابرٍ.
وقد أجاب بعضهم: بأن الصحيح أنهم انفضوا وهو في الخطبة. قال: فيحتمل أنهم رجعوا قبل الصلاة، أو رجع من تم به الأربعون، فجمع بهم.
قال: والظاهر أنهم انفضوا ابتداءً سوى إثني عشر رجلاً، ثم رجع منهم تمام أربعين، فجمع بهم، وبذلك يجمع بين روايةٍ علي بن عاصم وسائر الروايات.
وهذا الذي قاله بعيدٌ، ورواية علي بن عاصم غلطٌ محضٌ، لا يلتفت إليها.
وسلك طائفةٌ مسلكاً آخر، وظاهر كلام البخاري هاهنا وتبويبه يدل عليه، وهو: أن انفضاضهم عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في نفس الصلاة، وكان قد افتتح بهم الجمعة بالعدد المعتبر، ثم تفرقوا في أثناء الصلاة، فأتم بهم صلاة الجمعة؛ فإن الاستدامة يغتفر فيها ما لا يغتفر في الابتداء.
وهذا قولُ جماعة من العلماء، منهم: أبو حنيفة وأصحابه والثوري ومالك والشافعي – في القديم – وإسحاق، وهو وجه لأصحابنا.
وعلى هذا؛ فمنهم من اعتبر أن يبقى معه واحد فأكثر؛ لأن أصل(8/313)
الجماعة تنعقد بذلك، ومنهم من شرط أن يبقى معه اثنان، وهو قولُ الثوري وابن المبارك، وحكي قولاً للشافعي.
وقال إسحاق: أن بقي معه اثنا عشر رجلاً جمع بهم وإلاّ فلا؛ لظاهر حديث جابر.
وهو وجهٌ لأصحابنا.
ولأصحابنا وجه أخر: يتمها الإمام جمعة، ولو بقي وحده.
وهذا بعيد جداً.
وفرق مالكٌ بين أن يكون انفضاضهم قبل تمام ركعة فلا تصح جمعتهم ويصلون ظهراً، وبين أن يكون بعد تمام ركعةٍ فيتمونها جمعة.
ووافقه المزني، وهو وجه لأصحابنا.
وقال أبو حنيفة: إن انفضوا قبل أن يسجد في الأولى فلا جمعةٍ لهم، وان كان قد سجد فيها سجدةً أتموها جمعةً.
وقال صاحباه: بل يتمونها جمعةٍ بكل حال، ولو انفضوا عقب تكبيرة الإحرام.
ومذهب الشافعي – في الجديد – وأحمد والحسن بن زياد: أنه لا جمعةٍ لهم، حتى يكمل العدد في مجموع الصلاة.
قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر: لم يختلف قولُ أحمد في ذلك.
وقد وجدت جواباً آخر عن حديث جابر، وهو: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قد صلى بأصحابه الجمعة، ثم خطبهم فانفضوا عنه في خطبته بعد صلاة الجمعة، ثم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك قدم خطبة الجمعة على صلاتها.
فخرج أبو داود في ((مراسيله)) بإسناده، عن مقاتل بن حيان، قال: كان(8/314)
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلى الجمعة قبل الخطبة مثل العيد، حتى إذا كان يوم الجمعة والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، وقد صلى الجمعة، فدخل رجل، فقال: إن دحية بن خليفة قد قدم بتجارته – وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف -، فخرج الناس، لم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء، فانزل الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} [الجمعة:11] ، فقدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخطبة يوم الجمعة، وأخر الصلاة.
وهذا الجواب أحسن مما قبله.
ومن ظن بالصحابة أنهم تركوا صلاة الجمعة خلف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد دخولهم معه
فيها، ثم خرجوا من المسجد حتى لم يبق معه إلاّ إثنا عشر رجلاً، فقد أساء بهم الظن، ولم يقع ذلك بحمد الله تعالى.
وأصل هذه المسائل: أن الجمعة يشترط لها الجماعة، فلا تصح مع الانفراد، وهذا إجماع لا نعلم فيه خلافاً، إلاّ ما تقدم حكايته عن أبي حنيفة، أنه صلى ركعتين عند تأخير بعض الأمراء للجمعة، وقال: أشهدكم أنها جمعةٌ.
وحكي مثله عن الفاشاني، والفاشاني ليس ممن يعتد بقوله بين الفقهاء.
وذهب عطاءٌ إلى أن من حضر الخطبة فقد أدرك الجمعة، فلو أحدث بعد حضوره الخطبة، فذهب فتوضأ ثم رجع وقد فرغ الإمام من صلاة الجمعة، أنه يصلي ركعتين؛ لأنه قد حضر الخطبة -:(8/315)
نقله عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ، عنه.
وخالفه جمهور العلماء، فقالوا: يصلي أربعاً.
وفي مراسيل يحيى بن أبي كثيرٍ: من أدرك الخطبة فقد أدرك الصلاة.
خرّجه عبد الرزاق.
ومراسيل يحيى ضعيفةٌ جداً.
واختلفوا فيمن جاء والإمام يخطب، قد فرغ من الخطبة.
فقالت طائفةٌ: لم يدرك الجمعة، ويصلي أربعاً، روي ذلك عن عمر، وعن طاوسٍ وعطاءٍ ومجاهدٍ ومكحولٍ، وقالوا: الخطبة بدلٌ عن الركعتين.
قال عطاءٌ: إن جلس قبل أن ينزل الإمام من المنبر فقد أدرك الخطبة، فيصلي جمعةٍ، وإلا صلى أربعاً.
وظاهر كلام عطاء: أن الجمعة ظهر مقصورة؛ فإنه يقول: إن أدرك الخطبة قصر، وإلا لم يقصر.
وقال سعيد بن جبير: كانت الجمعة أربعا، فجعلت الخطبة مكان الركعتين.
وذهب طائفة: إلى أن من أدركهم في التشهد قبل السلام فقد أدرك(8/316)
الجمعة، وهو قول الحكم وحماد وأبي حنيفة وأصحابه، وحكي رواية عن النخعي، ورواية عن أحمد، ولا تكاد تصح عنه.
وروي عن ابن مسعود، أنه قال لأصحابه - وقد أدرك الناس جلوسا في الجمعة -: قد أدركتم، إن شاء الله.
قال قتادة إنما أراد: أدركتم الأجر.
وذهب أكثر العلماء إلى أنه إن أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام فقد أدرك الجمعة، ويتمها جمعة، وإن فاتته الركعة الثانية صلى أربعا.
وروي ذلك عن ابن عمر وابن مسعود وأنس، وهو قول علقمة والأسود والحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والليث والثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق.
واستدلوا بحديث: " من أدرك ركعة من الصلاة ".
ثم إن أكثرهم قالوا: يصلي من أدرك التشهد مع الإمام الظهر خلفه أربعا.
وهذا يتوجه على قول من يقول: يصح اقتداء من يصلي فرضا خلف من يصلي فرضا آخر. فأما من قال: لا يجوز ذلك، فهو مشكل على أصولهم.
فلهذا قال طائفة: لا يجزئه أن يصلي الظهر خلف من يصلي الجمعة، بل يستأنف الظهر، وهو اختيار بعض أصحابنا في المسبوق، وفيما إذا نقص العدد في أثناء الجمعة.
وهو قول بعض فقهاء أهل المدينة، إلا على قول من يقول: الجمعة ظهر مقصورة، فيكون كمقيم صلى خلف مسافر.
فلهذا قال بعضهم: ينوي في دخوله معه الجمعة، ثم يصلي ظهرا إذا فارقه، وهو(8/317)
بعيد.
وحكي ذلك عن ابن شاقلا من أصحابنا.
وقد صنف ابن شاقلا في المسألة جزءا مفردا، وقد تأملته، فوجدته يقول: إن من أدرك التشهد خلف الإمام في يوم الجمعة، فإنه يصلي جمعة أربع ركعات. قال: وإنما كانت جمعة هذا أربعا لاتفاق الصحابة عليه، على خلاف القياس، وكان القياس: أن يصلي الركعتين.
وأخذ ذاك من قول أحمد - في رواية حنبل -: لولا الحديث الذي في الجمعة، لكان ينبغي أن يصلي ركعتين إذا أدركهم جلوسا.
حتى قال ابن شاقلا: لو كان الإمام قد صلى الجمعة قبل زوال الشمس، فأدركه في التشهد صلى أربعا، وأجزأه، وكانت جمعة.
وقد قال سفيان الثوري: إذا نوى الجمعة، وصلى أربعا أجزأته جمعته، وإن لم ينو الجمعة فلا أراه يجزئه.
وللشافعية فيما إذا نوى بصلاة الجمعة صلاة الظهر المقصورة: هل تصح جمعته؟ وجهان، على قولهم: إن الجمعة ظهر(8/318)
مقصورة.
وإن نوى الجمعة، فإن قالوا: هي صلاة مستقلة أجزأه.
وإن قالوا: ظهر مقصورة، فهل تشترط نية القصر فيه وجهان لهم، أصحهما: لا تشترط.
ولو نوى الظهر مطلقا، من غير تعرض للقصر، لم يصح عندهم بغير خلاف.
وقال مالك - فيما نقله عنه ابن عبد الحكم - في الإمام ينزل بقرية لا تقام فيها الجمعة، فيجمع فيها: إنه لا يكون جمعة، بل يكون ظهرا مقصورة، فتصح له ولمن معه من المسافرين، ويتم أهل تلك القرية صلاتهم إذا سلم.
وهو ظاهر ما ذكره في " الموطأ "، ونقله عنه ابن نافع - أيضا.
وظاهر هذا: يدل على صحة صلاة الظهر المقصورة بنية الجمعة.
قال ابن القاسم في " المدونة ": لا جمعة للإمام ولا لمن خلفه، ويعيد ويعيدون؛ لأنه جهر عامدا.
وهذا تعليل عجيب، وهو يقتضي أن من جهر في صلاة السر عمدا بطلت صلاته.
والتعليل: بأنه لا تصح صلاة الظهر بنية الجمعة أظهر.
وذكر ابن المواز، عن ابن القاسم: أما هو فصلاته تامة، وأما هم فعليهم الإعادة.
واختلف السلف في هذه المسألة:
فقال عطاء - فيمن دخل قرية لا ينبغي أن تقام فيها الجمعة، وهي القرية التي ليست جامعة عنده، فأقام(8/319)
أهلها الجمعة، فجمع معهم: إنه يتم صلاته، فإذا سلم إمامهم أتم صلاته بركعتين، ولا يقصر معهم.
وقال الزهري: يجمع معهم ويقصر.
ومذهب أصحاب الشافعي: أن المسبوق في صلاة الجمعة يتم صلاته - إذا سلم الإمام - ظهرا.
ثم منهم من قطع بذلك، وهم جمهور العراقيين، ومن الخراسانين من بناه على القول في أن الجمعة: هل هي صلاة مستقلة أو ظهر مقصورة.
فإن قيل: هي ظهر مقصورة أتمها ظهرا كالمسافر إذا امتنع عليه القصر لسبب، وإن قيل: هي صلاة مستقلة، فهل يتمها ظهرا؟ فيها وجهان، أصحهما: يتمها ظهرا؛ لأنها بدل منها، أو كالبدل.
فعلى هذا: هل يشترط أن ينوي قبلها ظهرا، أو تنقلب بنفسها؟ فيه وجهان - أيضا.
وهذا كله تفريع على قولهم: ينوي الجمعة موافقة للإمام.
ولهم وجه آخر: ينوي الظهر؛ لأنه لا يصح له غيرها.
وهو قول الخرقي وأكثر أصحابنا.
ومنهم من قال: هو ظاهر كلام أحمد.
وحكاه - أيضا - عن مالك والشافعي، وفي حكايته عن الشافعي نظر.(8/320)
39 - باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها(8/321)
937 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين.
وقد خرجه في " أبواب صلاة التطوع " من طرق أخرى عن نافع، ومن طريق سالم، عن أبيه، والمعنى متقارب.
وقد دل هذا الحديث على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يصلي بعد الجمعة في المسجد شيئا، وأنه كان ينصرف إلى بيته، فيصلي ركعتين.
فتضمن ذلك: استحباب شيئين: أحدهما: صلاة ركعتين بعد الجمعة. والثاني: أن تكون في البيت.
وقد كان ابن عمر يفعله بالمدينة، يرجع إلى بيته فيصلي ركعتين، وكان ينهى عن صلاتهما في المسجد، ويقول لمن يفعله: صلى الجمعة أربعا، وكان إذا كان بمكة يتقدم من موضع صلاته، فيصلي ركعتين، ثم ينتقل عنه فيصلي أربعا.(8/321)
وفي " صحيح مسلم " عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا ".
وفي رواية له: قال سهيل: فإن عجل بك شيء فصل ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت.
وقد وقع في غير مسلم هذا الكلام عن سهيل من قوله.
وقد اختلف العلماء في الجمع بين حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة.
فقالت طائفة: هو مخير بين أن يصلي ركعتين وأربعا، عملا بكل واحد من الحديثين، وهو قول أحمد - في رواية عنه.
وظاهره: أنه لا فضل لأحدهما على الآخر.
وروي عنه، أنه قال: يصلي ركعتين ولا يعيب على من صلى أربعا؛ لحديث أبي هريرة.
وظاهره: أن الأفضل الأخذ بحديث ابن عمر؛ لأنه أثبت إسنادا.(8/322)
وقالت طائفة: يجمع بينهما، فيصلي ستا -: نقله إبراهيم الحربي، عن أحمد، وقال: يجمع بينهما على وجه، بين أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفعله.
ونقل عنه ابن هانئ، قال: يصلي ستا؛ لأمر علي بن أبي طالب بذلك.
وهذا مأخذ آخر.
وقالت طائفة: يجمع بينهما على وجه آخر، فإن صلى في المسجد صلى أربعا، وإن صلى في بيته صلى ركعتين، وهو قول إسحاق، واستدل - أيضا - بقول عمر وابن مسعود. ولا يصلى ركعتين بعد مكتوبة مثلها.
قال: فإذا صلى في المسجد ركعتين فقد صلى بعد المكتوبة مثلها، فيصلي أربعا، وأما إذا صلى في بيته ركعتين؛ فإن المشي إلى بيته فاصل بين المكتوبة وغيرها.
وقالت طائفة: يجمع بينهما على وجه آخر، وهو أن الإمام يصلي في بيته
ركعتين، والمأموم يصلي أربعا في المسجد، وهذا قول أبي خيثمة زهير بن حرب وأبي إسحاق الجوزجاني. وتبويب النسائي يدل عليه - أيضا.
وكان علي بن أبي طالب يأمر بصلاة ست ركعتات بعد الجمعة.
وكان ابن مسعود يأمر بأربع.
قال عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي: علمنا عبد الله بن مسعود أن نصلي بعد الجمعة أربعا، ثم جاء علي بن أبي طالب،(8/323)
فعلمنا أن نصلي ستا.
وكان عمران بن حصين يصلي بعد الجمعة أربعا.
وروي عن علي من وجه آخر منقطع.
وعن أبي موسى الأشعري، أنه كان يصلي ستا.
وكان الحسن يصلي ركعتين، ومسروق يصلي ركعتين، ثم أربعا.
ونص الشافعي في " الأم "، أنه يصلي بعد الجمعة أربعا.
وحكي الترمذي، عنه، أنه يصلي ركعتين.
وقد تقدم عن ابن عمر، أنه كان يصلي في بيته ركعتين وفي المسجد ستا: ركعتين، ثم أربعا، يفصل بينهما.
وقال ابن عيينة: يصلي ركعتين، يسلم فيهما، ثم يصلي أربعا، لا يسلم إلا في آخرهن.
وقال أحمد - في رواية عنه -: إن شاء صلى أربعا، وإن شاء صلى ستا.
ولا يكره ترك الصلاة بعد الجمعة أحيانا -: نص(8/324)
عليه أحمد، واستدل بأن عمران بن حصين تركها مرة، حيث كان يصلي أربعا بعد صلاة الجمعة خلف
زياد، فقيل عنه: إنه لا يعتد بصلاته خلف زياد، فأنكر ذلك، ثم صلى الجمعة الثانية، ولم يصل شيئا حتى صلى العصر.
وأما مكان الصلاة بعد الجمعة، فالأفضل أن يكون في البيت لمن له بيت يرجع إليه، كما كان ابن عمر يفعله ويأمر به.
فإن صلى في المسجد، فهل يكره، أم لا؟
ذهب الأكثرون إلى أنه لا يكره، ولكن يؤمر بالفصل بينها وبين صلاة الجمعة.
وقد سبق حديث السائب بن يزيد، عن معاوية في ذلك.
وقال عكرمة: إذا صليت الجمعة، فلا تصلها بركعتين حتى تفصل بينهما بتحول أو كلام.
وقال قتادة: رأى ابن عمر رجلا يصلي في مقامه الذي صلى فيه الجمعة، فنهاه عنه، وقال: ألا أراك تصلي في مقامك؟ قال: نعم. قال قتادة: فذكرت ذلك لابن المسيب، فقال: إنما يكره ذلك للإمام يوم الجمعة.
ومذهب مالك: أنه يكره للإمام أن يصلي بعد الجمعة في المسجد، ولا يكره للمأموم، إذا انتقل من موضع مصلاه، وقد روي عن ابن عمر.
قال عبد الرزاق: أخبرني ابن جريج:(8/325)
أخبرني عطاء، أن عمرو بن سعيد صلى الجمعة، ثم ركع على إثرها ركعتين في المسجد، فنهاه ابن عمر عن ذلك، وقال: أما الإمام فلا، إذا صليت فانقلب فصل في بيتك ما بدا لك، إلا أن تطوف، وأما الناس، فإنهم يصلون في المسجد.
وفي صلاة الإمام في الجامع بعد الجمعة حديث، من رواية عاصم بن سويد، عن محمد بن موسى بن الحارث، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، قال: أتى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بني عمرو بن عوف يوم الأربعاء، فقال: " لو أنكم إذا جئتم عيدكم هذا صليتم حتى تسمعوا من قولي ". قالوا: نعم، بأبينا أنت يا رسول الله وأمهاتنا. قال: فلما حضروا الجمعة صلى لهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجمعة، ثم صلى ركعتين بعد الجمعة في المسجد، ولم ير يصلي بعد الجمعة في المسجد، وكان ينصرف إلى بيته قبل ذلك اليوم.
خرجه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم.
وقال: صحيح الإسناد.
وقال بعض المتأخرين: محمد بن موسى بن الحارث لا يعرف.
وخرجه البزار في " مسنده "، وعنده: عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبيه، عن جابر.
فإن كان ذلك محفوظا، فهو موسى بن(8/326)
محمد بن إبراهيم التيمي، وهو منكر الحديث جدا.
وخرج النسائي من رواية شعبة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين، يطيل فيهما، ويقول: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله.
وذكر إطالة الركعتين بعد الجمعة غريب.
وقد روى غير واحد، عن أيوب في هذا الحديث: أن الإطالة إنما كانت في الصلاة قبل الجمعة، كما سنذكره.
وقد بوب البخاري على " الصلاة بعد الجمعة وقبلها "، كما بوب عليه عبد الرزاق والترمذي في " كتابيهما "، إلا أنهما ذكرا في الصلاة قبلها آثارا موقوفة غير مرفوعة، ولم يذكر البخاري فيها شيئا، إما لأن المرفوع فيها ليس على شرطه، وفيها أحاديث مرفوعة في أسانيدها نظر، أو لأن الذي فيها كله موقوف، فلم يذكره لذلك.
أو لأنه اجتزأ عنه بحديث سلمان الذي خرجه فيما تقدم في موضعين؛ فإن فيه: " وصلى ما كتب له، ثم أنصت إذا تكلم الإمام "؛ فإن هذا يدل على فضل الصلاة قبل الجمعة، لا سيما وفيه - في إحدى الروايتين(8/327)
للبخاري -: " ثم راح "، والرواح حقيقة لا يكون حقيقة إلا بعد الزوال، كما سبق ذكره.
فعلى هذا، يكون ترغيبا في الصلاة بعد زوال الشمس يوم الجمعة من غير تقدير للصلاة، فيكون أقل ذلك ركعتين، والزيادة عليهما بحسب التيسير.
وإن قيل: إن الرواح هنا بمعنى الذهاب، فإنه يدل على استحباب الصلاة يوم الجمعة قبل خروج الإمام من غير تفضيل بين ما قبل زوال الشمس وبعده.
وروى ابن علية، عن أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة، ويصلي بعدها ركعتين في بيته، ويحدث أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك.
خرجه أبو داود.
وخرجه الإمام أحمد من طريق وهيب، عن أيوب، عن نافع، أن ابن عمر كان يغدو إلى المسجد يوم الجمعة، فيصلي ركعات يطيل فيهن القيام،
فإذا انصرف الإمام رجع إلى بيته، فصلى ركعتين، وقال: هكذا كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل.
وظاهر هذا: يدل على رفع جميع ذلك إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صلاته قبل الجمعة وبعدها في بيته؛ فإن اسم الإشارة يتناول كل ما قبله مما قرب وبعد، صرح به غير واحد من الفقهاء والأصوليين.
وهذا فيما وضع(8/328)
للإشارة إلى البعيد أظهر، مثل لفظة: " ذلك "؛ فإن تخصيص القريب بها دون البعيد يخالف وضعها لغة.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر يصلي قبل الجمعة اثنتي عشرة ركعة.
وعن ابن جريج أنه قال لعطاء: بلغني أنك تركع قبل الجمعة ثنتي عشرة ركعة، فما بلغك في ذلك؟ فذكر له حديث أم حبيبة المرفوع: " من ركع ثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة - سوى المكتوبة - بنى الله له بيتا في الجنة ".
وقد تقدم عن ابن مسعود، أنه كان يأمر أن يصلي قبل الجمعة أربعا.
وروى الطحاوي بإسناده عن جبلة بن سحيم قال: كان ابن عمر يصلي قبل الجمعة أربعا لا يفصل بينهن بسلام وبعد الجمعة ركعتين ثم أربعا.
وروى ابن سعد في " طبقاته " بإسناده، عن صفية بنت حيي أم المؤمنين، أنها صلت الجمعة مع الإمام، فصلت قبل خروجه أربعا.
وقال النخعي: كانوا يحبون أن يصلوا قبل الجمعة أربعا.
خرجه ابن أبي الدنيا في " كتاب العيدين " بإسناد صحيح.(8/329)
وقد روى ابن أبي خيثمة في " تاريخه " من طريق الأعمش، عن النخعي، قال: ما قلت لكم: كانوا يستحبون، فهو الذي أجمعوا عليه.
وممن ذهب إلى استحباب أربع ركعات قبل الجمعة: حبيب بن أبي ثابت والنخعي والثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق.
وروى حرب بإسناده، عن ابن عباس، أنه كان يصلي يوم الجمعة في بيته أربع ركعات، ثم يأتي المسجد فلا يصلي قبلها ولا بعدها.
وهذا يدل على أن سنة الجمعة عند ابن عباس قبلها لا بعدها.
واعلم؛ أن التطوع بالصلاة يوم الجمعة قبل الجمعة له أربعة أوقات:
أحدها: ما قبل طلوع الشمس لمن بكر إلى الجمعة حينئذ، فهذا الوقت وقت نهي عن التطوع فيه بما لا سبب له، وماله سبب كتحية المسجد فيه اختلاف، سبق ذكره في ذكر أوقات النهي.
إلا من يقول: إن يوم الجمعة كله صلاة ليس فيه وقت ينهى عن الصلاة فيه بالكلية، كما هو ظاهر كلام طاوس؛ فإنه قال: يوم الجمعة كله صلاة.
وقد قيل: إنه إنما أراد به وقت استواء الشمس خاصة.
والثاني: ما بين ارتفاع الشمس واستوائها، فيستحب التطوع فيه بما أمكن، وخصوصا لمن بكر إلى الجمعة.(8/330)
والثالث: وقت استواء الشمس وقيامها في وسط السماء.
وقد اختلفوا: هل هو وقت نهي عن الصلاة في يوم الجمعة، أم لا؟
فمنهم من قال: هو وقت نهي، كأبي حنيفة وأحمد.
ومنهم من قال: ليس بوقت نهي، وهو مذهب مكحول والأوزاعي والشافعي.
ومن أصحابه من خصه بمن حضر الجمعة دون من هو في بيته. ومنهم من خصه بمن بكر إلى الجمعة، وغلبه النعاس.
ومنهم من قال: هو وقت نهي يوم الجمعة في الصيف دون الشتاء، وهو قول عطاء وقتادة.
ومنهم من لم يره وقت نهي في جميع الأيام، كمالك.
وقد سبق الكلام عليه في ذكر أوقات النهي.
والرابع: بعد زوال الشمس، وقبل خروج الإمام، فهذا الوقت يستحب الصلاة فيه بغير خلاف نعلمه بين العلماء سلفا وخلفا، ولم يقل أحد من المسلمين: إنه يكره الصلاة يوم الجمعة، بل القول بذلك خرق لإجماع المسلمين، إنما اختلفوا في وقت قيام الشمس، كما سبق.
قال مالك: لا أكره الصلاة نصف النهار في جمعة ولا غيرها.
وقد روى في " الموطأ " حديثا مرفوعا في النهي عنه، ثم تركه؛ لأنه رأى عمل العلماء وأهل الفضل على خلافه.
فأما الصلاة بعد زوال الشمس، فلم يزل عمل المسلمين على فعله.(8/331)
وقد ذكر مالك في " الموطأ " عن الزهري، عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي، أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون حتى يخرج عمر ويجلس على المنبر، فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذنون جلسوا يتحدثون، فإذا اسكت المؤذن وقام عمر سكتوا ولم يتكلم أحد.
وهذا تصريح باستمرارهم في الصلاة إلى ما بعد زوال الشمس، وهو مما يستدل به على الصلاة وقت استواء الشمس وقيامها يوم الجمعة.
وقد وردت آثار آخر، تدل على أنهم كانوا يتركون الصلاة وقت قيام الشمس
يوم الجمعة، فإذا زالت قاموا إلى الصلاة.
وروى الأثرم بإسناده، عن عمرو بن سعيد بن العاص، قال: كنت أبقى - يعني: أنتظر - أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا زالت الشمس قاموا فصلوا أربعا.
وبإسناده، عن أبي بكر بن عياش، قال: كنا نكون مع حبيب بن أبي ثابت في الجمعة، فيقول: أزالت الشمس بعد، ويلتفت فينتظر، فإذا زالت الشمس، قام فصلى الأربع قبل الجمعة.
وبإسناده، عن حماد بن زيد، قال: كنت أمر بابن عون يوم الجمعة، فنمضي إلى الجمعة، فيقول لي: الشمس عندكم أبين منها عندنا، فنرى الشمس زالت.
قال حماد: كأنه يكره الصلاة حتى تزول الشمس.
وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ في " مسائله للإمام أحمد ": رأيت أبا عبد الله - يعني: أحمد - إذا كان يوم الجمعة يصلي إلى أن يعلم أن الشمس قد قاربت أن تزول، فإذا قاربت أمسك عن الصلاة حتى يؤذن(8/332)
المؤذن، فإذا أخذ في الأذان قام فصلى ركعتين أو أربعا، يفصل بينها بالسلام.
وقال - أيضا -: رأيت أبا عبد الله إذا أذن المؤذن يوم الجمعة صلى ركعتين، وربما صلى أربعا على خفة الأذان وطوله.
ومما يدل على استحباب الصلاة في هذا الوقت يوم الجمعة: أنه وقت يرجى فيه ساعة الإجابة، فالمصلي فيه يدخل في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يوافقها عبد قائم يصلي، يسأل الله شيئا، إلا أعطاه ".
وقد اختلف في الصلاة قبل الجمعة: هل هي من السنن الرواتب كسنة الظهر قبلها، أم هي مستحبة مرغب فيها كالصلاة قبل العصر؟
وأكثر العلماء على أنها سنة راتبة، منهم: الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وهو ظاهر كلام أحمد، وقد ذكره القاضي أبو يعلى في " شرح المذهب " وابن عقيل، وهو الصحيح عند أصحاب الشافعي.
وقال كثير من متأخري أصحابنا: ليست سنة راتبة، بل مستحبة.
وقد زعم بعضهم: أن حديث ابن عمر المخرج في هذا الباب يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يصلي قبل الجمعة شيئا؛ لأنه ذكر صلاته بعد الجمعة، وذكر صلاته قبل الظهر وبعدها، فدل على الفرق بينهما.
وهذا ليس بشيء؛ فإن ابن عمر قد روي عنه ما يدل على صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل الجمعة، كما سبق، ولعله إنما ذكر الركعتين بعد الجمعة؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصليهما في بيته، بخلاف الركعتين قبل الظهر وبعدها؛(8/333)
فإنه كان أحيانا يصليها في المسجد، فبهذا يظهر الفرق بينهما.
وقد ثبت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا عمل عملا داوم عليه، ولم يكن ينقصه يوم الجمعة ولا غيرها، بل كان الناس يتوهمون أنه كان يزيد في صلاته يوم الجمعة بخصوصه، فكانت عائشة تسأل عن ذلك، فتقول: لا، بل كان عمله ديمة.
وقد صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يصلي قبل الظهر ركعتين أو أربعا.
وفي " صحيح ابن حبان "، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج صلى ركعتين.
ورويناه من وجه آخر عن عائشة، قالت: ما خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عندي قط إلا صلى ركعتين.
وقد كان من هدي المسلمين صلاة ركعتين عند خروجهم من بيوتهم، من الصحابة ومن بعدهم، وخصوصا يوم الجمعة، وممن كان يفعله يوم الجمعة ابن
عباس وطاوس وأبو مجلز، ورغب فيه الزهري.
وقال الأوزاعي: كان ذلك من هدي المسلمين.
وقد سبق في " باب: الصلاة إذا دخل المسجد والإمام يخطب " ما يدل على ذلك - أيضا.
وحينئذ؛ فلا يستنكر أن يكون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في بيته ركعتين قبل خروجه إلى الجمعة.(8/334)
فإن قيل: فهو كان يخرج إلى الجمعة عقب الزوال من غير فصل؛ بدليل ما سبق من الأحاديث من صلاته الجمعة إذا زالت الشمس.
قيل: هذه دعوى باطلة، لا برهان عليها، ولو كانت حقا لكانت خطبته دائما أو غالبا قبل الزوال، إذا كانت صلاته عقب زوال الشمس من غير فصل، ولم يقل ذلك أحد.
وأيضا؛ فقد روي أنه كان يصلي الظهر إذا زالت الشمس، كما تقدم في " المواقيت " ولم يقل أحد: إنه يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يصلي قبل الظهر شيئا.
وقد كتبت في هذه المسألة جزءا مفردا، سميته: " نفي البدعة عن الصلاة قبل الجمعة "، ثم اعترض عليه بعض الفقهاء المشار إليه في زماننا، فأجبت عما اعترض به في جزء آخر، سميته: " إزالة الشنعة عن الصلاة قبل الجمعة "، فمن أحب الزيادة على ما ذكرناه ها هنا، فليقف عليهما - إن شاء الله تعالى.(8/335)
40 - باب قول الله عز وجل: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) [الجمعة: 10] الآية(8/336)
938 - حدثنا سعيد بن أبي مريم: ثنا أبو غسان: حدثني أبو حازم، عن سهل ابن سعد، قال: كانت فينا امرأة تجعل على أربعاء في مزرعة لها سلقا، فكانت إذا كان يوم الجمعة تنزع أصول السلف، فتجعله في قدر، ثم تجعل عليه قبضة من شعير تطحنها، فتكون أصول السلق عرقه، وكنا ننصرف من صلاة الجمعة فنسلم عليها، فتقرب ذلك الطعام إلينا، فنلعقه، فكنا نتمنى يوم الجمعة لطعامها ذلك.(8/336)
939 - حدثنا عبد الله بن مسلمة: نا ابن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد - بهذا، وقال: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة.
المقصود من هذا الحديث ها هنا: أن الصحابة لم يكونوا يجلسون بعد صلاة الجمعة في المسجد إلى العصر لانتظار الصلاة - كما ورد في الحديث المرفوع أنه يعدل [عمرة] وقد خرجه البيهقي بإسناد ضعيف، وقد سبق ذكره - وإنما كانوا يخرجون من المسجد ينتشرون في الأرض،(8/336)
فمنهم من كان ينصرف لتجارة، ومنهم من كان يزور أصحابه وإخوانه، وكانوا يجتمعون على ضيافة هذه المرأة.
وقد ذهب بعضهم إلى [أن] الأمر بالانتشار بعد الصلاة للاستحباب، كان عراك بن مالك إذا خرج من المسجد يوم الجمعة [قال] : اللهم، أجبت دعوتك، وقضيت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين.
خرجه ابن أبي حاتم وغيره.
وهذا يدل على أنه رأى قوله تعالى: (فانتشروا في الأرض) [الجمعة: 10] أمرا على ظاهره.
وخرج - أيضا - بإسناده، عن عمران بن قيس، قال: من باع واشترى يوم الجمعة بارك الله له سبعين مرة.
قال بعض رواته: وذهب بعد صلاة الجمعة؛ لهذه الآية.
وذهب الأكثرون إلى أنه ليس بأمر حقيقة، وإنما هو إذن وإباحة، حيث كان بعد النهي عن البيع، فهو إطلاق من محظور، فيفيد الإباحة خاصة.
وكذا قال عطاء ومجاهد والضحاك ومقاتل بن حيان وابن زيد وغيرهم.
وروى أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في " كتاب الشافي " بإسناد لا(8/337)
يصح، عن أنس - مرفوعا - في قوله تعالى: (فانتشروا في الأرض) ، قال: " ليس بطلب دنيا، ولكن عيادة مريض، وتشييع جنازة، وزيارة أخ في الله ".
وفي حديث سهل: دليل على زيارة الرجال للمرأة، وإجابتهم لدعوتها، وعلى استحباب الضيافة يوم الجمعة خصوصا لفقراء المسلمين، فإطعام الفقراء فيه حسن مرغب فيه.
وفيه: أن فرح الفقير بوجود ما يأكل وتمنيه لذلك غير قادح في فقره، ولا مناف لصبره، بل ولا لرضاه.
وفي الحديث ألفاظ تستغرب:
ف " الأربعاء ": جداول الماء في الأرض، واحدها: " ربيع ".
وقوله: " فيكون أصول السلق عرقه " - وفي رواية: " عراقه " -، وهو بالعين المهملة والقاف، والعرق والعراق: اللحم.
والمعنى: أن أصول السلق تصير في هذا الطعام كاللحم لما يطبخ باللحم من الأطعمة.
ورواه بعضهم: " غرفه " - بالغين المعجمة والفاء -، وفسر ب " المرقة "؛ فإنها تغرف باليد.
وهذا بعيد؛ فإن أصول السلق لا تصير بغرف.
وقوله: " فنعلقه " أي: نلحسه، وهذا يدل على أنه كان قد ثخن.
وقيل: الفرق بين اللحس واللعق: أن اللحس يختص بالأصبع، واللعق يكون بالأصبع وبآلة يلعق بها كالملعقة.(8/338)
48 - باب القائلة بعد الجمعة(8/339)
940 - حدثني محمد بن عقبة الشيباني الكوفي: نا أبو إسحاق الفزاري، عن حميد، عن أنس، قال: كنا نبكر إلى الجمعة ثم نقيل.(8/339)
941 - حدثني سعيد بن أبي مريم: نا أبو غسان: حدثني أبو حازم، عن سهل بن سعد، قال: كنا نصلي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجمعة، ثم تكون القائلة.
هذا من أوضح دليل على أنهم كانوا يبكرون إلى الجمعة من أول النهار، فيمنعهم التبكير من القائلة في وقتها، فلا يتمكنون منها إلا بعد الصلاة، ولو كانوا يأتون الجمعة بعد الزوال لم يمتنعوا من القائلة بإتيان الجمعة.
وقد تعلق بذلك مني قول: إن الجمعة كانت تقام قبل زوال الشمس؛ لأنها لا تسمى قائلة إلا قبل الزوال، وكذا الغداء.
وقد مضى في الباب الذي قبله، عن سهل بن سعد، قال: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة.
وربما أشار الإمام أحمد إلى ذلك.
وأما الجمهور، فقالوا: سمي نومهم وأكلهم بعد الزوال في الجمعة " قائلة " و" غداء " باعتبار أنه قضاء لما يعتادونه في غير الجمعة من النوم والأكل قبل الزوال، فلما أخروه يوم الجمعة إلى بعد ذلك سمي ذلك باعتبار محله الأصلي الذي أخر عنه.
ويشبهه: تسمية السحور غداء؛ لأنه يقوم مقام الغداء، وإن تقدم عليه في وقته.
ويدل - أيضا - نومهم وغداؤهم بعد الجمعة على أنهم لم يكونوا(8/339)
كلهم ينتظرون صلاة العصر في المسجد بعد الجمعة؛ فإنهم إن واصلوا الجلوس لانتظار العصر من غير نوم ولا أكل شق عليهم، وحصل لهم ضرر، ويوم الجمعة يوم عيد، فينهي عن إفراده بالصيام، وإن تأخروا لأجل انتظار العصر في المجيء إلى الجمعة فاتهم التبكير إليها، وهو أفضل من انتظار العصر، فكان المحافظة على التبكير إلى الجمعة مع الانصراف عقيب صلاتها أولى.
وكان الإمام أحمد يبكر إلى الجمعة، وينصرف أول الناس -: ذكره الخلال في " الجامع ". والله سبحانه وتعالى أعلم.(8/340)
بسم الله الرحمن الرحيم(8/341)
1 - صلاة الخوف
وقول الله - عز وجل -: {وَإذا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً - وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَأبا مُهِيناً} [النساء: 101 - 102] قوله تعالى: {وَإذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
قد ذكر طائفة من السلف أنها نزلت في صلاة في السفر، لا في صلاة السفر بمجرده؛ ولهذا ذكر عقبيها قوله تعالى: {وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} ، ثم ذكر صفة صلاة الخوف، فكان ذلك تفسيرا للقصر المذكور في الآية الأولى. وهذا هو الذي يشير إليه البخاري، وهو مروي عن مجاهد والسدي والضحاك وغيريهم، واختاره ابن جرير وغيره.(8/341)
وتقدير هذا من وجهين:
أحدهما: أن المراد بقصر الصلاة قصر أركانها بالإيماء ونحوه، وقصر عدد الصلاة إلى ركعة. فأما صلاة السفر، فإنها ركعتان، وهي تمام غير قصر، كما قاله عمر - رضي الله عنه -.
وروى سماك الحنفي، قال: سمعت ابن عمر يقول: الركعتان في السفر تمام غير قصر، إنما القصر صلاة المخافة.
خرجه ابن جرير وغيره.
وروى ابن المبارك عن المسعودي، عن يزيد الفقير، قال: سمعت جابر بن عبد الله يسأل عن الركعتين في السفر: أقصرٌهما؟ قالَ: إنما القصر ركعةٌ عندَ القتال، وإن الركعتين في السفر ليستا بقصرٍ.
وخرج الجوزجاني من طريق زائدة بن عمير الطائي، أنه سأل ابن عباس عن تقصير الصلاة في السفر؟ قال: إنها ليست بتقصير، هما ركعتان من حين تخرج من أهلك إلى أن ترجع إليهم.(8/342)
وخرج الإمام أحمد بإسناد منقطع، عن ابن عباس، قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين ركعتين، وحين أقام أربعا أربعا.
وقال ابن عباس: فمن صلى في السفر أربعا كمن صلى في الحضر ركعتين.
وقال ابن عباس: لم تقصر الصلاة إلاّ مرة واحدة حيث صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين، وصلى الناس ركعة واحدة. يعني: في الخوف.
وروى وكيع، عن سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف ركعة ركعة. قال سعيد: كيف تكون مقصورة وهما ركعتان.
والوجه الثاني: أن القصر المذكور في هذه الآية مطلق، يدخل فيه قصر العدد، وقصر الأركان ومجموع ذلك يختص بحالة الخوف في السفر، فأما إذا انفرد أحد الأمرين - وهو السفر أو الخوف - فإنه يختص بأحد نوعي القصر، فانفراد السفر يختص بقصر العدد، وانفراد الخوف يختص بقصر الأركان. لكن هذا ممالم يفهم من ظاهر القرآن، وإنما بين دلالةٌ عليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والآية لا تنافيه. وإن كان ظاهرها لا يدل عليه. والله سبحانه وتعالى(8/343)
أعلم.
وقيل: إن قوله: {وَإذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} نزلت بسبب القصر في السفر من غير خوف، وإن بقية الآية مع الآيتين بعدها نزلت بسبب صلاة الخوف 0
روي ذلك عن عَلِيّ - رضي الله عنه -.
خرجه ابن جرير، عنه بإسناد ضعيف جداً، لايصح. والله - سبحانه وتعالى - أعلم.
وقد روي ما يدل على أن الآية الأولى المذكور فيها قصر الصلاة إنما نزلت في صلاة الخوف.
فروى منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي، قال: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعُسفان - وعلى المشركين خالد بن الوليد - فصلينا الظهر، فقال المشركونَ: لقد أصبنا غرةً، لقدأصبنا غفلةً، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر، فلما حضرت العصر قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستقبل القبلة والمشركون
أمامه، فصف خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صف، وصف بعد ذلك الصف صف آخر، فركع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركعوا جميعاً، ثم سجدوا وسجد الصف الذين يلونه، وقام الآخرون يحرسونهم، فلما صلى هؤلاء سجدتين وقاموا، سجد الآخرون الذين كانوا خلفه، ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدم الصف(8/344)
الآخر إلى مقام الصف الأول، ثم ركع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركعوا جميعاً، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الاخرون يحرسونهم، فلما جلس رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصف الذي يليه سجد الآخرون، ثم جلسوا جميعاً فسلم عليهم جميعاً، فصلاها بعسفان، وصلاها يوم بني سليم.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود - وهذا لفظه - والنسائي وابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم.
وقال: على شرطهما.
وفي رواية للنسائي وابن حبان، عن مجاهد: نا أبو عياش الزرقي،(8/345)
قال: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - فذكره.
ورد ابن حبان بذلك على من زعم: أن مجاهداً لم يسمعه من أبي عياش، وأن أبا عياش لا صحبة له.
كأنه يشير إلى ما نقله الترمذي في ((علله)) عن البخاري، أنه قال: كل الروايات عندي صحيحٌ في صلاة الخوف، إلاحديث مجاهد، عن أبي عياش الزرقي، فأني أراه مرسلاً.
وابن حبان لم يفهم ما أراده البخاري، فإن البخاري لم ينكر أن يكون أبو عياش له صحبةٌ، وقد عدَة في ((تاريخه)) من الصحابة، ولا أنكر سماع مجاهد من أبي عياش، وإنما مراده: أن هذا الحديث الصواب: عن مجاهد إرساله عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير ذكر أبي عياش؛ كذلك رواه أصحاب مجاهد، عنه بخلاف رواية منصور، عنه، فرواه عكرمة بن خالد وعمر بن ذر وأيوب بن موسى ثلاثتهم، عن مجاهد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً من غير ذكر أبي عياش.(8/346)
وهذا أصح عند البخاري، وكذلك صحح إرساله عبد العزيز النخشبي وغيره من الحفاظ.
وأما أبو حاتم الرازي، فإنه قال - في حديث منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش -: إنه صحيح. قيل له: فهذه الزيادة ((فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر)) محفوظةٌ هي؟ قال: نعم.
وقال الإمام أحمد: كل حديث روي في صلاة الخوف فهو صحيح.
وقد جاء في رواية: فنزلت {وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} وهذا لاينافي رواية: ((فنزلت آية القصر)) بل تبين أنه لم تنزل آية القصر بانفرادها في هذا اليوم، بل نزل معها الآيتان بعدها في صلاة الخوف. وهذا كله مما يشهد لان آية القصر أريد بها قصر الخوف في السفر، وإن دلت على قصر السفر بغير خوف بوجه من الدلالة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال البخاري - رحمه الله -:(8/347)
942 - نا أبو اليمان: ثنا شعيب، عن الزهري، قال: سألته: هل صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف؟ فقالَ أخبرني سالم، أن عبد الله بن عمر قالَ: غزوت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل نجد، فوازينا العدو، فصاففنا لهم، فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي لنا، فقامت طائفة معه وأقبلت طائفة على العدو، وركع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمن معه وسجد سجدتين، ثُمَّ انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل، فجاءوا فركع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهم ركعة وسجد سجدتين، ((ثُمَّ سلم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين)) .
وخرجه في موضع آخر من رواية معمر.
وخرجه مسلم من رواية معمر وفليح كلاهما، عن الزهري، به - بمعناه. وقد روي عن حذيفة نحو رواية ابن عمر - أيضا.
وخرجه الطبراني من رواية حكام بن سلم، عن أبي جعفر الرازي، عن قتادة، عن أبي العالية، قال: صلى بنا أبو موسى الأشعري بأصبهان صلاة الخوف.
وما كان كبير خوفٍ؛ ليرينا صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقام فكبر، وكبر معه طائفة من القوم، وطائفة بإزاءالعدو، فصلى بهم ركعة(8/348)
فانصرفوا، وقاموا مقام اخوانهم، فجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعة أخرى، ثُمَّ سلم، فصلى كل واحد منهم الركعة الثانية وحدانا.
ورواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي العالية، أن أبا موسى كان بالدار من أرض اصبهان، وما بها كبير خوف، ولكن أحب أن يعلمهم دينهم وسنة نبيهم، فجعلهم صفين: طائفة معها السلاح مقبلة على عدوها، وطائفة من ورائها، فصلى بالذين بإزائه ركعة، ثم نكصوا على أدبارهم حتى قاموا مقام الأخرى، وجاءوا يتخللونهم حتى قاموا وراءه فصلى بهم ركعة أخرى، ثم سلم، فقام الذين يلونه والآخرون فصلوا ركعة ركعة، ثم سلم بعضهم على بعض، فتمت للإمام ركعتان في جماعة، وللناس ركعة ركعة. يعني في جماعة.
خرجه ابن أبي شيبة، وعنه بقي بن مخلد في مسنده.
وهو إسناد جيد. وهو في حكم المرفوع؛ لما ذكر فيه من تعليمهم بسنة نبيهم.
ورواه أبو داود الطيالسي، عن أبي حرة، عن الحسن، عن أبي موسى، أن رسول الله ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بأصحابه –فذكر نحوه، وفيه زيادة على حديث ابن عمر: أن الطائفة الأولى لما صلت ركعة وذهبت لم تستدبر(8/349)
القبلة، بل نكصت على أدبارها.
وروي - أيضا - عن ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحو ذلك، من رواية خصيف، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف، فقاموا صفين، فقام صف خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصف مستقبل العدو، فصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصف الذين يلونه ركعة، ثم قاموا فذهبوا، فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو، وجاءوا أولئك فقاموا مقامهم، فصلى بهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعة، ثم سلم، ثم قاموا فصلوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا ثم ذهبوا، فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو، ورجع أولئك إلى مقامهم، فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا.
خرجه الإمام أحمد –وهذا لفظه - وأبو داود – بمعناه.
وخصيف، مختلف في أمره. وأبو عبيدة، لم يسمع من أبيه، لكن رواياته عنه أخذها عن أهل بيته، فهي صحيحة عندهم. وهذه الصفة توافق حديث ابن عمر وحذيفة، إلاّ في تقدم الطائفة(8/350)
الثانية بقضاء ركعة.
وذهابهم إلى مقام أولئك مستقبلي العدو، ثُمَّ مجيء الطائفة الأولى إلى مقامهم فقضوا ركعة.
وحديث ابن عمر وحذيفة فيهما: قيام الطائفتين يقضون لأنفسهم، وظاهره: أنهم قاموا جملة وقضوا ركعة ركعة واحدانا.
وقد رواه جماعة، عن خصيف، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود، وزادوا فيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر وكبرالصفان معه جميعاً. وقد خرجه كذلك الإمام أحمد وأبو داود.
وزاد الإمام أحمد: ((وهم في صلاة كلهم)) واختلف العلماء في صلاة الخوف على الصفة المذكورة في حديث ابن عمر، وما وافقه: فذهب الأكثرون إلى أنها جائزة وحسنة، وإن كان غيرها أفضل منها، هذا قول الشافعي –في أصح قوليه - وأحمد وإسحاق وغيرهم.
وقالت طائفة: هي غير جائزة على هذه الصفة؛ لكثرة ما فيها من الأعمال المباينة للصلاة من استدبار القبلة والمشي الكثير، والتخلف عن الإمام، وادعوا أنها منسوخة، وهو أحد القولين للشافعي.
ودعوى النسخ هاهنا لا دليل عليها.(8/351)
وقالت طائفة: هي جائزة كغيرها من أنواع صلاة الخوف الواردة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا فضل لبعضها على بعض، وهو قول إسحاق: نقله عن ابن منصور ونقل حرب، عن إسحاق، أن حديث ابن عمر وابن مسعود يعمل به إذا كان العدو في غير جهة القبلة.
وكذلك حكى بعض أصحاب سفيان كلام سفيان في العمل بحديث ابن عمر على ذلك.
وقالت طائفة: هي افضل انواع صلاة الخوف، هذا قول النخعي، واهل الكوفة وأبي حنيفة وأصحابه، ورواية عن سفيان، وحكي عن الأوزاعي واشهب المالكي.
وروى نافع، ان ابن عمر كان يعلم الناس صلاة الخوف على هذا الوجه. وحكي عن الحسن بن صالح، أنه ذهب إلى حديث ابن مسعود، وفيه: أن الطائفة الثانية تصلي مع الإمام الركعة الثانية، ثم إذا سلم قضت ركعة، ثم ذهبت إلى مكان الطائفة الأولى، ثم قضت الطائفة الأولى ركعة، ثم تسلم وقد قيل: إن هذا هو قول أشهب.
وحكى ابن عبد البر، عن أحمد، أنه ذهب إلى هذا –أيضا.
وقال بعض أصحابنا: هو أحسن من الصلاة على حديث ابن عمر؛(8/352)
لأن صلاة الطائفة الثانية خلت عن مفسد بالكلية.
وحكي عن أبي يوسف ومحمد والحسن بن زياد والمزني: أن صلاة الخوف لا تجوز بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لظاهر قول الله تعالى: {وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] الآية. قالوا: وإنما يصلي الناس صلاة الخوف بعده بإمامين، كل إمام يصلي بطائفة صلاة تامة، ويسلم بهم.
وهذا مردود باجتماع الصحابة على صلاتها في حروبهم بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد صلاها بعده: علي بن أبي طالب، وحذيفة بن اليمان، وأبو موسى الاشعري، مع حضور غيرهم من الصحابة، ولم ينكره أحد منهم.
وكان ابن عمر وغيره يعلمون الناس صلاة الخوف، وجابر، وابن عباس وغيرهما يروونها للناس تعليما لهم، ولم يقل أحد منهم: أن ذلك من خصائص النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخطابه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ? لا يمنع مشاركة أمته له في الأحكام، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِم} [التوبة: 103]
وحكي عن مالك، أنها تجوز في السفر دون الحضر، وهو قول(8/353)
عبد الملك بن الماجشون من أصحابه.
ويحتج له بحمل اية القصر على صلاة الخوف، وقد شرط لها شرطان: السفر والخوف، كما سبق؛ ولأن النَّبيّ ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كانَ يصلي صلاة الخوف في أسفاره، ولم يصلها في الحضر مع أنه حوصر بالمدينة عام الخندق، وطالت مدة الحصار، واشتد الخوف، ولم يصل فيها صلاة الخوف. وقد قيل: إن صلاة الخوف إنما شرعت بعد غزوة الأحزاب في السنة السابعة.
وقد ذكر البخاري في ((المغازي)) من كتابه هذا - تعليقا - من حديث عمران القطان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر، قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأصحابه في الخوف في غزوة السابعة: غزوة ذات الرقاع.
وخرجه الإمام أحمد من رواية ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: غزا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ست مرار قبل صلاة الخوف، وكانت صلاة الخوف في السابعة.
وقد تقدم في حديث أبي عياش، أن أول صلاة الخوف كانت بعسفان وعلى المشركين خالد.
وقد روى الواقدي بإسناد له، عن خالد بن الوليد، أن ذلك كان في مخرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عمرة الحديبية.(8/354)
وقد تقدم أن أبا موسى صلى بأصبهان هذه الصلاة، ولم يكن هناك كبير خوف، وإنما صلى بهم ليعلمهم سنة صلاة الخوف.
وهذا قد يحمل على أنه كان ثم خوف يبيح هذه الصلاة، ولم يكن وجد خوف شديد يبيح بالإيماء.
وقد قال أصحابنا وأصحاب الشافعي: لو صلى صلاة الخوف على ما في حديث ابن عمر في غير خوف لم تصح صلاة المأمومين كلهم؛ لإتيانهم بما لا تصح معه الصلاة في غير حالة الخوف من المشي والتخلف عن الإمام.
فأما الإمام، فلأصحابنا في صلاته وجهان، بناء على أن الإمام إذا بطلت صلاة من خلفه، فهل تبطل صلاته لنيته الإمامة وهو منفرد، أو يتمها منفردا وتصح؟ وفيه وجهان للأصحاب.(8/355)
2 - باب
صلاة الخوف رجالاً وركباناً
راجلٌ: قائمٌ.(8/356)
943 – حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد القرشي: أنا أبي: نا ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر - نحوا من قول مجاهد: إذا اختلطوا قياما.
وزاد ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وإن كانوا أكثر من ذلك فليصلوا قياما
وركبانا)) .
وخرج مسلم من حديث سفيان عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ذهبوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة، ثم قضت الطائفتان ركعة، ركعة. قالَ: وقال ابن عمر: فإذا كان خوف أكثر من ذلك فصل راكبا أو قائما تومىء إيماء.
فجعل هذا الوجه من قول ابن عمر، ولم يرفعه.
وروى أبو إسحاق الفزاري، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر الحديث مرفوعا، ولم يذكر في آخره: ((فإذا كان خوف أكثر من ذلك)) – إلى
آخره.(8/356)
وخرج ابن ماجه وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث جرير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الخوف فذكر صفتها بمعنى حديث موسى بن عقبة، وقال في آخر الحديث: فإن كان خوفا أشد من ذلك فرجالا أو ركبانا.
وقد خالف جريرا يحيى القطان وعبد الله بن نمير ومحمد بن بشر وغيرهم، رووه عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر – موقوفا كله.
ورواه مالك في ((الموطإ)) ، عن نافع عن ابن عمر – في صفة صلاة الخوف بطوله – وفي آخره: فإن كان خوفا هو أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم، أو ركبانا، مستقبلي القبلة، أو غير مستقبليها.
قال مالك: قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلاّ عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرجه البخاري في ((التفسير)) من طريق مالك كذلك.
قال ابن عبد البر: رواه مالك، عن نافع على الشك في رفعه، ورواه عن نافع جماعة لم يشكوا في رفعه، منهم: ابن أبي ذئب وموسى بن عقبة وأيوب بن موسى.(8/357)
وذكرالدارقطني: أن إسحاق الطباع رواه عن مالك ورفعه من غير شك.
وهذا الحديث ينبغي أن يضاف إلى الأحاديث التي اختلف في رفعها نافع وسالم، وهي أربعة سبق ذكرها بهذا الاختلاف في رفع أصل الحديث في صلاة الخوف عن نافع.
وبقي اختلاف آخر، وهو: في قوله في آخر الحديث: ((فإن كان [خوفا] أكثر من ذَلِكَ)) إلى آخره؛ فإن هذا قد وقفه بعض من رفع أصل الحديث، كما وقفه
سفيان، عن موسىبن عقبة، وجعله مدرجاً في الحديث.
وقد ذكر البخاري: أن ابن جريج رفعه عن موسى، وخرجه من طريقه كذلك.
وأما قول مجاهد المشار إليه في رواية البخاري: روى ابن أبي نجيح، عن مجاهد:
{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانا} [البقرة: 239] إذا وقع الخوف صلى على كل وجهةٍ، قائما أو راكبا أو ما قدر، ويومئ برأسه، ويتكلم بلسانه.(8/358)
وروى أبو إسحاق الفزاري، عن ابن أبي أنيسة، عن أبي الزبير، قال: سمعت جابرا سُئل عن الصلاة عند المسايفة؟ قالَ: ركعتين ركعتين، حيث توجهت على دابتك تومئ إيماء.
ابن أبي أنيسة، أظنه: يحيى، وهو ضعيف.
وخرجه الإسماعيلي في ((صحيحه)) ، وخرجه من طريقه البيهقي، من رواية حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن ابن كثير، عن مجاهد، قالَ: إذا اختلطوا، فإنما هو التكبير والإشارة بالرأس.
قال ابن جريج: حدثني موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمثل قول مجاهد: إذا اختلطوا، فإنما هو التكبير والإشارة بالرأس.
وزاد: عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فإن كثروا فليصلوا ركبانا أو قياما على أقدامهم)) يعني: صلاة الخوف.
وخرجه - أيضا – من رواية سعيد بن يحيى الأموي، عن أبيه، عن ابن جريج، ولفظه: عن ابن عمر – نحواً من قول مجاهد: إذا اختلطوا، فإنما هو الذكر وإشارة بالرأس.
وزاد ابن عمر: عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وإن كانوا(8/359)
أكثرمن ذلك فليصلوا قياما
وركبانا)) .
كذا قرأته بخط البيهقي.
وخرجه أبو نعيم في ((مستخرجه على صحيح البخاري)) من هذا الوجه، وعنده: ((قياما وركبانا)) وهو أصح.
وهذه الرواية أتم من رواية البخاري.
ومقصود البخاري بهذا: أن صلاة الخوف تجوز على ظهور الدواب للركبان، كما قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} ويعني: ((رجالا)) : قياما على أرجلهم، فهو جمع راجل، لا جمع رجل، و ((الركبان)) على الدواب. وقد خرج فيه حديثا مرفوعاً.
وقد روي عن ابن عمر وجابر، كما سبق.
وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المطلوب يصلي على دابته - كذلك قال عطاء بن أبي رباح، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وأبو ثور - وإذا كان طالبا نزل فصلى بالأرض.
قال الشافعي: إلا في حالة واحدة، وذلك أن يقل الطالبون عن المطلوبين، ويقطع الطالبون عن أصحابهم، فيخافون عودة المطلوبين عليهم، فإذا كانوا هكذا كان لهم أن يصلوا يومئون إيماءً. انتهى.
وممن قال: يصلي إلى دابته ويومئ: الحسن والنخعي(8/360)
والضحاك، وزاد: أنه يصلي على دابته طالبا كان أو مطلوباً.
وكذا قال الأوزاعي.
واخلفت الرواية عن أحمد: هل يصلي الطالب على دابته، أم لا يصلي إلا على الأرض؟ على روايتين عنه، إلا أن يخاف الطالب المطلوب، كما قال الشافعي، وهوقول أكثر العلماء.
قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر: أما المطلوب، فلا يختلف القول فيه، أنه يصلي على ظهر الدابة، واختلف قوله في الطالب فقالوا عنه: ينزل فيصلي على الأرض، وإن خاف على نفسه صلى وأعاد، وإن أخر فلا بأس، والقول الآخر: أنه إذا خاف أن ينقطع عن أصحابه أن يعود العدو عليه، فإنه يصلي على ظهر دابته، فإنه مثل المطلوب لخوفه، وبه أقول. انتهى.
وما حكاه عن أحمد من أن الطالب إذا خاف فإنه يصلي ويعيد، فلم يذكر به نصا عنه، بل قد نص على أنه مثل المطلوب.
قال –في رواية أبي الحارث -: إذا كان طالبا وهو لا يخالف العدو، فما علمت أحدا رخص له في الصلاة على ظهر الدابة، فإن خاف إن نزل أن ينقطع من الناس، ولا يأمن العدو فليصل على ظهر دابته ويلحق بالناس، فإنه في هذه الحال مثل المطلوب.
ونقل هذا المعنى عنه جماعة، منهم: أبو طالب والأثرم.
وله أن يصلي مستقبل القبلة وغير مستقبلها على حسب القدرة.(8/361)
وفي وجوب استفتاح الصلاة إلى القبلة روايتان عن أحمد: فمن أصحابنا من قال: الروايتان مع القدرة، فأما مع العجز فلا يجب رواية واحدة.
وقال أبو بكر عبد العزيز عكس ذلك، قالَ: يجب مع القدرة، ومع عدم الإمكان، روايتان. وهذا بعيد جدا – أعني: وجوب الاستفتاح إلى القبلة مع العجز، ولعل فائدة إيجاب الإعادة بدونه.
ولهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف رجالا وركبانا في جماعة، نص عليه أحمد، وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن.
وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: لا يصلون جماعة بل فرادى؛ لأن المحافظة على الموقف والمتابعة لا تمكن.
وقال أصحابنا ومن وافقهم: يعفى عن ذلك هاهنا، كما يعفى عن استدبار القبلة والمشي في صلوات الخوف، وإن كان مع الانفراد يمكن ترك ذَلِكَ.
قالوا: ومتى تعذرت المتابعة لم تصح الجماعة بلا خلاف.(8/362)
3 - باب
يحرس بعضهم بعضا في صلاة الخوف(8/363)
944 - حدثنا حيوة بن شريح: نا محمد بن حرب، عن الزبيدي، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، قالَ: قام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقام الناس معه، فكبر وكبروا معه، وركع وركع ناس منهم، ثم سجد وسجدوامعه، ثم قام للثانية، فقام الذين سجدوا وحرسوا اخوانهم، وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه، والناس كلهم في صلاة، ولكن يحرس بعضهم بعضا.
وخرجه النسائي عن عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير، عن محمد بن حرب بهذا الإسناد، وزاد فيه الفاظا بعد قوله: ((ثم قام إلى الركعة فتاخر الذين سجدوا معه وحرسوا أخوانهم)) .
ورواه النعمان بن راشد، عن الزهري بهذا الإسناد، وزاد فيه زيادات كثيرة، ولفظه: ((قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقمنا خلفه صفين، فكبر وركع وركعنا جميعا، الصفان كلاهما، ثم رفع رأسه، ثم خر ساجدا، وسجد الصف الذي يليه وثبت الآخرون قياما(8/363)
يحرسون أخوانهم، فلما فرغ من سجوده وقام خر الصف المؤخر سجودا، فسجد سجدتين، ثم قاموا فتأخر الصف المقدم الذي بين يديه، وتقدم الصف المؤخر، فركع وركعوا جميعا، وسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصف الذي يليه، وثبت الآخرون قياما يحرسون أخوانهم، فلما قعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خر الصف المؤخر سجودا، ثم سلم النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه الدارقطني، ومن طريقه البيهقي.
وفي هذه الرواية: أن الصفين ركعوا معه، ورواية الزبيدي تدل على أن بعضهم ركع معه، وبعضهم لم يركع.
ورواه أبو بكر بن أبي الجهم، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بذي قرد، فصف الناس خلفه صفين، صف خلفه، موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة، ولم يقضوا.
خرجه النسائي من طريق سفيان، عنه.
وخرجه الإمام أحمد، ولفظه: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف بذي قرد - أرض من أرض بني سليم -، فصف الناس خلفه صفين، صفا موازي العدو، وصفا
خلفه، فصلى بالذي يليه ركعة، ثم نكص هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وهؤلاء إلى مصاف هؤلاء، فصلى بهم ركعة أخرى.(8/364)
وفي رواية أخرى لهُ: ثم سلم، فكانت للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين، ولكل طائفة ركعة وهذه الزيادة مدرجة من قول سفيان؛ كذلك هوَ في رواية البيهقي.
وخرجه ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) .
وقال البخاري في ((المغازي)) : ((وقال ابن عباس: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخوف بذي قرد)) – ولم يزد على ذَلِكَ.
وقال الشافعي: هو حديث لا يثبت أهل العلم بالحديث مثله. قالَ: وإنما تركناه لاجتماع الأحاديث على خلافه، ولأنه لا يثبت عندنا مثله لشيء في بعض إسناده. انتهى.
وإذا اختلف أبو بكر بن أبي الجهم والزهري، فالقول قول الزهري، ولعل مسلما ترك تخريج هذا الحديث للاختلاف في متنه، وقد صحح الإمام أحمد إسناده.
قال - في رواية علي بن سعيد في صلاة(8/365)
الخوف -: قد روي ركعة وركعتان، ابن عباس يقول: ركعة ركعة، إلاّ أنه كان للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان وللقوم ركعة، وما يروى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلها صحاح.
وقال – في رواية حرب -: كل حديث روي في صلاة الخوف فهو صحيح الإسناد، وكل ما فعلت منه فهو جائز.
وقد حمل بعضهم معنى رواية أبي بكر أبي الجهم على معنى رواية الزهري، وقال: إنما المراد أن الصفين صلوا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم حرس أحد الصفين في الركعة الأولى، والآخر في الثانية، وإنما لم يقضوا بعد سلام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنهم قضوا ما تخلفوا به عنه قبل سلامه، كما في رواية النعمان بن راشد، عن الزهري.
وأما قوله: ((فكانت للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان وللقوم ركعة)) ، فهو من قول سفيان، كما هو مصرح به في رواية البيهقي، وذلك ظن ظنه، قد خالفه غيره فيهِ.
ويشهد لهذا التأويل: أنه قد روي عن ابن عباس التصريح بهذا المعنى من وجه.
خرجه الإمام أحمد والنسائي من رواية ابن إسحاق: حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قالَ: ما كانت صلاة الخوف إلا كصلاة أحراسكم هؤلاء اليوم خلف أئمتكم هؤلاء إلاّ أنها كانت عقبا، قامت طائفة منهم وهم جميعا مع
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسجدت معه طائفة، ثم قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسجد الذين كانوا قياما لأنفسهم، ثم قام الرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقاموا معه جميعاً، ثم ركع وركعوا معه جميعاً، ثم سجد فسجد معه الذين كانوا قياما أول مرة، فلما جلس رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والذين سجدوا معه في آخر صلاتهم سجد الذين كانوا(8/366)
قياما لأنفسهم، ثم جلسوا فجمعهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتسليم.
وخرج الإمام أحمد من رواية النضر أبي عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قالَ: خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ? في غزاة فلقي المشركين بعسفان فأنزل الله {وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} الآية، فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر وكانوا في القبلة صلى المسلمون خلفه صفين فكبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكبروا معه - فذكر صلاة الخوف - وفيه: تأخر الصف الذين يلونه في الركعة الثانية وتقدم الآخرين - وقال في آخر الحديث: فلما نظر إليهم المشركون يسجد بعضهم ويقوم بعضهم ينظر إليهم، قالوا: لقد أخبروا بما أردناهم.
وقال: صحيح على شرط البخاري.
وليس كما قال؛ والنضر أبو عمر، ضعيف جدا.
وخرجه البزار - أيضا.
وقد تقدم حديث أبي عياش الزرقي في صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعسفان بهذا المعنى.
وروي - أيضا - من حديث جابر، من رواية عبد الملك بن أبي سليمان، عن
عطاء، عن جابر، قالَ: شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة(8/367)
الخوف، وصفنا صفين، صف خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ? وكبرنا جميعا، ثم ركع وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود، وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع رسول الله ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحور العدو، فلما قضى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسلمنا جميعا.
قال جابر: كما يصنع حرسكم هؤلاء [بأمرائهم] .
خرجه مسلم.
وخرجه - أيضا - من رواية أبي الزبير، عن جابر، قالَ: غزونا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوما من جهينة، فقاتلونا قتالا شديدا - ثم ذكره بمعناه.
وروي - أيضا - من حديث حذيفة.
خرجه الإمام أحمد من رواية أبي إسحاق، عن سليم بن عبد السلولي، قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان، فقال: أيكم صلى مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف؟ فقالَ حذيفة: أنا، فأخر أصحابك يقومون طائفتين، طائفة خلفك وطائفة بازاء العدو، فتكبر فيكبرون جميعا، ثُمَّ تركع فيركعون جميعا، ثُمَّ ترفع(8/368)
فيرفعون جميعا، ثُمَّ تسجد ويسجد معك الطائفة التي تليك، والطائف التي بازاء العدو قيام بازاء العدو، فإذا رفعت رأسك من السجود [يسجدون] ، ثُمَّ يتأخر هؤلاء ويتقدم الآخرون، فقاموا مقامهم، فتركع ويركعون جميعا، ثُمَّ ترفع ويرفعون جميعا، ثُمَّ تسجد فتسجد الطائفة التي تليك، والطائفة الأخرى قائمة بازاء العدو، فإذا رفعت رأسك من السجود سجدوا، ثُمَّ سلمت ويسلم بعضهم على بعض، وتأمر أصحابك أن هاجهم هيج من العدو، فقد حل لهم القتال والكلام.
وسليم بن عبد، ذكره ابن حبان في ((ثقاته)) .
وقد روي حديث حذيفة بالفاظ محتملة، وهذه الرواية مفسرة لما أجمل في تلك.
كما روى الأسود بن هلال، عن ثعلبة بن زهدم، قالَ: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان، فقام، فقال: إيكم صلى مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف؟ فقالَ حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعة، وبهؤلاء ركعة، وانفضوا.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود، وهذا لفظه.
وخرجه النسائي، ولفظه: فقام حذيفة، فصف الناس خلفه صفين، صفا
خلفه، وصفا موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا.(8/369)
وفي رواية: قال له حذيفة: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف بطائفة ركعة، صف خلفه، وأخرى بينه وبين العدو، فصلى بالطائفة التي تليه ركعة، ثم نكص هؤلاء إلى مصاف أولئك، فصلى بهم ركعة.
وروى أبو روق، عن مخمل بن دماث، قال: غزونا مع سعيد بن الحارث، فقال: من شهد منكم صلاة الخوف مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقالَ حذيفة: أنا، صلى بإحدى الطائفتين ركعة؛ والأخرى مستقبلة العدو، ثُمَّ ذهبت هذه الطائفة فقامت مقام
أصحابهم، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعة، فصار رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان، ولكل طائفة ركعة ركعة. وقد خرجه الإمام أحمد وغيره - أيضا.
فهذا الإختلاف في حديث حذيفة يشبه الاختلاف في حديث ابن عباس، وبعضه محتمل، وبعضه مفسر، فيرد المحتمل إلى المفسر المبين، كما قلنا في حديث ابن عباس. والله –سبحانه وتعالى - أعلم. وقد ذهب أكثر العلماء إلى صحة الصلاة على وجه
الحرس، على ما(8/370)
في حديث أبي عياش الزرقي وما وافقه من رواية جابر وابن عباس وحذيفة، وقد أمر بها حذيفة كما سبق.
وروى حطان بن عبد الله، أن أبا موسى صلاها في بعض حروبه، واستحبها طائفة منهم إذا كان العدو في جهة القبلة، منهم: سفيان وإسحاق وأبويوسف.
وروي عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز الصلاة بها، ولا يجوز إلا على حديث ابن مسعود وما وافقه، كما سبق.
والصلاة بهذه الصفة والعدو في جهة القبلة إذا لم يخش لهم كمين حسن؛ فإن أكثر ما فيها تأخر كل صف عن متابعة الإمام في السجدتين وقضاؤهما في الحال قبل سلامه، وتكون الحراسة في السجود خاصة، وهذا قول الشافعي وأصحابه.
وللشافعية وجه آخر: أنهم يحرسون في الركوع مع السجود، وقد سبق في رواية البخاري لحديث ابن عباس ما يدل عليهِ.
وأعلم؛ أن البخاري لم يخرج في ((أبواب صلاة الخوف)) مما ورد عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أنواع صلاة الخوف سوى حديث ابن عمر، وابن عباس، وخرج في ((المغازي)) حديث جابر وسهل بن أبي حثمة، وذكر حديث أبي هريرة – تعليقاً.(8/371)
فأما حديث جابر، فقال: ((وقال أبان: نا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر، قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذات الرقاع –فذكر الحديث إلى أن قال -: وأقيمت الصَّلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، وكان للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع ركعات وللقوم ركعتين)) .
هكذا ذكره تعليقاً. وخرجه مسلم مسنداً من حديث أبان، ولفظه: قالَ: فنودي بالصلاة –وذكره.
في الحديث: دليل على أن صلاة الخوف ينادي لها بالإذان والإقامة كصلاة
الأمن، ولا أعلم في هذا خلافاً، إلا ما حكاه أصحاب سفيان الثوري في كتبهم، عنه، أنه قالَ: ليس في صلاة الخوف إذان ولا إقامة في حضر ولا سفر.
وخرج الدارقطني من حديث الحسن، عن جابر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحاصر بني محارب بنخل، ثم نودي في الناس: أن الصلاة جامعة – وذكر معنى حديث أبي سلمة، وصرح فيه بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلم بين كل ركعتين.
وقد خرجه النسائي - مختصراً - من رواية حماد بن سلمة، عن قتادة، عن
الحسن، عن جابر - بذكر السلام - أيضا، وليس فيه: ذكر(8/372)
الصلاة جامعة.
ورواه قتادة –أيضا - عن سليمان اليشكري، عن جابر –بذكر السلام بين كل ركعتين، وفيه: أن يومئذٍ أنزل الله في إقصار الصلاة، وأمر المؤمنين بأخذ السلاح، وفي الحديث أن ذلك كان بنخلٍ.
والحسن، لم يسمع من جابر، وقتادة، لم يسمع من سليمان اليشكري.
وقد رواه أشعث، عن الحسن، عن أبي بكرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه صلى في خوف ثقيف ركعتين، ثم سلم، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين، ثم سلم، فكانت للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعاً، ولأصحابه ركعتين ركعتين.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في(8/373)
((صحيحه)) .
وعند أبي داود: وبذلك كان يفتي الحسن.
وصلاة الخوف على هذه الصفة: أن يصلي الإمام أربع ركعات ويصلي كل طائفة خلفه ركعتين، لها صورتان:
إحداهما: أن يسلم الإمام من كل ركعتين، فهو جائز عن الشافعي وأصحابه.
واختلفوا: هل هي أفضل من صلاة ذات الرقاع - التي يأتي ذكرها؟ على وجهين لهم.
وكذلك اختار الجوزجاني هذه الصلاة على غيرها من أنواع صلوات الخوف؛ لما فيها من تكميل الجماعة لكل طائفة.
واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من أجازها في صلاة الخوف دون غيرها، وهو منصوص أحمد، وهو قول الحسن البصري - أيضا - واختاره طائفة من أصحابنا.
ومن أصحابنا من قال: هي مُخرجة على الاختلاف عن أحمد في صحة ائتمام المفترض بالمتنفل، كما سبق ذكره.
ومنع منها أصحاب أبي حنيفة؛ لذلك.
والصورة الثانية: أن لايسلم الإمام، ويكون ذلك في سفر، فينبني(8/374)
على أنه: هل يصح أن يقتدي القاصر بالمتم في السفر؟
والأكثرون على أنه إذا اقتدى المسافر بمن يتم الصلاة فأدرك معه ركعة فصاعداً، فإنه يلزمه الإتمام.
فإن أدرك معه دون ركعة، فهل يلزمه الإتمام؟
قالَ الزهري وقتادة والنخعي ومالك: لا يلزمه، وهو رواية أحمد. والمشهور، عنه: أنه يلزمه الإتمام بكل حال، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه والأوزاعي والليث والشافعي وأبي ثور.
وقالت طائفة: لا يلزمه الإتمام، وله القصر بكل حال وهو قول الشعبي وطاوس وإسحاق.
فعلى قول هؤلاء: لاتردد في جواز أن يصلي الإمام أربع ركعات في السفر، وتصلي معه كل طائفة ركعتين.
وعلى قول الأولين: فهل يجوز ذلك في صلاة الخوف خاصة؟ فيه لأصحابنا وجهان.
ومن منع ذلك قال: ليس في حديث جابر تصريح بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسلم بين كل ركعتين بل قد ورد ذلك صريحاً في روايات متعددة، فتحمل الروايات المحتملة على الروايات المفسرة المبينة.
ثم قال البخاري: ((وقال أبو الزبير، عن جابر: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنخل،(8/375)
فصلى الخوف)) . وقال –أيضا -: ((وقال معاذ: ثنا هشام، عن أبي الزبير، عن جابر: كنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنخل - فذكر صلاة الخوف)) .
وقد خرجه النسائي من رواية سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، قالَ: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنخل، والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكبروا جميعاً، ثم ركع فركعوا جميعاً، ثم سجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسونهم، فلما قاموا سجد الآخرون مكانهم الذي كانوا فيهِ، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ثم ركع فركعوا جميعاً، ثم رفع فرفعوا جميعاً، ثم سجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصف الذين يلونه، والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وجلسوا سجد الآخرون مكانهم، ثم سلم.
قال جابر: كما يفعل أُمراؤكم.
وخرجه مسلم - بمعناه - من رواية زهير بن معاوية، عن أبي الزبير، وليس عنده: ((بنخلٍ)) .
وذكر البخاري – أيضاً - تعليقاً، عن جابر من طريقين آخرين، فقال: ((وقال بكر بن سوادة: حدثني زياد بن نافع، عن أبي موسى، أن جابراً حدثهم: صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهم يوم محارب وثعلبة.
وقال ابن إسحاق: سمعت وهب بن كيسان: سمعت جابراً: خرج(8/376)
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ذات الرقاع من نخل، فلقي جمعاً من غطفان، فلم يكن قتال، وأخاف الناس بعضهم بعضاً، فصلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتي الخوف)) . انتهى.
وأبو موسى، ليس هو الأشعري، بل تابعي، ذكره أبو داود، وذكر في حديثه: أنه كان للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان، ولكل طائفة ركعة.
وقد رواه ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكر بن سوادة بهذا الإسناد، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة الخوف يوم محارب وثعلبة، بكل طائفة ركعة وسجدتين.
وذكر أبو مسعود الدمشقي وغيره: أن أبا موسى هذا هو علي بن رباح
اللخمي، وقيل: إنه أبو موسى الغافقي، واسمه: مالك بن عبادة، وله صحبةٌ.
قال صاحب ((التهذيب)) : والقول الأول أولى. والله سبحانه وتعالى أعلم.(8/377)
وأما حديث سهل بن أبي حثمة: فقال البخاري: ((ثنا قتيبة، عن مالك، عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمن شهد مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائماً وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم.
قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف.(8/378)
حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، قال: يقوم الإمام مستقبل القبلة، وطائفة منهم معه، وطائفة من قبل العدو، ووجوههم إلى العدو، فيصلي بالذين معه ركعة، ثم يقومون فيركعون لأنفسهم ركعة ويسجدون سجدتين في مكانهم، ثم يذهب هؤلاء إلى مقام أولئك، فيجيء أولئك فيركع بهم ركعة، فله ثنتان، ثم يركعون ويسجدون سجدتين.
حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
حدثنا محمد بن عبيد الله: ثنا ابن أبي حازم، عن يحيى: سمع القاسم: أخبرني صالح بن خوات، عن سهل، حدثه - قوله)) .
حاصل الاختلاف في إسناد هذا الحديث الذي خرجه البخاري هاهنا: أن يزيد بن رومان رواه عن صالح بن خوات، عمن شهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم ذات الرقاع، ولم
يسمه.
ورواه القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، واختلف عليه في رفعه ووقفه:
فرواه يحيى بن سعيد الانصاري، عن القاسم، فوقفه على سهل.
وقد خرجه البخاري هاهنا من طريق يحيى(8/379)
القطان وابن أبي حازم، عن يحيى الأنصاري.
كذلك رواه شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، فرفعه إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال الإمام أحمد: رفعه عبد الرحمن، ويحيى لم يرفعه. ثم قالَ: حسبك
بعبد الرحمن، هو ثقة ثقة ثقة. قيل له: فرواه عن عبد الرحمن غير شعبة؟ قالَ: ما علمت.
ثم قال: قد رواه يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمن صلى مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهذا يشد ذاك.
يريد: أنه يقوي رفعه.
ونقل الترمذي في ((العلل)) عن البخاري، أنه قال: حديث سهل بن أبي حثمة هوحديث حسن، وهومرفوع، رفعه شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم. انتهى.
ولكن رواه حرب الكرماني، عن إسحاق بن راهويه، عن الثقفي، عن يحيى الأنصاري، وقال في حديثه: ((من السنة)) .
وهذا –أيضا - رفعٌ له.
وهو غريب عن الأنصاري.
ورواه عبد الله العمري، عن أخيه عبيد الله، عن القاسم بن محمد،(8/380)
عن صالح بن خوات، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأخطأَ في قوله: ((عن أبيه)) ، إنما هو: ((عن سهل)) : قاله أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان.
وقالا –أيضا - رواه أبو أويس، عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عن أبيه - أيضا -، وأخطأ –أيضاً - في قوله: ((عن أبيه)) .
وقد ذكر أبو حاتم الرازي وغيره: أن الذي قال صالح بن خوات في رواية يزيد بن رومان، عنه: ((حدثني من شهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) ، هو سهل بن أبي حثمة، كما قاله القاسم، عن صالح.
قال أبو حاتم: وسهل بن أبي حثمة بايع تحت الشجرة، وكان دليل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة أحد، وشهد المشاهد كلها إلا بدراً.
قالَ عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت رجلاً من ولده، سأله أبي عن ذلك، فأخبره به.
ولكن ذكر أكثر أهل السير كالواقدي والطبري وغيرهما: أن سهل بن أبي حثمة توفي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ابن ثمان سنين.
قال الواقدي(8/381)
والطبري: وقد حفظ عنه، وقيل: إن الذي كان دليل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أحد وشهد معه المشاهد هو أبو حثمة والد سهل. والله سبحانه أعلم.
وقد ذكر الإمام أحمد وأبو داود أن رواية يحيى بن سعيد، عن القاسم تخالف رواية يزيد بن رومان في السلام؛ فإن في رواية يزيد بن رومان: أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ? سلم بالطائفة الثانية، وفي رواية يحيى بن سعيد: أنهم قضوا الركعة بعد سلامه.
وقد خرجه أبو داود من رواية مالك، عن يحيى بن سعيد كذلك، وفي حديثه: فركع بهم وسجد بهم ويسلم، فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية، ثم يسلمون.
وقد روى يحيى القطان الحديث، عن يحيى الأنصاري، ورواه عن شعبة عن
عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، وقال: لا أحفظ حديثه، ولكنه مثل حديث يحيى.
كذا خرجه الترمذي وابن ماجه.
وكذلك في رواية البخاري: أن(8/382)
يحيى القطان رواه عن شعبة مثل حديث يحيى بن سعيد.
ولكن بينهما فرق في السلام:
فقد رواه معاذ بن معاذ، عن شعبة، عن عبد الرحمن بهذا الإسناد، وقال فيه: وتأخر الذين كانوا قدامهم، فصلى بهم ركعة، ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة، ثم سلم.
كذلك خرجه مسلم من طريقه.
ورجح ابن عبد البر رواية يحيى القطان، عن شعبة، على رواية معاذ بن معاذ، عنه، وقال في القطان: هو أثبت الناس في شعبة. وخالفه البيهقي، ورجح رواية معاذ بن معاذ؛ لان يحيى القطان لم يحفظ حديث شعبة.
وقال: رواه –أيضا - روح بن عبادة، عن شعبة، كما رواه عنه معاذ. قالَ: وكذلك رواه الثوري، عن يحيى الأنصاري بخلاف رواية مالك، عنه. قالَ: وهذا أولى أن يكون محفوظاً؛ لموافقته رواية عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، ورواية مالك. عن يزيد بن رومان.
قلت: فقد رواه أحمد، عن غندر، عن شعبة، عن يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن القاسم، وقال: أما عبد الرحمن فرفعه، وساق الحديث، وفي آخره: ثم يقعد حتى يقضوا ركعة أخرى، ثم يسلم عليهم.
وهذا يوافق رواية معاذ،(8/383)
وغندر مقدم في أصحاب شعبة.
وقد ذهب كثير من العلماء إلى استحباب صلاة الخوف على ما صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذات الرقاع في هذا الحديث.
قال القاسم بن محمد: ما سمعت في صلاة الخوف أحب إلي منه.
وبه يقول مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وداود والثوري - في رواية - وحكاه إسحاق عن أهل المدينة وأهل الحجاز، وهو قول عبد الرحمن بن مهدي، وحكاه الترمذي، عن إسحاق.
وصرح إسحاق في رواية ابن منصور على أنه يجوز العمل به، ولا يختاره على غيره من الوجوه. إلاّ أنهم اختلفوا: هل تقضي الطائفة الركعة الثانية قبل سلام الإمام، أو بعده؟
فعند الشافعي وأحمد وداود: تقضي قبل سلام الإمام، ثُمَّ يسلم بهم وهو رواية عن مالك، ثُمَّ رجع عنها، وقال: إنما يقضون بعد سلام الإمام، وهو قول أبي ثور وأبي بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا، ذكره في كتابه ((الشافي)) .
ونص أحمد على أن هذه الصلاة تصلى وأن كان العدو(8/384)
في جهة القبلة. وقال القاضي أبو يعلى: إنما تصلى إذا كان العدو في غير جهة القبلة، وكذلك حمل بعض أصحاب سفيان قوله على ذلك.
قال بعض أصحابنا: نص أحمد محمول على ما إذا لم يمكن صلاة عسفان لاستتار العدو، وقول القاضي محمول على ما إذا أمكن أن يصلوا صلاة عسفان لظهور العدو.
وكذا قال أصحاب الشافعي، لكنهم جعلوا ذلك شرطا لاستحباب صلاة ذات الرقاع، لا لجوازها.
قال البخاري:
((وقال أبو هريرة: صليت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة نجد صلاة الخوف)) وهذا الحديث خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من رواية حيوة وابن لهيعة - إلا أن النسائي كنى عنه برجل آخر – كلاهما، عن أبي الاسود، أنه سمع عروة بن الزبير
يحدث، عن مروان بن الحكم، أنه سأل أبا هريرة: هل صليت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف؟ قالَ أبو(8/385)
هريرة: نعم. قالَ مروان: متى؟ قالَ أبو هريرة: عام غزوة
نجد، قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى صلاة العصر، فقامت طائفة معه، وطائفة أخرى مقابل العدو، وظهورهم إلى الكعبة، فكبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكبروا جميعا: الذين معه والذين مقابلو العدو، ثُمَّ ركع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعة واحدة، وركعت الطائفة الذين معه، ثُمَّ سجد فسجدت الطائفة التي تليه، والآخرون قيام مقابل العدو، ثُمَّ قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقامت الطائفة التي معه، فذهبوا إلى العدو فقابلوه، واقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائم كما هوَ، ثُمَّ قاموا فركع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعة أخرى وركعوا معه، وسجد وسجدوا معه، ثُمَّ أقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو، فركعوا وسجدوا ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاعد، ومن كان معه، ثم كان السلام، فسلم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسلموا جميعا، فكان لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان، ولكل رجل من الطائفتين ركعة ركعة.
واللفظ لأبي داود.
ولفظ النسائي: فكان لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان، ولكل رجل من الطائفتين ركعتان ركعتان. فتحمل - حينئذ - رواية أبي داود على أنه كان لكل واحد من الطائفتين(8/386)
ركعة مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والركعة الأخرى هو صلاها لنفسه، وعلى مثل ذلك تحمل كثير من أحاديث صلاة الركعة في الخوف.
ورواية ابن إسحاق، عن أبي الاسود، عن عروة أنه سمع أبا هريرة ومروان بن الحكم يسأله - فذكر الحديث بمعناه.
خرجه ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) .
ورواية من روى عن عروة، عن مروان، عن أبي هريرة أشبه بالصواب -: قاله الدارقطني.
ونقل الترمذي في ((علله)) عن البخاري، أنه قال: حديث عروة، عن أبي
هريرة، حسن.
وقد روي هذا الحديث عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن أبي هريرة.
خرجه الأثرم.
وليس في حديثه: أن الطائفتين كبَرت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أول صلاته.(8/387)
وروي عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر، عن عروة، عن عائشة.
خرجه أبو داود.
ولفظ حديثه: قالت: كبَر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكبرت الطائفة الذين صفوا معه، ثم ركع فركعوا، ثم سجد فسجدوا، ثم رفع فرفعوا، ثم مكث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالسا، ثم سجدوا هم لأنفسهم الثانية، ثم قاموا فنكصوا على أعقابهم يمشون القهقري حتى قاموا من ورائهم، وجاءت الطائف [الأخرى فقاموا] فكبروا، ثُمَّ ركعوا لأنفسهم، ثم سجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسجدوا معه، ثم قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم سجدوا لأنفسهم الثانية، ثم قامت الطائفتان جميعا فصلوا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فركع فركعوا، ثم سجد فسجدوا جميعا، ثم عاد فسجد الثانية فسجدوا معه سريعا كأسرع الإسراع جاهدا، لا يألون إسراعا، ثم سلم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسلموا، فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد شاركه الناس في الصلاة كلها.
فقد اضطرب ابن إسحاق في لفظ الحديث وإسناده.
وقد رواه هشام بن عروة، عن أبيه - مرسلا -، بنحو حديث أبي عياش الزرقي.
ذكره أبو داود - تعليقا.
وقد أجاز الإمام أحمد وإسحاق وأبو خيثمة وابن أبي شيبة وابن جرير وجماعة من الشافعية صلاة الخوف على كل وجه صح عن(8/388)
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن رجحوا بعض الوجوه على بعض.
وأما صلاة الخوف ركعة، فيأتي الكلام عليه فيما بعد - إن شاء الله - سبحانه وتعالى -.
وظاهر كلام البخاري: أنه يجوز.
وقد نقل الترمذي عنه في ((العلل)) ، أنه قال: كل الروايات في صلاة الخوف عندي صحيح، وكل يستعمل، وإنما هو على قدر الخوف، إلا حديث مجاهد، عن أبي عياش، فإني أراه مرسلا.
وهذا يدل على أنه يستعمل كل وجه من وجوه صلاة الخوف على قدر ما تقتضيه حال الخوف، ويكون ذلك الوجه أصلح له.
وروي نحو ذلك عن سليمان بن داود الهاشمي، وحكي عن إسحاق - أيضا -، وقاله بعض أصحابنا.(8/389)
4 - باب
الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو
وقال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح، ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء، كل امرىء لنفسه، فإن لم يقدروا على الايماء أخروا [الصلاة] حتى ينكشف القتال أو يأمنوا، فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا فلا يجزئهم التكبير. ويؤخرونها حتى يامنوا.
وبه قال مكحول.
إنما يقول مكحول بتأخير الصلاة للمطلوب دون الطالب.
قال الفزاري، عن يزيد بن السمط، عن مكحول، قال: إذا حضر القتال فلزم بعضهم بعضا، لم يطيقوا أن يصلوا، أخروا الصلاة حتى يصلوا علىالأرض، وقال: صلاة الطالب: أن ينزل فيصلي، فيؤثر صلاته على ما سواها، وصلاة الهارب: أن يصلي حيث كان ركعة.
قال أبو إسحاق، وقال الأوزاعي: الصلاة حيث وجهوا على كل(8/390)
حال، لأن الحديث جاء أن البصر لا يرفع ما دام الطلب، وصلاة الخوف: أن يصلي القوم كما صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن كان خوف أكثر من ذلك صلوا فرادى، مستقبلي القبلة، يركعون ويسجدون، فإن كان خوف أكثر من ذلك أخروا الصلاة حتى يقدروا، فيقضوها.
قالَ: وقال الأوزاعي: إن ثلموا في الحصن ثلمة، وحضرت الصلاة فإن قدروا أن يصلوا جلوسا أو يومئون إيماءً أو يتعاقبون فعلوا وإلاّ أخروا الصلاة إن خافوا إن صلّوا أن يغلبوا عليهِ، وقد طمعوا في فتحه، صلوا حيث كانت وجوههم، ويتمموا أن خافوا.
وقد تضمن ما حكاه البخاري عن الأوزاعي مسائل.
منها:
أن الطالب يصلي صلاة شدة الخوف راكبا وماشيا كالمطلوب، وهو رواية عن أحمد.
وقال إسحاق - فيما نقله عن حرب -: يصلي بالأرض ويومىء إيماءً.
وفي صلاة الطالب ماشيا بالإيماء حديث، خرجه أبو داود من حديث عبد الله بن أنيس، وهو مما تفرد به ابن إسحاق.(8/391)
وذهب الجمهور إلى أن الطالب لا يصلي إلاّ بالأرض صلاة الأمن، إلاّ أن يخاف، منهم: الحسن ومكحول ومالك والثوري والشافعي وأحمد - في رواية عنه - وقد سبق ذكر ذَلِكَ.
ومنها:
أن صلاة شدة الخوف لا تكون جماعة، بل فرادى، وقد سبق أن الجمهور على خلاف ذَلِكَ.
ومنها:
أنهم إذا لم يقدروا على الإيماء في حال شدة الخوف أخروا الصلاة حتى يأمنوا.
وممن قال بتأخير الصلاة مكحول كما سبق عنه، وهو قال أبي حنيفة وأصحابه.
وحكى ابن عبد البر، عن ابن أبي ليلى وأبي حنيفة وأصحابه أنه لا يصلي أحد في الخوف إلاّ إلى القبلة، ولا يصلي في حال المسايفة، بل يؤخر الصلاة.
وعن أحمد رواية: أنه يخير بين الصلاة بالإيماء وبين التأخير.
قال أبو داود: سألت أبا عبد الله عن الصلاة صبيحة المغار، فيؤخرون الصلاة(8/392)
حتى تطلع الشمس، أو يصلون على دوابهم؟ قَالَ: كلٌ أرجوا.
واستدل أصحابنا لهذه الرواية بصلاة العصر فِي بني قريظة وفي الطريق، وأنه لم يعنف واحد منهما، وسيأتي ذكره والكلام على معناه قريبا – إن شاء الله - سبحانه وتعالى -.
وجمهور أهل العلم على أنه لا يجوز تأخير الصلاة في حال القتال، وتصلى على حسب حاله، فإنه لا يأمن هجوم الموت في تلك الحال.
فكيف يجوز لأحد أن يؤخر فرضاً عن وقته، مع أنه يخاف على نفسه مداركة الموت له في الحال، وهذا في تأخير الصلاة عن وقتها التي لا يجوز تأخيرها للجمع. فأما صلاة يجوز تأخيرها للجمع فيجوز تأخيرها للخوف، ولو كان في الحضر عند أصحابنا وغيرهم من العلماء.
وقول ابن عباس: جمع رسول الله ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة من غير خوف، يدل بمفهومه على جواز الجمع للخوف؛ فإن الخوف عذر ظاهر، فالجمع له أولى من الجمع للمطر والمرض ونحوهما.
فأما قصر الصلاة في حال الخوف في الحضر، فالجمهور على منعه. وحكى القاضي أبو يعلى رواية عن أحمد بجوازه، مخرجة عن رواية حنبل عنه، بجواز الفطر في رمضان لقتال العدو.
وروي عن عثمان بن عفإن، أنه قالَ: لايقصر الصلاة إلاّ من كان(8/393)
شاخصاً أو بحضرة العدو.
وظاهره: أنه يجوز القصر بحضرة العدو في غير السفر - أيضاً - وبذلك فسره أبو عبيدة في ((غريبه)) .
وذكر ابن المنذر عن عمران بن حصين مثل قول عثمان –أيضاً.
وقد يفسر بأنه لايجوز القصر إلاّ في حال السفر أو الإقامة في دار الحرب لقتال
العدو، وهذا قول كثير من العلماء، ويأتي بيانه في ((كتاب قصر الصَّلاة)) إن شاء الله
- سبحانه وتعالى -.
وسيذكر البخاري في هذا الباب ما يستدل به على جواز التأخير في حال شدة
الخوف.
ومنها:
أنهم إذا عجزوا عن صلاة ركعتين جاز لهم أن يصلوا ركعة واحدة تامةً.
وهذا قول كثير من العلماء، منهم: ابنُ عباس.
ففي ((صحيح مسلم)) ، عنه، قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السفر ركعتين، وفي الحضر أربعاً، وفي الخوف ركعة.
وقد روي نحو ذلك عن جابر وابن عمر، وقد سبق ذكر قولهما.
ورواه الحسن، عن حطان الرقاشي، عن أبي موسى - أيضاً - أنه فعله.(8/394)
وهو مروي - أيضاً - عن الحسن وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير والنخعي والضحاك والحكم وقتادة وحماد، وقول إسحاق ومحمد بن نصر المروزي.
حتى قاله في صلاة الصبح، مع أن ابن حزم وغيره حكوا الإجماع على أن الفجر والمغرب لاينقص عن ركعتين وثلاث، في خوف ولا أمن، في حضر ولا سفرٍ.
ولم يفرق هؤلاء بين حضر ولاسفر، وهذا يدل على أنهم رأوا قصر الصَّلاة في الحضر للخوف أشد القصر وأبلغه، وهو عود الصلوات كلها إلى ركعةٍ واحدةٍ.
وحكي رواية عن أحمد، وهوظاهر كلامه في رواية جماعة، ورجحه بعض المتأخرين من أصحابنا، والمشهورعنه: المنع.
وقد نقل جماعة عنه، أنه قال: لايعجبني ذلك. وهو قول [....] أصحابنا.
والمنع منه قول النخعي والثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي.
وتقدم من حديث ابن عباس، أن كل طائفة من الناس صلوا خلف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعة ركعة وأنهم لم يقضوا. ومن حديث حذيفة - أيضاً - وما(8/395)
في ذلك من التأويل.
وروى يزيد الفقير، عن جابر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم صلاة الخوف، فقام صف بين يديه، وصف خلفه، صلى بالذي خلفه ركعة وسجدتين، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا في مقام أصحابهم، وجاء أولئك فقاموا مقام هؤلاء، فصلى لهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعة وسجدتين، ثم سلم، فكانت للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ? ركعتان، ولهم ركعة.
خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحهما)) .
وفي رواية النسائي: ثم إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلم فسلم الذين خلفه، وسلم أولئك.
وذكر أبو داود في ((سننه)) : أن بعضهم قال في حديث يزيد الفقير: أنهم قضوا ركعة أخرى.
وروى عبد الله بن شقيق: نا أبوهريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل بين ضجنان
وعسفان، فقال المشركون: أن لهؤلاء صلاةً هي أحب إليهم من آباهم وأبنائهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم، فميلوا عليهم ميلةً واحدة، وأن جبريل أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمره أن يقيم أصحابه شطرين، فيصلي بهم،(8/396)
وتقوم طائفة أخرى وراءهم، وليأخذوا ... حذرهم وأسلحتهم، ثم يأتي الأخرون ويصلون معه ركعة، ثم يأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم، فيكون لهم ركعة ركعة، ولرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان.
خرجه الترمذي والنسائي وابن حبان في ((صحيحه)) .
وقال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ.
ونقل الترمذي في ((العلل)) عن البخاري، أنه قال: هوحديثٌ حسنٌ.
وقد حمله بعضهم على أن كل واحدة من الطائفتين كانت لهم ركعة مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأما الأخرى فإنها صلتها مفردة.
وخرجه النسائي عنده: يكون لهم مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان.
وخرج ابن حبان في ((صحيحه)) هذا المعنى من حديث زيد بن ثابت، عن النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأصله في ((سنن النسائي)) .(8/397)
وقد أجاب بعضهم بأن الروايات إذا اختلفت، وكان في بعضها عدم القضاء، وفي بعضها القضاء، فالحكم للإثبات؛ لأن المثبت قد حفظ ما خفي على الباقي وهذا صحيح أن لو كانت الروايات كلها حكاية عن واقعة واحدة، فأما مع التعدد فيمكن أن القضاء وجد في واقعة ولم يوجد في الأخرى.
وقد زعم مجاهد: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل صلاة الخوف إلاّ مرتين، مرة بذات الرقاع، ومرة بعسفان.
واختلاف الروايات في صفة صلاة الخوف يدل على أن ذلك وقع أكثر من مرتين.
واستدل بعض من رأى أن صلاة الخوف ركعة بأن ظاهر القرآن يدل عليهِ؛ فإن الله تعالى ذكر أن الطائفة الأولى تصلي معه حتَّى يسجد، فتكون من وراء الناس، وأن الطائفة الثانية التي لم تصل تأتي وتصلي معه، فظاهره: أن الطائفة الأولى تجتزئ بما صلت معه من تلك الركعة، وأن الثانية تكتفي بما أدركت معه، ولم يذكر قضاء على واحدة من
الطائفتين.
ومنها:
أنهم إذا عجزوا عن الصلاة بأركانها في حال الخوف، فقال الأوزاعي: لا يجزئهم التكبير بمجرده.
وإلى هذا ذهب الأكثرون، وهو: أنه لا يجزئ في حال شدة الخوف الاقتصار على التكبير، وهوقول أبي(8/398)
حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق.
ونقل ابن منصور، عن أحمد وإسحاق، قإلاّ: لابد من القراءة، ولا يجزئهم
التكبير.
ونقل جماعة عن أحمد، أنه قال: لابد في صلاة الخوف من القراءة والتشهد
والسلام.
وذهب آخرون إلى أنهم يجزئهم التكبير.
روي عن جابر وابن عمر: تجزئهم تكبيرةٌ واحدة، وعن مجاهد والسدي.
وكذا قال عبد الوهاب بن بخت، وزاد: وإن لم يقدر على التكبير، فلا يتركها في نفسه.
يعني: النية.
وروي عن عبد الله بن الزبير، أنه ارتث يوم الجمل قبل غروب الشمس، فقيل له: الصلاة. فقال: لا استطيع أن أصلي، ولكني أكبر.
وعن الضحاك: إن لم يستطع أن يومئ كبر تكبيرة أو تكبيرتن.
وقال الثوري: إن لم يستطع أن يقرأ يجزئه التكبير في كل خفض ورفع، وإن لم يستطع أن يتوضأ تيمم بغبار سرجه.
وكذلك مذهب الثوري في المريض المدنف: إذا لم يستطع أن يصلي على جنبه، فإنه يكبر لكل ركعة تكبيرة، مستقبل القبلة، وتجزئه.(8/399)
ونقل حرب، عن إسحاق، قال: إن لم يقدروا على ركعة فسجدة واحدة، فإن لم يقدروا فتكبيرةٌ واحدة، واستدل بقولِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
فإذا قدر على الإتيان بشيء من الصلاة، وعجز عن الباقي لزمه أن يأتي به في وقته ويجزئه، ولا يجوز له تأخيره عن الوقت.
وذكر ابن جرير بإسناده، أن هرم بن حيان كان معه أصحابه يقاتلون العدو مستقبلي المشرق، فحضرت الصلاة، فقالوا: الصلاة الصلاة، فسجد الرجل حيث كان وجهه سجدة، وهم مستقبلوا المشرق.
ويستدل للجمهور بأن ما دون الركعة ليس بصلاة، فلا يكون مأموراً به من عجز عن الصلاة، وأقل ما ورد في صلاة الخوف أنها ركعة، فما دون الركعة ليس بصلاة، ولا يؤمر به في خوف ولا غيره، ولا يسقط به فرض الصلاة.
ثم قال البخاري - رحمه الله -:
وقال أنس بن مالك: حضرت مناهضة حصن تستر عند صلاة الفجر - واشتد اشتعال القتال -، فلم يقدروا على الصلاة، فلم نُصل إلاّ بعد ارتفاع النهار، فصليناها ونحن مع أبي موسى، ففتح لنا.
قال أنس: وما(8/400)
يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها.
هذه الواقعة كانت في زمن عمر –رضي الله عنه - سنة عشرين.
قال خليفة بن خياط في ((تاريخه)) : نا ابن زريع، عن سعيد، عن قتادة، عن
أنس، قالَ: لم نصل يومئذ صلاة الغداة حتى انتصف النهار، فما يسرني بتلك الصلاة الدنيا كلها.
قال خليفة: وذلك سنة عشرين.
ثم قال البخاري:(8/401)
945 - حدثني يحيى: ثنا وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله، قال جاء عمر يوم الخندق، فجعل يسب كفار قريش، ويقول: يارسول الله، ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغيب. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وأنا ما صليتها بعد)) . قال: فنزل إلى بطحان، فتوضأ وصلى العصر بعدما غابت الشمس، ثم صلى(8/401)
المغرب بعدها.
((يحيى)) شيخ البخاري، قيل: إنه ابن جعفر بن أعين البيكندي. وقيل: إنه ابن موسى بن عبد ربه ابن ختّ البخلي، وكلاهما يروي عن وكيع.
وقد خرجه البخاري في آخر ((المواقيت)) من غير وجهٍ، عن يحيى بن أبي كثير.
وسبق الكلام على وجه تأخير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة في ذلك اليوم: هل كان نسياناً، أو اشتغإلاّ بالحرب؟
وعلى هذا التقدير: فهل هوَ منسوخ بنزول آيات صلاة الخوف، كما روي ذَلِكَ عن أبي سعيد الخدري، أو هو محكم باقٍ؟
والبخاري يشير إلى بقاء حكمه من غير نسخ.
وقال كثير من العلماء: إنه نسخ بصلاة الخوف، وحديث أبي سعيد(8/402)
يدل عليه، وقد ذكرناه هنالك، وممن ذكر ذلك: الشافعي، وكثير من أصحابنا وغيرهم.
وأما قول ابن إسحاق: إن صلاة عسفان وذات الرقاع كانت قبل الخندق، ففيه
نظر. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وكذلك ذكر ابن سعد: أن غزوة ذات الرقاع كانت على رأس سبعة وأربعين شهراً من الهجرة، وفيها صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو أول ما صلاها.
وقد رد البخاري في ((المغازي)) من ((صحيحه)) هذا بوجهين:
أحدهما: أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع، وأبو موسى إنما جاء بعد خيبر، وذلك بعد الخندق.
والثاني: أن جابراً ذكر أن صلاة الخوف إنما كانت في السنة السابعة، وقد ذكرنا حديثه هذا في الباب الأول من ((أبواب صلاة الخوف)) .
وقد استدل الإمام أحمد بهذا الحديث –أعني: حديث جابر في تأخير الصلاة يوم الخندق - على جواز تأخير الصلاة في حال الخوف لمن لم يقدر على الوضوء إلاّ بعد الوقت –في رواية جماعة من أصحابه.
وعنه رواية أخرى: أنه يتيمم ويصلي في الوقت، وقد سبق ذلك في ((التيمم)) .
فحمل الإمام أحمد تأخير الصلاة يوم الخندق على أنه كان للاشتغال(8/403)
بالحرب، كما حمله البخاري.
قال الإمام أحمد: وقد قيل: إن ذلك كان قبل نزول هذه الآية: {فإن خِفْتُمْ فَرِجَإلاّ أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة:239] يعني: حديث أبي سعيد.
وحديث أبي سعيد إنما يدل على أن ذلك قبل نزول صلاة شدة الخوف بالإيماء رجإلاّ وركبانا، لم يدل على أن صلاة الخوف لم تكن نزلت.
والبخاري قد قرر في ((كتاب المغازي)) أن صلاة [الخوف] إنما شرعت في السنة السابعة، وذلك بعد الخندق بلا ريب، ومع هذا فجعل التأخير يوم الخندق محكما غير منسوخ بصلاة الخوف، ويكون الجمع بينهما بأنه مخير حال شدة الخوف بين التأخير وبين الصلاة بالإيماء، كما يقوله الإمام أحمد - في رواية عنه.
واجتماع الصحابة كلهم على النسيان يوم الخندق بعيد جدا، إلاّ أن يقال: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الناسي، وأن الصحابة اتبعوه على التأخير من غير سؤال له عن سببه.
ويشهد لهُ: أنه جاء في رواية للإمام أحمد: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(8/404)
قال: ((هل علم أحد منكم أني صليت العصر؟)) قالوا: لا، فصلاهما.
وفيه: دليل على رجوع الشاك في أصل صلاته: هل صلاها، أو لا؟ إلى قول غيره، كما يرجع إلى قوله في الشك في عدد ما صلى.
وقد قال الحسن - في الرجل يشك: هل صلى، أم لا؟ -: يعيد ما كانَ في وقت تلك الصَّلاة، فإذا ذهب الوقت فلا إعادة عليهِ.
ذكره عبد الرزاق، بإسناده عنه.(8/405)
5 - باب
صلاة الطالب والمطلوب راكبا وايماء او قائما
وقال الوليد: ذكرت للأوزاعي صلاة شرحبيل بن السمط وأصحابه على ظهر
الدابة، فقال: ذلك الأمر عندنا، إذا تخوفت الفوت.
واحتج الوليد بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا يصلين أحد العصر إلاّ في بني قريظة)) .(8/406)
946 - حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء: نا جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال لنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما رجع من الأحزاب: ((لا يصلين أحد العصر إلاّ في بني قريظة)) فأدرك بعضهم العصر في الطريق، وقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذَلِكَ. فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يعنف واحدا منهم.
وقد تقدم أن الأوزاعي وأصحابه - ومنهم: الوليد بن مسلم - يرون جواز صلاة شدة الخوف للطالب، كما يجوز للمطلوب 0 وهو رواية عن أحمد، وأنهم يرون تأخير الصلاة عن وقتها إذا لم يقدروا على فعلها في وقتها على(8/406)
وجه تام، كما تقدم - أيضا.
وقد استدل الوليد بن مسلم لذلك بحديث ابن عمر في البعث إلى قريظة.
وأما صلاة شرحبيل بن السمط التي استدل بها الأوزاعي [....] . ومما يتفرع على جواز صلاة الطالب صلاة شدة الخوف: أن من كان ليلة النحر قاصدا لعرفة، وخشي أن تفوته عرفة قبل طلوع الفجر، فإنه يصلي صلاة شدة الخوف وهو ذاهب إلى عرفة، وهو أحد الوجهين لأصحابنا، ولأصحاب الشافعي –أيضا.
وضعفه بعض أصحابهم، بأنه ليس بخائف بل طالب.
والصحيح: أنا إن قلنا: تجوز صلاة الطالب جازت صلاته، وإلاّ فلا تجوز، أو يكون فيه وجهان.
وهل يجوز تأخير العشاء إلى بعد طلوع الفجر؟ فيهِ – أيضا – وجهان للشافعية ولأصحابنا.
وأما استدلال الوليد بحديث ابن عمر في ذكر بني قريظة، فإنما يتم ذلك إذا كان الذين لم يصلوا العصر حتى بلغوا بني قريظة لم يصلوها إلاّ بعد غروب الشمس، وليس ذلك في هذا الحديث، فإن حديث ابن عمر إنما يدل على ان بعضهم أخر العصر إلى بني قريظة، فقد يكونوا صلوها(8/407)
في آخر وقتها، وهذا لا إشكال في جوازه.
وممن ذهب إلى ذلك: الخطابي، وردَ به على من استدل بالحديث على أن كل مجتهد مصيب.
وذهب آخرون إلى أن الذين صلوا في بني قريظة صلوا بعد غروب الشمس. واستدلوا بأن مسلما خرج الحديث، ولفظه: عن ابن عمر، قالَ: نادى [فينا] رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم انصرف من الأحزاب: أن ((لا يصلي أحد العصر إلاّ في بني قريظة)) فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلي إلاّ حيث أمرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأن فاتنا الوقت. قال: فما عنف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدا من الفريقين.
وخرج البيهقي، بإسناد فيه نظر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عمه عبد الله أخبره، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عزم على الناس لما رجع من الأحزاب أن لا يصلوا صلاة العصر إلاّ في بني قريظة. قالَ: فلبس الناس السلاح، فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس، فاختصم الناس عند غروب الشمس، فقال بعضهم: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عزم علينا إلاّ نصلي حتى نأتي بني قريظة، فإنما نحن في عزيمة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فليس علينا إثم، وصلى طائفة من الناس احتسابا، وتركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس، فصلوها حين جازوا بني قريظة احتسابا، فلم يعنف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدا من الفريقين.
وهذا مرسل.
وقد ذكره موسى بن عقبة في ((مغازيه)) عن الزهري – مرسلا -، بغير إسناد للزهري بالكلية، وهو أشبه.
وخرج البيهقي نحوه - أيضا - من طريق عبد الله بن عمر العمري، عن أخيه
عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة، وفي حديثها: ((فغربت الشمس قبل أن يأتوهم، فصلت طائفة إيمانا واحتسابا، وتركت طائفة إيمانا واحتسابا، ولم يعنف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدا من(8/408)
الفريقين)) .
والاستدلال بهذا الحديث على تأخير الصلاة للاشتغال بالحرب، استدلال ضعيف، وكذلك الاستدلال به على تأخير الصلاة لطالب العدو؛ فإن يوم ذهابهم إلى بني قريظة لم تكن هناك حرب تشغل عن صلاة، ولا كانوا يخافون فوات العصر ببني قريظة بالاشتغال بالصلاة بالكلية، وإنما وقع التنازع بين الصحابة في صلاة العصر في الطريق، إلتفاتا إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإلى معنى كلامه ومراده ومقصوده:
فمنهم من تمسك بظاهر اللفظ، ورأى أنه ينبفي أن يصلي العصر إلاّ في بني قريظة، وإن فات وقتها، وتكون هذه الصلاة مخصوصة من عموم أحاديث المواقيت بخصوص هذا، وهو النهي عن الصلاة إلاّ في بني قريظة.
ومنهم من نظر إلى المعنى، وقال لم يرد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك،(8/409)
وإنما أراد منا تعجيل الذهاب إلى بني قريظة في بقية النهار، ولم يرد تأخير الصلاة عن وقتها، ولا غير وقت صلاة العصر في هذا اليوم، بل هو باق على ما كان عليه في سائر الأيام.
وهذا هو الأظهر. والله أعلم.
ولا دلالة في ذلك على أن كل مجتهد مصيب، بل فيه دلالة على أن المجتهد سواء أصاب أو أخطأ فإنه غير ملوم على اجتهاده، بل إن أصاب كان له أجران، وإن أخطأ فخطؤه موضوع عنه، وله أجر على اجتهاده.
ومن استدل بالحديث على أن تارك الصلاة عمداً يقضي بعد الوقت فقد وهم؛ فإن من أخر الصَّلاة في ذَلِكَ كانَ باجتهاد سائغ، فهوَ في معنى النائم والناسي، وأولى؛ فإن التأخير بالتأويل السائغ أولى بأن يكون صاحبه معذوراً.(8/410)
6 - باب
التبكير والتغليس بالصبح والصلاة عند الإغارة والحرب(8/411)
947 - حدثنا مسدد: ثنا حماد بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب
وثابت، عن أنس، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الصبح بغلس، ثم ركب، فقال: ((الله
أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم ٍ، فساء صباح المنذرين)) .
وذكر بقية الحديث، وفي آخره قصة صفية، وتزوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها، وجعل عتقها صداقها.
وقد تقدم أول الحديث في ((أبواب الأذان)) من حديث عبد العزيز بن صهيب، عن أنس.
والمقصود منه هاهنا: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أراد الإغارة على أهل خيبر، ولم يكن عندهم علم من قدوم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصبح، وصلاها بغلس، ثم أغار عليهم.
فيستفاد من ذلك: أنه يستحب لمن أراد الإغارة على المشركين أن يعجل بصلاة الصبح في أول وقتها، ثم يغير بعد ذلك:(8/411)
وروى وكيع في ((كتابه)) ، عن عمران بن حدير، عن أبي عمران، قال: صليت مع أبي موسى الغداة ثلاث مرات في غداة واحدة، كأنه أراد أن يغير على قوم.
ومعنى هذا: أن أبا موسى الأشعري لما أراد الإغارة عجل بصلاة الصبح، ثم تبين أنه صلاها قبل طلوع الفجر، فأعادها، فعل ذلك ثلاث مرات في يوم واحد.(8/412)
بسم الله الرحمن الرحيم
13 - أبواب العيدين
1 - باب
في العيدين والتجمل فيهما(8/413)
948 - حدثنا أبو اليمان: انا شعيب، عن الزهري، قالَ: أخبرني سالم بن
عبد الله، أن عبد الله بن عمر قالَ: أخذ عمر جبة من استبرق تباع في السوق فأخذها فأتى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ? فقال: يا رسول الله، ابتع هذه تجمل بها للعيد والوفود. فقال لهُ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنما يلبس هذه من لا خلاق لهُ)) .
ثم ذكر بقية الحديث في إرسال النبي ??? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجبة ديباج إلى عمر.
وقد سبق في ((كتاب الجمعة)) من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر، وفيه: ((لو اشتريت هذه للجمعة والوفود؟)) وهي قضية واحدة والله أعلم.
وقد يكون أريد بالعيد جنس الأعياد، فيدخل فيهِ العيدان والجمعة.
وقد دل هذا الحديث على التجمل للعيد، وأنه كان معتادا بينهم.
وقد تقدم حديث لبس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العيدين برده الأحمر. وإلى(8/413)
هذا ذهب الأكثرون، وهو قول مالك والشافعي وأصحابنا وغيرهم.
وقال ابن المنذر: كان ابن عمر يصلي الفجر وعليه ثياب العيد.
وقال مالك: سمعت أهل العلم يستحبون الزينة والطيب في كل عيد.
واستحبه الشافعي.
وخرج البيهقي بإسناد صحيح، عن نافع، أن ابن عمر كان يلبس في العيدين أحسن ثيابه.
والمنصوص عن أحمد في المعتكف: أنه يخرج إلى العيد في ثياب اعتكافه، وحكاه عن أبي قلابة.
وأما غير المعتكف، فالمنصوص عن أحمد: أنه يخير بين التزين وتركه.
قال المروذي: قلت لأحمد: أيما أحب إليك: أن تخرج يوم العيد في ثياب جياد أو ثياب رثة؟ قالَ: أما طاوس فكان يأمر بزينة الصبيان حتَّى يخضبوا، وأما عطاء فقالَ: لا، هوَ يوم تخشع. فقلت لأحمد: فإلى ما تذهب؟ قالَ: قد روي هذا وهذا، واستحسنهما جميعا.
ذكره أبو بكر ابن جعفر في كتابه ((الشافي)) ، عن الخلال، عنه.
وحكاه القاضي في ((شرح المذهب)) مختصرا، وفيه: وقال عطاء: لا، هو(8/414)
يوم تخشع، وهذا أحسن.
ومما يتصل بذلك: الغسل للعيدين، وقد نص أحمد على استحبابه.
وحكى ابن عبد البر الإجماع عليهِ.
وكان ابن عمر يفعله، كذا رواه نافع، عنه، ورواه عن نافع: مالك وعبيد الله بن عمر وموسى بن عقبة وابن عجلان وابن إسحاق وغيرهم.
وروى أيوب، عن نافع، قالَ: ما رأيت ابن عمر اغتسل للعيد، كان يبيت في المسجد ليلة الفطر، ثم يغدو منه إذا صلى الصبح إلى المصلى.
ذكره عبد الرزاق، عن معمر، عنه.
وعجب ابن عبد البر من رواية أيوب، لمخالفتها رواية مالك وغيره، عن نافع.
ولا عجب من ذلك، فقد يجمع بينهما: بأن ابن عمر كان إذا اعتكف بات ليلة الفطر في المسجد، ثم يخرج إلى العيد على هيئة اعتكافه، كما قاله أحمد ومن قبله من السلف، وهو قول مالك - أيضا - وإن لم يكن معتكفا، اغتسل وخرج إلى المصلى.(8/415)
وممن روي عنه الغسل للعيد - أيضا - من الصحابة: علي بن أبي طالب، وابن عباس، وسلمة بن الأكوع، والسائب بن يزيد.
وقال ابن المسيب: هو سنة الفطر.
وروى مالك، عن الزهري، عن عبيد بن السباق، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في جمعة من الجمع: ((يا معشر المسلمين، إن هذا اليوم جعله الله عيدا، فاغتسلوا، ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك)) .
وهذا تنبيه على أن ذلك مأمور به في كل عيد للمسلمين.
رواه صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن عبيد، عن ابن عباس.
خرجه ابن ماجه.
ورواية مالك أصح.
ورواه بعضهم، عن مالك، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه كذلك الطبراني وغيره.
وهو وهم على مالك: قاله أبو حاتم الرازي والبيهقي(8/416)
وغيرهما.
وروى صبيح أبو الوسيم: ثنا عقبة بن صهبان، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الغسل واجب في هذه الأيام: يوم الجمعة، ويوم الفطر، ويوم النحر، ويوم عرفة)) .
غريب جداً. وصبيح هذا، لايعرف.
وخرج ابن ماجه من رواية الفاكه بن سعد –وله صحبة -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم الفطر، ويوم النحر، وكان الفاكه يأمر أهله بالغسل في هذه الأيام.
وفي إسناده: يوسف بن خالد السمتي، وهو ضعيف جداً.(8/417)
وخرج ابن ماجه عن جبارة بن مغلس، عن حجاج بن تميم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل يوم الفطر ويوم الأضحى.
وحجاج بن تميم وجبارة بن مغلس، ضعيفان.
وروى مندل، عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل للعيدين.
خرجه البزار.
ومحمد هذا، ضعيف جداً.
والغسل للعيد غير واجب. وقد حكى ابن عبد البر الإجماع عليهِ، ولأصحابنا وجه ضعيف بوجوبه.
وروى الزهري، عن ابن المسيب، قال: الاغتسال للفطر والأضحى قبل أن يخرج إلى الصلاة حقٌ.
وخرج أبوبكر عبد العزيز بن جعفر في كتاب ((الشافي)) بإسناد ضعيف، عن الحارث، عن علي، قال: كان بعضنا يغتسل وبعضنا يتوضأ، فلا يصلي أحد منا قبلها ولا بعدها حتى يخرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ويستحب –أيضاً - التطيب والسواك في العيدين.
وكان ابن عمر(8/418)
يتطيب للعيد.
وروى أبو صالح، عن الليث بن سعد، حدثني إسحاق بن بزرجٍ، عن الحسن بن علي، قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نلبس أجود ما نجد، ونتطيب بأجود ما نجد، وأن نضحي بأسمن ما نجد، وأن نظهر التكبير، وعلمنا السكينة والوقار.
خرجه الطبراني والحاكم.
وقال: لولا جهالة إسحاق بن بزرج لحكمنا للحديث بالصحة.
قلت: ورويناه من وجه آخر، من طريق ابن لهيعة: حدثني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عتبة بن حميد، عن عبادة بن نسي، عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ، قالَ: كان رسول الله ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا غدا إلي(8/419)
المصلى أمرنا أن نلبس أجود ما نقدر عليه من الثياب، وأن نخرج وعلينا السكينة، وأن نجهر بالتكبير.
وهذا منكر جداً.
ولعله مما وضعه المصلوب، وأسقط أسمه من الإسناد؛ فإنه يروى بهذا الإسناد أحاديث عديدة منكرة ترجع إلى المصلوب، ويسقط اسمه من إسنادها كحديث التنشف بعد الوضوء. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وهذا التزين في العيد يستوي فيه الخارج إلى الصلاة والجالس في بيته، حتى النساء والأطفال.
وقد تقدم ذلك عن طاوس.
وقال الشافعي: تزين الصبيان بالمصبغ والحلي، ذكوراً كانوا أو إناثاً؛ لأنه يوم
زينة، وليس على الصبيان تعبد، فلا يمنعون لبس الذهب.
قال بعض أصحابه: اتفق الأصحاب على إباحة زينة الصبيان يوم العيد بالمصبغ وحلي الذهب والفضة، واختلفوا في غير يوم العيد على وجهين.
وأما أصحابنا، فلم يفرقوا بين عيد وغيره، وحكوا في جواز إلباس الولي الصبي الحرير والذهب روايتين.(8/420)
2 - باب
الحرب والدرق يوم العيد(8/421)
949 - حدثنا أحمد: نا ابن وهب: انا عمرو، أن محمد بن عبد الرحمان الأسدي حدثه، عن عروة، عن عائشة، قالت: دخل علي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر
فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فأقبل عليهِ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالَ: ((دعهما)) فلما غفل غمزتهما فخرجتا.(8/421)
950 - وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحرب، فإما سألت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإما قال: ((تشتهين تنظرين؟)) ، فقلت: نعم. فأقامني وراء خدي على خده، وهو يقول: ((دونكم يابني أرفدة)) ، حتَّى إذا مللت قالَ: ((حسبك؟)) ، قلت: نعم. قال: ((فأذهبي)) .
((أحمد)) الراوي عن ابن وهب سبق الاختلاف فيه.
و ((عمرو)) ، هو: ابن الحارث.
وشيخه، هو: أبو الأسود يتيم عروة.
وقد سبق الحديث باختلاف طرقه وألفاظه في ((أبواب المساجد)) في ((باب: أصحاب الحراب في المسجد)) .
وذكرنا فيه: أن هذا العيد كان(8/421)
أحد عيدي الإسلام، وأنه قد قيل: إنه كان يوم عاشوراء. والظاهر: أن هذا كان قبل نزول الحجاب؛ لقولها: ((خدي عَلَى خده)) .
ويحتمل أنه كَانَ بعده؛ فإن البخاري خرجه في ((باب: أصحاب الحراب في المسجد)) بزيادة: ((وهو يسترني بردائه)) .
واللعب بالحراب والدرق في الأعياد مما لاشبهة في جوازه، بل واستحبابه؛ لأنه مما يتعلم به الفروسية، ويتمرن به على الجهاد.
وقد رخص إسحاق وغيره من الأئمة باللعب بالصولجان والكرة، للتمرن على
الجهاد.
وأما ذكر الغناء، فنذكره في الباب الآتي - إن شاء الله - سبحانه وتعالى -.(8/422)
3 - باب
سنة العيدين لأهل الإسلام
فيه حديثان:
الأول:(8/423)
951 - حدثنا حجاج: انا شعبة: أخبرني زبيد: سمعت الشعبي، عن البراء: سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فقال: ((إن أول ما نبرأ في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل هذا فقد أصاب سنتنا)) .
ومراده: الاستدلال بهذا الحديث على أن سنة أهل الإسلام التي سنها لهم نبيهم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عيد النحر: الصلاة ثم النحر بعد رجوعهم من الصلاة.
وهذا مما اتفق المسلمون على أنه سنة في يوم النحر، وإنما اختلفوا: هل هو واجب، أم لا؟
فأما النحر، فيأتي الكلام عليه في موضع آخر –إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وأما صلاة العيد، فاختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها سنة مسنونة، فلو تركها الناس لم يأثموا.
هذا قول(8/423)
الثوري ومالك والشافعي وإسحاق وأبي يوسف، وحكي رواية عن أحمد.
واختلفوا: هل يقاتلون على تركها؟ وفيه وجهان للشافعية. وقال أبويوسف: آمرهم وأضربهم؛ لأنها فوق النوافل، ولا أقاتلهم؛ لأنها دون الفرائض.
وقد يتعلق لهذا القول بإخبار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المصلي يوم العيد أنه أصاب السنة.
ولا دليل فيه؛ فإن السنة يراد بها الطريقة الملازمة الدائمة، كقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح:23] .
والقول الثاني: أنها فرض كفاية فإذا أجمع أهل بلد على تركها أثموا وقوتلوا على تركها.
وهو الظاهر مذهب أحمد، نص عليه في رواية المروذي وغيره. وهو قول طائفة من الحنفية والشافعية.
والقول الثالث: أنها واجبة على الأعيان كالجمعة.
وهو قول أبي حنيفة، ولكنه لا يسميها فرضاً.
وحكى أبو الفرج الشيرازي – من أصحابنا - رواية عن أحمد: أنها فرض عين.
وقال الشافعي –في ((مختصر المزني)) -: من وجب عليه حضور الجمعة وجب عليه حضور العيدين.
وهذا صريح في أنها واجبة على الأعيان.
وليس ذلك خلافاً لإجماع(8/424)
المسلمين، كما ظنه بعضهم.
وكثيرمن أصحابه تأولوا نصه بتأويلات بعيدة، حتى إن منهم من حمله على أن الجمعة فرض كفاية كالعيد.
وأقرب ما يتأول به: أن يحمل على أن مراده: أن العيد فرض كفاية؛ لأن فروض الكفاية كفروض الأعيان في أصل الوجوب، ثُمَّ يسقط وجوب فرض الكفاية بفعل البعض دون فرض العين.
فقد يقال: إن الشافعي أراد أن يعلق الوجوب في العيد بمن يتعلق به وجوب الجمعة وإن كانت العيد تسقط بحضور بعض الناس دون الجمعة.
وهذا أشبه مما تأوله به أصحابه، مع مخالفته لظاهر كلامه وبعده منه؛ فإنه صرح بوجوب الحضور في العيد كحضور الجمعة.
الحديث الثاني:(8/425)
952 - نا عبيد بن اسماعيل: نا أبو اسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الانصار، تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم
بعاث. قالت: وليستا بمغنيتين. فقال أبو بكر: مزامر الشيطان في بيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يا أبا بكر، إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا)) .(8/425)
في هذا الحديث: الرخصة للجواري في يوم العيد في اللعب والغناء بغناء الأعراب. وإن سمع ذلك النساء والرجال، وإن كان معه دف مثل دف العرب، وهو يشبه الغربال.
وقد خرجه البخاري في آخر ((كتاب العيدين)) من رواية الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متغش بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن وجهه، فقال: ((دعهما يا أبا
بكر؛ فإنها أيام عيد)) ، وتلك [الأيام] أيام منى.
ولا ريب أن العرب كانَ لهم غناء يتغنون به، وكان لهم دفوف يضربون بها، وكان غناؤهم بأشعار أهل الجاهلية من ذكر الحروب وندب من قتل فيها، وكانت دفوفهم مثل الغرابيل، ليس فيها جلاجل، كما في حديث عائشة، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أعلنوا النكاح واضربوا عليهِ بالغربال)) .
وخرجه الترمذي وابن ماجه، بإسناد فيه ضعفٌ.(8/426)
فكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرخص لهم في أوقات الأفراح، كالأعياد والنكاح وقدوم الغياب في الضرب للجواري بالدفوف، والتغني مع ذلك بهذه الأشعار، وما كان في معناها.
فلما فتحت بلاد فارس والروم ظهر للصحابة ما كان أهل فارس والروم قد أعتادوه من الغناء الملحن بالإيقاعات الموزونة، على طريقة الموسيقى بالأشعار التي توصف فيها المحرمات من الخمور والصور الجميلة المثيرة للهوى الكامن في النفوس، المجبول محبته فيها، بآلات اللهو المطربة، المخرج سماعها عن الاعتدال، فحينئذ أنكر الصحابة الغناء واستماعه، ونهوا عنه وغلظوا فيه.
حتى قال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل. وروي عنه - مرفوعا.(8/427)
وهذا يدل على أنهم فهموا أن الغناء الذي رخص فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه لم يكن هذا الغناء، ولا آلاته هي هذه الآلات، وأنه إنما رخص فيما كان في عهده، مما يتعارفه العرب بآلاتهم.
فأما غناء الأعاجم بآلاتهم فلم تتناوله الرخصة، وإن سمي غناءً، وسميت آلاته دفوفا، لكن بينهما من التباين ما لا يخفى على عاقل، فإن غناء الأعاجم بآلاتها يثير الهوى، ويغير الطباع، ويدعو إلى المعاصي، فهو رقية الزنا. وغناء الأعراب المرخص به، ليس فيه شيء من هذه المفاسد بالكلية البتة، فلا يدخل غناء الأعاجم في الرخصة لفظا ولا معنى، فإنه ليس هنالك نص عن الشارع بإباحة ما يسمى غناء ولا دفا، وإنما هي قضايا أعيان، وقع الإقرار عليها، وليس لها [من] عموم.
وليس الغناء والدف المرخص فيهما في معنى ما في غناء الأعاجم ودفوفها المصلصلة، لأن غنائهم ودفوفهم تحرك الطباع وتهيجها إلى المحرمات، بخلاف غناء الأعراب، فمن قاس أحدهما على الآخر فقد أخطأ أقبح الخطأ، وقاس مع ظهور الفرق بين الفرع والأصل، فقياسه من أفسد القياس وأبعده عن الصواب.
وقد صحت الأخبار عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذم من يستمع القينات في آخر الزمان، وهو إشارة إلى تحريم سماع آلات الملاهي الماخوذة عن الأعاجم.
وقد خرج البخاري في ((الأشربة)) حديث عبد الرحمن بن غنم،(8/431)
عن أبي مالك –أو أبي عامر - الأشعري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، كما سياتي في موضعه - إن شاء الله سبحانه وتعالى.
فقال فيه: ((قال هشام بن عمار)) – فذكره.
والظاهر: أنه سمعه من هشام.
وقد رواه عن هشام الحسن بن سفيان النسوي.
وخرجه من طريقه البيهقي وغيره.
وخرجه الطبراني: نا محمد بن يزيد بن عبد الصمد: نا هشام بن عمار.
فصح واتصل عن هشام.
وخرجه أبو داود من وجه آخر مختصرا.
وقد بينت عائشة أن الجاريتين إنما كانا يغنيان بغناء بعاث، ويوم بعاث يوم من أيام حروب الجاهلية مشهور.
وباؤه مثلثة وعينه مهملة، ومنهم من حكى أنها معجمة، قال الخطابي: هو يوم مشهور من أيام العرب، كانت فيه مقتلة عظيمة للأوس على الخزرج، وبقيت الحرب قائمة مائة وعشرين سنة إلى الإسلام، على ما ذكره ابن إسحاق وغيره.
قالَ: وكان الشعر الذي تغنيان به في وصف الشجاعة والحرب، وهو إذا صرف إلى جهاد الكفار كان معونة في أمر الدين، فأما الغناء بذكر(8/432)
الفواحش والابتهار للحرم، فهو المحظور من الغناء، حاشاه أن يجري بحضرته شيء من ذلك فيرضاه، أو يترك النكير لهُ، وكل من جهر بشيء بصوته وصرح به فقد غنى به.
قالَ: وقول عائشة: ((ليستا بمغنيتين)) ، إنما بينت ذلك؛ لأن المغنية التي اتخذت الغناء صناعة وعادة، وذلك لا يليق بحضرته، فأما الترنم بالبيت والتطريب للصوت إذا لم يكن فيهِ فحش، فهوَ غير محظور ولا قادح في الشهادة.
وكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - لا ينكر من الغناء النصب والحداء
ونحوهما، وقد رخص فيه غير واحد من السلف.
قالَ: وقوله: ((هذا عيدنا)) يريد أن إظهار السرور في العيد من شعار الدين، وحكم اليسير من الغناء خلاف الكثير. انتهى.
وفي الحديث ما يدل على تحريمه في غير أيام العيد؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل بأنها أيام عيد، فدل على أن المقتضي للمنع قائم، لكن عارضه معارض وهو الفرح والسرور العارض بأيام العيد.
وقد أقر أبا بكر على تسمية الدف مزمور الشيطان، وهذا يدل على وجود المقتضي للتحريم لولا وجود المانع.(8/433)
وقد قال كثير من السلف، منهم: قتادة: الشيطان قرآنه الشعر، ومؤذنه المزمار، ومصايده النساء.
وروي ذلك من حديث أبي أمامة – مرفوعا.
وقد وردت الشريعة بالرخصة للنساء لضعف عقولهن بما حرم على الرجال من التحلي والتزين بالحرير والذهب، وإنما أبيح للرجال منهم اليسير دون الكثير، فكذلك الغناء يرخص فيه للنساء في أيام السرور، وإن سمع ذلك الرجال تبعا.
ولهذا كان جمهور العلماء على أن الضرب بالدف للغناء لا يباح فعله للرجال؛ فإنه من التشبه بالنساء، وهو ممنوع منه، هذا قول الأوزاعي وأحمد، وكذا ذكر الحليمي وغيره من الشافعية.
وإنما كان يضرب بالدفوف في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النساء، أو من يشبه بهن من المخنثين، وقد أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنفي المخنثين وإخراجهم من البيوت.
وقد نص على نفيهم أحمد وإسحاق، عملا بهذه السنة الصحيحة.
وسئل أحمد عن مخنث مات ووصى أن يحج عنه، فقال: كسب المخنث خبيث، كسبه بالغناء، نقله عنه المروذي.
وفي تحريم ضرب المخنث بالدف حديث مرفوع، خرجه ابن ماجه بإسناد ضعيف. فأما الغناء بغير ضرب دف، فإن كان على وجه الحداء والنصب فهو جائز. وقد رويت الرخصة فيه عن كثير من الصحابة.
والنصب:(8/434)
شبيه الحداء -: قاله الهروي وغيره.
وهذا من باب المباحات التي تفعل أحيانا للراحة.
فأما تغني المؤمن فإنما ينبغي أن يكون بالقرآن، كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) والمراد: أنه يجعله عوضا عن الغناء فيطرب به ويلتذ، ويجد فيه راحة قلبه وغذاء روحه، كما يجد غيره ذلك في الغناء بالشعر.
وقد روي هذا المعنى عن ابن مسعود - أيضاً.
وأما الغناء المهيج للطباع، المثير للهوى، فلا يباح لرجل ولا لامرأة فعله ولا
استماعه؛ فإنه داع إلى الفسق والفتنة في الدين والفجور فيحرم كما يحرم النظر بشهوة إلى الصور الجميلة [....] ؛ فإن الفتنة تحصل بالنظر وبالسماع؛ ولهذا جعل النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زنا العينين النظر، وزنا الأذن الاستماع.
ولا خلاف بين العلماء المعتبرين في كراهة الغناء وذمه وذم استماعه، ولم يرخص فيه أحد يعتد به.
وقد حكيت الرخصة فيه على بعض المدنيين.
وقد روى الإمام أحمد، عن إسحاق الطباع، أنه سأل مالكا عما يرخص فيه أهل المدينه من الغناء؟ فقالَ: إنما يفعله عندنا الفساق.(8/435)
وكذا قالَ إبراهيم بن المنذر الحزامي، وهو من علماء أهل المدينة – أيضا.
وقد نص أحمد على مخالفة ما حكي عن المدنيين في ذَلِكَ. وكذا نص هو وإسحاق على كراهة الشعر الرقيق الذي يشبب به النساء.
وقال أحمد: الغناء الذي وردت فيه الرخصة هو غناء الراكب: أتيناكم أتيناكم.
وأما استماع آلات الملاهي المطربة المتلقاة من وضع الأعاجم، فمحرم مجمع على تحريمه، ولا يعلم عن أحد منه الرخصة في شيء من ذَلِكَ، ومن نقل الرخصة فيه عن إمام يعتد به فقد كذب وافترى.
وأما دف الأعراب الخالي من الجلاجل المصوتة ونحوها فقد اختلف العلماء فيه على ثلاثة مذاهب:
أحدها: أنه يرخص فيه مطلقا للنساء.
وقد روي عن أحمد ما يشهد له، واختاره طائفة من المتأخرين من أصحابنا، كصاحب ((المغني)) وغيره.
والثاني: إنما يرخص فيه في الاعراس ونحوها، وهو مروي عن عمر بن عبد العزيز والأوزاعي، وهو قول كثير من أصحابنا أو أكثرهم.(8/436)
والثالث: أنه لا يرخص فيه بحال. وهو قول النخعي وأبي عبيد.
وجماعة من أصحاب ابن مسعود كانوا يتبعون الدفوف مع الجواري في الأزقة فيحرقونها.
وقال الحسن: ليس الدف من أمر المسلمين في شيء. ولعله أراد بذلك دفوف الأعاجم المصلصلة المطربة.
وقد سئل أحمد على ذلك فتوقف، وكأنه حصل عنده تردد: هل كانت كراهة من كره الدفوف لدفوف الأعراب أو لدفوف الاعاجم فيه جرس؟ وقد قيل لأحمد: الدف فيهِ جرس؟ قال: لا.
وقد نص على منع الدف المصلصل.
وقال مالك في الدف: هو من اللهو الخفيف، فإذا دعي إلى وليمة، فوجد فيها دفاً فلا أرى أن يرجع.
وقاله القاسم من أصحابه.
وقال أصبغ –منهم -: يرجع لذلك.
وفي الرخصة في الدف في العيد أحاديث أخر:
خرج ابن ماجه من رواية الشعبي، قال: شهد عياض الأشعري عيداً بالأنبار، فقال: ما لي لا أراكم تقلسون كما يقلس رسول الله ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومن رواية الشعبي، عن قيس بن سعد، قال: ما كان شيء على عهد(8/437)
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاّ وقد رأيته، إلاّ شيء واحد، فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقلس له يوم الفطر.
قال يزيد بن هارون: التقليس: ضرب الدف.
وقال يوسف بن عدي: التقليس: أن يقعد الجواري والصبيان على أفواه الطرق، يلعبون بالطبل وغير ذلك.
وقد بسطنا القول في حكم الغناء وآلات اللهو في كتاب مفرد، سميناه: ((نزهة الأسماع في مسألة السماع)) ، وإنما أشرنا إلى ذلك هاهنا إشارة لطيفة مختصرة.
ومما يدخل في هذا الباب: ما روى حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس، قال: قدم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ((ما هذان اليومان؟)) قالوا: نلعبهما في الجاهلية. فقالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما: يوم
الفطر، ويوم الأضحى)) .
خرجه أبو داود والنسائي.(8/438)
4 - باب
الأكل يوم الفطر قبل الخروج(8/439)
953 - حدثنا محمد بن عبد الرحيم: نا سعيد بن سليمان، أنا هشيم: أنا عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس بن مالك، قال: كان رسول الله ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يغدو يوم الفطر حتى ياكل تمرات.
وقال مرجأ بن رجاء: حدثني عبيد الله بن أبي بكر: حدثني أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وياكلهن وتراً.
هذا الحديث مما تفرد به البخاري، ولم يخرجه مسلم.
وإنما ذكر متابعة مرجى بن رجاء لثلاثة فوائد:
أحدها:
أنه حديث أنكره الإمام أحمد من حديث هشيم، وقال: إنما كان هشيم يحدث به عن محمد بن إسحاق، عن حفص بن عبيد الله، عن أنس. قَالَ: وإنما ثناه علي بن عاصم، عن عبيد الله بن أبي بكر.
كذا نقله عن أحمد ابنه عبد الله.
وقد رواه [قتيبة] ، عن هشيم، عن ابن إسحاق، عن حفص، كما قاله الإمام أحمد ومن هذه الطريق خرجه الترمذي، وصححه.(8/439)
وقد رواه كذلك عن هشيم بهذا الإسناد الإمام أحمد، ويحيى، وابن أبي شيبة
وغيرهم.
قال البيهقي: ورواه سعيد بن سليمان، عن هشيم بالإسنادين معا.
وهذا يدل على أنهما محفوظان عن هشيم، فبين البخاري أنه قد توبع عليه هشيم.
وقد خرجه الإمام أحمد من حديث مرجى ((ويأكلهن أفرادا)) .
وخرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) والدارقطني من حديثه، وعندهما: ((ويأكلهن وترا)) .
ومرجى بن رجاء، مختلف في أمره. وثقه أبو زرعة، وضعفه غيره وتابعه - أيضا -: علي بن عاصم، فرواه عن عبيد الله بن أبي بكر: سمعت أنسا يقول: ((ما خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فطر قط حتى يأكل تمرات)) .
خرجه الإمام أحمد، عنه.
وخرجه ابن شاهين في ((كتاب العيدين)) ، وزاد: ((ثلاثا، وكان أنس [يأكل] ثلاث تمرات أو(8/440)
خمسا، وإن شاء زاد، إلاّ أنه يجعلهن وترا)) .
ورواه - أيضا - عتبة بن حميد: نا عبيد الله بن أبي بكر بن أنس: سمعت أنسا قالَ: ما خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فطر حتى يأكل ثمرات، ثلاثا أو خمسا أو سبعا، أو أقل من ذلك أو أكثر، وتراً.
خرجه الطبراني.
وخرجه ابن حبان في ((صحيحه)) إلى قوله: ((سبعا)) .
ورواه - أيضا – أبو جزي نصر بن طريف، عن عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس.
فقد رواه جماعة، عن عبيد الله، عن أنس – كما ترى -، وإنما استنكره أحمد من حديث هشيم.
الفائدة الثانية:
إن في رواية مرجى زيادة الوتر.
والثالثة:
إن فيها التصريح بسماع عبيد الله له من أنس.
وقد ذكرنا أنه توبع على هاتين الزيادتين.
وفي الباب أحاديث أخر، ليست على شرط البخاري.
وقد استحب أكثر العلماء الأكل يوم الفطر قبل الخروج إلى المصلى، ومنهم علي وابن عباس.
وروي عنهما أنهما قالا: هو السنة.
وكان(8/441)
ابن عمر يفعله.
وعن أم الدرداء، أنها قالت: خالفوا أهل الكتاب، فإنهم لا يفطرون في أعيادهم حتى يرجعوا.
وعن ابن المسيب، قال: كان الناس يؤمرون بذلك.
وعن الشعبي، قال: هو السنة.
وعن عَكْرِمَة، قال: كَانَ الناس يفعلونه.
وهو قول أبي حنيفة والثوري ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
وروي عن النخعي، قالَ: إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل.
وروي عنه، أنه قال: كانوا لا يبالون بذلك.
وعن ابن مسعود: إن شاء لم ياكل.
ولعله أراد به بيان أن الأكل قبل الخروج ليس بواجب، وهذا حق، وان أراد أنه ليس هو الأفضل فالجمهور على خلافه، والسنة تدل عليهِ.
ونص الشافعي على أن تركه مكروه.(8/442)
وقد علل الأكل يوم الفطر قبل الخروج بالمبادرة إلى الفطر في يوم العيد، ليظهر مخالفته لرمضان حيث كان تحريم الأكل في نهاره.
وقد تقدم، عن أبي الدرداء: تعليله بمخالفة أهل الكتاب.
وقد علل بأن السنة تأخير الصلاة يوم الفطر، فيكون الأكل قبل الخروج اسكن للنفس، بخلاف صلاة النحر؛ فإن السنة تعجيلها.
وقد رَوَى الإمام أحمد: ثنا عَبْد الرزاق، عَن ابن جُرَيْج: أخبرني عَطَاء، أنه سَمِعَ ابن عَبَّاس يَقُول: إن استطعتم أن لا يغدوا أحدكم يوم الفطر حَتَّى يطعم فليفعل قَالَ: فَلَمْ أدع أن أكل قَبْلَ أن أغدو منذ سَمِعْت ذَلِكَ من ابن عَبَّاس. قُلتُ: فعلى ماذا تأول هَذَا؟ قال: أظن سمعه من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: كانوا لا يخرجون حتى يمتد الضحى، فيقولون: نطعم حتى لا نعجل عن صلاتنا.
وذكر بعضهم معنى آخر، وهو أن يوم الفطر قبل الصلاة تشرع الصدقة على المساكين بما يأكلونه خصوصا التمر، فشرع له أن يأكل معهم ويشاركهم، وفي النحر لا تكون الصدقة على المساكين إلاّ بعد الرجوع من الصلاة، فيؤخر الأكل إلى حال الصدقة عليهم، ليشاركهم - أيضا.
ويشهد له: ما خرجه ابن ماجه، عن ابن عمر، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(8/443)
لا يغدو يوم الفطر حتى يغدي أصحابه من صدقة الفطر.
وإسناده ضعيف جدا.
وقد قيل: إن صوابه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الإمام. ... قاله العقيلي.(8/444)
5 - باب
الأكل يوم النحر(8/445)
954 - حدثنا مسدد: نا إسماعيل، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن انس بن مالك: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من ذبح قبل الصلاة فليعد)) . فقام رجل، فقال: هذا يوم يشتهى فيه اللحم، وذكر من جيرانه، فكأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقه، فقال: وعندي جذعة أحب إلي من شاتي لحمٍ، فرخص له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا أدري أبلغت الرخصة من سواه، أم لا.
* * *(8/445)
7 - باب
المشي والركوب إلى العيد بغير اذان ولا اقامة(8/445)
957 - حدثنا إبراهيم بن المنذر: نا أنس، عن عبيد الله، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، ان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في الأضحى والفطر، ثم يخطب بعد الصَّلاة.(8/445)
958 - حدثنا إبراهيم بن موسى: أنا هشام، أن ابن جريج أخبرهم، قال: أخبرني عطاء، عن جابر بن عبد الله، قالَ: سمعته يقول: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوم الفطر، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة.(8/445)
959 - قال: وأخبرني عطاء، أن ابن عباس أرسل إلى ابن الزبير في أول ما بويع لهُ: أنه لم يكن يؤذن بالصلاة يوم الفطر، وإنما الخطبة بعد الصَّلاة.(8/445)
960 - وأخبرني عطاء، عن ابن عباس، وعن جابر بن عبد الله، قالا: لم يكن يؤذن يوم الفطر، ولا يوم الأضحى.(8/445)
961 - وعن جابر بن عبد الله، قال: سمعته يقول: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام فبدأ بالصلاة ثم خطب الناس بعد، فلما فرغ نبي الله ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل، فأتى النساء فذكرهن، وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه، يلقي فيه النساء صدقة0
قلت لعطاء: أترى حقا على الإمام الآن أن يأتي النساء فيذكرهن حين يفرغ؟ قالَ: إن ذَلِكَ لحق عليهم، ومالهم أن لا يفعلوا؟(8/445)
[0000000000000000000000000000000]
ولا إقامة
وخرج - أيضا - من طريق عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر، قال: شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة.
وخرج أبو داود من طريق الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى العيد بلا أذان ولا إقامة وأبا بكر وعمر - أو عُثْمَان.
وخرجه ابن ماجة مختصرا.
وخرج أبو داود من حديث سفيان، عن عبد الرحمن بن عباس، قال: [سأل رجل ابن عباس: أشهدت العيد مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: نَعَمْ، ولولا منزلتي مِنْهُ مَا شهدته من الصغر، فـ] أتى رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العلم الَّذِي عِنْدَ [دار] كثير بْن الصلت، فصلى ثُمَّ خَطَبَ، ولم يذكر إذانا ولا إقامة - وذكر الحَدِيْث.
وفي الباب: عن ابن عُمَر.(8/446)
خرجه الإمام أحمد والنسائي.
وفي إسناده مقال.
خرجه الإمام أحمد من رواية الزهري، عن سالم، عن أبيه - وذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر.
وهو من رواية عبد الرزاق بن عمر والنعمان بن راشد، عن الزهري.
وقال أبو حاتم: هو حديث منكر.
وخرجه النسائي، من رواية الفضل بن عطية، عن سالم، عن أبيه - ولم يذكر أبا بكر وعمر.
والفضل بن عطية، مختلف فيهِ.
وروي عنه عن عطاء عن جابر.
وخرج مسلم من حديث سماك، عن جابر بن سمرة، قال: صليت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيد غير مرة بغير أذان ولا إقامة.
ولا خلاف بين أهل العلم في هذا، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر كانوا يصلون العيد بغير أذان ولا إقامة.
قال مالك: تلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا.
واتفق العلماء على أن الأذان والإقامة للعيدين بدعة ومحدث.
وممن قالَ: إنه بدعة: عبد الرحمن بن أبزى والشعبي والحكم.
وقال ابن سيرين: وهو محدث.
وقال سعيد بن المسيب والزهري: أول من أحدث الأذان في العيدين معاوية.
وقال ابن سيرين: أول من(8/447)
أحدثه آل مروان.
وعن الشعبي، قالَ: أول من أحدثه بالكوفة ابن دراج، وكان المغيرة بن شعبة استخلفه.
وقال حصين: أول من أذن في العيدين زياد.
وروى ابن أبي شيبة: نا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن عطاء بن يسار، أن ابن الزبير سأل ابن عباس - وكان الذي بينهما حسنا يومئذ - فقال: لا تؤذن ولا تقم، فلما ساء الذي بينهما أذن وأقام.
وقال الشافعي: قال الزهري: وكان النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر في العيدين المؤذن فيقول: الصلاة جامعة.
واستحب ذلك الشافعي وأصحابنا.
واستدلوا بمرسل الزهري، وهو ضعيف، وبالقياس على صلاة الكسوف؛ فإن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صح عنه أنه أرسل مناديا ينادي: الصَّلاة جامعة.
وقد يفرق بين الكسوف والعيد، بأن الكسوف لم يكن الناس مجتمعين لهُ، بل كانوا متفرقين في بيوتهم وأسواقهم، فنودوا لذلك، وأما العيد، فالناس كلهم مجتمعون له قبل خروج الإمام.
وقول جابر: ((ولا إقامة ولا نداء ولا شيء)) يدخل فيه نفي النداء(8/448)
بـ ((الصَّلاة جامعة)) .
وقد يقال: إن ((الصَّلاة جامعة)) هي بدل إقامة الصَّلاة للمكتوبات عندَ خروج الإمام حتَّى يعلم الناس حضور الصَّلاة؛ فيتهيئون لها بالقيام، وليس كلهم يشاهد الإمام ودخوله وصلاته، فاحتيج إلى ما يعلم به ذلك.
والإقامة مكروهة لهذه الصَّلاة، فتعين إبدالها بـ ((الصَّلاة جامعة)) .
وفي كراهة: ((حي على الصَّلاة)) بدل ((الصَّلاة جامعة)) وجهان للشافعية.
والمنصوص عن الشافعي: أنه خلاف الأولى.
وفي الحديث: أن الإمام إذا رأى أنه لم يسمع الموعظة النساء، فإنه يأتيهن بعد فراغه من موعظة الرجال، فيعظهن ويذكرهن.
وقد قال عطاء: إن ذلك حق عليهِ.
ولعله أراد أنه مندوب إليه، متأكد الندب.
قال طائفة من أصحاب الشافعي: إذا علم الإمام أن قوما فاتهم سماع الخطبة استحب أن يعيد لهم الخطبة، سواء كانوا رجالا أو نساءً، واستدلوا بهذا الحديث.(8/449)
8 - باب
الخطبة يوم العيد
فيه ثلاثة أحاديث:
الأول:(8/450)
962 - نا أبو عاصم: أنا ابن جريج: أخبرني الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: شهدت العيد مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة.
فيهِ: دليل على أنهم كانوا يخطبون للعيدين، وأنهم كانوا يخطبون بعد الصَّلاة.
وخرجه فيما بعد من طريق عبد الرزاق، بسياق طويل.
الحديث الثاني:(8/450)
963 - نا يعقوب بن إبراهيم: نا أبو اسامة: نا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة.
وقد خرجه مسلم بنحوه من حديث أبي أسامة وعبدة بن سليمان(8/450)
كلاهما، عن عبيد الله.
وقد قال الإمام أحمد - في رواية ابنه عبد الله -: ما سمعت من أحد يقول في هذا الحديث: ((أبو بكر وعمر)) إلا عبدة.
كذا قال، وكأنه لم يسمعه من أبي أسامة.
الحديث الثالث:(8/451)
964 - نا سليمان بن حرب: نا شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس، قالَ: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى يوم الفطر ركعتين، لم يصل قبلهما ولا بعدهما، ثم أتى النساء ومعه بلال، فأمرهن بالصدقة، فجعلن يلقين، تلقي المرأة خرصها وسخابها.
ظاهره: أنه بعد الصلاة خطب النساء، وليس كذلك، وإنما خطب الرجال ثم أتى النساء بعد الرجال، وسيأتي ذلك من حديث طاوس.
و ((الخرص)) ، و ((القرط)) حلقة في الإذن، وربما كانت فيها حبة.
و ((السخاب)) : قلادة تتخذ من أنواع الطيب.
وفي الحديث: دليل على جواز صدقة المرأة بدون إذن زوجها.
الحديث الرابع:(8/451)
965 - نا آدم: نا شعبة: نا زبيد، قال: سمعت الشعبي، عن البراء بن عازب، قالَ: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن أول ما نبدأ في يومنا هذا، أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن نحر قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء)) ، فقال رجل من الأنصار - يقال له: أبو بردة بن نيار -: يا رسول الله، ذبحت، وعندي جذعة خير من مسنة؟ قالَ: ((اجعله مكانه، ولن توفي - أو تجزي - عن أحد بعدك)) .
في هذا الحديث: دليل على أن الخطبة كانت بعد الصَّلاة؛ لقوله: ((إن أول ما نبدأ به يومنا هذا أن نصلي)) ولو كانَ يخطب قبل، لكان أول ما بدأ به الخطبة. وهذا القول قاله في خطبته، كما خرجه البخاري فيما بعد، عن سليمان بن حرب، عن
شعبة، بهذا الإسناد.
وقد تقدم: أن الإمام أحمد خرجه من رواية أبي جناب الكلبي، عن يزيد بن
البراء، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاله قبل الصَّلاة، ثم صلى، ثم خطب، وذكر أنه قال في خطبته: ((من كان منكم عجل ذبحا فإنما هي جزرة اطعمها أهله)) - وذكر قصة أبي بردة -، ثم قال: ((يا بلال)) قال: فمشى، واتبعه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتى النساء، فقال: ((يا معشر النسوان، تصدقن، الصدقة خير لكن)) . قال: فما رأيت يوما قط أكثر خدمة مقطوعة، ولا قلادة، ولا قرطا من ذلك اليوم.(8/452)
وقال الإمام أحمد - أيضا -: نا يحيى بن آدم: نا أبو الأحوص، عن منصور، عن الشعبي، عن البراء بن عازب، قال: خطبنارسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر بعد الصلاة - ولم يزد على ذَلِكَ.
وأما ذكر الخطبتين في العيد، فخرجه ابن ماجه من رواية إسماعيل بن مسلم: نا أبو الزبير، عن جابر، قال: خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الفطر - أو أضحى - فخطب قائما، ثم قعد قعدة، ثم قام.
وإسماعيل، هو المكي. ضعيف جدا.(8/453)
9 - باب
ما يكره من حمل السلاح في العيد والحرم
وقال الحسن: نهوا عن حمل السلاح يوم العيد، إلا أن يخافوا عدواً.
هذا الذي ذكره عن الحسن، قد روي مرفوعاً:
فروى أبو داود في ((مراسيله)) بإسناده، عن الضحاك، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يخرج يوم العيد بالسلاح.
وبإسناده، عن مكحول، قال: إنما كانت الحربة تحمل مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم العيد لأنه كانَ يصلي إليها.
وخرج ابن ماجه بإسناد ضعيف جداً، عن ابن عباس، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يلبس السلاح في بلاد الاسلام في العيدين، إلا أن يكونوا بحضرة العدو.
وفي إسناده: إسماعيل بن زياد، متروك.(8/454)
قال البخاري –رحمه الله -:(8/455)
966 - حدثنا زكريا بن يحيى أبو السكين: نا المحاربي: نا محمد بن سوقة، عن سعيد بن جبير، قال: كنت مع ابن عمر حين أصابه سنان الرمح في أخمص قدمه، فلزقت قدمه بالركاب، فنزلت فنزعتها، وذلك بمنى، فبلغ الحجاج فجاء يعوده، فقال الحجاج: لو نعلم من أصابك؟ قالَ: أنت أصبتني. قالَ: وكيف؟ قال: حملت السلاح في يوم لم يكن يحمل فيه، وأدخلت السلاح الحرم ولم يكن السلاح يدخل الحرم.(8/455)
976 - حدثنا أحمد بن يعقوب: حدثني إسحاق بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، عن أبيه، قال: دخل الحجاج على ابن عمر وأنا عنده، فقال: كيف هو؟ قالَ: صالح. قالَ: من أصابك؟ قال: أصابني من أمر بحمل السلاح في يوم لا يحل فيه حمله –يعني: الحجاج.
زكريا بن يحيى أبو السكين الطائي الكوفي، روى عنه البخاري هذا الحديث، ولم يرو عنه في ((كتابه)) ، ولم يخرج لهُ أحد من أهل الكتب الستة سواه.
وكذلك أحمد بن يعقوب المسعودي الكوفي، لم يروعنه البخاري من أهل
الكتب، لكنه روى عنه في موضوع أخر من ((كتابه)) .
وظاهر كلام ابن عمر: يقتضي أن حمل السلاح يوم النحر غير جائز، سواء كان في الحرم أو غيره، وكذلك حمله في الحرم.
وفي ((صحيح مسلم)) من حديث معقل، عن أبي الزبير، عن جابر، عن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،(8/455)
قال: ((لايحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح)) .
وقول ابن عمر قالَ: ((لم يكن يحمل فيه)) ، في معنى رفعه؛ لأنه إشارة إلى أن ذلك كان عادة مستمرة من عهد النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ذلك الزمان.
ولعل النهي إنما هو عن إشتهار السلاح لا عن حمله في القراب، كما نهى عن ذلك في المساجد.
ويدل عليه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاضى أهل مكة عام الحديبية على أن يدخلها من قابل، وأن لا يدخلها إلا بجلبان السلاح، وهي السيوف في القراب.
ولكن ألفاظ الأحاديث عامة، وقد يكون دخوله مكة عام القضية بالسلاح؛ لأنه كانَ خائفاً.
وقد حكي عن عطاء ومالك والشافعي، أنه يكره إدخال السلاح إلى الحرم لغير حاجة إليه.
وأما حمل السلاح يوم العيد، فقد حكى البخاري عن الحسن، أنه قال: نهوا
عنه، إلا أن يخافوا عدواً.
وقد روي عنه مرفوعاً.
خرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ((كتاب الشافي)) ، من طريق علي بن عياش: ثنا إسماعيل، عن ابن أبي نعم ٍ، عن الحسن، عن جابر، قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يخرج السلاح في العيدين.(8/456)
إسماعيل: كأنه: ابن عياش.
والصحيح: الموقوف.
وبوب عليه أبو بكر: ((باب: القول في لبس السلاح في العيدين وذكر
الثغور)) .
يشير إلى أنه في الثغور التي يخاف فيها من هجم العدو غير منهي عنه.(8/457)
10 - باب
التبكير إلى العيد
وقال عبد الله بن بسر: إن كنا قد فرغنا في هذه الساعة، وذلك حين التسبيح.(8/458)
968 - حدثنا سليمان بن حرب: نا شعبة، عن زبيد، عن الشعبي، عن البراء، قال: خطبنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر، فقال: ((إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر)) .
ثم ذكر بقية الحديث - يعني حديث آدم، عن شعبة -، وقد سبق قريباً، إلا أنه قال: ((اجعلها مكانها)) - أو قال -: ((اذبحها، ولن تجزي جذعة عن أحد بعدك)) .
وجه الاستدلال بحديث البراء على التبكير بصلاة العيد: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر أن أول ما يبدأ به في يوم النحر الصَّلاة، ثُمَّ النحر بعد رجوعه، والمراد باليوم
ها هنا: ما بعد طلوع الشمس، فإنه لا يجوز صلاة العيد قبل [ذَلِكَ] بالاتفاق.
وهذا مما يرد قول من قال من أصحابنا بجواز(8/458)
صلاة الجمعة قبل طلوع الشمس.
وقد يستدل به من يرى أن صلاة العيد تجوز قبل زوال وقت النهي 0
ويجاب عنه بان ذكره أول ما يبدأ به في وقت متسع، لا يلزم منه أن يكون فعله له في أول الوقت 0
وقال الشافعي: أنا الثقة، أن الحسن كان يقول: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغدو إلى الأضحى والفطر حين تطلع الشمس، فيتتام طلوعها.
وأما حديث عبد الله بن بسر الذي ذكره تعليقاً:
فخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث يزيد بن خمير الرحبي، قال: خرج عبد الله بن بسر - صاحب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع الناس في يوم عيد فطر - أو أضحى -، فأنكر إبطاء الإمام، وقال: أنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح.
والمراد بصلاة التسبيح: صلاة الضحى.
والمراد بحينها: وقتها المختار، وهو إذا اشتد الحر.
فهذا التأخير هو الذي أنكره عبد الله بن بسر، ولم ينكر تأخيرها إلى أن يزول وقت النهي؛ فان ذَلِكَ هوَ الأفضل بالاتفاق، فكيف ينكره.
وقد اختلف في أول وقت صلاة العيد:
فقال أبو حنيفة وأحمد: أول وقتها إذا ارتفعت الشمس، وزال وقت النهي.
وهو أحد الوجهين(8/459)
للشافعية.
والثاني - لهم -: أول وقتها إذا طلعت الشمس، وان لم يزل وقت النهي.
وهو قول مالك.
ويتخرج لأصحابنا مثله، على قولهم: إن ذوات الأسباب كلها تفعل في أوقات النهي.
وقد خرجه بعضهم في صلاة الاستسقاء، وصلاة العيد مثلها.
وعمل السلف يدل على الأول؛ فإنه قد روي عن ابن عمر ورافع بن خديج وجماعة من التابعين، أنهم كانوا لا يخرجون إلى العيد حتَّى تطلع الشمس، وكان بعضهم يصلي الضحى في المسجد قبل أن يخرج إلى العيد.
وهذا يدل على أن صلاتها إنما كانت تفعل بعد زوال وقت النهي.
واختلفوا: هل يستحب إقامة العيدين في وقت واحد بالسوية، أو يعجل أحدهما عن آخر؟ على قولين.
أحدهما: انهما يصليان بالسوية، وهو قول مالك.
وقال ربيعة: إذا طلعت الشمس فالتعجيل بهما - يعني: الفطر والأضحى - أحسن من التأخير.
قال الزهري: كانوا يؤخرون العيدين حتى يرتفع النهار جداً.
وروى عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يبكر بالخروج إلى الصلاة؛ كيلا يصلي أحد قبلها.(8/460)
خرجه كله جعفر الفريابي في ((كتاب العيدين))
والثاني: يستحب أن يؤخر صلاة الفطر، وتقدم الأضحى، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد.
وفي حديث مرسل، خرجه الشافعي، أن النبي كتب إلى عمرو بن حزم - وهو بنجران - أن عجل الأضحى، وأخر الفطر.
وفي إسناده: إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وهو ضعيف جداً.
والمعنى في ذلك: أنه بتأخير صلاة عيد الفطر يتسع وقت إخراج الفطرة المستحب إخراجها فيه، وبتعجيل صلاة الأضحى يتسع وقت التضحية، ولا يشق على الناس أن يمسكوا عن الأكل حتَّى يأكلوا من ضحاياهم.
وقد تقدم في حديث ابن عباس المخرج في ((المسند)) : وكانوا لا يخرجون حتى يمتد الضحى، فيقولون: نطعم حتى لا نعجل عن صلاتنا.
وأظنه من قول عطاء.
ويكون تعجيل صلاة الأضحى بمقدار وصول الناس من المزدلفة إلى منى ورميهم وذبحهم - نص عليه أحمد في رواية حنبل -؛ ليكون أهل الأمصار تبعاً للحاج في ذَلِكَ؛ فإن رمي الحاج الجمرة بمنزلة صلاة العيد لأهل الأمصار.
وأما آخر وقت صلاة العيد فهو: زوال الشمس.
قال عطاء: كل عيد(8/461)
في صدر النهار.
وقال مجاهد: كانوا يعدون العيد في صدر النهار.
وقال مجاهد: كل عيد للمسلمين فهو قبل نصف النهار.
وقال أحمد: لا يكون الخروج للعيدين إلا قبل الزوال.
وأما إن لم يعلم بالعيد إلا في أثناء النهار، فإن علم به قبل زوال الشمس خرجوا من وقتهم، وصلوا صلاة العيد.
وإن شهدوا بعد الزوال في أثناء النهار، فقال أكثر العلماء: يخرجون من الغد للصلاة، وهو قول عمر بن عبد العزيز والثوري وأبي حنيفة والأوزاعي والليث وإسحاق وأحمد وابن المنذر 0
واستدلوا بما روى أبو عمير بن أنس، قال: حدثني عمومة لي من الأنصار من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: غم علينا هلال شوال، فأصبحنا صياماً، فجاء ركب من آخر النهار، فشهدوا عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمر الناس أن يفطروا من يومهم، وأن يخرجوا لعيدهم من الغد.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
وصححه إسحاق بن راهويه والخطابي والبيهقي.
واحتج به أحمد.
وتوقف فيه الشافعي، وقال: لو ثبت قلنا به.(8/462)
وقالت طائفة: تسقط ولا تصلي بعد ذلك، كما لا تقضى الجمعة إذا فاتت، وهو قول مالك وأبي ثور والشافعي - في قول له.
والقول المشهور، عنه: أنه إن أمكن جمع الناس في بقية يومهم لصغر البلد
خرجوا، وصلوا في بقية اليوم، وإلا أخروه إلى الغد.
وبنى ذلك أصحابه على أن التأخير إلى الغد قضاء، أو أداء.
فإن قيل: إنه أداء، لم تصل بعد الزوال؛ لأن وقت أدائها قد فات.
وإن قيل: إنَّهُ قضاء - وهو أصح عندهم -، قضيت في بقية النهار، إذا أمكن جمع الناس فيهِ.
وهو أفضل - عندهم - من تأخيرها إلى الغد، في أصح الوجهين عندهم. ولا خلاف عندهم، أنه إذا لم يعلم بالعيد إلاّ في الليلة الثانية، أنه يصلي من الغد.
قالوا: ويكون أداء، بغير خلاف.
واتفقوا على أن هذه الشهادة لا تقبل بالنسبة إلى صلاة العيد، بل تصلى من الغد أداء بغير خلاف.
قال في ((شرح المهذب)) : قال أصحابنا: ليس يوم الفطر أول شوال مطلقا وإنما هو اليوم الذي يفطر فيه الناس؛ بدليل حديث:
((فطركم يوم تفطرون)) وكذلك يوم النحر، وكذلك يوم عرفة هوَ اليوم الذي يظهر للناس، أنه يوم عرفة، سواء كانَ التاسع أو العاشر وقال الشافعي في ((الأم)) عقب هذا الحديث: فبهذا نأخذ. قالَ: وإنما كلف العباد الظاهر، ولم يظهر الفطر إلا يوم أفطروا. انتهى.(8/463)
وقال أصحاب أبي حنيفة - فيمن شهد بيوم عرفة بعرفة، على وجه لا يتمكن الناس فيه من تلافي الوقوف، على تقدير صحة شهادتهم في ذلك العام -: إن شهادتهم غير مقبولة؛ لما يؤدى إليه قبولها من إيقاع الناس في الفتنه، بتفويت حجهم.
ذكره صاحب ((الكافي)) - منهم.(8/464)
11 - باب
فضل العمل في أيام التشريق
وقال ابن عباس ((واذكروا الله في أيام معلومات)) : أيام العشر. والأيام المعدودات: أيام التشريق.
وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر، ويكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
وكبر محمد بن علي خلف النافلة.
بوب على فضل أيام التشريق والعمل فيها.
وذكر في الباب أيام التشريق وأيام العشر، وفضلهما جميعاً.
وذكر ابن عباس: أن الأيام المعلومات المذكورة في سورة الحج هي أيام العشر، والأيام المعدودات المذكورة في سورة البقرة هي أيام التشريق.
وفي كل منهما اختلاف بين العلماء:
فأما المعلومات:
فقد روي عن ابن عباس، أنها أيام عشر ذي الحجة، كما حكاه عنه البخاري.
وروي - أيضاً - عن ابن عمر، وعن عطاء والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة.
وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد - في المشهور، عنه.
وقالت طائفة: الأيام المعلومات: يوم النحر ويومان بعده، روي عن ابن عمر وغيره من السلف. وقالوا: هي أيام الذبح.
وروي - أيضاً - عن علي وابن عباس، وعن عطاء الخراساني والنخعي وهو قول(9/5)
مالك وأبي يوسف ومحمد وأحمد - في رواية عنه.
ومن قال: أيام الذبح أربعة، قال: هي يوم النحر وثلاثة أيام بعده.
وقد روي عن أبي موسى الأشعري، أنه قال - في خطبته يوم النحر -: هذا يوم الحج الأكبر، وهذه الأيام المعلومات التسعة التي ذكر الله في القرآن، لا يرد فيهن
الدعاء، هذا يوم الحج الأكبر، وما بعده من الثلاثة اللائي ذكر الله الأيام المعدودات، لا يرد فيهن الدعاء.
وهؤلاء جعلوا ذكر الله فيها هو ذكره على الذبائح.
وروي عن محمد بن كعب، أن المعلومات أيام التشريق خاصة.
والقول الأول أصح؛ فان الله سبحانه وتعالى قالَ – بعد ذكره في هذه الأيام المعلومات: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] .
والتفث: هو ما يصيب الحاج من الشعث والغبار.
وقضاؤه: إكماله.
وذلك يحصل يوم النحر بالتحلل فيه من الإحرام، فقد جعل ذلك بعد ذكره في الأيام المعلومات، فدل على أن الأيام المعلومات قبل يوم النحر الذي يقضى فيه التفث ويطوف فيه بالبيت العتيق.
فلو كانت الأيام المعلومات أيام الذبح لكان الذكر فيها بعد قضاء التفث ووفاء النذور(9/6)
والتطوف بالبيت العتيق، والقران يدل على أن الذكر فيها قبل ذلك.
وأما قوله تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنعام} [الحج:28] .
فأما أن يقال: إن ذكره على الذبائح يحصل في يوم النحر، وهو أفضل أوقات الذبح، وهو آخر العشر.
وإما أن يقال: إن ذكره على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، ليس هو ذكره على الذبائح، بل ذكره في أيام العشر كلها، شكراً على نعمة رزقه لنا من بهيمة الأنعام؛ فإن لله تعالى علينا فيها نعماً كثيرة دنيوية ودينية.
وقد عدد بعض الدنيوية في سورة النحل، وتختص عشر ذي الحجة منها بحمل أثقال الحاج، وإيصالهم إلى قضاء مناسكهم والانتفاع بركوبها ودرها ونسلها وأصوافها وأشعارها.
وأما الدينية فكثيرة، مثل: إيجاب الهدي وإشعاره وتقليده، وغالبا يكون ذلك في أيام العشر أو بعضها، وذبحه في آخر العشر، والتقرب به إلى الله، والأكل من لحمه، وإطعام القانع والمعتر.
فلذلك شرع ذكر الله في أيام العشر شكراً على هذه النعم كلها، كما صرح به في قوله تعالى: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37] ، كما أمر بالتكبير عند قضاء صيام رمضان، وإكمال العدة، شكراً على ما هدانا إليه من الصيام والقيام المقتضي لمغفرة الذنوب السابقة.
وأما الأيام المعدودات:
فالجمهور على أنها أيام التشريق، وروي عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما.
واستدل ابن عمر يقوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] وإنما يكون(9/7)
التعجيل في ثاني أيام التشريق.
قال الإمام أحمد: ما أحسن ما قال ابن عمر.
وقد روي عن ابن عباس وعطاء، أنها أربعة أيام: يوم النحر، وثلاثة بعده.
وفي إسناد المروي عن ابن عباس ضعف.
وأما ما ذكره البخاري عن ابن عمر وأبي هريرة، فهو من رواية سلام أبي المنذر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، أن ابن عمر وأبا هريرة كانا يخرجان في العشر إلى السوق يكبران، لا يخرجان إلاّ لذلك.
خرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ((كتاب الشافي)) وأبو بكر المروزي القاضي في ((كتاب العيدين)) .
ورواه عفان: نا سلام أبو المنذر - فذكره، ولفظه: كان أبو هريرة وابن عمر يأتيان السوق أيام العشر، فيكبران، ويكبر الناس معهما، ولا يأتيان لشيء إلا لذلك.
وروى جعفر الفريابي، من رواية يزيد بن أبي زياد، قال: رأيت سعيد بن جبير
وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهدا - أو اثنين من هؤلاء الثلاثة - ومن رأينا من فقهاء الناس يقولون في أيام العشر: ((الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر. الله أكبر ولله الحمد)) .(9/8)
وروى المروزي، عن ميمون بن مهران، قال: أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر، حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها، ويقول: إن الناس قد نقصوا في تركهم التكبير.
وهو مذهب أحمد، ونص على أنه يجهر به.
وقال الشافعي: يكبر عند رؤية الأضاحي.
وكأنه أدخله في التكبير على بهيمة الأنعام المذكور في القران، وهو وإن كان داخلا فيه، إلا أنه لا يختص به، بل هو أعم من ذلك كما تقدم.
وهذا على اصل الشافعي وأحمد: في أن الأيام المعلومات هي أيام العشر، كما
سبق.
فأما من قال: هي أيام الذبح، فمنهم من لم يستحب التكبير في أيام العشر، وحكي عن مالك وأبي حنيفة.
ومن الناس من بالغ، وعده من البدع، ولم يبلغه ما في ذلك من السنة.
وروى شعبة، قال: سالت الحكم وحماداً عن التكبير أيام العشر؟ فقالا: لا؛ محدث.
خرّجه المروزي.
وخرّج الإمام أحمد من حديث ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((ما من أيام اعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيه من هذه الأيام العشر؛ فاكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)) .
ويروي نحوه من حديث ابن عباس – مرفوعاً، وفيه: ((فاكثروا فيهن(9/9)
التهليل والتكبير؛ فإنها أيام تهليل وتكبير وذكر الله عز وجل)) .
وأما ما ذكره عن محمد بن علي في التكبير خلف النافلة، فهوَ في أيام التشريق.
ومراده: أن التكبير يشرع في أيام العشر وأيام التشريق جميعاً، وسيأتي ذكر التكبير في أيام التشريق فيما بعد - إن شاء الله سبحانه وتعالى.
قال البخاري - رحمه الله تعالى -:(9/10)
969 - نا محمد بن عرعرة: نا شعبة، عن سليمان، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((ما العمل في أيام أفضل منها في هذه الأيام - يعني: أيام العشر -)) قالوا: ولا الجهاد؟ قالَ: ((ولا الجهاد، إلاّ رجل يخرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء)) . هكذا في أكثر النسخ المعتمدة، وفي أكثر النسخ: ((ما العمل في العشر أفضل منه في هذه الأيام)) –وكأنه يشير إلى أيام التشريق -، والحديث بهذا اللفظ غير معروف.
وفيه: تفصيل العمل في أيام التشريق وأيام العشر جميعاً.
ولعل هذا من تصرف بعض الرواة، حيث أشكل عليه إدخال الحديث باللفظ المشهور في ((باب: فضل العمل في أيام التشريق)) .
والبخاري اتبع عبد الرزاق؛ فانه خرج هذا الحديث في (مصنفه) في ((باب: فضل أيام التشريق)) –أيضاً.
وقد ذكر أن البخاري وإن بوب(9/10)
على أيام التشريق، لكنه ذكر في الباب فضل أيام العشر وأيام التشريق جميعا، ولهذا ذكر عن ابن عباس تفسير الأيام المعلومات، والأيام المعدودات. وعن ابن عمر وأبي هريرة التكبير في أيام العشر. وعن محمد بن علي التكبير في أيام التشريق خلف النوافل، فعلم انه أراد ذكر فضائل هذه الأيام جميعها، وليس في فضل العمل في أيام التشريق حديث مرفوع، فخرج فيه حديث فضل العمل في أيام العشر.
وهذا الحديث حديث عظيم جليل.
وسليمان الذي رواه عنه شعبة هو الأعمش، وقد رواه جماعة عن الأعمش بهذا الإسناد، وهو المحفوظ -: قاله الدارقطني وغيره.
واختلف على الأعمش فيه:
ورواه عن مسلم البطين مع الأعمش: حبيب بن أبي عمرة ومخول بن راشد.
ورواه عن سعيد بن جبير مع البطين: أبو صالح ومجاهد وسلمة بن كهيل وأبو إسحاق والحكم وعدي بن ثابت وغيرهم، مع اختلاف على بعضهم فيه.(9/11)
ورواه عن ابن عباس مع سعيد بن جبير، عطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة
ومقسم، مع اختلاف على بعضهم يطول ذكره.
ولعل مسلماً لم يخرجه للاختلاف في إسناده. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وهذا الحديث نص في أن العمل المفضول يصير فاضلا إذا وقع في زمان فاضل، حتى يصير أفضل من غيره من الأعمال الفاضلة؛ لفضل زمانه.
وفي أن العمل في عشر ذي الحجة أفضل من جميع الأعمال الفاضلة في غيره.
ولا يستثنى من ذلك سوى أفضل أنواع الجهاد، وهو أن يخرج الرجل بنفسه
وماله، ثم لا يرجع منهما بشيء.
وقد سئل: ((أي الجهاد أفضل؟)) ، قالَ: ((من عقر جواده، وأهريق
دمه)) .
وسمع رجلا يقول: اللَّهُمَّ اعطني أفضل ما تعطي عبادك الصالحين، فقالَ لهُ:
((إذن يعقر جوادك، وتستشهد)) .
فهذا الجهاد بخصوص يفضل على العمل في العشر، وأما سائر أنواع الجهاد مع سائر الأعمال، فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضل منها.
وفي رواية: ((وأحب الله عز وجل)) .
فإن قيل: فإذا كان كذلك فينبغي أن يكون الحج أفضل من الجهاد؛(9/12)
لأن الحج يختص بهده العشر، وهو من أفضل أعماله، ومع هذا فالجهاد أفضل منه؛ لما في ((الصحيحين)) ، عن أبي هريرة، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قالَ: ((أفضل الأعمال الإيمان بالله ورسوله، ثُمَّ الجهاد في سبيل الله، ثُمَّ حج مبرور)) .
قيل: للجمع بينهما وجهان:
أحدهما: بان يكون الحج أفضل من سائر أنواع الجهاد، إلاّ الجهاد الذي لا يرجع صاحبه منه بشيء من نفسه وماله، فيكون هذا الجهاد هو الذي يفضل على الحج
خاصة.
وقد روي عن طائفة من الصحابة تفضيل الحج على الجهاد، ومنهم: عمر وابنه وأبو موسى وغيرهم، عن مجاهد وغيره.
فيحمل على تفضيله على ما عدا هذا الجهاد الخاص، ويجمع بذلك بين النصوص كلها.
الوجه الثاني: أن الجهاد في نفسه أفضل من الحج، لكن قد يقترن بالحج ما يصير به أفضل من الجهاد، وقد يتجرد عن ذلك فيكون الجهاد أفضل منه حينئذ.
ولذلك أمثله:
منها: أن يكون الحج مفروضا، فيكون حينئذ أفضل من التطوع بالجهاد، هذا قول جمهور العلماء.
وقد روي صريحاً، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
وروي - مرفوعاً - من وجوه متعددة، في أسانيدها لين.(9/13)
ونص عليه الإمام أحمد وغيره.
وقد دل عليه: قول النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكاية عن ربه عز وجل: ((ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه)) .
وقد خرجه البخاري في ((كتابه)) هذا.
ومنها: أن يكون الحاج ليس من أهل الجهاد، فحجه أفضل من جهاده،
كالمرأة.
وقد خرج البخاري حديث عائشة، أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قالَ: ((لكن أفضل الجهاد حج مبرور))
ومنها: أن يستوعب عمل الحج جميع أيام العشر، ويؤتي به على أكمل الوجوه، وجوه البر من أداء الواجبات وفعل المندوبات واجتناب المحرمات والمكروهات، مع كثرة ذكر الله عز وجل والإحسان إلى عباده، وكثرة العج والثج، فهذا الحج قد يفضل على الجهاد.
وقد يحمل عليه ما روي عن الصحابة من تفضل الحج على الجهاد، كما سبق.
وإن وقع عمل الحج في جزء يسير من العشر، ولم يؤت به على الوجه الكامل من البر، فإن الجهاد حينئذ أفضل منه.
ويدل عليه - أيضاً -: أن النبي لما سئل عن عمل يعدل الجهاد، فقال: ((هل تستطيع إذا خرج المجاهد، أن تقوم فلا تفتر، وتصوم فلا(9/14)
تفطر؟)) .
فدل على أن العمل من [فتور] في أي وقت كانَ يعدل الجهاد، فإذا وقع هذا العمل الدائم في العشر بخصوصه في عدد أيامه من سائر السنة، إلا من أفضل الجهاد بخصوصه كما تقدم.
ولهذا كان سعيد بن جبير - وهو راوي هذا الحديث، عن ابن عباس - إذا دخل العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه.
وروي عنه، أنه قال: لا تطفئوا مصابيحكم في العشر - يعجبه العبادة.
فإن قيل: هل المراد: تفضيل العمل في هذه العشر على العمل في كل عشر غيره من أيام الدنيا، فيدخل في ذلك عشر رمضان وغيره، أم على العمل في أكثر من عشر أخر من الأيام، وإن طالت المدة؟
قيل: أما تفضيل العمل فيهِ على العمل في كل عشر غيره، فلا شك في ذَلِكَ.
ويدل عليه: ما خرجه ابن حبان في ((صحيحه)) ، من حديث جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة)) . فقال رجل: يا رسول الله، هو أفضل أو عدتهن جهاد في سبيل الله؟ قالَ: ((هوَ أفضل من عدتهن جهاد في سبيل الله عز وجل)) .
فيدخل في ذلك تفضيل العمل في عشر ذي الحجة على العمل في(9/15)
جميع أعشار الشهور كلها، ومن ذلك عشر رمضان.
لكن فرائض عشر ذي الحجة أفضل من فرائض سائر الأعشار، ونوافله أفضل من نوافلها، فأما نوافل العشر فليست أفضل من فرائض غيره، كما سبق تقريره في الحج والجهاد.
وحينئذ؛ فصيام عشر رمضان أفضل من صيام عشر ذي الحجة؛ لأن الفرض أفضل من النفل.
وأما نوافل عشر ذي الحجة فأفضل من نوافل عشر رمضان، وكذلك فرائض عشر ذي الحجة تضاعف أكثر من مضاعفة فرائض غيره.
وقد كان عمر يستحب قضاء رمضان في عشر ذي الحجة؛ لفضل أيامه، وخالفه في ذَلِكَ علي، وعلل قوله باستحباب تفريغ أيامه للتطوع وبذلك علله أحمد وإسحاق، وعن أحمد في ذَلِكَ روايتان.
وأما تفضيل العمل في عشر ذي الحجة على العمل في أكثر من عشرة أيام من
غيره، ففيه نظر.
وقد روي ما يدل عليهِ:
فخرج الترمذي وابن ماجه من رواية النهاس بن قهم، عن قتادة، عن ابن
المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي قالَ: ((ما من أيام احب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كل يوم منها بسنة، وكل ليلة منها بليلة القدر)) .(9/16)
والنهاس، ضعفوه.
وذكر الترمذي عن البخاري، أن الحديث يروى عن قتادة، عن ابن المسيب - مرسلا.
وروى ثوير بن أبي فاختة - وفيه ضعف -، عن مجاهد، عن ابن عمر، قالَ: ليس يوم أعظم عند الله من يوم الجمعة، ليس العشر؛ فإن العمل فيهِ يعدل عمل سنة.
وممن روي عنه: أن صيام كل يوم من العشر يعدل سنة: ابن سيرين وقتادة وعن الحسن: صيام يوم منه يعدل شهرين.
وروى هارون بن موسى النحوي: سمعت الحسن يحدث، عن أنس، قالَ: كان يقال في أيام العشر بكل ألف يوم، ويوم عرفة عشرة الآف يوم.
وفي ((صحيح مسلم)) ، من حديث أبي قتادة - مرفوعا - ((إن صيامه كفارة سنتين)) .
وهذه النصوص: تدل على أن كل عمل في العشر فإنه أفضل من العمل في غيره، أما سنة أو أكثر من ذلك أو اقل. والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة ذلك كله.(9/17)
وحديث جابر الذي خرجه ابن حبان: يدل على أن أيام العشر أفضل من الأيام مطلقا.
وقد خرجه أبو موسى المديني من الوجه الذي خرجه ابن حبان، بزيادة فيهِ، وهي: ((ولا ليالي أفضل من لياليهن)) .
وفي ((مسند البزار)) من وجه آخر، عن جابر، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((أفضل أيام الدنيا العشر)) .
وروي مرسلاً.
وقيل: إنه أصح.
وقد سبق قول ابن عمر في تفضيل أيام العشر على يوم الجمعة، الذي هوَ أفضل أيام الدنيا.
وقال مسروق في قوله: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} هي أفضل أيام السنة.
وهذه العشر تشتمل على يوم عرفة.
وفي ((صحيح ابن حبان)) عن جابر - مرفوعا -: ((إنه أفضل أيام الدنيا)) وفيه: يوم النحر.
وفي حديث عبد الله بن قرط، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ: ((أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر)) .
خرّجه أبو داود وغيره.(9/18)
وقد سبق في الحديث المرفوع: أن صيام كل يوم [منه] بسنة، وقيام كل ليلة منه يعدل ليلة القدر.
وهذا يدل على أن عشر ذي الحجة أفضل من عشر رمضان، لياليه وأيامه.
وقد زعم طائفة من أصحابنا: أن ليلة الجمعة أفضل من ليلة القدر.
وقد تقدم عن ابن عمر، أن أيام العشر أفضل من يوم الجمعة، فلا يستنكر حينئذ تفضيل ليالي عشر ذي الحجة على ليلة القدر.
وعلى تقدير أن لا يثبت ذلك، فقال بعض أعيان أصحابنا المتأخرين: مجموع عشر ذي الحجة أفضل من مجموع عشر رمضان، وإن كان في عشر رمضان ليلة لا تفضل عليها غيرها. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وروى سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن كعب: أحب الزمان إلى الله الشهر الحرام، وأحب الأشهر الحرم إلى الله ذو الحجة، وأحب ذي الحجة إلى الله العشر الأول.
وروي عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة – مرفوعا، ولا يصح، وكذا قال سعيد بن جبير: ما من الشهور أعظم حرمة من ذي الحجة.
وفي ((مسند البزار)) من حديث أبي سعيد - مرفوعا -: ((سيد الشهور(9/19)
رمضان، وأعظمها حرمة ذو الحجة)) .
وفي إسناده مقال.
وفي ((مسند الإمام أحمد)) ، عن أبي سعيد، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال - في خطبته في حجة الوداع يوم النحر -: ((ألا إن أحرم الأيام يومكم هذا، وأحرم الشهور شهركم هذا، وأحرم البلاد بلدكم هذا)) .
وروي هذا من حديث جابر، ووابصة، ونبيط بن شريط وغيرهم - أيضاً.
وهذا كله يدل على أن شهر ذي الحجة أفضل الأشهر الحرم؛ حيث كانَ أعظمها حرمة.
وروي عن الحسن: أن أفضلها المحرم.
وأما ما قاله بعض الفقهاء الشافعية: أن أفضلها رجب: فقوله ساقط مردود. والله تعالى أعلم.(9/20)
12 - باب
التكبير أيام منى، وإذا غدا إلى عرفة
وكان عمر يكبر في قبته بمنى فيسمع أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتَّى ترتج منى تكبيرا.
وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات، وعلى فراشه، وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه، تلك الأيام جمعا.
وكانت ميمونة تكبر يوم النحر.
وكان النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد.
قد تقدم: أن الأيام المعدودات التي أمر الله بذكره فيها هي أيام منى.
وهل هي الأربعة كلها، أو أيام الذبح منها؟ فيهِ خلاف سبق ذكره.
وهو مبني على أن ذكر الله فيها: هل هوَ ذكره على الذبائح. أو أعم من ذَلِكَ؟
والصحيح: أنه أعم من ذَلِكَ.
وفي ((صحيح مسلم)) ، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ في أيام منى: ((إنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل)) .
وذكر الله في هذه الأيام نوعان:
أحدهما: مقيد عقيب الصلوات.(9/21)
والثاني: مطلق في سائر الأوقات.
فأما النوع الأول:
فاتفق العلماء على أنه يشرع التكبير عقيب الصلوات في هذه الأيام في الجملة، وليس فيهِ حديث مرفوع صحيح، بل إنما فيهِ آثار عن الصحابة ومن بعدهم، وعمل المسلمين عليهِ.
وهذا مما يدل على أن بعض ما أجمعت الأمة عليهِ لم ينقل إلينا فيهِ نص صريح عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل يكتفى بالعمل به.
وقد قالَ مالك في هذا التكبير: إنه واجب.
قالَ ابن عبد البر: يعني وجوب سنة.
وهو كما قالَ.
وقد اختلف العلماء في أول وقت هذا التكبير وآخره.
فقالت طائفة: يكبر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق.
فإن هذه أيام العيد، كما في حديث عقبة بن عامر، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ:
((يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وصححه.
وقد حكى الإمام أحمد هذا القول إجماعاً من الصحابة، حكاه عن عمر وعليّ وابن مسعود وابن عباس.
فقيل له: فابن عباس اختلف عنه؛ فقالَ: هذا هوَ الصحيح عنه، وغيره لا يصح عنه.
نقله الحسن بن ثواب، عن أحمد.(9/22)
وإلى هذا ذهب أحمد؛ لكنه يقول: إن هذا في حق أهل الأمصار، فأما أهل الموسم فإنهم يكبرون من صلاة الظهر يوم النحر؛ لأنهم قبل ذَلِكَ مشتغلون بالتلبية.
وحكاه عن سفيان بن عيينة، وقال: هوَ قول حسن.
ويمتد تكبيرهم إلى آخر أيام التشريق - أيضاً - على المشهور عنه.
ونقل حرب، عنه، أنهم يكبرون إلى صلاة الغداة من آخر أيام التشريق.
وممن فرق بين الخارج وأهل الأمصار: أبو ثور. وروى الخضر الكندي، عن
عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، قال: إذا كان عليه تكبير وتلبية بدأ بالتكبير، ثم التلبية.
قال أبو بكر بن جعفر: لم يروها غيره.
قلت: الخضر هذا، غير مشهور، وهو يروي عن عبد الله بن أحمد المناكير التي تخالف روايات الثقات، عنه، والذي نقل الثقات، عن أحمد، أن الحاج لا يكبر حتى يقطع التلبية، فكيف يجتمعان عليهِ؟
وقد حملها أبو بكر إلى ما إذا اخر الحاج رمي جمرة العقبة حتَّى صلى الظهر؛ فإنه يجتمع عليهِ في صلاة الظهر - حينئذ - تلبية وتكبير.
ووجهه: بأن هذا الوقت وقت التكبير، وإنما(9/23)
صار وقت تلبية في حق هذا لتأخيره الرمي، وهو نوع تفريط منه، فلذلك بدأ بالتكبير قبل التلبية.
والاجماع الذي ذكره أحمد، إنما هو في ابتداء التكبير يوم عرفة من صلاة الصبح.
أما اخر وقته، فقد اختلف فيه الصحابة الذين سماهم.
فأما علي، فكان يكبر من صبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق.
وهي الرواية التي صححها الإمام أحمد، عن ابن عباس.
وكذلك روي عن عمر.
وروي، عنه: إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق.
وأنكره يحيى القطان.
وإلى قول علي ذهب الثوري وابن أبي ليلى وشريك وإسحاق.
ولم يفرق بين أهل منى وغيرها.
وكذلك أكثر العلماء، وهو قول الثوري.
وكذلك قال: إذا أجتمع التكبير والتلبية بدأ بالتكبير.
وأما ابن مسعود، فإنه كان يكبر من صلاة الغداة يوم عرفة إلى الصلاة العصر يوم النحر.
وهو قول أصحابه، كالأسود وعلقمة، وقول النخعي وأبي حنيفة.
وروى خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: التكبير من الصلاة الظهر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق.
وهذه الرواية التي ضعفها أحمد، وذكر أنها مختلفة.(9/24)
قال عبد الرزاق: وبلغني عن زيد بن ثابت - مثله.
وعن الحسن، قال: يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر من يوم النفر الأول.
وروى العمري، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الفجر، من آخر أيام التشريق.
وروى الواقدي بأسانيده، عن عثمان وابن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد -
نحوه.
وعن عطاء، أن الأئمة كانوا يكبرون صلاة الظهر يوم النحر، يبتدؤن بالتكبير كذلك إلى آخر أيام التشريق.
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز التكبير من صلاة الظهر يوم النحر إلى صبح آخر أيام التشريق.
وإليه ذهب مالك والشافعي – في أشهر أقواله.
وله قول آخر كقول علي ومن وافقه.
وله قول ثالث: بيدأ من ليلة النحر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق.
والمحققون من أصحابه على أن هذه الاقوال الثلاثه في حق أهل الأ مصار، فأما أهل الموسم بمنى، فإنهم يبدءون بالتكبير عقيب صلاة الظهر يوم النحر إلى الصبح من آخر أيام التشريق بغير خلاف، ونقلوه عن الشافعي.
وهذا يوافق قول أحمد في ابتدائه.
وأختار جماعة من أصحابه القول بأن ابتداءه في الأمصار من صبح(9/25)
يوم عرفة وانتهاءه عصر آخر يوم من أيام التشريق.
منهم المزني وأبن سريج وابن المنذر والبيهقي وغيرهم من الفقهاء المحدثين منهم.
قالوا: وعليه عمل الناس في الأمصار.
وفي المسألة للسلف أقوال أخر.
وفي الباب حديث مرفوع، لايصح إسناده.
وخرجه الحاكم من حديث علي وعمار.
وضعفه البيهقي، وهو كما قال.
وقد أشار البخاري إلى مسألتين من مسائل هذا التكبير.
إحداهما:
أن التكبير يكون خلف الفرائض.
وهل يكبر خلف صلاة التطوع؟
فقد تقدم في باب الماضي، عن محمد بن علي –وهو: أبو جعفر -، أنه كانَ يكبر خلف النوافل.
وإلى قوله ذهب الشافعي – في أشهر قوليه – وابن المنذر.
وقال أكثر العلماء: لايكبر عقب النوافل.
وأختلفوا في التكبير عقب صلاة عيد النحر:
فقال مجاهد: يكبر.
وقال أحمد: إن ذهب رجل إلى ذا فقد روي فيه عن بعض التابعين، والمعروف في المكتوبة.
وقال أبو بكر ابن جعفر –من أصحابنا -: يكبر؛ لأن صلاة العيد عندنا فرض كفاية، فهي ملحقة(9/26)
بالفرائض، وهو قول إسحاق بن راهويه، وحكاه عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز والشعبي وعطاء الخراساني وغيرهم.
وللشافعي قولان.
واختلفوا: هل يكبر من صلى الفرض وحده؟ على قولين.
أحدهما: لايكبر، وهومروي عن ابن عمر.
وذكره سفيان الثوري، عن أبي جعفر، عن أنس.
وقال ابن مسعود: ليس بالتكبير في أيام التشريق على الواحد والاثنين، التكبير على من صلى في جماعة.
وممن قال: لايكبر إذا صلى الفرض وحده: الثوري وأبو حنيفة وأحمد - في
رواية.
والقول الثاني: وهو قول الشعبي والنخعي والأوزاعي والثوري – في رواية
أخرى – والحسن بن صالح ومالك والشافعي وأحمد في رواية أخرى.
وقال هؤلاء كلهم: يكبر في السفر والحضر.
وقال أبو حنيفة: لايكبر المسافر إلا إذا اقتدى بالمقيم، تبعاً له، واتفقوا على أن الحاج يكبرون بمنى.
المسألة الثانية:
أن النساء كن يكبرن إذا صلين مع الرجال في المسجد خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز – يعني: مسجد المدينة - في ليالي أيام التشريق.(9/27)
وهذا يدل على أن النساء إنما كن يشهدن المساجد بالليل، كما سبق.
ولا خلاف في أن النساء يكبرن مع الرجال تبعاً، إذا صلين معهم جماعة، ولكن المرأة تخفض صوتها بالتكبير.
وإن صلت منفردة، ففي تكبيرها الرجل المنفرد، بل هي أولى بعدم التكبير.
وإن صلى النساء جماعة، ففي تكبيرهن قولان – أيضاً -، وهما روايتان عن الثوري وأحمد.
ومذهب أبي حنيفة: لايكبرن.
ومذهب مالك والشافعي: يكبرن.
النوع الثاني:
التكبير المطلق، الذي لا يتقيد بوقت.
وقد ذكر البخاري عن عمر وابن عمر، أنهما كانا يكبران بمنى – يعني: في غير إدبار الصلوات -، وأن الناس كانوا يكبرون بتكبير عمر حتى ترتج منى.
وعن ميمونة، أنها كانت تكبر يوم النحر.
وقد روى أبو عبيد: حدثني يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، أن عمر كان يكبر في قبته بمنى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، فيسمعه أهل السوق فيكبرون حتى ترتج منى تكبيراً.
وخرجه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمر بن دينار: سمعت(9/28)
عبيد بن عمير - فذكره بمعناه.
وخرجه وكيع في ((كتابه)) ، عن طلحة، عن عطاء.
وخرجه - أيضاً -، عن عبد الله بن نافع، عن أبيه، أن عمر كان يكبر تلك الأيام بمنى، ويقول: التكبير واجب على الناس، ويتأول هذه الآية: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أيام مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] .
وذكر مالك في ((الموطأ)) ، انه بلغه، أن عمر بن الخطاب خرج الغد من يوم النحر، حين ارتفع النهار شيئاً، فكبر الناس بتكبيره، ثم خرج حين زاغت الشمس، فكبر، فكبر الناس بتكبيره، حتى يتصل التكبير ويبلغ البيت، فيعلم أن عمر قد خرج يرمي.
وهذا منصوص الشافعي، قال في المصلي: إذا سلم كبر خلف الفرائض والنوافل وعلى كل حال.
وذكر في ((الأم)) من هذا الباب، أنه يكبر الحائض والجنب وغير المتوضىء في جميع الساعات من الليل والنهار ومذهب مالك، انه لا يكبر في أيام التشريق في غير دبر الصلوات. قال: كذلك كان من يقتدي به يفعل.
ذكره صاحب ((تهذيب المدونة)) .
وتأول بعض أصحابه تكبير عمر بمنى على أنه كان عند رمي الجمار وهو تأويل فاسد ولم يذكر أصحابنا التكبير في عيد النحر إلا في أدبار الصلوات، غير(9/29)
أنهم ذكروا إظهار التكبير في ليلة العيد، وفي الخروج إلى المصلى إلى أن يخرج الإمام، والتكبير مع الإمام إذا كبر في خطبته.
وحكى بعضهم خلافاً عن أحمد في التكبير في حال الرجوع من المصلي إلى المنزل.
خرج البخاري في هذا الباب حديثين:
الأول:(9/30)
970 - ثنا أبونعيم: ثنا مالك بن أنس، حدثني محمد بن أبي بكر الثقفي، قال: سألت أنساً - ونحن غاديان من منى إلى عرفات – عن التلبية: كيف كنتم تصنعون مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالَ: كانَ يلبي الملبي، لاينكر عليهِ، ويكبر المكبر، لا ينكر عليهِ 0
وقد أعاده في ((كتاب الحج)) ، عن عبد الله بن يوسف، وفي حديثه: كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: كان يهل منا المهل فلا ينكر
عليه، ويكبر منا المكبر، فلا ينكر عليه.
في هذا الحديث: دليل على أن إظهار التكبير يوم عرفة مشروع، ولو كان صاحبه محرماً قاصداً عرفة للوقوف بها، مع أن شعار الإحرام التلبية.
فإذا لم ينكر عليه إظهار التكبير للمحرم الذي وظيفته إظهار التلبية، فلغير المحرم من أهل الأمصار أولى.
فهذا من أحسن ما(9/30)
يستدل به على استحباب إظهار التكبير يوم عرفة في الأمصار وغيرها؛ فإن يوم عرفة أول أيام العيد الخمسة لأهل الإسلام؛ ولذلك يشرع إظهار التكبير في الخروج إلى العيدين في الأمصار.
وقد روي ذلك عن عمر وعليّ وابن عمر وأبي قتادة، وعن خلق من التابعين ومن بعدهم.
وهو إجماع من العلماء لايعلم بينهم فيه خلاف في عيد النحر، إلا ما روى
الأثرم، عن أحمد، أنه لا يجهر به في عيد النحر، ويجهر به في عيد الفطر.
ولعل مراده: أنه يجهر به في عيد النحر دون الجهر في عيد الفطر؛ فإن تكبير عيد الفطر – عنده – آكد.
وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: كانوا في عيد الفطر أشد منهم في الأضحى.
يعني: في التكبير.
وروي عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، انه سمع تكبير الناس يوم
العيد، فقال: أيكبر الإمام؟ قالوا: لا. قالَ: ما شأن الناس أمجانين؟ وشعبة هذا، متكلم فيه.
ولعله أراد التكبير في حال الخطبة.
وروي التكبير في الخروج يوم الفطر عن أبي أمامة وغيره من الصحابة.
خرجه الجوزجاني بإسناد ضعيف.(9/31)
وعن النخعي وأبي حنيفة، أنه لا يكبر في عيد الفطر بالكلية.
وروي عنهما موافقة الجماعة.
وقال أحمد في التكبير في عيد الفطر: كأنه واجب؛ لقوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] .
وهذه الآية نظيرها قوله تعالى في سياق ذكر الهدايا: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37] ، فأستوى العيدان في ذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الحديث الثاني:(9/32)
971 - ثنا عمر بن حفص: ثنا أبي، عن عاصم، عن حفصة، عن(9/32)
أم عطية، قالت: كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى نخرج البكر من خدرها، وحتى نخرج الحيض، فيكن خلف الناس، فيكبرون بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته.
في هذا الحديث: دليل على أن إظهار التكبير للرجال مشروع في يوم العيد، ولولا إظهاره من الرجال لما كبر النساء خلفهم بتكبيرهم.
وإظهار التكبير يكون في حال انتظار الإمام قبل خروجه.
وهذا مما يستدل به على أن التكبير لا ينقطع ببلوغ المصلى، كما هو قول طائفة.
ويكون في حال تكبير الإمام في خطبته؛ فإن الناس يكبرون معه، كما كانَ ابن عمر يجيب الإمام بالتكبير إذا كبر على المنبر.
وكان عطاء يأمر بذلك بقدر ما يسمعون أنفسهم.
خرجه الجوزجاني.
وفيه –أيضاً -: ما يدل على ان إظهار الدعاء مشروع في ذلك اليوم، ولعل إظهار الدعاء حيث كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو في خطبته، ويؤمن الناس على دعائه.
وروي عن أبي موسى الأشعري، أنه كان يقول في خطبتة في العيدين: هذا يوم لا يرد فيه الدعاء، فارفعوا رغبتكم إلى الله عز وجل، ثم يرفع يديه ويدعو.
خرجه الفريابي.(9/33)
13 - باب
الصلاة إلى الحربة يوم العيد(9/34)
972 - حدثنا محمد بن بشار: ثنا عبد الوهاب: ثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان تركز له الحربة قدامه يوم الفطر والنحر، ثم يصلي.
قد سبق هذا الحديث والكلام عليه في ((أبواب: سترة المصلي)) .
وذكرنا أن ابن ماجه خرجه من رواية الأوزاعي، عن نافع، وفي أول حديثه زيادة: ((أن العنزة كانت تحمل بين يديه)) ، وفي آخره: ((أن المصلىكان فضاءً، ليس شيء يستتر به)) .
ولعل هذه الزيادة في آخره مدرجة.
وقد خرجه البخاري بدونهما في الباب الآتي.
وتقدم –أيضاً - قول مكحول: إنما كانت تحمل الحربة مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم العيد؛ لأنه كانَ يصلي إليها.
وفي هذا: إشارة إلى أنه لم يكن يفعل ذلك تعاظماً وتكبراً، كما كان أمراء بني أمية ونحوهم يفعلونه.
وقد يريد به –أيضاً -: أن الحربة من السلاح، والسلاح يكره حمله في(9/34)
العيدين، إلا من حاجه، كما سبق ذكره، والحاجه إلى الحربة الصلاة إليها في الفضاء.
فأما إن كان في المصلى سترة مبنيةٌ، فلا حاجه إلى حمل عنزة مع الإمام.
وقد أشار إلى هذا جماعة من العلماء من أصحابنا وغيرهم، منهم: أبو بكر
عبد العزيز بن جعفر.
ولا يقال: فقد يحتاج إليها الإمام ليعتمد عليها في حال خطبته؛ لأن هذا لم ينقل عن النَّبيّ ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كانَ يعتمد في خطبته للعيدين على العنزة من وجه يعتمد عليهِ.
فقد رواه الشافعي، عن إبراهيم بن محمد –هو: ابن أبي يحيى -، عن ليث، عن عطاء، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذاخطب يعتمد على عنزة إعتماداً.
وفي رواية: على عنزة أو عصاً. وهذا مرسل ضعيف.
وقد سبق من حديث البراء، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطي قوساً أو عصاً، فاتكأ عليه لما خطب.(9/35)
14 - باب
حمل العنزة أو الحربة بين يدي الإمام يوم العيد(9/36)
973 - حدثنا إبراهيم بن المنذر: ثنا الوليد: ثنا أبو عمرو –هو: الأوزاعي -: حدثني نافع، عن ابن عمر، قالَ: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغدوإلى المصلى والعنزة بين يديه
تحمل، وتنصب بالمصلى بين يديه، فيصلي إليها.
قد ذكرنا في الباب الماضي معنى حمل العنزة بين يديه، فلا حاجة إلى إعادته.
وسبق الفرق بين العنزة والحربة في ((أبواب السترة)) .
وفي هذه الرواية: التصريح بسماع الأوزاعي لهذا الحديث من نافع.
وقد رواه الوليد بن مزيد، عن الأوزاعي: حدثني الزهري، عن نافع - فذكره.(9/36)
وقد ذكر غير واحد: أن الأوزاعي لم يصح له سماع من نافع، منهم ابن معين ويحيى بن بكير.
وقيل: سمع منه حديثا واحداً.
وقد قيل: إن الشاميين كانوا يتسمحون في لفظة ((أنا)) ، و ((ثنا)) ، ويستعملونها في غير السماع.
ذكره الإسماعيلي وغيره.(9/37)
15 - باب
خروج الحُيض إلى المُصلى(9/38)
974 - حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية، قالت: أمرنا أن نخرج العواتق وذوات الخدور.
وعن أيوب، عن حفصة - بنحوه، وزاد في حديث حفصة: أو قالت: العواتق وذوات الخدور ويعتزلن الحُيض المصلى.
قد سبق هذا الحديث بتمامه في ((كتاب الحيض)) في ((باب: شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين)) ، وفيه: أن حفصة قالت لأم عطية: الحيض؟ فقالت: أليست تشهد عرفة وكذا وكذا.
وتقدم هنالك الكلام عليه مستوفى.
وفي الحديث: أمر النساء بالخروج إلى العيدين حتى شوابهن وذوات الخدور
منهن.
وقد تقدم تفسير ((العواتق)) وأنها جمع عاتق، وهي البكر البالغ التي لم(9/38)
تُزوج.
وفي خروج النساء إلي العيدين أحاديث كثيرة، قد سبق بعضها، ويأتي بعضها - أيضاً.
وقد اختلف العلماء فيه على أقوال:
أحدها: أنه مستحب، وحكي عن طائفة من السلف، منهم علقمة.
وروي عن ابن عمر، أنه كان يخرج نساءه. وروى عنه، أنه كان يحبسهن.
وروى الحارث، عن علي قال: حق على كل ذات نطاق أن تخرج في العيدين.
ولم يكن يرخص لهن قي شيء من الخروج إلا في العيدين.
وهو قول إسحاق وابن حامد من أصحابنا.
وقال أحمد –في رواية ابن منصور -: لا أحب منعهن إذا أردن الخروج.
والثاني: أنه مباح، غير مستحب ولا مكروه، حكى عن مالك، وقاله طائفة من أصحابنا.
الثالث: أنه مكروه بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو قول النخعي ويحيى الأنصاري والثوري وابن المبارك.
وأحمد –في رواية حرب -، قال: لايعجبني في زماننا؛ لانه فتنةٌ واستدل هؤلاء بأن الحال تغير بعد النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد قالت عائشة: لو أدرك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أحدث النساء بعده لمنعهن
المساجد، وقد سبق.(9/39)
والرابع: أنه يرخص فيه للعجائز دون الشواب، روي عن النخعي –أيضاً - وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، ونقله حنبل عن أحمد.
وروي عن ابن عباس بإسناد فيه ضعف، أنه أفتى بذلك سعيد بن العاص، فأمر مناديه أن لا تخرج يوم العيد شابة، وكل العجائز يخرجن.
الخامس: - قول الشافعي -: يستحب الخروج للعجائز ومن ليست من ذوات الهيئات.
وفسرأصحابه ذوات الهيئات بذوات الحسن والجمال، ومن تميل النفوس إليها، فيكره لهن الخروج؛ لما فيهِ من الفتنة.(9/40)
16 - باب
خروج الصبيان إلى المُصلى(9/41)
975 - حدثنا عمرو بن عباس: ثنا عبد الرحمن: ثنا سفيان، عن عبد الرحمن ابن عابس، قال: سمعت ابن عباس يقول: خرجت مع النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فطر – أو أضحى -، فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء، فوعظهن وذكرهن، وأمرهن بالصدقة.(9/41)
977 - حدثنا مسدد: ثنا يحيى: قال سفيان: حدثني عبد الرحمن بن عابس، قال: سمعت ابن عباس - وقيل له -: أشهدت العيد مع رسول ألله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالَ: نعم ' ولولا مكاني من الصغر ما شهدته' خرج حتَّى اتى العلم الذي عندَ دار كثير بن الصلت'فصلى'ثُمَّ خطب ثُمَّ أتى النساء ومعه بلال فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة فرأيتهن يهوين بايديهن يقذفنه في ثوب بلال، ثُمَّ انطلق هوَ وبلال إلى بيته.
قد سبق هذا الحديث في ((باب: وضوء الصبيان وصلاتهم)) وذكرنا هنالك مايتعلق به من خروج الصبيان إلى العيد؛ وإن هذا الحديث يدل على أن الأصاغر من الصبيان لم يكونوا يشهدون العيد إلا من كانَ منهم أقارب الإمام فلهم خصوصية على غيرهم.
وقد روي أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج إلى العيد ومعه من أهله كبارهم وصغارهم.
خرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) عن ابن أخي ابن وهب، عن عمه، عن
عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان(9/42)
يخرج في العيدين مع الفضل بن عباس وعبد الله بن عباس وعلي وجعفر والحسن والحسين وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة وأيمن بن أم أيمن، رافعاً صوته بالتهليل والتكبير، فيأخذ طريق الحدادين حتى يأتي المصلى، فإذا فرغ رجع على الحذائين حتى يأتي منزله.
وقال: في القلب من هذا الخبر، وأحسب الحمل فيه على العمري، إن لم يكن الغلط من ابن اخي ابن وهب. انتهى.
والحمل فيه على ابن أخي ابن وهب؛ فقد رواه جماعة عن ابن وهب، وعن العمري ليس فيهِ شيء من هذه الألفاظ المستنكرة.
وروى حجاج بن أرطاة، عن عبد الرحمن بن عابس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج نساءه وبناته في العيدين.
واحتج به إسحاق بن راهويه.
وخرج الإمام أحمد من رواية حجاج - أيضاً -، عن عطاء عن جابر قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج في العيدين ويخرج أهله.
والعلم الذي عند دار كثير بن الصلت، ودار كثير بن الصلت، الظاهر أن ذلك كله محدث، أحدث بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكان المصلى.
وقد تقدم أن المصلى كان فضاء، ليس فيه سترة؛ فلذلك كانَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحمل لهُ الحربة؛ ليصلي إليها.(9/43)
17 - باب
استقبال الإمام الناس [في خطبة العيد]
وقال أبو سعيد: قام النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقابل الناس.
حديث أبي سعيد، قد خرجه فيما سبق.(9/44)
976 - حدثنا أبو نعيم: ثنا محمد بن طلحة، عن زبيد، عن الشعبي، عن
البراء، قال: خرج النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الاضحى إلى البقيع، فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه، وقال: ((إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد وافق سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك، فإنه شيء عجله لأهله، ليس من النسك في شيء)) . فقام رجل، فقال: يارسول الله، إني ذبحت، وعندي جذعة خير من مسنة. قال: ((أذبحها، فلا تفي عن أحد بعدك)) .
في هذا الحديث: أن خروجه وصلاته كانت بالبقيع، وليس المراد به: أنه صلى في المقبرة، وإنما المراد: أنه صلى في الفضاء المتصل بها، واسم البقيع يشمل الجميع 0
وقد ذكر ابن زبالة، بإسناد له، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى العيد خارج المدينة في خمسة مواضع، حتَّى استقر من صلاته في الموضع الذي عرف به، وصلى فيه الناس بعده.(9/44)
وأما استقباله الناس، فالمراد به: بعد الصلاة عند الخطبة.
وذكر استقباله الناس: يدل على أنه لم يرق منبراً، وأنه كان على الأرض والله سبحانه وتعالى أعلم.(9/45)
19 - باب
موعظة الإمام النساء يوم العيد(9/46)
978 - حدثنا اسحاق: ثنا عبد الرزاق: ثنا ابن جريج: أخبرني عطاء، عن جابر بن عبد الله، قالَ: سمعته يقول: قام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الفطر فصلى، فبدأ بالصلاة، ثم خطب، فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن، وهو يتوكأ على بلال، وبلال باسط
ثوبه، يلقي فيه النساء الصدقة.
قلت لعطاء: زكاة يوم الفطر؟ قالَ: لا. ولكن صدقة يتصدقن حينئذ، تلقي فتخها ويلقين.
قلت: أترى حقا على الإمام ذلك، يأتيهن ويذكرهن؟ قالَ: إنَّهُ لحق عليهم، وما لهم لا يفعلون؟(9/46)
979 - قالَ ابن جريج: واخبرني حسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس، قالَ: شهدت الفطر مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان، يصلونها قبل الخطبة، ثُمَّ يخطب بعد، خرج النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ?كأني أنظر إليه حين يجلس بيده، ثُمَّ أقبل يشقهم حتَّى جاء(9/46)
النساء، معه بلال، فقالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12] الآية، ثُمَّ قالَ - حين فرغ منها -: ((أأنتن على ذَلِكَ؟)) ، قالت امرأة واحدة منهن، لم يجبه غيرها: نعم - لا يدري حسن من هي – قال: فتصدقن، فبسط بلال ثوبه، ثم قال، هلم لكن فداء أبي وأمي، فيلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال.
قال عبد الرزاق: الفتخ: الخواتيم العظام، كانت في الجاهلية.
قد تقدم الكلام على قوله: ((فلما فرغ نزل)) وأنه يشعر بانه كان على موضع عالٍ.
وموعظته للنساء وهو يتوكأ على بلال: دليل على أن الإمام إذا وعظ قائما على قدميه فله أن يتوكأ على إنسان معه، كما يتوكأ على قوس أو عصا.
وفيه: أن النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما انتقل من مكان خطبته للرجال، اشار اليهم بيده أن لا يذهبوا.
وفيه: دليل على أن الأولى للرجال استماع خطبة النساء – أيضاً - لينتفعوا بسماعها وفعلها، كما تنتفع النساء.
وقد تقدم: أن الإمام يفرد النساء بموعظة إذا لم يسمعوا موعظة الرجال، وهو قول عطاء ومالك والشافعي وأصحابنا.(9/47)
وقال النخعي: يخطب قدر ما ترجع النساء إلى بيوتهن.
وهذا يخالف السنة، ولعله لم يبلغه ذلك.
وقد روي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه خير الناس بين استماع الخطبة والذهاب.
فروى عطاء، عن عبد الله بن السائب، قال: شهدت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيد، فلما قضى الصلاة قالَ: ((أنا نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب)) .
خرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة في ((صحيحه)) ، من رواية الفضل بن موسى السيناني، عن ابن جريج، عن عطاء.
وقال أبو داود: ويروى – مرسلا - عن عطاء، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروى عباس الدوري، عن ابن معين، قال: وصله خطأ من الفضل، وإنما هو عن عطاء مرسلا.
وكذا قال أبو زرعة: المرسل هو الصحيح.(9/48)
وكذا ذكر الإمام أحمد أنه مرسل.
وكان عطاء يقول به، ويقول: إن شاء فليذهب.
قال أحمد: لا نقول بقول عطاء، أرأيت لو ذهب الناس كلهم على من كان يخطب؟
ولم يرخص بالانصراف قبل فراغ الخطبة، ولعله أراد انصراف الناس كلهم، فيصير الإمام وحده فتتعطل الخطبة. والله اعلم.
واختلف قول الإمام أحمد في جواز الكلام والإمام يخطب في العيد، على
روايتين، عنه.
وروى وكيع بإسناده، عن ابن عباس، أنه كره الكلام في أربع مواطن: في الجمعة، والفطر، والأضحى، والاستسقاء، والإمام يخطب.
وكرهه(9/49)
الحسن وعطاء.
وقال مالك: من صلى مع الإمام فلا ينصرف حتى ينصرف الإمام.
وكذلك مذهبه فيمن حضر من النساء العيدين، فلا ينصرف إلا بإنصراف
الإمام. ذكره في ((تهذيب المدونة)) .
ومذهب الشافعي [من أصحابنا] كقول عطاء: إن استماع الخطبة مستحب غير لازم.
وظاهره: أنه يجوز للرجال كلهم الإنصراف وتعطيل الخطبة؛ لأنها مستحبة غير واجبة.
وقد رأيت كلام أحمد مصرحاً بخلاف ذلك.
وفي حديث ابن عباس، أنه يجوز للإمام أن يشق الناس ويتخطاهم إذا كان له في ذلك مصلحة.
وفي اكتفائه? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأجابة امراة واحدة بعد قوله للنساء: ((أأنتن على ذلك؟)) دليل على أن إقرار واحد من الجماعة في الأمور الدينية كاف، إذا سمع الباقون، وسكتوا عن الإنكار.
وقوله: ((لا يدري حسن من هي)) حسن، هو: ابن مسلم - صاحب طاوس.
وفي رواية مسلم في ((صحيحه)) لهذا الحديث: ((لا يدرى حينئذ من هي)) .(9/50)
وقد قال بعض الحفاظ المتأخرين: إن رواية البخاري هي الصحيحة.
وقد فسر عبد الرزاق في رواية البخاري ((الفتخ)) بالخواتيم العظام.
وقيل: ((الفتخة)) حلقة من ذهب أو فضة لا فص لها، وربما اتخذ لها فص.
وقيل: إنها تكون في أصابع اليدين والرجلين من النساء.
وهي بفتح الفاء والتاء والخاء المعجمة.
ويفرق بين مفردها وجمعها تاء التأنيث، كأسماء الجنس الجمعي، وهو في المخلوقات كثير كتمرة وتمر، وفي المصنوعات قليل كعمامة وعمام. ومنه: فتخة وفتخ.
وتجمع ((فتخة)) على فتخات وفتوخ - أيضاً.
وفي الحديث: التفدية بالأب والأم، ولبسط القول فيه موضع آخر، يأتي - إن شاء الله سبحانه وتعالى.(9/52)
وفيه جواز صدقة المرأة بدون إذن زوجها تطوعاً.
ولعل ابن جريج استشكل ذلك فظن أن هذه الصدقة كانت صدقة الفطر؛ لأن الصدقة الواجبة لا إشكال في إخراج المرأة لها بدون إذن زوجها، فسأل عطاء عن ذَلِكَ، فأخبره عطاء أنها لم تكن صدقة الفطر، وإنما هي صدقة تطوع.
ولم يستدل عطاء بأن صدقة الفطر لاتؤخذ فيها القيمة، فلعله كان يرى جواز إخراج القيمة فيها.
وإنما أخذ النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معه بلال ليتوكأ عليهِ، وليحمل الصدقة التي تلقيها النساء.
وفيه: دليل على أن الإمام يستصحب معه المؤذن في الصلوات التي يجمع لها ويخطب، وإن لم يكن يؤذن لها ويقام، ويستعين به.(9/52)
20 - باب
إذا لم يكن لها جلبابٌ في العيد(9/53)
980 - حدثنا أبو معمر: ثنا عبد الوارث: ثنا أيوب، عن حفصة بنت سيرين، قالت: كنا نمنع جوارينا أن يخرجن يوم العيد، فجاءت امرأة فنزلت قصر بني خلف، فأتيتها فحدثت أن زوج أختها غزا مع النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثنتي عشرة غزوة، فكانت أختها معه في ست غزوات. قالت: وكنا نقوم على المرضى ونداوي الكلمى فقالت: يارسول الله، أعلى إحدانا بأس إذا لم يكن لها جلباب أن لاتخرج؟ قالَ: ((لتلبسها صاحبتها من جلبابها، فليشهدن الخير ودعوة المؤمنين)) .
قالت حفصة: فلما قدمت أم عطية أتيتها، فسألتها: أسمعت في كذا؟ فقالت: نعم بأبي – وقلما ذكرت النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا قالت: بأبي – قالَ: ((ليخرج العواتق ذوات الخدور)) –أو قالَ: ((العواتق وذوات الخدور)) –شك أيوب – ((والحُيض، فيعتزل الحُيض المصلى، وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين)) .
فقلت لها: الحُيض؟ قالت: نعم، أليس الحائض(9/53)
تشهد عرفات، وتشهد كذا
وكذا؟
((قصر بني خلف)) بالبصرة، منسوب إلى بني خلف الخزاعيين، وخلف هذا جدُ طلحة الطلحات بن عبد الله بن خلف.
وفي هذه الرواية عن أيوب: بيان أن ذكر الجلباب إنما روته حفصة بنت سيرين، عن امرأة غير مسماة، عن أختها عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن بقية الحديث ترويه حفصة، عن أم عطية، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وكذا رواه ابن علية، عن أيوب – أيضاً.
ونحوه رواه حماد بن زيد وابن عيينة، عن أيوب.
وهذا هو الصحيح عند أبي بكر الخطيب وغيره.
وروى حماد بن سلمة الحديث كله، عن أيوب ويونس بن حبيب ويحيى بن عتيق وهشام في آخرين، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية – بتمامه.
وكذا رواه أبو جعفر الرازي، عن هشام بن حسان، عن محمد وحفصة، كلاهما عن أم عطية – بتمامه.
وقد خرجه مسلم في ((صحيحه)) من حديث عيسى بن يونس، عن هشام، عن حفصة، عن أم عطية –بتمامه، حتى ذكر فيه: قصة الجلباب.(9/54)
وكذا خرجه الترمذي من حديث منصور بن زاذان، عن ابن سيرين، عن أم عطية –أيضاً.
وخرجه البخاري الحديث بتمامه، وفيه قصة الجلباب في ((كتاب الحيض)) - كما تقدم - من طريق يزيد بن إبراهيم، عن ابن سيرين، عن أم عطية –أيضاً.
وفي الحديث: تأكيد في خروج النساء في العيدين.
وقد ورد التصريح بوجوبه.
فخرج الإمام أحمد من رواية طلحة بن مصرف، عن امرأة من بني عبد القيس، عن أخت عبد الله بن رواحة الانصاري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((وجب الخروج على كل ذات نطاق)) .
وفيه: امرأة لا تُعرف.
وخرج ابن شاهين في ((كتاب العيدين)) من حديث ابن عباس، عن النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((العيدان واجبان على كل حالم، من ذكر وأنثى)) .
وفي إسناده: عمرو بن شمر، ضعيف جدا.(9/55)
وروى الحارث عن علي، قالَ: حق على كل ذات نطاق أن تخرج في العيدين.
وهذا مما لا يعلم به قائل – أعني: وجوب الخروج على النساء في العيد.(9/56)
21 - باب
اعتزال الحيض المصلى(9/57)
981 - حدثنا محمد بن المثنى: ثنا ابن أبي عدي، عن ابن عون، عن محمد: قالت أم عطية: أمرنا أن نخرج، فنخرج الحيَض والعواتق وذوات الخدور - وقال ابن عون: أو العواتق ذوات الخدور - فأما الحيَض، فيشهدون جماعة المسلمين ودعوتهم، ويعتزلن مصلاهم.
قد سبق الكلام على هذا الحديث في ((كتاب الحيض)) وذكرنا وجه اعتزال الحيض المصلى: هل هو لأن حكم المصلى حكم المساجد، أو خشية التضييق على من يصلي من النساء، فيكون الاعتزال في حالة الصلاة خاصة؟
وهو الأظهر. والله سبحانه وتعالى أعلم.(9/57)
22 - باب
النحر والذبح بالمصلى(9/58)
982 - حدثنا عبد الله بن يوسف: ثنا الليث: حدثني كثير بن فرقد، عن نافع عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينحر - أو يذبح – بالمصلى.
وخرجه في ((الأضاحي)) عن يحيى بن بكير، عن الليث، وقال فيهِ: كان يذبح وينحر بالمصلى.
وخرج - أيضاً - من رواية عبيد الله، عن نافع، قال: كان عبد الله ينحر في المنحر.
قال عبيد الله: يعني منحر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرج أبو داود من رواية أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يذبح أضحيته بالمصلى، وكان ابن عمر يفعله.
وخرجه ابن ماجه - مختصرا.
وقال الإمام أحمد – في رواية حنبل - هو منكر.
وخرج ابن ماجه بإسناد فيه ضعف، عن سعد القرظ، أن النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذبح(9/58)
أضحيته عند طرف الزقاق طريق بني زريق بيده بشفرة.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث المطلب، عن جابر قال: شهدت مع النبي? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ?الأضحى بالمصلى، فلما قضى خطبته نزل من منبره، فأتي بكبش فذبحه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده، وقال: ((بسم الله، وبالله، والله أكبر، هذا عني وعمن لم يضحِ من أمتي)) .
وهذا لفظ الترمذي.
وقال: غريب، والمطلب يقال: إنه لم يسمع من جابر.(9/59)
وخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل، عن علي بن حسين، عن أبي رافع، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه، فذبحه بنفسه بالمدية، - وذكر
الحديث.
وقد يعارض هذه الأحاديث حديث البراء بن عازب، وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي، ثم نرجع فننحر)) .
وخرج النسائي من رواية عبد الله بن سليمان: حدثني نافع، عن عبد الله بن
عمر، أن رسول الله ?? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر يوم الأضحى بالمدينة. قال: وكان إذا لم ينحر ذبح
بالمصلى.
فهذه الرواية يجمع بها بين سائر(9/60)
الروايات، وأنه كان إذا نحر ما ينحر نحره
بالمدينة، فإن ذبح الغنم ذبحها بالمصلى.
وعلى هذا، فتكون رواية البخاري الصحيحة لحديث ابن عمر: ((كان يذبح - أو ينحر – بالمصلى)) – بالشك.
وذبح ابن عمر بالمصلى يدل على أنه كان يرى استحباب ذلك للإمام وغيره.
ومن العلماء [من] يستحب ذلك للإمام، منهم مالك. وقال: لا نرى ذلك على غيره.
وفيه: إشارة إلى أن غيره لا يتأكد في حقه ذلك كالإمام.
وقال سفيان: للإمام أن يحضر أضحيته عند المصلى؛ ليذبح حين يفرغ من الصَّلاة والخطبة؛ لئلا يذبح أحد قبله. قالَ: وذلك من الأمر المعروف.
وروى الواقدي بأسانيد لهُ متعددة، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يذبح يوم النحر عندَ طرف الزقاق، عندَ دار معاوية.
ثم قال الواقدي: وكذلك يصنع الأئمة عندنا بالمدينة.
وروى - أيضاً - عن عمرو بن عثمان، أنه رأى عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - خطب يوم النحر، ثم أتي بكبش في مصلاه، فذبحه بيده، ثم أمر به فقسم على
المساكين، ولم يحمل إلى منزله منه شيئاً.(9/61)
23 - باب
كلام الإمام والناس في خطبة العيد
فيه ثلاثة أحاديث.
الأول:(9/62)
983 - ثنا مسدد: ثنا أبو الأحوص: ثنا منصور، عن الشعبي، عن البراء بن عازب، قالَ: خطبنا رسول الله ?? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر بعد الصَّلاة، فقالَ: ((من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم)) .
فقام أبو بردة بن نيار، فقالَ: يا رسول الله، والله لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، فعجلت وأكلت وأطعمت أهلي وجيراني. فقال رسول الله ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((تلك شاة لحم)) . قال: فإن عندي عناقا جذعة، هي خير من شاتي لحم، فهل تجزي عني؟ قالَ: ((نعم، ولن تجزي عن أحد بعدك)) .
مقصود البخاري بهذا الحديث: الاستدلال على جواز أن يكلم الإمام أحدا من الناس أو يكلمه أحد، وهو يخطب للعيد.(9/62)
وقد تقدم: أن الكلام في حالة خطبة العيد قد كرهه الحسن وعطاء، وأباحه الشافعي وغيره.
وروى الشافعي بإسناد ضعيف، عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يترك المساكين يطوفون يسألون الناس في المصلى في خطبته الأولى يوم الأضحى والفطر، فإذا خطب خطبته الأخيرة أمر بهم فأجلسوا.
قال الشافعي: وسواء الأولى والآخرة، أكره لهم المسألة، وإن فعلوا فلا شيء عليهم فيها، إلا ترك الفضل في الاستماع.
وعن أحمد - في تحريمه وإباحته - روايتان.
ويستثنى من ذلك – عنده -: كلام الإمام لمصلحة، وكلام من يكلمه لمصلحة، كما قال في خطبة الجمعة.
وهذا الذي في هذا الحديث من هذا الجنس، فلا يستدل به على إباحة الكلام مطلقا.(9/63)
الحديث الثاني:(9/64)
984 - ثنا حامد بن عمر، عن حماد، عن أيوب، عن محمد، أن أنس بن مالك قالَ: إن رسول الله ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى يوم النحر، ثم خطب، فأمر من ذبح قبل الصلاة أن يعيد ذبحه، فقام رجل من الأنصار، فقالَ: يا رسول الله، جيران لي - إما قالَ: بهم
خصاصة، وإما قالَ: فقراء - وإني ذبحت قبل الصَّلاة، وعندي عناق لي أحب [إلي] من شاتي لحم، فرخص له فيها.
وهذا الحديث، كالذي قبله في الدلالة.
الحديث الثالث:(9/64)
985 - ثنا مسلم: ثنا شعبة، عن الأسود، عن جندب، قالَ: صلى النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر، ثم خطب، ثم ذبح، فقال: ((من ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)) .
في الاستدلال بهذا الحديث على الكلام في خطبة العيد نظر؛ لوجهين:
أحدهما: أنه ليس فيهِ التصريح بأن ذَلِكَ كانَ في الخطبة فيحتمل أنه قاله قبلها، أو بعدها.(9/64)
وقد وقع في رواية لمسلم في ((صحيحه)) من هذا الحديث ما يدل على أنه قاله قبل الخطبة؛ فإنه قالَ: فلم يعد إن صلى وفرغ من صلاته سلم، فإذا هوَ يرى لحم أضاحي قد ذبحت قبل أن يفرغ من صلاته، فقالَ: ((من كانَ ذبح)) – إلى آخره.
ولكن رواه غير واحد، عن شعبة، فذكروا فيهِ: أنه قاله في خطبته.
والثاني: أن هذا لم يكن خطابا لأحد معين، ولا في الحديث أن أحدا قام إليه فخاطبه، كما في حديث البراء وحديث أنس المتقدمين.
وحينئذ؛ فيكون ذكره لهذا في الخطبة من جملة تعليم أحكام الأضاحي، ولا شك في أن الإمام لهُ أن يعلم الناس في خطبة عيد النحر أحكام الأضاحي، وما يحتاجونه إلى معرفته منها.
وحديث البراء وأنس يدلان على ذلك – أيضاً.
وهذا كله مستحب، وقد نص عليه الشافعي وأصحابنا.
وقالوا - أيضاً - يسن للإمام أن يعلم الناس في خطبة عيد الفطر حكم إخراج الفطرة.
وقد روي عن ابن عباس، أنه خطب بالبصرة يوم الفطر، فعلم الناس صدقة الفطر.
خرجه ابن شاهين في ((كتاب العيدين)) .
وفي إسناده: ضعف.
والصحيح: ما روى الحسن، قالَ: خطب ابن عباس في آخر رمضان على منبر البصرة، فقالَ: أخرجوا صدقة صومكم. فكأن الناس لم(9/65)
يعلموا، فقال: من هاهنا من أهل المدينة؟ قوموا إلى إخوانكم فعلموهم - وذكر بقية الحديث.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.
والحسن، لم يسمع من ابن عباس، ولم يكن بالبصرة يوم خطب ابن عباس.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود، من رواية الزهري، قال: قال عبد الله بن ثعلبة بن صعير: خطب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس قبل الفطر بيومين، فقال: ((ادوا صاعاً من بر)) –الحديث.
وفي إسناده: اختلاف كثير على الزهري.
واختلف في عبد الله بن ثعلبة: هل له صحبة، أم لا؟
وقد روى عبد الله ابن الإمام أحمد في ((مسائله)) بإسناده، عن الزهري عن ابن المسيب: كانَ النَّبيّ ?? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قبل الفطر بيومين، ويأمرهم بأداء زكاة الفطر، فيخرجونها قبل الصَّلاة.
وروى الواقدي بأسانيد له متعددة، عن عائشة وابن عمر وأبي سعيد حديثاً طويلاً، فيه: أن النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب قبل الفطر بيومين، فيأمر بإخراج صدقة الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى.
دكره، عنه محمد بن سعد.(9/66)
وذكر ابن سعد، عنه –أيضاً -: ثنا عمرو بن عثمان بن هانئ، قال: سمعت عمر بن عبد العزيز بخناصرة، وهوخليفة، خطب الناس قبل يوم الفطر بيوم، وذلك يوم الجمعة، فذكر الزكاة فحض عليها، وقال:
على كل انسان صاع تمراً ومدان من حنطة. وقال: انه لا صلاة لمن لازكاة له، ثم قسمها يوم الفطر.
ويدل على أن الإمام إنما يعلم الناس حكم صدقة الفطر قبل يوم الفطر:
حديث ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة.
وقد خرجه البخاري في موضع آخر.
وفيه: دليل واضح على انه كان يامر بذلك قبل يوم الفطر، والافكيف كان يأمر بعد الصلاة بأن تؤدى قبل الصلاة؟
وبقية ما دل عليهِ هذه الأحاديث، من الذبح قبل الصَّلاة، ومن الأمر لمن ذبح قبلها بالاعادة، ومن أحكام الجذع من الضأن والمعز موضعه غيرهذا، ويأتي فيهِ – إن شاء الله سبحانه وتعالى.(9/67)
24 - باب
من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد(9/68)
986 - حدثنا محمد: ثنا أبو تميلة يحيى بن واضح، عن فليح بن سلمان، عن سعيد بن الحارث، عن جابر بن عبد الله، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان يوم عيد خالف الطريق.
تابعه: يونس بن محمد، عن فليح، عن سعيد، عن أبي هريرة.
وحديث جابر أصح.
كذا في بعض النسخ: ((تابعه: يونس، عن فليح، عن سعيد، عن أبي
هريرة)) وهي رواية ابن السكن.
ويقال: إن ذلك من إصلاحه.
وفي أكثر النسخ: ((تابعه: يونس بن محمد، عن فليح، وحديث جابر
أصح)) .
وذكر أبو مسعود الدمشقي: أن البخاري قالَ: ((تابعه يونس بن محمد، عن فليح. قال: وقال: محمد بن الصلت: عن فليح، عن سعيد، عن أبي هريرة، وحديث جابر أصح)) .
ثم ذكر أن ذلك وهم منه - يعني: متابعة يونس لأبي تميلة -، وإنما رواه يونس ومحمد بن الصلت، كلاهما عن فليح، عن سعيد، عن أبي هريرة.
وكذا رواه الهيثم بن جميل، عن فليح، وأن(9/68)
البخاري أراد أن يونس قال فيهِ: ((عن جابر)) .
وفيه: إشارة إلى أن غيرهما خالف في ذكر جابر، وإن ذكره أصح، وما ذكره أبو مسعود تصريح بذلك.
وقوله: ((وحديث جابر)) يدل عليه، والله أعلم.
وحاصل الأمر: أنه اختلف في إسناده على فليح:
فرواه، عنه الأ كثرون، منهم: محمد بن الصلت والهيثم بن جميل وسريج، فقالوا: عن سعيد بن الحارث، عن أبي هريرة.
وخالفهم أبو تميلة يحيى بن واضح، فرواه عن سعيد بن الحارث، عن جابر.
وعند البخاري، أن هذا أصح.
وأما يونس بن محمد، فرواه عن فليح، واختلف عنه:
فذكر البخاري والترمذي في ((جامعه)) : أنه رواه عن فليح عن سعيد، عن
جابر، متابعة لأبي تميلة.
وكذا رواه ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) .
وكذلك خرجه البيهقي من رواية محمد بن عبيد الله المنادي،(9/69)
عن يونس.
وقد قال مهنا: قلت لأحمد: هل سمع سعيد بن الحارث من أبي هريرة؟ فلم يقل شيئاً.
وقد ذكر البيهقي: أن أبا تميلة روي عنه، عن فليح، عن سعيد، عن أبي هريرة –أيضاً.
ثم خرجه من طريق أحمد بن عمرو الحرشي، عن أبي تميلة كذلك.
فتبين بهذا: أن ابا تميلة ويونس اختلف عليهما في ذكر: ((أبي هريرة وجابر)) ، وأن اكثر الرواة قال فيه: ((عن أبي هريرة)) ، ومنهم من اختلف عليه في ذكر ((أبي هريرة وجابر)) .
وقد ذكر الإمام أحمد، أنه حديث أبي هريرة، وهذا يدل على أن المحفوظ قول من قالَ: ((عن أبي هريرة)) ، كما قاله أبو مسعود، خلاف ما قاله البخاري.
وفي الباب: أحاديث أخر، ليست على شرط البخاري.
ومن أجودها: حديث عبد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ يوم العيد في طريق، ثم رجع من طريق آخر.
خرجه أبو داود.
وخرجه ابن ماجه، وعنده: أن ابن عمر كان يخرج إلى العيد في طريق، ويرجع في أخرى، ويزعم أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان(9/70)
يفعله.
وقد استغربه الإمام أحمد، وقال: لم أسمع هذا قط.
وقال –أيضاً -: العمري يرفعه، ومالك وابن عيينة لا يرفعانه.
يعني: يقفانه على ابن عمر من فعله.
قيل له: قد رواه عبيد الله –يعني: أخا العمري، عن نافع، عن ابن عمر؟
فأنكره، وقال: من رواه؟ قيل لهُ: عبد العزيز بن محمد – يعني: الدراوردي.
- قالَ: عبد العزيز يروي مناكير.(9/71)
وقال البرقاني: سألت الدارقطني: هل رواه عن نافع غير العمري؟ قَالَ: من وجه يثبت، لا. ثُمَّ قالَ: روي عن مالك، عن نافع، ولكن لايثبت. انتهى.
والصحيح عن مالك وغيره: وقفه دون رفعه.
وكذا رواه وكيع عن العمري - موقوفا.
وقد استحب كثير من أهل العلم للإمام وغيره إذا ذهبوا في طريق إلى العيد أن يرجعوا في غيره، وهو قول مالك والثوري والشافعي وأحمد.
وألحق الجمعة بالعيد في ذلك.
ولو رجع من الطريق الذي خرج منه لم يكره.
وفي ((سنن أبي داود)) حديث، فيه: أن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يفعلون ذلك في زمانه..
وتكلم الناس في المعنى الذي لأجله يسحب مخالفة الطريق، وكثر قولهم في ذلك، وأكثره ليس بقوي.
وقد روي في حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغدو من طريق ويرجع من اخر؛ ليتسع الناس في الطريق.
وعبد الرحمن هذا، ضعيف جداً.(9/72)
ومعنى الاتساع في الطريق: أنه يخشى كثرة الزحام في الطريق الأول.
وهذا أحد ما قيل في معناه.
وقيل: ليشهد به الطريقان.
وقيل: ليتصدق على من كان فيهما من السؤال.
وقيل: ليكثر التقاء المسلمين بعضهم ببعض للسلام والتودد.
وقيل: للتفاؤل بتغير الحال إلى الرضى والمغفرة؛ فإنه يرجى لمن شهد العيد أن يرجع مغفوراً لهُ.
وقيل: كان يغدو في أطول الطريقين ويرجع في أقصرهما؛ لتكثر خطاه في المشي إلى الصَّلاة.
وهذا هو الذي رجحه كثير من الشافعية.
وقد روي في حديث عكس هذا:
فرواه سليمان بن أرقم، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعثمان إذا خرجوا إلى العيد من طريق رجعوا في طريق آخر أبعد منه.
وسليمان بن أرقم، متروك.
ولا أصل لحديثه هذا بهذا الإسناد.
وعلى تقدير أن يكون له أصل، فيمكن توجيهه بأن القاصد لصلاة العيد ينبغي له قصدها من أقرب الطرق؛ لأنه إن كانَ أماماً فلئلا يطول انتظاره، وان كانَ مأموماً فخشية أن يسبق بالصلاة أو بعضها، أو أن يتمكن من صلاتها في مكان يمكنه الاقتداء فيهِ بالإمام؛ ولهذا شرع له التبكير؛ ليقرب من الإمام.
والراجع من الصَّلاة قد أمن ذَلِكَ كله،(9/73)
فيمشي حيث شاء، ويسلك أبعد الطرق، ويقف فيها لحاجته وللقاء الناس والسلام عليهم والدعاء لهم، وغير ذَلِكَ من المصالح.
وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين، أنهم كانوا يتلاقون يوم العيد، ويدعو بعضهم لبعض بالقبول.
ورخص فيه الإمام أحمد، وقال: لا أبتدئ به أحداً، فإن قاله لي، رددت عليه.
وقال - مرة -: ما أحسنه، إلا أن يخاف الشهرة.
كأنه يشير إلى أنه يخشى أن يشتهر المعروف بالدين والعلم بذلك، فيقصد لدعائه، فيكره لما فيه من الشهرة.
وقد خرج الإمام أحمد من حديث المنكدر بن محمد، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائماً في السوق يوم العيد، ينظر والناس
يمرون.
ورواه الشافعي، عن إبراهيم بن محمد: حدثني معاذ بن عبد الرحمن التيمي، عن أبيه، عن جده، أنه رأى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجع من المصلى في يوم عيد، فسلك على التمارين أسفل السوق، حتى إذا كان عند موضع البركة التي بالسوق قام فاستقبل فج
أسلم، فدعا ثم انصرف.
قال الشافعي: فأحب أن يصنع الإمام مثل هذا، وأن يقف في موضع يدعو الله - عز وجل -، مستقبل القبلة.(9/74)
25 - باب
إذا فاته العيد يصلي ركعتين، وكذلك النساء، ومن كان في البيوت والقرى؛ لقول النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((هذا عيدنا أهل الإسلام)) .
وأمر أنس بن مالك مولاهم ابن أبي عتبة بالزاوية، فجمع أهله وبنيه، فصلى بهم كصلاة أهل المصر وتكبيرهم.
وقال عكرمة: أهل السواد يجتمعون في العيد، يصلون ركعتين، كما يصنع الإمام 0
وكان عطاء إذا فاته العيد صلى ركعتين.
ذكر البخاري في هذا الباب مسائل.
أحدها:
من فاته صلاة العيد مع الإمام من أهل المصر، فإنه يصلي ركعتين.
وحكاه عن عطاء.
وحكي - أيضا - عن أبي حنيفة والحسن وابن سيرين ومجاهد وعكرمة والنخعي، وهو قول مالك والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد - في رواية، عنه.
ثم اختلفوا: هل يصلي ركعتين بتكبيركتكبيرالإمام، أم يصلي بغير تكبير؟(9/75)
فقالَ الحسن والنخعي ومالك والشافعي وأحمد –في رواية -: يصلي بتكبير، كما يصلي الإمام.
واستدلوا بالمروي عن أنس، وأنس لم يفته في المصر بل كان ساكناً خارجاً من المصر بعيداً منه، فهوفي حكم أهل القرى.
وقد أشار إلى ذلك الإمام أحمد –في رواية عنه.
والقول بانه يصلي كما يصلي الإمام قول أبي حنيفة وأبي بكر بن أبي شيبة، حتى قالَ: لايكبر إلا كما يكبر الإمام، لا يزيد عليه ولا ينقص.
وكذا قاله الإمام أحمد –في رواية أبي طالب.
وعن ابن سيرين، قال: كانوا يستحبون إذا فات الرجل العيدان أن يمضي إلى الجبان، فيصنع كما يصنع الإمام.
وقال أحمد –في رواية الأثرم -: أن صليت ذهب إلى الجبان فصلى، وإن شاء صلى مكانه.
وقال - في رواية إسماعيل بن سعيد -: إذا صلى وحده لم يجهربالقراءة، وإن جهر جاز.
وهذا عنده حكم المصلي الصلاة الجهرية مفرداً، فلو صلاها في جماعة جهر بها بغير إشكال، كما فعله الليث بن سعد.
وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن الإمام لايجهر بالقرأة في(9/76)
صلاة العيدين إلا بمقدار ما يسمع من يليه، روي ذلك عن علي، وهو قول الحسن والنخعي والثوري.
وذكر الحسن، عن أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر كانوا يسمعون القراءة في العيدين والجمعة من يليهم.
خرجه المروزي في ((كتاب العيدين)) .
وهو قول الثوري في الجمعة والعيدين جميعاً.
وقال عطاء والأوزاعي وأحمد –في الرواية الأخرى -: يصلي من فاته العيد ركعتين بغير تكبير.
هذه الرواية، حكاها أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتاب ((الشافي)) .
وقال أحمد: إنما التكبير مع الجماعة.
وجعله أبو بكر عبد العزيز كالتكبير خلف المكتوبة في أيام التشريق.
وروى حنبل، عن أحمد، أنه مخير، إن شاء صلى بتكبير، وإن شاء صلى بغير تكبير.
وقالت طائفة: من فاتته صلاة العيد مع الإمام صلى أربع ركعات.
روي ذلك عن ابن مسعود من غير وجه.
وسوى ابن مسعود بين من فاتته الجمعة، ومن فاته العيد، فقال - في كل منهما -: يصلي أربعاً.
واحتج به الإمام أحمد.
ولا عبرة بتضعيف ابن المنذر له؛ فإنه روي بأسانيد صحيحة.(9/77)
وهذا قول الشعبي والثوري وأحمد –في رواية أخرى، عنه -، وهي اختيار أبي بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا، بناءً على اختيارهم اشتراط الجماعة للعيد والاستيطان، ويكون الأربع عيداً.
نص عليه أحمد في رواية الميموني.
وهذا يشبه قول ابن شاقلا: إن أدرك تشهد الجمعة يصلي أربعاً، وهي جمعة له، كما سبق ذلك.
وعلى هذا، فيصلي وحده من غير جماعة، نص عليه أحمد في رواية محمد بن
الحكم، وكذا ذكره أبو بكر عبد العزيز.
وإنما يصلي في جماعة إذا قلنا: يصلي صلاة العيد على صفتها.
وهل يصلي الأربع بسلام واحد، أو يخير بين ذلك وبين صلاتها بسلامين؟
فيهِ عن أحمد روايتان.
واختار أبو بكر صلاتها بسلام واحد، تشبيهاً لصلاتها بصلاة من تفوته الجمعة.
وعن أحمد: يخير بين أن يصلي ركعتين أو أربعاً.
وهذا مذهب الثوري الذي حكاه أصحابه، عنه.
واستدل أحمد، بأنه روي عن أنس، أنه صلى ركعتين، وعن ابن مسعود أنه صلى أربعاً.
وكذلك روي عن علي، أنه أمر من يصلي بضعفة الناس في المسجد أربعاً، ولا يخطب بهم.
وروي أحمد بن القاسم، عن أحمد الجمع بين فعل أنس وقول ابن مسعود على وجه آخر، وهو: إن صلى من فاته العيد جماعة صلى(9/78)
كصلاة الإمام ركعتين، كما فعل أنس، وإن صلى وحده صلى أربعاً، كما قال ابن مسعود.
وقال إسحاق: إن صلاها في بيته صلاها أربعاً كالظهر، وإن صلاها في المصلى صلاها ركعتين بالتكبير؛ لأن علياً أمر الذي يصلي بضعفة الناس في المسجد أن يصلي
أربعا، ركعتين مكان صلاة العيد، وركعتين مكان خروجهم إلى الجبان، كذا رواه حنش بن المعتمر عن علي.
واعلم؛ أن الاختلاف في هذه المسألة ينبني على أصل، وهو: أن صلاة العيد: هل يشترط لها العدد والاستيطان وإذن الإمام؟
فيهِ قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد.
وأكثر العلماء، على أنه لايشترط لها ذَلِكَ، وهو قول مالك والشافعي.
ومذهب أبي حنيفة وإسحاق: أنه يشترط لها ذلك.
فعلى قول الأولين: يصليها المنفرد لنفسه في السفر والحضر والمرأة والعبد ومن
فاتته، جماعة وفرادى.
لكن لا يخطب لها خطبة الإمام؛ لأن فيهِ افتئاتاً عليهِ، وتفريقاً للكلمة.
وعلى قول الآخرين: لايصليها إلا الإمام أو من أذن لهُ، ولا تصلى إلا كما تصلى الجمعة، ومن فاتته، فإنه لايقضيها على صفتها، كما لايقضي الجمعة على صفتها.
ثم اختلفوا:
فقال أبو حنيفة وأصحابه: لاتقضى بالكلية، بل(9/79)
تسقط، ولا يصلي من فاتته مع الإمام عيدا أصلا، وإنما يصلي تطوعاً مطلقاً، إن شاء صلى ركعتين، وإن شاء صلى
أربعاً.
وقال أحمد وإسحاق: بل تقضى كما قال ابن مسعود وغيره من الصحابة.
وليست العيد كالجمعة؛ ولهذا يصليها الإمام والناس معه إذا لم يعلموا بالعيد إلا من آخر النهار من غد يوم الفطر، والجمعة لا تقضى بعد خروج وقتها، ولأن الخطبة ليست شرطاً لها، فهي كسائر الصلوات، بخلاف الجمعة.
والذين قالوا: تقضى إذا فاتت مع الإمام، لم يختلفوا أنها تقضى ما دام وقتها باقياً 0
فإن خرج وقتها، فهل تقضى؟
قالَ مالك: لاتقضى.
وعن الشافعي قولان.
والمشهور عندنا: إنما تقضى.
وخرجوا فيها رواية اخرى: أنها لاتقضى.
وأصل ذلك: أن السنن الرواتب: هل تقضى في غير وقتها، أم لا؟
وفيه قولان، وروايتان عن أحمد؛ فإن فرض العيد يسقط بفعل الإمام، فيصير في حق من فاتته سنة.
ولو أدرك الإمام وقد صلى وهو يخطب للعيد ففيه أقوال:
أحدها: أنه يجلس فيسمع الخطبة، ثم إذا فرغ الإمام صلى قضاءً، وهو قول الأوزاعي والشافعي وأبي ثور، ونص عليه أحمد –أيضا.(9/80)
والثاني: أنه يصلي والإمام يخطب، كما يصلي الداخل في خطبة الجمعة والإمام يخطب، وهو قول الليث؛ لكن الليث صلى العيد بأصحابه والإمام يخطب.
وقال الشافعية: إن كانَ الإمام يخطب في المصلى، جلس واستمع؛ لأنه مالم يفرغ من الخطبة فهو في شعار اقامة العيد، فيتابع فيما بقي منه، ولا يشغل عنه بالصلاة، وإن كان يخطب في المسجد؛ فإنه يصلي قبل أن يجلس.
ثم لهم وجهان:
أحدهما: يصلي تحية المسجد، كالداخل يوم الجمعة، وهو قول بعض أصحابنا –أيضا.
والثاني: يصلي العيد؛ لأنها آكد، وتدخل التحية ضمنا وتبعاً، كمن دخل المسجد يوم الجمعة وعليه صلاة الفجر؛ فإنه يقضيها وتدخل التحية تبعاً.
ووجه قول الأوزاعي وأحمد: أن استماع الخطبة من كمال متابعة الإمام في هذا اليوم، فإذا فاتت الصَّلاة معه لم يفوت استماع الخطبة، وليس كذلك الداخل في خطبة الجمعة؛ لأن المقصود الاعظم الصلاة، وهي لاتفوت بالتحية.
المسألة الثانية:
صلاة النساء في بيوتهن في المصر، وكذلك المريض ونحوه.
وهذا مبني على أن صلاة العيد: هل يشترط لها العدد والاستيطان(9/81)
وإذن الإمام، أم لا؟
فمن قالَ: لا يشترط ذَلِكَ جوز للمرأة أن تصلي صلاة العيد في بيتها على وجهها، وكذلك المريض، بل يجيز ذَلِكَ لكل من تخلف في بيته، أن يصلي كما يصلي الإمام، ولا سيما إن كانَ يقول مع ذَلِكَ أن صلاة العيدين سنة، كما يقوله الشافعي وغيره.
وقال الحسن – في المسافر يدركه الأضحى -: فإذا طلعت الشمس صلى ركعتين، ويضحي إن شاء.
وأما من يشترط لها العدد وإذن الإمام، فلا يرى لمن تخلف في بيته أن يصلي صلاة العيد على وجهها، بل يصلي ركعتين بغير تكبير –أو أربعاً -، على ما سبق.
قال الثوري وإسحاق –في النساء -: يصلين في بيوتهن أربعاً.
وعند أبي حنيفة وأصحابه: لاتقضي بحال، كما تقدم.
المسألة الثالثة:
أهل القرى: هل يصلون العيد في قراهم كما يصلي الإمام في المصر ونوابه في الأمصار؟
وقد حكى عن عكرمة، أنهم يصلونها كصلاة أهل الأمصار.
قال الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر: ثنا شعبة، عن قتادة، عن عكرمة، في القوم يكونون في السواد في سفرتهم عيد فطر أو أضحى، قال: فيجتمعون، فيصلون، يؤمهم أحدهم.
وقد تقدم أن جمهور العلماء على أن الجمعة تقام في القرى، فالعيد أولى.
لكن من يشترط العدد لصلاة العيد، كأحمد –في رواية - وإسحاق، يقول: لابد أن يكون في القرية أربعون رجلا كالجمعة.
قال إسحاق:(9/82)
وإن لم يخطب بهم صلوا أربعا - أيضا - قال: وإذا لم تكن خطبة فليس بعيد.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لاعيد إلا في مصر جامع، كقولهم في الجمعة.
ولا خلاف أنه يجب على أهل القرى والمسافرين، وإنما الخلاف في صحة فعلها منهم، والأكثرون على صحته وجوازه.
ويستدل لذلك بفعل أنس بن مالك؛ فإنه كانَ يسكن خارجا من البصرة على أميال منها.
فروى الإمام أحمد –فيما رواه عنه ابنه عبد الله في ((مسائله)) -: ثناهشيم: أنا
عبيد الله بن أبي بكر، عن جده أنس بن مالك، أنه كان إذا لم يشهد العيد مع الناس بالبصرة، وكان منزله بالطف جمع أهله وولده ومواليه، ثم يامر مولاه عبد الله بن أبي عتبة أن يصلي بهم. قال: يكبر بهم تسع تكبيرات، خمس في الأولى، وأربع في الآخرة، ويوالي بين القراءتين.
وروى محمد بن الحكم، عن أحمد –فيمن تفوته صلاة العيد -: يجمع أهله
وولده، كما فعل أنس، ويكبر تسع تكبيرات في الركعتين، ويوالي بين القراءتين.
وهذا يدل على أنه أخذ بجميع ما روي عن أنس فيمن تفوته صلاة العيد مع
الإمام، سواء كان لبعده عن الإمام أو لغير ذَلِكَ، وأنه يكبر تسع تكبيرات في الركعتين، ويوالي بين القراءتين.
وهذا خلاف مذهبه في(9/83)
تكبير الإمام ونوابه في الامصار، فإنه يرى أنهم يكبرون في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات.
وفي موالاته بين القراءتين روايتان عنه:
أشهرهما: أنه يكبر قبل القراءة في الركعتين.
والثانية: أنه يوالي بينهما. واختارها أبو بكر بن جعفر.
فأما التكبير في الاولى سبعاً وفي الثانية خمساً، وهو قول جمهور العلماء، وقد روي عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة، عن عمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير ومجاهد والزهري، وقال: مضت السنة به.
وحكاه ابن أبي الزناد عن فقهاء المدينة السبعة.
وهو قول مكحول وربيعة والليث والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وداود.
وأكثر أهل الحديث، منهم: ابن المديني وابن أبي شيبة وأبو خثيمة وسليمان بن داود الهاشمي وغيرهم.
ولكن اختلفوا: هل يكبر في الأولى سبعاً غير تكبيرة افتتاح الصلاة، أم بها؟
فقالَ مالك وأحمد: يحسب منها تكبيرة الافتتاح.
وروي ذلك عن ابن عباس صريحاً.
وقال الشافعي: لا يحسب منها.
وعن الليث والأوزاعي قولان، كالمذهبين.
وقالت طائفة: يكبر في الأولى خمساً بتكبيرة الافتتاح، وفي الثانية أربعاً(9/84)
بعد
القراءة، بتكبيرة الركوع.
روى ذلك عن ابن مسعود وإسحاق، وهو قول سفيان وأهل الكوفة.
وروي عن ابن عباس –في رواية عنه.
وفي عدد التكبير أقوال متعددة للسلف، فيه احاديث مرفوعة معددة - أيضا -، لم يخرج منها البخاري شيئاً، وليس منها على شرطه شيء.
وقد روى هارون بن عبد الله، عن أحمد، أنه قالَ: ليس يروى في التكبير في العيدين حديث صحيح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ذكره الخلال.
وروى حرب، عن أحمد قريباً من ذلك.
قال حرب: وسألت ابن المديني: هل صح فيه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالَ: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ: ويروى عن أبي هريرة –من قوله - صحيح. انتهى.
وحكى الترمذي في ((علله)) ، عن البخاري، أنه صحح هذا الحديث.
وقال أحمد –في رواية -: أنا اذهب إليه.
وقد خرجه في ((المسند)) وأبو داود وابن ماجة بألفاظ مختلفة،(9/85)
ومعناها واحد: أن التكبير في الأولى سبع، وفي الثانية خمس.
وفي رواية أحمد وأبي داود: أن القراءة بعدهما.
وقد استوفينا الأحاديث في ذَلِكَ، والكلام عليها في ((شرح الترمذي)) بحمد
الله ومنه.
ونقل الميموني، عن أحمد، قال: التكبير في العيدين سبعاً في الأولى وخمساً، وقد اختلف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التكبير، وكله جائز.
وهذا نص منه على أنه يجوز التكبير على كل صفة رويت عن الصحابة من غير كراهة، وإن كانَ الافضل عنده سبعاً في الأولى وخمساً في الثانية.
ورجح هذا ابن عبد البر، وجعله من الاختلاف المباح، كأنواع الأذان والتشهدات ونحوها.
ثم خرج البخاري في هذا الباب:(9/86)
987 - حديث عائشة في الجاريتين اللتين كانتا عندها تدففان وتغنيان.
وقد ذكرنا لفظه في ((باب: سنة العيدين لأهل الإسلام)) إلى قوله: ((دعهما يا أبا بكر؛ فإنها أيام عيد)) وتلك الأيام أيام منى.
وزاد فيه:(9/86)
988 - وقالت عائشة: رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسترني، وأنا أنظر إلى الحبشة،(9/86)
وهم يلعبون في المسجد فزجرهم عمر، فقال النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((دعهم، أمنا بني أرفدة)) –يعني: من الأمن.
خرجه عن يحيى بن بكير، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.
ولكن؛ ليس فيهِ اللفظ الذي احتج به في أول الباب، وهو قوله: ((هذا عيدنا أهل الإسلام)) ، إنما خرجه بهذا اللفظ في ((باب: سنة العيدين)) كما تقدم.
وليس فيه لفظة: ((أهل الإسلام)) ، ولم أجده بهذه الزيادة في شيء من الكتب الستة، وإنما تعرف هذه اللفظة في حديث عقبة بن عامر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يوم عرفة، ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام)) .
ووجه الاستدلال به على ما بوب عليه البخاري: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل العيد عاما لأهل الإسلام كلهم، فدل على أنهم يشتركون فيمايشرع فيه جميعهم، رجالهم
ونساؤهم، أهل أمصارهم، وأهل قراهم فتكون صلاة العيد مشروعة لجميعهم من غير تخصيص لأحد منهم.
والمنازع في ذلك قد يقول: أنا لا أمنع ذلك، ولا أن يشهد العيد جميع المسلمين إذا صلاها الإمام أو نائبه في المصلى، فأما الإنفراد بصلاتها لآحاد الناس في بيوتهم، فهذا لم ينقل عن أحد من السلف فعله، ولو كان مشروعاً لما تركوه، ولو فعلوه لنقل.(9/87)
وأيضا؛ فمما يدل عَلَى أن الاستيطان يعتبر لها: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يفعلها قط فِي اسفاره مَعَ كثرة أسفاره، وقد ادركه عيد النحر بمنى، وأدركه عيد الفطر فِي غزوة الفتح وَهُوَ مسافر، ولم ينقل أنهُ صلى العيدين فِي شيء من أسفاره، ولو فعل ذَلِكَ لما أهمل
نقله؛ لتوفر الدواعي على نقله، وكثرة الحاجة إليه. والله - سبحانه وتعالى - أعلم.
وأيضا؛ فالحديث إنما ورد في ايام منى، وظاهره: أنها أيام التشريق.
ولو قيل: إن يوم النحر يدخل فيها، فلا يلزم من كونها عيداً للمسلمين جميعاً أن يشترك المسلمون جميعهم في كل ما يشرع فيها؛ فإنه يشرع فيها للحاج ما لا يشرع لغيرهم من أهل الأمصار، فلا يمتنع أن يشرع لأهل الأمصار الاجتماع على مالا يشرع لغيرهم بإنفرادهم، كالنساء والمسافرين. والله - سبحانه وتعالى - أعلم.(9/88)
26 - باب
الصلاة قبل العيد وبعدها
وقال أبو المعلى: سمعت سعيداً، عن ابن عباس: كره الصلاة قبل العيد.(9/89)
989 - حدثنا أبو الوليد: ثنا شعبة: أخبرني عدي بن ثابت، قالَ: سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوم عيد الفطر، فصلى ركعتين، ولم يصل قبلها ولا بعدها، ومعه بلال.
((أبو المعلى)) ، هو: يحيى بن ميمون الكوفي، ثقة مشهور.
وقد اختلف الناس في معنى ترك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة يوم العيد قبلها وبعدها: فمنهم من قال: لأنه كان إماماً، والإمام لايتطوع موضع صلاة العيد قبلها ولا بعدها؛ لأن حضوره كاقامة الصَّلاة، فلا يتطوع بعده، وإذا خطب انصرف وانصرف الناس معه، فلو صلى فلربما احتبس الناس لهُ، وفيه مشقة.
وهذا تأويل جماعة، منهم: سليمان بن حرب وطائفة من الشافعية وغيرهم.
وأنكر ذلك الإمام أحمد، وقال: إنما لم يصل قبلها ولا بعدها؛ لأنه لا صلاة قبلها ولا بعدها.
واستدل بأن ابن عباس وابن عمر(9/89)
رويا أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل قبلها ولا بعدها وكرها الصلاة قبلها وبعدها استدلالاً بما روياه، فعلهم أنهما فهما مما روياه كراهة الصلاة قبلها وبعدها، وهما أعلم بما رويا.
فأما كراهة ابن عباس، فقد ذكره البخاري تعليقاً، وروي عنه من وجوه أخرَ.
وأما حديث ابن عمر، فمن رواية أبان بن عبد الله البجلي، عن أبي بكر بن
حفص، عن ابن عمر، أنه خرج يوم عيد فطر، ولم يصل قبلها ولابعدها، وذكر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله.
خرجه الإمام أحمد والترمذي.
وقال: حسن صحيح.
وحكى في ((علله)) عن البخاري، أنه قال: هو حديث صحيح، وأبان البجلي صدوق.
وأبان هذا، وثقه ابن معين، وقال أحمد: صدوق صالح الحديث.
وروى مالك وغيره، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان لا يصلي قبل العيد ولا بعدها – ولم يرفعه.
وكذا رواه عبد الله بن دينار، عن ابن عمر.
قال الإمام أحمد: روي عن ابن عمر وابن عباس وسلمة بن(9/90)
الأكوع وبريدة، أنهم لم يصلوا قبلها ولا بعدها. انتهى.
وروي –أيضا - عن علي وجابر وابن أبي أوفى.
وقال الزهري: ما علمنا أحداً كانَ يصلي قبل خروج الإمام يوم العيد ولا بعده.
ذكره عبد الرزاق، عن معمر، عنه.
وخرجه جعفر الفريابي من رواية يونس، عن الزهري، قال: لم يبلغنا أن احداً من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسبح يوم الفطر والأضحى قبل الصلاة ولا بعدها، إلا أن يمر منهم مار بمسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيسبح فيه.
وخرجه الأثرم من رواية الزبيدي، عن الزهري، قال: لم أسمع أحدا من علمائنا يذكر عن أحد من سلف هذه الأمة، أنه كان يصلي قبلها ولا بعدها.
وكان عمر بن عبد العزيز لا يسبح قبلها ولا بعدها، ويبكر بالخروج إلى الخطبة والصلاة، كما لا يصلي أحد قبلها.
وحكى الإمام أحمد هذا القول عن أهل المدينة.
وروي عن الشعبي،(9/91)
قالَ: أتيت المدينة وهم متوافرون، فلم أر أحداً من الفقهاء يصلي قبلها ولا بعدها.
خرجه الفريابي.
وهو قول مالك وأحمد وإسحاق.
وحكاه الترمذي عن الشافعي.
وهؤلاء، منهم من كان ينهى عن الصلاة قبلها، ويزجر عنه، وروي عن أبي قتادة الأنصاري وحذيفة وغيرهما.
ومنهم من كان يخبر بأنه ليس من السنة، ولا ينهى عنه، ومنهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
وحكى الإمام أحمد عن أهل البصرة، أنهم رجعوا في الصلاة قبلها وبعدها، روي عن أنس وأبي برزة الاسلمي والحسن وأخيه سعيد وجابر بن زيد وأبي بردة بن أبي موسى، وهو المشهور عن الشافعي.
وقد حكاه الإمام أحمد –في رواية الأثرم - عن أنس وأبي برزة.
وروى الإمام أحمد –في رواية ابنه عبد الله -: نا محمد بن جعفر: نا سعيد، عن
قتادة، أن أبا برزة الأسلمي وأنس بن مالك والحسن وعطاء بن يسار، كانوا لا يرون بالصلاة قبل الإمام ولا بعده بأساً.(9/92)
وقد خرج البيهقي من رواية الداناج، أنه رأى أبا بردة يصلي يوم العيد قبل الإمام.
فظن صاحب ((شرح المهذب)) ، أن من حكاه عنة أبي برزة الأسلمي فقد وهم وصحف، وليس كما قال.
ورخصت طائفة أخرى في الصلاة بعدها دون ما قبلها، وحكاه الإمام أحمد عن أهل الكوفة.
وقد روي عن علي من وجه ضعيف.
وعن ابن مسعود وأصحابه.
وعن ابن أبي ليلى والنخعي والثوري وأبي حنيفة والأوزاعي.
وفرقت طائفة بين أن يصلي العيد في المصلى، فلا يصلي قبلها ولا بعدها، وبين أن يصلي في المسجد فيصلي قبلها وبعدها، وهو قول الليث، ورواية عن مالك.
ولم يذكر في ((تهذيب المدونة)) سواها.
وعنه، الرخصة أن يصلي قبلها في المسجد خاصة.
وهذا كله في حق غير الإمام، فأما الإمام فلا نعلم في كراهة الصلاة له خلافاً قبلها وبعدها.
وكل هذا في الصلاة في موضع صلاة العيد، فأما الصلاة في غير موضع صلاة
العيد، كالصلاة في البيت أو في المسجد، إذا صليت العيد في المصلى، فقال أكثرهم: لا تكره الصلاة فيه قبلها وبعدها.
روي ذلك عن بريدة ورافع بن خديج.
وذكره عباس بن سهل، عن أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنهم كانوا يفعلونه.
وكان عروة(9/93)
يفعله.
وروي عن ابن مسعود، أنه كان يصلي بعد العيد في بيته.
وهو مذهب أحمد وإسحاق.
وروى عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يصلي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين.
خرجه الإمام أحمد وابن ماجه وابن خزيمة في ((صحيحه)) والحاكم.
وقال: سنة عزيزة، بإسناد صحيح.
كذا قال؛ وابن عقيل مختلف فيهِ.
وقالت طائفة: لا صلاة يوم العيد حتَّى تزول الشمس.
وصح عن ابن عمر، أنه كان يفعله.
وعن كعب بن عجرة، أنه أنكر على من صلى بعد العيد في المسجد، وذكر أنه خلاف السنة، وقال: هاتان الركعتان سبحة هذا اليوم حتى تكون الصلاة تدعوك.
واختار هذا القول أبو بكر الآجري، وأنه تكره الصلاة يوم العيد حتى تزول الشمس، وحكاه عن أحمد.
وحكايته عن أحمد غريبة.
وعند أحمد وأكثر أصحابه: لاتصلي قبل العيد، ولو صليت في(9/94)
المسجد ودخل إليه بعد زوال وقت النهي.
وسئل أحمد - في رواية أحمد بن القاسم -: لو كان على رجل صلاة في ذلك الوقت: هل يصلي؟ قالَ: أخاف أن يقتدي به بعض من يراه. قيل لهُ: فإن يكن ممن يقتدى به؟ قال: لا أكرهه، وسهل فيه.(9/95)
بسم الله الرحمن الرحيم
14 - أبواب الوتر
1 - باب
ما جاء في الوتر
فيه أربعة أحاديث:
الحديث الأول:(9/96)
990 - حدثنا عبد الله بن يوسف: انا مالك، عن نافع وعبد الله بن دينار عن ابن عمر، أن رجلاً سأل النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة الليل، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح، صلى ركعه واحدة، توتر له ما قد صلى)) .(9/96)
991 - وعن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يسلم بين الركعة والركعتين في الوتر، حتى يأمر ببعض حاجته.(9/96)
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صلاة الليل مثنى مثنى)) –يعني: ركعتين ركعتين.
والمراد: انه يسلم في كل ركعتين، وبذلك فسره ابن عمر.
أخرجه مسلم في ((صحيحه)) .
ويدل بمفهومه على أن صلاة النهار ليست كذلك، وأنه يجوز أن تصلى أربعا.
وقد كان ابن عمر –وهو راوي الحديث – يصلي بالنهار أربعا، فدل على أنه عمل بمفهوم ما روى.
فروى يحيى الأنصاري وعبيد الله بن عمر، عن نافع، أن ابن عمر كان يتطوع بالنهار ((بأربعٍ)) ، لا يفصل بينهن.
وبهذا رد يحيى بن معين وغيره الحديث المروي، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)) .(9/97)
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، من رواية شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن علي الازدي، عن ابن عمر.
وقد أعله الترمذي، بأن شعبة اختلف عليه في رفعه ووقفه.
وذكر الإمام أحمد: أن شعبة كان يتهيبه.
وأعله ابن معين وغيره، بأن أصحاب ابن عمر الحفاظ رووا كلهم، عنه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صلاة الليل مثنى مثنى)) ، من غير ذكر النهار، أكثر من خمسة عشر نفسا، فلا يقبل تفرد علي الازدي بما يخالفهم.
وأعله الإمام أحمد وغيره بأنه روي عن ابن عمر، أنه كان يصلي بالنهار أربعاً، فلو كان عنده نص عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخالفه.(9/98)
وتوقف أحمد –في رواية، عنه – في حديث الأزدي.
وقال - مرة -: إسناده جيد، ونحن لا نتقيه.
وقد روي، عن ابن عمر موقوفاً عليه - أيضاً - ((صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)) .
وروي عنه - مرفوعاً - من وجه آخر.
وقيل: إنه ليس بمحفوظ.
قاله الدارقطني وغيره.(9/100)
وذكر مالك، أنه بلغه، أن ابن عمر كان يقول: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، يسلم من كل ركعتين.
قلت: من يقول: لا مفهوم لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صلاة والليل مثنى مثنى)) يقول: إن ذكر الليل إنما كان جوابا لسؤال سائل، سأل عن صلاة الليل، ومثل هذا يدفع أن يكون له مفهوم معتبر. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد بوب البخاري في ((أبواب صلاة التطوع)) على أن ((صلاة النهار مثنى
مثنى)) ، ويأتي الكلام فيه في موضعه – إن شاء الله تعالى.
والكلام هنا في صلاة الليل.
وهذا الحديث: يدل على أن التطوع بالليل كله مثنى مثنى، سوى ركعة الوتر، فإنها واحدة.
وقد عارض هذا حديث عائشة الذي خرجه مسلم، خرجه من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي من الليل(9/101)
ثلاث عشرة ركعة، يوتر في ذلك بخمس، لا يجلس في شيء منهن، إلا في آخرهن.
وقد تكلم في حديث هشام هذا غير واحد.
قال ابن عبر البر: قد أنكر مالك. وقال: مذ صار هشام إلى العراق أتانا عنه ما لم يعرف منه.
وقد أعله الأثرم، بأن يقال في حديثه: ((كان يوتر بواحدة)) ، كذا رواه مالك وغيره عن الزهري.
ورواه عمرو بن الحارث ويونس، عن الزهري، وفي حديثهما: ((يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة)) .
وقد خرجه مسلم من طريقهما – أيضا.
وكذا رواه ابن أبي ذئب والأوزاعي، عن الزهري.
خرج حديثهما أبو داود 0
قال الأثرم: وقد روى هذا الحديث عن عائشة غير واحد، لم يذكروا في حديثهم ما ذكره هشام عن أبيه، من سرد الخمس.
ورواه القاسم، عن عائشة، في حديثه: ((يوتر بواحدة)) .
ولم يوافق هشاماً على قوله إلا ابن إسحاق، فرواه عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة – بنحو رواية(9/102)
هشام.
وخرجه أبو داود من طريقه كذلك.
ورواه - أيضا - سعد بن هشام، عن عائشة، واختلف عليه فيه:
فخرجه مسلم من رواية قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، أنه سال عائشة عن وتر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: كان يصلي تسع ركعات، لا يجلس إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثُمَّ ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي ركعة، ثم يقعد، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليماً يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة، فلما أسن نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول، فتلك تسع يا بني.
وفي رواية له: أن قتادة اخبره سعد بن هشام بهذا، وكان جاراً له.
وقد خرّجه أبو داود بلفظ آخر، وهو: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي ثمان ركعات، لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، فيجلس فيذكر الله، ثم يدعو، ثم يسلم تسليماً، ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم، ثم يصلي ركعة، فتلك إحدى عشرة ركعة.
وفي هذه الرواية: أنه كان يصلي الركعتين جالساً قبل الوتر، ثم يوتر بعدها بواحدة.
وهذا يخالف ما في رواية مسلم.
ورواه سعد بن هشام، عن عائشة، واختلف عليه في لفظه:(9/103)
فروي عنه: الوتر بتسعٍ، وروى عنه: بواحدة.
ورواه أبان عن قتادة بهذا الإسناد، ولفظه: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر بثلاث، ولا يقعد إلا في آخرهن.
قال الإمام أحمد: فهذه الرواية خطأ.
يشير إلى إنها مختصرة من رواية قتادة المبسوطة.
وقد روي في هذا المعنى من حديث ابن عباس وأم سلمة.
وقد تكلم الأثرم في إسنادهما.
وطعن البخاري في حديث أم سلمة بانقطاعه، وذكر أن حديث ابن عمر في الوتر بركعة أصح من ذلك.
وكذلك الروايات الصحيحة عن ابن عباس في وصفه صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة بات عند خالته ميمونة، يدل عليه: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كل ركعتين وأوتر بواحدة.
فلهذا رجحت طائفة حديث ابن عمر وابن عباس، وقالوا: لا يصلي بالليل إلا مثنى مثنى، ويوتر بواحدة.
وهذه طريقة البخاري والأثرم.
وقال ابن عبد البر: هو قول أهل الحجاز، وبعض أهل العراق 0
ثم حكى عن مالك والشافعي وابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد، أن صلاة الليل مثنى مثنى.
قال: وقال أبو حنيفة في صلاة الليل: إن شئت ركعتين، وإن شئت أربعا، وإن شئت ستاً وثمانياً، ولا تسلم إلا في آخرهن.
وقال الثوري والحسن بن حي: صلاة الليل ما شئت، بعد أن تقعد في كل ركعتين وتسلم في آخرهن.(9/104)
وحكى الترمذي في ((كتابه)) أن العمل عند أهل العلم على أن صلاة الليل مثنى مثنى.
قال: وهو قول سفيان وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق.
وحكاه ابن المنذر وغيره عن ابن عمر وعمار، وعن الحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي وسعيد بن جبيرٍ وحماد ومالك والأوزاعي.
وحكي عن عطاء، أنه قال: في صلاة الليل والنهار: يجزئك التشهد.
وهذا يشبه ما حكاه ابن عبد البر، عن الثوري والحسن بن حي.
وهو مبني على أن السلام ليس من الصلاة، وأنه يخرج منها بدونه، كما سبق ذكره.
وقد روي عن النخعي نحوه.
ومذهب سفيان الذي حكاه أصحابه أنه لا بأس أن يصلي بالليل والنهار أربعا أو ستا أو أكثر من ذلك، لا يفصل بينهنً إلا في آخرهن.
قال: وإذا صلى بالليل مثنى، فهو أحب إليّ.
وحمل هؤلاء كلهم قول عائشة: ((كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي أربعا، ثم أربعا)) على أنه كان لا يسلم بينها، وسيأتي حديثها بذلك –إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وحمله الآخرون على أنه كان يفصل بينها بسلام.
وهذا(9/105)
كله في التطوع المطلق في الليل، فأما الوتر فاختلفوا فيه على أقوال:
أحدها: أنه ركعة واحدة، مفصولة مما قبلها، على مقتضى حديث ابن عمر، وبعض ألفاظ حديث عائشة.
قال ابن المنذر: [روينا عن ابن عمر، أنه] يقول: الوتر ركعة. ويقول: كان ذلك وتر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر.
قالَ: وممن روينا عنه: الوتر ركعة: عثمان وسعد وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية وأبو موسى وابن الزبير وعائشة، وفعله معاذ القاري، ومعه رجال من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا ينكر ذلك منهم أحد.
وبه قال ابن المسيب وعطاء ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق [أبو ثور، غير أن مالكاً والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق] رأوا أن يصلي ركعتين، ثم يسلم، ثم يوتر بركعة. انتهى.
وذكر الزهري وغيره: أن عمل المدينة كان على ذلك إلى زمن الخير.
وممن قال الوتر: ركعة –أيضاً -: فقهاء أهل الحديث، سليمان بن داود الهاشمي أبو خيثمة وأبو بكر بن أبي شيبة وغيرهم.
والأفضل(9/106)
عندهم: أن يصلي ركعة يوتر بها بعد ركعتين.
أما إن اقتصر على ركعة يوتر بها، ففي كراهته قولان:
أحدهما: أنه يكره. وهو قول أحمد –في أكثر الروايات، عنه.
ويستثني من ذلك من يستيقظ قرب الفجر، ويخاف أن يطلع عليه الفجر، فيوتر بواحدة.
وهو قول إسحاق، قال: إلا من عذر مرض أو سفر.
وكذا قال أبو بكر من أصحابنا.
قال أحمد: إنما جاء الوتر بركعة بعد تطوع مثنى.
وقال سفيان: إن خشي الفجر فأوتر بواحدة أجزأه، والثلاث أحب إلينا.
ومذهب مالك: لابد أن يكون قبل ركعة الوتر شفع يسلم بينهما في الحضر والسفر.
وقال مجاهد: ما أحب إن يكون وتري إلا على صلاة.
وروى ابن عبد البر، بإسناد فيه نظر، عن عثمان بن محمد بن ربيعة، عن الدراوردي، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه نهى عن البتيراء، أن يصلي الرجل ركعة واحدة، يوتر بها.
وعثمان هذا، قال العقيلي: الغالب على حديثه الوهم.
وقبله في(9/107)
الإسناد من لا يعرف.
وقد روي هذا –مرسلاً.
خرجه سعيد بن منصور، من حديث محمد بن كعب القرظي –مرسلاً.
والقول الثاني: لا يكره.
وروي عن سعد بن أبي وقاص، وأبي موسى، ومعاوية أنهم فعلوه.
وعن ابن عباس، أنه صوب فعل معاوية.
وقال أحمد –في رواية الشالنجي -: لا بأس به.
وهو قول الشافعي.
واختلف أصحابه: هل الركعة المفردة أفضل من ثلاث موصولة؟ على وجهين
لهم.
ومنهم من قالَ: المنفردة افضل من إحدى عشرة موصولة.
وقال الأوزاعي: حدثني المطلب بن عبد الله المخزومي، قال: أتى ابن عمر رجل، فقال: كيف أوتر؟ قالَ: أوتر بواحدة. قالَ: إني أخشى أن يقول الناس: إنها البتيراء. قالَ: سنة الله ورسوله – يريد: هذه سنة الله ورسوله.
المطلب، لم يسمع من ابن عمر.(9/108)
وروى ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي منصور مولى سعد ابن أبي وقاص، قال: سألت ابن عمر عن الوتر، فقال: وتر الليل واحدة، بذلك أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قلت: يا أبا عبد الرحمن، إن الناس يقولون: البتيراء؟ قالَ: يا بني، ليس تلك البتيراء، إنما البتيراء إن يصلي الرجل الركعة التامة في ركوعها وسجودها وقيامها، ثُمَّ يقوم في الأخرى ولا يتم لها ركوعاً ولا سجوداً ولا قياماً، فتلك البتيراء.
خرجهما البيهقي.
وأجاز أحمد وأصحابه وإسحاق: أن يوتر بثلاث موصولة، وأن يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرهن، وبتسع لا يجلس إلا في الثامنة، ولا يسلم ثم يقوم فيصلي ركعة، ثم يسلم؛ لما جاء في حديث عائشة المتقدم.
وجعلوا هذه النصوص خاصة، تخص عموم حديث صلاة الليل مثنى مثنى، وقالوا - في التسع والسبع والخمس -: الأفضل أن تكون بسلام واحد؛ لذلك.
فأما الوتر بسبع، فنص أحمد على أنه لا يجلس إلا في آخرهن.
ومن أصحابنا من قالَ: يجلس عقيب السادسة بتشهد، ولا يسلم.
وقد اختلف ألفاظ حديث عائشة في ذلك.
فأما الوتر بإحدى عشرة، فيكون بست تسليمات، وإن صلاه بتسليمة(9/109)
واحدة، وتشهد عقب العاشرة، ولم يسلم جاز -: قاله بعض [....] .
ومنهم من حكى في الجميع وجهين:
أحدهما: أن الأفضل أن يسلم من كل ركعتين، وصححه غير واحد من أصحابنا.
والثاني: الأفضل سرد الجميع بسلام واحد، ولا يجلس إلا في آخر الاشفاع، فيتشهد، ثم يصلي ركعة ويسلم.
ومذهب إسحاق: أن أوتر بإحدى عشرة ركعة في كل ركعتين.
و [يجوز] عند أصحابنا أن يتطوع بأربع، وبأكثر من أربع، بسلام واحد، وحكوه عن أكثر العلماء، إلا عن محمد بن الحسن وزفر، فإنهما قإلا: لا بد أن يتشهد عقيب كل ركعتين.
وفي صحة التنفل بالإشفاع، كثلاث ركعات، وخمس ركعات، وسبع في غير صلاة الوتر عن أحمد روايتان.
ومذهب الشافعي وأصحابه: أنه يجوز أن يصلي بسلام واحد، ما شاء من الركعات، من واحدة إلى ما لانهاية له بالليل والنهار، وإن كان الأفضل أن يسلم فيهما في كل ركعتين، والوتر وغيره.
ونص الشافعي في ((الإملاء)) على أنه يجوز له أن يصلي عدداً لا يعلمه، ثم يسلم، كما روى عن أبي ذر أنه فعله.
ولأصحابه وجه: أنه(9/110)
لا يجوز الزيادة على ثلاثة عشر ركعة بتسليمة واحدة؛ لأنه أكثر المنقول في الوتر، هوَ ضعيف عندهم.
فإن صلى ركعة واحدة تشهد عقيبها وسلم، وإن صلى أكثر من ذلك فله أن يقتصر على تشهد في آخر الركعات –وإن كثرت -، ويسلم عقيبه بغير خلاف عندهم، إلا في وجه ضعيف لا يعبأ به.
وإن أراد الزيادة على تشهد واحد، ففيه أوجه لهم:
أحدها: أن له أن يتشهد في كل ركعتين، وإن كثرت التشهدات، ويتشهد في الأخيرة، وله أن يتشهد في كل أربع، أو ثلاث أو ست، أو غير ذلك.
ولا يجوز أن يتشهد في كل ركعة؛ لأنه اختراع صورة في الصَّلاة لا عهد بها.
والثاني: لهُ أن يتشهد في كل ركعتين، وفي كل ركعة. وضعفه المحققون منهم.
والثالث: لا يجلس إلا في الأخيرة، وغلطوه –أيضا.
والرابع: لا يجوز الزيادة على تشهدين بحال في الصلاة الواحدة، ولا يجوز أن يكون بين التشهدين أكثر من ركعتين، أن كان العدد شفعاً، وإن كان وتراً لم يجز بينهما أكثر من ركعة.
قال صاحب ((شرح(9/111)
المهذب)) : وهو قوي، وظواهر السنة تقتضيه.
وهذا كله في النوافل المطلقة، فأما في الوتر بخصوصه، فهل يجوز أن يزاد فيه على
تشهدين؟ فيهِ وجهان:
أصحهما –عندهم -: لا يجوز؛ لأنه خلاف المروي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأن النوافل المطلقة لا حصر لركعاتها وتشهداتها، بخلاف الوتر.
وذهبت طائفة إلى أنها لا تجوز الزيادة على ركعتين بتسليمة واحدة، ولا زياد الوتر على
ركعة.
وهو الذي رجحه الأثرم، وقال لم يصح في الوتر بثلاث فما زاد من غير تسليم حديث واحد، ولا أكثر منه.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الوتر بثلاث ركعات بتشهدين من غير تسليم كالمغرب لا يجوز زيادته ولا نقصه.
وروي الوتر بثلاث عن جماعة من الصحابة والتابعين.
وحكاه الحسن، عن عمر وأبي بن كعب.
وهو منقطع عنهما.
وروى الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمان بن يزيد، قال: قال عبد الله بن مسعود: الوتر بثلاث كوتر النهار المغرب.
قال البيهقي: هو صحيح عن ابن مسعود، ورفعه رجل ضعيف(9/112)
عن الأعمش 0 وكذا قال الدارقطني: إن رفعه لا يصح.
وروي - أيضا - عن أنس بن مالك.
وهو قول ابن المسيب، وأبي العالية ومكحول والنخعي وعمر بن عبد العزيز.
وقال الأوزاعي: إن فصل فحسن، وإن لم يفصل فحسن.
وأجاز أحمد الفصل وتركه، والفصل عنده أحسن، وقال: الأحاديث فيه أقوى وأكثر وأثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وكذلك مذهب الشافعي، كما سبق.
ولأصحابنا وجه: أن الوتر بثلاث موصولة بتشهد واحد.
وروي عن عطاء، أنه كان يوتر بثلاث لا يجلس فيهن، ولا يتشهد إلا في آخرهن.
وروى البخاري في ((تاريخه)) بإسناده، عن إسماعيل بن زيد بن ثابت، أن زيدا كان يوتر بخمس، لا يسلم إلا في الخامسة، وكان أبي يفعله.
قال البيهقي: كذا وجدته ((أبي)) مقيداً.
يعني: بالتشديد، يريد: ابن أبي بن كعب.
وروى وكيع، عن الأعمش، عن بعض أصحابه، قال: قالَ عبد الله: الوتر سبع أو خمس، ولا أقل من ثلاث.
وروي عن عراك، عن أبي هريرة، قال: لا توتروا بثلاث؛ تشبهوا(9/113)
بالمغرب ولكن أوتروا بخمس، أو سبع، أو تسع، أو إحدى عشرة أو أكثر من ذَلِكَ.
وروي، عنه - مرفوعاً.
خرجه الحاكم، وصححه.
وفي رفعه نكارة.
وقال أبو أيوب الأنصاري: أوتر بخمس، أو بثلاث، أو بواحدة.
خرجه النسائي وغيره - موقوفا.
وخرجه أبو داود والنسائي –أيضا - وابن ماجه مرفوعاً.
والموقوف أصح عند أبي حاتم والنسائي والأثرم وغيرهم.(9/114)
وقال ابن سيرين: كانوا يوترون بخمسٍ، وبثلاثٍ، وبركعة، ويرون كل ذلك حسناً.
خرجه الترمذي.
قال: وقال سفيان: إن شئت أوترت بخمسٍ، وإن شئت أوترت بثلاث، وإن شئت أوترت بواحدة. قال: والذي استحب أن يوتر بثلاث.
وحكى أصحاب سفيان، عنه، أنه إن شاء أوتر بخمسٍ، أو سبع، أو تسعٍ، أو إحدى عشرة، لا يسلم إلا في آخرهن، إذا فرغ.
ومن العلماء من قال: الوتر ثلاث عشرة، وهو قول بعض الشافعية، ووجه لأصحابنا.
ولو زاد على ذلك لم يجز ولم يصح وتره عند جمهور الشافعية.
ولهم وجه آخر: بصحته وجوازه.
وهذا إذا كان الجميع بسلام واحد، أو نوى بالجميع الوتر.
وروى الشافعي بإسناده، عن كريب، عن ابن عباس، قال: هي واحدة، أو خمس، أو سبع، أو أكثر من ذلك، الوتر ما شاء.
وقد كره قوم الوتر بثلاث، وقالوا: لا يكون إلا سبع أو خمس.(9/115)
فروى شعبة، عن الحكم، قالَ: قلت لمقسم: إني أسمع الأذان فأوتر بثلاث، ثم أخرج إلى الصلاة؛ خشية أن تفوتني؟ قالَ: أن ذَلِكَ لا يصلح إلا بخمس، إلا سبع. فسألته عمن؟ فقالَ: عن الثقة، عن الثقة، عن عائشة وميمونة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه الإمام أحمد.
وروى الشافعي بإسناده، عن ابن مسعود، أنه كان يوتر بخمس أو سبع.
[و] بإسناد منقطع عنه، أنه كان يكره أن يكون ثلاثا تترى، ولكن خمساً أو سبعا.
وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عمر: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة، توتر له ما قد صلى)) يدل على أن هذه الركعة الواحدة جعلت مجموع ما صلى قبلها وتراً، فيكون الوتر هو مجموع صلاة الليل الذي يختم بوتر.
وهذا قول إسحاق بن راهويه 0 واستدل بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أوتروا يا أهل القرآن)) ، وإنما أراد صلات الليل..(9/116)
وقالت طائفة: الوتر هو الركعة الأخيرة، وما قبله فليس منه.
وهو قول طائفة من أصحابنا، منهم: الخرقي وأبو بكر وابن أبي موسى.
وفي كلام أحمد ما يدلُّ عليه.
ومن أصحابنا من قال: الجميع وتر.
وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيمن فاته الوتر، وقلنا: يقضيه: هل يقضي ركعة واحدة؟ أو ثلاث ركعات؟ على روايتين، عنه.
ويحسن أن يكون مأخذهما أن الوتر: هل هو الركعة الواحدة، وما قبله تنفل مطلق؟ أو الوتر مجموع الثلاث؟
وإلى هذا أشار أبو حفص البرمكي من أصحابنا.
وقد نقل الأثرم وغيره، عن أحمد، أنه إذا قضى الوتر بعد طلوع الفجر فإنه يقضي ثلاث ركعات.
وقال: لم يرد التطوع، وإنما أراد الوتر.
وهذا ظاهر في أن المجموع وتر، ويحتمل أن يكون مراده أن الركعتين قبل الوتر متأكدة تابعة للوتر، فتقضي معه في أوقات النهي –أيضا.
وقد تقدم عن المالكية، أن ما قبل الوتر هو شفع له.
وقاله بعض أصحابنا – أيضا.
وقد ذكر أبو عمرو ابن الصلاح: أن أصحاب الشافعي اختلفوا في ذلك على أوجه:(9/117)
أحدها: أن من أوتر بثلاث ينوي بالركعتين مقدمة الوتر، وبالأخيرة الوتر -: قاله أبو محمد الجويني.
والثاني: أنه ينوي بالركعتين سنة الوتر وبالثالثة الوتر -: حكاه الروياني.
قال: وفي هذين الوجهين تخصيص للوتر بالركعة الأخيرة، والثاني يشعر بأن للوتر سنة، ولا عهد لنا بسنة لها سنة هي صلاة.
وفي الوجهين أن الركعتين قبل الوتر لهما تعلق بالوتر.
والثالث: أن ينوي بما قبل الركعة الأخيرة التهجد أو قيام الليل، وفي هذا قطع لذلك عن الوتر.
قال: وما اتفقت عليه هذه الوجوه من تخصيص الوتر بالركعة المفردة على وفق قول الشافعي في رواية البويطي -: الوتر ركعة واحدة.
وقال الماوردي: لا يختلف قول الشافعي: أن الوتر ركعة واحدة.
ويشهد للوجه الثالث حديث ابن عمر: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح، فأوتر بواحدة)) .
والرابع: أنه ينوي بالجميع الوتر -: قاله القاضي أبو الطيب الطبري، واختاره الروياني.
ويشهد له: قول الشيخ أبي إسحاق وغيره: أقل الوتر ركعة، وأكثره إحدى عشرة ركعة.
وفي بعض كلام الشافعي إيماء إليه.
قال: وهو المختار؛ لأن فيهِ(9/118)
جمعا بين الأحاديث كلها؛ إذ الواحدة الأصل في الإيتار، وبها يصير ما قبلها وتراً.
واستدل برواية من روى: ((توتر له ما قد صلى)) ، كما خرجه البخاري، وبأن نافعا ذكر عن ابن عمر، أنه كان يسلم بين الركعة والركعتين في الوتر فإنه يدل على أن الجميع من الوتر.
ورواية من روى: ((فأوتر بواحدة)) فيها محذوف، تقديره: فأوتر ما مضى من صلاتك بواحدة، كما صرح به في الرواية الأخرى.
قالَ: ويلي هذا الوجه في القوة الوجهان الأولان، وأبعدها الثالث. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفي ((شرح المهذب)) : الصحيح المنصوص – يعني: عن الشافعي في ((الأم)) و ((المختصر)) -: أن الوتر يسمى تهجداً.
وفيه وجه: أنه لا يسمى تهجدا بل الوتر غير التهجد.
وهذا هو الذي ذكره بعض أصحابنا.
وينبغي أن يكون مبنياً على القول بأن الوتر هو الركعة المنفردة وحدها، فأما إن قلنا: الوتر الركعة بما قبلها، فالوتر هو التهجد، وإن لم ينو به الوتر.
وقد كان ابن عمر يفصل بين الركعة التي يوتر بها وما قبلها بكلام، كما في رواية البخاري.
واستحب أحمد أن يكون عقيبها، ولا يؤخرها عما قبلها. وقال: كان ابن عمر يستحب أن يتكلم بينهما بالشيء، ثم يقوم فيوتر بركعة 0وقال: هذا عندنا ثبت، ونحن نأخذ به.
وينبغي أن يكون الاختلاف في تسمية ما قبل الركعة الأخيرة(9/119)
وتراً مختصاً بما إذا كانت الركعات مفصولة بالتسليم بينها، فأما إن أوتر بتسع، أو بسبع، أو بخمس، أو ثلاث بسلام
واحد، فلا ينبغي التردد في أن الجميع وتر.
ويدل عليه: ما خرجه مسلم، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ن يوتر في ذلك بخمس، ولا يجلس إلا في آخرهن.
فجعلت الوتر الخمس الموصولة بسلام واحد، دون ما قبلها.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عمر -: ((فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة، توتر له ما صلى)) –وفي رواية تأتي فيما بعد: ((فاركع ركعة واحدة)) - يدل على أن الأفضل تأخير الوتر الإمام آخر الليل. ويأتي الكلام فيه فيما بعد – إن شاء الله سبحانه وتعالى.
ويدل على أن الوتر مأمور به.
وهل الأمر به للوجوب، أم لتأكد الاستحباب؟ فيهِ قولان مشهوران.
وأكثر العلماء على أنه للاستحباب، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم.
وروي عن علي بن أبي طالب وعبادة بن الصامت.
وروي عن أبي أيوب الأنصاري، أنه واجب.
وعن معاذ، من وجه منقطع.
وهو قول أبي(9/120)
حنيفة وأصحابه، أبي بكر بن جعفر من أصحابنا، ذكره في ((كتاب التنبيه)) .
وكذا قال في صلاة التراويح، مع أنه صرح في ((كتاب الشافي)) بأن الوتر ليس بواجب، وليس هو بفرض كالصلوات الخمس بغير خلاف.
وقد سبق الكلام في ذلك في ((كتاب الإيمان)) عند ذكر حديث طلحة، أن أعرابيا سال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الإسلام، فذكر له الصلوات الخمس فقالَ: هل علي غيرها؟ قالَ: ((لا، إلا أن تتطوع)) .
وذكرنا قول من قال: أن الوتر واجب على أهل القرآن دون غيرهم، وأنه يرجع إلى القول بوجوب قيام شيء من الليل على أن أهل القرآن خاصة.
وعن الحسن وابن سيرين: لابد من قيام الليل، ولو قدر حلب شاة.
وعن عبيدة السلماني.
وفيه حديث مرفوع، ولا يصح.
ومن المتأخرين من قال: من صلى بالليل تهجدا وجب عليه أن يوتره، ويجعل آخره وترا؛ لحديث ابن عمر، ومن لم يتهجد فلا وتر عليهِ.
وقال أحمد: من ترك الوتر فهو رجل سوء؛ هوَ سنة سنها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال – في رواية جعفر بن محمد: هوَ رجل سوء، لا شهادة لهُ.(9/121)
فاختلف أصحابنا في وجه ذلك:
فمنهم من حمله على أنه أراد أنه واجب، كما قاله أبو بكر ابن جعفر، وهو بعيد؛ فإن أحمد صرح بأنه سنة.
ومنهم من قال: أراد إن داوم على تركه أو أكثر منه؛ فإنه ترد شهادته بذلك؛ لما فيه من التهاون بالسنن المؤكدة. وكذا حكم سائر السنن الرواتب، وهذا قول المحققين من أصحابنا.
ومنهم من قال: هو يدل على أن ترك المستحبات المؤكدة يلحق بها إثم دون إثم ترك الفرائض.
وقال القاضي أبو يعلى: من داوم على ترك السنن الرواتب أثم.
وهو قول إسحاق بن راهويه، قال في ((كتاب الجامع)) : لا يعذب أحد على ترك شيء من ترك النوافل، وقد سن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سنناً غير الفرائض التي فرضها الله، فلا يجوز لمسلم أن يتهاون بالسنن التي سنها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مثل الفطر والأضحى والوتر والأضحية، وما أشبه ذلك؛ فإن تركها تهاوناً بها فهوَ معذب، إلا أن يرحمه الله، وإني لأخشى في ركعتي الفجر والمغرب؛ لما وصفهما الله في كتابه وحرض عليها، قالَ: {فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [قّ: 40] ، وقال: {فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49] .
وقال سعيد بن جبير: لو تركت الركعتين بعد المغرب لخشيت أن لا يغفر لي. انتهى.
الحديث الثاني:(9/122)
992 - حديث: ابن عباس، أنه بات عند ميمونة وهي خالته.
فذكر الحديث في وضوء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصلاته بالليل ركعتين ركعتين ست مرات.
ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن، فقام، فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى الصبح.
وقد خرّجه في ((الوضوء)) في ((باب: القراءة بعد الحدث)) ، عن إسماعيل، عن مالك.
وخرجه هاهنا، عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك.
وقد خرجه أبو داود، عن القعنبي، وقال القعنبي: ست مرات –يعني: لفظة: ((الركعتين)) .
قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك في إسناده، ولا في لفظه.
وقد خرجه البخاري في أواخر ((كتاب العلم)) ، في ((باب: السمر في العلم)) ، من حديث شعبة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وفيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى قبل أن ينام أربع ركعات، ثم نام، ثم لما قام من الليل صلى خمس ركعات، ثم صلى ركعتين، ثم نام، ثم خرج إلى الصلاة.(9/123)
وهذا قد يشعر بأنه أوتر بخمس لم يسلم إلا في آخرهن.
وخرّجه في ((أبواب الصفوف)) –أيضا - بنحوه.
وخرّجه فيها –أيضا - من رواية كريب، فقال فيه، فصلى ثلاث عشرة ركعة، ثم نام حتى نفخ.
وخرّج أبو داود من حديث يحيى بن عباد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس –في هذا الحديث -، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوتر بخمس لم يجلس بينهن.
وخرّجه أبو داود من حديث محمد بن قيس الأسدي، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وفيه: ثم صلى سبعاً أو خمسا، أوتر بهن، لم يجلس إلا في آخرهن.
ورده الأثرم بمخالفته الروايات الكثيرة الصحيحة عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوتر تلك الليلة بركعة بعد أن صلى قبلها ركعتين، ثم ركعتين ستاً أو خمساً.
وفي رواية مالك: أن اضطجاع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قبل ركعتي الفجر.
وأكثر الروايات تدل على خلاف ذلك، كرواية سلمة بن كهيل، عن كريب، ورواية عبد ربه بن سعيد، عن مخرمة، عن كريب.
وكلاهما مخرجة في ((الصحيحين)) .
وكذلك رواية بكير بن الأشج، عن(9/124)
كريب.
وهي مخرجة في ((صحيح مسلم)) .
لكن رواه الضحاك بن عثمان، عن مخرمة، عن كريب، عن ابن عباس، وقال في حديثه: أنه صلى إحدى عشرة ركعة، ثم احتبى حتى أني لأسمع نفسه راقداً، فلما تبين له الفجر صلى ركعتين خفيفتين.
خرجه مسلم.
وهذا يوافق [رواية] مالك، إلا أنه يخالفها في ذكر الاحتباء دون الاضطجاع.
ورواه سعيد بن أبي هلال، عن مخرمة –بنحو رواية مالك - أيضاً.
خرّجه أبو داود والنسائي.
وقد روي في هذا الحديث، عن ابن عباس، أن النَّبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى تلك الليلة ثمان ركعات، ثم أوتر بثلاث –من وجوه غير قوية.
خرّجه أبو داود من بعضها.
وخرّج مسلم من رواية محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده، وذكر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى تلك الليلة ست ركعات، ثم أوتر بثلاث، ثم أذن المؤذن، فخرج إلى الصلاة.
وخرجه أبو داود، وزاد فيه: أنه صلى ركعتي الفجر حين طلع الفجر.
فعلى هذه الرواية: تكون كل صلاته إحدى عشرة ركعة.(9/125)
وأكثر الروايات تدل على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ثلاث عشرة ركعة.
لكن رواية مالك وسعيد بن أبي هلال، فيهما: أن الثلاث عشرة بدون ركعتي الفجر.
وكذلك رواه الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن كريب، عن ابن عباس.
خرج حديثه النسائي.
وذكر الإمام حمد، أن الأعمش وهم في إسناده.
وأكثر الروايات تدل على أن ركعتي الفجر من الثلاث عشرة، ورواية الضحاك عن مخرمة مصرحة بذلك.
وقد خرّجها مسلم.
وخرّج البخاري –أيضا - ذلك من رواية شريك بن أبي نمر، عن كريب، عن ابن عباس وكذلك خرّج أبو داود، من رواية ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس –فذكر الحديث، فيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ثلاث عشرة ركعة، منها ركعتا الفجر، حزرت قيامه في كل ركعة بقدر {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1] .
وفي رواية سعيد بن جبير، عن ابن عباس التي خرجها البخاري، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى قبل نومه أربعا، ثم بعد قيامه من نومه خمساً، ثم صلى ركعتين.
فهذه إحدى عشرة ركعة.
والظاهر: أن الركعتين بعد الخمس هما ركعتا الفجر.(9/126)
وخرّجه أبو داود، وعنده: أن نومه كان قبل الركعتين، ثم صلى الركعتين، ثم خرج فصلى الغداة.
وهو يدل على ما قلناه 0.
وخرّجه النسائي، وعنده: أنه صلى خمسا، ثم ركعتين، ثم نام، ثم صلى ركعتين، ثم خرج إلى الصلاة.
فعلى هذه الرواية: صلاته ثلاث عشرة ركعة.
وكل هذه الروايات: من رواية شعبة، عن الحكم.
الحديث الثالث:(9/127)
993 - ثنا يحيى بن سليمان: ثنا ابن وهب: أخبرني عمرو، أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر، قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة توتر لك ما صليت)) .
قال القاسم: ورأينا: أناسا منذ أدركنا يوترون بثلاث، وإن كلاً لواسع، أرجو أن لا يكون بشيء منه باس.
هذه الروية بمعنى رواية نافع، عن ابن عمر المتقدمة.
وما ذكره القاسم بن محمد يدل على أنه يجوز الوتر بركعة واحدة، وبثلاث ركعات، وأنه أدرك أناسا يوترون بثلاث.
وقد سبق الكلام في قدر الوتر بما فيه كفاية.(9/127)
الحديث الرابع:(9/128)
994 - ثنا أبو اليمان: انا شعيب، عن الزهري: حدثني عروة، أن عائشة أخبرته، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي إحدى عشرة ركعة، كانت تلك صلاته - تعني: بالليل -، فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية، قبل أن يرفع رأسه، ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن، حتى يأتيه المؤذن للصلاة.
كذا روى شعيب، عن الزهري هذا الحديث.
ورواه عمرو بن الحارث ويونس، عن الزهري –بمعناه -، وفي حديثهما: أنه كان فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع شقه الأيمن، حتى يأتيه المؤذن للإقامة.
خرّجه مسلم من طريقهما.
وخرّجه أبو داود من طريق الأوزاعي وابن أبي ذئب، عن الزهري - بنحوه أيضاً.
وخرّج ابن ماجه من طريق الأوزاعي وحده.
وخرّجه النسائي من طريق عقيل، عن الزهري –بمعناه.(9/128)
ورواه مالك، عن الزهري، ولفظه: أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة، فإذا فرغ منها أضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين.
خرجه مسلم.
وخرجه البخاري فيما بعد، في ((ما يقرأ في ركعتي الفجر)) - مختصرا -، ولفظه: كانَ يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين.
كذا خرّجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك.
ولفظ: ((ثلاث عشرة)) غريب، وإنما هو في ((الموطأ)) كما خرجه مسلم: ((إحدى عشرة)) .
وكذا خرّجه الترمذي وغيره من طريق مالك.
واسقط البخاري منه: ذكر: ((الاضطجاع)) ؛ لأن مالكاً خالف أصحاب ابن شهاب فيهِ، فإنه جعل الاضطجاع بعد الوتر، وأصحاب ابن شهاب كلهم جعلوه بعد ركعتي الفجر.
وهذا مما عده الحفاظ من أوهام مالك، منهم: مسلم في ((كتاب التمييز)) .
وحكى أبو بكر الخطيب مثل ذلك عن العلماء.
وحكاه ابن عبد البر عن أهل الحديث، ثم قال: يمكن أن يكون ذلك صحيحاً، وأن يكون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مرة يضطجع قبل ركعتي الفجر، ومرة بعدها.(9/129)
وعضده برواية مالك، عن مخرمة، عن كريب، عن ابن عباس، كما سبق.
وقد عضد ذلك أحاديث آخر:
منها: رواية أبي سلمة، عن عائشة: ما ألفى رسول الله، السحر الأعلى في بيتي إلا نائماً.
خرّجاه في ((الصحيحين)) ، ولفظه لمسلم.
وخرّجه مسلم، وزاد فيه: ((يعني: بعد الوتر)) .
وفي رواية أبي سلمة، عن عائشة، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينام قبل الوتر – أيضا - وأن عائشة سألته عن ذلك، فقال: ((أن عيني تنامان، ولا ينام قلبي)) وهذا يدل على أن وقت نومه كان يختلف.
كذا في رواية مالك، عن المقبري، عن أبي سلمة.
وقد خرّجها البخاري – فيما بعد.
ورواه عبد الرحمن بن إسحاق، عن المقبري، فذكر في حديثه: أنه كان ينام بعد العشاء، ثم يقوم فيصلي أربعا، ثم ينام، ثم يقوم فيصلى أربعا، ثم ينام، ثم يقوم فيصلي ثلاثا، يوتر بواحدة، ثم يضطجع ما شاء الله، حتى إذا سمع النداء قام فصلى ركعتين، حتى يأتيه المؤذن، فيخرج إلى الصلاة.
خرجه بقي بن مخلد في ((مسنده)) .
وفي ((الصحيحين)) – أيضا - عن الأسود، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينام أول الليل، ويقوم آخره، فيصلي ثم يرجع إلى فراشه، فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كان به حاجة اغتسل، وإلا توضأ وخرج.(9/130)
وهذا لفظ البخاري.
وزاد مسلم – في رواية -: ((ثم صلى الركعتين)) .
وفي رواية غيرهما: أنه كان يوتر، ثم ينام.
وخرج النسائي من حديث سعد بن هشام، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي من الليل، ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين جالسا، ثم يضع جنبه، وربما جاء بلال فآذنه قبل أن يغفى، وربما أغفى، وربما شككت أغفى أم لا.
قالت: فما زالت تلك صلاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرّجه أبو داود – مختصرا.
وروى الإمام أحمد: نا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد: نا أبي، عن أنس ابن سيرين، قال: قلت لابن عمر: ركعتا الفجر، أطيل فيهما القراءة؟ فقالَ: كانَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح أوتر بركعة، ثم يضع رأسه، فإن شئت قلت: نام، وإن شئت قلت: لم ينم، ثم يقوم إليهما والأذان في أذنيه، فأي طول يكون ثم؟
وخرّجه في ((الصحيحين)) من طريق حماد، عن أنس بن سيرين - مختصرا.
وقد استحب طائفة من السلف الفصل بين صلاة الليل والنهار(9/131)
بالاضطجاع
بينهما.
روى وكيع في ((كتابه)) ، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن القاسم ابن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، قال: اضطجع ضجعة بعد الوتر.
وعن عاصم بن رجاء، عن أبيه، عن قبيصة بن ذؤيب، عن أبي الدرداء، قال: مر بي أبو الدرداء من آخر الليل وأنا اصلي، فقال: افصل بضجعة بين صلاة الليل وصلاة النهار.
يعني: يعني بعد الوتر، قبل الركعتين.
فهذه رواية الزهري، عن عروة، عن عائشة.
وقد سبق أن هشام بن عروة رواه، عن أبيه، عن عائشة، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر منها بخمس، لا يجلس إلا في آخرهن.
وقد خرجه مسلم - بمعناه.
وفي رواية عن هشام، أنه كان يصلي قبل هذه الخمس ثمان ركعات،(9/132)
يجلس في كل ركعتين ويسلم.
ورواه ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي ثلاث عشرة ركعة، بركعتيه قبل الصبح، يصلي ستا مثنى مثنى، ويوتر بخمس، لا يقعد بينهن إلا في آخرهن.
خرّجه أبو داود.
وذكر البيهقي في ((كتاب المعرفة)) ، عن الشافعي، أنه اختار حديث الزهري، من غير أن يضيق غيره؛ لفضل حفظ الزهري على حفظ غيره؛ ولموفقته رواية القاسم، عن عائشة، ورواية الجمهور عن [ابن] عمر وابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال: وبهذا النوع من الترجيح ترك البخاري رواية هشام في الوتر، ورواية سعد بن هشام، عن عائشة في الوتر، فلم يخرج واحدة منهما في ((صحيحه)) ، مع كونهما من شرطه في سائر الروايات.
ثم ذكر بإسناده، عن أبي معين، قال: الزهري اثبت في عروة من هشام بن عروة في عروة 0
وخرّج مسلم من حديث عراك، عن عروة عن عائشة، أن رسول الله ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، بركعتي الفجر.
وقد روى هذا المعنى، عن عائشة: أبو سلمة والقاسم بن محمد ومسروق.
وقد خرّج البخاري أحاديثهم، وتأتى - فيما بعد.
ولفظه(9/133)
حديث مسروق، عنده: قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالليل، فقالت: سبع وتسع وإحدى عشرة.
وخرّج مسلم من حديث عبد الله بن شقيق، عن عائشة، أن النبي، كان يصلي في بيتها بعد العشاء ركعتين، وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر.
ففي هذه الرواية: أن الإحدى عشرة التي كان يصليها بالليل منها ركعتان بعد العشاء، قبل أن ينام.
وقد تقدم في رواية عمرو بن الحارث ويونس، عن الزهري، عن عروة عن عائشة ما يشهد لذلك –أيضا.
وقد روي عنها، أن الإحدى عشرة ركعة منها ركعتان كان يصليهما بعد الوتر.
روى ذلك عنها: أبو سلمة وسعد بن هشام.
وسنذكر حديثهما فيما بعد – أن شاء الله سبحانه وتعالى.
وفي حديث سعد، عنها: أنه كان يصلي إحدى عشرة، ثم لما أسن واخذ اللحم صلى تسعاً.
خرّجه مسلم.
وخرّج أبو داود من رواية أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي ثلاث عشرة ركعة من الليل، ثم أنه(9/134)
صلى إحدى عشرة ركعة وترك ركعتين، ثم قبض حين قبض وهو يصلي من الليل تسع ركعات.
وخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه من رواية الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي من الليل تسع ركعات.
وحسنه الترمذي.
وفي إسناده: اختلاف عن الأعمش.
وقد روي عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن يحيى بن الجزار، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي من الليل تسع ركعات، فلما كثر لحمه وسن صلى سبع ركعات.
خرّجه النسائي.
ورواه أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الجزار، عن أم سلمة: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر بثلاث عشرة، فلما كبر وضعف أوتر بسبع.
خرّجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي، وحسنه.(9/135)
أبو معاوية، مقدم على أصحاب الأعمش، إلا أن الدارقطني قال: من قال فيه: ((عن عمارة بن عمير)) فهو أشبه بالصواب من قول من قال: ((عمرو بن مرة)) .
وقال الأثرم: اضطرب الأعمش في إسناده وفي متنه. قال: ويحيى الجزار، لم يلق عائشة، ولا أم سلمة.
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود من حديث معاوية بن صالح، عن عبد الله بن أبي قيس، قال: سألت عائشة: بكم كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر؟ قالت: بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان وثلاث، وعشرة وثلاث، ولم يكن يوتر بأكثر من ثلاث عشرة، ولا بأنقص من سبع، وكان لا يدع ركعتين قبل الفجر.
ففي هذه الرواية: أن مجموع صلاة الليل تسمى وتراً، وأنه كان يوتر بثلاث عشرة سوى ركعتي الفجر، ولعلها أدخلت في ذلك الركعتين بعد صلاة العشاء حتى توافق سائر الروايات عنها 0
وأما إطالة السجود المذكور في حديث عائشة الذي خرجه، فقد بوب عليه في ((أبواب قيام الليل)) ، واعاد فيه الحديث، ويأتي الكلام على معناه هنالك –إن شاء الله سبحانه وتعالى.(9/136)
2 - باب
ساعات الوتر
وقال أبو هريرة: أوصاني النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالوتر قبل النوم.
حديث أبي هريرة هذا، قد أسنده في ((أبواب صلاة الضحى)) من رواية شعبة: ثنا الجريري، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي هريرة، قال: أوصاني خليلي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثلاث، لا أدعهن حتى أموت: صيام ثلاثة أيام من كل شهرٍ، وصلاة الضحى، ونوم على وتر0.
وخرّجه مسلم، وزاد فيه: عن عباس الجريري وأبي شمر الضبعي كلاهما، عن أبي عثمان.
وخرّجاه - أيضا - من رواية أبي التياح، عن أبي عثمان، عن أبي هريرة - بنحوه، وفي حديثه: وأن أوتر قبل أن أنام.
وخرجه مسلم وحده من رواية أبي رافع الصائغ، عن أبي هريرة، عن النَّبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثل حديث أبي عثمان، عنه.
وله طرق كثيرة جدا، عن أبي هريرة، قد ذكرت كثيرا منها في ((كتاب شرح الترمذي)) .(9/137)
وذكر الحافظ أبو موسى المديني، أنه رواه عن أبي هريرة قريب من سبعين رجلا.
وفي متنه –أيضا – اختلاف، إلا أن المحفوظ منه: ذكر هذه الخصال الثلاث المذكورة في رواية أبي عثمان.
وقد روي عن أبي الدرداء، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاه بهذه الخصال الثلاث –أيضا.
خرّجه مسلم في ((صحيحه)) .
وروي –أيضا - عن أبي ذر، أن النَّبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوصاه بها.
خرّجه الإمام أحمد والنسائي.
وخرّج ابن ماجه من حديث عمر بن الخطاب، أن النبي، قال: ((لا تنم إلا على وتر)) .
وخرّجه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد.
وهو قطعة من حديث، خرج بعضه أبو داود –أيضا.
وقال على بن المديني: إسناده مجهول.
وخرج الإمام أحمد بإسناد فيه انقطاع، عن سعد بن أبي وقاص، أنه كان يوتر بعد العشاء بركعة، يقول: سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((الذي لا ينام حتى يوتر حازم)) .
وخرّج البزار بإسناد ضعيف جداً، عن علي بن أبي طالب: نهاني(9/138)
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أنام إلا على وتر.
وخرّج ابن عدي بإسناد ضعيف، عن عمار بن ياسر، قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أوتر قبل أن تنام)) .
وروى الإمام أحمد: ثنا أبو سلمة الخزاعي: ثنا عبد الرحمن بن أبي الموالي: أخبرني نافع بن ثابت، عن ابن الزبير، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى العشاء ركع أربع ركعات، وأوتر بسجدة، ثم نام حتى يصلي بعد صلاته بالليل.
نافع، هو ابن ثابت بن عبد الله بن الزبير، ورواياته عن جده ابن الزبير منقطعة –في ظاهر كلام البخاري وأبي حاتم.
خرّج البخاري في هذا الباب حديثين:
الأول:(9/139)
995 - نا أبو النعمان: نا حماد بن زيد: نا أنس بن سيرين، قال: قلت لابن عمر: أرأيت ركعتين قبل صلاة الغداة، أطيل فيهما القراءة؟ قالَ: كانَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي من الليل مثنى مثنى، ويوتر بركعة، ويصلي الركعتين قبل صلاة الغداة، وكان الأذان بأذنيه. قالَ حماد: أي: سرعة.
وخرّجه مسلم – بمعناه.
وخرّجه من حديث شعبة، عن أنس بن(9/139)
سيرين، وزاد فيه: ويوتر بركعة من آخر الليل.
وخرّجه الإمام أحمد من حديث حبيب بن الشهيد، عن أنس بن سيرين، وفيه: فإذا خشي الصبح أوتر بركعة.
وقد تقدم لفظه بتمامه.
وقد تقدم حديث نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة)) .
خرج مسلم من حديث أبي مجلز: سمعت ابن عمر يحدث، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((الوتر ركعة من آخر الليل)) .
وفي رواية – أيضا -: سألت ابن عباس عن الوتر، فقال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((ركعة من آخر الليل)) ، وسألت ابن عمر، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((ركعة من آخر الليل)) .
الحديث الثاني:(9/140)
996 - نا عمر بن حفص: نا أبي: نا الأعمش: نا مسلم، عن مسروق، عن عائشة، قالت: كل الليل أوتر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وانتهى وتره إلى السحر.
((مسلم)) ، هو: ابن صبيح أبو الضحى، وصُبيح بضم الصاد.
وخرّجه مسلم – أيضا – من طريق الأعمش، ولفظه: ((من كل الليل(9/140)
قد
أوتر)) - الحديث.
وخرّجه من حديث سعيد بن مسروق، عن أبي الضحى، كما خرجه البخاري – أعني: ((كل الليل أوتر)) –، إلا أنه قال: ((فانتهى وتره إلى آخر الليل)) .
وخرّجه أيضا من رواية أبي حصين، عن يحيى بن وثاب، عن مسروق، عن عائشة، قالت: من كل الليل أوتر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من أول الليل، وأوسطه، وآخره، فانتهى وتره إلى السحر 0
وهذه الرواية تصرح بأن المراد: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يوتر أحيانا من أول الليل، وأحيانا من وسطه، وأحيانا من آخره، وأنه ليس المراد: أن وتره وقع في كل ساعة ساعة من الليل، أو في كل جزء جزء منه.
وروي هذا الحديث عن عائشة –بمعناه – من رواية ربيعة الجرشي، وعبد الله بن أبي قيس عنها، وغضيف بن الحارث، ويحيى بن يعمر.(9/141)
وروي عن علي من رواية أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، قال: من كل الليل قد أوتر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من أوله، وأوسطه، وانتهى وتره إلى السحر.
خرّجه الإمام أحمد وابن ماجه.
وخرّجه أحمد –أيضا – من رواية أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي – بنحوه.
وقال علي بن المديني: هو إسناد كوفي حسن.
وروي عن عبد خير، عن علي – بنحوه – أيضا.
وخرّج الإمام أحمد –أيضا – بإسناد جيد، عن أبي مسعود الأنصاري، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر من أول الليل وأوسطه وآخره.
وخرّج الإسماعيلي في ((مسند عمر)) من رواية أبي بكر بن أبي مريم، عن ضمرة بن حبيب، عن الحارث بن معاوية، قال: سألت عمر عن الوتر في أول الليل، أو في وسطه، أو في آخره؟ فقالَ عمر: كل ذَلِكَ قد عمل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكن ائت أمهات المؤمنين فسلهن عن ذَلِكَ؛ فإنهن أبصر بما كان يصنع من ذلك، فأتاهن فسألهن، فقلن له: كل ذلك قد عمل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقبض وهو يوتر من آخر الليل.
أبو بكر بن أبي مريم، ضعيف.(9/142)
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه حسن الوتر من أول الليل ومن آخره.
كما خرّجه الإمام أحمد وابن ماجه من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر: ((أي حين توتر؟)) قالَ: أول الليل بعد العتمة 0 قالَ: ((فأنت يا عمر؟)) قال: آخر الليل. قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أما أنت يا أبا بكر فقد أخذت بالوثقى، وأما أنت يا عمر فقد أخذت بالقوة)) .
وخرّجه أبو داود من حديث عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة الأنصاري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – نحوه.
وإسناده ثقات، إلا أن الصواب عند حذاق الحفاظ: عن ابن رباح – مرسلا.
وقد روي هذا الحديث من رواية ابن عمر وعقبة بن عامر وغيرهما، بأسانيد لينة.
ورواه الزهري، عن سعيد بن المسيب - مرسلا -، وهو من أجود(9/143)
المراسيل.
كذا رواه الزبيدي وغيره عن الزهري.
ورواه بعضهم، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة.
والصواب إرساله -: قاله الدارقطني.
ورواه مسعر، عن سعد بن إبراهيم، واختلف عنه: فقيل: عن مسعر، عن سعد، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري.
وقيل: عنه، عن سعد، عن أبي سلمة – مرسلا.
وقيل: عنه، عن سعد، عن ابن المسيب، عن أم سلمة.
والظاهر: أنه غير ثابت.
وخرّجه ابن مردويه من هذا الوجه، وفي حديثه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((أما أنت يا أبا بكر، كما قال القائل: أحرزت نهبي وأبتغي النوافل 0 وأما أنت يا عمر، فتأخذ – أو تعمل - عمل الأقوياء)) .(9/144)
ورواه وكيع في ((كتابه)) عن معسر، عن ابن المسيب –مرسلا -، وزاد فيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي بكر: ((أنت مثل الذي قال: أحرزت نهبي وأبتغي النوافل)) .
وهذه الرواية أصح 0 والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد رواه الشافعي، عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن المسيب – مرسلا – بهذه الزيادة – أيضا.
والكلام في وقت الوتر في مسألتين:
إحداهما:
في وقت جوازه.
فذهب أكثر أهل العلم إلى أن أول وقته من بعد صلاة العشاء، فلو أوتر من قبل صلاة العشاء لم يقع موقعا وأمر بإعادته.
ولو كان ناسيا، أو ظانا أنه قد صلى العشاء، مثل أن يصلي العشاء محدثا ناسيا، ثم يتوضأ ويصلي الوتر، ثم يذكر بعد الصلاة أنه صلى العشاء ناسيا، فإنه يقضي القضاء ثم الوتر.
هذا قول جمهور العلماء، منهم: الثوري والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد..
وقال أبو حنيفة: وقته وقت العشاء؛ فإنه واجب عنده، ويجب الترتيب بينهما، بشرط الذكر ويسقط بالسهو، فلا يعيد الوتر – عنده – في الصورة المذكورة.(9/145)
وكذلك مذهب سفيان، إذا صلى الوتر ناسيا للعشاء، ثم ذكر، أنه يصلي العشاء ولا يعيد الوتر.
وللشافعية وجهان آخران:
أحدهما: أن وقته يدخل بدخول وقت العشاء، ويجوز فعله قبل صلاة العشاء، تعمد ذلك أو لم يتعمد.
والثاني: أن وقته لا يدخل إلا بعد العشاء وصلاة أخرى، فإن كان وتره بأكثر من ركعة صح فعله بعد صلاة العشاء، وإن أوتر بركعة لم يصح حتى يتقدمه نفل بينه وبين صلاة العشاء.
واستدل لقول الجمهور بحديث خارجة بن حذافة، قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ((إن الله قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم: الوتر، جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر)) .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي – وغربه – والحاكم - وصححه.
وقال الأثرم: ليس بقوي.
وخرّجه الإمام أحمد بإسناد جيد، عن أبي بصرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إن الله زادكم صلاة، وهي الوتر، فصلوها ما بين العشاء إلى أن يطلع(9/146)
الفجر)) .
وبإسناد فيه انقطاع، عن معاذ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((زادني ربي صلاة، هي الوتر، ووقتها بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر)) .
وأما آخر وقته، فذهب الأكثرون إلى أنه يخرج وقته بذهاب الليل، فإذا طلع الفجر صار فعله قضاء، وما دام الليل باقيا، فإن وقته باق.
ولا نعلم في ذلك خلافا، إلا ما ذكره القاضي أبو يعلى من أصحابنا في كتابه ((شرح المذهب)) ، أنه إذا أخره حتى خرج وقت العشاء المختار – وهو نصف الليل، أو ثلثه – صار قضاء.
وهذا قول ساقط جدا؛ لأن صلاة العشاء لا تصير قضاء بتأخيرها حتَّى يخرج وقتها المختار، وإن قيل: إن تأخيرها إليه عمدا لا يجوز، كما سبق ذكره في ((المواقيت)) ، فكيف يصير تأخير الوتر إلى ذَلِكَ الوقت قضاء؟ وأما إذا خرج الليل بطلوع الفجر، فإنه يذهب وقت أدائه عند جمهور العلماء، ويصير قضاء حينئذ.
وهو قول الشافعي وأحمد - في المشهور عنهما -، وقول أبي حنيفة والثوري.
وروي عن عمر وابن عمر وأبي موسى وأبي الدرداء وسعيد بن جبير وعطاء والنخعي.
حتى قال(9/147)
النخعي: لأن يدركني الفجر وأنا أتسحر أحب إلي من أن يدركني وأنا أوتر.
ويدل عليه: حديث: ((فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة)) ، وسيأتي حديث: ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا)) . وخرّج مسلم من طرق، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر، أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف صلاة الليل؟ قالَ: ((مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فصل ركعة، واجعل آخر صلاتك وترا)) .
وخرّجه من طريق ابن أبي زائدة، عن عاصم الأحوال، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((بادروا الصبح بالوتر)) .
وهذا لعله رواه بالمعنى من الحديث الذي قبله.
وخرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث ابن أبي زائدة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((بادروا الصبح بالوتر)) .
وصححه الترمذي.
وقد ذكر الدارقطني وغيره: أن ابن أبي زائدة تفرد بهذا الحديث(9/148)
بالإسنادين.
وذكر الأثرم: أنه ذكر لأبي عبد الله – يعني: أحمد بن حنبل – حديث ابن أبي زائدة هذا من الوجهين، فقال: في الإسناد الأول: عاصم، لم يرو عن عبد الله بن شقيق شيئا، ولم يروه إلا ابن أبي زائدة، وما أدري. فذكر له الإسناد الثاني، فقال أحمد: هذا أراه اختصره من حديث: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة)) ، وهو بمعناه. قالَ: فقلت له: روى هذين أحد غيره؟ قالَ: لا.
قلت: والظاهر أنه اختصر حديث عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر أيضا -، كما اختصر حديث عبيد الله، عن نافع، عنه. والله أعلم.
وخرج مسلم – أيضا – من حديث ابن جريج: أخبرني نافع، أن ابن عمر كان يقول: من صلى بالليل فليجعل صلاته وترا قبل الصبح، كذلك كان رسول الله يأمرهم.
خرجه، عن هارون بن عبد الله: نا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج – فذكره.
وخرجه الترمذي عن محمود بن غيلان، عن عبد الرزاق: أنا ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا طلع الفجر فقد ذهب [كل] صلاة الليل والوتر، فأوتروا قبل(9/149)
طلوع الفجر)) .
وقال: تفرد به سليمان بن موسى على هذا اللفظ.
وذكر المروذي عن أحمد، أنه قال: لم يسمعه ابن جريج من سليمان بن موسى، إنما قال: ((قال سليمان)) . قيل له: إن عبد الرزاق قد قال: عن ابن جريج: أنا سليمان؟ فأنكره، وقال: نحن كتبنا من كتب عبد الرزاق، ولم يكن بها، وهؤلاء كتبوا عنه بأخرة.
وخرجه الحاكم من طريق محمد بن الفرج الأزرق: نا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: حدثني سليمان بن موسى: نا نافع، أن ابن عمر كان يقول: من صلى من الليل فليجعل آخر صلاته وترا؛ فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بذلك، فإذا كانَ الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل؛ فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((أوتروا قبل الفجر)) .
وقال: إسناد صحيح.
وهذه الرواية أشبه من رواية الترمذي؛ فإن فيها أن ذهاب كل صلاة الليل بطلوع الفجر، إنما هوَ من قول ابن عمر، واستدل لهُ بأمر النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(9/150)
بالوتر قبل الفجر.
ورواية ابن جريج التي صرح فيها بسماعه من نافع – كما خرجه مسلم - ليس فيها شيء مما تفرد به سليمان بن موسى، وسليمان مختلف في توثيقه.
وخرج مسلم –أيضا – من رواية يحيى بن أبي كثير: أخبرني أبو نضرة، أن أبا سعيد أخبرهم، أنهم سألوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوتر، فقال: ((أوتروا قبل الصبح)) .
وخرجه الإمام أحمد، ولفظه: قال: ((الوتر بليل)) .
وخرجه ابن خزيمة والحاكم، من حديث قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من أدرك الصبح ولم يوتر فلا وتر له)) .
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
وذهب طائفة إلى أن الوتر لا يفوت وقته حتى يصلي الصبح: فروي عن علي وابن مسعود، وقال: الوتر ما بين الصلاتين.
يريدان: صلاة العشاء وصلاة الفجر.
وعن عائشة –معنى ذلك.(9/151)
وممن روي عنه، أنه أوتر بعد طلوع الفجر: عبادة بن الصامت وأبو الدرداء وحذيفة وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة وفضالة بن عبيد وغيرهم.
وقال أيوب وحميد الطويل: أكثر وترنا لبعد طلوع الفجر.
وهو قول القاسم بن محمد وغيره.
وذكر ابن عبد البر: أنه لا يعرف لهؤلاء الصحابة مخالف في قولهم 0 قال: ويحتمل أن يكونوا قالوه فيمن نسيه أو نام عنه، دون من تعمده.
وممن ذهب إلى هذا: مالك والشافعي – في القديم – وأحمد – في رواية عنه – وإسحاق0
وقد ذكرنا – فيما تقدم - حديث أبي بصرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: ((صلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر)) .
وخرج الطبراني بإسناد ضعيف، عن عقبة بن عامر وعمرو بن العاص كلاهما، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال – في صلاة الوتر -: ((هي لكم ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الشمس)) .(9/152)
وقد حكى يحيى بن آدم، عن قوم، أن الوتر لا يفوت وقته حتى تطلع الشمس.
وظاهر هذا: أنه يوتر بعد صلاة الصبح، ما لم تطلع الشمس، وتكون أداء.
وفي ((المسند)) ، عن علي، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر عند الآذان.
وقد سبق ذكره في الصلاة إذا أقيمت الصلاة.
وفيه –أيضا – بإسناد فيه جهالة، عن علي، قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نوتر هذه الساعة، ثم أمر المؤذن أن يؤذن أو يقيم.
وخرّج الطبراني من حديث أبي ذر، قال: أمرني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالوتر بعد
الفجر.
وفي إسناده اختلاف.
وروي مرسلا.
والمرسل أصح عند أبي حاتم وأبي زرعة الرزايين.
وروى ابن جريج: أخبرني زياد بن سعد، أن أبا نهيك أخبره، أن أبا الدرداء خطب، فقال: من أدركه الصبح فلا وتر له 0 فقالت عائشة: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدركه الصبح فيوتر.
خرّجه الطبراني.
وخرّجه الإمام أحمد، ولفظه: كان يدركه بصبح(9/153)
فيوتر.
وأبو نهيك، ليس بالمشهور. ولا يدرى: هل سمع من عائشة، أم لا؟
وقد روي عن أبي الدرداء خلاف هذا.
وخرّج الحاكم من رواية أبي قلابة، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: ربما رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر، وقد قام الناس لصلاة الصبح.
وقال: صحيح الإسناد.
وخرّج – أيضا – من رواية محمد بن فليح، عن أبيه، عن هلال بن علي، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا أصبح أحدكم ولم يوتر فليوتر)) .
وقال: صحيح على شرطهما.
والبخاري يخرج بهذا الإسناد كثيرا.
وروى زهير بن معاوية، عن خالد بن أبي كريمة، عن معاوية بن قرة، عن الأغر المزني، أن رجلا قال: يا رسول الله، أصبحت ولم أوتر؟ فقالَ: ((إنما الوتر بليل)) – ثلاث مرات أو أربعة -، ثُمَّ قالَ: ((قم فأوتر)) .(9/154)
وخرجه البزار – مختصرا، ولفظه: ((من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له)) .
ورواه وكيع في ((كتابه)) عن خالد بن أبي كريمة، عن معاوية بن قرة – مرسلا.
وهو أشبه.
وروى وكيع، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – مثله -، إلا أنه قال: عن الوتر حتى أصبحت.
وفي المعنى –أيضا – عن أبي سعيد الخدري – مرفوعا – من وجهين، لا يصح واحد منهما.
وروى أيوب بن سويد، عن عتبة بن أبي حكيم، عن طلحة بن نافع، عن ابن عباس، أنه بات عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة، فصلى النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجعل يسلم من كل ركعتين، فلما انفجر الفجر قام فأوتر بركعة، ثم ركع ركعتي الفجر، ثم اضطجع.
خرّجها الطبراني وابن خزيمة في ((صحيحه)) .
وحمله: إنما أوتر بعد طلوع الفجر الأول.(9/155)
ثم خرج من رواية عباد بن منصور، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس، أنه بات ليلة عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – فذكر الحديث، وفيه [فذكر] فصلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كان عليه من الليل، مثنى مثنى، ركعتين ركعتين، فلما طلع الفجر الأول، قام فصلى تسع ركعات، يسلم في كل ركعتين، وأوتر بواحدة، وهي التاسعة، ثم أمسك حتى إذا أضاء الفجر جدا قام فركع ركعتي الفجر، ثم نام.
قلت: وكلا الحديثين إسناد ضعيف. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وعلى تقدير صحة هذه الأحاديث، أو شيء منها، فقد تحمل على أن الوتر يقضى بعد ذهاب وقته، وهو الليل، لا على أن ما بعد الفجر وقت له.
والمشهور عن أحمد: أن الوتر يقضى بعد طلوع الفجر، ما لم يصل الفجر، وإن كان لا يتطوع عنده في هذا الوقت بما لا سبب له. وفيما له سبب عنه فيه خلاف، فأما الوتر فإنه يقضى في هذا الوقت.
ومن الأصحاب من يقول: لا خلاف عنه في ذلك، منهم: ابن أبي موسى
وغيره.(9/156)
وحكي للشافعي قول كذلك: أنه يقضي الوتر ما لم يصل الفجر.
وقال أبو بكر – من أصحابنا -: يقضي ما لم تطلع الشمس.
وهذا القول يرجع إلى أن الوتر يقضيه من نام عنه أو نسيه.
وقد اختلف العلماء في قضاء الوتر إذا فات:
فقالت طائفة: لا يقضى، وهو قول أبي حنيفة ومالك، ورواية عن أحمد وإسحاق، وأحد قولي الشافعي.
وحكاه أحمد عن أكثر العلماء.
ويروى عن النخعي، أنه لا يقضى بعد صلاة الفجر، وعن الشعبي.
وقالت طائفة: يقضى، وهو قول الثوري والليث بن سعد، والمشهور عن الشافعي، ورواية عن أحمد.
والصحيح عند أصحاب الشافعي: أن الخلاف في قضاء الوتر والسنن الرواتب سواء.
ومنهم من قال: يقضي ما يستقل بنفسه كالوتر، دون ما هو تبع كالسنن الرواتب.
والمنصوص عن أحمد وإسحاق: أنه يقضي السنن الرواتب دون الوتر، إذا صلى الفجر ولم يوتر.
ونص عليه في رواية غير واحد من أصحابه.(9/157)
واستدل من قال: لا يقضي الوتر بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا نام أو شغله مرض أو غيره عن قيام الليل صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة.
خرجه مسلم من حديث عائشة.
فدل على أنه كان يقضي التهجد دون الوتر.
ويجاب عن هذا: بأنه يحتمل أنه كان إذا كان له عذر يوتر قبل أن ينام، فلم يكن يفوته الوتر حينئذ.
هذا في حال المرض ونحوه ظاهر، وأما في حال غلبة النوم فيه نظر.
وخرج النسائي حديث عائشة، ولفظه: كان إذا لم يصل من الليل منعه من ذلك نوم [غلبه عنه] أو وجع، صلى من النهار ثلاث عشرة ركعة.
فإن كانت هذه الرواية محفوظة دلت على أنه كان يقضي الوتر.
واستثنى إسحاق أن يكون نام عن الوتر وصلاة الفجر حتى طلعت الشمس، فقال: يقضي الوتر، ثم يصلي سنة الفجر، ثم يصلي المفروضة.
وقد ورد في هذا حديث، ذكرناه في قضاء الصلوات.
وخرجه النسائي من حديث محمد بن المنتشر، عن أبيه، أنه كان في منزل عمرو بن شرحبيل، فأقيمت الصلاة، فجعلوا ينتظرونه، فجاء فقال: إني كنت أوتر. وقال: سئل عبد الله: هل بعد الأذان وتر؟ قالَ: نعم،(9/158)
وبعد الإقامة، وحدث عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنَّهُ نام عن الصَّلاة حتَّى طلعت الشمس، ثُمَّ صلى.
فإن كان مراده: أنه نام عن الوتر فذاك، وإن كان مراده: أنه نام عن الفريضة ثم قضاها، فيكون مراده إلحاق القضاء الوتر بالقياس.
وكذا روي عن ابن عمر، أنه قاس قضاء الوتر على قضاء الفرض.
وأخذه بعضهم من عموم قوله: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)) .
خرجه مسلم. وقد سبق في موضعه.
فيدخل في عمومه الوتر.
وجاء في حديث التصريح به، من رواية عبد الرحمن بن زيد بن اسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من نام عن الوتر أو نسيه فليصله إذا ذكره)) .
خرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه.
وخرجه الترمذي –أيضا - من رواية عبد الله بن زيد بن اسلم، عن أبيه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من نام عن وتره فيصله إذا أصبح)) .
وقال: هذا أصح.
وذكر: أن عبد الله بن زيد ثقة، وأخاه عبد الرحمن ضعيف.(9/159)
ولكن خرجه أبو داود والحاكم من حديث أبي غسان محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن أبي سعيد –مرفوعاً.
وقال الحاكم: صحيح على شرطهما.
وخرجه الدارقطني من وجه آخر، عن زيد –كذلك.
لكنه إسناد ضعيف.
ورده بعضهم بأن أبا سعيد روى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أوتروا قبل أن تصبحوا)) ، وهذا يخالفه وليس كذلك؛ فإن الأمر بالإيتار قبل الصبح أمر بالمبادرة إلى أدائه في وقته، فإذا فات وخرج وقته، ففي هذا أمر بقضائه، فلا تنافي بينهما.
وفي تقييد الأمر بالقضاء لمن نام او نسيه يدل على أن العامد بخلاف ذلك، وهذا متوجه؛ فإن العامد قد رغب عن هذه السنة، وفوتها في وقتها عمداً، فلا سبيل لهُ بعد ذَلِكَ إلى استدراكها، بخلاف النائم والناسي.
وممن روي عنه الأمر بقضاء الوتر من النهار: علي وابن عمر وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن والشعبي وحماد.
وهو قول الشافعي –في صحيح عنه - وأحمد –في رواية.
والأوزاعي، إلا أنه قال: يقضيه نهاراً وبالليل ما لم يدخل وقت الوتر بصلاة العشاء الآخرة، ولا يقضيه بعد ذلك؛ لئلا يجتمع وتران في ليلة.(9/160)
وعن سعيد بن جبير، قالَ: يقضيه من الليل القابلة.
وظاهر هذا: أنه لا يقضيه إلا ليلاً؛ لأن وقته الليل، فلا يفعل بالنهار.
المسألة الثانية:
في وقت أفضل الوتر.
قد كان كثير من الصحابة يوتر من أول الليل، منهم: أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان وعائذ بن عمرو وأنس ورافع بن خديج وأبو هريرة وأبو ذر وأبو الدرداء.
وهؤلاء الثلاثة أوصاهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، فتمسكوا بوصيته.
ومنهم من كان يفعل ذلك خشية من هجوم الموت في النوم؛ فإنهم كانوا على نهاية من قصر الأمل.
وذهب طائفة إلى أن الوتر قبل النوم افضل، وهو أحد الوجهين للشافعية.
وهو مقتضى قول القاضي أبي يعلى من أصحابنا في كتابه ((شرح المذهب)) ، حيث ذكر أن وقت الوتر تابع لوقت العشاء، وأنه يخرج وقته بخروج وقت العشاء المختار.
وقال أبو حفص البرمكي من أصحابنا –في شهر رمضان خاصة لمن(9/161)
صلى التراويح خلف الإمام -: فإن الأفضل أن لا ينصرف المأموم حتى ينصرف إمامه.
ونقل مهنا، عن أحمد، أنه كان يوتر قبل أن ينام، وقال: هو أحوط، وما يدريه؟ لعله لا ينتبه.
وهذا يدل على أن الأخذ بالاحتياط أفضل.
وروى شهر بن حوشب، عن ابن عباس، قال: النوم على وتر خير.
وقال عمر: الأكياس يوترون أول الليل، والأقوياء يوترون آخر الليل.
خرجهما وكيع.
وقد سبق هذا المعنى مرفوعاً من وجوه.
والكيس: هو الحذر الحازم المحتاط لنفسه، الناظر إلى عواقب الأمور.
وممن كان يقدم الوتر: ابن المسيب والشعبي.
وكان أكثر من السلف يوتر في آخر الليل، منهم: عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وغيرهم.
وروى وكيع، عن الربيع بن صبيح، عن ابن سيرين، قال: ما يختلفون أن الوتر من آخر الليل أفضل.
واستحبه النخعي ومالك والثوري وأبو حنيفة وأحمد –في المشهور عنه - وإسحاق، إن قوي(9/162)
ووثق بنفسه القيام من آخر الليل، فأما من ليس كذلك فالأفضل في حقه أن يوتر قبل النوم.
وروي هذا المعنى عن عائشة.
واستدلوا بما خرجه مسلم من حديث أبي سفيان، عن جابر، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فان صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك افضل)) .
وفي رواية له: ((محضورة)) .
وخرجه –أيضا - من رواية ابي الزبير، عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –بنحوه.
وحمل بعض هؤلاء أحاديث الأمر بالوتر قبل النوم على من خاف أن لا يقوم آخر الليل.
وهذا بعيد جداً في حق أولئك الصحابة، الذين أمروا بالوتر قبل النوم، مع ما عرف من شدة اجتهادهم، وكثرة تهجدهم.
ومنهم من حمله على بيان الجواز، وعدم الكراهة.
ومنهم من أشار إلى نسخة.
وروى الإسماعيلي في ((مسند علي)) بإسناد مجهول، عن السدي، عن الربيع بن خثيم، قال: خرج علينا على حين يبلج الصبح، فقال: إن جبريل أتى نبيكم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمره أن يوتر أول الليل، فأوتر كما أمره الله، ثم أتاه فأمره أن يوتر وسطاً من الليل، فأوتر كما أمره الله، ثم أتاه(9/163)
فأمره أن يوتر هذه الساعة، فقبض نبيكم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يوتر من هذه الساعة، أين السائلون عن الوتر، نعم ساعة الوتر.
وحديث عائشة: ((أنه انتهى وتره الى السحر)) قد يشعر بذلك، وأنه ترك الوتر من أول الليل ووسطه، واستقر عمله على الوتر من آخر، وإنما كان ينتقل من الفاضل إلى الأفضل وعلى هذا: فهل الأفضل الوتر إذا خشي طلوع الفجر، كما دل عليه حديث ابن عمر، وكان ابن عمر يفعل ذلك، ويوتر من السحر.
قال الثوري: كانوا يحبون أن يؤخروا الوتر آخر الليل، وقد بقي عليهم من الليل شيء.
وقال إسحاق: [كانوا] يستحبون أن يوتروا آخر الليل، وأن يوتروا وقد بقي من الليل نحو مما ذهب منه من صلاة المغرب، واستدل بقول عائشة: ((فانتهى وتره الى السحر)) .
نقله عنه حرب.
وروى وكيع في ((كتابه)) عن الأعمش، عن إبراهيم، أنه بات عند عبد الله ابن مسعود، فسئل: أي ساعة أوتر؟ قالَ: إذا بقي من الليل مثل ما مضى إلى صلاة المغرب.
وعن سفيان، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن ابن عباس –بنحوه.(9/164)
ومعنى ذلك: أنه يوتر وقد بقي من الليل قبل طلوع الفجر مقدار ما يصلي فيه صلاة المغرب، بعد دخول الليل وغروب الشمس.
والمراد: أنه لا يوتر إلا في ليل محقق بقاؤه.
وهو معنى قول النخعي: الوتر بليل، والسحور بليل.
فجعل وقته كوقت السحور بل أشد؛ فإنه قالَ لأن يدركني الفجر وأنا اتسحر أحب إلي من أن يدركني وأنا أوتر.
وكان علي بن أبي طالب يرخص في تأخير الوتر حتى ينشق الفجر، وربما روي عنه أنه أفضل.
وقد سبق عن طائفة من السلف نحوه.
وهؤلاء، منهم من رخص في تأخير السحور –أيضا -، كما يأتي في موضعه – إن شاء الله سبحانه وتعالى.
ولأصحابنا وجه شاذ: أن الوتر في الليل كله، سواء في الفضل.(9/165)
3 - باب
في إيقاظ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهله بالوتر(9/166)
997 - حدثنا مسدد: ثنا يحيى، ثنا هشام: ثنا أبي، عن عائشة، قالت: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد ان يوتر أيقظني فأوترت.
قد سبق هذا الحديث بهذا الإسناد بعينه في ((باب: الصلاة خلف النائم)) .
وقد دل هذا الحديث على إيقاظ النائم بين يدي المصلي.
لكن هل كان إيقاظها لتوتر أو لتتنحى عن قبلته في الوتر؟
قد وردت أحاديث تدل على الثاني، قد سبق ذكرها في ((باب: من قالَ: لا يقطع الصَّلاة شيء)) .
وروى الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي من الليل، فإذا انصرف قال لي: ((قومي فأوتري)) .
خرّجه الإمام أحمد.
فإن كان إيقاظها للايتار استدل به على إيقاظ النائم للصلاة، لا سيما إذا تضايق وقتها؛ فإن ايتار النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استقر في آخر عمره على أنه كانَ في السحر، كما سبق في الباب الماضي.(9/166)
وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان للصلاة بالليل والذكر والدعاء، ففي سائر السنة كان إيقاظه لهم للوتر خاصة؛ فإنه من آكد السنن الرواتب.
وإن كانَ إيقاظها لتتنحى عن قبلته في الوتر، استدل به على الرخصة في الصَّلاة إلى النائم في النفل المطلق دون النفل المعين المؤكد، فالفرض أولى.
وقد أشار إليه الإمام أحمد، كما سبق ذكره في موضعه.
وعلى التقديرين، فيستدل به على ان من له من يوقظه للوتر في آخر الليل لا يكره له ان ينام قبل ان يوتر، ولو كان امرأة أو صبياً، ممن يغلب عليه النوم؛ فان قولها: ((فأوترت)) يدل على أنها كانت تؤخر الوتر إلى ذَلِكَ الوقت، وتنام قبله.(9/167)
4 - باب
ليجعل آخر صلاته وتراً(9/168)
998 - حدثنا مسدد: نا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله: حدثني نافع، عن عبد الله بن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)) .
وخرّجه مسلم.
وخرّج –أيضا - من حديث الأسود، عن عائشة، ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي من الليل حتى يكون آخر صلاته الوتر.
وخرّجه أبو داود –مطولاً.
جعل الوتر آخر صلاة الليل يستفاد منه فوائد عديدة.
فمنها: تأخير الوتر إلى آخر الليل؛ فان صلاة وسط الليل وآخر الليل أفضل من صلاة أوله، فتأخير الوتر يتسع به وقت الصَّلاة في وسط الليل وآخره.
ومنها: أنه لا ينبغي التنفل في الليل بوتر غير الوتر الذي يقطع عليه صلاة الليل، كما لا ينبغي التنفل في النهار بوتر –أيضا -، حتى تكون صلاة المغرب وتره.
فروى الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون: أنا هشام، عن محمد –هو: ابن
سيرين -، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((صلاة المغرب وتر النهار، فاوتروا صلاة الليل)) .(9/168)
قال الدارقطني: رواه أيوب، عن نافع وابن سيرين، عن ابن عمر - موقوفاً. ورواه مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر – موقوفاً.
ورفعه بعضهم عن مالك.
وهذا قد يستدل به على جواز الوتر، بعد طلوع الفجر، ويكون ايتاراً لصلاة الليل، وان كان بعد خروج الليل، كما يوتر صلاة النهار بالمغرب، وإنما يفعل بعد خروج النهار.
فهذا يدل على ان لا وتر لصلاة النهار غير صلاة المغرب، ولا وتر لصلاة الليل غير الوتر المأمور به، فمن تطوع في ليل أو نهار بوتر غير ذلك، فقد زال ايتاره لصلاته، وصارت صلاته شفعاً.
وفي صحة التطوع بشفع في الليل والنهار عن أحمد روايتان. والصحة قول الشافعي، وعدم الصحة قول أبي حنيفة. وقد ذكرنا ما يستدل به للمنع.
واستدل الشافعي ومن وافقه بان عمر دخل المسجد، فصلى ركعة، ثم قال: هو تطوع، فمن شاء زاد، ومن شاء نقص.
وقد يعارض ذلك بالحديث المرفوع والموقوف: ((صلاة الليل والنهار مثنى
مثنى)) .
واستدلوا –أيضا - بأن جماعة نقضوا وترهم(9/169)
بركعة.
وهذا استدلال مردود؛ لوجهين:
أحدهما: أنه قد أنكره عليهم غيرهم من الصحابة.
والثاني: أنهم إنما نقضوه لتصير صلاتهم شفعاً، ثم يوترون.
ومن تطوع بركعة في الليل، من غير نقض، ثم أوتر لم يبق لوتره فائدة؛ فإنه صار وتره شفعاً.
ونحن نذكر هاهنا مسألة نقص الوتر:
وهي: إذا أوتر الإنسان من الليل، ثم أراد أن يصلي:
فقال كثير من الصحابة: يصلي ركعة واحدة فيصير بها وتره الماضي شفعاً، ثم يصلي ما أراد، ثم يوتر في آخر صلاته 0
وهؤلاء اخذوا بقوله: ((اجعلوا آخر صلاتكم وتراً)) ، ولهذا روى ابن عمر هذا الحديث، وهو كان ينقض وتره، فدل على أنه فهمه منه.
وروي عن أسامة بن زيد وغير واحد من الصحابة، حتى قال أحمد: وروي ذلك عن اثني عشر رجلاً من الصحابة.
وممن روي ذلك عنه، منهم: عمر وعثمان وعلي وسعد وابن مسعود وابن عباس –في رواية -، وهو قول عمرو بن ميمون وابن سيرين وعورة ومكحول.
وأحمد –في رواية اختارها أبو بكر وغيره.(9/170)
قال ابن أبي موسى: هي الأظهر عنه.
وقول إسحاق، قال إسحاق: وإن لم يفعل ذلك لم يكن قد عمل بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)) .
وهو –أيضا - وجه للشافعية.
ورد بعضهم هذا القول بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا وتران في ليلة)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن حبان في ((صحيحه)) ، عن قيس بن طلق، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وحسنه الترمذي.
وقالوا: هذا يؤدي إلى ثلاثة أوتار، فيكون منهيا عنه.
وقال الأكثرون: لا ينقض وتره، بل يصلي مثنى مثنى.
وهو قول ابن عباس –في المشهور عنه – وأبي هريرة وعائشة وعمار وعائذ بن عمرو وطلق بن علي ورافع بن خديج.
وروي عن سعد.(9/171)
ورواه ابن المسيب، عن أبي بكر الصديق.
وفي رواية، عنه: أن الصديق ذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاقره عليه، ولم ينكره.
خرجه حرب الكرماني.
ورواه خلاس، عن عثمان، ولم يسمع منه.
وهو قول علقمة وطاوس وسعيد بن جبير وأبي مجلز والشعبي والنخعي والأوزاعي والثوري ومالك وابن المبارك والشافعي وأحمد –في رواية عنه وصححها بعض أصحابنا.
واستدلوا بحديث: ((لا وتران في ليلة)) ، وقد تقدم، وبقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا قام أحدكم من الليل يصلي، فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين)) .
خرجه مسلم من حديث أبي هريرة.
وهو عام فيمن كان أوتر قبل ذلك، ومن لم يوتر.
واستدلوا –أيضا - بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي ركعتين بعد وتره، وسنذكره – إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وبأن النقض يفضي إلى التطوع بالأوتار المعددة، وهو مكروه أو محظور.
وقد روي عن عائشة، أنها قالت: ذاك يلعب بوتره.
قال أحمد: كرهته عائشة، وأنا أكرهه.
وعن أحمد: أنه مخير بين الأمرين؛ لأنهما جميعاً مرويان عن الصحابة.
وقد روي عن علي، أنه خير بين الأمرين.
خرجه الشافعي بأسناد عنه، فيه ضعيف.(9/172)
وخرج الطبراني: نا مقدام بن داود: نا عبد الله بن يوسف: نا ابن لهيعة، عن عياش بن عباس القتباني، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العتمة، ثم يصلي في المسجد قبل أن يرجع إلى بيته سبع ركعات، يسلم في الأربع في كل ... ثنتين، ويوتر بثلاث، يتشهد في الأوليين من الوتر تشهده في التسليم، ويوتر بالمعوذات، فإذا رجع إلى بيته صلى ركعتين ويرقد، فإذا انتبه من نومه صلى ركعتين –وذكرت الحديث، ولم تذكر أنه أوتر في آخر الليل.
وهو غريب جداً، ومنكر؛ مخالف جميع الروايات الصحيحة عن عائشة.
ومقدام بن داود، من فقهاء مصر، ولم يكن في الحديث محموداً قالَ ابن يونس: تكلموا فيهِ. وقال النسائي: ليس بثقة.
ويتصل بهذا: الكلام على حكم الصلاة بعد الوتر:
وقد كرهه طائفة من السلف. ومستندهم: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)) ، وما أشبهه.
وروى عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، أنه كره الصلاة بعد الوتر. وكان أبو مجلز لا يصلي بعد الوتر إلا ركعتين.(9/173)
وقال قيس بن عباد: إذا أوترت ثم قمت فاقرأ وأنت جالس.
وظاهر هذا: أنه يقرا من غير صلاة.
وأما الأكثرون، فلم يكرهوا الصلاة بعد الوتر. ولكن اختلفوا في نقضه – كما سبق.
ومذهب مالك: إذا أوتر قي المسجد، ثم أراد أن يتنفل بعده تربص قليلا، وإن انصرف بعد وتره إلى بيته تنفل ما أحب.
نقله في ((تهذيب المدونة)) .
واستحب أحمد أن يكون بين وتره وبين صلاته بعد الوتر فصل.
قال حرب: قلت لأحمد: الرجل يوتر، ثم يصلى بعد ذلك؟ قالَ: لا بأس به، يصلي مثنى مثنى. قالَ: وأحب أن يكون بينهما ضجعة أو نوم أو عمل أو شيء. قلت: ضجعة من غير نوم؟ فما أدري ما قالَ.
وروى المروذي، عن أحمد - في الرجل يصلي شهر رمضان، يقوم فيوتر بهم، وهو يريد يصلي بقوم آخرين -: يشتغل بينهما بشيء، يأكل أو يشرب أو يجلس.
قال أبو حفص البرمكي: وذلك لأنه يكره أن يوصل بوتره صلاة، ويشتغل بينهما بشيء؛ ليكون فصلا بين وتره وبين الصَّلاة الثانية، وهذا إذا كانَ يصلي بهم في موضعه، فإما إن كانَ موضع آخر، فذهابه فصل، ولا يعيد الوتر ثانية؛ لأنه لا وتران في ليله 0 انتهى.(9/174)
والمنصوص عن أحمد خلاف ذلك:
قال – في رواية صالح - في رجل أوتر مع الإمام، ثم دخل بيته -: يعجبني أن يكون بعد ضجعة أو حديث طويل واختلفت الرواية عن أحمد في التعقيب في رمضان، وهو: أن يقوموا في جماعة في المسجد، ثم يخرجون منه، ثم يعودون إليه فيصلون جماعة في آخر الليل.
وبهذا فسره أبو بكر عبد العزيز بن جعفر وغيره من أصحابنا. فنقل المروذي وغيره، عنه: لا بأس به، وقد روي عن أنس فيه.
ونقل عنه ابن الحكم، قالَ: أكرهه، أنس يروى عنه أنه كرهه، ويروى عن أبي مجلز وغيره أنهم كرهوه، ولكن يؤخرون القيام إلى آخر الليل، كما قال عمر.
قال أبو بكر عبد العزيز: قول محمد بن الحكم قول له قديم، والعمل على ما روى الجماعة، أنه لا بأس به. انتهى.
وقال الثوري: التعقيب محدث.
ومن أصحابنا من جزم بكراهيته، إلا أن يكون بعد رقدة، أو يؤخره إلى بعد نصف الليل، وشرطوا: أن يكون قد اوتروا جماعة في قيامهم الأول، وهذا قول ابن حامد والقاضي وأصحابه. ولم يشترط أحمد ذلك.
وأكثر الفقهاء على أنه لا يكره بحالٍ.
وكره الحسن أن يأمر الإمام الناس بالتعقيب؛ لما فيهِ من المشقة عليهم، وقال: من كانَ فيهِ قوة(9/175)
فليجعلها على نفسه، ولا يجعلها على الناس.
وهذه الكراهة لمعنى آخر غير الصلاة بعد الوتر.
ونقل ابن المنصور، عن إسحاق بن راهويه، أنه إن أتم الإمام التراويح في أول الليل كره له أن يصلي بهم في آخره جماعة أخرى؛ لما روي عن أنس وسعيد بن جبير من كراهته. وإن لم يتم بهم في أول الليل وآخر تمامها إلى آخر الليل لم يكره.
فأما صلاة ركعتين بعد الوتر، فقد رويت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه متعددة، ولم يخرج البخاري منها شيئاً.
لكنه خرج من حديث عراك، عن أبي سلمة، عن عائشة، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يصلي بعد العشاء ثمان ركعات، وركعتين جالساً، وركعتين بين النداءين.
ولم تذكر الوتر في هذه الرواية، ولا بد منه.
والظاهر: أن الركعتين اللتين صلاهما جالسا كانتا بعد وتره، ويحتمل أن يكون قبله.
فقد خرج مسلم من حديث يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمان ركعات، ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع، ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح.
وخرج –أيضا - من رواية زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام،(9/176)
عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر بتسع ركعات - وذكرت صفتها -، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد، فلما أسن وأخذه اللحم أوتر بسبع، صنع في الركعتين مثل صنيعه الأول.
وفي رواية لأبي داود في هذا الحديث: كان يصلي ثمان ركعات، لا يسلم إلا في آخرهن، ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم، ثم يصلي ركعة.
فعلى هذه الرواية: تكون صلاته ركعتين جالسا قبل الوتر، لا بعده.
وخرج أبو داود –أيضا - من رواية بهز بن حكيم، عن زرارة، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر بتسع، يسلم في التاسعة تسليمة شديدة، ثم يقرأ وهو قاعد بأم
الكتاب، ويركع وهو قاعد، ثم يقرأ في الثانية، فيركع ويسجد وهو قاعد، ثم يدعو ما شاء أن يدعو، ثم يسلم.
وهذه الرواية تخالف رواية أبي سلمة، عن عائشة، أنه كان إذا أراد أن يركع
قام.
وخرج أبو داود من رواية علقمة بن وقاص، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر بتسع ركعات، ثم اوتر بسبع ركعات، وركع ركعتين وهو جالس بعد الوتر، فقرأ فيهما، فإذا أراد أن يركع قام فركع ثم سجد.(9/177)
وخرجه مسلم، ولفظه: عن علقمة، قال: قلت لعائشة: كيف كان يصنع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الركعتين وهو جالس؟ قالت: يقرأ فيهما، فإذا أراد أن يركع قام
فركع.
وقد روي عن عائشة، من وجوه أخر.
وخرج النسائي من حديث شعبة، عن الحاكم: سمعت سعيد بن جبير يحدث، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى من الليل خمس ركعات، ثم ركعتين، ثم نام، ثم صلى ركعتين، ثم خرج إلى الصَّلاة.
وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث ميمون المرئي، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بعد الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس.
وخرجه الترمذي إلى قوله: ((ركعتين)) .
وذكر العقيلي أن ميموناً تفرد برفعه، وغيره يرويه موقوفا على أم سلمة.
وفيه –أيضا - عن أبي أمامة وأنس وثوبان وغيرهم.(9/178)
واختلف العلماء في الركعتين بعد الوتر؟
فمنهم من استحبها وأمر بها، ومنهم: كثير بن ضمرة وخالد بن معدان.
وفعلها الحسن جالساً.
وتقدم عن أبي مجلز، أنه كان يفعلها.
ومن أصحابنا من قال: هي من السنن الرواتب.
وفي حديث سعد بن هشام ما يدل على مواظبة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهما.
ومن هؤلاء من قال: الركعتان بعد الوتر سنة له، كسنة المغرب بعدها، ولم يخرج بذلك المغرب عن أن يكون وتراً لها.
ومن العلماء من رخص فيهما، ولم يكرههما، هذا قول الأوزاعي وأحمد.
وقال: ارجوا إن فعله أن لا يضيق، ولكن يكون ذلك وهو جالس، كما جاء في الحديث. قيل له: تفعله أنت؟ قالَ: لا.
وقال ابن المنذر: لا يكره ذَلِكَ.
ومن هؤلاء من قال: إنما فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك أحيانا لبيان الجواز فقط.
وحكي عن طائفة كراهة ذلك، منهم قيس بن عبادة ومالك والشافعي.
فأما مالك، فلم يعرف هاتين الركعتين بعد الوتر -: ذكره عنه ابن المنذر.(9/179)
وأما الشافعي، فحكي عنه أنه قال: أمر النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نجعل آخر صلاتنا بالليل وتراً، فنحن نتبع أمره، وأما فعله فقد يكون مختصا به.
وأشار البيهقي إلى أن هاتين الركعتين تركهما النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد فعلهما، وانتهى أمره إلى أن جعل آخر صلاته بالليل وتراً.
وهذا إشارة إلى نسخهما، وفيه نظر.
وإذا كان مذهب الشافعي أنه لا تكره الصلاة بعد الوتر بكل حال، فكيف تكره هاتان الركعتان بخصوصهما، مع ورود الأحاديث الكثيرة الصحيحة بها؟
وقد ذكر بعض الناس: أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يصلي ركعتين بعد وتره جالساً، لما كانَ يوتر من الليل ويجعل الركعتين جالسا كركعة قائمًا، فيكون كالشفع لوتره، حتَّى إذا قام ليصلي من آخر الليل لم يحتج إلى نقضه بعد ذَلِكَ.
وربما استأنسوا لذلك بحديث ثوبان: كنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فقال: ((إن هذا السفر جهد وثقل، فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين، فإن استيقظ، وإلا كانتا له)) .
خرجه ابن حبان في ((صحيحه)) .
وهذا القول مردود؛ لوجهين:
أحدهما: أن حديث عائشة يدل –لمن تأمله - على أن هذا كانَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله في وتره من آخر الليل، لا من أوله، وكذلك حديث ابن عباس.(9/180)
وثانيهما: أن صلاته جالساً لم تكن كصلاة غيره من أمته على نصف صلاة
القائم.
يدل عليه: ما خرجه مسلم في ((صحيحه)) من حديث عبد الله بن عمرو، قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوجدته يصلي جالساً، فقلت: حُدّثتُ يا رسول الله، إنك قلت:
((صلاة الرجل قاعداً على نصف الصلاة)) ، وأنت تصلي قاعداً؟ قالَ: ((أجل؛ ولكني لست كأحد منكم)) .
وأما حديث ثوبان، فتأوله بعضهم على أن المراد: إذا أراد أن يوتر فليركع ركعتين.
وكأنه يريد أنه لا يقتصر في وتره في السفر على ركعة واحدة، بل يركع قبلها ركعتين، فيحصل له بهما نصيب من صلاة الليل، فإن لم يستيقظ من آخر الليل كان قد اخذ بحظ من الصلاة، وإن استيقظ صلى ما كتب له، وهذا متوجه. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وروي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يصلي في السفر صلاته من الليل قبل أن ينام.
ففي ((المسند)) من حديث شرحبيل بن سعد، عن جابر، أنه كان مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فصلى العتمة –وجابر إلى جنبه -، ثم صلى بعدها ثلاث عشرة سجدة.
وشرحبيل، مختلف فيه.(9/181)
5 - باب
الوتر على الدابة(9/182)
999 - حدثنا إسماعيل: حدثني مالك، عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن سعيد بن يسار، أنه قالَ: كنت أسير مع عبد الله بن عمر بطريق مكة. قال سعيد: فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت، ثم لحقته، فقال
عبد الله بن عمر: أين كنت؟ فقلت: خشيت الصبح فنزلت فأوترت. قالَ عبد الله: أليس لك في رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسوة حسنة؟ فقلت: بلى؛ والله. قال فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر على البعير.
هذا الحديث قد روي عن ابن عمر من وجوه متعددة، قد خرجاه في ((الصحيحين)) من هذا الوجه، ومن حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه.
وخرجه البخاري من حديث نافع، ومسلم من حديث عبد الله بن دينار.
وهذا مما استدل به على أن الوتر غير واجب، وأنه ملتحق بالنوافل؛ فإنه لو كانَ واجبا لألحق بالفرائض، ولم يفعل على الدابة جالساً، مع القدرة على القيام.(9/182)
وقد اختلف العلماء في جواز الوتر على الراحلة:
فذهب أكثرهم إلى جوازه، ومنهم: ابن عمر، وروي عن علي وابن عباس، وهو قول سالم وعطاء والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور.
وقال الثوري: لا بأس به، وبالأرض أحب إلي.
وكذا مذهب مالك:
في ((تهذيب المدونة)) : أن المسافر إذا كان له حزب، فليوتر على الأرض، ثم يتنفل في المحمل بعد الوتر.
وهذا يدل على أن تقديم الوتر على الأرض على قيام الليل أفضل من تأخيره مع على الراحلة.
ومنع من الوتر على الراحلة من يرى أن الوتر واجب، وهو قول أبي حنيفة.
وقال النخعي: كانوا يصلون الفريضة والوتر بالأرض.
وحكى ابن أبي موسى – من أصحابنا – عن أحمد في جواز صلاة ركعتي الفجر على الراحلة روايتين، دون الوتر.
وحكي عن بعض الحنفية، أنه لا يفعل الوتر ولا ركعتا الفجر على الراحلة.
وروى الإمام أحمد: ثنا إسماعيل: ثنا أيوب، عن سعيد بن جبير، أن ابن عمر كان يصلي على راحلته تطوعاً، فإذا أراد أن يوتر نزل فأوتر على الأرض.
ولعله فعله استحباباً، وإنما أنكر [على] من لا يراه جائزاً.(9/183)
وروى محمد بن مصعب: ثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن
عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر، قالَ: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي على راحلته حيث توجهت به تطوعا، فإذا أراد أن يصلي الفريضة أو يوتر أناخ فصلى بالأرض.
قال ابن جوصا في ((مسند الأوزاعي من جمعه)) : لم يقل أحد من أصحاب الأوزاعي: ((أو يوتر)) غير محمد بن مصعب وحده.
وخرجه من طرق كثيرة عن الأوزاعي، ليس في شيء منها: ذكر الوتر.
ومحمد بن مصعب، قال يحيى: ليس حديثه بشيء. وقال ابن حبان: ساء حفظه فكان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل، لا يجوز الاحتجاج به.(9/184)
6 - باب
الوتر في السفر(9/185)
1000 - حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به، يومئ إيماء، صلاة الليل، إلا الفرائض، ويوتر على راحلته.
الوتر في السفر مستحب كالوتر في الحضر، وقد كان ابن عمر يوتر في سفره.
وروى وكيع، عن شريك، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس وابن عمر، أنهما قالا: الوتر في السفر سنة.
وقال مجاهد: لا يترك الوتر في السفر إلا فاسق.
وروى وكيع - أيضا - عن خالد بن دينار، عن شيخ، قال: صحبت ابن عباس في سفر، فلا أحفظ أنه أوتر.
وهذا إسناد مجهول.
وقوله: ((لم أحفظ)) لا يدل على أنه لم يوتر.
والوتر تابع لصلاة الليل، وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي صلاته بالليل وتراً.
وإنما اختلف العلماء في فعل السنن الرواتب في السفر؛ لأنها تابعة للفرائض، والفرائض تقصر في السفر تخفيفاً، فكيف يحذف شطر(9/185)
المفروضة ويحافظ على سننها؟
ولهذا قالَ ابن عمر: لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي.
وقد روي، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في السفر ركعتي الفجر والمغرب؛ لأن فريضتهما لا تقصر.
وهو من مراسيل أبي جعفر محمد بن علي.
ونص عليه أحمد –في رواية المروذي -، أنه لا يدع في السفر ركعتي الفجر والمغرب.(9/186)
7 - باب
القنوت قبل الركوع وبعده
لم يبوب البخاري على القنوت إلا في عقب أبواب الوتر، وهذا يدل على أنه يرى القنوت في الوتر، إما دون غيره من الصلوات أو مع غيره منها.
وخرج فيه حديث أنس بن مالك من طرق أربعة.
الطريق الأول:(9/187)
1001 - ثنا مسدد: نا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، قال: سئل أنس بن مالك: أقنت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصبح؟ قالَ: نعم. فقيل: أو قبل الركوع؟ قال: بعد الركوع يسيراً.
هذا الحديث –بهذا اللفظ -: يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت في الصبح، وأنه قنت بعد الركوع، وأنه قنت يسيراً.
وقوله: ((يسيراً)) يحتمل أن يعود إلى القنوت، فيكون المراد: قنت قنوتاً يسيراً، ويحمتل أنه يعود إلى زمانه، فيكون المعنى: قنوته زماناً يسيراً، فيدل على أنه لم يدم
عليه، بل ولا كان غالب أمره، وإنما كان مدة يسيرة فقط.(9/187)
ويدل عليه: ما روى علي بن عاصم: أخبرني خالد وهشام، عن محمد بن سيرين: حدثني أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت شهرا في الغداة، بعد الركوع، يدعو.
وقد خرجه أبو داود، وعنده: بدل ((يسيراً)) : ((يسراً)) أو ((يسر)) .
وهذه الرواية إن كانت محفوظة فإنما تدل على أنه اسر بالقنوت، ولم يجهر به.
الطريق الثاني:(9/188)
1002 - ثنا مسدد: ثنا عبد الواحد: ثنا عاصم، قال: سألت أنس بن مالك، عن القنوت؟ فقالَ: قد كانَ القنوت. قلت: قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله. قلت: فإن فلانا أخبرني عنك، أنك قلت: بعد الركوع؟ فقال: كذب، إنما قنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الركوع شهرا، أراه كان بعث قوما، يقال لهم: القراء، زهاء سبعين رجلا إلى قوم من المشركين دون أولئك، وكان بينهم وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عهد، فقنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهرا يدعو عليهم.
وخرّجه – أيضا – في ((المغازي)) عن موسى بن إسماعيل، عن عبد الواحد،
[عن] عاصم، بأتم من هذا.
وخرّجه في أواخر ((الجهاد)) من طريق ثابت بن يزيد، عن عاصم:(9/188)
سألت أنساً عن القنوت، [قال] : قبل الركوع، فقلت: إن فلانا يزعم أنك قلت: بعد الركوع؟ قالَ: كذب، ثُمَّ حدث عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قنت شهراً بعد الركوع –فذكره.
وخرّجه في ((الأحكام)) من طريق عباد بن عباد، عن عاصم. وفي ((الدعاء)) من طريق أبي الأحوص، عن عاصم –مختصراً، في القنوت شهراً، ولم يذكر فيه
:
((قبل)) .
وخرجه مسلم من رواية أبي معاوية، عن عاصم، عن أنس، قال: سألته عن القنوت قبل الركوع، أو بعد الركوع؟ فقالَ: قبل الركوع. قلت: فإن ناسا يزعمون أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت بعد الركوع؟ فقال: إنما قنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهرا، يدعو على أناس قتلوا أناسا من أصحابه، يقال لهم: القراء.
وخرجه من طرق أخرى، عن عاصم، عن أنس –في قنوت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهرا
فقط.
وليس في شيء من هذه الروايات: مدوامة القنوت، كما في رواية عبد الواحد بن زياد التي خرجها البخاري، مع أنه لا دلالة فيها على ذلك –على تقدير أن تكون محفوظة –؛ فإنه ليس فيها تصريح بأن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هوَ الذي كانَ يقنت قبل الركوع، فيحتمل أن يريد أن مدة قنوت النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت شهرا بعد الركوع، وكان غيره من الخلفاء يقنت قبل الركوع، ولعله(9/189)
يريد قنوت عمر، لما كانَ يبعث الجيوش إلى بلاد الكفار، فكان يقنت ويستغفر لهم.
ولكن روى الطبراني، عن الدبري، عن عبد الرزاق، عن أبي جعفر الرازي، عن عاصم، عن أنس، قال: قنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصبح يدعو على احياء من احياء العرب، وكان قنوته –قبل الركوع.
ولكن هذه الرواية شاذه منكرة، لا يعرج عليها.
وأبو جعفر الرازي، اسمه: عيسى بن ماهان، قد وثقه يحيى وغيره؛ فإنه من أهل الصدق ولا يتعمد الكذب، ولكنه سيئ الحفظ؛ فلذلك نسبه ابن معين إلى الخطإ والغلط مع توثيقه له.
وقال ابن المديني: هو يخلط مثل موسى بن عبيدة. وقال أحمد والنسائي: ليس بالقوي في الحديث. وقال أبو زرعة: يهم كثيراً. وقال الفلاس: فيه ضعف، وهو من أهل الصدق سيئ الحفظ. وقال ابن خراش: سيئ الحفظ صدوق. وقال ابن حبان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير.
وقد روى أبو جعفر هذا، عن الربيع بن أنس، عن أنس، قال: ما زال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقنت حتى فارق الدنيا.
خرجه الإمام أحمد وغيره.(9/190)
وهذا - أيضا - منكر.
قال أبو بكر الأثرم: هو حديث ضعيف، مخالف للأحاديث.
يشير إلى أن ما ينفرد به أبو جعفر الرازي لا يحتج به، ولا سيما إذا خالف
الثقات.
وقد تابعه عليه: عمرو بن عبيد الكذاب المبتدع، فرواه عن الحسن، عن أنس - بنحوه.
وتابعه - أيضا -: إسماعيل بن مسلم المكي، وهو مجمع على ضعفه، فرواه عن الحسن، عن أنس.
وقد خرج حديثه البزار، وبين ضعفه.
وروي –أيضا - ذلك عن أنس من وجوه كثيرة، لا يثبت منها شيء، وبعضها موضوعة.
وروى خليد بن دعلج، عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت في صلاة الفجر بعد الركوع، وأبو بكر وعمر وعثمان صدرا من خلافته، ثم طلب إليه المهاجرون والأنصار تقديم القنوت قبل الركوع.
خليد بن دعلج، ضعيف، ولا يعتمد.
وقد روى مصعب بن المقدام، عن عاصم الأحول، عن أنس، قال: قنت
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهراً قبل الركوع.
وروى الحسن بن الربيع، عن أبي الأحوص، عن عاصم، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت شهرا في صلاة الفجر، يدعو على خيبر.(9/191)
قال عاصم: سألت أنساً عن القنوت؟ قالَ: هوَ قبل الركوع.
وهاتان الروايتان: تدل على أن القنوت قبل الركوع كانَ شهرا، بخلاف رواية عبد الواحد، عن عاصم.
وروى قيس بن الربيع، عن عاصم، قال: قلنا لأنس: إن قوماً يزعمون أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يزل يقنت بالفجر؟ قالَ: كذبوا؛ إنما قنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهرا واحداً، يدعو على حي من أحياء المشركين.
فهذه تعارض رواية أبي جعفر الرازي، عن عاصم، وتصرح بأن مدة القنوت كلها تزد على شهر.
وليس قيس بن الربيع بدون أبي جعفر الرازي، وإن كان قد تكلم فيه؛ لسوء حفظه –أيضا - فقد أثنى عليهِ أكابر، مثل: سفيان الثوري وابن عيينة وشريك وشعبة وأبي حصين.
وأنكر شعبة على القطان كلامه فيه، وأنكر ابن المبارك على وكيع كلامه فيه.
وقال محمد الطنافسي: لم يكن قيس عندنا بدون سفيان، إلا أنه استعمل، فأقام على رجل حداً، فمات، فطفئ أمره.
وقال يعقوب بن شيبة: هو عند جميع أصحابنا صدوق وكتابه صالح، إنما حفظه فيه شيء.
وقال ابن عدي: رواياته مستقيمة، وقد حدث عنه شعبة وغيره من الكبار، والقول فيه ما قال شعبة: أنه لا بأس به.(9/192)
وقد توبع قيس على روايته هذه:
فروى أبو حفص ابن شاهين: ثنا أحمد بن محمد بن سعيد –هو: ابن عقده الحافظ -: ثنا الحسن بن علي بن عفان: ثنا عبد الحميد الحماني، عن سفيان، عن عاصم، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقنت إلا شهراً واحداً حتى مات.
وابن عقده، حافظ كبير، إنما أنكر عليه التدليس، وقد صرح في هذا
بالتحديث.
وعبد الحميد الحماني، وثقه ابن معين وغيره، وخرج له البخاري.
وخرج البيهقي من حديث قبيصة، عن سفيان، عن عاصم، عن أنس، قال: إنما قنت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهراً. فقلت: كيف القنوت؟ قالَ: بعد الركوع.
وهذه تخالف رواية من روى عنه القنوت قبل الركوع.
وأما القنوت شهرا، فقد سبق أن البخاري خرجه من رواية عباد بن عباد.
وخرجه مسلم من رواية ابن عيينة، وغير واحد، كلهم عن عاصم.
وهو المحفوظ عن سائر أصحاب أنس.
فتبين بهذا: أن رواية عاصم الأحول عن أنس –في محل القنوت، والإشعار بدوامه - مضطربة متناقضة.
وعاصم نفسه، قد تكلم فيه القطان، وكان يستضعفه، ولا يحدث(9/193)
عنه.
وقال: لم يكن بالحافظ.
وقد حدث عاصم، عن حميد بحديث، فسئل حميد عنه، فأنكره ولم يعرفه.
وحينئذ؛ فلا يقضى برواية عاصم، عن أنس، مع اضطرابها على روايات بقية أصحاب أنس، بل الأمر بالعكس.
وقد أنكر الأئمة على عاصم روايته عن أنس القنوت قبل الركوع:
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله –يعني: أحمد بن حنبل -: يقول أحمد في حديث أنس: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت قبل الركوع غير عاصم الأحول؟ قالَ: ما علمت أحدا يقوله غيره: قالَ أبو عبد الله: خالفهم عاصم كلهم.
يعني: خالف أصحاب أنس.
ثم قال: هشام، عن قتادة، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت [بعد] الركوع. والتيمي، عن أبي مجلز، عن أنس. وأيوب، عن محمد: سألت أنساً. - وحنظلة السدوسي، عن أنس -: أربعة أوجه.
وقال أبو بكر الخطيب في ((كتاب القنوت)) : أما حديث عاصم الأحول، عن أنس، فإنه تفرد بروايته، وخالف الكافة من أصحاب أنس، فرووا عنه القنوت بعد الركوع، والحكم للجماعة على الواحد.
كذا قاله الخطيب في القنوت قبل الركوع، فأما في دوام القنوت، فإنه جعله أصلا اعتمد عليه، ويقال له فيه(9/194)
كما قال هو في محل القنوت، فيقال: إن أصحاب أنس إنما رووا عنه إطلاق القنوت أو تقييده بشهر، ولم يرو عن أنس دوام القنوت من يوثق بحفظه.
وأما القنوت قبل الركوع، فقد رواه عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، كما خرج البخاري عنه من طريقه في ((السير)) ، وسنذكره – إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وقد حمل بعض العلماء المتأخرين حديث عاصم، عن أنس في القنوت قبل الركوع على أن المراد به: إطالة القيام، كما في الحديث: ((أفضل الصلاة طول
القنوت)) .
والمراد: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يطيل القيام قبل الركوع للقراءة، وإنما أطال القيام بعد الركوع شهرا حيث دعا على من قتل القراء، ثم تركه.
وقد صح عن ابن عمر مثل ذلك.
وروى ابن أبي شيبة: ثنا ابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان لا يقنت في الفجر، ولا في الوتر، وكان إذا سئل عن القنوت، قال: ما نعلم القنوت إلا طول القيام وقراءة القرآن.
ورواه يحيى بن سعيد، عن عبيد الله – أيضا.
الطريق الثالث:(9/195)
1003 - ثنا أحمد بن يونس، ثنا زائدة، عن التيمي، عن ابن مجلز، عن(9/195)
أنس بن مالك، قال: قنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهرا، يدعو على رعل وذكوان.
وخرجه في ((المغازي)) من رواية ابن المبارك، عن سليمان التيمي، وزاد فيه: ((بعد الركوع)) .
وزاد –أيضا - فيه: ((ويقول: عصية عصت الله ورسوله)) .
وكذلك خرجه مسلم من رواية المعتمر بن سلمان التيمي، عن أبيه، وزاد فيه: ((في صلاة الصبح)) .
الطريق الرابع:(9/196)
1004 - ثنا مسدد: ثنا إسماعيل: أنا خالد، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك، قال: كان القنوت في المغرب والفجر.
وخرجه – فيما تقدم - في ((باب: فضل اللهم ربنا ولك الحمد)) ، عن عبد الله بن أبي الأسود، عن إسماعيل –وهو: ابن علية -، به - أيضا.
وليس في هذا الحديث أن ذلك كان من فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا في عهده، فيحتمل أنه اخبر عما كان في زمن بعض خلفائه، والله أعلم.
وقد روي حديث القنوت عن أنس من طرق أخرى، وقد خرجه البخاري في ((السير)) و ((المغازي)) من بعضها.(9/196)
طريق آخر:
قال البخاري: ثنا أبو معمر: ثنا عبد الوارث: ثنا عبد العزيز، عن أنس، قال: بعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبعين رجلاً لحاجة، يقال لهم: القراء، فعرض لهم حيان من بني سليم: رعل وذكوان، فقتلوهم، فدعا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهراً عليهم في صلاة الغداة، وذلك بدء
القنوت، وما كنا نقنت.
قال: وسأل رجل أنساً عن القنوت: بعد الركوع أو عند فراغ من القراءة؟ قالَ: بل عندَ فراغ من القراءة.
ولكن؛ ليس في هذه الرواية تصريح بأن قنوت النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ قبل الركوع، إنما هوَ من فتيا أنس. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد تقدم عنه ما يخالف ذلك، وما يوافقه، فالروايات عن أنس في محل القنوت مختلفة.
وفي هذه الرواية التصريح بأن هذا كان بدأ القنوت، وأنهم لم يقنتوا قبله، والتصريح بأن القنوت كان شهرا، ولا شك أن هذا القنوت ترك بعد ذلك ولم يقل أنس: إنه استمر القنوت بعد الشهر. والله سبحانه وتعالى أعلم.
طريق آخر:
قال البخاري: ثنا يحيى بن بكير: ثنا مالك، عن إسحاق [بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، قال: دعا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على لادين قتلوا أصحابه ببئر ثلاثين صباحاً حين يدعوا على رعل ولحيان، وعصية عصت الله ورسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال أنس: فأنزل الله تعالى لنبيه في الذين قتلوا - أصحاب بئر معونة -
قراناً، حتى نسخ بعد: بلغوا قومنا، فقد لقينا ربنا، فرضي عنا ورضينا عنه](9/197)
[كتاب الاستسقاء]
16 -[باب
الجهر بالقراءة في الاستسقاء(9/198)
1024 - ثنا أبو نعيم: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عباد بن تميم، عن عمه، قال: خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستسقي، فتوجه إلى القبلة يدعو، وحول رداءه، ثم صلى ركعتين، وجهر فيهما بالقراءة] .
الصواب.
فتبين بهذا: أن النعمان أخطأ في إسناده، فلا يبعد خطؤه في متنه - أيضا.
وعن أحمد رواية ثالثة: أنه يخير بين أن يخطب قبل الصلاة وبعدها، اختارها جماعة من أصحابنا؛ لورود النصوص بكلا الأمرين.
قالَ بعض أصحابنا: والأولى للإمام أن يختار الأرفق بالناس، في كل وقت
بحسبه.
وعن أحمد رواية أخرى: أنه لا يخطب، ولكن يدعو؛ لقول ابن عباس: لم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في التضرع والتكبير، وصلى ركعتين.
خرجه الترمذي وغيره.
وظاهر حديث عبد الله بن يزيد: يدل على أنه لم يزد على الدعاء - أيضا -، وعلى ذلك حمله الإمام أحمد في رواية المروذي.(9/198)
وحديث عائشة الذي ذكرناه في ((أبواب الاستسقاء)) : يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استفتح خطبته بالحمد والتكبير، ثم شرع في الدعاء، واستفتحه بتلاوة أول سورة الفاتحة، ثم بكلمات من الثناء على الله عز وجل، إلى أن نزل، وأنه كان في أول خطبة قاعداً على المنبر، وقد ثبت أنه دعا قائما في حديث عبد الله بن يزيد، فهذا القدر هو المروي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يرو عنه أزيد منه في الدعاء الاستسقاء.
وروى حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عباس، قال: جاء أعرأبي إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالَ: يا رسول الله، لقد جئتك من عند قوم لا يتزود لهم راع، ولا يخطر لهم فحل، فصعد المنبر، فحمد الله، ثم قال: ((اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً طبقاً مريعاً غدقاً عاجلاً، غير راث)) ثم نزل، فما يأتيه أحد من وجه إلا قال: قد أحييتنا.
خرجه ابن ماجه.
وروي عن حبيب –مرسلا، وهو أشبه.
وخرج الطبراني من حديث أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ثم استقبل القوم بوجهه، وقلب رداءه، ثم جثا على ركبتيه، ورفع يديه، وكبر تكبيرة قبل أن يستسقي، ثم
دعا.(9/199)
وإسناده ضعيف.
وقد تقدم عن عمر وعبد الله بن يزيد الأنصاري، أنهما لم يزيدا على الاستغفار.
واختلف القائلون بأنه يخطب – وهم الجمهور -: هل يخطب خطبة واحدة، أو خطبتين؟ على قولين:
أحدهما: يخطب خطبة واحدة، وهو قول ابن مهدي وأحمد وأبي يوسف ومحمد.
والثاني: أنه يخطب خطبتين، بينهما جلسة كالعيد، وهو قول الليث ومالك والشافعي، وروي عن الفقهاء السبعة، وهو وجه ضعيف لأصحابنا.
وقالت طائفة: يخير بين الأمرين، وهو قول ابن جرير الطبري، وحكي مثله عن أبي يوسف ومحمد –أيضا.
واختلفوا: بمإذا تستفتح الخطبة؟
فقالت طائفة: بالحمد لله، وحكى عن مالك وأبي يوسف ومحمد، وهو قول طائفة من أصحابنا، وهو الأظهر.
وقد سبق في ((الجمعة)) توجيه ذلك.
ومذهب مالك: ليس في خطبة الاستسقاء تكبير -: ذكره في ((تهذيب
المدونة)) .(9/200)
وقالت طائفة: يفتتحها بالتكبير كخطبة العيدين، وهو قول أكثر أصحابنا، وطائفة من الشافعية، ونقل أنه نص الشافعي.
وقد تقدم من حديث عائشة ما يشهد له.
وقالت طائفة: يستفتحها بالاستغفار، وهو قول أبي بكر بن جعفر من أصحابنا، وأكثر أصحاب الشافعي.
قال أبو بكر –من أصحابنا –: يستفتحها بالاستغفار، ويختمها به، ويكثر من الاستغفار بين ذلك.
وهو منصوص الشافعي، ونص على أنه يختمها بقوله: استغفر الله لي ولكم.
وأما الثاني – وهو الجهر بالقراءة في صلاة الاستسقاء -: فحديث ابن أبي ذئب عن الزهري الذي خرجه البخاري –صريح بذلك.
قال الإمام أحمد –في رواية محمد بن الحكم -: كنت أنكره، حتى رأيت في رواية معمر عن الزهري كما قال ابن أبي ذئب.
يعني: أنه جهر بالقراءة.
وحديث معمر، خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من رواية عبد الرزاق، عنه.
ولا اختلاف بين العلماء الذين [يرون] صلاة الاستسقاء، أنه يجهر فيها بالقراءة، وقد تقدم عن عبد الله بن يزيد الخطمي، أنه فعله بمشهد من الصحابة.
وأكثر العلماء على أنه يقرأ فيهما بما يقرأ في العيدين، وهو قول الثوري ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
قال الشافعي: وإن قرأ {إِنَّا(9/201)
أَرْسَلْنَا نُوحاً} [نوح:1] كان حسناً.
وقد قال ابن عباس: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في الاستسقاء ركعتين، كما كان يصلي في العيد.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وصححه
الترمذي. وقد روي عن ابن عباس، أنه كان يفعل كذلك.
وخرج الطبراني من حديث أنس – مرفوعا -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ فيهما ((سبح)) و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} .
وإسناده لا يصح؛ فيهِ مجاشع بن عمرو، متروك الحديث.
وروى عبد الرزاق بأسناده، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كانَ يقرا في ركعتي الاستسقاء بالشمس وضحاها والليل إذا يغشى.
واختار هذا أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا.(9/202)
17 - باب
كيف حول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظهره إلى الناس؟(9/203)
1025 - حدثنا آدم: نا بن أبي ذئب، عن الزهري، عن عباد بن تميم، عن عمه قالَ: رأيت النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خرج يستسقي، فحول إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة
يدعو، ثُمَّ حول رداءه، ثُمَّ صلى بنا ركعتين، جهر فيهما بالقراءة.
ظاهر الحديث: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ? دعا مستقبل القبلة، وأنه حول رداءه بعد ذلك، وقد سبق الكلام في وقت تحويل الرداء.
وظاهر الحديث: يستدل به أنه ليس في الاستسقاء خطبة، بل دعاء مجرد.
وقد خرج البخاري – فيما تقدم – من حديث شعيب، عن الزهري، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا قائما، ثم توجه إلى القبلة.(9/203)
وهذا صريح في أنه ابتدأ الدعاء مستقبل الناس، ثم أتمه مستقبل القبلة.
وأما من يقول: إنه يخطب، فإنه يقول: إذا أنهى خطبته ودعا استقبل القبلة، وحول ظهره إلى الناس فدعا.
وأكثرهم قالوا: يستقبل القبلة في أثناء خطبته.
وقال الشافعية: يكون ذلك في أثناء الخطبة الثانية؛ لأن عندهم يسن لها خطبتان، كما تقدم.
وإنما استقبل القبلة في الاستسقاء للدعاء دون خطبة الجمعة؛ لأن خطبة الجمعة خطاب للحاضرين وموعظة لهم فيستقبلهم بها، والدعاء تابع لذلك، ولو كانَ
للاستسقاء.
وأما الاستسقاء المجرد، فإنه إنما يقصد منه الدعاء، والدعاء المشروع إسراره دون إعلانه، وإخفاؤه دون إظهاره، فلذلك شرع إسراره في الاستسقاء وتولية الظهر إلى الناس، واستقبال القبلة؛ لأن الدعاء إلى القبلة أفضل.
وقد كانَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستقبل القبلة إذا استنصر على المشركين في يوم بدر وغيره.
وأيضا؛ فإن استدبار الناس في الدعاء واستقبال القبلة أجمع لقلب الداعي؛ حيث لا يرى أحداً من الناس، وادعى إلى حضوره وخشوعه في الدعاء، وذلك أقرب إلى إجابته.(9/204)
18 - باب
صلاة الاستسقاء ركعتين(9/205)
1026 - حدثنا قتيبة: نا سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عباد بن تميم، عن عمه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى، فصلى ركعتين، وقلب رداءه.
في الحديث: دليل على الصلاة للاستسقاء، وقد تقدم –أيضا - في حديث عائشة وابن عباس.
وجمهور العلماء على أنه تشرع صلاة الاستسقاء.
وخالف فيه طائفة من علماء اهل الكوفة، منهم: النخعي، وهو قول أبي
حنيفة، وقالوا: إنما يستحب في الاستسقاء الدعاء والاستغفار خاصة.
وهؤلاء لم تبلغهم سنة الصلاة، كما بلغ جمهور العلماء.
وفيه: دليل على أن صلاة الاستسقاء ركعتان، وهذا لا اختلاف فيه بين من يقول: إنه يشرع للاستسقاء صلاة.
ولكن اختلفوا: هل تصلى بتكبير كتكبير صلاة العيد، أم بغير تكبير كسائر الصلوات، فتستفتح بتكبيرة الإحرام، ثم يقرأ بعدها؟ على قولين.(9/205)
أحدهما: أنها تصلى كما تصلى العيد بتكبير قبل القراءة وقد روي عن ابن عباس، وعن ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز وأبي بكر بن حزم، وهو قول الشافعي وأحمد – في ظاهر مذهبه – وأبي يوسف ومحمد.
والثاني: تصلى بغير تكبير زائد، وهو قول مالك والثوري والأوزاعي وأحمد –في رواية – وإسحاق وأبي ثور وأبي خيثمة وسليمان بن داود الهاشمي.
قال أبو إسحاق البرمكي من أصحابنا: يحتمل أن هذه الرواية عن أحمد قول قديم رجع عنه.
وحكي عن داود: إن شاء صلي بتكبير زائد، وإن شاء صلى بتكبيرة الإحرام فقط.
واستدل من قال: يصلي بتكبير بظاهر حديث ابن عباس: ((وصلى ركعتين كما يصلي في العيد)) ، وقد سبق ذكره.
وقد روي عنه صريحاً بذكر التكبير، لكن إسناده ضعيف.(9/206)
خرجه الدارقطني والحاكم في ((المستدرك)) –وصححه - والبزار في ((مسنده)) وغيرهم، من رواية محمد بن عبد العزيز الزهري، عن أبيه، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في الاستسقاء، كبر في الأولى سبع تكبيرات، وقرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، وقرأ في الثانية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] ، وكبر فيها خمس تكبيرات.
ومحمد بن عبد العزيز الزهري هذا، متروك الحديث، لا يحتج بما يرويه.
وروى يزيد بن عياض، حدثني أبو بكر بن عمرو بن حزم وابناه –عبد الله ومحمد - ويزيد بن عبد الله بن أسامة وابن شهاب، كلهم يحدثه عن عبد الله بن يزيد، قال: رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى –فذكر الحديث - قال: ثم صلى ركعتين يجهر فيهما بالقراءة، فكبر في الركعة الأولى سبعاً، وفي الآخرة خمساً، يبدأ بالتكبير قبل القراءة في الركعتين كليهما.
ويزيد بن عياض جعدبة المدني، متروك الحديث، لا يحتج به.
وقد روي خلاف هذا، من رواية عبد الله بن حسين بن عطاء، عن(9/207)
شريك ابن أبي نمر، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في الاستسقاء، في كل ركعة تكبيرة، وخطب قبل الصلاة، وقلب رداءه لما دعا.
خرّجه أبو القاسم البغوي.
وخرّجه الترمذي في ((كتاب العلل)) –مختصراً -، وقال: سألت البخاري عنه، فقال: هذا خطأ، وعبد الله بن حسين منكر الحديث؛ روى مالك وغيره، عن شريك، عن أنس، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى، ليس فيهِ هذا.
يشير البخاري إلى حديث الاستسقاء في الجمعة، وهذا المتن غير ذلك المتن؛ فإن هذا فيهِ ذكر صلاة الاستسقاء والخطبة لها وقلب الرداء في الدعاء، لكنه غير محفوظ عن شريك، عن أنس.
ووقت صلاة الاستسقاء وقت صلاة العيد، وقد تقدم حديث عائشة في خروج النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها حين بدا حاجب الشمس، وأنه قعد على المنبر ودعا، ثم صلى بعد ذلك.
وذكر ابن عبد البر أن الخروج لها في أول النهار عند جماعة العلماء، إلا أبا بكر بن حزم؛ فإنه قالَ: الخروج إليها عندَ زوال الشمس.
وكأنه ألحقها بالجمعة.
ولا يفوت وقتها بفوات وقت العيد، بل تصلى في جميع النهار.
قال بعض أصحابنا: إلا أنه لا تصلى في أوقات النهي بغير خلاف،(9/208)
إذ لا حاجة إلى ذلك، ووقتها متسع.
ومن أصحابنا من حكى وجهاً آخر بجواز صلاتها في وقت النهي، إذا جوزنا فعل ذوات الأسباب فيه، وهو ضعيف.
وكذا قال الشافعي في ((الأم)) ، قال: إذا لم يصل للاستسقاء قبل الزوال يصلها بعد الظهر وقبل العصر.
ومراده: أنه لا يصلى بعد العصر في وقت النهي.
ولأصحابه في ذلك وجهان.
ومن أصحابه من قال: وقتها وقت صلاة العيد.
ومنهم من قال: أول وقتها وقت العيد، ويمتد إلى أن يصلى العصر.
وهذا موافق لنص الشافعي كما تقدم.
ومنهم من قال: الصحيح أنها لا تختص بوقت، بل يجوز وتصح في كل وقت من ليل ونهار، إلا أوقات الكراهة –على أصح الوجهين -؛ لأنها لا تختص بيوم ولا تختص بوقت كصلاة الإحرام والاستخارة.
وهذا مخالف لنص الشافعي، لما علم من سنة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه في صلاة الاستسقاء؛ فإنهم كانوا يخرجون نهاراً لا ليلا، وجمع الناس لصلاة الاستسقاء ليلا مما يشق عليهم، وهو سبب لامتناع حضور أكثرهم، فلا يكون ذَلِكَ مشروعاً بالكلية.
وهذا بخلاف صلاة الإحرام والاستخارة، فإنه لا يشرع لهم الاجتماع، فلا يفوت بفعلهما ليلا شيء من مصالحهما.(9/209)
19 - باب
الاستسقاء في المُصلى(9/210)
1027 - حدثنا عبد الله بن محمد: أنا سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر: سمع عباد بن تميم، عن عمه،: خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المصلى يستسقي، واستقبل القبلة، فصلى ركعتين، وقلب رداءه.
قال سفيان: وأخبرني المسعودي، عن أبي بكر، قال: جعل اليمين على
الشمال.
الخروج لصلاة الاستسقاء إلى المصلى مجمع عليه بين العلماء، حتى وافق الشافعي عليه - مع قوله: إن الأفضل في العيد أن يصلى في الجامع إذا وسعهم.
وذلك لأن الاستسقاء يجتمع له الخلق الكثير، فهو مظنة ضيق المسجد عنهم، ويحضره النساء والرجال وأهل الذمة والبهائم والأطفال، فلا يسعهم غير الصحراء.(9/210)
20 - باب
استقبال القبلة في الاستسقاء(9/211)
1028 - حدثنا محمد - وهو ابن سلام -: نا عبد الوهاب: نا يحيى بن سعيد: أخبرني أبو بكر بن محمد، أن عباد بن تميم أخبره، أن عبد الله بن زيد الأنصاري أخبره، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى المصلى يصلي، وأنه لما دعا - أو أراد أن يدعو - استقبل
القبلة، وحول رداءه.
وقد سبق هذا المعنى في كثير من الروايات، وأنه حول ظهره في الدعاء إلى الناس واستقبل القبلة، ودعا، وسبق الكلام على معنى ذلك.
وخرج البخاري في ((الدعاء)) من ((كتابه)) هذا، من حديث عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد، قال: خرج رسول الله إلى هذا المصلى
يستسقي، فدعا واستسقى، ثم استقبل القبلة، وقلب رداءه.
وفي حديث عائشة: ثم اقبل على الناس ونزل.
وفيه: دليل على أنه يُقبل على الناس بعد ذلك وقبل نزوله.(9/211)
21 - باب
رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء(9/212)
1029 - وقال أيوب بن سليمان: حدثني أبو بكر بن أبي اويس، عن سلمان بن بلال: قال يحيى بن سعيد: سمعت أنس بن مالك، قال: أتى رجل أعرابي من أهل البدو إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله، هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس، فرفع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه [يدعو] ، ورفع الناس أيديهم مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعون. قال: فما خرجنا من المسجد حتى مطرنا، فما زلنا نمطر حتى كانت الجمعة الأخرى، فاتى الرجل إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشق المسافر، ومنع الطريق.(9/212)
1030 - وقال الأويسي: حدثني محمد بن جعفر، عن يحيى بن سعيد وشريك، سمعا أنساً، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه.
هكذا ذكر البخاري تعليقاً.(9/212)
وخرجه البيهقي من رواية أبي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الترمذي: نا أيوب بن سليمان بن بلال –فذكره، إلا أنه قال في آخره: ((لثق المسافر، ومنع الطريق)) .
كذا قرأته بخط البيهقي، وقد ضبب على لفظة ((لثق)) بخطه، ووجدتها –أيضا - ((لثق)) من رواية أبي إسماعيل الترمذي في غير كتاب البيهقي.
وأما الرواية التي في ((صحيح البخاري)) هي ((بشق)) –بالباء.
قال في ((المطالع)) : كذا قيده الاصيلي، وذكر عن بعضهم أنه قال: ((بشق)) –بكسر الباء – تأخر وحبس. وقال غيره: ملَّ. وقيل: ضعف.
وقيل: حبسَ. وقيل: هو مشتق من ((الباشق)) ، وهو طائر لا ينصرف إذا كثر المطر.
وسئل أبو محمد بن حزم الظاهري عن هذه اللفظة، فقال في جوابه: هي لفظة قد أعيتنا قديماً، وما رأيت من يعرفها. ولقد أخبرني بعض إخواننا، أنه سأل عنها جماعة ممن نظن بهم علم مثل هذا، فما وجد فيه شيئاً، وأكثر ما وجدنا في هذه اللفظة ما ذكره صاحب ((العين)) فقال: وأما ((بشق)) ، فلو أشتق هذا الفعل من اسم ((الباشق))
جاز، و ((الباشق)) طائر، وهذا كلام لا يحصل منه على كثير فائدة.
وذكر أن السائل ذكر في سؤاله أنه قد قيل: إنه ((نشق)) - بالنون -، وأن اللحياني ذكر في ((نوادره)) أن معنى ((نشق)) - بالنون -: كلَّ.(9/213)
قال ابن حزم: ولقد كان هذا حسناً، إذا صح، لو وافق الرواية، وروايتنا بالباء. انتهى ما ذكره.
والمنقول عن اللحياني في ((نوادره)) ، أنه قال: قد نشق فلان في حبالي،
ونشب، وعلق، واستورط، وارتبط، واستبرق واترنبق وانربق في معنى واحد.
وعن غيره، أنه قال: الصواب ((نشق)) –بالنون - قال: وهو مشتق من النشقة، وهي العقدة التي تكون على يد البعير من الصيد، فكأنه قال: تقيد المسافر.
وقال الخطابي في ((الأعلام)) : ((بشق)) ليس بشيء إنما هو ((لثق)) ، من
اللثوق، وهو الوحل، لثق الطريق والثوب: إذا أصابه ندى المطر، وبكى الرجل حتى لثقت لحيته، أي: اخضلت، ويحتمل أن يكون ((مشق)) ، أي: صار منزله زلقاً، ومنه مشق الخط، والميم والباء متقاربان. انتهى ما ذكره.
والمقصود من هذا الحديث في هذا الباب: أن المأمومين يرفعون أيديهم إذا رفع الإمام يده، ويدعون معه.
وممن قال: إن الناس يدعون ويستسقون من الإمام: مالك وأحمد.(9/214)
وقال أصحاب الشافعي: إن سمعوا دعاء الإمام أمنوا عليه، وإن لم يسمعوا دعوا.
وكذا قالوا في قنوت المأموم خلف الإمام.
وأما مذهب أحمد، فإن لم يسمع المأموم قنوت إمامه المشروع دعا.
وإن سمع، فهل يؤمن، أو يدعو، أو يخير بينهما، أو يتابعه في الثناء، ويؤمن على دعائه؟ حكي عنه فيهِ روايات.(9/215)
22 - باب
رفع الإمام يده في الاستسقاء(9/216)
1031 - حدثنا محمد بن بشار: نا يحيى وابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يرفع يديه في شي من دعائه إلا في
الاستسقاء، وإنه كان يرفع حتى يرى بياض إبطيه.
وقد سبق في الباب الماضي، في الرواية التي علقها عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع في دعائه يوم الجمعة بالاستسقاء حتى رئي بياض إبطيه.
ولا يوجد ذلك في كل النسخ، وقد ذكره – تعليقا – في ((كتاب الأدعية)) في آخر ((صحيحه)) .
وروى معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن بركة، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى حتى رأيت – أو رئي – بياض إبطيه 0 قال معتمر: أراه في الاستسقاء.
خرجه ابن ماجه.
وقد رواه بعضهم، فلم يذكر: ((بركة)) في إسناده.
والصواب ذكره -: قاله الدارقطنى.(9/216)
وبركة، هو: المجاشعي.
قال أبو زرعة: ثقة.
وقد تقدم حديث عائشة في الاستسقاء، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يزل يرفع حتى يرى بياض إبطيه.
وقول أنس: ((كان لا يرفع يديه إلا في الاستسقاء)) ، في معناه قولان:
أحدهما: أن أنسا اخبر عما حفظه من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد حفظ غيره عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه رفع يديه في الدعاء في غير الاستسقاء – أيضا.
وقد ذكر البخاري في ((كتاب الأدعية)) : ((باب: رفع الأيدي في الدعاء)) :
وقال أبو موسى، دعا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم رفع يديه، ورأيت بياض إبطيه.
وقال ابن عمر: رفع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه، وقال: ((اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد)) .
ثم ذكر رواية الأويسي تعليقاً، وقد ذكرناها في الباب الماضي.
والثاني: أن أنساً أراد أنه لم يرفع يديه هذا الرفع الشديد حتى يرى بياض إبطيه، إلا في الاستسقاء.
وقد خرّج الحديث مسلم، ولفظه: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لايرفع يديه في شىء من دعائه الا في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه. ومع هذا؛ فقد رأه غيره رفع يديه هذا الرفع في غير الاستسقاء – أيضا.(9/217)
وقد خرّج البخاري في ((الأدعية)) من حديث أبي موسى، قال: دعا النبي? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بماء فتوضأ، ثم رفع يديه، وقال: ((اللهم اغفر لعبيد أبي عامر)) ورأيت بياض إبطيه.
وخرّجه مسلم –أيضا.
وخرّجه مسلم من حديث شعبه، عن ثابت، عن أنس، قال: رايت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه في الدعاء، حتى يرى بياض إبطيه.
ولم يذكر في هذه الروايه الاستسقاء، لكن في روايه خرجها البيهقي: ((يعني: في الاستسقاء)) .
[0 0 0 0 0 0] في هذا الحديث: قال شعبة: فأتيت علي بن زيد، فذكرت ذلك له، فقال: إنما ذلك في الاستسقاء. قلت: أسمعته من أنس؟
قالَ: سبحان الله 0 قلت: أسمعته من أنس؟ قالَ: سبحان الله.
وخرّج الإمام أحمد من حديث سهل بن سعد، قالَ: ما رأيت النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاهرا يديه قط يدعو على منبر ولا غيره، ما كانَ يدعو إلا يضع يديه حذو منكبيه، ويشير بإصبعه إشارة.
وخرّج أبو يعلى الموصلي بإسناد ضعيف، عن أبي برزة الأسلمي، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه في الدعاء حتى رئي بياض إبطيه.
وخرّج مسلم من حديث ابن عباس، عن عمر بن الخطاب، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(9/218)
يوم بدر استقبل القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض)) ، فما زال يهتف بربه، مادا يديه، مستقبل القبلة حتى سقط رداءه عن منكبيه – وذكر الحديث.
قال الوليد بن مسلم في ((كتاب الدعاء)) : نا عبد الله بن العلاء، قال: سمعت الزهري ومكحولا يقولان: لم نحفظ عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه رفع يديه كل الرفع إلا في ثلاث مواطن: عشية عرفة، وفي الاستسقاء، والانتصار.
ولا أعلم أحدا من العلماء خالف في استحباب رفع اليدين في دعاء الاستسقاء، وإنما اختلفوا في غيره من الدعاء، كما سنذكره في موضعه – إن شاء الله سبحانه
وتعالى.
وانما اختلفوا في صفة الرفع، على حسب اختلاف الروايات عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك في الاستسقاء.
وقد روي، عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الاستسقاء في هذا خمسة أنواع:
أحدها: الإشارة بإصبع واحدة إلى السماء.
روي عامر بن خارجة بن سعد، عن أبيه، عن جده سعد، أن قوما شكوا إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قحط المطر، فقال: ((اجثوا على الركب، وقولوا: يا رب، يا رب)) ورفع السبابة إلى السماء، فسقوا حتى أحبوا أن يكشف عنهم.
خرّجه الطبراني.
وخرّجه أبو القاسم البغوي في ((معجمه)) ، وعنده: عن عامر بن خارجة، ... عن جده سعد.
وترجم عليه ((سعد أبو خارجة)) يشير إلى أنه ليس سعد بن أبي وقاص.
[.............................................................] .
كل الرفع إلا في ثلاث مواطن: عشية عرفة، وفي الاستسقاء، والانتصار.
ولا أعلم أحداً من العلماء خالف في استحباب رفع اليدين في دعاء الاستسقاء، وإنما اختلفوا في غيره من الدعاء، كما سنذكره في موضعه - إن شاء الله سبحانه
وتعالى.
وإنما اختلفوا في صفة الرفع، على حسب اختلاف الروايات عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذَلِكَ في الاستسقاء.
وقد روي، عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الاستسقاء في هذا خمسة أنواع:
أحدها: الإشارة بإصبع واحدة إلى السماء.
روى عامر بن خارجة بن سعد،؟ عن أبية، عن جده سعد، أن قوماً شكوا إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قحط المطر، فقالَ: ((اجثوا على الركب، وقولوا: يا رب، يا رب)) ورفع السبابة إلى السماء، فسقوا حتَّى أحبوا أن يكشف عنهم.(9/219)
خرجه الطبراني.
وخرجه أبو القاسم البغوي في ((معجمه)) ، وعنده: عن عامر بن خارجة، عن جده سعد.
وترجم عليهِ ((سعد أبو خارجة)) ، يشير إلى أنه ليس سعد بن أبي وقاص
[. . . . . . . . . . .. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .] .
والإشارة بالإصبع، تارة تكون في الدعاء، كما روي عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كانَ يفعله في دعائه على المنبر كما تقدم في ((كتاب الجمعة)) .
وقد تقدم قريباً حديث سهل بن سعد في ذَلِكَ.
وتاره تكون في الثناء على الله، كما الله، كما في التشهد، وكما أشار النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإصبعه بعرفة، وقال: ((اللَّهُمَّ، اشهد)) ، وكما أشار بإصبعه لما ركب راحلته، وقال: ((اللَّهُمَّ، أنت الصاحب في السفر)) .
وروي عن أبي هريرة، أنه قالَ: إذا دعا أحدكم فهكذا - ورفع إصبعه المشيرة - وهكذا - ورفع يديه جميعاً.
خرجه الوليد بن مسلم في ((كتاب الدعاء)) .
وروى عن ابن عباس، قالَ: والاستغفار: أن يشير بإصبع واحدة.
روي عنه مرفوعا وموقوفا، ذكره أبو داود.
وروى عن عائشة، قالت: إن الله يحب أن يدعا هكذا - وأشارت بالسبابة.(9/220)
وروي عنها - مرفوعا.
وعن ابن الزبير، قالَ: إنكم تدعون أفضل الدعاء، هكذا - وأشار بإصبعه.
وعن ابن سيرين، قالَ: إذا أثنيت على الله، فأشر بإصبع واحدة.
وعن ابن سمعان، قالَ: بلغنات أنه الإخلاص.
قالَ حرب: رأيت الحميدي يشير بالسبابة - يعني: في الدعاء -، ويقول: هذا الدعاء، ويقول: هذا السؤال.
وذهب طائفة من العلماء إلى أن المصلي إذا قنت لا يرفع يديه في دعاء القنوت، بل يشير بإصبعه.
ذكره الوليد بن مسلم في ((كتابه)) ، عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز ويزيد بن أبي مريم وابن حبان وإبراهيم بن ميمون.
ونقل ابن منصور، عن إسحاق بن راهويه، قالَ: إن شاء رفع يديه، وإن شاء أشار بإصبعه.
النوع الثاني: رفع اليدين وبسطهما، وجعل بطونهما إلى السماء.
وهذا هوَ المتبارد فهمه من حديث أنس في رفع النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه في دعاء الاستسقاء يوم الجمعة على المنبر.
وخرجه أبو داود من رواية محمد بن إبراهيم التيمي، قالَ: أخبراني من رأي النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو عندَ أحجار الزيت باسطا كفيه.
يعني: في الاستسقاء.(9/221)
وقد خرج أبو داود وابن ماجه، عن ابن عباس - مرفوعا -: ((إذا سألتم الله فسلوه ببطون أكفكم، ولا تسألوه بظهورها)) .
وإسناده ضعيف، وروى مرفوعا.
وروي - أيضا - عن ابن عمر وأبي هريرة وابن سيرين وغيرهم.
وروي حرب، عن الحميدي، قالَ هذا هوَ السؤال.
النوع الثالث: أن يرفع يديه، ويجعل ظهورهما إلى القبلة، وبطونهما مما يلي وجهه.
وخرج أبو داود من حديث محمد بن إبراهيم التيمي، عن عمير مولى آبي اللحم، أنه رأى النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستسقي عندَ أحجار الزيت، قائما يدعو، يستسقى، رافعا يديه قبل وجهه، لا يجاوز بهما رأسه.
وخرجه الإمام أحمد، وزاد: ((مقبلا بباطن كيفه إلى وجهه)) .
وخرجه ابن حبان - بهذه الزيادة.(9/222)
وخرجه جعفر الفريابي من وجه آخر، عن عمير، أنه رأى النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائما يدعو، رافعا كفيه قبل وجهه، لا يجاوز بهما رأسه، مقبلا ببطن كفيه إلى وجهه.
وخرج الإمام أحمد، من حديث خلاد بن السائب، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا دعا جعل باطن كفيه إلى وجهه.
وفي رواية لهُ - أيضا -: كانَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جعل باطن كفيه إليه وإذا استعاذ جعل ظاهر هما إليه.
وفي إسناده اختلاف على ابن لهعية.
وخرجه جعفر الفرابي، وعنده - في رواية لهُ -: عن خلاد بن السائب، عن أبيه، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا دعا جعل راحته إلى وجهه.
وذكر الوليد بن مسلم، عن ابن سمعان، قالَ: بلغنا أن رفع اليدين إلى المنكبين دعاء، وأن قلبهما والاستقبال ببطونهما وجه الإنسان تضرع، وأن رفعهما إلى الله جدا ابتهال.
وعن أبي عمرو، عن خصف الجزري، قالَ: رفع اليدين - يعني يكفيه -
تضرع، وهكذا - يعني: قلبهما مما يلي وجهه - رهبة.
النوع الرابع: عكس الثالث، وهو أن يجعل ظهورهما مما يلي وجه الداعي.(9/223)
قالَ الجوزجاني: نا عمرو بن عاصم: نا حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد، عن أنس، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى ودعا هكذا - يقبل ببياض كفية على القبلة، وظاهر هما إلى وجهه.
ثُمَّ قالَ: وفي هذا بيان أنه قلب كفية، وجعل ظاهر هما إلى وجهه.
وقد تقدم في حديث خلاد بن السائب هذه الصفة - أيضا.
وروى عن ابن عباس، أن هذا هوَ الابتهال.
خرجه أبو داود.
وعنه قالَ: هوَ استجارة.
وروي عن أبي هريرة، أنه الاستجارة - أيضا.
خرجه الوليد بن مسلم.
وروي عن ابن عمر، قالَ: إذا سأل أحدكم ربه، فليجعل باطن كفيه إلى
وجهه، وإذا استعاذ فليجعل ظاهرهما إلى وجهه.
خرجه جعفر الفريابي.
وروي عن عمر بن عبد العزيز، أنه كانَ يدعو إذا رفع يديه حذو منكبيه، ظهورهما مما يلي وجهه.
النوع الخامس: أن يقلب كفيه، ويجعل ظهورهما مما يلي السماء، وبطونهما مما يلي الأرض، مع مد اليدين ورفعهما إلى السماء.
خرج مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى، فأشار بظهر كفيه إلى السماء.(9/224)
وخرجه الإمام أحمد، ولفظه: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستسقي، بسط يديه، وجعل ظاهر هما مما يلي السماء.
وخرجه أبو داود، وعنده: استسقى - يعني: ومد يديه -، وجعل بطونهما مما يلي الأرض، حتَّى رأيت بياض إبطيه.
وفي رواية: وهوَ على المنبر.
خرجها البيهقي.
وخرج أبو داود من رواية عمر بن نبهان، تكلم فيهِ.
وخرج الإمام أحمد من رواية بشر بن حرب، عن أبي سعيد الخدري، قالَ: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واقفا بعرفة يدعو، هكذا، ورفع يده حيال ثندوتيه، وجعل بطون كفيه مما يلي الأرض.
وفي رواية لهُ - أيضا -: وجعل ظهر كفيه مما يل وجهه، ورفعهما فوق
ثندوتيه، وأسفل من منكبيه.
وبشر بن حرب، مختلف فيهِ.
وقد تأول بعض المتأخرين حديث أنس على أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقصد(9/225)
قلب كفيه، إنما حصل لهُ من شدة رفع يديه انحاء بطونهما إلى الأرض.
وليس الأمر كما ظنه، بل هوَ صفة مقصود لنفسه في رفع اليدين في الدعاء.
روى الوليد بن مسلم بإسناده، عن ابن سيرين، قالَ: إذا سألت الله فسل ببطن كفيك، وإذا استخرت الله، فقل هكذا - ووجه يديه إلى الأرض -، وقال: لا تبسطهما.
وروى الإمام أحمد، عن عفان، أن حماد بن سلمة وصف النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه بعرفة، ووضع عفان وكفيه مما يلي الأرض.
وقال حرب: رأيت الحميدي مد يديه، وجعل بطن كفيه إلى الأرض، وقال: هكذا الابتها.
وحماد بن سلمة والحميدي من أشد الناس تشددا في السنة، وردا على من خالفها من الجهمية والمعتزلة ونحوهم.
وقد ذهب مالك إلى رفع اليدين في الاستسقاء على هذا الوجه:
ففي ((تهذيب المدونة)) في ((كتاب الصَّلاة)) : ضعف مالك رفع اليدين عد الجمرتين، واستلام الحجر، وبعرفات، والموافق، وعند الصفا والمروة، وفي المشعر، ووالاستسقاء، وقد رئي مالك رافعا يديه في الاستقاء، حين عزم عليهم الإمام، وقد جعل بطونهما مما يلي الأرض، وقال إن كانَ الرفع فهكذا.
قالَ ابن القاسم: يريد في الاستسقاء في مواضع الدعاء.(9/226)
وكذا ذكره أصحاب الشافعي:
ففي ((شرح المهذب)) في ((الاستسقاء)) : قالَ الرافعي وغيره: قالَ العلماء: السنة لكل من الدعا لرفع بلاء أن يجعل ظهر كفيه إلى السماء، وإن دعا لطلب شيء جعل بطن كفيه إلى السماء.
وقال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا في كتابه ((الشافي)) في ((كتاب الاستسقاء)) في ((باب: القول في رفع اليدين في الدعاء وصفته)) ، ثُمَّ روى فيهِ حديث قتادة، عن أنس الذي خرجه البخاري في الدعاء وصفته)) ، ثُمَّ حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: كانَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستسقى هكذا - ومد يديه، وجعل بطونهما مما يلي الأرض حتَّى بياض إبطيه.
ولم يذكر في الرفع وصفته غير ذَلِكَ، وهذا يدل على أنه علي أنه يرى أن هذا هوَصفته رفع اليدين في الاستسقاء، أو مطلقا؛ لكن مع رفع اليدين إلى السماء والاجتهاد في رفعهما، إلا أن يرى منه بياض الابطين.(9/227)
23 - باب
ما يقول إذا أمطرت
وقال ابن عباس {كصيب} [البقرة: 19] المطر.
وقال غيره: صاب وأصاب يصوب.(9/228)
1032 - حدثنا محمد بن مقتل أبو الحسن المروزني: أنا عبد الله - هوَ: ابن المبارك -: أنا عبيد الله، عن نافع، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا رأى المطر قالَ: ((صيبا نافعا)) .
تابعه: القاسم بن يحيى، عن عبيد الله.
ورواه الأوزاعي وعقيل، عن نافع.
أما ذكر المتابعات على هذا الإسناد؛ لا ختلاف وقع فيهِ:
فإنه روي عن عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير ذكر: ((نافع)) .
والصحيح: ذكر: ((نافع)) فيهِ.
وقد رواه - أيضا - يحيى القطان وعبدة بن سليمان، عن عبيد الله كذلك -: ذكره الدارقطني في ((علله)) .
فإن كانَ ذَلِكَ محفوظا(9/228)
عنهما، فكيف لم يذكر البخاري متابعتهما لابن المبارك، وعدل عنه إلى متابعة القاسم بن يحيى؟
وأما عقيل، فرواه عن نافع، عن القاسم، عن عائشة.
وروه - أيضا - أيوب، عن القاسم، عن عائشة.
خرجه الإمام أحمد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عنه، ولفظ حديثه: ((اللَّهُمَّ صيبا هنيئا)) .
وأما الأوزاعي، فقد رواه عن نافع، عن القاسم، عن عائشة، كما ذكره البخاري، ولفظ حديثه: ((اللَّهُمَّ اجعله صيبا هنيئا)) .
وقد خرج حديثه كذلك الإمام أحمد وابن ماجه.
وفي رواية ابن ماجه: أن الأوزاعي قالَ: ((أخبرني نافع)) ، كذا خرجه من طريق عبد الحميد بن أبي العشرين، عنه.
وقد روي التصريح بالتحديث فيهِ عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي - أيضا.
ورواه إسماعيل بن سماعة، عن الأوزاعي، عن رجل، عن نافع، عن القاسم، عن عائشة.
وقال البابلتي: عن الأوزاعي، عن محمد بن الوليد(9/229)
الزبيدي، عن نافع، عن القاسم، عن عائشة.
وقال عقبة بن علقمة: عن الأوزاعي، عن الزهري، عن نافع عن القاسم، عائشة.
قالَ الدارقطني: وهو غير محفوظ.
وقال عيسى بن يونس وعباد بن جويرية: عن الأوزاعي، عن الزهري عن القاسم، عن عائشة - من غير ذكر: ((نافع)) .
وكذا روي عن ابن المبارك، عن الأوزاعي.
قالَ الدارقطني: فإن كانَ ذَلِكَ محفوظا عن الأوزاعي، فهوَ غريب عن الزهري.
وخرجه البيهقي من رواية الوليد بن مسلم: نا الأوزاعي: حدثني نافع ثُمَّ قالَ: كانَ ابن معين يزعم أن الأوزاعي لم يسمع من نافع شيئا.
ثُمَّ خرجه من طريق الوليد مزيد: نا الأوزاعي: حدثني رجل، عن نافع - فذكره.
قالَ: وهذا يشهد لقول ابن معين.
قلت: وقد سبق الكلام على رواية الأوزاعي عن نافع في ((باب: حمل العنزة بين يدي الإمام يوم العيد)) ؛ فإن البخاري خرج حديثا للأوزاعي عن نافع مصرحا فيهِ بالسماع.(9/230)
وقد روي هذا الحديث عن عائشة من وجه آخر.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود ووالنسائي وابن ماجه من حديث المقدم بن شريح، عن أبيه، عن عائشة، أن النَّبيّ، كانَ إذا أمطر قالَ: ((اللَّهُمَّ صيبا هنيئا)) - لفظ أبي دواد.
ولفظ النسائي: ((اللَّهُمَّ اجعله سيبا نافعا)) .
ولفظ ابن ماجه: ((اللَّهُمَّ، سيبا نافعا)) - مرتين أو ثلاثا.
وفي رواية لابن أبي الدنيا في ((كتاب المطر)) : ((اللَّهُمَّ سقيا نافعا)) .
وخرج مسلم من طريق جعفر بن محمد، عن عطاء، عن عائشة، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يقول إذا رأى المطر: ((رحمة)) .
وقد أشار البخاري إلى تفسير قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صيبا هنيئا)) ، فذكر عن ابن عباس، أن الصيب هوَ المطر.
وقد خرجه ابن أبي الدنيا في كتاب ((كتاب المطر)) من رواية هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس.
وقال غيره: هوَ المطر الشديد.
وقد ذكر البخاري عن بعضهم، أن الفعل الماضي منه: ((صاب وأصاب)) ، والمضارع منه: ((يصوب)) .
وهذا عجيب؛ فإن ((أصاب)) إنما تقال(9/231)
في ماضي ((يصيب)) ، من الإصابة التي هي ضد الخطإ.
وأما ((صاب يصوب)) ، فنعمناه: نزل من علو إلى سفل.
وأما رواية من روى ((سيبا)) بالسين، فيجوز أن تكون السين مبدلة من
الصاد.
وقيل: بل هوَ بسكون الياء، معناه: العطاء.
وروي عن محمد بن أسلم الطوسي، أنه رجح هذه الرواية؛ لأن العطاء يعم المطر وغيره من أنواع الخير والرحمة وفي هذه الأحاديث كلها: الدعاء ببأن يكون النازل من السماء نافعا، وذلك سقيا الرحمة، دون العذاب.
وروي ابن أبي الدنيا بإسناده، عن عبد الملك بن جابر بن عتيك، أن رجلا من الأنصار كانَ قاعداً عندَ عمر في مطر، فأكثر الأنصار الدعاء بالاستسقاء، فضربه عمر بالدرة، وقال: ما يدريك يكون في السقيا ألا تقول: سقيا وادعة، نافعة، تسع الأموال والأنفس.(9/232)
24 - باب
من تمطر [في المطر] حتَّى يتحار على لحيته
خرج فيهِ:(9/233)
1033 - حديث: الأوزاعي: نا إسحاق بن عبد الله: نا أنس، قالَ: أصاب الناس سنة على النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فذكر الحديث، وقد تقدم في ((كتاب الجمعة)) بتمامه، وفيه:
ثُمَّ لم ينزل - يعني: النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن منبره حتَّى رأيت المطر يتحادر على لحيته.
خرجه من طريق ابن المبارك، عن الأوزاعي.
وفي الاستدال بهذا الحديث على التمطر نظر؛ فإن معنى التمطر: أن يقصد المستسقي أو غيره الوقوف في المطر يصيبه، ولم يعلم أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصد الوقوف في ذَلِكَ اليوم على منبره حتَّى يصيبه المطر، فلعله إنما وقف لإتما الخطبة خاصة.
وفي الاستمطار أحاديث أخر، ليست على شرط البخاري:
فخرج مسلم، من رواية جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس، قالَ - قالَ أنس -: أصابنا ونحن مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مطر، فحسر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(9/233)
ثوبه، حتَّى أصابه من المطر، فقلنا: يارسول الله، لم صنعت هذا؟ قالَ ((لأنه حديث عهد بربه)) .
وخرج ابن أبي االدنيا، من رواية الربيع بن صبيح، عن زيد الرقاشي، عن أنس، قالَ: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلقي ثيابه أول مطره، ويتمطر.
والرقاشي، ضعف جدا.
وروى بإسناده، عن جابر الجعفي، عن عبد الله بن نجي، قالَ: كانَ علي - رضي الله عنه - إذا مطرت السماء خرج فإذا أصاب صلعته الماء مسح رأسه ووجهه وجسده، وقال: ((بركة نزلت من السماء لم تمسها يد ولا سقاء)) .
وبإسناده، عن عبد الله بن مؤمل، عن ابن أبي مليكة، قالَ: كانَ ابن عباس يتمطر، يقول: يا عكرمة، أخرج الرحل، أخرج كذا، أخرج كذا، حتَّى يصيبه
المطر.
وبإسناده، عن وكيع، عن أم غراب، عن نباتةة، قالَ: كانَ عثمان بن عفان يتمطر.
وبإسناده، عن أبي الأشعر، قالَ: رأيت أبا حكيم إذا كانت أول مطر(9/234)
تجرد، ويقول: إن عليا كانَ يفعله، ويقول، أنه حديث عهد بالعرش.
وهذا يدل على أن عليا كانَ يرى أن المطر ينزل من البحر الذي تحت العرش.
وحديث العباس بن عبد المطلب، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذكر السحاب والمزن
والعنان، وبعد ما بين السماء والأرض، وبعد ما بين السموات بعضهما من بعض، وأن فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله، مثل ما بين سماء إلى سماء - شهد ذَلِكَ.
وقد خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم.
وقال: صحيح الإسناد.
وقال الترمذي: حسن غريب.
وكذلك قاله عكرمة وخالد بن معدان وغيرهما من السلف: أالمطر ينزل من تحت العرش.
وروي عن ابن عباس من وجوه ما يدل عليهِ.
وأما من قالَ: أن المطر كله من ماء البحر؛ فإنه ما لا علم لهُ به.
فإن استدل بإنه يشاهد اغتراف السحاب من البحر، فقد حكم حكما كليا بنظر جزئي، ومن أين لهُ أن كل السحاب كذلك؟
وقد خرج ابن أبي الدنيا بإسناده، عن خالد بن يزيد: منه من(9/235)
السماء، فلا ما يستقيه الغيم من البحر، فيعذبه الرعد والبرق، فإما ما يكون من البحر، فلا يكون لهُ نبات، وأما النبات فما كانَ من ماء السماء، وقال إن شئت أعذبت ماء البحر، فأمر بقلال من ماء، ثُمَّ وصف كيف يصنع حتَّى تعذب.
ونص الشافعي وأصحابنا على استحباب التمطر في أول مطرة تنزل من السماء في السنة.
وحديث أنس الذي خرجه البخاري إنما يدل على التمطر بالمطر النازل
بالاستسقاء، وإن لم يكن أول مطرة في تلك السنة.(9/236)
25 - باب
إذا هبت الريح(9/237)
1034 - حديثا سعيد بن أبي مريم: أنا محمد بن جعفر: أخبرني حميد، أنه سمع أنس بن مالك يقول: كانت الريح الشديدة إذا هبت عرف ذَلِكَ في وجه النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
إنما كانَ يظهر في وجه النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخوف من اشتداد الريح؛ لأنه كانَ يخشى أن تكون عذابا أرسل إلى أمته.
وكان شدة الخوف النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أمته شفقة عليهم، كما وصفة الله سبحانه وتعالى بذلك في قوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: من الآية128] .
ولما تلا عليهِ ابن مسعود: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] بكى.
ولما تلا قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الآية [المائدة: من الآية118] بكى، وقال: ((اللَّهُمَّ، أمتي، أمتي)) ، فأرسل الله جبريل يقول لهُ: ((إن الله يقول: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك)) .
وكان يقول: ((شيبتني هود وأخواتها)) .
وجاء في رواية مرسلة: ((قصفن علي الأمم)) .
يشير إلى أن شيبه منها(9/237)
ما ذكر من هلاك الأمم قبل أمته وعذابهم.
وكان عندَ لقاء العدو يخاف على من معه من المؤمنين، ويستغفر لهم، كما فعل يوم بدر، وبات تلك الليلة يصلي ويبكي ويستغفر لهم، ويقول: ((اللَّهُمَّ، إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)) .
وكل هذا من خوفه وشفقته من اشتداد الريح:
وقد جاء في رويات متعددة: التصريح بسبب خوفه من اشتداد الريح:
ففي ((الصحيحين)) من حديث سليمان بن يسار، عن عائشة، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذَلِكَ في وجهه، فقلت: يارسول الله: أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا؛ رجاء أن يكون فيهِ المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك
الكراهية؟ فقالَ: ((يا عائشة، يؤمني أن يكون فيهِ عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد العذاب، فقالوا {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الاحقاف: من الآية24] )) .
وخرجا - أيضا - من رواية ابن جريح، عن عطاء، عن عائشة، قالت كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رأى مخيلة في السماء أقبل وأدبر، ودخل وخرج، وتغير وجهه، فإذا أمطرت السماء سري عنه، فعرفته عائشة ذَلِكَ، فقالَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وما أدري لعله كما قالَ قوم: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} [الاحقاف: من الآية24] الآية)) .(9/238)
وزاد مسلم - في أوله -: كانَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا عصفت الريح قالَ: ((اللَّهُمَّ، أني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به)) .
وخرجه النسائي، ولفظه: ((كانَ إذا رأى ريحا)) بدل: ((مخيلة)) .
وخرج مسلم - أيضا - من حديث جعفر بن محمد، عن عطاء، عن عائشة، قالت: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كانَ يوم الريح والغيم عرف ذَلِكَ في وجهه، فأقبل
وأدبر، فإذا مطر سر به، وذهبت عنه ذَلِكَ. قالت عائشة: فسألته، فقالَ: ((إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي)) .
وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا رأى سحابا مقبلا من أفق من الآفاق ترك ما هوَ فيهِ، وإن كانَ صلاته، حتَّى يستقبله، فيقول: ((اللَّهُمَّ، إنا نعوذ بك من شر ما أرسل)) ، فإن أمطر قالَ: ((اللَّهُمَّ سقيا نافعا)) - مرتين أو ثلاثا -، فإن كشفه الله ولم يمطر حمد الله على ذَلِكَ.
ولفظه لابن ماجه.
وخرجه أبو داود، ولفظه: كانَ إذا رأى ناشئا في أفق السماء ترك العمل، وإن كانَ في الصَّلاة، ثُمَّ يقول: ((اللَّهُمَّ، أني أعوذ بك من شرها)) .
وخرجه أبو داود، ولفظه: كانَ إذا رأى ناشئا في أفق السماء ترك العمل، وإن كانَ في صلاة، ثُمَّ يقول: ((اللَّهُمَّ، إني أعوذ بك من شرها)) .(9/239)
وخرجه ابن السني، ولفظه: كانَ إذا رأى في السماء ناشئا، غبارا أو ريحا، استقبله من حيث كانَ، [وإن كانَ في الصَّلاة] تعوذ بالله من شره.
وكذا خرجه ابن أبي الدينا.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي في ((اليوم والليلة)) وابن ماجه وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث أبيه هريرة، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقالوا: اللَّهُمَّ، إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيهِا، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك منشر هذه الريح، وشر ما فيها وشر ما أمرت به)) .
وقال: حسن صحيح.
وخرجه النسائي في ((اليوم والليلة)) مرفوعا وموقوفا علي أبي كعب - رضي الله عنه -.
وفي الباب: أحاديث أخر متعددة.(9/240)
وروي عن ابن مسعود، قالَ: لا تسبوا الريح؛ فإنها بشر ونذر ولواقح، ولكن استعيذوا بالله من شر ما أرسلت به.
وعن ابن عباس، قالَ: لا تسبوا الريح؛ فإنها تجئ بالرحمة، وتجئ بالعذاب، وقولوا: اللَّهُمَّ، اجعلها رحمة، ولا تجعلها عذابا.
خرجهما ابن أبي الدنيا.
وخرج - أيضا - بلإسناده، عن علي، أنه كانَ إذا هبت الريح قالَ: اللَّهُمَّ، إن كنت أرسلتها رحمة فارحمني فيمن ترحم، وإن كنت أرسلتها عذابا فعافني فيمن تعافي.
وبإسناده، عن ابن عمر، أنه كانَ يقول إذا عصفت الريح: شدوا التكبير؛ منتقع اللون، فقالَ: مالك يا أمير المؤمنين؟ قالَ: ويحك، وهل هلكت أمة إلا بالريح؟(9/241)
26 - باب
قول النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور))(9/242)
1035 حدثنا مسلم: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس،
أن النَّبيّ صلى الله عليهِ وسلم قالَ: ((نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور))
وخرجه مسلم من طريق شعبة - أيضا 0ومن طريق الأعمش، عن مسعود بن مالك،
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس 0 عن النَّبيّ صلى الله عليةوسلم الأحد بمثله 0
وهذا مما يدل على أن الريح تأتي تارة بالرحمة، وتارة بالعذاب 0
وخرج الحاكم من حديث جابر، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كانَ يدعو: ((اللَّهُمَّ، أعوذ بك من شر الريح، ومن شر ما تجيء به الريح، ومن ريح الشمال؛ فإنها الريح العقيم)) .
ومن حديث سلمة بن الأكوع رفعه - إن شاء الله -، أنه كان إذا اشتدت
الريح تقول: " اللهم، لقحا لا عقيما ".(9/242)
وروينا عن شريح، قال: ما هاجت ريح قط إلا لسقم صحيح أو برء سقيم.
وفي " صحيح مسلم "، أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] كان في سفر، فهبت ريح شديدة،
فقال النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : " هذه الريح لموت منافق
عظيم النفاق "، فوجدوا قد مات في
ذلك اليوم عظيم من المنافقين. وهو رفاعة بن التابوت.(9/243)
27 - باب ما قيل في الزلازل والآيات
فيه حديثان:
الأول:(9/244)
1036 - نا أبو اليمان: أنا شعيب: أنا
أبو الزناد، عن عبد الرحمن، عن
أبي هريرة، قال: قال النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : " لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر
الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج - وهو القتل القتل -،
[حتى يكثر فيكم المال فيفيض] ".
هذا قطعة من حديث طويل، قد خرجه بتمامه في " كتاب الفتن ".
وقبض العلم، قد سبق الكلام عليه بما فيه
كفاية.
وتقارب الزمان، فسر بقصر الأعمار، وفسر بقصر الأيام في زمن الدجال.
وقد روي في ذلك أحاديث
متعددة، الله أعلم بصحتها.
وأما كثرة الزلازل، فهو مقصود البخاري في هذا الباب من الحديث.
والظاهر: أنه
حمله على الزلازل المحسوسة، وهي ارتجاف الأرض
وتحركها.
ويمكن حمله على الزلازل المعنوية، وهي كثرة
الفتن المزعجة الموجبة
لارتجاف القلوب.
والأول أظهر؛ لأن هذا يغني عنه ذكر ظهور الفتن.(9/244)
وكأن البخاري
ذكر هذا الباب استطرادا لذكر الرياح واشتدادها، فذكر بعده
الآيات والزلازل.
وقيل: إنه أشار إلى أن الزلازل لا يصلى لها؛ فإن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ذكر ظهورها
وكثرتها، ولم
يأمر بالصلاة لها، كما أمر به في كسوف الشمس والقمر، وكما
أنه لم يكن يصلي للرياح إذا اشتدت، فكذلك الزلازل
ونحوها من الآيات.
وقد اختلف العلماء في الصلاة للآيات:
فقالت طائفة: لا يصلى لشيء منها سوى كسوف
الشمس والقمر، وهو قول
مالك والشافعي.
وقد زلزلت المدينة في عهد عمر بن الخطاب، ولم ينقل أنه صلى لها
، هو
ولا أحد من الصحابة.
وروى عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، قالت:
زلزلت
الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السرر، وابن عمر يصلي، فلم يدر
بها، ولم يوافق أحدا يصلي فدرى بها،
فخطب عمر الناس، فقال: أحدثتم،
لقد عجلتم. قالت: ولا أعلمه إلا قال: لئن عادت لأخرجن من بين
ظهرانيكم.
خرجه البيهقي.
وخرجه حرب الكرماني، من رواية أيوب، عن نافع - مختصرا.
وروي أيضا من
رواية ليث، عن شهر، قال: زلزلت المدينة على(9/245)
عهد
النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، فقال النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : " إن الله يستعتبكم فاعتبوه ".
وهذا مرسل ضعيف.
وقالت طائفة، يصلى لجميع الآيات في البيوت فرادى، وهو قول سفيان
وأبي حنيفة وأصحابه.
وكذلك إسماعيل بن سعيد الشالنجي، عن أحمد، قال: صلاة الآيات
وصلاة الكسوف
واحد.
كذا نقله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتابه " الشافي " من طريق
الجوزجاني، عن الشالنجي، عن
أحمد.
ونقله - أيضا - من طريق الفضل بن زياد وحبيش بن مبشر، عن أحمد -
أيضا.
والذي نقله
الجوزجاني في كتابه " المترجم "، عن إسماعيل بن سعيد،
قال: سألت أحمد عن صلاة كسوف الشمس والقمر
والزلازل؟ قال: تصلى
جماعة، ثمان ركعات وأربع سجدات، وكذلك الزلزلة.
قال: وبذلك قال أبو أيوب -
يعني: سليمان بن داود الهاشمي - وأبو خيثمة.
وقال: ابن أبي شيبة يرى فيها الخطبة وجماعة.
وقد نقل أبو
بكر في " الشافي " هذا - أيضا - من طريق الجوزجاني.
وخرج الجوزجاني من حديث عبد الله بن الحارث بن
نوفل، قال:(9/246)
صلى
بنا ابن عباس في زلزلة كانت، فصلى بنا ست ركعات في ركعتين، فلما انصرف
التفت إلينا
وقال: هذه صلاة الآيات.
فالمنصوص عن أحمد إنما يدل على الصلاة للزلزلة خاصة، وهو الذي عليه
عامة
أصحابنا، وخصوه بالزلزلة الدائمة التي يتمكن من الصلاة لها مع وجودها.
وروي عن ابن عباس، أنه صلى
للزلزلة بعد سكونها وانقضائها.
وحكى بعض أصحاب الشافعي قولا له: أنه يصلى للزلزلة.
ومنهم من حكاه في جميع الآيات.
وحكى ابن عبد
البر، عن أحمد وإسحاق وأبي ثور: الصلاة للزلزلة
والطامة والريح الشديدة.
وهذا يدل على استحبابها لكل آية،
كالظلمة في النهار، والضياء المشبه
للنهار بالليل، سواء كان في السماء أو انتثار الكواكب، وغير ذلك.
وهو
اختيار ابن أبي موسى من أصحابنا، وظاهر كلام أبي بكر عبد العزيز في
" الشافي " - أيضا.
وممن روي عنه،
أنه يصلي في الآيات: ابن عباس.
وفي " المسند " و" سنن أبي داود "، عنه، أنه سجد لموت بعض أزواج
النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، وقال: سمعت النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] يقول: " إذا رأيتم آية فاسجدوا ".(9/247)
وروي عن عائشة، قالت: صلاة الآيات
ست ركعات وأربع سجدات.
وروي عنها - مرفوعا.
خرجه الجوزجاني من طريق حماد بن سلمة، عن قتادة،
عن عطاء، عن
عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت: كان رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] يقوم في صلاة
الآيات، فيركع ثلاث
ركعات، ويسجد سجدتين، ثم يقوم فيركع ثلاث ركعات،
ثم يسجد سجدتين.
واستدل به على الصلاة للزلزلة.
ولكن رواه وكيع، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، فوقفه على عائشة،
وهو
الصواب.
وخرج ابن أبي الدنيا في " كتاب المطر "، من رواية مكحول، عن أبي صخر
زياد بن صخر، عن
أبي الدرداء، قال: كان النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] إذا كانت ليلة ريح كان
مفزعه إلى المسجد، حتى تسكن الريح، وإذا حدث في
السماء حدث من كسوف
شمس أو قمر كان مفزعه إلى الصلاة، حتى ينجلي.
وهو منقطع، وفي إسناده: نعيم بن
حماد، وله مناكير.
وخرج أبو داود من رواية عبيد الله بن النضر، قال: أخبرني أبي،
قال:(9/248)
كانت ظلمة على
عهد أنس بن مالك. قال: أتيت أنس بن مالك، فقلت
يا أبا حمزة: هل كان يصيبكم هذا على عهد النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ؟ فقال
: معاذ الله، إن
كانت الريح تشتد فنبادر المسجد مخافة القيامة.
وبوب عليه: " باب: الصلاة عند الظلمة ".
وهو دليل على الصلاة عند اشتداد الريح - أيضا.
وأبو داود، من أجل أصحاب الإمام أحمد.
ثم بوب على
السجود عند الآيات، وذكر فيه حديث ابن عباس المتقدم.
وظاهره: يدل على أن الآيات يسجد عندها سجودا مفردا
، كسجود الشكر
من غير صلاة.
وذكر الشافعي، أنه بلغه عن عباد، عن عاصم الأحول، عن قزعة، عن
علي، أنه صلى في زلزلة ست ركعات في أربع سجدات: خمس ركعات
وسجدتين في ركعة، [وركعة] وسجدتين
في ركعة.
قال الشافعي: ولو ثبت هذا الحديث عندنا لقلنا به.
قال البيهقي: هو ثابت عن ابن عباس.
ثم ذكر بنحو ما
تقدم.
وله طرق صحيحة، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس.
وروى حرب: نا إسحاق، نا جرير،
عن الأعمش، عن إبراهيم، عن
علقمة، قال: إذا فزعتم من أفق من آفاق السماء فافزعوا إلى الصلاة.(9/249)
وخرجه
البيهقي من رواية حبيب بن حسان، عن الشعبي، عن علقمة،
قال: قال عبد الله: إذا سمعتم هادا من السماء،
فافزعوا إلى الصلاة.
وخرجه ابن عدي من رواية حبيب بن حسان، عن إبراهيم والشعبي،
عن علقمة، عن عبد
الله، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، قال: " إذا فزعتم من أفق من آفاق
السماء، فافزعوا إلى الصلاة ".
وقال: حبيب بن حسان
، قد اتهم في دينه، ولا بأس برواياته.
قلت: الصحيح: رواية الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة - من قوله.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
وروى حرب بإسناده، عن أبي الجبر، قال: أظلمت يوما نهارا، حتى
رأينا الكواكب
، فقام تميم بن حذلم، فصلى، فأتاه هني بن نويرة، فسأله ما
صنع؟ فأمره أن يرجع إلى بيته فيصلي.
واعلم؛ أن الشغل بالصلاة في البيوت فرادى عند الآيات أكثر الناس
على
استحبابه، وقد نص عليه الشافعي وأصحابه.
كما يشرع الدعاء والتضرع عند ذلك؛ لئلا يكون عند ذلك
غافلا.
وإنما محل الاختلاف: هل تصلى جماعة، أم لا؟ وهل تصلى ركعة
بركوعين كصلاة الكسوف، أم لا؟
وظاهر كلام مالك وأكثر أصحابنا:(9/250)
أنه لا تسن الصلاة للآيات جماعة ولا
فرادى.
وفي " تهذيب المدونة ":
أنكر مالك السجود للزلزلة.
ولا وجه لكراهة ذلك، إلا إذا نوى به الصلاة لأجل تلك الآية الحادثة دون
ما إذا نوى
به التطوع المطلق.
وقد روي عن طائفة من علماء أهل الشام، أنهم كانوا يأمرون عند الزلزلة
بالتوبة والاستغفار
، ويجتمعون لذلك، وربما وعظهم بعض علمائهم وأمرهم
ونهاهم، واستحسن ذلك الإمام.
وروي عن عمر بن عبد
العزيز، أنه كتب إلى أهل الأمصار: إن هذه الرجفة
شيء يعاتب الله به العباد، وقد كنت كتبت إلى أهل بلد كذا وكذا
أن يخرجوا يوم
كذا وكذا، فمن استطاع أن يتصدق فليفعل؛ فإن الله يقول: (قد أفلح من
تزكى) [الأعلى: 14] ، وقولوا كما قال أبوكم آدم: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) [الأعراف: 23] ، وقولوا كما قال نوح: (وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) [هود، 47] ،
وقولوا كما قال موسى:
(رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي) [القصص: 16] ، وقولوا كما قال ذو النون:
(لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) [الأنبياء: 87] .
وقال أبو بكر الخلال في " كتاب العلل "
: نا أبو بكر المروذي، قال:
سمعت أبا عبد الله - يعني: أحمد - يقول: سألني إنسان عن الرجفة، فكتبت
له هذا
الحديث - وقال: ما أحسنه -: أنا أبو المغيرة، قال: أصاب(9/251)
الناس
رجفة بحمص، سنة أربع وتسعين، ففزع
الناس إلى المسجد، فلما صلى أيفع
بن عبد الكلاعي صلاة الغداة، قام في الناس، فأمرهم بتقوى الله، وحذرهم
وأنذرهم، ونزع القوارع من القرآن، وذكر الذين أهلكوا بالرجفة قبلنا، ثم
قال: والله، ما أصابت قوما قط قبلكم إلا
أصبحوا في دارهم جاثمين،
فاحمدوا الله الذي عافاكم ودفع عنكم، ولم يهلكم بما أهلك به الظالمين قبلكم،
وكان أكثر
دعائه: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحانه الله،
ولا حول ولا قوة إلا بالله، واستغفروا الله، ويقول:
يا أيها الناس، عليكم
بهؤلاء الكلمات؛ فإنهن القرآن، وهي الباقيات الصالحات.
ثم إن أيفع قال لأبي ضمرة
القاضي: قم في الناس، فقام فصنع كما صنع،
أيفع، فلما قضى موعظته انصرف، ثم صنع ذلك دبر الصلوات
ثلاثة أيام،
فاستحسن ذلك المسلمون.
ومما يتعلق بالزلزلة: هل يجوز الخروج منها والهرب إلى الصحراء؟
قال الأوزاعي: لا بأس به؛ كل يعلم أنه ليس يسبق قدر الله من فر ومن
جلس، قال: والجلوس أحب إلي.
خرجه حرب، من رواية الوليد بن مسلم، عنه.
قال حرب: وسألت إسحاق بن راهويه، عن الرجل يكون في
بيته،
فتصيبه الزلزلة: هل يقوم فيخرج من البيت؟ قال: إن فعل فهو أحسن.
وقد صنف في هذه المسألة أبو
القاسم ابن عساكر الحافظ الدمشقي مصنفا،
ولم يذكر في ذلك أثرا عمن تقدم من العلماء، لكنه حكى عن(9/252)
بعض من في
زمانه، أنه استحب الفرار منها.
واستدل بحديث مرور النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] بحائط مائل، فأسرع، وقال: " أكره موت
الفوات ".
وهذا حديث مرسل،
خرجه أبو داود في " مراسيله ".
وقد روي مسندا، ولا يصح.
ورد أبو القاسم على هذا القائل قوله، وألحق
الفرار منها بالفرار من
الطاعون.
وفي ذلك نظر؛ لأن الفرار من الطاعون لا يتيقن به النجاة، بل الغالب فيه
عدم النجاة، وأما الخروج من المساكن التي يخشى وقوعها بالرجفة فيغلب على
الظن منه السلامة، فهو كالهرب من
النار والسيل ونحوهما.
والحديث المرسل الذي ذكرناه يشهد له. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وإنما جاء النهي عن
الخروج من الرجفة إلى الدجال، إذا حاصر المدينة،
فترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل منافق ومنافقة.
الحديث الثاني:(9/253)
1037 - نا محمد بن المثنى: نا حسين بن الحسن: نا ابن عون، عن(9/253)
نافع،
عن ابن عمر
، قال: اللهم، بارك لنا في شامنا وفي يمننا، قالوا: وفي نجدنا. قال:
اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا. وقالوا:
وفي نجدنا. قال: هناك الزلازل والفتن،
وبها يطلع قرن الشيطان.
هكذا خرجه البخاري هاهنا موقوفا.
وحسين بن الحسن بصري، من آل مالك بن يسار، أثنى عليه الإمام أحمد،
وقال: كان يحفظ عن ابن عون.
وخرجه البخاري في " الفتن " من رواية أزهر السمان - مرفوعا.
وكذا رواه
عبد الرحمن بن عطاء، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعا -
أيضا.
خرج حديثه الإمام أحمد.
وكذا رواه أبو
فروة الرهاوي يزيد بن سنان - على ضعفه -: نا أبو رزين،
عن أبي عبيد - صاحب سليمان -، عن نافع، عن
ابن عمر - مرفوعا.
وقد روي - أيضا - عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن النبي
[- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] .
ذكره
الترمذي في آخر " كتابه " - تعليقا.
ورواه - أيضا - بشر بن حرب، عن ابن عمر، عن النبي(9/254)
[- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] .
خرجه
الإمام أحمد - أيضا.
والاستدلال بهذا الحديث على أن لا صلاة للزلزلة بعيد، والاستدلال
بالحديث الذي قبله -
أيضا -؛ لأن هذا إنما سيق لذم نجد وما يحدث فيه، كما
أن الذي قبله سيق لذم آخر الزمان، وما يحدث فيه، دون
أحكام ما ذكر من
قبض العلم وتقارب الزمان وكثرة الهرج.
وأحكام هذه الحوادث مذكورة في مواضع أخر.
فلا يدل السكوت
عنه هاهنا على شيء من أحكامها بنفي ولا إثبات، فكذلك
يقال في أحكام الزلازل. والله أعلم.(9/255)
28 - باب قول الله عز وجل: (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) [الواقعة: 82]
قال ابن عباس: شكركم
قال آدم بن أبي إياس في " تفسيره ": نا هشيم، عن جعفر بن إياس، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس،
في قوله: (وتجعلون رزقكم) أي: شكركم
) أنكم تكذبون (قال: هو قولهم: مطرنا بنوء كذا وكذا.
قال ابن عباس: وما مطر قوم إلا أصبح بعضهم به كافرا، يقولون: مطرنا
بنوء كذا وكذا.
ثم خرج في سبب
نزولها من رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن
عباس.
وقد خرجه مسلم في " صحيحه " من رواية عكرمة بن
عمار: حدثني
أبو زميل: حدثني ابن عباس، قال: مطر الناس على عهد رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ،
فقال رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : "
أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة
وضعها الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا "،
فنزلت هذه الآية (فلا أقسم بمواقع النجوم) - حتى بلغ (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) . وروى عبد الأعلى الثعلبي، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن(9/256)
علي، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) قال
: " شكركم، تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، ونجم كذا وكذا ".
خرجه الإمام أحمد والترمذي.
وقال: حسن غريب، لا نعرفه - مرفوعا - إلا من حديث إسرائيل، عن
عبد الأعلى. ورواه سفيان عن عبد الأعلى - نحوه -، ولم يرفعه.
ثم خرجه من طريق سفيان - موقوفا على علي.
وكان سفيان ينكر على من رفعه.
وعبد الأعلى هذا، ضعفه الأكثرون. ووثقه ابن معين.(9/257)
وخرج القاضي إسماعيل في كتابه " أحكام
القرآن " كلام ابن عباس بالإسناد
المتقدم، عن سعيد بن جبير، أن ابن عباس كان يقرؤها: (وتجعلون
شكركم) ، تقولون: على ما أنزلت من الغيث والرحمة، تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا. قال: فكان ذلك كفرا منهم لما أنعم الله عليهم.
قال البخاري - رحمه الله -:(9/258)
1038 - نا إسماعيل: حدثني مالك، عن صالح بن كيسان، عن عبيد الله بن
عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن زيد بن خالد الجهني، أنه قال: صلى لنا
رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] صلاة الصبح بالحديبية
على إثر سماء كانت من الليل، فلما
انصرف النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] أقبل على الناس، فقال: " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ "
قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال:
مطرنا بفضل الله ورحمته،
فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء
كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ".
قوله: " على
إثر سماء "، أي: مطر كان من الليل.
والعرب تسمي المطر سماء؛ لنزوله من السماء، كما قال بعضهم:
إذا نزل السماء بأرض قوم
رعيناه،
وإن كانوا غضابا(9/258)
وقوله: " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " - وفي بعض الروايات:
" الليلة "، وهي تدل على
أن الله تعالى يتكلم بمشيئته واختياره.
كما قال الإمام أحمد: لم يزل الله متكلما إذا شاء.
وقوله: " أصبح من
عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله
ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: بنوء كذا
وكذا، فذلك
كافر بي مؤمن بالكوكب ".
يعني: أن من أضاف نعمة الغيث وإنزاله إلى الأرض إلى الله عز وجل
وفضله ورحمته، فهو مؤمن بالله حقا، ومن أضافه إلى الأنواء، كما كانت
الجاهلية تعتاده، فهو كافر بالله، مؤمن
بالكوكب.
قال ابن عبد البر: النوء في كلام العرب: واحد أنواء النجوم، وبعضهم
يجعله الطالع، وأكثرهم
يجعله الساقط، وقد تسمى منازل القمر كلها أنواء،
وهي ثمانية وعشرون.
وقال الخطابي، النوء واحد الأنواء،
وهي الكواكب الثمانية والعشرون
التي هي منازل القمر، كانوا يزعمون أن القمر إذا نزل ببعض تلك الكواكب مطروا
،
فجعل النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] سقوط المطر من فعل الله دون غيره، وأبطل قولهم. انتهى.
وقال غيره: هذه الثمانية
وعشرون منزلا تطلع كل ثلاثة عشر يوما(9/259)
منزل
صلاة الغداة بالمشرق، فإذا طلع رقيبه من المغرب؛ فسميت أنواء
لهذا المعنى.
وهو من الأضداد، يقال: ناء إذا طلع، وناء إذا غرب، وناء فلان إذا
قرب، وناء إذا بعد.
وقد أجرى الله
العادة بمجيء المطر عند طلوع كل منزل منها، كما أجرى
العادة بمجيء الحر في الصيف، والبرد في الشتاء.
فإضافة نزول الغيث إلى الأنواء، إن اعتقد أن الأنواء هي الفاعلة لذلك،
المدبرة له دون الله عز وجل، فقد كفر بالله
، وأشرك به كفرا ينقله عن ملة
الإسلام، ويصير بذلك مرتدا، حكمه حكم المرتدين عن الإسلام، إن كان قبل
ذلك
مسلما.
وإن لم يعتقد ذلك، فظاهر الحديث يدل على أنه كفر نعمة الله.
وقد سبق عن ابن عباس، أنه جعله كفرا
بنعمة الله عز وجل.
وقد ذكرنا في " كتاب: الإيمان " أن الكفر كفران: كفر ينقل عن الملة،
وكفر دون ذلك، لا
ينقل عن الملة، وقد بوب البخاري عليه هنالك.
فإضافة النعم إلى غير المنعم بها بالقول كفر للمنعم في نعمه، وإن
كان
الإعتقاد يخالف ذلك.
والأحاديث والآثار متظاهرة بذلك.
وفي " صحيح مسلم "، عن أبي هريرة، عن
النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، قال: " ألم تروا
إلى ما قال ربكم؟ قال: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها
كافرين، يقولون: الكوكب وبالكوكب ".(9/260)
وروي من وجه آخر، عن أبي هريرة، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، قال: " إن الله
عز وجل ليبيت القوم بالنعمة، ثم يصبحون وأكثرهم بها كافر، يقولون: مطرنا
بنوء كذا وكذا ".
وروى أبو سعيد الخدري، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، قال: " لو أمسك الله القطر عن
الناس سبع سنين،
ثم أرسله، كفرت طائفة منهم، فقالوا: هذا من نوء
المجدح ".(9/261)
وروى [أبو] الدرداء، قال: مطرنا على عهد
رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ذات ليلة،
فأصبح رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ورجل يقول: مطرنا بنوء كذا وكذا، فقال رسول الله
[- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : " قلما
أنعم الله على قوم نعمة، إلا أصبح كثير منهم بها كافرين ".
وفي " صحيح مسلم "، عن أبي مالك الأشعري، عن
النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، قال:
" أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في
الأنساب،
والاستسقاء بالنجوم، والنياحة ".
وخرج البخاري في " صحيحه "، من رواية ابن عيينة، عن عبيد الله:
سمع
ابن عباس يقول: " خلال من خلال الجاهلية: الطعن في الأنساب،
والنياحة "، ونسي الثالثة. قال سفيان: ويقولون
: إنها " الاستسقاء بالأنواء ".(9/262)
وروي عن ابن عباس - مرفوعا - من وجه آخر ضعيف.
وخرج ابن حبان في "
صحيحه " - معناه - من حديث أبي هريرة - مرفوعا.
وروى ابن عيينة، عن إسماعيل بن أمية، أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
سمع رجلا في
بعض أسفاره يقول: مطرنا ببعض عثانين الأسد، فقال رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] :
" كذبت، بل هو سقي الله عز وجل، ورزقه ".
وذكر مالك، أنه بلغه عن أبي هريرة، أنه كان يقول: مطرنا
بنوء الفتح،
ثم يتلو هذه الآية:) ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها) [فاطر: 2] .
وذكر الشافعي
، أنه بلغه، أن عمر سمع شيخا يقول - وقد مطر الناس -:
أجاد ما أقرى المجدح الليلة، فأنكر ذلك عمر عليه.(9/263)
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده، عن سلم العلوي، قال: كنا عند أنس،
فقال رجل: إنها لمخيلة للمطر. فقال أنس:
إنها لربها لمطيعة.
يشير أنس إلى أنه لا يضاف المطر إلى السحاب، بل إلى أمر الله ومشيئته.
وذكر ابن عبد
البر، عن الحسن، أنه سمع رجلا يقول: طلع سهيل،
وبرد الليل، فكره ذلك، وقال: إن سهيلا لم يأت قط بحر
ولا برد.
قال: وكره مالك أن يقول الرجل للغيم والسحابة: ما أخلقها للمطر.
قال: وهذا يدل على أن القوم
احتاطوا، فمنعوا الناس من الكلام بما فيه
أدنى متعلق من كلام الجاهلية في قولهم: مطرنا بنوء كذا وكذا. انتهى.
واختلف الناس في قول القائل: " مطرنا بنوء كذا وكذا " من غير اعتقاد أهل
الجاهلية: هل هو مكروه، أو محرم؟
فقالت طائفة: [هو] محرم، وهو قول أكثر أصحابنا، والنصوص تدل
عليه، كما تقدم.
وقال طائفة: هو مكروه، وهو قول الشافعي وأصحابه، وبعض أصحابنا.
فأما إن قال: " مطرنا في بنوء كذا وكذا "،
ففيه لأصحابنا وجهان:
أحدهما: أنه يجوز، كقوله: " في وقت كذا وكذا "، وهو قول القاضي
أبي(9/264)
يعلى وغيره.
وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال للعباس - رضي الله عنه -،
وهو يستسقي: يا عباس، كم بقي من
نوء الثريا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن
أهل العلم بها يزعمون أنها تعترض بالأفق بعد وقوعها سبعا، فما مضت
تلك
السبع حتى أغيث الناس.
رواه ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن ابن المسيب،
قال:
حدثني من لا أتهم، عن عمر - فذكره.
والوجه الثاني: أنه يكره، إلا أن يقول مع ذلك: " برحمة الله عز وجل "
،
وهو قول أبي الحسن الآمدي من أصحابنا.
واستدل للأول بما ذكر مالك في " الموطإ "، أنه بلغه، أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
كان
يقول: " إذا نشأت بحريتها فشاءمت، فتلك عين غديقة ".
وهذا من البلاغات لمالك التي قيل، إنه لا يعرف
إسنادها.
وقد ذكره الشافعي، عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، عن إسحاق بن
عبد الله، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]-
مرسلا -، قال: " إذا نشأت بحرية، ثم استحالت
شامية، فهو أمطر لها ".
قال ابن عبد البر: ابن أبي يحيى؛
مطعون عليه متروك.
وإسحاق، هو: ابن أبي فروة، ضعيف - أيضا - متروك.
وهذا لا يحتج به أحد من(9/265)
أهل العلم.
قلت: وقد
خرجه ابن أبي الدنيا من طريق الواقدي: نا عبد الحكيم بن
عبد الله بن أبي فروة: سمعت عوف بن الحارث: سمعت
عائشة تقول:
سمعت النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] يقول: " إذا أنشأت السحابة بحرية، ثم تشاءمت، فتلك عين " -
أو قال: " عام
غديقة ".
يعني: مطرا كثيرا.
والواقدي: متروك - أيضا.
والمعنى: أن السحابة إذا طلعت بالمدينة من
جهة البحر، ثم أخذت إلى
ناحية الشام، جاءت بمطر كثير، وهو الغدق.
قال تعالى: (لأسقيناهم ماء غدقا) [الجن: 16] .
وقيده ابن عبد البر: " غديقة " بضم الغين بالتصغير.
ومن هذا المعنى: قول الله عز وجل
(فالحاملات وقرا) [الذاريات: 2] ،
وفسره علي بن أبي طالب وابن عباس ومن بعدهما بالسحاب.
قال
مجاهد: تحمل المطر.(9/266)
29 - باب لا يدري متى يجيء المطر إلا الله
وقال أبو هريرة، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : " خمس لا يعلمهن إلا الله
".
حديث أبي هريرة هذا، قد خرجه في " كتاب: الإيمان " في حديث سؤال
جبريل النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] عن الإسلام
والإيمان والإحسان، وأنه تلا عند ذلك هذه الآية:
(إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث) [لقمان: 34] الآية، وقد تقدم ذكره
والكلام عليه.(9/267)
1039 - حدثنا محمد بن يوسف: نا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن
ابن
عمر، قال: قال النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : " مفتاح الغيب خمس، لا يعلمها إلا الله، لا يعلم أحد
ما يكون في غد [إلا الله] ،
ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام، ولا تعلم نفس
ما تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت، وما يدري أحد
متى يجيء
المطر.
قد سبق في الباب المشار إليه: الإشارة إلى اختصاص الله بعلم هذه
الخمس، التي هي مفاتح
الغيب، التي قال فيها: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) [الأنعام: 59] .(9/267)
وهذه الخمس المذكورة في
حديث ابن عمر، ليس فيها علم الساعة، بل
فيها ذكر متى يجيء المطر، بدل الساعة.
وهذا مما يدل على أن
علم الله الذي استأثر به دون خلقه لم ينحصر في
خمس، بل هو أكثر من ذلك، مثل علمه بعدد خلقه، كما قال: (وما تسقط
من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس) [الأنعام: 59] .
ومثل استئثاره بعلمه بذاته وصفاته وأسمائه، كما قال:
(ولا يحيطون به علما) [طه: 110] .
وفي حديث ابن مسعود - في ذكر أسمائه -: " أو استأثرت به في
علم الغيب
عندك ".(9/268)
وإنما ذكرت هذه الخمس لحاجة الناس إلى معرفة اختصاص الله بعلمها،
والعلم بمجموعها مما اختص الله بعلمه، وكذلك العلم القاطع بكل(9/269)
فرد فرد من أفرادها.
وأما الاطلاع على شيء يسير من أفرادها
بطريق غير قاطع، بل يحتمل الخطأ
والإصابة فهو غير منفي؛ لأنه لا يدخل في العلم الذي اختص الله به، ونفاه
عن غيره.
وتقدم - أيضا - أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] أوتي علم كل شيء، إلا هذه الخمس.
فأما اطلاع الله سبحانه له على
شيء من أفرادها، فإنه غير منفي - أيضا -،
وهو داخل في قوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا
(26) إلا من ارتضى من رسول) [الجن: 26، 27] الآية.
ولكن علم الساعة مما اختص الله به، ولم يطلع عليه غيره، كما تقدم في
حديث سؤال جبريل للنبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، وكذلك جملة العلم بما في غد.
وقد قالت جارية
بحضرته [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : وفينا نبي يعلم ما في غد، فنهاها النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
عن قول ذلك.
وقد خرجه البخاري في " النكاح ".
وأما العلم بما في الأرحام، فينفرد الله تعالى بعلمه، قبل أن يأمر ملك
الأرحام بتخليقه وكتابته، ثم بعد ذلك قد يطلع
الله عليه من يشاء من خلقه،
كما أطلع عليه ملك الأرحام.
فإن كان من الرسل فإنه يطلع عليه علما يقينا، وإن
كان من غيرهم من
الصديقين والصالحين، فقد يطلعه الله تعالى عليه ظاهرا.
كما روى الزهري، عن عروة،
عن عائشة، أن أبا بكر لما حضرته الوفاة
قال لها - في كلام ذكره -: إنما هو أخواك وأختاك. قالت:(9/270)
فقلت هذا أخواي، فمن أختاي؟ قال: ذو بطن ابنة خارجة، فإني أظنها جارية.
ورواه هشام، عن أبيه، عن عائشة، أنها
قالت له عند ذلك: إنما هي
أسماء؟ فقال: وذات بطن بنت خارجة، أظنها جارية.
ورواه هشام، عن أبيه: قد
ألقي في روعي، أنها جارية، فاستوصي بها
خيرا. فولدت أم كلثوم.
وأما علم النفس بما تكسبه غدا، وبأي
أرض تموت، ومتى يجيء المطر،
فهذا على عمومه لا يعلمه إلا الله.
وأما الاطلاع على بعض أفراده، فإن كان
بإطلاع من الله لبعض رسله، كان
مخصوصا من هذا العموم، كما أطلع النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] على كثير من الغيوب المستقبلة،
وكان يخبر بها.
فبعضها يتعلق بكسبه، مثل إخباره أنه يقتل أمية بن خلف، وأخبر سعد بن
معاذ بذلك أمية بمكة
، وقال أمية: والله، ما يكذب محمد.
وأكثره لا يتعلق بكسبه، مثل إخباره عن الصور المستقبلة في أمته وغيرهم
،
وهو كثير جدا.
وقد أخبر بتبوك، أنه " تهب الليلة ريح شديدة، فلا يقومن أحد "،
وكان كذلك.
والاطلاع على هبوب بعض الرياح نظير الاطلاع على نزول بعض الأمطار في
وقت معين.(9/271)
وكذلك إخباره [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ابنته فاطمة في مرضه، أنه مقبوض من مرضه.
وقد روي عنه [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، أنه قال: " ما بين قبري
ومنبري روضة من رياض
الجنة ".
خرجه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري، والنسائي من
حديث أم سلمة، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] .
وهو دليل على أنه علم موضع موته ودفنه.
وقد روي عنه، أنه قال: " لم يقبض نبي إلا دفن حيث يقبض ".
خرجه ابن ماجه وغيره.
وأما إطلاع غير الأنبياء على بعض أفراد ذلك فهو - كما تقدم
- لا يحتاج إلى
استثنائه؛ لأنه لا يكون علما يقينا، بل ظنا غالبا، وبعضه وهم، وبعضه حدس
وتخمين، وكل
هذا ليس بعلم، فلا يحتاج إلى استثنائه مما انفرد الله سبحانه
وتعالى بعلمه، كما تقدم. والله سبحانه وتعالى أعلم.(9/272)
بسم الله الرحمن الرحيم
16 - كتاب الكسوف
1 - باب
الصلاة في كسوف الشمس
فيه أربعة أحاديث:
الحديث الأول:(9/273)
1040 - نا عمرو بن عون: نا خالد، عن يونس، عن الحسن، عن أبي بكرة، قال: كنا عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنكسفت الشمس، فقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجر رداءه، حتى دخل المسجد، [فدخلنا] ، فصلى بنا ركعتين، حتى انجلت الشمس، فقال: ((إن الشمس والقمر لاينكسفان لموت أحد، فإذا رأيتموهما فصلوا، وادعوا، حتى يكشف ما
بكم)) .
سماع الحسن من أبي بكرة صحيح عند علي بن المديني والبخاري وغيرهما، وخالف فيه ابن معين، وقد سبق ذلك.(9/273)
وقد ذكر البخاري - فيما بعد - أن مبارك بن فضالة رواه عن الحسن، قال: حدثني أبو بكرة.
وخرجه الإمام أحمد كذلك.
وقد رواه قتادة، عن الحسن، عن النعمان بن بشير، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرج حديثه النسائي.
وهذا مخالف لروايات أصحاب الحسن، عنه، عن أبي بكرة.
وجر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رداءه هاهنا؛ لأنه قام عجلا دهشا، كما في حديث أبي موسى: ((فقام فزعا يخشى أن تكون الساعة)) ، وسيأتي - فيما بعد.
وإنما يكره جر الرداء تعمدا لذلك.
وفي رواية الإمام أحمد لهذا الحديث: ((فقام يجر ثوبه مستعجلاً)) .
وقوله: ((فصلى بنا ركعتين)) ، لم يذكر صفة الركعتين.
وقد رواه ابن علية ويزيد بن زريع، عن يونس، فزادا في الحديث: ((فصلى بهم ركعتين نحو ما يصلون)) .
وخرجه ابن حبان في ((صحيحه)) من رواية أشعث، عن الحسن، عن أبي
بكرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه صلى في كسوف الشمس والقمر ركعتين، مثل صلاتكم.(9/274)
وخرجه النسائي، ولم يذكر: ((القمر)) ، وعنده: ((مثل صلاتكم هذه)) .
وقال ابن حبان: أراد به مثل صلاتكم في الكسوف.
وهذا التأويل متجه في رواية ابن علية ويزيد بن زريع، عن يونس - أيضا.
وبذلك تأولها البيهقي 0
والمتبادر إلى الفهم: التشبيه بصلاة ركعتين، يتطوع بهما.
وهذا مما تعلّق به من قال: إن صلاة الكسوف ليس فيها ركوع زائد، وسيأتي ذكره - إن شاء الله سبحانه تعالى 0
وفيه دليل على أن صلاة الكسوف تستدام حتى تنجلي الشمس.
وقوله: ((إنهما لا يكسفان لموت أحد)) ، إشارة إلى قول الناس: ((إن الشمس كسفت لموت إبراهيم عليه السلام)) .
وفي رواية خرجها البخاري - فيما بعد -: ((وذلك أن ابنا للنبي مات، يقال له: إبراهيم، فقال الناس في ذلك)) .
و [روى] هذا الحديث محمد بن دينار الطاحي، عن يونس، فزاد في الحديث: ((وإن الله إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له)) .
خرجه الدارقطني.
[وقال]-: تابعه: نوح بن قيس، عن يونس.(9/275)
وخرجه - أيضا - من رواية بكار بن يونس: [ثنا] حميد، عن الحسن، عن أبي بكرة - بهذه الزيادة - أيضا
ورويت هذا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(9/276)
كتاب العمل في الصلاة
1 - باب
استعانة اليد في الصلاة إذا كان من أمر الصلاة
وقال ابن عباس: يستعين الرجل في صلاته من جسده بما شاء.
ووضع أبو إسحاق قلنسوته في الصلاة، ورفعها.
ووضع علي كفه على رسغه الأيسر، إلاّ أن يحك جلداً، أو يصلح ثوباً.
شرع البخاري من هاهنا في الكلام فيما يجوز من الأفعال في الصلاة، وما يكره فيها، وما لا يجوز.
وابتدأ من ذلك باستعانة المصلي بيده في صلاته، فيما يحتاج إليه من أمر صلاته.(9/277)
وحكى عن ابن عباس، قال: يستعين الرجل في صلاته من جسده بما شاء.
وعن أبي إسحاق، أنه وضع قلنسوته في صلاته ورفعها.
والظاهر: أن هذا كان لحاجة، وإلاّ لكان عبثاً، وهو مكروه.
وعن علي بن أبي طالب، أنه وضع كفه على رسغه الأيسر، إلاّ أن يحك جسداً أو يصلح ثوباً.
روي وكيع في ((كتابه)) عن عبد السلام بن شداد الجريري، عن غزوان بن جرير الضبي، عن أبيه، قال: كان علي إذا قام في الصلاة وضع يمينه على رسغه، فلا يزال كذلك حتى يركع متى ما ركع، إلاّ أن يصلح ثوبه، أو يحك جسده.
وروى بإسناده، عن إبراهيم، أنه كره أن يحدث الرجال في الصلاة شيئاً، حتى زر القميص. قال: وكان إبراهيم لايرى بأساً إذا استرخى إزاره في الصلاة أن يرفعه.
وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) ، عن الثوري، عن منصور، عن مجاهد،(9/283)
قال: كان يقال في مسح اللحية في الصلاة: واحدة او دع 0
وعن هشيم: أخبرني حصين، عن عبد الملك بن سعيد، قال: قد كان النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى وضع يده اليمنى على يده اليسرى، وكان ربما يضع يده على لحيتة في الصَّلاة.
وخرجه أبو داود في ((مراسيله)) من رواية شعبة، عن حصين، عن عبد الملك بن أخي عمرو بن حريث، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وذكر عبد الرزاق، عن ابن جريج: سألت عطاء عن الاحتكاك في الصلاة، والارتداء، والاتزار؟ قالَ: كل ذَلِكَ لا تفعله في الصَّلاة.
وهذا محمول على أنه لم يكن لهُ حاجة إليه.
والمروي عن علي محمول [على] أنه كان يفعله للحاجة إليه.
وقال سفيان الثوري: يكره أن يلبس النعل أو الرداء، وأن يضع القلنسوة على رأسه، وينزع خفيه أو نعليه، إلاّ لشيء يؤذيه، ولا بأس أن يحك شيئاً من جسده، إذا آذاه ذَلِكَ.
وعند أصحابنا: كل عمل يسير يعرض في الصلاة لحاجة فلا يكره.
واستدلوا بما خرجه مسلم - رحمة الله - من حديث وائل بن حجر، أنه رأى النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه حين دخل في الصلاة، كبر ثم التحف(9/284)
بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على يده اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثم رفعهما، [ثم] كبر فركع - وذكر الحديث.
ومذهب الشافعي نحوه - أيضا.
وروى حرب، عن أحمد في الرجل يسقط رداؤه عن ظهره في الصَّلاة، فيحمله، قال: أرجو أن لا يضيق ذلك.
وروى حرب بإسناده، عن أبي جعفر والشعبي، قالا: لا بأس أن يسوي الرجل رداءه في الصلاة.
وقال حرب: سألت أحمد عن الرجل يصلي فتحتك ساقه، فيحكه؟ فكأنه كرهه. قلت: يحكه بقدمه؟ قالَ: هوَ بالقدم أسهل، وكانه رخص فيهِ.
ومن متأخري أصحابنا من قالَ: الحك الذي لا يصبر عنه المصلي لا يبطل صلاته وإن كثر.
خرج في هذا الباب:(9/285)
1198 - حديث: مالك، عن مخرمة، عن كريب، عن ابن عباس، قالَ: بت عند خالتي ميمونة.(9/285)
فذكر الحديث في صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالليل، وصلاة ابن عباس معه.
وفيه: قال:
فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني اليمنى يفتلها بيده، فصلى.
وذكر الحديث، وقد سبق بتمامه في غير موضع.
وخرجه مسلم - أيضا.
وخرجه من طريق الضحاك بن عثمان، عن مخرمة، وفي روايته:
فقمت إلى جنبه الأيسر، فأخذ بيدي فجعلني في شقه الأيمن، فجعل إذا أغفيت أخذ بشحمة أذني.
فتبين بهذه الرواية: أن أخذ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأذن ابن عباس في الصلاة إنما كان عند
نعاسه، إيقاظا له.
وكذلك خرجه أبو داود والنسائي من رواية سعيد بن أبي هلال، عن مخرمة، وفي حديثة: فقمت إلى جنبه، عن يساره، فجعلني عن يمينه، ووضع يده على رأسي، وجعل يمسح أذني، كأنه يوقظني.
فهاتان الروايتان: فيهما دلالة على أنه إنما أخذ بأذنه بعد أن أداره عن يمينه.
وفيه: رد على من زعم: أن أخذه بأذنه وفتلها إنما كان ليديره عن شماله إلى
يمينه، كما قاله ابن عبد البر.
قال: وهذا المعنى لم يقمه مالك في حديثه، وقد ذكره أكثر الرواة.
قالَ: وقيل: إنما فتل أذنه ليذكر ذلك ولا ينساه. وقيل: ليذهب نومه.
انتهى.
ورواية الضحاك مصرحة بهذا المعنى الأخير، ورواية سعيد بن أبي هلال تدل عليه - أيضا.(9/286)
2 - باب
ما ينهى عنه من الكلام في الصلاة
وفيه حديثان:
الأول:(9/287)
1199 - ثنا ابن نمير: ثنا ابن فضيل: ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قالَ: كنا نسلم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه، فلم يرد علينا، وقال: ((إن في الصلاة لشغلاً)) .
حدثنا ابن نمير: ثنا إسحاق بن منصور السلولي: ثنا هريم بن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه.
وخرجه - أيضا - في مواضع أخر، من رواية أبي عوانة عن الأعمش - نحوه.
ورواه أيضا - أبو بدر شجاع بن الوليد، عن الأعمش - بهذا الإسناد.(9/287)
وإنما احتيج إلى ذكر هذه المتابعات عن الأعمش؛ لأن الثوري وشعبة وزائدة وجريراً وأبا معاوية وحفص بن غياث رووه، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله، لم يذكروا فيهِ: ((علقمة)) ، فيصير منقطعاً.
وقد رجح انقطاعه كثير من الحفاظ، [منهم] : أبو حاتم الرازي.
وقال في رواية ابن فضيل الموصولة: أنها خطأ.
وقال الحافظ أبو الفضل بن عمار الشهيد: الذين أرسلوه أثبت ممن وصله.
قال: ورواه الحكم بن عتبة - أيضا -، عن إبراهيم، عن عبد الله مرسلا - أيضا - إلاّ ما رواه أبو خالد الأحمر، عن شعبة، عن الحكم موصولاً؛ فإنه وهم فيهِ أبو خالد. انتهى.(9/288)
وتصرف البخاري يدل على خلاف ذلك، وأن وصله صحيح.
وكذلك مسلم في ((صحيحه)) ؛ فإنه خرجه من طريق ابن فضيل وهريم بن سفيان – موصولا – كما خرجه البخاري 0
وله عن ابن مسعود طريق اخرى متعددة، ذكرتها مستوفاة في ((شرح
الترمذي)) .
وقال البخاري في أواخر ((صحيحه)) :
وقال ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصَّلاة)) .
وهذا الحديث المشار إليه، خرجه الإمام أحمد والنسائي من رواية ابن عيينة، عن عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: كنا نسلم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيرد علينا السلام، حتى قدمنا من أرض الحبشة، فسلمت عليه، فلم يرد علي، فأخذني ما قرب وما بعد، فجلست حتى إذا قضى الصلاة قال: ((إن الله يحدث)) – فذكره.
ورواه الحميدي وغيره من أصحاب سفيان، عنه، عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود.
وزعم الطبراني: أنه المحفوظ.(9/289)
قلت: عاصم، هو: ابن أبي النجود، كان يضطرب في حديث زر وأبي وائل، فروى الحديث تارة عن زر، وتارة عن أبي وائل.
قال الطبراني: ورواه عبد الغفار بن داود الحراني، عن ابن عيينه، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله.
قال: فإن كان حفظه، فهو غريب.
قلت: ليس هو بمحفوظ، إنما المحفوظ رواية: سفيان، عن عاصم –كما تقدم.
وخرج النسائي – أيضا - من طريق سفيان، عن الزبير بن عدي، عن كلثوم، عن ابن مسعود، قال: كنت آتي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي، فأسلم عليه، فيرد عليَّ، فأتيته، فسلمت عليه وهو يصلي، فلم يرد عليَّ، فلما سلم أشار إلى القوم، فقال: ((إن الله
عز وجل - يعني - أحدث في الصلاة أن لا تكلموا إلاّ بذكر الله، وما ينبغي لكم، وأن تقوموا لله قانتين)) .
وكلثوم، هو: ابن المصطلق الخزاعي، يقال: له صحبة، وذكره ابن(9/290)
حبان في ((كتابه)) من التابعين.
وقوله: ((إن الله أحدث أن لا تكلموا في الصَّلاة)) إشارة إلى أنه شرع ذلك بعد أن لم يكن شرعه، ومنعه بعد أن لم يكن قد منعه 0
الحديث الثاني:(9/291)
1200 - ثنا إبراهيم بن موسى: ثنا عيسى –هو: ابن يونس -: ثنا إسماعيل –هو: ابن أبي خالد -، عن الحارث بن شبيل، عن أبي عمرو الشيباني، قال: قال لي زيد بن أرقم: إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيكلم أحدنا صاحبه
بحاجته، حتى نزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت.
وخرجه مسلم، وزاد فيه: ((ونهينا عن الكلام)) ، وليس عنده: ذكر عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(9/291)
وخرجه النسائي، وعنده: ((فأمرنا حينئذ بالسكوت)) .
وخرجه الترمذي، ولفظه: كنا نتكلم خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة، فيكلم الرجل منا صاحبه إلى جنبه، حتى نزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] . قال: فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام.
وهذه الرواية صريحة برفع آخره.
واختلف الناس في تحريم الكلام في الصَّلاة: هلا كان بمكة، او بالمدينة؟ فقالت طائفة: كانَ بمكة.
واستدلوا بحديث ابن مسعود المتقدم، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امتنع من الكلام عند قدومهم عليه من الحبشة، وإنما قدم ابن مسعود عليه من الحبشة إلى مكة، ثم هاجر إلى المدينة، كذا ذكره ابن إسحاق وغيره.
ويعضد هذا: أنه روي: أن امتناعهم من الكلام كان بنزول قوله: {وَإذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] وهذه الآية مكية.
فروى أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن المسيب بن رافع، قال: قال(9/292)
ابن مسعود:
كنا نسلم بعضنا على بعض في الصلاة، فجاء القرآن {وَإذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} .
وأخرجه ابن جرير وغيره.
وهذا الإسناد منقطع؛ فإن المسيب لم يلق ابن مسعود.
وروى الهجري، عن أبي عياض، عن أبي هريرة، قالَ: كانوا يتكلمون في الصَّلاة، فلما نزلت هذه الآية {وَإذا قُرِئَ الْقُرْآنُ} والآية الأخرى، قالَ: فأمرنا بالإنصات.
وخرجه بقي بن مخلد في ((مسنده)) .
وخرجه غيره، وعنده: ((أو الآية الأخرى)) – بالشك.
والهجري، ليس بالقوي.
ولكن يشكل على أهل هذه المقالة حديث زيد بن أرقم، الذي خرجه البخاري هاهنا؛ فإن زيداً الأنصاري، لم يصل خلف النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة، إنما صلى خلفه بالمدينة، وقد أخبر أنهم كانوا يتكلمون حتَّى نزلت: {وَقُومُوا(9/293)
لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقر: 238] .
وهي مدنية بالاتفاق.
وأجاب أبو حاتم ابن حبان – وهو ممن يقول: إن تحريم كلام كان بمكة -: واجيب عن هذا بجوابين:
أحدهما: أن زيد بن أرقم حكى حال الأنصار وصلاتهم بالمدينة قبل هجرة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم، وأنهم كانوا يتكلمون حينئذ في الصلاة؛ فإن الكلام حينئذ كانَ مباحاً، وكان النَّبيّ إذ ذاك بمكة، فحكى زيد صلاتهم تلك الأيام، لا أن نسخ الكلام كانَ بالمدينة.
قلت: هذا ضعيف؛ لوجهين:
أحدهما: أن في رواية الترمذي: ((كنا نتكلم خلف النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصَّلاة)) ، فدل على أنه حكى حالهم في صلاتهم خلف النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد هجرته إلى المدينة.
والثاني: أنه ذكر أنهم لم ينهوا عن الكلام حتى نزلت الاية، وهي إنما نزلت بعد الهجرة بالاتفاق، فعلم أن كلامهم استمر في الصلاة بالمدينة، حتى نزلت هذه الآية 0
ثم قال ابن حبان:
والجواب الثاني: أن زيدا حكى حال الصحابة مطلقا، من المهاجرين(9/294)
وغيرهم، ممن كان يصلي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل تحريم ((الكلام)) في الصلاة، ولم يرد الأنصار، ولا أهل المدينة بخصوصهم، كما يقول القائل: فعلنا كذا، وإنما فعله بعضهم.
قلت: وهذا يرده قوله: ((حتى نزلت الآية)) ؛ فإنه يصرح بأن كلامهم استمر إلى حين نزولها، وهي إنما نزلت بالمدينة.
وأجاب غير ابن حبان بجوابين آخرين:
أحدهما: أنه يحتمل أنه كان نهي عن الكلام متقدما، ثم أذن فيه، ثم نهي عنه لما نزلت الآية.
والثاني: أنه يحتمل أن يكون زيد بن أرقم ومن كان يتكلم في الصلاة لم يبلغهم نهي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما نزلت الآية انتهوا.
وكلا الجوابين فيه بعد، وإنما انتهوا عند نزول الآية، بأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالسكوت، ونهيه عن الكلام، كما تقدم.
وقال طائفة أخرى: إنما حرم الكلام في الصلاة بالمدينة؛ لظاهر حديث زيد بن أرقم، ومنعوا أن يكون ابن مسعود رجع من الحبشة إلى مكة، وقالوا: إنما رجع من الحبشة إلى المدينة، قبيل بدر.
واستدلوا بما(9/295)
خرجه أبو داود الطيالسي في ((مسنده)) من حديث عبد الله بن
عتبة، عن ابن مسعود، قال: بعثنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى النجاشي، ونحن ثمانون رجلا، ومعنا جعفر بن أبي طالب – فذكر الحديث في دخولهم على النجاشي، وفي آخره -: فجاء ابن مسعود، فبادر، فشهد بدرا.
وروى آدم ابن أبي إياس في ((تفسيره)) : حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب، قال: قدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، والناس يتكلمون بحوائجهم في الصلاة، كما يتكلم أهل الكتاب، فأنزل الله {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ، فسكت القوم عن الكلام.
وهذا مرسل. وأبو معشر، هو: نجيح السندي، يتكلمون فيه.
وقد اتفق العلماء على أن الصلاة تبطل بكلام الآدميين فيها عمدا لغير مصلحة الصلاة، واختلفوا في كلام الناسي والجاهل والعامد لمصلحة الصلاة.
فأماكلام الجاهل، فيأتي ذكره – قريبا.
وأما كلام الناسي والعامد لمصلحة، فيأتي ذكره في ((أبواب سجود السهو)) قريبا – إن شاء الله تعالى.(9/296)
3 - باب
ما يجوز من التسبيح والحمد في الصلاة للرجال(9/297)
1021 - حدثنا عبد الله بن مسلمة: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد، قال: خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلح بين بني عمرو بن عوف، وحانت الصلاة، فجاء بلال أبا بكر، فقال: حبس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتؤم الناس؟ فقالَ: نعم، إن شئتم، فأقام بلال الصَّلاة -، فتقدم أبو بكر فصلى، فجاء النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمشي في الصفوف يشقها شقاً، حتَّى قام في الصف الأول، فأخذ الناس بالتصفيح – قالَ سهل: تدرون ما التصفيح؟ هو التصفيق -، وكان أبو بكر لايلتفت في صلاته، فلما أكثروا إلتفت، فإذا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصف، فأشار إليه مكانك، فرفع أبو بكر يديه، فحمد الله، ثم رجع القهقرى
وراءه، وتقدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلى.
التصفيق والتصفيح، من الناس من قال: هما بمعنى واحد -: قاله الأصمعي
وغيره.
وقال الخطابي: التصفيح: التصفيق بصفحتي الكف.(9/297)
وقيل: التصفيق: ضرب بباطن الراحة على الأخرى. والتصفيح: الضرب بظاهر الكف على ظهر الأخرى، ويكون المقصود به: الإعلام والإنذار، بخلاف التصفيق؛ فإنه يراد به الطرب واللعب 0 والله أعلم.
وقد سبق هذا الحديث في ((أبواب الإمامة)) ، خرجه البخاري فيها من رواية مالك، عن أبي حازم.
وذكرنا هنالك عامة فوائده، وأشرنا إلى الاختلاف فيمن حمد الله في صلاته أو سبح لحادث حدث له، وهل تبطل بذلك صلاته، أم لا؟
وذكرنا ذَلِكَ – أيضا – في ((باب: إجابة المؤذن)) .
وأكثر العلماء على أنه لا تبطل صلاته بذلك.
فحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور.
وهو – أيضا – قول مالك والشافعي.
وسواء قصد بذلك تنبيه غيره، أم لم يقصد.
قال إسحاق – فيما نقله، عنه حرب -: إن قرأ آية فيها ((لا إله إلا الله)) ، فأعادها لاتفسد صلاته، وإن انقض كوكب، فقال: ((لا إله إلا الله)) ، تعجباً
وتعمداً، فهو كلام يعيد الصلاة، وكذا إذا لدغته عقرب، فقال: ((بسم الله)) .
وقال عبيد الله بن الحسن: فيمن رمي في صلاته، فقال: ((بسم الله)) : لم تنقطع صلاته، هو كمن عطس فحمد الله. وقال في الذي يذكر النعمة وهو في الصلاة، فيحمد الله عليها، وإن ذلك حسناً.(9/298)
وقال عطاء: ما جرى على لسان الرجل في الصلاة، فما له أصل في القرآن فليس بكلام.
وقالت طائفة: تبطل صلاته، وهو رواية عن أحمد وإسحاق.
ومذهب أبي حنيفة: إن قاله ابتداء فليس بكلام، وإن قاله جواباً فهو كلام.
قال بعض أصحابنا: هذه الرواية عن أحمد بالبطلان، هي قول أبي حنيفة ومحمد، أنه يبطل الصلاة، فكل ذكر يأتي به المصلي في غير موضعه، إلاّ في تنبيه المأموم على سهوه، وتنبيه المار بين يده ليرجع.
وكذلك الخلاف إذا بشر بما يسره، فقال: ((الحمد لله)) ، أو بما يسوؤه، فقال: ((إنا لله وإنا إليه راجعون)) ، أو عطس، فحمد الله، أو فتح على غير إمامه، أو خاطب إنسانا بشيء من القرآن قاصداً للقراءة والتنبيه.
وأصح الروايتين عن أحمد: أن الصلاة لا تبطل بذلك، كقول جمهور العلماء.
وفي ((الصحيحين)) ، عن عائشة، أن أسماء أختها لما سالتها وهي تصلي صلاة الكسوف، فأشارت برأسها إلى السماء، وقالت: ((سبحان الله)) .
واحتج أحمد بما ذكره عن علي، أنه كان في صلاة الفجر، فمر بعض الخوارج، فناداه: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، فأجابه علي وهو في صلاته: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا(9/299)
يُوقِنُونَ} [الروم:60] .
وروي عن ابن مسعود، أنه استأذن عليه رجل وهو يصلي، فقال: {ادْخُلُوا مِصْرَ إن شاء اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] .
وكان عبد الرحمن بن أبي ليلى يفعله.
وخرج الإمام أحمد من حديث علي، قال: كانت لي ساعة من السحر أدخل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن كان في صلاة سبح، فكان إذنه لي.
ومن حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذن الرجل إذا كان في صلاة أن يسبح، وإذن المرأة أن تصفق)) .(9/300)
وقد روي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أن رجلاً عطس وراءه في الصلاة، فحمد الله، فأخبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قضى صلاته بابتدار الملائكة لها، وكتابتها.
وقد خرجه أبو داود والترمذي والنسائي، من حديث رفاعة بن رافع.
وخرجه أبو داود – أيضا – من حديث عامر بن ربيعة – بمعناه.
وحكى الترمذي عن بعض أهل العلم، أنهم حملوا ذلك على التطوع، وقالوا: في المكتوبة يحمد الله في نفسه.
وهذا التفريق، هو قول مكحول، ورواية عن أحمد.
وقولهم: ((يحمد الله في نفسه)) ، ويحتمل أنهم أرادوا أنه يحمده بقلبه ولا يتلفظ به، ويحتمل أنهم أرادوا انه لا يجهر به.
وكذا قال النخعي: في الرجل يعطس في الصلاة: يحمد الله، ولا يجهر.
وقال الحسن: يحمد الله في المكتوبة وغيرها.
وكذا نقله حرب، عن إسحاق.(9/301)
وروى عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: سمعت ابا طلحة: سمعت ابن عمر يقول في العاطس في الصلاة: يجهر بالحمد.
وأما تخصيص البخاري جواز التسبيح والحمد في الصلاة للرجال؛ فلأن المرأة تخالف الرجل في التسبيح للتنبيه، وإنما تنبه بالتصفيح، كما ياتي ذكره، فلا يشرع لها التسبيح والتحميد في غير ذَلِكَ – أيضا.
لكن حكمها حكم الرجل في القول بالإبطال وعدمه، وإنما يختلفان في الكراهة؛ فإن المرأة لايشرع لها رفع صوتها في الصَّلاة بقرآن ولا ذكر.(9/302)
4 - باب
من سمى قوماً أو سلم في الصلاة على غيره وهو لا يعلم(9/303)
1202 - حدثنا عمرو بن عيسى: حدثنا أبو عبد الصمد العمي عبد العزيز بن عبد الصمد: ثنا حصين بن عبد الرحمن، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: كنا نقول: التحية في الصلاة، ونسمي، ويسلم بعضنا على بعض، فسمعه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ((قولوا التحيات لله)) .
فذكر التشهد بتمامه، ثم قال:
((فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء
والأرض)) .
وقد تقدم هذا الحديث في ((أبواب التشهد)) بألفاظ أخر.
وفي بعضها: أنهم كانوا يقولون: السلام على الله، والسلام على جبريل وميكائيل، وعلى فلان وفلان.(9/303)
فأماالسلام على الله فهو كلام غير جائز، ولهذا قال لهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا تقولوا السلام على الله)) .
وقد خرجه البخاري فيما تقدم.
وأما السلام على أشخاص معينين، فإن كان بلفظ الغيبة، فأكثر العلماء على أنه لايبطل الصلاة.
وقال الثوري وأبو حنيفة: هو كلام.
وقد سبق ذكر ذلك في ((أبواب التشهد)) .
وإن كان بلفظ الخطاب، فهو كرد السلام في الصلاة على من يسلم، ويأتي ذكره – إن شاء الله تعالى.
وفي هذا الحديث: دليل على أن من تكلم في صلاته جاهلا، أنه لا تبطل صلاته؛ فإن كلام الجاهل قسمان:
أحدهما: أن يتكلم في صلاته جاهلا بأن الكلام في الصلاة ممنوع، وهذا يقع من كثير من أعراب البوادي وغيرهم ممن هو حديث عهد بالإسلام، وقد كان هذا يقع في أول الإسلام كثيراً.
قالت الشافعية: ولا يعذر بذلك إلاّ قريب العهد بالإسلام، فأمامن طال عهده بالإسلام فتبطل صلاته؛ لتقصيره في التعلم، وكذا لو علم تحريم الكلام في الصَّلاة، ولم يعلم أنه مبطل لها، كما لو علم تحريم الزنا، ولم يعلم حدّه، فإنه يحدّ بغير خلاف.
والثاني: أن يتكلم بكلام يظنه جائزاً، وهو في نفسه غير جائز التكلم(9/304)
به في الصلاة وغيرها، كقولهم: ((السلام على الله)) ، أو يتكلم بكلام يظنه جائزاً في
الصلاة، كما أنه جائز في غيرها، كرد السلام وتشميت العاطس.
وقد اختلف العلماء في حكم الجاهل في الصلاة:
فمنهم من قال: حكمه حكم كلام الناسي، وهو قول مالك والشافعي، وهو أحد الوجهين لأصحابنا.
ومنهم من قال: تبطل، بخلاف كلام الناسي، وهو قول المالكية.
والثالث: لا تبطل وإن قلنا: يبطل كلام الناسي، وهو قول طائفة من أصحابنا.
ويدل له: ما خرجه البخاري في ((الأدب)) من ((صحيحه)) هذا من حديث أبي هريرة، قال: قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الصلاة، وقمنا معه، فقال أعرابي –وهو في الصلاة -: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلم النبي، قال للأعرابي: ((لقد حجرت واسعاً)) –يريد: رحمة الله.
وفي ((صحيح مسلم)) عن معاوية بن الحكم السلمي: أنه صلى خلف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فعطس رجل من القوم، فقال له: يرحمك الله. قال: فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم، تنظرون إلي؟ قالَ: فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم. وقال: فلما رأيتهم(9/305)
يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ لهُ: ((إن هذه الصَّلاة لايصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القران)) – أو كما قالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ولم ينقل أنه أمر أحدا بالإعادة.
وكذلك روي، عن معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري وغيرهما.
قال أصحابنا: ولأن الكلام كان مباحاً في أول الإسلام، ثم نسخ، والنسخ لا يثبت في حق الجاهل قبل العلم، بدليل قصة أهل قباء في القبلة.
ولكن هذا إنما يصح في حق من تمسك بالإباحة السابقة، ولم يبلغه نسخها، فأمامن لا يعلم شيئاً من ذلك، فلا يصح هذا في حقه.
وكذلك من تكلم بكلام محرم في نفسه، وهو يظن جوازه، كقول القائل:
((السلام على الله)) ، وقول الآخر: ((اللهم، ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا
أحداً)) .
وللشافعية – فيمن علم أن جنس الكلام محرم في الصلاة، ولم يعلم أن ما تكلم به محرم: هل يعذر بذلك ولا تبطل صلاته؟ - وجهان، أصحهما: يعذر به.
وكذلك لو جهل أن التنحنح ونحوه مبطل للصلاة.(9/306)
5 - باب
التصفيق للنساء
فيه حديثان:
أحدهما:(9/307)
1203 - حدثنا علي بن عبد الله: ثنا سفيان: ثنا الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، [عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، قال: ((التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء)) .
وخرجه مسلم – أيضا.
وخرجه – أيضا – من طريق يونس، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة ومن طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.
ومن طريق همام بن منبه، عن أبي هريرة، وزاد في حديثه: ((في الصلاة)) .
وخرجه النسائي من طريق ابن سيرين، عن أبي هريرة.(9/307)
وخرجه أبو داود من حديث رجل من الطفاوة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال لهم: ((إن نساني الشيطان شيئاً من صلاتي فليسبح القوم، وليصفق النساء)) .
وله طرق أخرى، عن أبي هريرة.
الحديث الثاني:(9/308)
1204 - حدثنا يحيى: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قالَ:
قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء)) .
وخرجه فيما تقدم من طريق مالك، عن أبي حازم، عن سهل، وذكر فيه: قصة إصلاح النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين بني عمرو بن عوف، وصلاة أبي بكر بالناس، وقال في آخر الحديث: ((من نابه شيء في صلاته فليسبح؛ فإنه إذا سبح ألتفت إليه، وإنما التصفيح
للنساء)) .
وخرجه مسلم.
وفي الباب أحاديث أخر، لم يخرج منها شيء في ((الصحيح)) .
وقد ذكر الترمذي: أن العمل على هذا عند أهل العلم.
وممن روي عنه، أنه أفتى بذلك: أبو هريرة، وسالم بن أبي الجعد.(9/308)
وقال به الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو يوسف.
وأن المأموم ينبه أمامه بالتسبيح إذا كان رجلاً.
وقد تقدم عن أبي حنيفة، أنه إن سبح إبتداء فليس بكلام، وأن كان جواباً فهو كلام. والجمهور على خلافه.
ومذهب مالك وأصحابه: أنه يسبح الرجال والنساء.
وحملوا قوله: ((إنما التصفيق للنساء)) على أن المراد: أنه من أفعال النساء، فلا يفعل في الصلاة بحال، وإنما يسبح فيها.
وهذا إنما يتأتى في لفظ رواية مالك، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، وأما رواية غيره: ((التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء في الصلاة)) فلا يتأتى هذا التأويل فيها.
وأما رواية من روى: ((إذا نساني الشيطان شيئاً من صلاتي فليسبح القوم، وليصفق النساء)) فصريحة في المعنى.
فالمراد بالقوم: الرجال، كما قال تعالى: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات:11] الآية.
وخرجه الإمام أحمد من حديث جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا أنساني الشيطان شيئاً في صلاتي فليسبح الرجال، وليصفق النساء)) .
وهو قول من رواية ابن لهيعة.(9/309)
وخرج الأثرم، من رواية أبي نعامة، [عن] جبر بن حبيب، عن القاسم بن
محمد، عن عائشة، قالت: جاء أبو بكر يستأذن، وعائشة تصلي، فجعلت تصفق، ولا يفقه عنها فجاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهما على تلك الحال، فقال: ((ما منعكِ أن تأخذي بجوامع الكلم وفواتحه؟)) –وذكر دعاء جامعاً -، ((ثُمَّ نادي لأبيك)) .
وهذا إسناد جيد 0
وقد خرج الإمام أحمد وابن ماجه ذكر الدعاء، دون قصة الاستئذان.
ولم ينكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها التصفيق، ولا أمرها بالتسبيح، وإنما تصفق المرأة إذا كان هناك رجال.
فأما إن لم يكن معها غير النساء، فقد سبق أن عائشة سبحت لأختها أسماء في صلاة الكسوف، فإن المحذور سماع الرجال صوت المرأة، وهو مأمون هاهنا، فلا يكره للمرأة أن تسبح للمرأة في صلاتها. ويكره أن تسبح مع الرجال.(9/310)
ومن أصحابنا من قال: لايكره.
والأول: الصحيح.
وقال بعض أصحابنا: الأفضل في حقها –أيضا - مع النساء التنبيه بالتصفيق – أيضا.
والكلام في هذا، يشبه الكلام في جهر المرأة بالقراءة إذا أمت النسوة.
وتصفيق المرأة، هو: أن تضرب بظهر كفها على بطن الأخرى، هكذا فسره أصحابنا والشافعية وغيرهم.
قالوا: ولا تضرب بطن الكف على بطن الكف؛ فإن فعلت ذَلِكَ كره.
وقال بعض الشافعية، منهم: القاضي أبو الطيب الطبري: تبطل صلاتها به، إذا كان على وجه اللعب؛ لمنافاته صلاتها، فإن جهلت تحريمه لم تبطل.
قالوا: ولو سبحت المرأة، أو صفق الرجل، فقد خالفا السنة، ولم تبطل صلاتهما بذلك.
ويدل عليه: أن الصحابة أكثروا التصفيق خلف أبي بكر الصديق، ولم يأمرهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإعادة، وإنما أمرهم بالأكمل والأفضل.
وقد قال طائفة من الفقهاء: متى أكثروا التصفيق بطلت الصلاة.
والحديث يدل على خلافه، إلاّ أن يحمل على أنهم لم يكونوا يعلمون منعه، فيكون حكمهم حكم الجاهل.(9/311)
6 - باب
من رجع القهقرى في الصلاة أو تقدم لأمر ينزل به
رواه سهل بن سعد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
حديث سهل، قد سبق قريباً، وفيه رجوع أبي بكر القهقرى في صلاته، وتقدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلى مكانه.(9/312)
1205 - حدثنا بشر بن محمد: ثنا عبد الله: قال يونس: قال الزهري: أخبرني أنس أن المسلمين بينا هم في الفجر يوم الاثنين، وأبو بكر يصلي بهم، ففجأهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم صفرف، فتبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه، وظن أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يريد أن يخرج إلى الصلاة، وهم المسلمون أن يفتتنوا، فرحا بالنبي حين راوه، فأشار بيده أن أتموا، ثم دخل الحجرة، وأرخى الستر، وتوفي ذلك اليوم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(9/312)
وقد تقدم حديث سهل بن سعد في صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر، وأنه كان يقوم عليه، ثم ينزل فيسجد في الأرض.
وقد سبق – أيضا – في ((أبواب صلاة الكسوف)) من حديث ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مد يده في صلاة الكسوف، كأنه يتناول شيئا، ثم تكعكع أي: تأخره.
وخرج مسلم من حديث جابر، في صلاة الكسوف، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تأخر في
صلاته، فتأخرت الصفوف خلفه، حتى انتهى إلى النساء، ثم تقدم وتقدم الناس معه، حتى قام في مقامه.
وروى برد بن سنان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: جئت ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في البيت، والباب عليه مغلق، فمشى حتى فتح لي، ثم رجع إلى مكانه، ووصفت الباب في القبلة.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي – وهذا لفظه.
وقال: حسن غريب.
واستنكره أبو حاتم الرازي والجوزجاني؛ لتفرد برد به.(9/313)
وبرد، شامي قدري، وثقه ابن معين. وقال أحمد: صالح الحديث.
وقال أبو زرعة: لابأس به. وقال أبو حاتم: كان صدوقاً.
وقد تقدم في ((باب: الركوع دون الصف)) حديث أبي بكرة، أنه ركع دون الصف، وأنه مشى حتى دخل في الصف.
خرجه أبو داود بهذا اللفظ.
وتقدم فيه عن جماعة بأنهم فعلوا ذلك، منهم: زيد بن ثابت.
وروي عن أبي بكر الصديق، وعن خلق من التابعين، ومن بعدهم.
وعن سعيد بن جبير وعطاء، انهما رخصا في ان يركع قبل ان يصل إلى صفوف النساء، ثم يمشي 0
وكل هذا يدل على أن المشي اليسير في الصلاة لاتبطل به الصلاة، وإنه قول جمهور السلف.
وكذلك أبو برزة مشى في صلاته إلى فرسه لما انفلتت، فأخذها.
وخرج البخاري حديثه فيما بعد.
وقد قال أحمد: إذا فعل كفعل أبي برزة فصلاته(9/314)
جائزة.
وقال حرب: قلت لأحمد: يفتح الباب –يعني: في الصلاة – حيال القبلة؟ قالَ: في التطوع.
ولعله أراد أنه لايكره في التطوع خاصة، ويكره في الفريضة.
وأكثر أصحابنا على أن ذلك يرجع فيه إلى العرف، فما عد في العرف مشياً كثيراً أبطل، وما لم يعد كثيراً لم يبطل، وكذلك سائر الأعمال في الصلاة.
ومنهم من جعل الثلاث في حد الكثرة، فلم يعف إلاّ عن المرة والمرتين.
وللشافعية في الضربتين والخطوتين وجهان.
ومن الحنفية من قدر المشي المبطل بما جاوز محل السجود.
وما دلت السنة عليه، مع اتباع السلف فيه أولى.
قال أصحابنا: وإنما يبطل العمل الكثير إذا توالى، وما شك فيه لم يبطل؛ لأن الأصل دوام الصحة، فلا يزول بالشك في وجود المنافي.
وما تفرق من ذلك، وكان إذا جمع كثيراً لم يبطل؛ لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تكرر منه حمل أمامة في صلاته ووضعها، وقد سبق حديث أمامة والكلام عليهِ بما فيهِ كفاية.
ومذهب الشافعية كمذهب أصحابنا في ذلك كله، في الرجوع إلى العرف على الصحيح عندهم، مع قولهم: إن الثلاث في حد الكثرة بغير خلاف، وفي الثنتين
وجهان.(9/315)
وأصحابنا يخالفونهم في هذا خاصة، ويقولون: ما لم يكن المشي والضرب يسمى كثيراً عرفاً فهو غير مبطل.
وهذا كله في العامد، فأما الناسي والجاهل، فأكثر أصحابنا والشافعية أن عمله الكثير يبطل كعمده.
ومن الشافعية من قال: فيه وجهان، أصحهما: لايبطل، كالكلام.
وكذلك حكى بعض أصحابنا رواية عن أحمد، أنه لايبطل عمل الساهي وإن
كثر.
وقال: هي أصح.
واستدل بما فعله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خبر ذي اليدين، حين سلم ساهياً، ثم لما ذكر بني على صلاته، وسيأتي الحديث في موضعه من الكتاب – إن شاء الله تعالى.(9/316)
7 - باب
إذا دعت الأم ولدها في الصلاة(9/317)
1206 - وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((نادت امرأة ابنها وهو في صومعته، فقالت: ياجريج. فقال: اللهم أمي وصلاتي. فقالت: ياجريج. قال: اللهم أمي وصلاتي. قالت: ياجريج. قال: اللهم أمي وصلاتي. قالت: اللهم [لا] يموت جريج حتى ينظر في وجوه المياميس، وكانت تأوي إلى صومعته راعية ترعى الغنم، فولدت، فقيل لها: ممن هذا الولد؟ قالت: من جريج، نزل من صومعته. قالَ: جريج: أين هذه التي تزعم أن ولدها لي؟ قالَ: يابابوس من أبوك؟ قال: راعي الغنم)) .
هكذا ذكره هاهنا تعليقاً، من رواية الأعرج، عن أبي هريرة.
وقد خرجه في آخر ((الغصب)) ، وفي ((أخبار بني إسرائيل)) مسنداً، من رواية جرير بن حازم، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة – بتمامه.(9/317)
و ((المياميس)) : جمع مومسة، وهي البغي، وتجمع على مياميس -: قاله أبو
زيد.
وهكذا في جميع روايات البخاري.
وقيل: إنما تجمع على ((مواميس)) – بالواو –؛ لأن الكلمة من ذوات الواو.
ورواه بعضهم ((المأميس)) – بالهمزة.
و ((البابوس)) هو الصغير الرضيع من بني آدم، وهو الصغير من أولاد الإبل – أيضا.
وقيل: إنه اسم لذلك المولود، وهو بعيد.
وفي الحديث: دليل على تقديم الوالدة على صلاة التطوع، وأنها إذا دعت ولدها في الصلاة فإنه يقطع صلاته ويجيبها.
قال حميد بن زنجويه في ((كتاب الأدب)) : نا الحسن بن الوليد: نا ابن أبي
ذئب، عن محمد بن المنكدر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا دعاك أبواك وأنت تصلي فأجب أمك ولا تجب أباك)) .
وبإسناد، عن شبيب بن يزيد، قال: مكتوب في التوراة: إذا دعتك أمك وأنت تصلي، فقل: لبيك، فإذا دعاك أبوك، فقل: سبحان الله.
ومرسل ابن المنكدر، قد رواه يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب، عن ابن المنكدر – فذكره.
فتبين أنه لم يسمعه ابن أبي ذئب من ابن المنكدر.
وقال حرب: قيل لأحمد: الحديث الذي جاء: ((إذا دعاك أبوك وأنت في الصلاة فأجبه)) ؟ فرأيته يضعف الحديث.
وقال الأوزاعي، عن مكحول: إذا دعتك(9/318)
أمك وأنت في الصَّلاة فأجب أمك، ولا تجب أباك.
قال الوليد بن مسلم: قلت للأوزاعي: في المكتوبة يجيبها؟ قالَ: نعم، وهل وجه إلاّ ذَلِكَ؟ ثُمَّ قالَ: يؤذنها في المكتوبه بتسبيحة، وفي التطوع يؤذنها بتلبية.
ووجه التفريق بينهما: أن الأم برها آكد من بر الأب؛ ولهذا وصى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ببرها ثلاث مرات، ثم وصى ببر الأب بعده.
قال الحسن: للأم ثلثا البر.
وقد روي، عنه في رجل حلف عليه أبوه بكلام، وحلف عليه أمه بخلافه؟ قالَ: يطيع أمه.
وقال عطاء، في رجل أقسمت عليه أمه أن لا يصلي إلاّ الفريضة، ولا(9/319)
يصوم إلاّرمضان؟ قالَ: يطيعها.
وإنما قدم طاعتها على التطوع؛ لأن طاعتها واجبة، وهذا يشترك فيهِ الوالدان.
وقد سوى أصحابنا بينهما في إجابتهما في الصَّلاة، وقالوا: لاتجب إجابتهما
فيها، وتبطل الصَّلاة.
لكن إذا كان في نفل خرج وأجابهما، بخلاف إجابة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة لمن دعاه؛ فإنها كانت واجبة -: نص عليهِ أحمد، وقال: لاتبطل بها الصَّلاة.
وكذلك قاله إسحاق بن راهويه، وذكر أن ذلك من خصائص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليست لأحد بعده.
وكذلك هو الصحيح من مذهب الشافعي وأصحابه.
واستدلوا بأن المصلي يقول في صلاته: ((السلام عليك أيها النبي)) ، ولو خاطب بذلك غيره لبطلت صلاته.
ولو قيل بوجوب إجابة الأم في الصلاة، وأنها لاتبطل بها الصلاة، لم يبعد، وهو ظاهر قول مكحول والأوزاعي، كما سبق.
وكذا قال الأوزاعي في تحذير الضرير والصبي في الصلاة من الوقوع في بئر ونحوها: أنه لاباس به.
وفي الحديث: دليل على استجابة دعاء الأم على ولدها.
قال بعض(9/320)
السلف: يستجاب دعاؤها عليه، وإن كانت ظالمة.
وفي حديث أبي هريرة المرفوع: ((ثلاث دعوات تستجاب، لاشك فيهن)) – فذكر منها: ((ودعوة الوالدين على ولدهما)) .
وعن ابن مسعود، قال: ثلاث لاترد دعوتهم: الوالد، والمظلوم، والمسافر.(9/321)
8 - باب
مسح الحصى في الصلاة(9/322)
1207 - حدثنا أبو نعيم: ثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، قال: حدثني معيقيب، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الرجل يسوي التراب حين يسجد، قال: ((إن كنت فاعلا فواحدة)) .
وخرجه مسلم، من طريق شيبان.
وخرجه –أيضا - من طريق هشام الدستوائي، عن يحيى –هو: ابن أبي كثير -، ولفظ حديثه: ذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسح في المسجد – يعني: الحصى -، قال: ((إن كنت لابد فاعلا فواحدة)) .
وفي رواية له، بهذا الإسناد، أنهم سألوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المسح في الصلاة، فقال: ((واحدة)) .
وفي الباب: عن جماعة من الصحابة، لم يخرج منه في ((الصحيح)) غير حديث معيقيب.
قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم.
يعني: على كراهة مسح الحصى، والرخصة في المرة الواحدة منه.
وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في مس الحصى في الصَّلاة.(9/322)
وكان ابن عمر يصلي فيمسح الحصى برجليه.
وروي عن ابن مسعود، أنه يسويه مرة واحدة إذا سجد.
وكان أبو هريرة وأبو ذر يرخصان في مسحة مرة واحدة.
وكان مالك لا يرى بالشيء الخفيف بأساً.
وكره ذلك الأوزاعي وأصحاب الرأي.
وقال أصحاب الرأي: لا بأس به مرة، وتركه أحب إلينا.
وكان عثمان بن عفان وابن عمر يمسحان الحصى لموضع السجود، قبل إن يدخلا في الصلاة.
قال ابن المنذر: هذا أحب إليّ، ولا يخرج أن مسحه مرة؛ لحديث معيقيب، وتركه أفضل. انتهى.
ورويت كراهيته عن علي وابن مسعود وابن عباس.
وعن ابن عمر، قال: هو من الشيطان.
ورخص فيه مرة واحدة أبو عبد الرحمن السلمي.
وهو قول سفيان الثوري.
وقال ليث بن أبي سليم: سمعت العلماء يقولون: تحريك الحصى ومسحه في الصلاة أذى للملكين.
وقد روي في سبب كراهيته: إن الرحمة تواجه المصلي، فإذا أزال ما(9/323)
يواجهه من التراب والحصى، فقد أزال ما فيه الرحمة والبركة.
فروى الزهري، عن أبي الأحوص، عن أبي ذر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى؛ فإن الرحمة تواجهه)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي.
وقال: حديث حسن.
وأبو الأحوص هذا، ضعفه ابن معين وغيره.
وروى ابن المبارك في ((كتابه)) عن الأوزاعي، عن هارون بن رئاب، قال: قال ابن مسعود: إن الأرض لتزين للمصلى، فلا يمسحها أحدكم، فإن كان ماسحها لامحالة فمرة مرة، ولأن يدعها خير له من مائة ناقة للنقلة.
واعلم؛ أن مسح الحصى في الصَّلاة يكون على وجهين:
أحدهما: أن يكون عبثاً محضاً لغير وجه، فهذا مكروه؛ لأن العبث في الصلاة مكروه، كما يكره ذلك في حال استماع الخطبة.
وفي الحديث الصحيح: ((ومن مس الحصى فقد لغا)) .
فإن كانت الرخصة في المرة(9/324)
الواحدة من هذا النوع، فيشبه أن يكون معناه: أن المرة الواحدة تقع عن سهو وغفلة، والمعاود إنما يكون عن تعمد وقصد، كما قالَ في نظر الفجأة: ((إن لك الأولى، وليست لك الأخرى)) .
ويشهد لهذا: ما خرجه الإمام أحمد من رواية شرحبيل بن سعد، عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لإن يمسك أحدكم يده عن الحصى خير له من مائة ناقة، كلها سود الحدقة، فإن غلب أحدكم الشيطان فليمسح مسحة واحدة)) .
وشرحبيل، مختلف في أمره.
ورأى سعيد بن المسيب رجلا يعبث بالحصى، فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.
الوجه الثاني: أن يكون عن حاجة إليه، مثل أن يشتد حر الحصى، فيقلبه ليتمكن من وضع جبهته عليه في السجود، أو يكون فيه ما يؤذيه(9/325)
السجود عليه، فيصلحه ويزيله، فهذا يرخص فيه بقدر ما يزول به الأذى عنه، ويكون ذلك مرة واحدة.
قال أحمد: لا بأس بتسوية الحصى إن اضطر.
وروى الأثرم بإسناده، عن ابن مسعود، أنه ركع، ثم سجد فسوى الحصى، ثم تقبطه بيده.
وروى الزبرقان بن عبد الله بن عمرو بن أمية، عن أبي سلمة، عن جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسوى الحصى.
وهذا غريب جداً.
وقريب من هذا: ما خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث جابر، قال: كنت أصلي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[الظهر] ، فأخذ قبضة من الحصى؛ لتبرد في كفي اضعها لجبهتي اسجد عليها لشدة الحر.
وزعم أبو بكر الأثرم: أن الرخصة في المرة الواحدة ناسخة للنهي المطلق.
وفيه نظر.
ومذهب مالك: يكره أن ينقل الحصى من موضع الظل إلى موضع(9/326)
الشمس، فيسجد عليه، ولا يكره أن يسجد على ثوبه في الحر.
واستدل بعض من قال: إنه لايرخص في الصلاة في أكثر من عمل واحدة، كخطوة أو ضربة، بهذا الحديث.
وإنما يدل هذا الحديث على كراهة ما زاد على المرة الواحدة، حيث كان لا يحتاج إلى الزيادة على ذلك، فإن تسوية الحصى المقصود منه - غالباً – بمرة واحدة، وهذا خلاف ما يحتاج منه إلى زيادة على المرة الواحدة، كالمشي والضرب ونحوهما، وبذلك يجمع بين النصوص كلها في هذا الباب.(9/327)
9 - باب
بسط الثوب في الصلاة للسجود(9/328)
1208 - حدثنا مسدد: ثنا بشر: ثنا غالب، عن بكر بن عبد الله، عن أنس بن
مالك، قال: كنا نصلي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شدة الحر،، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن وجهه من الأرض بسط ثوبه، فسجد عليه.
وقد خرجه - فيما تقدم - من هذا الوجه - أيضا - في ((أبواب اللباس في
الصَّلاة)) ، وسبق الكلام هناك عليه مستوفى.
وإنما المقصود منه: أنه إذا شق عليه السجود على الأرض من شدة حرها، جاز له أن يبسط ثوبه في صلاته في الأرض، ثم يسجد عليه، ولا يكون هذا العمل في الصلاة مكروها؛ لأنه عمل يسير لحاجة إليه؛ فإن السجود على الحصى الشديد حره يؤذي ويمنع من كمال الخشوع في الصلاة، وهو مقصود الصلاة الأعظم.(9/328)
10 - باب
ما يجوز من العمل في الصلاة
فيه حديثان:
الأول:(9/329)
1209 - نا عبد الله بن مسلمة: نا مالك، عن أبي النضر، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت: كنت أمد رجلي في قبلة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهويصلي، فإذا سجد غمزني فرفعتها، فإذا قام مددتها.
قد تقدم هذا الحديث في غير موضع.
والمقصود منه هاهنا: أن غمز المصلي امرأته النائمة بين يديه في صلاته جائز.
وقد روي، أن غمزها كان برجله، وهذا عمل يسير في الصلاة؛ لحاجة إليه، وهو إخلاء موضع السجود؛ ليتمكن من السجود فيهِ.
وقد كانَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطيل السجود في صلاة الليل.
وقد تقدم ذكر ذلك كله.
وقولها: ((فإذا سجد غمزني)) يدل على أنه كان يتكرر ذلك منه كلما سجد في كل ركعة، فكان يفعله في كل ركعة مرة عند سجوده، ولم تكن تمدها حتى يقوم إلى الركعة الأخرى، فما دام ساجداً او جالساً بين السجدتين فرجلاها مكفوفة، فإذا قام وقرأ في الركعة الأخرى مدت(9/329)
رجلها في قبلته حتى يسجد.
الحديث الثاني:(9/330)
1210 - نا محمود –هو: ابن غيلان -: نا شبابة: نا شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه صلى صلاة، فقال: ((إن الشيطان عرض لي، فشد علي ليقطع الصلاة، فامكنني الله منه، فذعته، ولقد هممت أن اوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه، فذكرت قول سليمان: {رَبِّ....هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأحد مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] ، فرده الله خاسئاً.
معنى ((دعته)) : دفعته دفعاً عنيفاً، ومنه قول تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} [الطور:13] .
ويقال: ((دعته)) بالدال المهملة وبالذال المعجمة -: ذكره في ((الجمهرة)) .(9/330)
وفي بعض نسخ ((كتاب الصحيح)) :
قال النضر بن شميل: ((فذعته)) – [بالذال] – أي: خنقته، [و ((فدعته)) ] من قول الله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ} [الطور: 13] أي: يدفعون، والصواب: ((فدعته)) ، إلا أنه كذا قال بتشديد العين والتاء.
وقال الخطابي: ((الذعت)) : شدة الخنق، ويقال: ذعت وسات إذا خنق، انتهى.(9/331)
ويقال: لاتصح رواية من رواه ((دعته)) بالدال المهملة وتشديد الدال، فإنه لو كان من الدع كان أصله دعته، وتدغم العين في التاء.
وخرجه مسلم من طريق شعبة، بمعناه - أيضا.
وخرج الإمام أحمد بإسناد جيد، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام فصلى صلاة الصبح، فالتبست عليه القراءة، فلنا فرغ من الصلاة قال: (( [لو] رأيتموني وإبليس، فأهويت بيدي، فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين - الإبهام والتي تليها -، ولولا دعوة أخي سليمان، لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة)) .
وفي هذا الحديث من العلم: أن دفع المؤذي في الصلاة جائز، وإن لم يندفع إلا بعنف وشدة دفع جاز دفعه بذلك.
وقد سبق في دفع المار بين يدي المصلي، أنه ((إن أبى فليقاتله؛ فإنه شيطان)) .
وهذا إذا كانَ أذاه يختص بالصلاة كالمار، والشيطان الملهي عن الصَّلاة وكذلك إن كانَ أذاه لايختص بالصلاة كالحية والعقرب.(9/332)
وروى يحيى بن أبي كثير، عن ضمضم بن جوس، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتل الأسودين في الصلاة: الحية والعقرب.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي.
وقال: حسن صحيح.
وضمضم هذا، يمامي، قال أحمد: ليس به بأس، ووثقه ابن معين والعجلي.
وأخذ أكثر العلماء بهذا الحديث، ورخصوا في قتل الحية والعقرب في الصلاة، منهم: ابن عمر، والحسن، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم.
وكرهه النخعي خاصة، ولعل السنة لم تبلغه في ذلك.(9/333)
وقال سفيان: لابأس أن يقتل الرجل – يعني: في صلاته – الحية والعقرب والزنبور والبعوضة والبق والقمل، وكل ما يؤذيه.
وقد سبق القول في قتل القمل في الصلاة وفي المسجد في ((باب: دفن النخامة في المسجد)) وذكرنا هناك الاختلاف في كراهة قتل القمل في المسجد ودفنه فيه، وإلقائه
فيه.
ومذهب مالك: أنه يقتلها في صلاته، بل إن كان في غير المسجد ألقاها، وإن كان في المسجد لم يلقها فيه، ولم يقتلها.
وكذلك كره قتل القملة في الصلاة: الليث وأبو يوسف.
وقال الأوزاعي: تركه احب الي.
ولم يكرهه الحسن وأبو حنيفة ومحمد وإسحاق وأكثر أصحابنا.
وفي الحديث: دليل على إمكان ربط الشيطان وحبسه وإيثاقه، وعلى جواز ربطه في المسجد، كما يربط الأسير فيه، وعلى جواز رؤية غير الأنبياء للجن والشياطين، وتلاعب الصبيان بهم.
وأما قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] فإنه خرج على الأعم الأغلب، وليس المراد به نفي إمكان رؤيتهم.
وقد ظن بعض الناس، أنه دال على ذلك، فقال: من ادعى رؤيتهم [فسق] .(9/334)
وقد رآهم أبو هريرة وغيره من الصحابة، وستأتي الأحاديث بذلك متفرقة في أماكنها – إن شاء الله تعالى.(9/335)
11 - باب
إذا انفلتت الدابة في الصلاة
وقال قتادة: إن أخذ ثوبه يتبع السارق ويدع الصلاة.
وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) ، عن معمر، عن الحسن وقتادة، في رجل كان يصلي، فأشفق أن تذهب دابته أو أغار عليها السبع؟ قالا: ينصرف.
وعن معمر، عن قتادة، قالَ: سألته، قلت: الرجل يصلي فيرى صبياً على بئر، يتخوف أن يسقط فيها، أفينصرف؟ قال: نعم. قلت: فيرى سارقاً يريد أن يأخذ
نعليه؟ قال: ينصرف.
ومذهب سفيان: إذا عرض الشيء المتفاقم والرجل في الصلاة ينصرف إليه.
رواه، عنه المعافى.
وكذلك إن خشي على ماشيته السيل، أو على دابته.
ومذهب مالك؛ من انفلتت دابته وهو يصلي مشى فيما قرب، إن كانت بين يديه، أو عن يمينه أو عن يساره، وإن بعدت طلبها وقطع الصَّلاة.
ومذهب أصحابنا: لو رأى غريقاً، أو حريقاً، أو صبيين يقتتلان، ونحو(9/336)
ذلك، وهو يقدر على إزالته قطع الصلاة وأزاله.
ومنهم من قيده بالنافلة.
والأصح: أنه يعم الفرض وغيره.
وقال أحمد – فيمن كان يلازم غريماً له، فدخلا في الصلاة، ثم فر الغريم وهو في الصلاة -: يخرج في طلبه.
وقال أحمد - أيضا -: إذا رأى صبياً يقع في بئر، يقطع صلاته ويأخذه.
قال بعض أصحابنا: إنما يقطع صلاته إذا احتاج إلى عمل كثير في أخذه، فإن كان العمل يسيراً لم تبطل به الصلاة.
وكذا قال أبو بكر في الذي خرج ورأى غريمه: إنه يعود ويبني على صلاته.
وحمله القاضي على أنه كان يسيراً.
ويحتمل أن يقال: هو خائف على ماله، فيغتفر عمله، وإن كثر.
خرج البخاري في هذا الباب حديثين:
الأول - وهو موقوف -:(9/337)
1211 - ثنا آدم: ثنا شعبة: ثنا الأزرق بن قيس، قال: كنا بالأهواز نقاتل الحرورية، فبينا أنا على حرف نهر، إذا رجل يصلي، وإذا لجام دابته بيده، فجعلت الدابة تنازعه، وجعل يتبعها – وقال شعبة: هو أبو برزة(9/337)
الأسلمي -، فجعل رجل من الخوارج يقول: اللهم، افعل بهذا الشيخ، فلما انصرف الشيخ، قال: إني سمعت
قولكم، وإني غزوت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ست غزوات – أو سبع غزوات أو ثمانياً -، وشهدت تيسيره، وإني إن كنت أرجع مع دابتي أحب الي من أن ادعها ترجع إلى
مألفها، فيشق علي.
فهذا موقوف على أبي برزة، وفيه: ما يشعر [بتوبيخ] من رفع؛ لقوله: ((شهدت تسير النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) .
والمعنى: أنه شاهد من تيسيره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما استدل به على أن هذا العمل في الصلاة غير مضر بالصلاة.
وقد تقدم أن الإمام أحمد قالَ: إذا فعل في صلاته كفعل أبي برزة فصلاته
جائزة.
ومتى كان يخاف من ذهاب دابته على نفسه، فحكمه حكم الخائف، فلا يبطل عمله في الصلاة لتحصيل دابته، وإن كثر.
وقد خرج البخاري حديث أبي برزة في ((الأدب)) من ((صحيحه)) هذا، من طريق حماد بن زيد، عن الأزرق، به، وفي حديثه: فانطلقت الفرس،(9/338)
فخلى صلاته واتبعها، حتى أدركها، فأخذها، ثم جاء فقضى صلاته.
والظاهر: أن المراد بترك صلاته ترك العمل فيها، اشتغالا بطلب الفرس، ثم جاء فبنى على مامضى من صلاته.
الثاني:(9/339)
1212 - نا محمد بن مقاتل: نا عبد الله: أنا يونس، عن الزهري، عن عروة، قال: قالت عائشة: خسفت الشمس، فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقرأ سورة طويلة، ثم ركع فأطال، ثم رفع رأسه، ثم استفتح سورة أخرى، ثم ركع حين قضاها وسجد، ثم فعل ذلك في الثانية، ثم قال: ((إنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتم ذلك، فصلوا حتى يفرج عنكم، لقد رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدته، حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفاً من الجنة، حين رأيتموني أتقدم، ولقد رأيت جهنم، يحطم(9/339)
بعضها بعضاً، حين رأيتموني تأخرت، ورأيت فيها عمرو بن لحي، وهو الذي سيب السوائب)) .
في هذا السياق: ما يستدل به على أنه لم يقرإ الفاتحة في قيامه الثاني من كل
ركعة.
وفيه: أن الناس في حال الكسوف في كربة وشدة تحتاج إلى التفريج.
وفيه: أنه تقدم وتأخر في صلاته، وأنه أخبر أن سبب تقدمه أنه أراد أن يأخذ قطفاً من الجنة، وأن سبب تأخره قرب جهنم فتباعد عنها.
وقد سبق القول في المشي في الصلاة والتقدم والتأخر.
وأما تناول القطف من الجنة، فليس هو من عمل الدنيا، حتى يستدل به على تناول الحاجات في الصلاة، وإنما هو من أمور الآخرة، وكذلك الاشتغال بالنظر إليه في الصلاة، وقد سبق ذكر هذا المعنى.
ولكن في ((مصنف عبد الرزاق)) عن ابن جريج، عن إسماعيل بن أمية، أن إنساناً قدم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهدية، فأخذها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في الصلاة.
وهذا مرسل.(9/340)
12 - باب ما يجوز من البصاق والنفخ في الصلاة
ويذكر عن عبد الله بن عمرو: نفخ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سجوده في الكسوف.
حديث عبد الله بن عمرو هذا، هو من رواية عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو هذا، قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقام
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الصلاة - فذكر الحديث إلى أن قال -: فجعل ينفخ في آخر سجوده من الركعة الثانية، ويبكي ويقول: ((لم تعدني هذا وأنا فيهم، لم تعدني هذا ونحن نستغفرك)) - وذكر باقي الحديث.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في
((صحيحهما)) .(9/341)
وعطاء بن السائب، ثقة، تغير بآخرة.
وخرج الإمام أحمد من حديث مجالد، عن الشعبي، عن المغيرة بن شعبة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في الصلاة، فجعل ينفخ بين يديه، ثم مد يده كأنه يتناول شيئاً، فلما انصرف قال: ((إن النار أدنيت مني، حتى نفخت حرها عن وجهي)) .
ومجالد، فيه ضعيف.
خرج في هذا الباب حديثين:
الأول:(9/342)
1213 - ثنا سليمان بن حرب: ثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى نخامة في قبلة المسجد، فتغيظ على أهل المسجد، وقال: ((إن الله قبل أحدكم إذا كان في صلاته، فلا يبزقن)) – أو قال: ((لايتخمن)) -، ثم نزل فحتها بيده.
وقال ابن عمر: إذا بزق أحدكم فليبزق عن يساره.(9/342)
وقد خرجه في ((أبواب القبلة)) من حديث مالك، عن نافع – مختصراً.
الثاني:(9/343)
1214 - حدثنا محمد: ثنا غندر: ثنا شعبة، قال: سمعت قتادة، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا كان أحدكم في الصلاة، فإنه يناجي ربه، فلا يبزقن بين يديه، ولا عن يمينه، ولكن عن شماله، تحت قدمه اليسرى)) .
وقد خرجه – فيما تقدم -، عن آدم، عن شعبة.
ومقصوده: الاستدلال بإباحة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البزاق والتنخم في الصلاة، على أن النفخ ونحوه كالنحنحة لايبطل الصلاة؛ لأن للتنخم صوتاً كالتنحنح، وربما كانَ معه نوع من النفخ عندَ القذف بالنخامة.
وقد سبق أن ابن عبد البر ذكر مثل ذلك.
وقد اختلف العلماء في النفخ في الصلاة: هل هو كلام يبطلها إذا تعمده، أم لا؟
فقالَ طائفة: هوَ كلام.
قال ابن المنذر: كرهه ابن مسعود وابن عباس.
وروي عن ابن(9/343)
عباس وأبي هريرة، أنه بمنزلة الكلام، ولا يثبت عنهما.
كذا قال، وليس كما قال، فقد روى الأعمش والحسن بن عبيد الله أبو عروة النخعي – وهو ثقة خرج له مسلم – كلاهما، عن أبي الضحى، عن ابن عباس، قال: النفخ في الصلاة كلام.
وقد خرجه وكيع في ((كتابه)) والإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله، عنه في
((مسائله)) .
وفي رواية له: النفخ في الصلاة يقطع الصلاة.
وخرجه الجوزجاني، وعنده: النفخ في الصلاة أخشى أن يكون كلاماً.
وأما المروي عن أبي هريرة، فمن طريق قيس، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: النفخ في الصلاة كلام.
خرجه عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه في ((مسائله)) .
وقيس، هو: ابن الربيع.(9/344)
وروي عن النخعي، أنه قال: هو كلام.
وروي عنه -[أيضا]-، قال: إنما كانوا يكرهونه في الصلاة مخافة أن يؤذي الرجل جليسه.
وعن سعيد بن جبير، قال: هو بمنزلة الكلام.
وممن رأى أنه بمنزلة الكلام في إبطال الصلاة: أبو حنيفة ومحمد بن الحسن والثوري والشافعي وأصحابه وأحمد – في رواية – وابن القاسم المالكي، وعن أبي يوسف روايتان:
أحداهما: أن أراد به التافيف فهو كلام.
والثانية: ليس بكلام بكل حال، وهي التي رجع إليها.
وكرهه ابن سيرين ويحيى بن [أبي كثير] ، من غير إفساد الصلاة به.
وهو قول مالك وأحمد –في رواية - وإسحاق وسليمان بن داود الهاشمي وأبي خيثمة.
وقال أحمد –مرة -: أخشى أن يكون قد فسدت صلاته؛ يروى عن ابن عباس: من نفخ في صلاته فقد تكلم.(9/345)
فحكى أكثر أصحابنا المتقدمين عن أحمد في ذلك روايتين.
وأما القاضي أبو يعلى وأصحابه، فنزلوهما على حالين، قالوا: إن بأن منه حرفان فهو كلام مبطل الصلاة، وإلا فلا.
ولايعرف هذا التفصيل عن أحمد، ولاعن غيره ممن تقدم، سوى الشافعي وأصحابه، وهو قول أبي ثور.
واستدلوا بأن الكلام عند العرب ما دل على معنى، وأقله حرفان.
ولكن الكلام المقصود يدل على معناه الموضوع له بالوضع، ودلالة النفخ والتأوه ونحو ذلك إنما هوَ بالطبع لا بالوضع، فليس في شيء من ذَلِكَ حروف موضوعة للدلالة على معنى خاص.
وقال الحسن: إذا رأيت ما يريبك - يعني في الصَّلاة - فانفخ.
وهذا يدل على اباحته للحاجه إليه.
وروي - أيضا - مثله عن بعض الصحابة. وفي الباب: حديث مرفوع، عن أم سلمة، اختلف في إسناده ولفظه: فروي عنبسه بن الأزهر، عن سلمة بن كهيل، عن كريب، عن أم سلمة، قالت: مر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغلام لهم وهو يصلي فنفخ في سجوده، فقالَ: ((لاتنفخ؛ إن من نفخ فقد تكلم)) خرجه النسائي. وهو مما تفرد به عنبسة هذا.
وقد قال فيه ابن(9/346)
معين وأبو داود وأبو حاتم: لابأس به.
لكن قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به.
وذكره ابن حبان في ((ثقاته)) ، وقال: كان يخطىء.
وخرج الترمذي من حديث ميمون أبي حمزة، عن أبي صالح، عن أم سلمة، قالت: رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غلاما لنا، يقال له: أفلح، إذا سجد نفخ، فقال له: ((أفلح، ترّب وجهك)) .
وقال: إسناده ليس بذاك، وميمون أبو حمزة، ضعفه أهل العلم.
وخرجه الإمام أحمد – أيضا.
وميمون الأعور أبو حمزة، قال أحمد: متروك.
ولكنه توبع عليهِ:
فخرجه الإمام أحمد من طريق سعيد أبي عثمان الوراق، عن أبي صالح، قال: دخلت على أم سلمة – فذكرالحديث مرفوعا، وفيه: ((ترب وجهك لله)) .(9/347)
وخرجه ابن حبان في ((صحيحه)) من طريق عدي بن عبد الرحمن، عن داود بن أبي هند، عن أبي صالح مولى آل طلحة بن عبيد الله، قال: كنت عند أم سلمة –فذكر الحديث.
كذا في الرواية: ((أبو صالح مولى آل طلحة)) ، وجاء في رواية، أنه: ((مولى أم سلمة)) .
قال أبو زرعة الدمشقي في ((تاريخه)) : أبو صالح مولى أم سلمة، يحدث عنها في كراهة نفخ التراب في السجود، اسمه: زاذان. انتهى.
وهو مع هذا غير مشهور.
والحديث بهذا اللفظ: يدل على أن النفخ ليس بكلام، وإنما يكره نفخ التراب عن موضع السجود؛ لأنه يمنع تتريب الجبهة في السجود، والأفضل للساجد أن يترب وجهه لله، ولهذا كانَ سجوده على التراب افضل من سجوده على حائل بينه وبين التراب.
وفي كراهة النفخ في الصلاة أحاديث أخر مرفوعة، لا تصح.
وقد سبق في ((باب: من لم يمسح جبهته وأنفه حتى صلى)) في ذلك حديث مرفوع، من رواية بريدة، وبيان علته.(9/348)
13 - باب
من صفق جاهلاً من الرجال في صلاته
لم تفسد صلاته
لم يخرج فيه شيئاً.
وفيه: حديث سهل بن سعد وقد خرجه فيما تقدم.
ومجرد التصفيق ليس مما يبطل الصلاة، إنما يبطل الإكثار منه.
وفي الحديث: أنهم أكثروا التصفيق حتى التفت أبو بكر، ولم يكونوا يعلمون أن التصفيق
منهى عنه الرجال في الصلاة.(9/349)
14 - باب
إذا قيل للمصلي: تقدم أو انتظر، [فانتظر]
فلا بأس(9/350)
1215 - حدثنا محمد بن كثير: نا سفيان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: كانوا يصلون مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم عاقدوا أزرهم من الصغر على رقابهم، فقيل للنساء: ((لاترفعن رءوسكن حتى يستوي الرجال جلوساً)) .
الظاهر: أن البخاري حمل الحديث على أن النساء قيل لهن ذلك في نفس الصلاة.
وقد أنكر ذلك الإسماعيلي، وقال: إنما تقدم إليهم بذلك قبل الصلاة؛ لما علم من ضيق أزر الرجال، فليس الحديث مما ترجم عليهِ.
قلت: ولو خرج في الباب إشارة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته إلى الذين صلوا وراءه قياماً - وكان هو قاعداً -: أن اجلسوا، إذ أشار به لأبي بكر، وهو يصلي بالناس، أن اثبت مكانك، في حديث مرضه؛ وفي حديث اصلاحه بين بني عوف، لكان دليلاً على ما بوب عليهِ.(9/350)
وحاصل الأمر: أن أمر المصلي بما فيهِ مصلحة لصلاته غير مكروه، وأما أمره بما ليس من الصَّلاة فيكره.
ذكر عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قال إنسان لعطاء: يأتيني إنسان وأنا في المكتوبة، فيخبرني الخبر، فأستمع إليه؟ قالَ: ما أحبه، وأخشى أن يكون سهواً، إنما هي المكتوبه، فتفرغ لها حتَّى تفرغ منها.
قال: فقلت لعطاء: أفتكره كل شيء من الإيماء في المكتوبة، حتى إن مر بي إنسان وأنا في المكتوبة، [إذا جاء رجل] ، فقال: صليت الصلاة، كرهت أن أشير إليه برأسي؟ قالَ: نعم، أكره كل شيء من ذَلِكَ.
فقيل له: أفعل ذلك في التطوع؟ قالَ: إن كانَ شيء لابد منه، وأحب أن لايفعل.
وسيأتي ذكر إشارة المصلي والسلام عليهِ – إن شاء الله تعالى.
وقد بوب البخاري – فيما بعد -: ((باب: إذا كُلّم وهو يصلي فأشار بيده، أو
يستمع)) ، وسيأتي في موضعه – إن شاء الله تعالى.
وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) ، عن معمر، عن ثابت البناني، عن أبي رافع، قال: رأيت أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن أحدهم ليشهد على الشهادة وهو قائم
يصلي.(9/351)
15 - باب
لا يرد السلام في الصلاة
فيه حديثان:
الأول:(9/352)
1216 - حدثنا عبد الله بن أبي شيبة: ثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن
إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: كنت أسلم علي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في الصلاة، فيرد علي، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمت عليه، فلم يرد علي، وقال: ((إن في الصلاة لشغلا)) .
قد سبق هذا الحديث، مع الكلام على إسناده.
والمقصود منه في هذا الباب: أن المصلي لا يرد السلام على من سلم عليه؛ لاشتغاله بما هوَ فيهِ من الإقبال على مناجاة الله عز وجل، فلا ينبغي لهُ أن يتشاغل بغيره، ما دام بين يديه.
الثاني:(9/352)
1217 – ثنا أبو معمر: ثنا عبد الوارث: ثنا كثير بن شنظير، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر، قال: بعثني النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حاجة له، فانطقت، ثم رجعت وقد
قضيتها، فأتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسلمت عليه، فلم يرد علي، فوقع في قلبي ما الله أعلم به، فقلت في نفسي: لعل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجد علي أني أبطات عليه، ثم سلمت عليه، فلم يرد علي، فوقع في قلبي أشد من المرة الأولى، ثم سلمت عليه، فرد علي، فقال: ((إنما منعني أن أرد عليك، أني كنت أصلي)) ، وكان على راحلته متوجها إلى غير القبلة.
وقد دل هذان الحديثان على مسائل:
منها:
أن المصلي إذا سلم عليه في الصلاة، لم يرد السلام بقوله، وهذا قول جمهور أهل العلم.
وذهب طائفة إلى أنه يجوز أن يرد السلام بقوله، روي ذلك عن أبي هريرة.
وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وقتادة.
وقال عطاء: يرد عليه إذا كان جالسا في التشهد الأخير.
وهذا مبني على قوله: إن المصلي يخرج من صلاته بدون السلام، كما سبق.(9/353)
وقد نقل يونس بن عبد الأعلى، عن الشافعي: أن المصلي يشمت العاطس، يقول له: يرحمك الله.
وقال: هو دعاء له؛ وقد دعا النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته لقوم، ودعا على آخرين.
وقياس هذا: أنه يرد عليهِ السلام؛ لأنه دعاء لهُ –أيضا.
ولا يقال: الدعاء لمعين لايكون إلا على وجهة الخطاب لهُ؛ فإنه قد ورد ذلك على وجه الخطاب للمعين، كما يقول المصلي في تشهده: ((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)) .
وفي ((صحيح مسلم)) ، عن أبي الدرداء، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في صلاته للشيطان الذي تفلت عليه: ((أعوذ بالله منك، ألعنك بلعنة الله)) – ثلاثا.
ومتى كان رد السلام بدون لفظ الخطاب، مثل أن يقول: ((عليه السلام)) أو
((يرحمه الله)) لم تبطل الصلاة به عند الشافعية وغيرهم، كالدعاء لمعين في الصلاة.
وقد سبق ذكره والاختلاف فيه.
والصحيح: الأول؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امتنع من رد السلام في الصَّلاة، وعلل بأنه يصلي، فدل على أن الصَّلاة تمنع من ذَلِكَ.
وقد نهى معاوية بن الحكم عن تشميت العاطس، وقال له: ((إن صلاتنا هذه لايصلح فيها(9/354)
شيء من كلام الآدميين)) .
وأما السلام على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمخصوص من بين الناس؛ لأن خطابه في الصَّلاة لم يكن مبطلا، كما سبق ذكره.
ومنها:
أن المصلي لايرد على المسلم في صلاته بالإشارة، ولا بعد سلامه.
فإنه ليس في حديث ابن مسعود، أنه رد عليه بالكلية، ولا في حديث جابر، أنه رد عليهِ بعد سلامه، إلا لما سلم عليه حينئذ.
وقد اختلف العلماء في رد المصلي للسلام عليه.
فقالت طائفة: يرد في الصلاة بالإشارة، روي عن ابن عمر.
وروي عن ابن مسعود من وجه منقطع.
[و] هو قول مالك والحسن بن حي والشافعي وأحمد وإسحاق.
وروي عن ابن عباس، أنه رد على من سلم عليهِ في صلاته، وقبض على يده.
وعن أحمد، أنه يرد بالإشارة في النفل، دون الفرض.
وحكي عنه(9/355)
رواية أخرى: لا يرد في نفل ولا فرض، بإشارة ولا غيرها.
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
وعلى هذا: فالسلام لايجب رده بحال؛ لأنه مكروه، كما سيأتي ذكره، فلا يستحق رداً.
وقال طائفة: يرد إذا سلم من الصلاة، وهو قول عطاء والنخعي والثوري.
قال النخعي: إن كان قريباً يرد، وإن كان قد ذهب فأتبعه السلام.
وقال إسحاق: هو مخير بين أن يفعل به – كما قال النخعي -، وبين أن يرد في الصلاة بالإشارة.
وقال أصحابنا: هو مخير بين الرد بالإشارة في الصلاة، والتأخير حتى يسلم، والأول أفضل.
قالوا: لأن للتأخير آفات، منها: النسيان، ومنها: ذهاب المسلم.
وظاهر هذا: أنه إن أخر الرد حتى سلم، وكان المسلم قد مضى لم يرد عليه.
واستدل من قال: لايرد بإشارة ولا غيرها، لافي الصلاة ولا بعدها، بحديث ابن مسعود؛ فإن ظاهره: أنه لم يرد عليهِ في الصَّلاة، ولا بعدها.
واستدل من قالَ: يؤخر الرد، بما روى عاصم، عن أبي وائل، عن(9/356)
ابن مسعود، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد عليهِ السلام بعد السلام.
خرجه أحمد وأبو داود.
وعاصم، هو: ابن أبي النجود، وليسي بذاك الحافظ.
وخرجه أبو يعلى الموصلي، من وجه آخر منقطع.
وخرجه عبد الرزاق في ((كتابه)) من وجه آخر منقطع – أيضا.
واستدل من قال: يرد في صلاته بالإشارة، بما روى محمد بن الصلت التوزي: ثنا عبد الله بن رجاء، عن هشام بن حسان، عن(9/357)
محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن ابن مسعود، قال: لما قدمت من الحبشة، أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو يصلي، فسلمت عليه، فأشار إلي.
خرجه الطبراني وغيره.
وقد أنكر ابن المديني وصله بذكر أبي هريرة، وقال: إنما هو عن ابن سيرين، أن ابن مسعود.
يعني: أنه مرسل.
وكذا رواه وكيع في ((كتابه)) ، عن ابن عون، عن ابن سيرين، قال: لما قدم عبد الله من الحبشة، أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي، فسلم عليه، فأومأ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأشار برأسه – بنحوه، وقال فيه: فأومأ برأسه، أو قال: فأشار برأسه.
وخرجه أبو داود في ((مراسيله)) من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين.
وخرجه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين مرسلا – أيضا -، ولكن قال في حديثه: فلم يرد عليه حتى انفتل. وقال: ((إن في الصلاة لشغلاً)) .
وخرج مسلم من حديث أبي الزبير، عن جابر، قال: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(9/358)
بعثني لحاجة، ثم أدركته وهو يسير – وفي رواية له: [يصلي]-، فسلمت عليه، فأشار إلي، فلما فرغ دعاني، فقال: ((إنك سلمت علي آنفاً، وأنا أصلي)) ، وهو موجه حينئذ قبل المشرق.
ويحتمل أنه إنما أشار إليه ليكف عن كلامه حينئذ، لم يكن رداً للسلام؛ ولهذا قالَ جابر: فلم يرد علي، وذكر أنه وجد في نفسه ما الله به عليم، ولو علم أنه رد عليهِ بالإشارة لم يجد في نفسه.
وفي رواية للنسائي: سلمت عليه، فأشار بيده، ثم سلمت فأشار بيده، فانصرفت، فناداني: ((ياجابر)) ، فأتيته، فقلت: يا رسول الله، أني سلمت عليك، فلم ترد علي؟ فقالَ: ((إني كنت أصلي)) .
ولو كانت إشارته رداً، لقال: قد رددت عليك.
وفي رواية لمسلم: أرسلني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو منطلق إلى بني المصطلق، فأتيته وهو يصلي على بعيره، فقال لي بيده هكذا، ثم كلمته، فقال لي هكذا –وأنا أسمعه
يقرأ، يومئ برأسه -، فلما فرغ قال: ((إنه لم يمنعني أن أكلمك إلا أني كنت أصلي)) .
فهذه الرواية: تدل علي أن إيماءه إليه إنما كان ليكف عن كلامه في تلك الحال.
واستدل من قال: يرد إشارة، بما روى نابل – صاحب العباء -، عن(9/359)
ابن عمر، عن صهيب قال: مررت برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي، فسلمت عليه، فرد علي إشارة.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وحسنه.
وقال: يعقوب بن شيبة: هو صالح الإسناد.
ونابل، قال ابن المديني ويعقوب بن شيبة: هو مديني ليس بالمشهور.
وسئل الدارقطني: أثقة هو؟ فأشار برأسه، أن لا.
وخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه من رواية زيد بن أسلم، عن ابن عمر، عن صهيب، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – معناه.
وقد قيل: إن زيدا لم يسمعه من ابن عمر، وقد سئل عن ذلك فقال: أما أنا فقد كلمته وكلمني، ولم أقل: سمعته.
وممن قال: لم يسمعه من ابن عمر: ابن المديني ويعقوب بن شيبة.(9/360)
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي – نحوه من حديث هشام بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر، عن بلال، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد تكلم فيه ابن المديني ويعقوب بن شيبة؛ لتفرد هشام بن سعد به، وليس بالحافظ جداً.
وروى الليث: حدثني ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، أن رجلا سلم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة، فرد عليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إشارة، فلما سلم قال: ((قد كنا نرد السلام في الصلاة، فنهينا عن ذلك)) .
خرجه الجوزجاني والطبراني والبزار في ((مسنده)) .
وعندي؛ أن هذا يعلل برواية ابن عيينة وغيره، عن زيد بن أسلم، عن ابن
عمر، عن صهيب، كما تقدم.
وابن عجلان ليس بذاك(9/361)
الحافظ.
وروى قيس بن سعد، عن عطاء، عن محمد بن علي، عن عمار، أنه سلم على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي، فرد عليهِ.
خرجه النسائي في ((باب: رد السلام بالإشارة)) .
وخرجه الإمام أحمد، من طريق حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن محمد بن علي - هو: ابن الحنفية -، عن عمار – فذكره.
وخرجه البزار في ((مسنده)) ، وعنده: ((فرد عليه إشارة)) .
وحمله ابن عيينة، على أنه رد عليه بالقول قبل تحريم الكلام، وأن رده انتسخ.
ونقل ابن أبي خيثمة، عن يحيى بن معين، أنه قال: هذا الحديث خطأ.
ورواه ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي، أن عماراً سلم على النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وهذه الرواية مرسلة، وهي أصح.
وكذا رواه عبد الرزاق في ((كتابه)) ، عن ابن جريج، عن عطاء، عن(9/362)
محمد بن علي بن حسين – مرسلاً.
قال ابن جريج: ثم لقيت محمد بن علي بن حسين، فحدثني به.
فتبين بهذا: أن محمد بن علي الذي روى هذا الحديث عن عمار هو أبو جعفر الباقر، وليس هو ابن الحنفية، كما ظنه بعضهم.
وقول ابن معين: إنه خطأ، يشير إلى من قال: ((عن ابن الحنفية)) هو خطأ.
وأما رواية أبي الزبير، عن محمد بن علي: ((هو: ابن الحنفية)) ، فهو ظن من بعض الرواة، فلا نحكم به.
وروايات حماد بن سلمة، عن أبي الزبير غير قوية.
ولعل أبا الزبير رواه عن أبي جعفر – أيضا -، أو عن عطاء، عنه ودلسه.
أو لعل حماد بن سلمة أراد حديث أبي الزبير، عن جابر، أنه سلم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو صلي، فأشار إليه.
ومنها:
أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينه من سلم عليهِ في الصلاة عن السلام عليه.
واستدل بذلك من قال: إنه لا يكره السلام على المصلي، وهو قول ابن عمر ومالك وأحمد وإسحاق – في رواية عنهم – ومروان بن محمد الدمشقي.
وقالت طائفة: يكره، وهو قول جابر بن عبد الله وعطاء والشعبي، الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق – في رواية عنهم.(9/363)
واستدلوا بقوله لابن مسعود: ((إن في الصلاة شغلا)) ؛ فإن في ذَلِكَ إشارة إلى كراهة السلام عيله؛ ولأنه ينشغل [....] المصلي، وربما سهى بسببه فبادر الرد عليهِ.
ومن أصحابنا المتأخرين من قالَ: إن كانَ المصلي عالماً، يفهم كيف يرد عليهِ، لم يكره السلام عليهِ، وإلا كره.
فمن قال: إنه لا يكره السلام على المصلي، فمقتضى قوله: إنه لايستحق
جواباً، ولا يجب الرد عليه.
ومن قال: لايكره، فمنهم من قال: لايستحق جواباً، وإنما يستحب الرد في الحال بالإشارة، وهو قول الشافعية.
وحكى أصحابنا في وجوب الرد روايتين مطلقاً.(9/364)
16 - باب
رفع الايدي في الصلاة لأمر ينزل به(9/365)
1218 - حدثنا قتيبة: حدثنا عبد العزيز، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: بلغ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن بني عمرو بن عوف بقباء، كان بينهم شيء، فخرج يصلح بينهم في أناس من أصحابه.
فذكر الحديث بطوله، وفيه:
أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشار إلى أبي بكر يأمره أن يصلي، فرفع أبو بكر يديه، فحمد الله، ثم رجع القهقرى وراءه، حتى قام في الصف، وتقدم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي للناس، فلما فرغ أقبل علي الناس، فقال: ((ياأيها الناس، مالكم حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم في التصفيح؟ إنما التصفيح للنساء، من نابه شيء في صلاته فليقل: سبحان الله)) ، ثُمَّ التفت إلى أبي بكر، فقالَ: ((يا أبا بكر، ما منعك أن تصلي بالناس حين أشرت إليك؟)) ، فقال أبو بكر الصديق:(9/365)
ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
في الحديث: دليل على جواز رفع الأيدي في الصلاة لمن تجددت له نعمة، فيحمد الله عليها رافعاً يديه؛ فإن هذا فعله أبو بكر بحضرة النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم ينكره، مع أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنكر على الناس التصفيح، وأمرهم بإبداله بالتسبيح، وسأل أبا بكر: ((ما منعك أن تصلي للناس حين أشرت إليك؟)) ولم ينكر عليهِ ما فعله.
وفي رواية، خرجها الإمام أحمد في هذا الحديث، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ لأبي بكر: ((لم رفعت يديك؟)) قالَ: رفعت يدي لأني حمدت الله على ما رأيت منك – وذكر الحديث.
وقد سبق الكلام على أن من تجددت لهُ نعمة في الصَّلاة: هل يحمد الله عليها؟ وأن عبيد الله العنبري استحسنه، وغيره جوزه، وخلاف من خالف في ذلك؛ فإن البخاري بوب على ذلك فيما سبق.
ومراد بهذا الباب: زيادة استحباب رفع الأيدي عند الثناء على الله في الصلاة.
ويعضده: ما خرجه مسلم في ((صحيحه)) من حديث عبد الرحمن بن سمرة، قال: كنت بأسهم لي بالمدينة في حياة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ كسفت الشمس فنبذتها، فقلت: والله، لأنظرن إلى ما حدث لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كسوف الشمس. قال: فأتيته وهو قائم في الصلاة، رافعاً يديه،(9/366)
فجعل يسبح ويهلل ويكبر، ويدعو حتى حسر عنها، فلما حسر عنها قرأ سورتين، وصلى ركعتين.
ويستدل بهذا القول من قال: إنه يرفع يديه في القنوت في الصلاة، وهو قول النخعي والثوري وأحمد وإسحاق ومالك والأوزاعي – في رواية عنهما.
وهو الصحيح عند أكثر أصحاب الشافعي.
ومنهم من قال: يرفعهما أولا لتكبير القنوت، ثم يرسلهما، وهو قول أبي حنيفة والليث بن سعد والحسن بن حي.
وقالت طائفة: لايرفعهما أصلاً.
وروي رفع اليدين في القنوت عن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة.
وخرج الإمام أحمد من حديث أنس، في حديث القراء السبعين الذين قتلهم حي من بني سليم، قال: فما رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجد على شيء قط وجده عليهم، فلقد رأيته كلما صلى الغداة رفع يديه فدعا عليهم.
وإنما كان يدعو عليهم في قنوت الفجر بعد الركوع، كما سبق ذلك صريحاً عن أنس. والله أعلم.(9/367)
17 - باب
الخصر في الصلاة(9/368)
1219 - حدثنا أبو النعمان: ثنا حماد، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة، قال: نهي عن الخصر في الصلاة.(9/368)
1220 - حدثنا عمرو بن علي: حدثنا يحيى: نا هشام: ثنا محمد، عن أبي هريرة، قال: نهي أن يصلي الرجل مختصرا. وقال هشام وأبو هلال، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. حاصل ما ذكره في هذا الباب: أن هذا الحديث اختلف في لفظه على ابن سيرين:
فرواه أيوب، عنه، عن أبي هريرة، قال: ((نهي)) .
ثم خرجه من طريق يحيى القطان، عن هشام، عنه كذلك.
ثم قال: وقال هشام وأبو هلال، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة: نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – فصرحا برفعه.
وقد أشكل هذا على بعضهم، فقال: كيف يخرجه من طريق هشام [ ... ] .
ثم يذكر أن هشاما صرح فيه بذكرالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
وقال بعضهم: إن الحديث في رواية أبي ذر الهروي، من طريق(9/368)
يحيى، عن هشام – مرفوعا، وأنه الصواب.
وهذا هو عين الخطأ؛ فإن يحيى إنما رواه عن هشام بلفظ ((نهي)) .
وإنما مراد البخاري: أن هشاما اختلف عليهِ في ذكر النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرجه من طريق القطان، عنه بلفظة: ((نهي)) ، ثُمَّ ذكر أنه روي مصرحا برفعه.
وكذا ذكره الدارقطني في ((علله)) : أن هشاما اختلف عليه فيه، فرواه جماعة
عنه، وقالوا: نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، منهم: زائدة وعبد الوهاب الثقفي وجرير بن عبد الحميد وغيرهم.
وقال الثوري والقطان وحفص بن غياث وأسباط بن محمد ويزيد بن هارون وحماد بن زيد، عن هشام: ((نهي)) ، ولم يصرحوا برفعه.
إلا أن في رواية أسباط: ((نهينا)) ، وهذا كالتصريح.
ورواه أيوب وأشعث بن عبد الملك، عن محمد، عن أبي هريرة.
قال: وراوه عمران بن خالد، عن ابن سيرين. عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وكذا روي عن أبي جعفر الرازي، عن قتادة، عن ابن سيرين.
قال الدارقطني: وقد تقدم قولنا في أن ابن سيرين من تورعه وتوقيه، تارة يصرح بالرفع، وتارة يوميء، وتارة يتوقف، على حسب نشاطه في الحال انتهى.(9/369)
ولم يذكر رواية أبي هلال، عن ابن سيرين، المصرحة بالرفع، التي علقها البخاري.
وخرج هذا الحديث مسلم في ((صحيحه)) من رواية أبي خالد وأبي أسامة وابن المبارك – جميعا –، عن هشام، مصرحا برفعه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[أنه نهى] أن يصلي الرجل مختصراً.
وخرج ابن حبان في ((صحيحه)) من طريق عيسى بن يونس، عن هشام، عن محمد، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((الاختصار في الصلاة راحة أهل النار)) .
وقال: يعني: أنه فعل اليهود والنصارى، وهم أهل النار.
كذا خرجه؛ وإنما رواه عيسى بن يونس، عن عبيد الله بن الأزور، عن هشام بهذا اللفظ.(9/370)
وكذا خرجه الطبراني والعقيلي من رواية عيسى بن يونس، عنه وقال العقيلي: لايتابع عبيد الله بن الأزور على لفظه.
و ((الاختصار)) ، فسره الأكثرون بوضع اليد على الخاصرة في الصلاة، وبذلك فسره الترمذي في ((جامعه)) ، وعليه يدل تبويب النسائي.
وروى الإمام أحمد في ((مسنده)) عن يزيد بن هارون، عن هشام، عن محمد، عن أبي هريرة، قال: نهي عن الاختصار في الصلاة. قلنا لهشام: ما الاختصار؟ قالَ: يضع يده على خصره وهو يصلي. قالَ يزيد: قلنا لهشام: ذكره عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
قالَ برأسه – أي: نعم.
وبهذا التفسير فسره جمهور أهل اللغة، وأهل غريب الحديث، وعامة المحدثين والفقهاء، وهو الصحيح الذي عليه الجمهور.
وقد قيل: إنه إنما نهى عنه؛ لأنه فعل المتكبرين، فلا يليق بالصلاة.(9/371)
وقيل: إنه فعل اليهود.
وقيل: فعل الشيطان.
فلذلك كرهه بعضهم في الصلاة وغيرها.
قد خرج البخاري في ((كتابه)) هذا في ((ذكر بني إسرائيل)) ، من رواية
مسروق، عن عائشة، أنها كانت تكره أن يجعل يده في خاصرته، وتقول: إن اليهود تفعله.
وخرجه سعيد بن منصور في ((سننه)) ، ولفظه: أن عائشة كانت تكره الاختصار في الصلاة، وتقول: لاتشبهوا باليهود.
وخرجه عبد الرزاق، ولفظه: إن عائشة نهت أن يجعل الرجل أصابعه في خاصرته في الصلاة، كما تصنع اليهود.
وروي عن عائشة، أنها قالت: هكذا أهل النار.
وعن ابن عباس، قال: إن الشيطان يحضر ذلك.
وعن مجاهد، قال: هو استراحة أهل النار في النار.
خرجه كله وكيع بن الجراح، وعنه ابن أبي شيبة.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده، عن حميد الهلالي، قال: إنما كره(9/372)
الخصر في الصلاة أن إبليس أهبط مختصراً.
وروى صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، قال: إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فلا يجعل يديه في خاصرته؛ فإن الشيطان يحضر ذَلِكَ.
خرجه عبد الرزاق.
وروى سعيد بن زياد الشيباني، عن زياد بن صبيح، قال: صليت جنب ابن
عمر، فوضعت يدي على خصري، فقال لي هكذا – ضربه بيده -، فلما صليت قلت: يا أبا عبد الرحمن، مارابك مني؟ قالَ: إن هذا الصلب، وأن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهانا عنه.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.
وزياد بن صبيح –ويقال: ابن صباح – الحنفي، وثقه ابن معين والنسائي
وغيرهما، وقال الدارقطني: يعتبر به.
قال: وسعيد بن(9/373)
زياد الشيباني، الراوي عنه، لايحتج به، ولكن يعتبر به، قال: لا أعرف له إلا هذا الحديث -: نقله عنه البرقاني.
وسعيد بن زياد، قال ابن معين: صالح. ووثقه ابن حبان.
وحكى ابن المنذر كراهة الاختصار في الصلاة على هذا الوجه عن ابن عباس وعائشة ومجاهد والنخعي وأبي مجلز ومالك والأوزاعي وأصحاب الرأي. انتهى.
وهو قول عطاء والشافعي وأحمد – أيضا.
ومن الناس من فسر الاختصار في حديث أبي هريرة بأن يمسك بيده شيئاً يعتمد عليه في الصلاة؛ فإن العصى ونحوها مما يعتمد عليهِ يسمى مخصرة.
وفسره بعضهم باختصار السورة، فيقرأ بعضها.
وفسره بعضهم باختصار افعال الصلاة، فلا يتم قيامها ولا ركوعها ولا
سجودها.
وقد بوب أبو داود في ((سننه)) على ((التخصر والإقعاء في الصلاة)) ،(9/374)
فخرج فيه: حديث ابن عمر المشار إليه.
ثم بوب على ((الاختصار في الصلاة)) ، وخرج فيه: حديث أبي هريرة هذا.
ثم اتبعه: ((باب: يعتمد في الصلاة على عصى)) .
فلعله فسر الاختصار بالاعتماد، كما قال بعضهم. والله سبحانه وتعالى أعلم.(9/375)
18 - باب
تفكر الرجل الشيء في الصلاة
وقال عمر: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة.
روى ابن عون، عن الشعبي، قال: قال أبو موسى الأشعري: صلى بنا عمر ولم يقرأ، فقلت: لم تقرأ، فقال: لقد رأيتني أجهز عيراً بكدى وأفعل كذا، فأعاد
الصلاة.
ورواه يونس، عن الشعبي، عن زياد بن عياض الأشعري، أن عمر صلى بهم المغرب فلم يقرأ، ثم قال: إنما شغلني عن الصلاة عير جهزتها إلى الشام، فجعلت أفكر في أحلاسها وأقتابها.
خرجه صالح ابن الإمام أحمد في ((مسائله)) ، عن أبيه بإسناده.
وخرجه - أيضا - من وجه آخر عن الشعبي، عن عمر - مرسلا.(9/376)
وقد سبق ذكر بعض طرقه في ((أبواب القراءة في الصلاة)) .
وروى الأعمش، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث، أن عمر صلى بالناس المغرب، ولم يقرأ فيها شيء، فلما فرغ قالوا له: يا أمير المؤمنين، إنك لم تقرأ شيئاً؟ قالَ: لم أزل أنزل البعير منزلا منزلا، حتَّى وردت الشام، ثُمَّ أعاد الصَّلاة.
[خرجه] الجوزجاني.
وليس فكر عمر في تجهيز الجيوش في الصلاة من حديث النفس المذموم، بل هو من نوع الجهاد في سبيل الله؛ فإنه كانَ عظيم الاهتمام بذلك، فكان يغلب عليهِ الفكر فيهِ في الصَّلاة وغيرها.
ومن شدة اهتمامه بذلك غلب عليه الفكر في جيش سارية بن زنيم بأرض
العراق، وهو يخطب يوم الجمعة على المنبر، فألهمه الله، فناداه، فاسمعه الله صوته، ففعل سارية ما أمره به عمر، فكان سبب الفتح والنصر.
وقال سفيان الثوري: بلغني أن عمر قال: إني لأحسب جزية البحرين وأنا في الصلاة.
ورواه وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن عمر قاله.(9/377)
وهذا كله من شدة اهتمام عمر بأمر الرعية، وما فيه صلاحهم، فكان يغلب عليه ذلك في صلاته، فتجتمع له صلاة وقيام بأمور الأمة وسياسته لهم في حالة واحدة.
خرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث:
الاول:(9/378)
1221 - حديث: عمر بن سعيد، عن ابن أبي مليكة، عن عقبة بن الحارث، قال: صليت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر، فلما سلم قام سريعاً، ودخل على بعض نسائه، ثم خرج ورأى ما في وجوه القوم من تعجبهم لسرعته، فقال: ((ذكرت وأنا في الصلاة تبراً عندنا، فكرهت أن يمسي – أو يبيت – عندنا، فأمرت بقسمته)) .
خرجه عن إسحاق بن منصور، عن روح.
وخرجه – فيما تقدم – من طريق عيسى بن يونس، عن عمر.
وخرجه في ((الزكاة)) – أيضا – من طريق أبي عاصم، عن عمر، به، وفيه: أنه كان من تبر الصدقة.
وهذا الذي وقع للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جنس ما كان يقع لعمر؛ فإن مال(9/378)
الصدقة تشرع المبادرة بقسمته بين أهله ومستحقيه، فكان من شدة اهتمام النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك يتذكره في صلاته، فيقوم عقب ذَلِكَ مسرعا حتَّى يقسمه بين أهله.
وهذا كله من اجتماع العبادات وتداخلها، وليس هم من باب حديث النفس المذموم.
الحديث الثاني:(9/379)
1222 - نا يحيى بن بكير: نا الليث، عن جعفر، عن الأعرج: قال أبو هريرة: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا أذن بالصلاة ادبر الشيطان وله ضراط، حتى لايسمع
التأذين، فإذا سكت المؤذن أقبل، فإذا ثوب أدبر، فإذا سكت أقبل، فلا يزال بالمرء يقول له: اذكر ما لم يكن يذكر، حتى لايدري كم صلى)) .
قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: إذا فعل ذلك أحدكم، فليسجد سجدتين وهو قاعد.
وسمعه أبو سلمة من أبي هريرة.
وقد خرجه في ((باب: التأذين)) من رواية مالك، عن أبي الزناد، عن
الأعرج، عن أبي هريرة – إلى قوله: ((لايدري كم صلى)) – أيضا.(9/379)
وأما باقي الحديث، وهو الأمر بسجود السهو لذلك، فإنما رواه أبو سلمة، عن أبي هريرة، وهو مرفوع، وليس من قول أبي هريرة.
والقائل: ((قال أبو سلمة)) ، لعله جعفر بن ربيعة. والله أعلم.
وقد خرجه البخاري في ((أبواب السهو)) ، كما يأتي قريبأ – إن شاء الله تعالى– من رواية هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي
هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومن رواية مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي حديثهما: ((فليسجد سجدتين وهو جالس)) .
وخرجه في ((بدء الخلق)) من طريق الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير – أيضا.
والمقصود من تخريجه في هذا الباب: أن الشيطان يأتي المصلي، فيذكره ما لم يكن يذكره، حتى يلبس عليه صلاته، فلا يدري كم صلى، وإن صلاته لاتبطل بذلك، بل يؤمر بسجود السهو؛ لشكه في صلاته.
وقد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على ذَلِكَ.
ومنهم من قال: هو إجماع من يعتد به.
وهذا يشعر بأنه خالف فيه من لا يعتد به.(9/380)
وقد قال طائفة قليلة من متأخري أصحابنا والشافعية: أنه إذا غلب الفكر على المصلي في أكثر صلاته، فعليه الإعادة؛ لفوات الخشوع فيها.
وكذا قالَ أبو زيد المروزي من الشافعية، في المصلي وهو يدافع الأخبثين: أنه إذا اذهب ذَلِكَ خشوعه، فعليه الإعادة.
وقال ابن حامد من أصحابنا: متى كثر عمل القلب وفكره في الصلاة في أمور الدنيا أبطل الصلاة، كما يبطلها عمل الجسد إذا كثر.
والحديث حجة على هذه الأقوال كلها.
وقد استدل لوجوب الخشوع في الصلاة بحديث مختلف في إسناده، وقد ذكرناه مع الإشارة إلى هذه المسألة في ((باب: الخشوع في الصلاة)) ، فيما مضى.
الحديث الثالث:(9/381)
1223 - نا محمد بن المثنى: حدثنا عثمان بن عمر: أنا ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، قال: قال أبو هريرة: يقول الناس: أكثر أبو هريرة، فلقيت رجلاً فقلت: بم قرأ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البارحة في العتمة؟ قالَ: لا أدري. فقلت: لم تشهدها؟ قال:
بلى. فقلت:(9/381)
لكن أنا أدري، قرأ سورة كذا وكذا.
مراد أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن يبين للناس امتيازه عن غيره بضبط أمور النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واعنائه بها، وحفظه لها، وإذا كان كذا لم يستبعد أن يكون قد حفظ ما لم يحفظه غيره.
وهذه الواقعة كانت جرت له في حياة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحفظ قراءة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة العشاء، ولم يحفظها بعض من شهد العشاء معه، مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وظاهر السياق: يقضي أنه من حينئذ كان يقال: أكثر أبو هريرة، وهو بعيد.
والظاهر – والله اعلم -: أنه إنما قيل ذلك بعد وفاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حين أكثر أبو هريرة من الرواية عنه.
فاستدل أبو هريرة بحفظه ما لم يحفظه غيره بهذه القصة التي جرت له مع بعض الصحابة، حيث حفظ ما قرأ به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة العشاء، ولم يحفظ ذلك غيره ممن صلى معه.
واعلم؛ أن عدم حفظ المصلي لما قرأ به امامه لها حالتان:
أحدهما: أن يكون ذَلِكَ عقب انصرافه من الصَّلاة، فهذا إنما يكون غالباً من عدم حضور القلب في الصَّلاة، وغلبه الفكر والوساوس فيها.
وقد ذكرنا في ((باب: القراءة في الصلاة)) ، عن أحمد، أنه قال – فيمن(9/382)
صلى مع إمام، فلما خرج من الصلاة قيل له: ما قرأ الإمام؟ قالَ: لا أدري – قالَ: يعيد الصَّلاة.
وإن الأصحاب اختلفوا في وجهها على ثلاث طرق لهم فيها.
وقد ورد حديث مرفوع، يستدل به على أن لا اعادة على من لم يحفظ ذلك:
فروى البزار ((مسنده)) ، عن عمرو بن علي: سمعت يحيى بن كثير، قال: حدثنا الجريري، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً بأصحابه، فقال: ((كيف رأيتموني صليت؟)) قالوا: ما أحسن ما صليت، قالَ: ((قد نسيت آية كيت وكيت، وإن من حسن صلاة المرء أن يحفظ قراءة الإمام)) .
الحالة الثانية: أن يكون ذلك بعد مضي مدة من الصلاة، فهذا يكون غالباً من النسيان بعد الحفظ، لا من سهو القلب في الصلاة، وهذا هو الذي أراده أبو هريرة بحديثه هذا.
وحينئذ؛ ففي تخريجه في الباب نظر؛ لأن الباب معقود لحديث(9/383)
النفس في الصلاة والوسوسة فيها، وهو ينقسم إلى المذموم - وهو حديث النفس بأمور [الدنيا] وتعلقاتها -، وإلى محمود - وهو حديث النفس بأمور الآخرة وتعلقاتها -، ومنه ما يرجع إلى ما فيه مصلحة المسلمين من أمور الدنيا، كما كان عمر يفعله.
وقد خرج البخاري في ((أبواب الوضوء)) حديث عثمان، فيمن توضأ ثم صلى ركعتين، لا يحدث فيهما نفسه، أنه يغفر له ما تقدم من ذنبه، وسبق الكلام عليه في موضعه.(9/384)
[كتاب السهو]
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - باب ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفرض(9/385)
1224 - حدثنا عبد الله
بن يوسف: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن
الأعرج، عن عبد الله بن بحينة، أنه قال: صلى لنا رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
ركعتين من
بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى صلاته ونظرنا
تسليمه، كبر قبل
التسليم، فسجد سجدتين وهو جالس، ثم سلم.(9/385)
1225 - حدثنا عبد الله بن يوسف: نا مالك، عن يحيى بن سعيد
، عن
عبد الرحمن الأعرج، عن عبد الله بن بحينة، أنه قال: إن رسول الله(9/385)
[- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] قام من
اثنتين من الظهر، لم
يجلس بينهما، فلما قضى صلاته سجد سجدتين، ثم سلم
بعد ذلك.
قد خرج البخاري هذا الحديث فيما سبق في "
أبواب التشهد "، من حديث
شعيب، عن الزهري، ومن حديث جعفر بن ربيعة، عن الأعرج.
وفي حديثهما:
أن ذلك كان في صلاة الظهر.
وقد أجمع العلماء على أن من ترك التشهد الأول من الصلاة الرباعية أو
المغرب،
وقام إلى الثالثة سهوا، فإن صلاته صحيحة، ويسجد للسهو.
وقد روي ذلك عن خلق من الصحابة، بأنهم فعلوه.
وروي عن عمر، أنه تشهد مرتين، فقضى التشهد الأول في تشهده
الأخير.
روى سفيان الثوري: حدثني أبي،
عن الحارث بن شبيل، عن عبد الله
ابن شداد، قال: قام عمر في الركعتين فمضى، فلما سلم في آخر صلاته سجد
سجدتين، وتشهد مرتين.
وقال عبد الرزاق: عن ابن جريج: قال عطاء: إذا قام في قعود، فإذا
فرغ من صلاته
سجد سجدتي السهو، وتشهد(9/386)
تشهدين.
وإن كان ترك التشهد الأول عمدا، ففي بطلان صلاته اختلاف، ذكرناه في
التشهد.
وإذا كان ساهيا فله ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يستمر سهوه حتى يقرأ في الركعة الثالثة، فإنه يستمر ولا
يرجع
إلى السجود عند جمهور العلماء.
وروي عن الحسن، أنه يجلس للتشهد، وإن قرأ، ما لم يركع.
وهذا
يدل على أن التشهد الأول عنده واجب متأكد.
الحالة الثانية: أن لا يستمر قائما، فقال الجمهور: له أن يرجع.
وقال أحمد: يجب أن يرجع، بناء على قوله: إن هذا التشهد واجب.
ويسجد للسهو، وإن رجع، عند جمهور
العلماء، وهو [قول]
عبد الرحمن بن أبي ليلى والشافعي وأحمد.
وروي عن النعمان بن بشير، وعن أنس بن
مالك، أنهما فعلاه.
وروي عن أنس، أنه فعله، وقال: هو السنة.
رواه سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن أنس.
قال
الدارقطني: لم يقله عن يحيى غيره. قال: وزيادة الثقة مقبولة.
وقال طائفة: إذا رجع لم يسجد للسهو، وهو قول
علقمة(9/387)
والأوزاعي،
وهو أحد قولي الشافعي.
وحكي عن بعض أصحابنا - أيضا - وهو ابن حامد -، أنه إذا
رجع قبل أن
يستتم قائما لم يسجد.
وقال مالك: إذا فارقت أليته الأرض وناء للقيام لم يرجع، ويسجد
للسهو.
وقال حسان بن عطية: إذا تجافت ركبتاه عن الأرض مضى.
وعند أبي حنيفة: إن كان إلى القعود أقرب عاد
فجلس وتشهد، وإن كان
إلى القيام أقرب لم يقعد، ويسجد للسهو.
الحالة الثالثة: أن يستتم قائما ولا يقرأ، وفيه
قولان:
أحدهما: لا يجوز أن يجلس، وحكي عن علقمة والضحاك وقتادة، وهو
قول أبي حنيفة والأوزاعي ومالك
والشافعي وأحمد - في رواية -، وهي
المذهب عند ابن أبي موسى.
وممن كان لا يجلس إذا استتم قائما: سعد
بن أبي وقاص وعقبة بن عامر
وابن الزبير وغير واحد من الصحابة.(9/388)
والثاني: أن له أن يرجع، ما لم يشرع في
القراءة، وهو قول النخعي
وحماد والثوري - مع قوله بكراهة الرجوع.
وروي نحوه عن الأوزاعي - أيضا -، وهو قول أحمد - في المشهور، عنه
عند أكثر أصحابه -، ووجه
لأصحاب الشافعي، وحكاه ابن عبد البر عن مالك
والشافعي.
واستدلوا بأن القراءة هي المقصود الأعظم من القيام
، من لم يأت به فلم
يأت بالمقصود من القيام، فكأنه لم يوجد القيام تاما.
وفي هذا نظر.
وحكى ابن عبد البر
عن جمهور العلماء القائلين بأنه لا يرجع إذا تم قيامه:
أنه إذا رجع لم تفسد صلاته؛ لأن الأصل ما فعله، وترك
الرجوع له رخصة.
وحكى عن بعض المتأخرين أنه تفسد صلاته. قال: وهو ضعيف.
كذا قال.
ومذهب
الشافعي عند أصحابه: أنه إن رجع عالما بالحال بطلت صلاته.
والجمهور على كراهة الرجوع، وإن لم تفسد به
الصلاة عند من يرى ذلك،
وإنما حكي الخلاف في كراهته عن أحمد.
وقوله: " إن الرجوع هو الأصل، وتركه
رخصة "، ليس كما قال، بل
الأصل أن من تلبس بفرض أنه يمضي فيه، ولا يرجع إلا إلى ما هو فرض
مثله،
فأما إن رجع من فرض إلى سنة، فليس هو الأصل، وإنما ي(9/389)
جيء الرجوع
على قول من يقول: إن التشهد واجب،
وابن عبد البر لا يرى ذلك.
واستدل من لم يجوز الرجوع بما روى جابر الجعفي، عن المغيرة بن
شبيل، عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة
بن شعبة، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، قال:
" إذا قام أحدكم فلم يستتم قائما فليجلس، وإذا استتم قائما فلا يجلس، ويسجد
سجدتي السهو ".
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه.
وجابر الجعفي، ضعفه الأكثرون.
وهذا كله في
قيامه من التشهد الأول في الصلاة المفروضة، كما بوب عليه
البخاري، فإن كانت صلاته نفلا، وكان نوى ركعتين،
ثم قام إلى ثالثة نهارا،
فهو مخير، إن شاء أتمها أربعا - وهو أفضل؛ لأن صلاة أربع بالنهار لا كراهة
فيها،
وبذلك يصون عمله عن الإلغاء، فكان أولى -، وإن شاء رجع وتشهد
وسجد للسهو، هذا قول أصحابنا وجمهور
العلماء.
ومن الشافعية من قال: الأفضل أن يرجع؛ لئلا يزيد على ركعتين.(9/390)
وروي عن مالك: الأفضل
السجود، ما لم يركع في الثالثة.
وعنه: ما لم يرفع رأسه من ركوعها، ثم يكون المضي أفضل.
ومتى أتمها
أربعا، فعند أصحابنا: إن كان قد تشهد عقيب الركعتين لم
يسجد، وإلا سجد.
وحكي عن مالك والأوزاعي
والشافعي: يسجد لتأخيره السلام عن هذا
التشهد.
وإن كان ذلك في صلاة الليل، فإنه يرجع ولا يتمها أربعا،
ويسجد
للسهو -: نص عليه أحمد.
فإن أتمها أربعا، ففي بطلان صلاته وجهان، بناء على الوجهين في صحة
تطوعه
بالليل بأربع.
وحكي عن مالك والشافعي: أن الأفضل أن يمضي فيها.
وقال الأوزاعي ومالك - في رواية -:
إن كان قد ركع في الثالثة لم
يرجع، وإلا رجع.
وعن مالك رواية: أنه يراعي الرفع في الركوع، كما سبق عنه.
وقال الثوري - في رجل صلى تطوعا ركعتين، فسها فقام في الثالثة -: كان
الشعبي يقول: يمضي ويجعلها
أربعا.
وقال الثوري: وأحب إلي أن يجلس ويسلم.(9/391)
2 - باب إذا صلى خمسا(9/392)
1226 - حدثنا أبو الوليد: نا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن علقمة،
عن عبد الله، أن رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] صلى الظهر خمسة، فقيل له: أزيد في الصلاة؟
قال: " وما ذاك؟ " قالوا: صليت
خمسا، فسجد سجدتين بعد ما سلم.
وقد خرجه البخاري في " أبواب استقبال القبلة " - فيما مضى -، من
رواية
منصور، عن إبراهيم بهذا الإسناد، بسياق مطول، وفي حديثه: قال
إبراهيم: " لا أدري زاد أو نقص ".
وذكر
في الحديث: أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] سجد سجدتين، ثم سلم.
وزاد في آخر الحديث: " وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر
الصواب،
فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين ".
وخرجه مسلم من رواية الأعمش، عن إبراهيم، به،
ولفظه: صلى
رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، فزاد أو نقص - قال إبراهيم: الوهم مني - فقيل: يا رسول
الله: أزيد في الصلاة
شيء؟ قال: " إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا
نسي أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس "، ثم تحول
رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، فسجد
سجدتين.
وقد اتفقت الروايات عن إبراهيم في هذا الحديث: أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] لما(9/392)
ذكر
بسهوه
لم يزد على أن سجد سجدتين.
وهذا يدل على أنه كان سهوه بزيادة ولا بنقص، فإنه لو كان سهوه بنقص
لأتى بما نقص من صلاته ثم سجد، فلما
اقتصر على سجدتي السهو دل على أن
صلاته كانت قد تمت، وأن السهو كان في الزيادة فيها.
ولكن رواه أبو
بكر الحنفي، عن مسعر، عن منصور، وقال في حديثه:
ثم قام النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، فأتم صلاته، وسجد سجدتين بعد ما سلم.
وذكر إتمامه صلاته زيادة [غير] محفوظة، لم يقلها غير أبي بكر
الحنفي، وهو ثقة يتفرد بغرائب، ولم يتابع
على هذه الزيادة.
وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن سويد النخعي، عن علقمة، عن
ابن مسعود، أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
صلى بهم الظهر خمسا، فلما انفتل توشوش القوم
بينهم. فقال: " ما شأنكم؟ " قالوا: يا رسول الله، هل زيد في
الصلاة؟
قال: " لا "، قالوا، فإنك قد صليت خمسا، فانفتل، ثم سجد سجدتين، ثم
سلم، ثم قال: " إنما أنا بشر
مثلكم، أنسى كما تنسون ".
خرجه مسلم.
وفي رواية له - أيضا - بهذا الإسناد -: " فإذا نسي أحدكم فليسجد
سجدتين ".(9/393)
وخرجه مسلم - أيضا - من طريق أبي بكر النهشلي، عن عبد الرحمن بن
الأسود، عن أبيه، عن
عبد الله، قال: صلى بنا رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] خمسا،
فقلنا: يا رسول الله، أزيد في الصلاة؟ قال: " وما ذاك؟ " قالوا
: صليت
خمسا. قال: " إنما أنا بشر مثلكم، أذكر كما تذكرون، وأنسى كما تنسون "،
ثم سجد سجدتي السهو.
وإلى هذا الحديث ذهب جمهور أهل العلم، وأنه إذا صلى رباعية خمسا
أو أكثر من ذلك
، أو المغرب أربعا أو أكثر، أو الفجر ثلاثا أو أكثر، ثم ذكر بعد
سلامه أنه يسجد سجدتي السهو، وتجزئه صلاته.
وروي ذلك عن علقمة والحسن وعطاء والزهري والنخعي، وهو قول مالك
والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد
وإسحاق وأبي ثور، وفقهاء أهل الحديث
جملة.
وقالت طائفة: إن لم يكن قعد بعد الركعة الأخيرة من صلاته قدر
التشهد
فسدت صلاته، وعليه الإعادة، وإن كان قعد عقيب انقضاء صلاته قدر التشهد
أجزأه، وهو قول جماعة من
الكوفيين، منهم: حماد(9/394)
وأبو حنيفة والثوري.
وقالوا: إذا لم يذكر حتى سجد في الخامسة، ولم يكن قعد عقيب
الرابعة
تحولت صلاته نفلا، وشفعها بسادسة.
ولو لم يشفعها جاز عند أبي حنيفة وأصحابه إلا عند زفر؛ فإنه لا
بد أن
يشفعها؛ لأنه بتلبسه بالخامسة لزمه إتمام ما شرع فيه من النفل.
وإن كان جلس عقيب الرابعة، ثم ذكر بعد
تمام الخامسة ضم إليها ركعة
أخرى، وكانت الركعتان نافلة.
واختلف الحنفية: هل تجزئانه من سنة الصلاة بعدها
، أو لا؟
واستدل الجمهور بحديث ابن مسعود، وقد روي عنه أنه عمل بمقتضاه،
وكذلك عمل به علقمة راوية
عنه، وهما أعلم بمدلول ما روياه.
والظاهر: أنه لم يكن قعد عقيب الرابعة؛ لأنه قام إلى الخامسة معتقدا أنه
قام
عن ثالثة، ولأن هذا زيادة في الصلاة من جنسها سهوا، فلا تبطل به
الصلاة، كما لو ذكر قبل أن يسجد في الخامسة، فإن هذا قد وافقوا عليه، وأن
صلاته لا تبطل بذلك، وأنه يرجع
فيتشهد ويسلم، وتجزئه صلاته، ولا فرق
في هذا بين صلاة وصلاة.
وحكي عن قتادة والأوزاعي: أن من صلى
المغرب أربعا، ثم ذكر، أنه
يأتي بخامسة، يقطعها على وتر.
وروى جابر، الجعفي، عن الشعبي(9/395)
وسالم والقاسم
وعطاء - في رجل
صلى المغرب أربعا -، قالوا: يعيد.
قال أحمد: إنما يرويه جابر.
يعني: أنه تفرد به،
وهو ضعيف مشهور.
وذهب بعض المالكية إلى أن من زاد في صلاته مثل نصفها سهوا، أن
صلاته تبطل. ورد
ابن عبد البر ردا بليغا.
وروى زياد بن عبيد الله الزيادي، عن حميد، عن أنس، أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
صلى الظهر ست
ركعات.
وروى ابن وهب في " مسنده "، عن معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية،
أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] صلى الظهر
سبع ركعات، وعليه حلة حرير، أهداها له أكيدر
دومة، فلما انصرف نزعها، وقال: " إني نظرت إليها،(9/396)
فألهتني
عن صلاتي ".
وهذا مرسل.
وفي الحديث: دليل على أنه يسجد للسهو، إذا لم يذكره إلا بعد السلام،
وإن
كان قد تكلم بينهما، وبهذا قال علقمة وعطاء والثوري والشافعي وإسحاق
وأحمد.
لأن السجود مرسل هنا، منقول بعد السلام، فلا يمنع الكلام فعله،
كالتكبير في أيام التشريق، هكذا علله بعض
أصحابنا.
ويقتضي ذلك: أنه لا يمنع السجود فيه إن تكلم بعد ذكره عمدا.
وفي بعض روايات حديث ابن مسعود
ما يدل على ذلك، وأن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
تكلم بعد تذكيرهم له بزيادته، ثم سجد.
وقال أبو حنيفة: متى تكلم لم يسجد؛
لأن الكلام ينافي الصلاة.
واختلفوا: هل يعتبر أن لا يطول الفصل بين السلام من الصلاة والسجود،
أم لا؟ وفيه
قولان:
أحدهما: يعتبر ذلك، فإن طال الفصل امتنع السجود؛ لأن سجود السهو
تكملة للصلاة، فلا يبنى عليها
مع طول الفصل، كسائر أفعال الصلاة، وهذا
قول الشافعي - في أصح قوليه، وهو الجديد منهما -(9/397)
وأحمد - في
إحدى
الروايتين.
واعتبر - أيضا - ألا يكون خرج من المسجد، وعليه أكثر أصحابه.
ومنهم من لم يعتبره،
وهو قول الشافعي وأصحابه، وهو رواية أخرى من
أحمد، ومذهب الثوري وغيره من العلماء.
والثاني: لا
يعتبر قرب الفصل، بل يسجد وإن طال الفصل، وهو قول
الضحاك ويحيى بن سعيد والثوري ومكحول والأوزاعي
والحسن بن حي
والشافعي - في قوله الآخر - وأحمد - في الرواية الأخرى.
لأنه جبران، يفعل بعد التحلل من
العبادة، فيجوز فعله بعد طول الزمان
كجبران الحج.
وقال مالك: إن كان السجود بعد السلام جاز فعله إذا ذكره
، وإن طال
الزمان، وإن كان قبل السلام لم يفعله إلا مع قرب الفصل، فإن تباعد أعاد
الصلاة؛ لأنه جزء من الصلاة.
وروى ابن وهب، عن مالك، أنه يفعله مطلقا، وإن طال الزمان، ما لم
ينتقض وضوؤه.
وعن ابن شبرمة
والحكم: يسجد ما لم يخرج من المسجد، فإن خرج أعاد
الصلاة.
وقال أبو حنيفة: يسجد ما لم يخرج من المسجد(9/398)
أو يتكلم.
وقال عطاء: يسجدهما ما لم يتم، ولو اتكأ، ثم ذكر، جلس فسجد،
وإن قام فليصل ركعتين، ولا
يسجد للسهو.
وقال الليث بن سعد: يسجد ما لم ينتقض وضوؤه.
وعن الحسن وابن سيرين: يسجد ما لم
يصرف وجهه عن قبلته، فإن صرفه
لم يسجد.
وحديث ابن مسعود صريح في رد هذا، وقد سبق القول فيه في "
أبواب
استقبال القبلة ".
وللشافعية وجه: أنه لا يسجد مع قرب الفصل - أيضا -؛ لفوات محله،
وهو قبل
السلام عندهم.
قال بعضهم: وهذا غلط؛ لمخالفته للسنة.
قالوا: وهل يكون هذا السجود عائدا إلى حكم الصلاة
؟ فيه وجهان.
ولهما فوائد:
منها: لو تعمد الكلام في هذا السجود والحديث، فإن قيل: إنه عائد إلى
الصلاة
بطلت صلاته، وعلى الآخر لا تبطل.
ومنها: إن قيل: عائد إلى الصلاة، لم يكبر الافتتاح، ولم يتشهد، بل
يسلم بعد السجود، وعلى الآخر يكبر للافتتاح.
وفي تشهده وجهان، أصحهما: لا يتشهد؛ لأنه لم يصح فيه عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
شيء.
قالوا: ويسلم على
الصحيح، سواء تشهد أو لا؛ للأحاديث الصحيحة
المصرحة بأنه [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] سجد ثم سلم.
ومذهب الثوري إذا أحدث في
سجدتي السهو لم تبطل صلاته،(9/399)
وليست
بمنزلة الصلاة.
واستدل طائفة بهذا الحديث على من زاد في صلاته
سهوا، فإنه يسجد لذلك
بعد السلام؛ لأن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] سجد بعد السلام، وهذا قول مالك وأبي ثور ورواية
عن أحمد.
وحكي عن أحمد: أن زيادة عدد الركعات خاصة يسجد لها بعد السلام
مطلقا - وهو الذي حكاه الترمذي في " جامعه "
عن أحمد، وحكى
القاضي أبو يعلى في ذلك روايتين - لو ذكر قبل السلام، أنه يسلم ثم يسجد
بعد السلام.
وقد
ذهب إليه بعض أهل الحديث.
والذي عليه جمهور العلماء: أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] إنما سجد في حديث ابن مسعود
بعد
سلامه؛ لأنه لم يشعر بسهوه إلا بعد السلام من صلاته، فكان سجوده بعد
السلام؛ فإنه إنما سلم ظانا أن صلاته لا
زيادة فيها، وإنما علم بالزيادة فيها بعد
ذلك.
وقد صرح الإمام أحمد بهذا المعنى في رواية حرب، وغيره.
وسيأتي القول في محل سجود السهو فيما بعد - إن
شاء الله تعالى.(9/400)
3 - باب
إذا سلم في الركعتين أو في ثلاث سجد [سجدتين]
مثل سجود الصلاة أو أطول(9/401)
1227 -
حدثنا آدم: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن
أبي هريرة، قال: صلى بنا رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] الظهر
أو العصر، فقال له ذو اليدين:
الصلاة يا رسول الله، نقصت؟ فقال النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] لأصحابه: " أحق ما يقول؟ "
قالوا
: نعم. فصلى ركعتين أخريين ثم سجد سجدتين.
قال سعد: ورأيت عروة بن الزبير صلى من المغرب ركعتين،(9/401)
فسلم وتكلم،
ثم صلى ما بقي، وسجد سجدتين، وقال: هكذا فعل النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] .
بوب البخاري هذا الباب، على أن
من سلم من نقص ركعتين أو ركعة من
صلاته، فإنه يأتي بما بقي عليه، ويسجد سجدتين مثل سجود الصلاة أو
أطول، وتجزئه صلاته.
ولم يخرج الحديث من الرواية التي فيها: " وسجد سجدتين مثل سجوده
أو أطول "،
وإنما خرجها فيما بعد من حديث ابن سيرين، عن أبي هريرة.
وهذه الرواية المخرجة في هذا الباب من أهل
المدينة، رواها سعد بن
إبراهيم الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، [و] عن
عروة، عن
النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] .
ولعل البخاري إنما صدر طرق حديث أبي هريرة برواية المدنيين؛ لأن هذه
الرواية فيها متابعة لرواية البصريين
في ذلك السجود للسهو، وإن كانت رواية
البصريين فيها زيادة ذكر طول السجود.
وقد ذكر النسائي: أنه لا يعلم
أحدا ذكر عن أبي سلمة في هذا
الحديث: " ثم سجد سجدتين " غير سعد بن إبراهيم.(9/402)
ثم خرجه من طريق عمران
بن أبي أنس ويحيى بن أبي كثير والزهري، عن
أبي سلمة، عن أبي هريرة - ولم يذكر فيه سوى قضاء الركعتين.
وخرجه مسلم من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة - ولم يتم
لفظ الحديث، بل اختصره.
وقال أبو
داود: رواه يحيى بن أبي كثير وعمران بن أبي أنس، عن أبي
سلمة - والعلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه - عن
أبي هريرة - ولم يذكروا: أنه
سجد السجدتين.
ورواه ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة، وقال فيه:
" ولم
يسجد للسهو ".
قلت: قد خرجه الإمام أحمد، عن حجاج، عن ابن أبي ذئب - فذكر
الحديث، وقال في
آخره - قال ابن أبي ذئب: قال الزهري: سألت أهل
العلم بالمدينة، فما أخبرني أحد أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] صلاهما.
يعني: سجدتي السهو.
فرجعت رواية نفي السجود إلى الزهري، ورواية الزهري بذلك(9/403)
غير معروفة
[ولا] مشهورة.
وقد روى
الزهري هذا الحديث عن سعيد وأبي سلمة وعبيد الله بن
عبد الله، عن أبي هريرة.
خرجه أبو داود من طريق
الأوزاعي، عنه بهذا الإسناد، وفي حديثه:
ولم يسجد سجدتي السهو حتى يقنه الله ذلك.
وخرجه أبو داود
والنسائي من رواية صالح بن كيسان، عن الزهري،
عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة - مرسلا.
قال
الزهري: وأخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - وأبو سلمة
وأبو بكر بن الحارث بن هشام وعبيد الله بن
عبد الله.
وخرجه الإمام أحمد وابن حبان في " صحيحه " من طريق معمر، عن
الزهري، عن أبي سلمة وأبي
بكر بن سليمان، عن أبي هريرة.
وخرج النسائي من طريق الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن
سعيد
وأبي سلمة وأبي بكر بن عبد الرحمن وابن أبي حثمة، عن أبي هريرة،
عن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، أنه لم يسجد يومئذ قبل
التسليم ولا بعده.(9/404)
وخرجه مالك في " الموطأ " عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة
وأبي بكر بن أبي حثمة -
مرسلا.
واختلف على الأوزاعي في وصله عن الزهري وإرساله.
وقد أنكر هذا على الزهري غير واحد من الأئمة.
وعده مسلم بن الحجاج في " كتاب التمييز " من أوهام الزهري؛ لصحة
الروايات بخلاف روايته، وأن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] سجد
للسهو يومئذ.
قلت: الذي يظهر - والله أعلم -: أن الزهري روى هذا الحديث عن
سعيد وأبي سلمة وغيرهما،
من غير ذكر سجود السهو بنفي ولا إثبات، وأن
الزهري أتبع ذلك بقوله من عنده: " لم يسجد النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] يومئذ للسهو
".
فهذا مما أرسله الزهري [وأدرجه] في الحديث، فمن اقتصر على هذا
القدر من حديث الزهري ووصله فقد وهم؛ لأنه أسند المدرج بانفراده.
وقد ذكر الزهري أنه لم
يخبره بالسجود أحد من أهل العلم بالمدينة،
فكان ينفي السجود لهذا، وهذا بمجرده لا يبطل رواية الحفاظ الأثبات
للسجود.(9/405)
وقد روي عن الزهري، أنه حمل ترك السجود للسهو في هذه القصة على
أحد وجهين:
أحدهما: أنه
قال: كان هذا قبل أن يشرع سجود السهو.
فروى عنه معمر، أنه قال: كان هذا قبل بدر، ثم استحكمت الأمور.
والثاني: أنه كان يرى أنه لم يسجد يومئذ للسهو؛ لأن الناس يقنوا النبي
[- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] حتى استيقن.
وكلا الوجهين
ضعيف.
أما الأول؛ فلأن أبا هريرة شهد هذه القصة، وكان إسلامه بعد بدر بكثير،
وسيأتي بسط ذلك فيما بعد -
إن شاء الله تعالى.
وأما الثاني؛ فمضمونه أنه إنما يسجد للسهو إذا استدام الشك، فأما إذا
تيقن الأمر، وعمل عليه
، فإنه لا يسجد، وإن كان قد زاد في الصلاة، وهذا
مذهب غريب.
نعم؛ لو شك في شيء من صلاته، ثم زال
شكه قبل السلام، وتبين أنه
لم يزد في صلاته ولم ينقص، فهنا يستحب السجود ولا يجب -: نقله ابن
منصور،
عن أحمد وإسحاق.
وقال أصحابنا: الصحيح من مذهبنا ومذهب الشافعي: أنه لا(9/406)
يسجد إلا أن
يكون قد فعل قبل
زوال شكه ما يجوز أن يكون زائدا، فإنه يسجد.
وفي المذهبين وجه آخر: لا يسجد بحال؛ لأن السجود إنما يشرع
[من]
زيادة أو نقص أو تجويزهما، ولم يوجد شيء من ذلك.
وهذا قول سفيان الثوري.
وقد روي عن أبي
هريرة، أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] سجد للسهو في هذه القصة من
وجوه أخر:
فروى ذلك مالك، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان مولى ابن
أبي أحمد، عن أبي هريرة - فذكر هذا الحديث
، وقال فيه: فأتم رسول الله
[- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] [ما] بقي من الصلاة، ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم.
وقد خرجه
مسلم من هذا الوجه.
رواه - أيضا - الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن جعفر بن ربيعة، عن
ابن مالك،
عن أبي هريرة، أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] سجد يوم ذي اليدين سجدتين
بعد السلام.
خرجه النسائي.
ورواه - أيضا -
عكرمة بن عمار، عن ضمضم بن جوس الهفاني،(9/407)
قال:
حدثني أبو هريرة - بهذا الحديث -، وذكر فيه: أن النبي
[- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] [سلم] ثم
سجد سجدتي السهو وهو جالس، ثم سلم.
خرجه أبو داود والنسائي وابن حبان في " صحيحه ".
وروى السجود - أيضا - في هذه القصة: عمران بن حصين، عن النبي
[- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] .
فروى خالد الحذاء، عن أبي
قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن
حصين، قال: سلم رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] في ثلاث ركعات من العصر، ثم قام
فدخل
الحجرة، فقام رجل بسيط اليدين، فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله،
فخرج مغضبا، فصلى الركعة التي كان ترك، ثم سلم، [ثم] سجد سجدتي
السهو، ثم سلم.
خرجه مسلم.
وفي رواية له - أيضا -: فخرج غضبان، حتى انتهى إلى الناس،
فقال: " أصدق هذا؟ " قالوا: نعم، فصلى
ركعة، ثم سلم، ثم سجد
سجدتين، ثم سلم.
وهذه الرواية تدل على أن الخروج من المسجد لا يمنع البناء على(9/408)
الصلاة
لمن سلم من نقص في صلاته، فلأن لا سجود السهو فبمجرده أولى.
وفي رواية لمسلم: أن الرجل الذي
قال للنبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، كان اسمه الخرباق،
وكان في يده طول.
فمن الناس من قال: هو ذو اليدين المذكور في حديث
أبي هريرة.
وقال طائفة: هما رجلان، وواقعتان متعددتان، ونص على ذلك الإمام
أحمد.
وقد دل هذا
الحديث - من جميع طرقه - على أن من سلم من نقص
ركعة فأزيد من صلاته ناسيا، ثم ذكر قريبا، أنه يبني على
ما مضى من صلاته،
ولا يلزمه إعادتها، وهو قول جمهور أهل العلم.
فإن هذا إنما زاد في صلاته سلاما ناسيا،
والسلام مشروع في الصلاة، لكنه
أتى به قبل محله، فلا تبطل به الصلاة، كما لو زاد سجدة سهوا.
ووافق على ذلك أكثر من يقول: إن كلام
الساهي يبطل الصلاة، كأبي
حنيفة وأحمد - في رواية.
واختلف عن سفيان الثوري.
فروى عنه كذلك، هو
المشهور عنه.
وروى يعلى بن عبيد، عنه، أنه إذا سلم ساهيا قطع صلاته؛ لأنه تكلم في
صلاته ساهيا.
حكاه(9/409)
أصحابه عنه في كتبهم.
وحكاه ابن عبد البر عن بعض أصحاب أبي حنيفة - أيضا.
وكذلك روى عبد
الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، ثم قال: إلا أن
يكون النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] صنع الذي يقولون.
يعني: سلم [ثم]
بنى على صلاته، فتوقف في ذلك حيث لم يكن
الحديث عنده.
واختلفوا: هل يشترط للبناء على ما مضى من
الصلاة أن يذكر مع
قرب الفصل، أو لا يشترط ذلك، بل يبني ولو ذكر بعد طول الفصل؟ على
قولين:
أحدهما: لا يبني إلا مع قرب الفصل، فإن طال الفصل بطلت الصلاة
واستأنفها، وهذا [قول] أبي حنيفة ومالك
والشافعي وأحمد وأبي خيثمة
وسليمان بن داود الهاشمي.
والثاني: يبني ولو طال الفصل، وهو قول مكحول والأوزاعي ويحيى
الأنصاري والحسن بن حي.
ونقل صالح
وغيره، عن أحمد ما يدل على ذلك - أيضا.(9/410)
وقال الليث: يبني ما لم ينتقض وضوؤه الذي صلى به تلك الصلاة.
وفي حديث عمران بن حصين ما يدل على البناء مع طول الفصل.
والله أعلم.
واختلفوا - أيضا -: هل
يبني مع عمله عملا كثيرا ينافي الصلاة مثله،
أو لا يبني معه؟ وفيه خلاف عن الشافعي وأحمد، سبق ذكره؛ وأن
العمل
الكثير مع السهو: هل تبطل به الصلاة، أم لا؟
وفي حديث أبي هريرة وعمران بن حصين: ما يدل على
أنه يبني مع
[ذلك] كثرة العمل في هذه الحال سهوا.
واختلفوا: هل يبني، وإن خرج من المسجد، أو لا يبني
إلا مع كونه في
المسجد؟ وفيه خلاف سبق ذكره في تأخير سجود السهو نسيانا.
واختلفوا: هل يبني مع تكلمه
في هذه الحال، أم كلامه يقطع البناء
ويستأنف مع الصلاة؟
فقالت طائفة: إن تكلم بطلت صلاته، واستأنفها،
وهو قول النخعي
والثوري وأبي حنيفة، وروي عن الحسن وعطاء، وهو رواية عن(9/411)
قتادة، وعن
أحمد اختارها
كثير من أصحابه.
لكن أحمد لم يقل: إن الكلام في الصلاة نسخ، وإنما قاله طائفة من
أصحابه، موافقة للكوفيين.
واستدلوا بقول
الزهري: كان هذا - يعني: قصة ذي اليدين - قبل بدر،
ثم استحكمت الأمور بعد.
وقد ذكر الزهري في روايته
: أن [الذي] كلم النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] هو ذو الشمالين
ابن عمر حليف بني زهرة.
كذا في " مسند أحمد " و" صحيح ابن
حبان ".
وكذا خرج النسائي أنه ذو الشمالين بن عمرو.
وكذا سماه عمران بن أبي أنس في روايته، عن أبي
سلمة، عن أبي هريرة:
ذا الشمالين.
وهذه متابعة للزهري.
قالوا: ذو الشمالين قتل يوم بدر، وتحريم الكلام
إنما شرع بعد ذلك.
وروى محمد بن أبي السري، عن عبد العزيز بن عبد الصمد(9/412)
العمي، عن
أيوب، عن ابن
سيرين والحسن، عن أبي هريرة، أن النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] سجد بعد
السلام والكلام قبل النسخ، فنسخ، وثبت السجدتان.
والمراد: أنه نسخ السجود بعد الكلام، وصار الكلام مبطلا تعاد معه
الصلاة.
ومحمد بن أبي السري، ليس
بالحافظ.
ولعل هذا من تصرف بعض الرواة بالمعنى عنده.
وكل من قال هذا، قال: إن كلام الناسي يبطل الصلاة.
وقال طائفة أخرى: بل يبني، وإن تكلم في هذه الحال، إذا ظن تمام
صلاته؛ فإنه إنما تكلم ناسيا الصلاة، وهذا قول
الشافعي وأحمد - في رواية
عنه.
قالوا: إن قصة السهو كانت بعد تحريم الكلام، فلم ينسخ، بل دلت على
أن
كلام الناسي مستثنى من عموم الكلام المبطل للصلاة، كما أن الأكل في
الصيام ناسيا معفو عنه لا يبطل به الصيام.
واستدلوا على تأخر قصة ذي اليدين، بأن أبا هريرة شهدها، وأبو هريرة إنما
أسلم عام خيبر، وممن ذكر ذلك:
الشافعي وأحمد.
وشهدها عمران بن حصين، وإنما أسلم بعد بدر، فيما قيل.
وشهدها معاوية بن حديج،
وحديثه مخرج في " كتاب النسائي " وغيره،
ومعاوية بن(9/413)
حديج ممن تأخر إسلامه، حتى قيل: إنه أسلم قبل موت
النبي،
بشهرين.
وهذا كله بعد تحريم الكلام في الصلاة؛ فإنه كان إما بمكة قبل الهجرة،
أو عقيب الهجرة قبل
بدر، كما دل عليه حديث ابن مسعود، وقد سبق الكلام
على ذلك.
قالوا: وقول الزهري: " إن ذلك كان قبل بدر
" وهم منه، وكذلك قوله:
" إن [الذي] كلم النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ذو الشمالين "، وإنما هو ذو اليدين.
قالوا: وقد بقي ذو
اليدين بعد النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، وأما المقتول ببدر، فهو ذو
الشمالين، وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد، وأنكر أحمد أن يكون ذو اليدين
قتل ببدر.
وذهب طائفة إلى أنهما واحد.
وهؤلاء ذهبوا إلى أن كلام الناسي لا يبطل الصلاة، وروي عن ابن عباس
وابن الزبير.
وروي عن الزبير
بن العوام بإسناد منقطع.
وهو قول الشعبي وعروة وعطاء والحسن وقتادة - في رواية عنهم - وعمرو
ابن دينار
والشافعي وأحمد - في رواية - وإسحاق وأبي خيثمة وغيرهم من فقهاء
الحديث.(9/414)
فعلى هذه المقالة: إنما تكلم
النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] بعد سلامه نسيانا؛ لظنه أن صلاته
قد تمت.
وخرج الطبراني من رواية معلى بن مهدي: حدثنا حماد
بن زيد، عن
أيوب وابن عون وهشام وسلمة بن علقمة، عن محمد، عن أبي هريرة، أن
النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] تكلم في
الصلاة ناسيا، فبنى على ما صلى.
وهذا مروي بالمعنى، مختصرا من قصة ذي اليدين.
واختلفت الرواية عن
أحمد: هل يختص كلام الساهي بما كان من مصلحة
الصلاة؛ لحال كلام النبي [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] وأصحابه في قصة ذي اليدين، أم
يعم ما كان
لمصلحة الصلاة وغيره؟ .
ورجح طائفة من المتأخرين من أصحابنا اختصاصه بما كان لمصلحة الصلاة؛ لأن الرخصة إنما وردت في؛ ولأنه إذا كان لمصلحة الصلاة، وفعله ساهياً، فهو شبيه بالسلام من الصلاة ساهياً، وهو غير مبطل عند جمهور العلماء كما تقدم.
واختلف أصحابنا: هل محل الخلاف إذا سلم من صلاته، يظن أنها(9/415)
قد تمت، ثم تكلم حينئذ؛ لأن هذه هي الصورة التي وردت فيها الرخصة، وهي التي يقع فيها كلام الساهي غالباً، أم تعم ذلك وغيره لمن تكلم في صلب صلاته ساهياً؟ وفيه طريقان للأصحاب 0
وأكثر [كلام الإمام] أحمد يدل على الأول.
وقد ذكرنا - فيما تقدم - أن أحمد لم يقل: إن حديث ذي اليدين نسخ، كما يقوله غيره، وإنما اختلفت الرواية عنه: هل كان ذلك خاصاً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبمن كلمه، أو هو عام، أم يختص بعده بالإمام دون المأموم؟
فروي عنه، أنه كانَ خاصاً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن كلمه.
وهذه الرواية اختيار أبي بكر الخلال وصاحبه.
فأما النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد يقول: إنه كان مخصوصاً بجواز الكلام في الصلاة لمصلحتها، إما سهواً أو مطلقاً.
وأما المجيبون له، فقد صرح بأن إجابتهم للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت واجبة، فلا تبطل صلاتهم بذلك، وكلام ذي اليدين له بقوله: ((قصرت الصلاة، أم(9/416)
نسيت؟)) كانَ في وقت يجوز فيهِ قصر الصَّلاة، فكان - أيضا - يظن أن صلاتهم تمت، وهذا لايوجد بعدهم.
وأما قول ذي اليدين بعد ذلك: ((بل نسيت يا رسول الله)) - وفي رواية: ((قد كان بعض ذلك)) ، فقد تكلم وهو عالم أن صلاتهم لم تتم، لكنه لم يعلم أنهم في الصلاة، وأن البناء يجوز لهم على ما مضى، بل قد يكون ظن أن ما مضى من الصلاة بطل ولغي، وأنهم الآن ليسوا في صلاة، وربما كان تكلم غير ذي اليدين من الصحابة لذلك؛ فإن جواز البناء إنما علم من فعل النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ، لا قبله.
لكن هذا يقع للناس كثيراً، فهل حكم هذا حكم من تكلم يظن أنه ليس في
صلاة، فهو كالساهي، أم لا؟
الظاهر: أن هذا ملحق بالجاهل بأنه في صلاة، يعذر في كلامه، بخلاف الصائم، إذا جهل الوقت فاكل يظنه ليلاً، فتبين أنه نهاراً.
وحكوا الخلاف عن أحمد، في كل من تكلم وهو يعتقد أنه ليس في صلاة، وأنه خرج منها، يكون جاهلاً بأن [عمل] كلامه يبطل الصلاة.
ولأصحابنا وجهان فيمن أكل [في] الصيام ما لا يعتقد أنه يفطره، هل(9/417)
يفطربه، أم لا؟ وهو - أيضا - جاهل.
ولهم وجهان فيمن أكل ناسيا، فظن أنه أفطر، وأنه لا يلزمه الإمساك، ثُمَّ
جامع، هل عليه كفارة بجماعه، أم لا؟
وحكى ابن المنذر، أنه لا كفارة عليهِ عندَ جمهور العلماء؛ لأنه لم يتعمد افساد الصوم.
وللشافعية فيهِ وجهان - أيضا.
وكلامهم يدل على أنه يفطر بذلك؛ فإن الجهل لايعذر به في الصوم، ويعذر به في الصَّلاة، فإذا سلم من صلاته، يظن أنها تمت، ثُمَّ علم أنها لم تتم، وظن أن صلاته بطلت، فتكلم، فهوَ كالجاهل.
وكذا إذا سلم الإمام ناسيا، والماموم يعلم، فتكلم ظاناً أن صلاته بطلت
بالسلام، فأحمد جعل هذا الحكم خاصاً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - في رواية عنه.
وجعله - في رواية أخرى عنه - عاما للأمة في حق كل من تكلم وهو يظن أن صلاته قد تمت، خاصة كما يقوله الشافعي.
وفرق - في رواية أخرى عنه - بين الإمام والمأموم؛ لأن الإمام لايسأل عن تمام صلاته إلا وهو شاك، والمأموم إنما يجيب وهو عالم بأن صلاته لم تتم، بخلاف حال الصحابة مع النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن بعضهم تكلم وهو يظن أن الصَّلاة قد تمت؛ لاحتمال قصرها عنده، وبعضهم تكلم مجيباً للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكلا الأمرين لا يوجد في حق من بعدهم.
ولكن يوجد في حق من بعدهم من يظن أن صلاتهم قد تمت كالإمام، ومن يظن أن صلاته تبطل بالسلام نسياناً، فيتكلم حينئذ، جاهلا بأنه في صلاة.(9/418)
وخرج أبو داود من حديث حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحدى صلاتي العشي، فصلى ركعتين، ثم سلم - وذكر الحديث، وفيه: قال: ((أصدق ذو اليدين؟)) .
فاومئوا - أي: نعم - وذكر الحديث.
وذكر أن حماد بن زيد تفرد بقوله: ((فأومئوا)) .
وقول إسحاق بن راهويه في هذا كقول أحمد، بالتفريق بين الإمام والمأمومين.
قال: إنما تكلم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه ظن تمأم صلاته، وذو اليدين ظن أن الصَّلاة قصرت وتمت، والصحابة اجابوا النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن اجابته بالكلام عليهم واجبة، لم يجدوا من ذَلِكَ بداً.
قالَ: وإن تكلم الإمام اليوم، وهو شاك في تمام صلاته، واستثبت من معه، جاز لهُ ذَلِكَ، ولو كانوا قدو نبهوه بالتسبيح، ولا يجوز لهم أن يتكلموا إذا علموا أن صلاتهم لم تتم، وتبطل به صلاتهم.
روى كل ذلك حرب وابن منصور، عن إسحاق.
ونقل ابن قرة الزبيدي، عن مالك، أن من تكلم في صلاته بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعاد صلاته؛ لأن الصحابة تكلموا وهم يظنون أن الصَّلاة قد(9/419)
قصرت، فلا يجوز ذَلِكَ اليوم.
وإلى هذه الرواية ذهب ابن كنانة من أصحابه.
وذكر الحارث بن مسكين وابن وضاح أن سائر أصحاب مالك خالفوا ابن القاسم فيما رواه عن مالك.
وقالت طائفة: حديث ذي اليدين يتخرج على أن الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها، عمداً ولا سهواً، وهو قول الأوزاعي وأيوب وحماد بن زيد وربيعة.
ومالك - في المشهور عنه -: نقله ابن القاسم، عنه.
وهو رواية عن أحمد.
وروي عنه، اختصاصه بالإمام.
ومذهب مالك: اختصاصه بالإمام والمأموم، دون المنفرد.
وروي هذا المعنى عن ابن الزبير وغيره من المتقدمين.
ويستدل له بأن في حديث معاوية بن حديج - الذي يأتي ذكره -: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بلالاً أن يقيم الصلاة.
وكذا رواه عبيد بن عمير - مرسلاً.
وهذا يدل على أن إقامة الصلاة والأمر بها لايبطل البناء على ما مضى من
الصلاة.(9/420)
وادعى قوم: أن هذا كان من خصائص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وهذا رواية عن مالك وأحمد، قد سبق ذكرها.
وقد رويت هذه القصة من حديث أبي هريرة، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[سلم] من ركعتين، وأن الذي كلم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو ذي اليدين.
ومن حديث عمران بن الحصين، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلم من ثلاث ركعات، وأن الذي كلمه هو الخرباق.
خرجه مسلم.
وقد نص أحمد على أنهما حديثان، وليسا بقصة واحدة -: نقله عنه علي بن سعيد.
وروى - أيضا - معاوية بن حديج، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى يوما، فسلم، وقد بقيت من الصلاة ركعة، فادركه رجل، فقال: نسيت من الصلاة ركعة، فرجع فدخل المسجد، وأمر بلالاً فأقام، فصلى للناس ركعة. قال: فأخبرت بذلك الناس، فقالوا: تعرف الرجل؟ قلت: لا، الا أن أراه، فمر بي، فقلت: هوَ هذا، فقالوا: هذا طلحة بن عبيد الله.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم.
وقال: صحيح حسن الإسناد.
وفي رواية. أنه المغرب.(9/421)
وقد أنكر الإمام أحمد أن يكون لمعاوية بن حديج صحبة، وأثبته البخاري والأكثرون.
قال ابن حبان: هذا يدل على أن هذه ثلاثة أحوال متباينة في ثلاث صلوات، لا في صلاة واحدة.
ورجح ابن عبد البر وغيره أنها صلاة واحدة، وأن اختلفت بعض الروايات فيها.
وهذا أشبه. والله أعلم.
وعلى القول بأن الكلام نسياناً أو جاهلاً لايبطل الصلاة، إنما هو في اليسير، فأما إن كثر وطال، ففيه وجهان.
والمنصوص عن [أحمد] ، أنه يبطل حينئذ -: نقله عنه أبو داود وغيره.
وكذلك لأصحاب الشافعي وجهان - أيضا.
والمنصوص، عنه: أنه(9/422)
يبطل - أيضا -: نقله عنه البويطي.
قال: الشافعي: لا يشك مسلم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينصرف إلا وهو يرى أن قد أكمل الصلاة، وظن ذو اليدين أن الصلاة قد قصرت بحادث من الله، ولم يقبل
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذي اليدين؛ إذ سأل غيره، ولما سأل غيره احتمل أن يكون سأل من لم يسمع كلامه، فيكونون مثله - يعني: مثل ذي اليدين -، واحتمل أن يكون سأل من سمع كلامه، ولو سمع النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد عليهِ، فلما سمع النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد عليهِ كانَ في معنى ذي اليدين، من أنه لم يدر: أقصرت الصَّلاة أم نسي النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأجابه، ومعناه معنى ذي اليدين مع أن الفرض عليهم جوابه.
ثم قال: فلما قبض رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تناهت الفرائض فلا يزداد فيها، ولا ينتقص منها أبداً.
قال: فهذا فرق ما بيننا وبينه، إذا كان أحدنا إماما اليوم.
وفي حديث أبي هريرة المخرج في هذا الباب فوائد كثير جداً، يطول
استقصاؤها، ولكن نشير إلى بعضها إشارة:
فمنها: أن اليقين لا يزال بالشك؛ فإن ذا اليدين كان على يقين من أن صلاتهم تلك أربع ركعات، فلما صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين احتمل أن يكون قصرت الصلاة، واحتمل أن يكون ناسياً، فسأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أقصرت الصلاة أم نسيت؟
ومنها: أن انفراد الواحد من بين الجماعة بشيء لايمكن في مثله أن(9/423)
ينفرد بعلمه عنهم، يتوقف في قوله، حتَّى يتابعه عليهِ غيره.
وهذا اصل جهابذة الحفاظ: ((أن القول قول الجماعة دون المنفرد عنهم بزيادة ونحوها)) ، لاسيما أن كانوا زيادة الثقة مقبولة مطلقاً، وليس ذلك بشيء، فإذا توبع على قوله اعتمد عليه.
ومنها: أنه قد استدل به بعض من لايقبل خبر الواحد المنفرد به، حتى يتابع
عليه.
ورد ذلك الإمام أحمد، وفرق بينهما بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما سلم من صلاته؛ لأنه كانَ يعتقد اعتقاداً جازماً أنه أتم صلاته، فلذلك توقف في قول ذي اليدين وحده، دون بقية الجماعة الذين شهدوا الصَّلاة.
وأما خبر الواحد الثقة الذي ليس له معارض أقوى منه، فإنه يجب قبوله؛ لأدلة دلت على ذَلِكَ، وقد يتوقف فيهِ احياناً؛ لمعارضته بما يقتضي التوقف فيهِ، كما توقف النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قول ذي اليدين حتى توبع عليه.(9/424)
ومنها: أنه يستدل به على أن الحاكم إذا نسي حكمه، فشهد عليه شاهدان، أنفده وأمضاه، وأن لم يذكره، وهو قول مالك وأحمد.
وعند أبي حنيفة والشافعي: لاينفذه حتى يذكر حكمه به.
وفيه فوائد أخر، تتعلق بسجود السهو، ياتي ذكرها فيما بعد - إن [شاء الله] تعالى.(9/425)
4 - باب
من لم يتشهد في سجدتي السهو وسلم
أنس بن مالك، والحسن، ولم يتشهدا.
وقال قتادة: لا يتشهد؟
أما المروي عن أنس [...........................................] .
وأما المروي عن الحسن، فروى عبد الرزاق، عن معمر، عن رجل، عن
الحسن، قال: ليس فيها تشهد ولا تسليم.
وأما قتادة، قال: يتشهد في سجدتي السهو ويسلم.
وعن عبد الله بن كثير، عن شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أنه وهم في صلاته، فسلم، فسجد سجدتي السهو، ثم سلم مرة أخرى.
قال شعبة: فسألت الحكم وحماداً، فقالا: يتشهد في سجدتي(9/426)
السهو.
وعن ابن جريج، عن عطاء، قال: ليس في سجدتي السهو تشهد.
قلت: أجعل نهضتي قيامي؟ قالَ: بل اجلس، فهوَ أحب إلي، وأوفى لها.
وهذا يدل على أن مراده: السجود بعد السلام، أنه لا يتشهد لهُ، ولا يسلم
منه.
وروى عبد الرزاق بإسناده، عن النخعي، أنه كان يتشهد ويسلم.
وعن الثوري، عن خصيف، عن [أبي] عبيدة، عن عبد الله، أنه تشهد في سجدتي السهو.
وحاصل الأمر: أنه قد اختلف في التشهد، وفي التسليم في سجود السهو:
فأما التشهد: فروي ثبوته عن ابن مسعود والشعبي والنخعي وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد، وقتادة - وفي رواية - والحكم وحماد ويزيد بن قسيط والثوري والليث والأوزاعي وأبي حنيفة.
وروي عن ابن سيرين، قال: أحب إلي أن يتشهد.(9/427)
وروي [....] عن أنس والحسن وعطاء وابن سيرين.
وحكاه البخاري عن قتادة.
وهذا كله في السجود بعد السلام.
وأما السجود قبله، فلا يتشهد فيه عند أحد من العلماء، إلا رواية عن مالك، رواها عنه ابن وهب.
وروي عن ابن مسعود من وجه فيه انقطاع، ومختلف في لفظه، وفي رفعه
ووقفه.
وحديث ابن بحينة يدل على أنه تشهد بعده؛ لأنه قالَ: ((سجد قبل السلام)) ، ولم يتشهد بعده، وإن سجد بعد السلام تشهد بعده، ثُمَّ سلم.
وحكي للشافعي قول آخر: أنه لايتشهد.
وحكي قول ثالث: أنه يتشهد ثم يسجد، ثم يسلم.
واختار الجوزجاني: أنه لا يتشهد في الموضعين، لا قبل السلام، ولا بعده.
وقد روي عن عمر بن الخطاب وعطاء: أن من نسي التشهد الأول يسجد بعد صلاته [و] تشهد تشهدين، وقد ذكرناه فيما تقدم.
وأما التسليم، فروي فعله عن ابن مسعود وعمران بن حصين،(9/428)
وعلقمة والشعبي والنخعي وعبد الرحمن بن أبي ليلى والقاسم وسالم وقتادة والحكم وحماد.
وهو قول الثوري وأبي حنيفة والليث والشافعي وأحمد وإسحاق.
ثم قال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق: يسلم تسليمتين.
وروي عن ابن مسعود من وجه منقطع.
وقال النخعي: يسلم تسليم الجنازة.
يعني: واحدة.
وقاله بعض الحنفية – أيضا.
وقد حكى البخاري، عن أنس والحسن، أنهما سلما.
وحكى غيره، عنهما، أنهما لم يسلما.
وقد تقدم عن الحسن، أنه قال: ليس فيها تشهد ولا تسليم -، وعن عطاء.(9/429)
وروى الربيع بن صبيح، عن عطاء، قال: فيها تشهد وتسليم.
وروي عن عطاء: إن شاء تشهد وسلم، وإن شاء لم يفعل.
وهذا كله في السجود بعد السلام، وأما السجود قبل السلام فإنه يعقبه السلام من ... الصلاة، فلا يحتاج إلى تسليم آخر.
قال البخاري - رحمه الله -:(9/430)
1228 - ثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين: اقصرت الصلاة أم نسيت يارسول الله؟ فقالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أصدق ذو اليدين؟)) ، فقال الناس: نعم، فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى اثنتين أخرتين، ثم [سلم، ثم] كبر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع.(9/430)
حدثنا سليمان بن حرب: ثنا حماد، عن سلمة بن علقمة: قلت لمحمد: في سجدتي السهو تشهد؟ قالَ: ليس في حديث أبي هريرة.
رواية ابن سيرين عن أبي هريرة، إنما فيها ذكر السجدتين، كل سجدة ورفع منها
بتكبير.
وقد خرجه البخاري كذلك بتمامه في الباب الآتي، من حديث يزيد بن إبراهيم التستري، عن ابن سيرين.
وكذلك خرجه مسلم، من حديث ابن عيينة وحماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين.
وكذلك هو في ((الموطأ)) عن أيوب بتمامه.
وكذلك خرجه الترمذي من طريق مالك.
وفي رواية مسلم، قال –يعني: ابن سيرين -: واخبرت عن عمران بن حصين، أنه قالَ: ((ثم سلم)) .
وهكذا خرجه البخاري في ((باب: تشبيك الأصابع [في] المسجد))(9/431)
من طريق ابن عون، عن ابن سيرين، بسياق تام، وفي آخره: ((فربما سألوه: ثم سلم؟ فيقول: نبئت عن عمران بن حصين، قالَ: ((ثُمَّ سلم)) .
وهذا يدل على أن ذكر السلام ليس - أيضا – في حديث أبي هريرة، إنما هو في حديث عمران بن حصين.
وإنما رواه ابن سيرين، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران -: قاله الإمام أحمد.
ورواه كذلك عن يحيى القطان، عن أشعث، عن ابن سيرين.
وخرج الطبراني، من رواية معاوية بن عبد الكريم الضال، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة حديث السهو بطوله، وفيه: فقام فصلى الركعتين، ثم سجد سجدتين، وهو جالس، ثم سلم.
هذه الزيادة غير محفوظة في حديث أبي هريرة، إنما ذكرها ابن سيرين بعد حديث أبي هريرة بلاغاً عن عمران بن حصين.
وخرجه مسلم من طريق الثقفي وابن علية، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(9/432)
وروى محمد بن عبد الله الأنصاري: حدثنا أشعث، عن ابن سيرين، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم.
خرجه أبو داود والترمذي.
وقال: حديث حسن غريب.
وابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم.
وقال: صحيح على شرطهما.
وضعفه آخرون، وقالوا: ذكر التشهد فيه غير محفوظ، منهم: محمد بن يحيى الذهلي والبيهقي، ونسبا الوهم إلى أشعث.
وأشعث، هو: ابن عبد الملك الحمراني، ثقة.
وعندى؛ أن نسبة الوهم إلى الأنصاري فيهِ أقرب، وليس هوَ بذاك(9/433)
المتقن جداً في حفظه، وقد غمزه ابن معين وغيره.
ويدل على: أن يحيى القطان رواه عن أشعث، عن ابن سيرين، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران في السلام خاصة، كما رواه عنه الإمام أحمد -: ذكره ابنه عبد الله، عنه في ((مسائله)) .
فهذه رواية يحيى القطان – مع جلالته وحفظه واتقانه -، عن أشعث، إنما فيها ذكر السلام فقط.
وخرجه النسائي، عن محمد بن يحيى بن عبد الله، عن الأنصاري، عن اشعث، ولم يذكر التشهد.
فإما أن يكون الأنصاري اختلف عليه في ذكره، وهو دليل على أنه لم يضبطه، وإما أن يكون النسائي ترك ذكر التشهد من عمد؛ لأنه استنكره.
وقد روى معتمر بن سليمان، وهشيم، عن خالد الحذاء حديث(9/434)
عمران ابن حصين، وذكرا فيهِ: أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ركعة، ثُمَّ تشهد وسلم، ثُمَّ سجد سجدتي السهو، ثُمَّ سلم.
فهذا هو الصحيح في حديث عمران، ذكر التشهد في الركعة المقضية، لا في سجدتي السهو.
وأشار إلى ذلك البيهقي.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد في سجود السهو، من حديث ابن مسعود، وله طرق:
أجودها: رواية خصيف عن أبي عبيدة، عنه، مع الاختلاف في رفع الحديث، ووقفه أشبه، أو مع الاختلاف في ذكر السجود فبل السلام وبعده.
وروي من وجوه أخر، لا يثبت منها شيء.
وروي –أيضاً - من حديث عائشة – مرفوعاً.
خرجه الطبراني.
وإسناده ساقط.
وقال الجوزجاني: لانعلم في شيء من فعل الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سجدتي السهو قبل السلام وبعده، أنه يتشهد بعدهما.
وقال – أيضا -:(9/435)
ليس في التشهد في سجود السهو سنة قائمة تتبع.
وقال ابن المنذر: السلام في سجود السهو ثابت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير وجه، وثبت عنه أنه كبر فيهما أربع تكبيرات.
وفي ثبوت التشهد عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهما نظر.
وخرج أبو داود في ((سننه)) من حديث سلمة بن علقمة، عن محمد، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحديث السهو، وفي آخره: قلت لمحمد: يعني التشهد؟ قالَ: لم أسمع في التشهد، وأحب إلي أن يتشهد.
وهذه الرواية: تدل على أن رواية اشعث عنه في التشهد لا اصل لها؛ لأن ابن سيرين أنكر أن يكون سمع في التشهد شيئاً.
والرواية التي ساقها البخاري من رواية سلمة بن علقمة، عن ابن سيرين، إنما فيها أنه قال: ((ليس في حديث أبي هريرة)) –يعني: التشهد.
وقد بقي من فوائد حديث أبي هريرة أحكام، لم يتقدم ذكرها:
فمنها: أن الإمام إذا سها، ولم يتيقن سهوه، فذكره المامومون، فإن ذكر سهوه عمل بذكره، بغير خلاف بين العلماء.
وقد قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(9/436)
((إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني)) .
وأما إن لم يذكر سهوه حين ذكروه، فظاهر حديث أبي هريرة يدل على أنه يرجع إلى قول المأمومين، إذا لم يتيقن أنه على [الصواب] يقينا، وكذلك حديث عمران بن حصين، وحديث معاوية بن حديج.
وقد بوب البخاري على ذلك في ابواب الإمامة: ((باب: هل ياخذ الإمام إذا شك بقول الناس؟)) .
وخرج فيهِ حديث أبي هريرة، من طريق ابن سيرين، ومن طريق أبي سلمة.
وبهذا قال جمهور اهل العلم، وهو قول عطاء وأبي حنيفة والثوري ومالك – في رواية – وأحمد وغيرهم.
واختلفوا: هل يجب الرجوع إلى قولهم، أم يستحب؟
فقالَ أبو حنيفة: يجب.
وهو ظاهر أحمد. وروي عنه، أنه يستحب الرجوع إليهم، وله أن يبني على يقين نفسه، أو يتحرى، كما لو كان منفردا.
وقال ابن عقيل من أصحابنا: إنما يرجع إلى قول المأمومين، إذا قلنا: إن الإمام يتحرى، ولا يعمل بيقين نفسه؛ فإن أكثر ما يفيد قولهم غلبة(9/437)
الظن، فيكون الرجوع إليهم من باب التحرى، فأما إذا قلنا: يعمل باليقين، لم يلتفت إليهم.
وجمهور أصحابنا على خلاف هذا، وأنه يرجع اليهم على كلا القولين؛ فإن قول اثنين فصاعدا من المأمومين حجة شرعية، فيجب العمل بها، وإن لم يوجب العلم، كسائر الحجج الشرعية التي يجب العمل بها من البيات وغيرها، وإنما محل الخلاف في التحري بالأمارات المجردة عن حجة شرعية.
وقال الشافعية ومالك – في رواية أخرى -: لا يرجع الإمام إلى قول المأمومين، إذا لم يذكر ما ذكروه به، بل يبني على يقين نفسه.
ولأصحابهما قول آخر: إنه يرجع إليهم، إذا كثروا؛ لبعد اتفاقهم على الخطإ، فأما الواحد والاثنان، فلا.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجب الرجوع إلى قول واحد من المأمومين؛ لأنه خبر ديني، فهوَ كالإخبار بالقبلة ونحوها.
وكذا قال إسحاق: يرجع إلى قول واحد.(9/438)
ومذهب مالك وأحمد: لا يرجع إلى قول واحد من المامومين، بل إلى ما زاد على الواحد؛ لحديث أبي هريرة؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكتف بقول ذي اليدين حتى سال غيره، فلما اخبروه عمل بقولهم، ولأن انفراد الواحد من بين المامومين بالتنبيه على السهو، مع اشتراكهم جميعا في الصلاة يوجب ريبة، فلذلك احتاج إلى قول آخر يعضده.
وقد تقدم القول في هذا بابسط من هذا الكلام في ((باب: هل ياخذ الإمام إذا شك بقول الناس؟)) .
ومنها: أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ قد وقع منه في هذه الصَّلاة سلام من نقص وقيام ومشي وكلام، وكل واحد من هذه سبب يقتضي السجود بانفراده، ولم يسجد إلا سجدتين.
وكذلك حديث ابن بحينة، فإن فيه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك التشهد الأول والجلوس له، ويقتضي ذلك ترك التكبيرة للقيام منه، وقد سجد سجدتين.
فدل على أن السهو إذا تعدد، لم يوجب أكثر من سجدتين.
وهذا قول جمهور العلماء، إذا كان من جنس واحد، وإنما خالف فيه الأوزاعي.(9/439)
ويدل على الاكتفاء بسجود واحد، وإن تعدد السهو: أنه شرع تأخر السجود إلى آخر الصلاة، فدل على أنه يكتفى به لجميع ما يتجدد في الصلاة من السهو، إذ لو كان لكل سهو سجود، لشرع السجود عقب كل سهو عنده.
ومنها: أنه سجد للسهو بعد السلام، وسنذكره هذه المسألة مستوفاة فيما بعد – أن شاء الله تعالى.(9/440)
5 - باب
يكبر في سجدتي السهو
وفيه حديثان:
الأول:(9/441)
1229 - حدثنا حفص بن عمر: ثنا يزيد بن إبراهيم، عن محمد، عن أبي
هريرة، قال: صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحدى صلاتي العشي –قال محمد: وأكثر ظني العصر – ركعتين، ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد، فوضع يده عليها، وفيهم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس، فقالوا: قصرت الصلاة، ورجل يدعوه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذا اليدين، فقال: أنسيت، أم قصرت؟ فقالَ: ((لم أنس، ولم
تقصر)) . قالَ: بلى، قد نسيت، فصلى ركعتين، ثُمَّ سلم، ثُمَّ كبر، ثُمَّ سجد مثل سجوده أو اطول، ثُمَّ رفع رأسه فكبر، ثُمَّ وضع رأسه فكبر، فسجد مثل سجوده(9/441)
أو أطول، ثُمَّ رفع رأسه فكبر.
((صلاتا العشي)) : هما الظهر والعصر؛ لأنهما بعد زوال الشمس، وذلك زمن العشي.
وأكثر ظن ابن سيرين، أنها العصر.
وفي رواية ابن عون، عنه، أنه قال: سماها أبو هريرة، ونسيتها أنا.
وروي مجزوماً بذلك.
خرجه الإمام أحمد.
وفي هذه الرواية: أنه قام من مكانه الذي صلى فيه إلى مقدم المسجد، ووضع يده على الخشبة.
وفي رواية ابن عون، عن ابن سيرين، أنه شبك أصابعه.
وقد خرجها البخاري – فيما مضى.
وأما هيبة أبي بكر وعمر أن يكلماه، مع قربهما منه، واختصاصهما به، فلشدة معرفتهما بعظمته وحقوقه، وقوة المعرفة توجب الهيبة، كما أن اشد الناس معرفة بالله أشدهم لهُ خشية وهيبة وإجلالا، كما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذلك.
((وسرعان الناس)) ، وهم الذين أسرعوا الخروج من المسجد، فظنوا أن الصلاة قصرت، فتحدثوا بذلك.
وهذا يدل على أنه لم يخف ذلك على(9/442)
عامة من كان في المسجد أو كلهم.
وفي رواية ابن عون، عن ابن سيرين، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام إلى خشبة فاتكأ عليها، وشبك بين أصابعه، ووضع خده على ظهر كفه، كأنه غضبان.
والظاهر: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في حال الصلاة مشغول البال بأمر أوجب له ذلك الغضب، وهو الذي حمله على أن صلى ركعتين وسلم، ولم يشعر بذلك.
وقوله: ((ورجل يدعوه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذا اليدين)) ، فيه: دليل على أنه يجوز دعاء الإنسان بغير اسمه، ولا سيما إذا كان ليس من الألقاب المكروهة، وربما كان يدعى بذلك من باب الفكاهة والمزاح، كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرجل: ((ياذا الأذنين)) .
وقوله: ((لم أنس ولم تقصر)) وهكذا في رواية ابن عون – أيضا -، عن ابن سيرين.
وزعم بعضهم: أن مراده: نفي مجموع الأمرين، يعني: لم يجتمع القصر
والنسيان، ولم يرد نفي أحدهما بانفراده.
وهذا ليس بشيء؛ فإنه لو كانَ(9/443)
كذلك لكان ذاكراً لنسيانه حينئذ، مثبتاً لهُ؛ فإن القصر منتف قطعاً، فيكون مثبتا لنسيانه حينئذ، ولو كانَ حينئذ ذاكراً لنسيانه لم يحتج إلى قول ذي اليدين لهُ، ولا لاستشهاده بالناس على صدقه؛ فإن في رواية ابن عون: فقال: ((أكما يقول ذو اليدين؟)) ، قالوا: نعم.
ولو كانَ لنسيانه حينئذ لما تكلم، فإنه كانَ يكون متكلماً وهوعالم بأنه في صلاة أو حكمها، وإنما قالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لم أنس ولم تقصر)) باعتبار ما كانَ في اعتقاده، بأنه أتم صلاته، ولم ينس منها شيئاً، فإنه إنما سلم من ركعتين لاعتقاده أنه أتمها. فقوله: ((لم أنس)) إخبار عن حاله التي كانَ عليها في الصَّلاة، وهي مستمرة إلى حين تكلم بهذا.
وقد صح عنه، أنه قال: ((إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني)) .
ولعلهم امتنعوا من تذكيره في هذه الصلاة بالتسبيح؛ لأنهم كانوا علي رجاء منه أن يقوم من التشهد إلى الركعتين الباقيتين، وإنما تيقنوا تركه لهما بسلامه، وكانوا حينئذ غير متيقنين لسهوه، فإنه كن يحتمل عندهم أن تكون الصلاة قد قصرت، فلذلك لم يسبحوا به عند سلامه.
وقول ذي اليدين: ((قد نسيت)) ، إنما جزم به لنفي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر(9/444)
الصلاة، مع على الناس بأنه إنما صلى ركعتين فقط، فتعين أن يكون ترك الركعتين نسياناً.
والمقصود من هذا الباب: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سجد سجدتي السهو كبر فيها أربع تكبيرات، كبر في كل سجدة تكبيرة للسجود، وتكبيرة للرفع منه.
الحديث الثاني:(9/445)
1230 - حدثنا قتيبة: ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن الاعرج، عن عبد الله بن بحينة الاسدي – حليف بني عبد المطلب -، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين، يكبير في كل سجدة وهو جالس، قبل أن يسلم، وسجدهما الناس معه، مكان ما نسي من الجلوس.
تابعه: ابن جريج، عن ابن شهاب، في التكبير.
هذا الحديث؛ خرجه مسلم عن قتيبة، كما خرجه البخاري.
وخرجه النسائي من طريق ابن وهب: أخبرني عمرو ويونس والليث، عن ابن شهاب – فذكره بهذا اللفظ – أيضا.(9/445)
ورواه مالك، عن ابن شهاب، وقال في حديثه: ((فكبر ثم سجد سجدتين)) .
وهو مخرج في ((الصحيحين)) من طريق مالك.
وخرجه البخاري من طريق شعيب، عن الزهري - أيضا - كذلك.
وأما متابعة ابن جريج لليث بن سعد في ذكر التكبير:
فخرج الإمام أحمد، عن محمد بن بكر، عن ابن جريج: أخبرني ابن شهاب – فذكر الحديث، وفيه: ((فلما صلى الركعتين الاخريين، وانتظر الناس أن يسلم كبر، فسجد، ثم كبر فسجد، ثم سلم)) .
وخرجه عبد الرزاق في ((كتابه)) ، عن ابن جريج – أيضا -، وعنده: يكبر في كل سجدة.
ورواه الأوزاعي، عن الزهري، فذكر في حديثه أربع تكبيرات، لكل سجدة تكبيرتين، تكبيرة للسجود، وتكبيرة للرفع، كما في حديث أبي هريرة المتقدم.
والعمل على هذا عند أهل العلم، أنه يكبر في كل سجدة تكبيرة للسجود وتكبيرة للرفع منه.
وبه قال عطاء والشافعي وأحمد وغيرهم.
ولا فرق في ذلك بين السجود قبل السلام وبعده.
ومن الشافعية من قال في السجود بعد السلام: يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يكبر للسجود، كقولهم في سجدة التلاوة، كما سبق.(9/446)
وقد دل حديث ابن بحينة على السجود قبل السلام، وحديث أبي هريرة على السجود بعد السلام.
وكذلك حديث عمران بن حصين، وحديث معاوية بن حديج، وقد سبق ذكرهما.
وقد اختلف العلماء في محل سجود السهو، على ستة أقوال:
أحدهما: أنه كله بعد السلام.
قال ابن المنذر: روي ذلك عن علي وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعمار وأنس وابن الزبير وابن عباس، وبه قال الحسن والنخعي وابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح وأصحاب الرأي.
يعني: أبا حنيفة وأصحابه.
قال: ويجزئ عندهم أن يسجدهما قبل السلام.
قلت: وممن قال: يسجد بعد السلام -: قتادة.
وروي عن عمران بن حصين – أيضا.
والقول الثاني: أن كله قبل السلام.
قال ابن المنذر: روي عن أبي هريرة، وبه قال مكحول والزهري ويحيى الأنصاري وربيعة والأوزاعي والليث والشافعي. انتهى.
وحكي رواية عن أحمد.
وقيل: إنه لم يوجد بها نص عنه.(9/447)
وقد ذكر القاضي في ((كتابه شرح المذهب)) : إن سلم من نقص ركعة تامة فأكثر، فإنه يسجد له بعد السلام، رواية واحدة، ولم نجد عن أحمد فيه خلافاً.
وأسنده الترمذي في ((كتابه)) عن أبي هريرة [و] السائب القارئ.
وذكر الشافعي، أن أخر فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود قبل السلام، وأنه ناسخ لما
عداه.
وروي عن مطرف بن مازن، عن معمر، عن الزهري، قال: سجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجدتي السهو قبل السلام وبعده، وآخر الأمرين قبل السلام.
ومطرف هذا، ضعيف.
وغاية هذا، أنه من مراسيل الزهري، وهي من أوهى المراسيل.(9/448)
وسجود النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل السلام وبعده، إن كان في صورتين، أمكن العمل بهما معا، وإن كان في صورة واحدة، دل على جواز الأمرين، والعمل بهما جميعاً، والنسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع، ولو توجه.
وادعى جماعة منهم، أن سجود النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد السلام في حديث أبي هريرة كان سهوا، حيث كانت تلك القصة تضمنت أنواعا من السهو.
وهذا قول ساقط جداً، فان السهو كان قبل إعلام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحال، وأما بعد إعلامه، فلو تطرق السهو إلى فعله لم يحتج به كله، وقد اجتمعت الأمة على الاحتجاج به، كيف؛ وقد رواه عمران بن حصين ومعاوية بن حديج وغير واحد، وقد قيل: إنها وقائع متعددة، كما سبق.
والقول الثالث: أن كان السهو من نقصان من الصلاة، فان سجوده قبل السلام، وان كان من زيادة فيها، فان سجوده بعد السلام؛ لئلا يجتمع في الصَّلاة زيادتان، وهو قول مالك والشافعي – في القديم – وأبي ثور.
وهو رواية عن أحمد.
والشك – على هذه الرواية – عنده كالنقص، يسجد له قبل السلام -: نص عليه أحمد.(9/449)
ونقل حرب، عن إسحاق، مثل هذا القول، إلا أنه قال في الشك: يسجد له بعد السلام، ويبني على اليقين.
وهو قول مالك.
وروي هذا المعنى عن ابن مسعود:
رواه إسحاق بن راهويه، عن عتاب بن بشير، عن خصيف، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود، قال: كل شيء في الصلاة من نقصان من ركوع أو سجود أو غير
ذلك، فسجدتا السهو قبل التسليم، وما كان من زيادة، سجدها بعد التسليم.
وعتاب هذا، مختلف فيه.
وقد رواه غيره، عن خصيف، بغير هذا اللفظ.
روى الطبراني في هذا المعنى حديثين مرفوعين، من حديث عائشة، في إسناده علي بن ميمون، وهو متروك الحديث.(9/450)
وأهل هذه المقالة جمعوا بهذا بين حديثي ابن بحينة وحديث أبي هريرة، وما في معناه؛ فان في حديث أبي هريرة، وما في معناه؛ كان قد وقع في تلك الصلاة زيادة كبيرة سهواً من سلام وكلام وعمل، فلذلك سجد بعد السلام، وحديث ابن بحينة، فيه: انه سجد قبل السلام؛ لترك التشهد الأول، فيلحق بالأول كل زيادة، وبالثاني كل نقصنٍ.
ويشهد لذلك: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر خمساً، فسجد له بعد السلام، كما في حديث ابن مسعود، وقد سبق.
لكن قد ذكرنا – فيما تقدم – أنه لا دلالة فيه؛ فإن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما علم بسهوه بعد أن سلم، فكان سجوده بعد السلام ضرورة، لا عن قصد.
القول الرابع: أن سجود السهو كله قبل السلام، إلا في موضعين:
أحدهما: من سلم من نقص ركعة تامة فأكثر من صلاته سهواً، فإنه يأتي بما
فاته، ويسجد بعد السلام، كما في حديث أبي هريرة وعمران بن حصين وغيرهما.
والثاني: إذا شك في عدد الركعات، وعمل بالتحري، فإنه يسجد له بعد
السلام، كما في حديث ابن مسعود، ويأتي ذكره – إن شاء الله.
وما عدا هذين الموضعين، فإنه يسجد له قبل السلام، إلا أن لا يذكر سهوه إلا بعد أن يسلم، فإنه يسجد له بعد السلام ضرورة، كما في حديث ابن مسعود المتقدم.
وهذا هو ظاهر مذهب الإمام أحمد، وعليه عامة أصحابه، ووافقه عليه طائفة من أهل الحديث، منهم: سليمان بن داود الهاشمي، وأبو(9/451)
خيثمة وابن المنذر.
وفي هذا عمل بجميع الأحاديث كلها على وجهها.
غير أن ترك التشهد الأول قد روي عن المغيرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سجد له بعد السلام، ولكن حديث ابن بحينة أصح منه، فأخذ أحمد بأصح الحديثين فيما اختلفت الرواية فيه بعينه.
وقد قال طائفة من أصحابنا: إن القياس أن يكون السجود كله قبل السلام؛ لأنه تتمة الصَّلاة، كما في حديث عثمان بن عفان، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((إياي وأن يتلعب بكم الشيطان في صلاتكم، من صلى منكم فلم يدر أشفع أم وتر، فليسجد سجدتين؛ فإنهما من تمام صلاته)) .
خرجه الإمام أحمد.
وإذا كانت السجدتان من تمام الصلاة، فتكون قبلها، ولكن إنما ترك ذلك في تلك الصورتين لورود النص فيهما، فما عداهما باق على الأصل.
وقد أشار أحمد إلى هذا المعنى بعينه – في رواية ابن بدينا.
ومن المتأخرين من قال: بل القياس يقتضي التفريق بين هاتين الصورتين وغيرهما؛ فان من سلم من نقص فقد زاد في صلاته زيادة، لو(9/452)
تعمدها لبطلت صلاته، فيكون السجود بعد السلام؛ لئلا يجتمع في الصلاة زيادتان، ويكون السجود هنا بمنزلة صلاة مستقلة، جبر بها النقص الداخل في صلاته، وهو إرغام الشيطان.
وأما من شك وتحرى وبنى على غالب ظنه، فإنه قد أتم صلاته ظاهراً، فيسجد بعد السلام سجدتين زائدتين على صلاته، كما سماها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إرغأما للشيطان)) ؛ فإنه قصد تنقيص صلاته، فأتمها وزاد عليها زيادة أخرى.
وأما إذا بنى على اليقين، فإنه يحتمل الزيادة في صلاته احتمالاً ظاهراً، والزيادة هنا من جنس الصلاة بخلاف الزيادة في صورة السلام من النقص، فكانت السجدتان كركعة تشفع له صلاته؛ لئلا تكون صلاته وتراً، فيسجد قبل السلام.
وهذا كله قد أشار إليه النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كلامه وتعليله، كما سيأتي لفظ الأحاديث
فيهِ.
ومن هنا: يتبين أن من صلى خمساً ساهياً، وذكر قبل سلامه، أنه يسجد حينئذ قبله، حتى لا يسلم عن وتر.
لكن يقال: فلو ذكر أنه صلى ركعتين زائدتين كان الحكم كذلك، مع أنه لم يسلم عن وتر.
القول الخامس: كالقول الرابع: إن ما فيه نص عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه يتبع نصه، وما ليس فيه، فإن كان نقصاً في الصلاة فسجوده قبل السلام، وإن كان زيادة فسجوده بعده.(9/453)
وهذه رواية ابن منصور، عن إسحاق بن راهويه.
والقول السادس: أن ورود بعض النصوص بالسجود قبل السلام، وبعضها بالسجود بعده يدل على جواز كلا الأمرين، من غير كراهة، فيعمل بهما في الجواز.
وأهل هذه المقالة لهم قولان:
أحدهما: أنهما سواء في الفضل، وحكي ذلك قولا للشافعي، كما سيأتي ذكره.
والقول الثاني: أنهما سواء في الجواز، وإن كان بعضهما أفضل من بعض.
وقد حكى ابن المنذر، عن أهل الرأي، أنهم يرون السجود قبل السلام جائزاً، والسجود بعده أفضل.
وكذلك حكى ابن عبد البر اختلاف العلماء في محل السجود، ثم قال: كل هؤلاء يقولون: لو سجد بعد السلام فيما فيه السجود قبله فيما لم يضره، وكذلك لو سجد قبله فيه السجود بعده لم يضره، ولم يكن عليه شيء.
وقال الماوردي - من الشافعية – في كتابه ((الحاوي)) : لا خلاف بين الفقهاء – يعني: جميع العلماء – أن سجود السهو جائز قبل السلام(9/454)
وبعده، وإنما اختلفوا في المسنون والأولى: هل هو قبل السلام، أو بعده.
ثم ذكر اختلاف العلماء في ذلك.
وكذلك صرح بهذا طوائف من الحنفية والمالكية والشافعية، ومن أصحابنا كالقاضي أبي يعلى وأبي الخطاب في ((خلافيهما)) وغيرهما من بعد.
وفي ((تهذيب المدونة)) للمالكية: ومن وجب عليه سجود سهو بعد السلام، فسجده قبل السلام، رجوت أن يجزئه.
وأنكر ذلك طوائف أخرون من أصحابنا والشافعية، وقالوا: إنما الاختلاف في محل السجود في وجوبه عند من يراه واجباً، وفي الاعتداد به وحصول السنة عند من يراه سنة.
وهذا ظاهر على قواعد أحمد وأصحابه؛ لأنهم يفرقون في بطلان الصَّلاة بترك سجود السهو عمداً، بين ما محله قبل السلام وما محله بعده، فيبطلون الصَّلاة بترك السجود الذي محله قبل السلام، دون الذي محله بعده، ولو كانَ ذَلِكَ على الأولوية لم يكن لهُ أثر في إبطال الصَّلاة.
وقال القاضي أبو يعلى الصغير من أصحابنا: لو كان عليه سجود بعد السلام، فسجده قبله: هل يجزئه، ويعتد به؟ على وجهين.
ولم يذكر حكم ما لو سجد بعد السلام، لما قبله.(9/455)
وظاهر كلامه: أنه لا يجزئه بغير خلاف.
وهذه – أيضا – طريقة أبي المعالي الجويني من الشافعية ومن اتبعه، فإنه حكى في المسألة طريقين لأصحابه.
أحدهما:
إن في المسألة ثلاثة أقوال – يعني: للشافعية -:
الصحيح فيها: أنه قبل السلام، فإن أخره لم يعتد به.
الثاني: أن كان السهو زيادة، فحمله بعد السلام وإن كان نقصاً فقبله، ولا يعتد به بعده.
والثالث: إن شاء قدمه، وإن شاء أخره.
والطريق الثاني:
يجزئ التقديم والتأخير، وإنما الأقوال في بيان الأفضل:
ففي قول: التقديم أفضل.
وفي قول: التقديم والتأخير سواء في الفضيلة.
وفي قول: إن كان زيادة فالتأخير أفضل، وإلا فالتقديم.
قال: ووجه هذه الطريقة: صحة الأخبار في التقديم والتأخير.
قال: والطريقة المشهورة الأولى، ويجعل الخلاف في الأجزاء والجواز، كما
سبق.(9/456)
6 - باب
إذا لم يدر كم صلى - ثلاثاً أو أربعا -
سجدة سجدتين وهو جالس.(9/457)
1231 - ثنا معاذ بن فضالة: ثنا هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع الأذان، فإذا قضى الأذان أقبل، فإذا ثوب بها أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: أذكر كذا وكذا – مالم يكن يذكر – حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى، فإذا لم يدر أحدكم كم صلى – ثلاثا أو أربعا -، فليسجد سجدتين وهو جالس)) .
((يخطر)) بضم الطاء عند الأكثر، والمراد: أنه يمر، فيحول بين المرء وما يريد من نفسه، من إقباله على صلاته.
وروي ((يخطر)) – بكسر الطاء -، يعني:(9/457)
تحرك، فيكون المعنى: حركته بالوسوسة.
وقوله: ((حتى يظل الرجل)) ، هكذا الرواية المشهورة بالظاء القائمة المفتوحة، والمراد: يصير، كما في قوله تعالى: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} [النحل: 58] .
وروى بعضهم ((يضل)) بالضاد المكسورة، من الظلال، يعني: انه ينسى ويتحير.
وقوله: ((إن يدري)) ، (أن) بفتح الهمزة، حكاه ابن عبد البر عن الأكثرين، وقال: معناه: لايدري.
وقال القرطبي: ليست هذه الرواية بشيء، إلا مع رواية: ((الضاد)) ، فتكون: ((أن)) مع الفعل بتأويل المصدر مفعول ((ضل)) إن، بأسقاط حرف الجر، أي يضل عن درايته وينسى عدد ركعاته.
قال: وفيه بعد، ورجح أن الرواية: ((إن)) بكسر الهمزة، يعني: ما يدري.
قلت: أما وقوع ((إن)) المكسورة نافية فظاهر، وأما ((أن)) المفتوحة، فقد ذكر بعضهم أنها تأتى نافية – أيضا -، وأنكره أخرون.
فعلى قول من أثبته، لا فرق بين أن تكون الرواية هاهنا بالفتح أو بالكسر.
وقوله: ((فإذا لم يدر أحدكم كم صلى – ثلاثاً أو أربعا -، فليسجد
سجدتين)) ، ليس في هذا الحديث سوى الأمر بسجود السهو عند الشك، من غير أمر بعمل بيقين أو تحر.(9/458)
وروي عن أبي هريرة، أنه أفتى بذلك.
قال عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه: سالت أبا هريرة، فقلت: شككت في صلاتي. قال: يقولون: اسجد سجدتين وأنت جالس.
وهذا كله، ليس فيه بيان انه يتحرى أو يبني على اليقين، ولا بد من العمل بأحد الأمرين، وكلاهما قد ورد في أحاديث أخر، تقضي على هذا الحديث المجمل.
وقد روي من حديث أبي هريرة التحري، بالشك في رفعه ووقفه.
فروى شعبة، عن ابن إدريس الأودي، عن أبيه، عن أبي هريرة – قال شعبة: قلت: عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالَ: أحسبه، أكبر علمي، أنه قالَ: عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قالَ: ((لا يصلي أحدكم وبه شيء من الخبث)) ، وقال في الوهم: ((يتحرى)) .
وروي في حديث أبي هريرة ذكر السجود قبل السلام في هذا، من رواية ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((إن الشيطان يأتي أحدكم في صلاته، فيدخل بينه وبين نفسه، حتى لا يدري زاد أو نقص، فإذا كان ذلك، فليسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم يسلم)) .
خرجه أبو داود وابن ماجه.
وخرجه ابن ماجه – أيضا – من رواية ابن إسحاق – أيضا -: اخبرني سلمة بن صفوان بن سلمة، [عن أبي سلمة] ، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – بنحوه -، وقال: ((فليسجد سجدتين(9/459)
قبل أن يسلم)) .
وخرجه أبو داود من طريق ابن أخي الزهري، عن الزهري، بهذا الإسناد، ولفظه: ((فليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم)) .
وخرجه الدارقطني من رواية عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي، - فذكره، وقال: - بعد قوله: ((فليسجد سجدتين وهو جالس)) -: ((ثم يسلم)) .
وذكر في ((العلل)) أن سليمان وعلي بن المبارك وهشاما والأوزاعي وغيرهم رووه، عن يحيى، ولم يذكروا فيه: التسليم قبل ولا بعد.
قال: وكذلك قال الزهري، عن أبي سلمة.
ولم يذكر رواية ابن إسحاق وابن أخي الزهري، عن الزهري، وذكر رواية ابن إسحاق، عن سلمة بن صفوان بن سلمة، كما رواه عكرمة(9/460)
بن عمار، عن يحيى.
قال: وهما ثقتان، وزيادة الثقة مقبولة.
قال: ورواه فليح بن سليمان، عن سلمة بن صفوان، وقال فيه: ((وليسلم، ثم ليسجد سجدتين)) ، بخلاف رواية ابن إسحاق.
قلت: أما ابن إسحاق، فمضطرب في حديث الزهري خصوصاً، وينفرد عنه بما لا يتابع عليه، وروايته عن سلمة بن صفوان، قد خالفه فيها فليح، كما ترى.
ورواية عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، كثيرة الاضطراب عند يحيى القطان وأحمد وغيرهما من الأئمة.
ففي ثبوت هذه الزيادة نظر. والله تعالى أعلم.
وقد روي من غير حديث أبي هريرة البناء على اليقين والتحري.
فأما الأول:
فخرجه مسلم، من طريق سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا شك أحدكم في
صلاته، فلا يدري كم صلى ثلاثا أو أربعا، فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فان كان صلى خمساً، شفعن له صلاته، وان كان صلى إتمأما لأربع، كانتا ترغيما للشيطان)) .(9/461)
وخرجه – أيضا – من رواية داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، به – بمعناه.
وخرجه الدارقطني من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، وهشام بن سعد بن سليمان وغيرهم، عن زيد بن أسلم – كذلك.
وكذلك رويناه من حديث عبد الله بن صالح، عن الليث، عن ابن عجلان، عن زيد بن أسلم – بهذا الإسناد.
والمعروف من رواية ابن عجلان: أنه لم يذكر في حديثه: ((قبل السلام)) .
وكذا رواه أبو غسان وغيره، عن زيد بن أسلم.
ورواه مالك في ((الموطأ)) والثوري ويعقوب، عن زيد بن أسلم، عن عطاء – مرسلاً.
ووصله الوليد بن مسلم وغيره، عن مالك.
وليس بمعروف عنه(9/462)
وصله.
ووصله بعضهم عن الثوري – أيضا.
ولعل البخاري ترك تخريجه؛ لإرسال مالك والثوري لهُ.
وحكم جماعة بصحة وصله، منهم: الإمام أحمد والدارقطني.
وقال أحمد: اذهب إليه. قيل له: إنهم يختلفون في إسناده. قال: إنما قصر به مالك، وقد أسنده عدة، فذكر منهم: ابن عجلان وعبد العزيز بن أبي سلمة.
ورواه الدراوردي وعبد الله بن جعفر وغيرهما، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ذكره الدارقطني.
وقال: القول قول من قال: عطاء، عن أبي(9/463)
سعيد.
وله شاهد عن أبي سعيد من وجه أخر، من رواية عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير: حدثني هلال بن عياض: حدثني أبو سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا صلى أحدكم، فلا يدري زاد أو نقص، فليسجد سجدتين وهو جالس)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي.
وقال: حديث حسن.
وخرجه النسائي، وزاد في رواية له: ((ثم يسلم)) .
وشيخ يحيى بن أبي كثير، مختلف في اسمه، وحاله.
وروى ابن إسحاق، عن مكحول، عن كريب، عن ابن عباس، عن
عبد الرحمن بن عوف، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا سها(9/464)
أحدكم في صلاته، فلم يدر واحدة صلى أم ثنتين، فليبن على واحدة فان لم يدر ثنتين صلى أو ثلاثاً، فليبن على ثنتين، فإن لم يدر صلى ثلاثا أو أربعا، فليبن على ثلاث، وليسجد سجدتين قبل أن يسلم)) .
خرج الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي.
وقال: حسن صحيح.
والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.
وله علة ذكرها ابن المديني.
قال: وكان عندي حسناً، حتى وقفت على علته، وذلك أن ابن إسحاق سمعه من مكحول مرسلا، وسمع إسناده من حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن مكحول. قال: يضعف الحديث من هاهنا.
يعني: من جهة حسين الذي يرجع إسناده إليه.
وخرجه الإمام أحمد، عن ابن علية، عن ابن إسحاق – كما ذكره ابن المديني.
وكذا رواه عبد الله بن نمير وعبد الرحمن المحاربي، عن ابن إسحاق، عن مكحول – مرسلاً – وعن حسين عن مكحول – متصلاً.(9/465)
ورواه حماد بن سلمة وغيره، عن ابن إسحاق، عن مكحول – مرسلاً.
ذكره الدارقطني.
وخرجه الإمام أحمد – أيضا - من رواية إسماعيل بن مسلم، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإسماعيل، هو: المكي، ضعيف جداً.
وقد قيل: إنه توبع عليه، ولا يصح، وإنما مرجعه إلى إسماعيل -: ذكره الدارقطني.
روى أيوب بن سليمان بن بلال، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن عمر بن محمد بن زيد، عن سالم، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا لم يدر أحدكم كم صلى – ثلاثا أو أربعا – فليركع ركعتين، يحسن ركوعهما
وسجودهما، ثم ليسجد سجدتين)) .
خرجه الحاكم.
وقال: صحيح على شرطهما.
والبخاري يخرج من هذه النسخة كثيراً، ولكن هذا رواه مالك في(9/466)
((الموطإ)) ، عن عمر بن محمد، عن سالم، عن أبيه، - موقوفاً.
قال الدارقطني: رفعه غير ثابت.
وقال ابن عبد البر: لا يصح رفعه.
ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أنه قال: إذا شك الرجل في صلاته، فلم يدر ثلاثا صلى أم أربعا، فليبن على أتم ذلك في نفسه، وليس عليه سجود.
قال: فكان الزهري يقول: يسجد سجدتي السهو وهو جالس.
وأما الثاني: وهو التحري:
فقد خرجه البخاري في ((أبواب استقبال القبلة)) ، من رواية جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – فذكر الحديث، وقال في آخره -: ((وإذا شك أحدكم في صلاته، فليتحرى الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين)) .
وخرجه مسلم – أيضا.
وخرجه من طرق أخرى، عن منصور، وفي بعضها: ((فلينظر أحرى ذلك للصواب)) .
وفي رواية: ((فليتحرى أقرب ذلك إلى الصواب)) .
وفي رواية: ((فليتحرى الذي يرى أنه صواب)) .(9/467)
وخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي، وزادوا فيه: ((ثم يسلم، ثم يسجد سجدتي السهو)) .
وقد رواه جماعة من ثقات أصحاب منصور، عنه، بهذا الزيادة.
وخرجه ابن ماجه، وعنده: ((ويسلم ويسجد سجدتين)) – بالواو.
قال الإمام أحمد – في رواية الأثرم -: وحديث التحري ليس يرويه غير منصور، إلا أن شعبة روى عن الحكم، عن أبي وائل، عن عبد الله – موقوفاً – نحوه، قال: وإذا شك أحدكم فليتحر.
وخرجه النسائي كذلك.
وقد روي عن الحكم – مرفوعاً.
قال الدارقطني: الموقوف عن الحكم أصح.
وقد روي عن ابن مسعود التحري من وجه آخر، مختلف فيه:
فروى خصيف، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا كنت في صلاة، فشككت في ثلاث أو أربع، وأكثر ظنك على أربع، تشهدت، ثم سجدت سجدتين، وأنت جالس قبل أن تسلم، ثم تشهدت – أيضا -، ثم تسلم)) .
وخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.
وذكر أبو داود، أنه اختلف في رفعه ووقفه، وفي لفظه – أيضا.(9/468)
وقال أحمد: حديث اليقين أصح في الرواية من التحري.
وقال في حديث التحري: هو صحيح، وري من غير وجه.
ويظهر من تصرف البخاري عكس هذا؛ لأنه خرج حديث التحري دون اليقين.
وخرج مسلم الحديثين جميعاً.
وقد دلت هذه الأحاديث على أن من شك في عدد صلاته، فإنه ليس عليه
إعادتها، ولا تبطل صلاته بمجرد شكه، بل يسجد سجدتي السهو بعد بنائه على يقينه أو تحريه، وهو قول جمهور العلماء.
وروي عن طائفة، أن من شك في صلاته فإنه يعيدها.
رواه همام بن منبه وابن سيرين، عن ابن عمر.
وهو خلاف رواية ابنه سالم ومولاه نافع وعبد الله بن دينار ومحارب بن دثار وغيرهم، كلهم رووا، عن ابن عمر، أنه يسجد ولا يعيد.
وقد سبق عن ابن عمر رواية أخرى، أنه لا يسجد.
وذكر عطاء، انه سمع ابن عباس يقول: إن نسيت الصلاة المكتوبة فعد لصلاتك. وأنه بلغه عن ابن عمر وابن عباس، أنه إذا شك أعاد مرة(9/469)
واحدة، ثم لا يعيد، ويبني على أحرى ذلك في نفسه، ويسجد سجدتين بعد ما يسلم.
وكذلك قال طاوس: يعيد مرة، ثم لا يعيد.
وقال النخعي: أحب إلي أن أعيد، إلا أن أكون أكثر النسيان، فأسجد للسهو.
وهو قول أبي حنيفة والثوري.
ورويت الإعادة مع الشك مطلقاً عن الشعبي وشريح ومحمد ابن الحنفية.
وأما جمهور العلماء، فعلى أنه لا يعيد الصلاة.
لكن اختلفوا: هل يبني على الأقل – وهو اليقين -، أو يبني على غالب ظنه؟
فقالت طائفة: يبني على غالب ظنه.
روي عن ابن مسعود، وهو قول الكوفيين كالنخعي وأبي حنيفة والثوري – في رواية – والحسن بن حي.
وحكاه ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث.
وحكى ابن عبد البر عن الأوزاعي: يتحرى، فإن قام فلم يدر كم صلى، استأنف.(9/470)
والتحري قول أحمد – في رواية عنه.
وعلى هذه الرواية، فهل ذلك عام في المنفرد والإمام، أم خاص بالإمام؟ على روايتين فيهِ.
وظاهر مذهبه: أنه يختص بالإمام؛ لأنه يعتمد على غلبة ظنه بإقرار المأمومين ومتابعتهم لهُ من غير نكير، فيقوى الظن بذلك.
واستدل هؤلاء بأحاديث تحري الصواب.
وأما حديث إطراح الشك، والبناء على ما استيقن، فحملوه على الشك
المساوي، أو الأضعف.
فأما غلبة الظن، فقالوا: لا يسمى شكا عند الإطلاق، كما يدعيه أهل الأصول ومن تبعهم، وإن كان الفقهاء يطلقون عليه اسم الشك في مواضع كثيرة.
وقالت طائفة: بل يبني على اليقين، وهو الأقل.
وروي عن عمر وعلي وابن عمر، وعن الحسن والزهري، وهو قول مالك والليث والثوري – في رواية – والشافعي وأحمد – في رواية عنه – وإسحاق.
وعن الثوري، قال: كانوا يقولون: إن كان أول ما شك، فإنه يبني على
اليقين، وإن ابتلي بالشك – يعني: أنه يتحرى -، وإن زاد به الشك ورأى انه من الشيطان، لم يلتفت إليه.
وهؤلاء استدلوا بحديث أبي سعيد الخدري المتقدم في البناء على ما استيقن.
وأما أحاديث التحري، فمنهم من تكلم فيها، حتى اعل حديث ابن(9/471)
مسعود المرفوع المخرج في ((الصحيحين)) ، من رواية منصور، عن إبراهيم، عن علقمة،
عنه، بأنه روي موقوفاً، من طريق الحكم، عن أبي وائل، عنه، كما فعل النسائي وغيره.
وقد رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن منصور، عن النخعي، عن علقمة، عن ابن مسعود – موقوفاً.
وهذا قد يتعلق به من يدعي أن هذه الرواية في أخر الحديث مدرجة من قول ابن مسعود.
ومنهم من حمل تحري الصواب على الرجوع إلى اليقين، ومنهم: الشافعي وأصحابه وسليمان الهاشمي والجوزجاني وابن عبد البر وغيرهم.
وفي بعض ألفاظ الحديث ما يصرح بخلاف ذلك، كما تقدم.
وحمل أحمد – في ظاهر مذهبه –التحري على الإمام؛ لأن عمله بغالب ظنه، مع إقرار المأمومين لهُ واتباعهم إياه يقوي ظنه، فيصير كالعمل باليقين، بخلاف المنفرد، فإنه ليس عنده إمارة تقوي ظنه.
وقد نص أحمد، أنه يجوز للإمام إذا شك أن يلحظ ما يفعله المأمومون خلفه، من قيام أو قعود، وغير ذلك، فيتبعهم فيه.
ومن متأخري أصحابنا من قال: يحمل الأمر بالتحري على من قدر(9/472)
عليه، بوجود إمارات توجب له غلبة الظن، ولا يختص ذلك بالإمام، بل المنفرد إذا كان عنده أمارة يتحرى بها عمل بها، فإن لم يكن عند المصلي أمارة توجب ترجيح أحد الأمرين، فقد استوى عنده الأمران، فيطرح الشك حينئذ، ويعمل باليقين.
وعلى هذا يحمل حديث أبي سعيد.
وهاهنا مسلك أخر: وهو حمل الأمر بالتحري على الرخصة والجواز، وحمل الأمر بإطراح الشك والبناء على [ما] استيقن على الأفضل والاحتياط، فيجوز للمصلي إذا شك العمل بكلا الأمرين، ويكون الأفضل الأخذ بالاحتياط.
وصرح بهذا القاضي أبو يعلى من أصحابنا في كتاب ((أحكام القرآن)) ، وتبعه عليه جماعة من أصحابنا.
وهذه المسألة ترجع إلى قاعدة تعارض الأصل والظاهر، وللمسالة أقسام قد ذكرناها مستوفاة في كتاب ((القواعد في الفقه)) .
وحملت طائفة أحاديث البناء على اليقين على من لم يعتبر الشك، ولم تلزمه أحاديث العمل بغلبة الظن على من لزمه الشك، وصار له عادة ووسواساً، فلا يلتفت إليه حينئذ، بل يجعل وجوده كالعدم، ويبني على غالب ظنه.
وذكر ابن عبد البر أن هذا تفسير الليث وابن وهب للحديث، وأنه(9/473)
مذهب مالك – أيضا.
يعني: أن الشك إذا لزم صاحبه وصار وسواسا، لم يلتفت إليه.
وهو قول الثوري، وروي عن القاسم بن محمد، وصرح به أصحابنا – أيضا.
وعلى هذا؛ يحمل حديث الأمر لمن شك في صلاته بان يسجد سجدتين، من غير ذكر تحر ولا يقين.
ولهذا ذكر في أول الحديث تلبيس الشيطان عليه، حتى لا يدري: كم صلى.
وعليه يحمل – أيضا – ما روي عم بعض المتقدمين: أن سجدتي السهو تكفي من شك في صلاته. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما محل السجود للشك، فقد تقدم ذكره في الباب الماضي، واختلاف العلماء فيه، وأن أحمد يعمل بالأحاديث كلها في ذلك.
فإن شك وتحرى، سجد بعد السلام، وإن بنى على اليقين سجد قبله.
وهو قول أبي خيثمة زهير بن حرب – أيضا.
وذكرنا المعنى في ذلك فيما تقدم - أيضا.
ومذهب إسحاق، أنه يبني على اليقين، ويسجد بعد السلام -: نقله عنه
حرب.
ولعله حمل تحري الصواب في حديث ابن مسعود على الأخذ باليقين، كما تقدم عن جماعة أنهم قالوه.
وفي ذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسوسة الشيطان للمصلى، وأمره بالسجود إذا لم يدر كم صلى، يدل على أنه لا يسجد بمجرد وسوسة الصلاة، إذا لم(9/474)
يشك في عدد صلاته.
وعلى هذا جمهور العلماء، وحكاه بعضهم إجماعا.
وحكى إسحاق، عن الحسن بن علي، أنه سجد في الصلاة عن غير سهو ظهر منه، وقال: إني حدثت نفسي.
وروي عن أحمد، أنه سجد للسهو في صلاته، وقال: إني لحظت ذلك الكتاب.
وهذا خلاف المعروف من مذهبه.
وحكى أحمد، عن ابن عباس، قال: إن استطعت أن لا تصلي صلاة إلا سجدت بعدها سجدتين [فافعل] .
وفي أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسجود السهو في حديث أبي هريرة وابن مسعود المتفق عليهما: دليل على أن سجود السهو واجب، إذا كان لما يبطل الصلاة تعمده.
واختلف العلماء في وجوب سجود السهو:
فذهب إلى وجوبه كثير من العلماء، منهم: الحكم وابن شبرمة وأبو حنيفة – فيما حكاه الكرخي، عنه – والثوري وأحمد وإسحاق.
لكن أحمد إنما يوجبه إذا كان لما يبطل عمدة الصلاة خاصة، فأما ما لا يبطل الصلاة عمده، كترك السنن وزيادة ذكر في غير محله، سوى السلام،(9/475)
فليس بواجب عنده؛ لأن السجود من أجله ليس بواجب فعله أو تركه، فجبرانه أولى، فأما ما يجب فعله أو تركه، فيجب جبرانه بالسجود كجبرانات الحج.
وحكي عن مالك وأبي ثور: إن كان من نقصان وجب؛ لأن محله قبل السلام، فيكون من جملة أجزاء الصَّلاة، بخلاف ما محله بعد السلام؛ لأن محله بعد التحلل من الصلاة.
وقال الشافعي: هو سنة بكل حال.
وحكي رواية عن أحمد، وتأولها بعض أصحابه.
واستدل لذلك، بأنه روي في حديث أبي سعيد الخدري المتقدم: ((فإن كانت صلاته تامة، كانت الركعة نافلة والسجدتان)) .
وأجيب: بأن المراد بالنافلة الزيادة على آخر الصلاة، كما في حديث عثمان، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه توضأ، وقال: ((من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة)) .
خرجه مسلم.
وأراد بالنافلة: زيادة في حسناته؛ حيث كانَ الوضوء مكفرا للذنوب.(9/476)
فمن قالَ: إن سجود السهو سنة، لم تبطل الصَّلاة بتركه بحال، وهو قول الشافعي وعبد الملك المالكي.
وكذلك مذهب أبي حنيفة، لكنه عنده: إذا فعل وقع موقع الفرض، والتحق
به، وإن كان بعد السلام حين لو أحدث فيه أو خرج الوقت بطلت الصلاة المتقدمة.
واختلفت الرواية عن أحمد: هل تبطل الصلاة بترك السجود للسهو عنه روايتان:
أحدهما: إن تركه عمدا، وكان محله قبل السلام بطلت الصلاة، وإن كان محله بعد السلام لم تبطل، وإن كان تركه نسياناً لم تبطل بكل حال.
وحكي مثله عن أبي ثور.
لأن ما محله قبل السلام – وهو واجب – هو كالجزء من الصلاة، بخلاف ما محله بعد السلام، فإنه خارج عن الصلاة، فهو كالأذان، عند من يقول بوجوبه، لا يبطل الصلاة تركه.
والرواية الثانية: إذا نسيه حتى طال الفصل أعاد الصلاة.
وهذا يدل على أن تركه يبطل الصلاة بكل حال، وهو قول الحكم وابن شبرمة؛ لأنه سجود واجب في الصَّلاة أو لأجلها، فهوَ كسجود صلب الصَّلاة.(9/477)
وكذلك قال مالك، فيما قبل السلام.
وقال فيما بعده: لايبطل تركه مطلقا.
وروي عن مالك: اختصاص البطلان فينا قبل السلام بترك الأفعال دون الأقوال.
ومذهب الثوري: أن سجود السهو واجب، وليس هو من صلب الصلاة، فمن ضحك فيه أو أحدث، فلا شيء عليه.
ولكنه قال، فيمن سلم وهو يرى أنه ينبغي أن يسجد [في] صلاته: أعاد الصلاة؛ لأنه أدخل في صلاته زيادة.
يعني به: السلام.
وهذا يدل على تفريقه بين سجود السهو الذي قبل السلام وبعده، كقول أحمد.
وكذلك قال الليث، فيمن نسي سجود السهو الذي قبل السلام، فلم يذكره حتى صلى صلاة أخرى، أنه يعيد الصلاة التي نسي سجودها، فإن كان السجود بعد السلام سجد سجدتي السهو، ولم يعد صلاته.
نقله عنه ابن وهب في ((كتاب سجود السهو)) له، ووافقه عليه.(9/478)
7 - باب
[السهو] في الفرض والتطوع
وسجد ابن عباس سجدتين بعد وتره.
قد تقدم أن الإمام أحمد حكى عن ابن عباس، أنه قال: إن استطعت أن لا تصلي صلاة إلا سجدت بعدها سجدتين فافعل.
وحمله أحمد على سجود السهو.
ومن الناس من حمله على [أنه] أراد به تصلي بعد كل مفروضة ركعتين.
وهذا على عمومه لا يصح؛ فإن الفجر والعصر لايصلى بعدهما.
وقد بوب النسائي على ((السجود بعد الفراغ من الصَّلاة)) ، وخرج فيهِ: حديث عائشة: كانَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة(9/479)
العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يوتر بواحدة، ويسجد سجدة قدر ما يقرا أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه.
وقد تقدم هذا الحديث بلفظ: ((ويسجد السجدة)) .
والمراد: أنه مقدار السجدة الواحدة من سجوده بالليل، لا أنه يسجد بعد وتره سجدة واحدة.
وأما حكم السهو في الوتر، فحكمه حكم السهو في سائر الصلوات.
ومذهب الثوري وأبي حنيفة، إذا صلى الوتر أربعاً، أنه إن قعد في الثالثة قدر التشهد أجزاه، وسجد سجدتي السهو، وإن لم يكن جلس بعد الثالثة أعاد الوتر، كقولهم في صلاة المغرب، كما تقدم حكاية مذهبهم في ذلك.
ومذهب مالك في ((تهذيب المدونة)) : ومن شفع وتره ساهياً سجد بعد
السلام، واجتزأ بوتره، يعمل في السنن كما يعمل في الفرائض، ومن لم يدر جلوس في الشفع أو في الوتر سلم وسجد بعد السلام، ثم أوتر بواحدة، وإن لم يدر أفي الأولى هو جالس أو في الثانية، أو في الوتر، أتى بركعة، وسجد بعد السلام، ثم أوتر. انتهى.(9/480)
ففرق بين أن يتحقق الزيادة، فيسجد للسهو، ويجتزئ بوتره، وبين أن يشك فيها، فيبني على اليقين، ويسجد للسهو، ثم يوتر.
وقد روي عن ابن عباس، أنه يسجد في التطوع:
قال حرب الكرماني: نا يحيى بن عبد الحميد: حدثنا ابن المبارك، عن يعقوب بن القعقاع، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: إذا اوهم في التطوع، سجد سجدتي
السهو.
وهذا قول جمهور العلماء.
وللشافعي قول قديم، أنه لايسجد في التطوع.
وروي عن ابن سيرين.
وعن ابن المسيب – في رواية – عنه منقطعة.
وروي عنه من وجه متصل خلافه.
وقال عطاء: لابأس أن لا يسجد للسهو في التطوع.
وعنه، أنه قال: لا يعيد التطوع إذا شك فيه، وبني على أحرى ما عنده، وسجد.
وهذا بناء على قوله: إن الشاك في الفريضة يعيد صلاته.
وسئل عطاء، عمن سها قبل الوتر: أيسجد بعد الوتر؟ قالَ: نعم.(9/481)
ولعله أراد أنه سها قبل الركعتين قبل الوتر، إذا صلى الوتر ثلاثا متصلة [...........] أنه أراد أن الركعة التي يوتر بها لا يسجد فيها للسهو حتَّى يتم وتره، وإن كانت مفصولة بالسلام بينهما؛ لأن الجميع يشملها اسم واحد، وهو الوتر، فيكون السجود للسهو بعد كمالها وتمامها. والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال البخاري:(9/482)
1232 - نا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إن أحدكم إذا قام يصلي، جاء الشيطان فلبس عليه، حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس)) .
مراده من هذا الحديث في هذا الباب: أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسجود السهو لمن صلى ولبس الشيطان عليه صلاته، ولم يفرق بين أن تكون صلاته فريضة أو نافلة، والأفعال نكرات، والنكرات في سياق الشرط تعم، كما تعم في سياق النفي. والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولأن النفل ينقص بالسهو، فشرع جبره بالسجود له، كما يجبر الحج، فرضه ونفله.
وإنما يشرع للسهو في النفل بركعة تامة فأكثر، فأما صلاة(9/482)
الجنازة فليس فيها سجود سهو؛ لأنه لا سجود فيها بالكلية، وكذلك سجود التلاوة ليس فيهِ سجود
سهو، لأن المشروع للتلاوة سجدة واحدة، ولا يجبر بأكثر من أصله.
والله أعلم.(9/483)
8 - باب
إذا كلم وهو يصلي فأشار برأسه أو استمع(9/484)
1233 - حديثا يحيى بن سلمان: نا ابن وهب: أخبرني عمرو، عن بكير، عن كريب.
فذكر حديثاً قد ذكرناه بتمامه في ((باب: ما يصلى بعد العصر من الفوائت)) ، وفيه:
أن أم سلمة قالت: دخل علي – يعني: رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – وعندي نسوة من [بني حرام من] الأنصار، فأرسلت إليه الجارية، فقلت: قومي بجنبه، وقولي له: تقول لك أم سلمة: يارسول الله، سمعتك تنهى عن هاتين الركعتين، وأراك تصليهما، فإن أشار بيده، فاستأخري عنه، ففعلت الجارية، فأشار بيده فاستأخرت عنه،، فلما انصرف قال: ((يابنة أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر، أنه أتاني ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان)) .(9/484)
وخرجه في ((المغازي)) – أيضا – بهذا الإسناد، ثم قال: ((وقال بكر بن
مضر، عن عمرو بن الحارث، عن بكر – فذكر نحوه)) .
ومقصوده بهذا الباب: أن المصلي يجوز أن يكلم في صلاته، ويستمع لمن كلمه، ويشير بيده أو برأسه؛ فإن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينكر على أم سلمة إرسالها الجارية إليه؛ لتكلمه وهو يصلي، بل أشار إليها فاستأخرت عنه، ثم أجاب عن سؤالها بعد الصلاة.
وقد اختلف السلف في هذا: فمنهم من رخص فيه. ومنهم من كرهه.
قال عبد الرزاق في ((كتابه)) ، عن معمر، عن ثابت، عن أبي رافع، قال: رأيت أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن أحدهم ليشهد على الشهادة وهو قائم يصلي.
وعن ابن جريج، عن عطاء، في الرجل كان يصلي، فيمر به رجل، فيقول له: فعلت كذا وكذا؟ [...........] قالَ: ليتم صلاته، ثُمَّ ليسجد سجدتي السهو.
قالَ: وقلت لعطاء: أتكره كل شيء من الإيماء في المكتوبة، حتَّى أن(9/485)
يمر بي إنسان وأنا في المكتوبة، فقالَ: صليت الصَّلاة؟ كرهت أن أشير إليه برأسي، فأقول: نعم؟ قالَ: أكره كل شيء من ذَلِكَ.
فقيل لهُ: فإن كانَ في التطوع؟ فقال: إن كان شيئاً لابد منه، وأحب إلي أن لا تفعل.
قال: وقال إنسان لعطاء: يأتيني إنسان وأنا في المكتوبة، فيخبرني الخبر، فأسمع إليه؟ قالَ: ما أحبه، وأخشى أن يكون سهواً، إنما هي المكتوبة، فتفرغ لها حتَّى تفرغ منها.
ففرق عطاء بين المكتوبة وغيرها، فكرهه في المكتوبة، وقال في التطوع: إن كان شيئاً لابد منه، وأحب إلي أن لايفعل، لم يكرهه.(9/486)
9 - باب
الإشارة في الصلاة
قاله كريب، [عن أم سلمة] ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
حديث كريب، عن أم سلمة، هو الذي خرجه في الباب الذي قبله.
ثم خرج في هذا الباب ثلاثة أحاديث:
الأول:(9/487)
1234 - حدثنا قتيبة: ثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلغه، أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء، فخرج يصلح
بينهم، في أناس معه - فذكر الحديث بطوله.
وقد تقدم قريباً بنحو سياقه، عن قتيبة، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل.
فالحديث؛ رواه قتيبة، عن عبد العزيز بن(9/487)
أبي حازم، وعن يعقوب بن
عبد الرحمن، كلاهما عن أبي حازم، عن سهل.
والمقصود من [هذا الحديث] : أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء يشق الصفوف، حتى قام في الصف، فالتفت أبو بكر فرآه، فأشار إليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يأمره أن يصلي، فاستدل البخاري بإشارة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أبي بكر على جواز الإشارة في الصلاة.
وليس في الحديث تصريح بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عند إشارته إلى أبي بكر في الصلاة، بل كان قائما في الصف، فيحتمل أنه كان كبر للصلاة، ويحتمل أنه لم يكن كبر.
ولا يقال: لو لم يكن كبر لأمره بالقول دون الإشارة؛ لأن حديث أنس في كشف النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الستارة يوم الإثنين، والناس خلف أبي بكر في صلاة الفجر، فيهِ: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشار إليهم أن أتموا، ثُمَّ أرخى الستر، ولم يكن حينئذ في صلاة.
وكذلك في حديث عائشة، في مرض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لما صلّي أبو بكر، وخرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين رجلين، فأشار إلى أبي بكر أن صلّ، وتأخر أبو بكر، وقعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى
جنبه.
وقد خرج البخاري ذلك كله في ((أبواب الإمامة)) .
ولعل المعنى في ذلك: أن الإشارة إلى المصلي بما يفعله في صلاته أقل لشغل باله من خطابه بالقول، لما يحتاج إلى تفهم القول بقلبه، والإصغاء إليه بسمعه،(9/488)
والإشارة إليه يراها ببصره، وما يراه ببصره قد يكون أقل إشغالا له مما يسمعه بأذنه. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الحديث الثاني:(9/489)
1235 - نا يحيى بن سليمان: نا ابن وهب: نا الثوري، عن هشام، عن
فاطمة، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: دخلت على عائشة، وهي تصلي قائمة، والناس قيام، فقلت: ما شأن الناس؟ فأشارت برأسها إلى السماء. فقلت: آية؟ فقالت برأسها: أي نعم.
هذا قطعة من حديث صلاة الكسوف، وقد سبق في مواضع مطولا ومختصراً.
والإشارة فيه، من فعل عائشة وهي تصلي خلف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس ذلك بمرفوع.
الحديث الثالث:(9/489)
1236 - نا إسماعيل: حدثني مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، أنها قالت: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيته - وهو شاك - جالساً، وصلى وراءه قوم قيام، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا)) .
وقد سبق هذا الحديث في ((أبواب الإمامة)) - أيضا.
وسبق هناك من حديث مالك، عن الزهري، عن أنس - معناه -، غير أنه لم يذكر فيه: ((أشار إليهم أن أجلسوا)) .
وقد رواه معمر، عن الزهري، وذكر فيه هذه الزيادة.
خرجه الإمام أحمد.
وخرجه - أيضا - هو وأبو داود، بهذا الإسناد: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يشير في الصلاة.
وقد قيل: إنه مختصر من هذا الحديث.(9/490)
وفي الإشارة في الصلاة أحاديث أخر، سبق بعضها في ((باب: رد السلام في الصلاة)) ، وبعضها في ((أبواب المرور بين يدي المصلي)) ..
وأكثر العلماء على أن الإشارة في الصلاة لا بأس بها، روي ذلك عن عائشة، وفعله ابن عمر وسعيد بن جبير وغيرهما.
وقال الحسن: لابأس بالإيماء في الصلاة.
وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهما.
لكن فعله من غير حاجة من باب العبث، وهو مكروه في الصلاة.
وسئل النخعي، عن الإشارة في الصلاة، فقال: إن في الصلاة لشغلاً.
وكذا قال الثوري.
وكرهه عطاء خصوصاً في المكتوبة، وقد تقدم قوله في ذلك.
وكره الإشارة في الصلاة، بما ليس شأن الصلاة، منهم: أبو زرعة الرازي وأبو بكر الأثرم.
وقد روي عن عائشة، أنها كانت تشير في الصلاة بما ليس من شأن الصلاة.
وعن أوس بن أوس وغيره.
وروى ابن لهيعة، عن حيي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن(9/491)
الحبلي، عن
عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي، فأشارت إليه بثوبه، فأشار إليها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن اغسليه.
خرجه الجوزجاني.
وهو إسناد ضعيف.
وإن صح، فإنما فيه إباحة الإشارة في الصلاة بما فيه مصلحة دينية، وليس دنيوياً محضاً.
وروى ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن الأخنس، عن أبي غطفان، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((التسبيح للرجال والتصفيق للنساء، من أشار في الصلاة إشارة تفهم عنه فليعد لها)) .
يعني: الصلاة.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود.
وخرجه البزار، ولفظه: ((فليعد صلاة أفسدت)) .
وقال أبو داود: هذا الحديث وهم.
وقال أحمد - في رواية ابن(9/492)
هانئ -: لا يثبت هذا الحديث، إسناده ليس بشيء.
وقال - في رواية غيره -: لا أعلم رواه غير ابن إسحاق.
وقال أبو زرعة الرازي: هو عندي ليس بذاك الصحيح، ولم يروه غير ابن إسحاق.
وقال الأثرم: ليس بقوي الإسناد.
وقال الدارقطني: قال لنا ابن أبي داود: أبو غطفان هذا رجل مجهول، وآخر الحديث زيادة في الحديث، لعله من قول ابن إسحاق.
يعني: أن آخره مدرج، ليس هو من تمام الحديث المرفوع.
وهذا هو الظاهر.
وهذا يدل على أن أبا غطفان هذه ليس هو المري الذي خرج له مسلم، بل هو غيره.
وابن إسحاق، مدلس، ولم يصرح بسماعه من يعقوب بن عتبة، فلعله دلسه عن ضعيف.(9/493)
استدراك (*)
فائدةٌ:
قال الحافظ ابن رجب في ((شرح البخاري)) ، لما تكلم على حديث النزول، قالَ:
أهل الحديث في النزول على ثلاث فرق:
فرقة منهم، تجعل النزول من الأفعال الاختيارية التي يفعلها الله بمشيئته وقدرته، وهو المروي عن ابن المبارك ونعيم بن حماد وإسحاق بن راهويه وعثمان الدارمي.
وهو قول طائفة من أصحابنا، ومنهم: من يصرح بلوازم ذلك من إثبات
الحركة.
وقد صنف بعض المحدثين المتأخرين من أصحابنا مصنفاً في إثبات ذلك، ورواه عن الامام أحمد من وجوه كلها ضعيفة، لا يثبت عنه منها شيء.
وهؤلاء؛ منهم من يقول: ينزل بذاته، كابن حامد من أصحابنا.
وقد كان الحافظ إسماعيل من التميمي الأصبهاني الشافعي يقول بذلك، وجرى بينه وبين طائفة من أهل الحديث بسببه فتنة وخصام.
(ج 6 / ص 533)
__________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذا الاستدراك من طبعة الشيخ طارق عوض الله (دار ابن الجوزي - السعودية / الدمام - 1422هـ) ، وتجد أرقام الصفحات والأجزاء بأسفل كل صفحة(9/)
قال الحافظ أبو موسى المديني: كان من اعتقاد الإمام إسماعيل أن نزول الله تعالى بالذات، وهو مشهور من مذهبه؛ لكنه تكلم في حديث نعيم بن حماد الذي رواه بإسناده في النزول بالذات. قالَ: وهو إسناد مدخول، وفيه مقال، وفي بعض رواته مطعن، ولا تقع بمثله الحجة، فلا يجوز نسبة قوله إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والفرقة الثانية: تقول: إن النزول إنما هوَ نزول الرحمة.
ومنهم من يقول: هوَ إقبال الله على عباده، وإفاضة الرحمة والإحسان عليهم.
ولكن؛ يرد ذَلِكَ: تخصيصه بالسماء الدنيا، وهذا نوع من التأويل لأحاديث الصفات.
وقد مال إليه في حديث النزول خاصة طائفة من أهل الحديث، منهم: ابن قتيبة والخطابي وابن عبد البر.
وقد تقدم عن مالك، وفي صحته عنه نظر.
وقد ذهب إليه طائفة ممن يميل إلى الكلام من أصحابنا، وخرجوه عن أحمد من رواية حنبل عنه في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] ، أن المراد: وجاء أمر ربك.
وقال ابن حماد: رأيت بعض أصحابنا حكى عن أبي عبد الله في الإتيان، أنه قال: تأتي قدرته. قال: وهذا على حد الوهم من قائله، وخطأ في إضافته إليه.
وقد روي فيه حديث موضوع: ((إن نزول الله تعالى إقبال على الشيء من غير نزول)) .
(ج 6 / ص 534)(9/)
وذكره ابن الجوزي في ((الموضوعات)) .
وهذا الحديث مقابل لحديث نعيم بن حماد الذي رواه في النزول بالذات.
وكلاهما باطل، ولا يصح.
والفرقة الثالثة: أطلقت النزول كما ورد، ولم تتعد ما ورد، ونفت الكيفية عنه، وعلموا أن نزول الله تعالى ليس كنزول المخلوق.
وهذا قول أئمة السلف: حماد بن زيد، وأحمد؛ فإن حماد بن زيد سئل عن النزول، فقال: هو في مكانه، يقرب من خلقه كيف شاء.
إلى أن قال:
وقال حنبل: قلت لأبي عبد الله: ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا؟ قال:
نعم. قلت: نزوله بعلمه، أو بماذا؟ قال لي: اسكت عن هذا، مالك ولهذا؟ ! أمض الحديث على ما روي، بلا كيف ولا حد؛ إلا بما جاءت به الآثار وبما جاء به الكتاب؛ قال الله عزوجل: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: 74] ، ينزل كيف شاء بعلمه وقدرته وعظمته، أحاط بكل شيء علماً، لا يبلغ قدره واصف، ولا ينأى عنه هارب. انتهى.
إلى ان قال:
والزيادة على ما ورد في النزول من ذكر الحركة والانتقال وخلو العرش
وعدمه؛ كله بدعة، والخوض فيه غير محمود.
قال أبو داود الطيالسي: كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يجسدون، ولا يشبهون، ولا يمثلون الحديث،
(ج 6 / ص 535)(9/)
لا يقولون: كيف، وإذا سئلوا أجابوا بالأثر. خرجه البيهقي.
(ج 6 / ص 537)(9/)