لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ((نعم)) . وحسبت أنه قال:
((إنك آذيت الله ورسوله)) .
وخرج أبو داود وابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحهما)) من حديث حذيفة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه)) .
وخرج ابن خزيمة وابن حبان من حديث ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال:
((يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه)) .
وقال أبو هريرة: إن المسجد لينْزوي من النخامة كما تنْزوي(3/134)
الجلدة من النار.
خرجه وكيع وابن أبي شيبة وغيروهما.(3/135)
38 - باب
دفن النخامة في المسجد(3/136)
416 - حدثنا إسحاق بن نصر: أبنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه: سمع أبا هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه؛ فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكا، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه، فيدفنها)) .
دفن النخامة في المسجد مأمور به، وهو كفارة لها كما في الحديث قبله، وقد ورد الأمر بالحفر لها والأبعاد فيه، كما في ((مسند الإمام أحمد)) من حديث عبد الرحمن بن أبي حدرد، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا بزق أحدكم في المسجد فليحفر فليبعد، فإن يفعل فليبزق في ثوبه)) .
وقد ورد تعليل ذلك بخشية إصابتها للمصلين، ففي ((المسند)) عن(3/136)
سعد ابن أبي وقاص، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا تنخم أحدكم في المسجد فليبعدها، لا تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه)) .
وقال علي بن المديني: هو حسن الإسناد.
وهذا مما يدل على إن قرار المسجد وباطنه يجوز أن يجعل مدفنا للأقذار
الطاهرة.
وقد كان بعض الصحابة والتابعين يتفلى في المسجد ويقتل القمل ويدفنه في المسجد، روي ذلك عن معاذ وأبي هريرة وأبي إمامة وأبي العالية.
وهو مما يستدل به على طهارة دم القمل والبراغيث ونحوها.
وحكى بعض أصحابنا في جواز دفنها في المسجد وجهين، ولعلهما مبنيان على الخلاف في طهارة دمها ونجاسته.
ومذهب مالك: يكره قتلها في المسجد وإلقاؤها فيه.
وفي المسند بإسناد فيه بعض من لا يعرف، أن رجلا وجد(3/137)
في ثوبه قملة، فأخذها ليطرحها في المسجد، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا تفعل، ردها في ثوبك حتى تخرج من المسجد)) .
وبإسناد تخر عن رجل من الأنصار، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا وجد أحدكم القملة فليصرها، ولا يلقيها في المسجد)) .
وقد قيل: أنه مرسل.
وكذلك خرجه أبو داود في مراسيله.
والذي قبله - أيضا - مرسل -: نص عليه الإمام أحمد، وذكر أن بعضهم
وصله، وأخطأ في وصله. والله أعلم.(3/138)
39 - باب
إذا بدره البصاق فليأخذ بطرف ثوبه(3/139)
417 - حدثنا مالك بن إسماعيل: ثنا زهير: ثنا حُميد، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى نخامة في القبلة فحكها بيده، ورئي منه كراهية - أو رئي كراهية - لذلك وشدته عليه، فقال: ((إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنما يناجي ربه - أو إن ربه بينه وبين القبلة -، فلا يبزقن في قبلته، ولكن عن يساره أو تحت قدمه)) ، ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه، ورد بعضه على بعض. قال: ((أو يفعل هكذا)) .
ومقصوده بتخريج هذا الحديث في هذا الباب: ذكر حكم البصاق في الثوب خاصة، وقد بينه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله وفعله، كما سبق التنبيه على ذلك، وأن فيه إشارة إلى أن تلويث الثوب للحاجة إليه مما ينبغي التنزه عنه، كما قد يأنف منه بعض أهل الكبر والأنفة.
والمصلي إن كان في المسجد فالأولى أن يبصق في ثوبه ويدلكه بعضه ببعض، كما فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ليذهب أثره، وهو أولى من البصاق في المسجد مع تغييبه؛ للاختلاف في جوازه.
وإن كان خارج المسجد، فقالت طائفة من أصحابنا: الأولى أن يبصق(3/139)
عن يساره؛ لما فيه من صيانة الثوب عن تلويثه بالمستقذرات.
وخرج مسلم من حديث القاسم بن مهران، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى نخامة في قبلة المسجد، فاقبل عَلَى الناس، فقال: ((ما بال حدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه؟ أيحب أن يُستقبل فيتنخع فِي وجهه، فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عَن يساره تَحْت قدمه، فإن لَمْ يجد فيتفل هكذا)) . ووصف الْقَاسِم: فتفل فِي ثوبه، ثُمَّ مسح بعضه عَلَى بعض.
وفي رِوَايَة لَهُ: قَالَ أبو هُرَيْرَةَ: كأني أنظر إلى رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرد ثوبه بعضه عَلَى بعض.
وهذا يستدل به على أن البصاق على الأرض حيث أمكن فهو أولى من البصاق في الثوب؛ لأنه لم يأمر به إلا عند تعذر البصاق عن يساره، وليس المراد أنه لا يجوز فعله إلا عند تعذر البصاق على الأرض، بل المراد أنه لا حاجة إلى تلويث ثوبه بالبصاق مع القدرة على الاستغناء عنه.
فهو كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] ، وقوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] ، وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] .
وقد قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لزيد بن الحارثة: ((أنت أخونا ومولانا)) ، مع أنه كان يعلم أباه.(3/140)
40 - باب
عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة، وذكر القبلة(3/141)
418 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((هل ترون قبلتي هاهنا؟ فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا خشوعكم؛ إني لأراكم من وراء ظهري)) .(3/141)
419 - حدثنا يحيى بن صالح: ثنا فليح بن سليمان، عن هلال بن علي، عن أنس بن مالك، قالَ: صلى لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة، ثُمَّ رقي المنبر، فقالَ في الصَّلاة وفي الركوع -: ((إني لأراكم من ورائي كما أراكم)) .
وروى قتادة، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((أقيموا الركوع والسجود، فوالله إني لأراكم من بعدي)) - وبما قال: ((من بعد ظهري - إذا ركعتم وسجدتم)) .
خرجه البخاري في ((باب: الخشوع في الصلاة)) كما سيأتي من حديث شعبة.
وخرجه مسلم من رواية شعبة وسعيد بن أبي عروبة، عن قتادة.
وأظن أن البخاري عدل عنه هاهنا إلى حديث فليح عن هلال؛ لأن قتادة لم يصرح فيه بالسماع، وقد أكثر البخاري في ((كتابه))(3/141)
هذا من تخريج حديث فليح بن سليمان عن هلال بن علي.
وهو هلال بن أبي ميمونة. روى عنه مالك وغيره، وقد ذكر البخاري في ((تاريخه)) أنه سمع أنسا، ولم يذكر ابن أبي حاتم في ((كتابه)) أنه يروي عن أنس، وذكر أنه سأل أباه عنه، فقال: شيخ يكتب حديثه.
وأما فليح بن سليمان، فقال فيه ابن معين وأبو حاتم والنسائي: ليس بالقوي، وضعفه ابن معين - أيضا -، وقال: لا يحتج به. وحكي عن أبي كامل المظفر بن مدرك أنه كان يتقي حديثه، وضعفه أبو زرعة الرازي، وقال: هو واهي الحديث -: نقله عنه البرذعي، وضعفه علي بن المديني - أيضا - نقله عنه أبو جعفر بن أبي شيبة في ((سؤالاته له)) .
وبكل حال؛ فرواية شعبة عن قتادة عن أنس، وإن لم يصرح بالسماع أقوى من رواية فليح عن هلال عن أنس. والله أعلم.
وخرج مسلم - أيضا - من حديث المختار بن فلفل، عن أنس،(3/142)
قال: صلى بنا
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم، فلما قضى أقبل علينا بوجهه، فقال: ((أيها الناس، إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام ولا بالانصراف؛ فإني أراكم أمامي ومن خلفي)) . ثم قال: ((والذي نفس محمد بيده، لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا)) . قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: ((رأيت الجنة والنار)) .
وخرج – أيضا – من طريق الوليد بن كثير: حدثني سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم انصرف، فقال: ((يا فلان إلا تحسن صلاتك؟ ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي، فإنما يصلي لنفسه، إني والله لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي)) .
دلت هذه الأحاديث على أن من رأى من يسيء صلاته فإنه يأمره بإحسان صلاته ويعظه ويبالغ في الوعظ؛ فإن القلوب تستجيب إلى الحق بالموعظة الحسنة ما لا تستجيب بالعنف، لا سيما إذا عم بالموعظة ولم يخص أحدا، وإن خصمه فإنه يلين له القول.
وقد قال الله تعالى لنبيه - عليه السلام -: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [النساء:63] وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] .
وفي بعض هذه الروايات أنه خطب الناس على المنبر، واتفقت الأحاديث كلها على أنه أمر بإقامة الركوع، وفي بعضها: والسجود، وفي بعضها: والخشوع، وفي بعضها: أنه نهاهم عن مسابقته بالركوع والسجود والانصراف من المسجد بعد إتمام صلاته، وهذا كما أمر(3/143)
المصلي الذي أساء في صلاته أن يعود إلى الصلاة، وقال له: ((إنك لم تصل)) .
قال ميمون بن مهران: مثل الذي يرى الرجل يسيء صلاته فلا ينهاه كمثل الذي يرى النائم تنهشه الحية ثم لا يوقظه.
وعن يحيى بن أبي كثير نحوه.
ورأى ابن عمر رجلا لا يتم ركوعه وسجوده، فقال له لما فرغ: يا بن أخي، تحسب انك صليت؟! إنك لم تصل، فعد لصلاتك.
وكان المسور بن مخرمة وغيره من الصحابة إذا رأوا من لا يتم صلاته أمروه بالإعادة، ويقولون: لا يعصى الله ونحن ننظر، ما استطعنا.
قال النخعي: كانوا إذا رأوا الرجل لا يحسن الصلاة علموه.
قال سفيان: أخشى أن لا يسعهم إلا ذلك.
قال أبو خلاد: ما من قوم فيهم من يتهاون بالصلاة ولا يأخذون على يديه إلا كان أول عقوبتهم إن ينقص من أرزاقهم.
ورأى الإمام أحمد رجلا لا يتم(3/144)
ركوعه ولا سجوده، فقال: يا هذا، أقم صلبك في الركوع والسجود، وأحسن صلاتك.
وقيل له: الرجل يرى أهل المسجد يسيئون الصلاة؟ قال: يأمرهم. قيل له: إنهم يكثرون، وربما كان عامة أهل المسجد؟ قال: يقول لهم. قيل له: يقول لهم مرتين أو ثلاثا فلا ينتهون، يتركهم بعد ذلك؟ قال: أرجو أن يسلم - أو كلمة نحوها.
وقال حنبل: قيل لأبي عبد الله: ترى الرجل إذا رأي الرجل لا يتم ركوعه ولا سجوده، ولا يقيم صلبه، ترى إن يأمره بالإعادة أو يمسك عنه؟ قال: إن كان يظن أنه يقبل منه أمره وقال له ووعظه حتى يحسن صلاته؛ فإن الصلاة من تمام الدين.
وقوله: ((إن كان يظن أنه يقبل منه)) ، يخرج على قوله: أنه لا يجب الأمر بالمعروف إلا لمن ظن أنه يقبل.
والمشهور عنه خلافه، وانه يجب مطلقا مع القدرة.
ويجب الأمر بإتمام الركوع والسجود وإقامة الصلب في الصلاة، وإن كان قد قال بعض الفقهاء: إن الصلاة صحيحة بدونه؛ لأن الخلاف إذا كان مخالفا للسنن الصحيحة فلا يكون عذرا مسقطا للأمر بالمعروف.
وأيضا؛ فالخلاف إنما هو في براءة الذمة منها، وقد اجمعوا على إنها صلاة ناقصة، ومصليها مسيء غير محسن، وجميع النصوص المذكورة في هذا الباب تدل على الأمر لمن لا يتم الركوع والسجود بإتمامها.
وفي ((المسند)) و ((سنن ابن ماجه)) ، عن علي بن شيبان الحنفي - وكان أحد الوفد -، قال: قدمنا على نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلمح بمؤخر عينه إلى الرجل لا يقيم صلبه في الركوع ولا في السجود، فلما قضى(3/145)
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاته قال: ((يا معشر المسلمين، لا صلاة لامرئ لا يقيم صلبه في الركوع ولا في السجود)) .
ومتى كان المسيء في صلاته جاهلا بما أساء فيه تعين الرفق في تعليمه، كما رفق النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالذي قال له: والذي بعثك بالحق، لا أحسن غير هذه الصلاة، فعلمني، فعلمه.
وفي ((صحيح مسلم)) عن معاوية بن الحكم السلمي، قال: بينا أنا أصلي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ عطس رجل من القوم، فقلت: رحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم. فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأبي هو وأمي -، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كرهني ولا ضربني ولا شتمني، ثم قال: ((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)) - أو كما قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلت: يا رسول الله، إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام - وذكر بقية حديث.
فإن رأى من يفعل في صلاته مكروها لا يبطل الصلاة فأمره بتركه برفق كان حسنا.(3/146)
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: رجل رأى رجلا مشمرا كميه في الصلاة، أترى عليه أن يأمره؟ قال: يستحب له إن يصلي غير كاف شعرا ولا ثوبا، وليس هذا من المنكر الذي يغلظ ترك النهي عنه.
وصلى أحمد يوما خلف رجل، فكان إذا سجد جمع ثوبه بيديه، فلما فرغ قال أحمد لرجل إلى جانبه - وخفض صوته - قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يكف شعرا ولا ثوبا)) ، ففطن الإمام بذلك، وعلم أنه أراده.
ورأى الفضيل بن عياض رجلا يفقع أصابعه في صلاته فزبره وانتهره فقال له الرجل: يا هذا، ينبغي لمن يقوم لله عز وجل أن يكون ذليلا، فبكى الفضيل، وقال له: صدقت.
وفي ((صحيح مسلم)) عن جابر بن سمرة، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسوي صفوفنا، حتى كأنما يسوي بها القداح، حتى رأى أن قد عقلنا عنه، ثم خرج علينا يوما، فقام حتى كاد أن يكبر فرأى رجلا باديا صدره من الصف، فقال: ((عباد الله، لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)) .
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إني لأراكم من وراء ظهري)) ، وفي رواية: ((من خلفي)) ،(3/147)
وفي رواية: ((من بعدي)) - والمراد به: من خلفي -: فيه تحذير لهم من التقصير في الصلاة وراءه، فإنهم لو كانوا بين يديه لم يقصروا في الصلاة فكذا ينبغي أن يصلوا من خلفه؛ فإنه يراهم.
وفيه تنبيه على إن من كان يحسن صلاته لعلمه بنظر مخلوق إليه فإنه ينبغي أن يحسنها لعلمه بنظر الله إليه؛ فإن المصلي يناجي ربه، وهو قريب منه ومطلع على سره وعلانيته.
وقد روي حديث أبي هريرة بلفظ أخر، فيه: الإشارة إلى هذا المعنى من رواية ابن إسحاق: حدثني سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما انصرف من صلاته رأى رجلا كان في أخر الصفوف، فقال: ((أي فلان، ألا تتقي الله عز وجل في صلاتك، فلا تتم ركوعك وسجودك، ألا ينظر المصلي منكم كيف يصلي؟ وإنما يصلي لنفسه، وإنما يناجي ربه عز وجل، لا تظنون إني لا أراكم، والله إني لأرى من خلفي منكم كما أرى من بين يدي)) .
فقوله: ((ألا ينظر المصلي منكم كيف يصلي، وإنما يصلي لنفسه)) ، يشير إلى أن نفع صلاته يعود إلى نفسه، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46] ، فمن علم أنه يعمل لنفسه وانه ملاق عمله، ثم قصر في عمله وأساء كان مسيئا في حق نفسه، غير ناظر لها ولا ناصح.(3/148)
وقوله: ((وإنما يناجي ربه)) ، إشارة إلى أنه ينبغي إلى أنه ينبغي له أن يستحي من نظر الله إليه، وإطلاعه عليه وقربه منه، وهو قائم بين يديه يناجيه، فلو استشعر هذا لأحسن صلاته غاية الإحسان، وأتقنها غاية الإتقان، كما قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اعبد الله كأنك تراه)) .
وفي القرآن الإشارة إلى هذا بقوله - عز وجل -: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس:61] الآية.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا تظنون أني لا أراكم، والله إني لأرى من خلفي منكم)) ، توبيخ لمن قصر في صلاته حيث يظن أن مخلوقا لا يراه، ثم يحسنها إذا ظن أنه يراه.
ومن هنا قال بعض العارفين: اتق الله أن يكون أهون الناظرين أليك.
وروى إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من أحسن الصلاة حيث يراه الناس، وأساءها حيث يخلو فذلك استهانة استهان بها ربه - عز وجل -)) .
وروي موقوفا.
وروي بقية، عن ورقاء بن عمر، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - مرفوعا -: ((إذا صلى العبد في العلانية فأحسن، وصلى في السر فأحسن قال الله: هذا عبدي حقا)) .
لعل بقية دلسه عن ضعيف.(3/149)
وقوله: ((إني لأرى من خلفي كما أرى من بين يدي)) ، هو فضيلة للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خصه الله بها، فكان ينظر ببصيرته كما ينظر ببصره، فيرى من خلفه كما يرى من بين يديه.
وقد فسره الإمام أحمد بذلك في رواية ابن هانئ، وتأول عليه قوله تعالى:
{وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:219] .
كما روى ابن أبي نجيج، عن مجاهد في قوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ - وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218، 219] ، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرى أصحابه في صلاته من خلفه، كما يرى من بين يديه.
وتأويل الآية على هذا القول: إن الله تعالى يرى نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين يقوم إلى صلاته، ويرى تقلب نظره إلى الساجدين معه في صلاته.
وقال الأثرم: قلت لأحمد: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إني لأراكم من وراء ظهري)) ؟ قال: كان يرى من خلفه كما يرى من بين يديه. قلت: إن إنسانا قال لي: هو في ذلك مثل غيره، وإنما كان يراهم كما ينظر الإمام عن يمينه وشماله، فأنكر ذلك إنكارا شديدا.(3/150)
41 - باب
هل يقال: مسجد بني فلان
ابتدأ البخاري - رحمه الله - من هنا في ذكر المساجد وأحكامها، فأول ما ذكره من ذلك: أنه يجوز نسبة المساجد إلى القبائل؛ لعمارتهم إياها، أو مجاورتهم لها.
وقد كره ذَلِكَ بعض المتقدمين، وتعلق بقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] .
والصحيح: أن الآية لم يرد بها ذلك، وأنها نزلت في النهي عن أن يشرك بالله في المساجد في عبادته غيره، كما يفعل أهل الكتاب في كنائسهم وبيعهم.
وقيل: إن المراد بالمساجد الأرض كلها؛ فإنها لهذه الأمة مساجد وهي كلها
لله، فنهى الله أن يسجد عليها لغيره.
وقيل: إن المراد بالمساجد أعضاء السجود نفسها، وهي لله؛ فإنه هو خلقها وجمعها وألفها، فمن شكره على هذه النعمة أن لا يسجد بها لغيره.
وقد قيل: إن قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] يدل - أيضا - على أنه لا يجوز إضافة المساجد إلى مخلوق إضافة ملك واختصاص.(3/151)
وأخذ بعض أصحابنا من ذلك كالوزير ابن هبيرة: أنه لا يجوز نسبة شيء من المساجد إلى بعض طوائف المسلمين للاختصاص بها، فيقال: هذه المساجد للطائفة الفلانية، وهذه للطائفة الأخرى، فإنها مشتركة بين المسلمين عموما.
وذكر بعض المتأخرين من أصحابنا في صحة اشتراط ذلك في وقفها وجهين.
وأما إضافة المسجد إلى ما يعرفه به فليس بداخل في ذلك، وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضيف مسجده إلى نفسه، فيقول: ((مسجدي هذا)) ، ويضيف مسجد قباء إليه، ويضيف مسجد بيت المقدس إلى إيلياء، وكل هذه إضافات للمساجد إلى غير الله لتعريف أسمائها، وهذا غير داخل في النهي. والله أعلم.
قال البخاري - رحمه الله -:(3/152)
420 - ثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أن
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء، وأمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وأن عبد الله بن عمر كان ممن سابق بها.(3/152)
وجه الاستدلال من هذا الحديث على ما بوبه: أن فيه إضافة المسجد إلى بني زريق، وهذا وإن كان من قول عبد الله بن عمر ليس مرفوعا، إلا أن تعريف المسجد بذلك يدل على اشتهاره بهذه الإضافة في زمن المسابقة، ولم يشتهر في زمن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين المسلمين شيء إلا وهو غير ممتنع؛ لأنه لو كان محضورا لما أقر عليه، خصوصا الأسماء؛ فقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغير أسماء كثيرة يكرهها من أسماء الأماكن والآدميين، ولم يغير هذا الاسم للمسجد، فدل على جوازه.
ولقائل أن يقول: يجوز أن اشتهار المسجد بهذا الاسم لم يكن في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالكلية، فلا يبقى في الحديث دلالة، وهذا كما قال أنس في حديث الاستسقاء: دخل رجل المسجد من نحو دار القضاء، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، وقد قالوا: إنما عرفت تلك الدار بهذا الاسم بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بزمن.
وأحسن من هذا: الاستدلال بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في سواه)) - وقد خرجه البخاري في مواضع أخر -؛ فإن هذا تصريح من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإضافة المسجد إلى نفسه، وهو إضافة للمسجد إلى غير الله في التسمية، فدل على جواز إضافة المساجد إلى من بناها وعمرها. والله أعلم.
وسائر ما يتعلق بالحديث من ألفاضه المختلفة وتفسير غريبها، وما فيه من أحكام المسابقة ليس هذا موضعها، وله موضع أخر يأتي فيه - إن شاء الله تعالى.(3/153)
42 - باب
القسمة وتعليق القنو في المسجد
قال أبو عَبْد الله: القنو: العذق. والإثنان: قنوان. والجماعة: قنوان، مثل: صنو وصنوان.
المقصود بهذا الباب: أن المسجد يجوز أن يوضع فيه أموال الفيء وخمس الغنيمة وأموال الصدقة ونحوها من أموال الله التي تقسم بين مستحقيها.
وقد ذكر القنو في تبويبه وفسره ولم يخرج حديثه.
وحديثه قد خرجه الترمذي من طريق السدي، عن أبي مالك، عن البراء، في قوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267] ، قال: نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل، فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته، وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين، فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو، فضربه بعصاه، فسقط من البسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف، وبالقنو قد انكسر
فيعلقه، فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ(3/154)
مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267] .
وخرجه ابن ماجه، إلا أن عنده: عن السدي عن عدي بن ثابت، عن البراء.
وحسنه الترمذي وغربه، وفي بعض نسخه: صحيح.
وخرجه الحاكم، وقال: غريب، صحيح على شرط مسلم.
يشير إلى أنه خرج للسدي، إلا أن السدي كان ينكر عليه جمعه الأسانيد المتعددة في التفسير للحديث الواحد.
وخرج ابن حبان في ((صحيحه)) من حديث ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر للمسجد من كل حائط بقناء.
ومن حديث جابر، قال: أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كل جداد عشرة أوسق من التمر بعذق يعلق في المسجد للمساكين.
ومن حديث عوف بن مالك، قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي يده عصى وأقناء معلقة في المسجد، قنو منها حشف، فطعن بالعصى في ذلك القنو، ثم قال: ((لو شاء رب هذه الصدقة لتصدق بأطيب منها، إن صاحب هذه الصدقة ليأكل الحشف يوم القيامة)) .(3/155)
وقد فسر البخاري القنو، فقال: هو العذق.
يعني: عذق النخلة الذي يكون فيه الرطب، وهو واحد، وتثنيته: قنوان - بكسر النون، وجمعه - قنوان - بالتنوين؛ قَالَ تعالى: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} [الأنعام:99] .
وشبهه بصنو وصنوان، فالصنو: الواحد مِمَّا لَهُ نظير يخرج مَعَهُ من أصله من النخل، وتثنيته: صنوان، وجمعه: صنوان. قَالَ تعالى: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} [الرعد:4] .
ومنه قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((عم الرجل صنو أبيه)) .
وما ينبغي إدخاله في هذا الباب: ما خرجه البخاري في ((الزكاة)) من رواية معن بن يزيد السلمي، قال: كان أبي أخرج دنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها فأتيته بها، فقال: والله، ما إياك أردت، فخاصمته إلى
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ((لك ما نويت يا زيد ولك ما أخذت يا معن)) .
ويتصل بهذا: التصدق في المسجد على السائل، وهو جائز، وقد كان الإمام أحمد يفعله، ونص على جوازه، وإن كان السؤال في المسجد مكروها.
وقال أبو داود في ((سننه)) : ((باب: السؤال في المسجد)) ، ثم خرج من طريق مبارك بن فضالة، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى،(3/156)
عن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أفيكم من أطعم اليوم مسكينا؟)) قال أبو بكر: دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل، فوجدت كسرة خبز في يد عبد الرحمن، فأخذتها فدفعتها إليه.
ومنع منه أصحاب أبي حنيفة، وغلظوا فيه حتى قال خلف بن أيوب منهم: لو كنت قاضيا لم أجز شهادة من تصدق على سائل في المسجد.
ومنهم من رخص فيه إذا كان السائل مضطرا، ولم يحصل بسؤاله في المسجد ضرر.
ولأصحابنا وجه: يكره السؤال والتصدق في المساجد مطلقا.
وفي ((صحيح مسلم)) عن جرير البجلي، أن قوما جاءوا إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهم - أي: الحاجة -، فصلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر، ثم خطب فحث على الصدقة، فجاء رجل بصرة من فضة كادت كفه تعجز عنها، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب.
وفي ((المسند)) و ((سنن)) أبي داود والنسائي، عن أبي سعيد، أن رجلا دخل المسجد في هيئة رثة والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة، فحث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الصدقة، فألقى الناس ثيابا - وذكر الحديث.
خرج البخاري في هذا الباب حديثا واحدا، علقه ها هنا وفي ((أبواب: قسم الفيء)) من أواخر ((كتاب: السير)) ، وعلق بعضه في ((باب: فكاك(3/157)
الأسير)) .
فقال هاهنا:(3/158)
421 - وقال إبراهيم - يعني: ابن طهمان -: عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، قال: أتي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمال من البحرين، فقال: ((انثروه في المسجد)) - وكان أكثر مال أتي به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الصلاة، ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدا إلا أعطاه، إذ جاءه العباس، فقال: يا رسول الله، أعطني؛ فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلا. فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((خذ)) ، فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله، مر بعضهم يرفعه إلي. قال: ((لا)) . قال: فارفعه أنت علي. قال: ((لا)) . قال: فنثر منه، ثم ذهب يقله. فقال: يا رسول الله، مر بعضهم يرفعه علي. قال: ((لا)) . قال: فارفعه أنت علي. قال: ((لا)) . فنثر منه، ثم احتمله، فألقاه على كاهله، ثم انطلق، فما زال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتبعه بصره حتى خفي علينا؛ عجبا من حرصه. فما قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وثم منها درهم.
هذا المال كان من جزية أهل البحرين، وهم مجوس هجر، وكان قد قدم به أبو عبيدة بن الجراح، وقد خرج حديثه البخاري في موضع آخر من حديث عمرو بن عوف الأنصاري.
وفي هذا الحديث: دليل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن له بيت مال(3/158)
يضع فيه أموال الفيء، إنما كان يضعه في المسجد ويقسمه من يومه ولا يحبسه.
وفيه: دليل على أن مال الفيء لا يخمس؛ فإنه لم يذكر فيه أنه أخرج خمسه، وإنما ذكر أنه ما كان يرى أحدا إلا أعطاه.
وفيه: دليل على أن مال الفيء مما يعطى منه الغني والفقير؛ لأن العباس كان من أغنى قريش وأكثرهم مالا، ولكنه أدعى المغرم وقد عرف سببه، وهو مفاداة نفسه، ومفاداة عقيل ابن عمه، وكانا وقعا في أسارى بدر، ففدى العباس نفسه وعقيلا.
قيل: إنه فدى بثمانين أوقية ذهب. وقيل: بألف دينار.
وفيه: بيان احتقار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للدنيا وإن كثرت؛ فإنه لما خرج إلى الصلاة ومر بالمال لم يلتفت إليه.
وقد روى حميد بن هلال، أن ذلك المال كان بعثه العلاء بن الحضرمي من البحرين، وكان ثمانين ألفا.
وفيه: التعجب من حرص الحريص على المال والمستكثر منه.
ويصدق هذا: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)) .
وكاهل الإنسان: ما بين كتفيه.(3/159)
وقد كان العباس - رضي الله عنه - عظيما جسيما شديد القوة، فالظاهر أنه حمل مالا كثيرا، ولم يمنعه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدل على جواز قسمة الفيء بين أهله على غير التسوية.
وفي حديث حميد بن هلال، قال: لم يكن يومئذ عدد ولا وزن، ما كان إلا قبضا.
وفيه: جواز قسمة مال الفيء في المسجد ووضعه فيه، وهو مقصود البخاري بتخريج هذا الحديث في هذا الباب.(3/160)
43 - باب
من دعي لطعام في المسجد ومن أجاب فيه(3/161)
422 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، سمع أنسا، قال: وجدت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد معه ناس، فقمت، فقال لي: ((آرسلك أبو طلحة؟)) قُلتُ: نَعَمْ. قَالَ: ((لطعام؟)) قلت: نعم. فقال لمن حوله: ((قوموا)) ، فانطلق وانطلقت بين أيديهم.
هذا مختصر من حديث طويل فيه ذكر معجزة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تكثيره للطعام القليل حتى شبع منه سبعون أو ثمانون رجلا.
وقد خرج البخاري في موضع آخر من حديث أبي هريرة حديثا طويلا، فيه: أنه دخل مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيته فوجد لبنا في قدح، فأمره أن يدعو له أهل الصفة - وذكر الحديث بطوله.
والصفة كانت في مؤخر المسجد، فكانوا يأوون إليها ويقيمون بها.
فدلت هذه الأحاديث كلها على جواز أن يدعى من في المسجد إلى الطعام، ويجيب إلى الدعوة إذا دعي فيه.
وقد ورد الرخصة في الأكل في المسجد.
وقد بوب ابن ماجه(3/161)
في ((كتابه)) : ((باب: الأكل في المسجد)) وخرج فيه: من رواية ابن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث: حدثني سليمان بن زياد الحضرمي، أنه سمع عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي يقول: كنا نأكل على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد الخبز واللحم.
وهذا إسناد جيد؛ وسليمان وثقة ابن معين. وقال أبو حاتم: صالح الحديث.
وخرج الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي في ((الشمائل)) من رواية ابن لهيعة، عن سلمان بن زياد، عن عبد الله بن الحارث بن جزء، قال: أكلنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طعاما في المسجد، لحما قد شوي.
وروى الإمام أحمد: ثنا هارون بن معروف: ثنا مسلم، عن عبد الله بن الحارث بن جزء، قال كنا يوما عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصفة، فوضع لنا طعام فأكلنا.(3/162)
وروى - أيضا - عن وكيع: ثنا عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بفضيخ في مسجد الفضيخ، فشربه، فلذلك سمي.
عبد الله بن نافع، ضعفوه.
وقد اختلف في جواز الأكل في المسجد وكراهته، فأجازه طائفة من أصحابنا وغيرهم؛ لهذا الحديث؛ ولان الظاهر من حال النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اعتكافه أنه كَانَ يفطر فِي المسجد؛ فإن عائشة قالت: كان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، إلا أن يقال: أن ذلك داخل في حاجة الإنسان.
والظاهر من أهل الصفة: أنهم كانوا يأكلون في المسجد، وقد سبق حديث البراء بن عازب أنهم كانوا إذا جاعوا ضربوا القنو المعلق في المسجد للصدقة فأكلوا منه.
وذهب طائفة إلى كراهته؛ لأنه دناءة، وحكي عن الشافعي، وهو وجه لأصحابنا.
ومن قال بهذا أجاز للمعتكف أن يدخل بيته للأكل، كما يدخل لقضاء حاجته.
ويعضد هذا: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المساجد: ((إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن)) .
خرجه مسلم.
وقد تقدم في أواخر ((أبواب: الوضوء)) .(3/163)
44 - باب
القضاء واللعان في المسجد بين الرجال والنساء(3/164)
423 - حدثنا يحيى بن موسى: ثنا عبد الرزاق: ابنا ابن جريج: أخبرني ابن شهاب، عن سهل بن سعد، أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله؟ فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد.
هذا مختصر من حديث سهل في قصة المتلاعنين.
وكان غرض البخاري منه قول سهل: ((فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد)) ، وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الذي لا عن بينهما، فدل ذلك على جواز الحكم في المسجد والتلاعن فيه بين الزوجين؛ فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم عليهما بالتلاعن ولاعن بينهما.
ولا خلاف نعلمه بين العلماء في جواز الملاعنة في المساجد بين الزوجين المسلمين، وإنما اختلفوا: هل ذلك مستحب أو واجب أو مباح:
فأوجبه الشافعي في قول له، واستحبه في قوله الآخر، وأكثر أصحابنا، ومنهم من قال: هو جائز غير مستحب.(3/164)
وقال ابن عبد البر: لا يختلفون أن اللعان لا يكون إلا في المسجد الجامع؛ لان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن في مسجده.
وأما القضاء في المسجد، فقد بوب البخاري عليه في آخر ((صحيحه)) في ((كتاب: الأحكام)) ، فقال: ((باب: من قضى ولاعن في المسجد)) . ولاعن عمر عند منبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقضى مروان على زيد بن ثابت باليمن عند المنبر. وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد. وكان الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في الرحبة خارج المسجد.
ثم خرج حديث سهل في اللعان.
ثم قال: ((باب: من حكم في المسجد حتى إذا أتى على حد أمر أن يخرج من المسجد فيقام)) . وقال عمر: أخرجاه من المسجد فاضرباه. ويذكر عن علي نحوه.
ثم خرج فيه من حديث أبي هريرة، قال: أتى رجل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد، فناداه، فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه، فلما شهد على نفسه أربعا قال: ((ابك جنون؟)) قال: لا. قال: ((اذهبوا به فارجموه)) – وذكر الحديث.
وذكر غيره ممن كان يقضي في المسجد: شريح، والحسن، والشعبي، ومحارب بن دثار، ويحيى بن يعمر، وابن أبي ليلى، وبه قال أبو حنيفة ومالك واحمد وإسحاق.
قال أحمد: لم يزل الناس يقضون في المساجد.
وقال مالك: هو من أمر الناس القديم.
وكرهه الشافعي.
وحكي عن عمر بن عبد العزيز، ورواية عن(3/165)
أبي حنيفة.
وقال سفيان الثوري: لا باس أن يقضي القاضي في المسجد؛ كان شريح والقضاة يفعلون ذلك، وكان عمر بن عبد العزيز كتب أن لا يقضي القاضي في المسجد.
وكان الشعبي يقضي بين أهل الذمة والنساء إذا لم يصلين على باب داره.
وأما إقامة الحد في المسجد، ففي النهي عنه حديث خرجه الترمذي، وفي إسناده مقال.
وهو قول الجمهور، وكان ابن أبي ليلى يقيم حد الجلد في المسجد
ومذهب مالك: لا باس في المسجد بخفيف الأدب، ولا باس بضرب الخصم فيه إذا تبين لدده -: نقله صاحب ((تهذيب المدونة)) .(3/166)
45 - باب
إذا دخل بيتاً يصلي حيث شاء أو حيث أمر؟
ولا يتجسس(3/167)
424 - ثنا عبد الله بن مسلمة: ثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن محمود بن الربيع، عن عتبان بن مالك، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاه في منزله، فقال: ((أين تحب أن اصلي لك من بيتك؟)) . قال: فأشرت له إلى مكان، فكبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وصففنا خلفه، فصلى ركعتين.
هذا مختصر من حديث طويل قد خرجه بتمامه في الباب الذي بعد هذا.
ومعنى تبويبه هاهنا: أن الداخل إلى بيت غيره: هل يصلي حيث شاء من
البيت، أم حيث أمر؟ وسقط حرف الاستفهام من الكلام.
واستدل بهذا الحديث على أنه يصلي حيث أمر لا حيث شاء.
وفي هذا نظر؛ حيث شكا إليه أنه لا يقدر على حضور مسجد الجماعة، وفي مثل هذه الحادثة ينبغي أن يرجع إلى اختيار صاحب البيت في مكان الصلاة؛ لأنه أعلم بما يصلح من بيته لاتخاذه مسجدا، والحق له في ذلك.
وأما من دخل إلى بيت غيره على هذا الوجه، وأراد لصلاة فيه فلا يتوقف على أمر صاحب البيت، كما صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(3/167)
بأنس وأمه ولم يستاذنهما، بل قال لهم: ((قوموا، فلأصلي لكم)) . وقد سبق.
ولعل البخاري الحق الصلاة في بيت غيره إذا دخل إليه بالجلوس فيه؛ فإنه إذا أمر بالجلوس في مكان معين منه فلا ينبغي له الجلوس في غيره، لكن ذاك بعد الأمر، فإن لم يوجد أمر فله الجلوس حيث شاء.
قال سفيان الثوري: إذا دخلت فاجلس حيث يأمرك صاحب الدار؛ فإن صاحب الدار اعرف بعورة داره؛ بلغنا ذلك عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومتى كان في البيت مسجد للصلاة فيه فالداخل إذا أراد الصلاة يصلي فيه بغير استئذان.
وفي ((مسند الإمام أحمد)) عن جابر، قال: قلت: يا رسول الله، أن أبي ترك دينا ليهودي، فقال: ((سنأتيك يوم السبت إن شاء الله)) . وذلك في زمن الثمر مع استجداد النخل، فلما كان صبيحة يوم السبت جاءني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما دخل علي في مالي دنى إلى الربيع فتوضأ منه، ثم قال إلى المسجد فصلى ركعتين، ثم دنوت به إلى خيمة لي فبسطت له: بجادا من شعر وطرحت خدية من قتب من شعر حشوها ليف، فاتكا عليها، فلم البث إلا قليلا حتى طلع أبو بكر - رضي الله عنه -، فكأنه نظر إلى ما عمل النبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتوضأ وصلى ركعتين، فلم البث إلا قليلا حتى جاء عمر - رضي الله عنه -، فتوضأ وصلى ركعتين كأنه نظر إلى صاحبيه، فدخلا، فجلس أبو بكر عند رأسه، وعمر عند رجليه - وذكر الحديث.(3/168)
46 - باب
المساجد في البيوت
وصلى البراء بن عازب في مسجد في داره في جماعة.
مساجد البيوت، هي أماكن الصلاة منها، وقد كان من عادة السلف أن يتخذوا في بيوتهم أماكن معدة للصلاة فيها.
وقد قدمنا في آخر ((كتاب: الحيض)) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في مسجد بيت ميمونة، وهي مضطجعة إلى جانبه، وهي حائض.
وروى جعفر بن برقان، عن شداد مولى عياض بن عامر، عن بلال، أنه جاء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤذنه بالصلاة، فوجده يتسحر في مسجد بيته.
خرجه الإمام أحمد.
وروى محمد بن سعد: ابنا قبيصة: ابنا سفيان: عن أبيه، قال: أول من اتخذ مسجدا في بيته يصلي فيه عمار بن ياسر.
وبإسناد: عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، قال: أول من بنى مسجدا يصلي فيه عمار بن ياسر.(3/169)
وهذه المساجد لا يثبت لها شيء من أحكام المساجد المسبلة، فلا يجب صيانتها عن نجاسة ولا جنابة ولا حيض. هذا مذهب أصحابنا وأكثر الفقهاء.
ومنع إسحاق من جلوس الجنب فيها والحائض -: نقله عنه حرب.
وأجاز الاعتكاف فيها للمرآة خاصة طائفة من فقهاء الكوفيين، منهم: النخعي والثوري وأبو حنيفة.
وعنه وعن الثوري: أن المرأة لا يصح اعتكافها في غير مسجد بيتها.
وقول الأكثرين أصح.
وقد روي عن ابن عباس، أنه سئل عن اعتكاف المرأة في مسجد بيتها؟ فقال: بدعة، وأبغض الأعمال إلى الله البدع، لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة.
خرجه حرب الكرماني.
وروى عمرو بن دينار، عن جابر، أنه سئل عن امرأة جعلت عليها أن تعتكف في مسجد بيتها؟ قَالَ: لا يصلح، لتعتكف فِي مسجد؛ كما قال الله: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [القرة: 187] .
خرجه الأثرم.
وجابر هذا يحتمل أنه جابر بن عبد الله الصحابي، ويحتمل أنه جابر بن زيد أبو الشعثاء التابعي.
واعتكف أبو الأحوص صاحب ابن مسعود في مسجد بيته.
ورخص فيه الشعبي.(3/170)
وهؤلاء جعلوا مساجد البيوت حكمها حكم المساجد في الاعتكاف، ولو كان هذا صحيحا لاعتكف أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مساجد بيوتهن، وإنما كن يعتكفن في مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأما إقامة الجماعة للصلوات في مساجد البيوت فلا يحصل بها فضيلة الصلاة في المساجد، وإنما حكم ذلك حكم من صلى في بيته جماعة وترك المسجد.
قال حرب: قلت لأحمد: فالقوم نحو العشرة يكونون في الدار، فيجتمعون وعلى باب الدار مسجد؟ قال: يخرجون إلى المسجد، ولا يصلون في الدار، وكأنه قال: إلا أن يكون في الدار مسجد يؤذن فيه ويقام. انتهى.
ومتى كان المسجد يؤذن فيه ويقام ويجتمع فيه الناس عموما، فقد صار مسجدا مسبلا، وخرج عن ملك صاحبه بذلك عند الإمام أحمد، وعامة العلماء، ولو لم ينو جعله مسجدا مؤبدا.
ونقل أبو طالب عن أحمد فيمن بنى مسجدا من داره، أذن فيه وصلى مع الناس، ونيته حين بناه وأخرجه أن يصلي فيه، فإذا مات رد إلى الميراث؟ فقال أحمد: إذا أذن فيه ودعا الناس إلى الصلاة فلا يرجع بشيء، ونيته ليس بشيء.
ووجه هذا: أن الإذن للناس في الصلاة إذا ترتب عليه صلاة الناس، فإنه يقوم مقام الوقف بالقول مع حيازة الموقوف عليه، ورفع يد الواقف،(3/171)
فيثبت الوقف بذلك، ونية رجوعه إلى ورثته كنية توقيت الوقف، والوقف لا يتوقت بل يتأبد، وتلغو نيته توقيته.
وقال حرب - أيضا - سمعت إسحاق يقول: الاعتكاف في كل مسجد خارج من البيت جائز، وان كانت الدار عظيمة مما يجتمع أهل المحلة في مسجد تلك الدار، ويدخلها غير أهل الدار لما جعل المسجد لله جاز الاعتكاف فيه - أيضا -، فأما رجل جعل مسجدا لنفسه، ولم يجعله للجماعة ترفقا بنفسه، فإنه لا يكون فيه اعتكاف، ولا فضل الجماعة - أيضا -، إلا أن يكون به عذر، ولا يمكنه أن يستقل إلى المسجد، فحينئذ يكون له فضل الجماعة في ذلك المسجد، فإن اعتكف فيه كان له اجر، ولا يسمى معتكفا؛ لان الاعتكاف إنما يكون في موضع بارز.
وبكل حال؛ فينبغي أن تحترم هذه البقاع المعدة للصلاة من البيوت، وتنظف وتطهر.
قال الثوري في المساجد التي تبنى في البيوت: ترفع ولا تشرف، وتفرغ للصلاة، ولا تجعل فيها شيئا.
وقد روي من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب.(3/172)
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان فِي
((صحيحهما)) .
خرجه الترمذي من وجه آخر مرسلا، من غير ذكر: ((عائشة)) .
وقال: هو أصح.
وكذلك أنكر الإمام أحمد وصله.
وقال الدارقطني: الصحيح المرسل.
وخرجه الإمام أحمد - أيضا - من رواية ابن إسحاق: حدثني عمر بن عبد الله بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عمن حدثه من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا أن نصنع المساجد في دورنا، وان نصلح صنعتها ونطهرها.(3/173)
وخرجه أبو داود بنحو هذا اللفظ من حديث سمرة بن جندب، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد اختلف في تفسير ((الدور)) في هذه الأحاديث:
فقيل: المراد بها البيوت، وبذلك فسره الخطابي وغيره.
وخرج ابن عدي حديث عائشة، ولفظه: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بتنظيف المساجد التي في البيوت.
وقال أكثر المتقدمين: المراد بالدور هنا: القبائل، كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((خير دور الأنصار دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني الحارث بن الخزرج، ثم دار بني ساعده، وفي كل دور الأنصار خير)) .
وبهذا فسر الحديث سفيان الثوري ووكيع بن الجراح وغيرهما.
وعلى هذا: فالمساجد المذكورة في الحديث هي المساجد المسبلة في القبائل والقرى؛ دون مساجد الأمصار الجامعة.
قال البخاري - رحمه الله -:(3/174)
425 - ثنا سعيد بن عفير: ثنا الليث: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني محمود بن الربيع الأنصاري، أن عتبان بن مالك - وهو من(3/174)
أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ممن شهد بدرا من الأنصار -، أنه أتى إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، قد أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم، لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، ووددت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في
بيتي، فأتخذه مصلى، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((سأفعل، إن شاء الله)) . قال عتبان: فغدا علي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأذنت له، فلم يجلس حين دخل البيت، ثم قال: ((أين تحب أن أصلي من بيتك)) قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكبر، فقمنا خلفه، فصففنا فصلى ركعتين، ثم سلم. قال: وحبسناه على خزيرة صنعناها له. قال: فثاب في البيت رجال من أهل الدار ذوو عدد، فاجتمعوا فقال قائل منهم: أين مالك بن الدخيشن - أو ابن
الدخشن؟ فقال بعضهم: ذلك منافق، لا يحب الله ورسوله. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا تقل ذلك، ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله، يريد بذلك وجه الله؟)) قال: الله ورسوله أعلم. قال: فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بها وجه الله)) .(3/175)
قال ابن شهاب: ثم سألت بعد ذلك الحصين بن محمد الأنصاري - وهو أحد بني سالم، وهو من سراتهم - عن حديث محمود بن الربيع، فصدقه بذلك.
عتبان بن مالك بن عمرو بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم بن عوف، شهد بدرا وأحدا - كما في هذا الحديث - ولم يذكره ابن إسحاق فيمن شهد بدرا، وكان ذهب بصره في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان يؤم قومه وهو ضرير البصر وهو شيخ كبير إلى أن توفي في زمن معاوية.
والظاهر: أنه لما اشتكى إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن قد ذهب بصره بالكلية، بل كان قد ساء بصره، كذا وقع في ((صحيح مسلم)) من رواية الأوزاعي، عن الزهري وهو معنى قوله في هذه الرواية: ((أنكرت بصري)) .
ولكن رواه مالك، عن الزهري، وقال فيه: إن عتبان قال: ((وأنا رجل ضرير البصر)) .
وقد خرجه البخاري في موضع آخر.
وروى سليمان بن المغيرة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك: ثنا محمود بن الربيع، عن عتبان بن مالك، قال: أصابني في بصري(3/176)
بعض الشيء، فبعثت إلى
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي فأتخذه مصلى، ففعل.
وهذا من روايات الأكابر عن الأصاغر - أعني: رواية أنس بن مالك، عن محمود بن الربيع.
ورواه حماد بن سلمة: ثنا ثابت، عن أنس: حدثني عتبان بن مالك، أنه
عمي، فأرسل إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، تعال فخط لي مسجدا. فجاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر الحديث.
ولعل هذه الرواية أشبه، وحماد بن سلمة مقدم في ثابت خاصة على غيره.
وقد خرجه مسلم في أول ((صحيحه)) من هذين الوجهين.
وروى هذا الحديث قتادة، واختلف عليه فيه:
فرواه شيبان، عن قتادة، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يذكر في إسناده: ((عتبان)) .
وخالفه حجاج بن حجاج، فرواه عن قتادة، عن أبي بكر بن أنس، عن محمود بن عمير بن سعد، أن عتبان أصيب ببصره - فذكر الحديث.
خرجه النسائي في ((كتاب اليوم والليلة)) من الطريقين.
وقوله: ((محمود بن عمير بن سعد)) ، الظاهر أنه وهم؛ فقد رواه علي بن زيد بن جدعان، قال: حدثني أبو بكر بن أنس، قال: قدم أبي الشام وافدا وأنا معه، فلقينا محمود بن الربيع، فحدث أبي حديثا عن عتبان بن مالك، فلما قفلنا انصرفنا إلى المدينة، فسألنا عنه، فإذا هو حي،(3/177)
فإذا بشيخ كبير أعمى، فسألناه عن الحديث، فقال: ذهب بصري على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر الحديث بطوله.
خرجه الإمام أحمد.
فتبين بهذه الرواية أن أبا بكر بن أنس سمعه من محمود بن الربيع عن عتبان، ثم سمعه من عتبان.
وقد اعتذر عتبان - أيضا - بأن السيول تحول بينه وبين مسجد قومه الذي يصلي بهم فيه، فطلب من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتيه في بيته فيصلي فيه، حتى يتخذه مصلى.
وفي هذا: استحباب اتخاذ آثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومواضع صلواته مصلى يصلى فيه.
وقد ذكر ابن سعد، عن الواقدي، أن بيت عتبان الذي صلى فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي فيه الناس بالمدينة إلى يومه ذاك.
ويشهد لهذا المعنى - أيضا -: قول عمر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألا نتخذ من مقام إبراهيم مصلى؟ فَنَزَلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] .
وقد نقل أحمد بن القاسم وسندي الخواتيمي، عن الإمام أحمد،(3/178)
أنه سئل عن إتيان هذه المساجد؟ فقال: أما على حديث ابن أم مكتوم: أنه سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصلي في بيته فيتخذه مصلى، وعلى ما كان يفعل ابن عمر يتبع مواضع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأثره، فلا بأس أن يأتي الرجل المشاهد، إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا، وأكثروا فيه.
وفي رواية ابن القاسم: أن أحمد ذكر قبر الحسين، وما يفعل الناس عنده - يعني: من الأمور المكروهة المحدثة.
وهذا فيه إشارة إلى أن الإفراط في تتبع مثل هذه الآثار يخشى منه الفتنة، كما كره اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وقد زاد الأمر في ذلك عند الناس حتى وقفوا عنده، واعتقدوا أنه كاف لهم، واطرحوا ما لا ينجيهم غيره، وهو طاعة الله ورسوله.
وقد رأى الحسن قوما يزدحمون على حمل نعش بعض الموتى الصالحين، فقال: في عمله فتنافسوا.
يشير إلى أن المقصود الأعظم متابعته في عمله، لا مجرد الازدحام على حمل نعشه.
وكذلك من يبالغ في تزيين المصحف وتحسينه، وهو مصر على مخالفة أوامره وارتكاب مناهيه.
وقد روى عن عمر - رضي الله عنه - ما يدل على كراهة ذلك - أيضا -:
فروي عن المعرور بن سويد، قال: خرجنا مع عمر في حجة حجها، فلما انصرف رأى الناس مسجدا فبادروه، فقال: ما هذا؟ قالوا: مسجد صلى فيه النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال: هكذا(3/179)
هلك أهل الكتاب قبلكم، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا، من عرضت له فيه صلاة فليصل، ومن لم تعرض له صلاة فليمض.
وقال نافع: كان الناس يأتون الشجرة التي بايع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحتها بيعة الرضوان، فيصلون عندها، فبلغ ذلك عمر فأوعدهم فيها، وأمر بها فقطعت.
وقال ابن عبد البر: كره مالك وغيره من أهل العلم طلب موضع الشجرة التي بويع تحتها بيعة الرضوان؛ وذلك – والله أعلم – مخالفة لما سلكه اليهود والنصارى فِي مثل ذَلِكَ.
ذكره فِي ((الاستذكار)) فِي الكلام عَلَى حَدِيْث: ((اشتد غضب الله عَلَى قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) .
وقال: ذكر مالك [.. ..] بإثر هذا الحديث حديث عتبان بن مالك؛ ليبين لك أن معنى هذا الحديث مخالف للذي قبله.
قال: والتبرك والتأسي بأفعال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيمان به وتصديق، وحب في الله وفي رسوله.
وفي الحديث: دليل على أن المطر والسيول عذر يبيح له التخلف عن الصلاة في المسجد.
وقد روي: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرخص له:
قال الإمام أحمد: ثنا سفيان، عن الزهري، فسئل سفيان: عمن هو؟ قال: هو محمود - إن شاء الله -، أن عتبان بن(3/180)
مالك كان رجلا محجوب البصر، وانه ذكر للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التخلف عن الصلاة، فقال: ((هل تسمع النداء؟)) قال: نعم. فلم يرخص له.
وكذا رواه محمد بن سعد، عن سفيان.
وهو يدل على أن سفيان شك في إسناده، ولم يحفظه.
وقال الشافعي: أبنا سفيان بن عيينة: سمعت الزهري يحدث، عن محمود ابن الربيع، عن عتبان بن مالك، قال: قلت: يا رسول الله، إني محجوب البصر، وإن السيول تحول بيني وبين المسجد، فهل لي من عذر؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((هل تسمع النداء؟)) قال: نعم. فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا أجد لك من عذر إذا سمعت النداء)) . قال سفيان: وفيه قضية لم أحفظها.
قال الشافعي: هكذا حدثنا سفيان، وكان يتوقاه، ويعرف أنه لم يضبطه.
قال: وقد أوهم فيه - فيما نرى -، والدلالة على ذلك: ما أبنا مالك، عن ابن شهاب - ثم ذكر حديث عتبان المتقدم، على ما رواه الجماعة عن الزهري.
قال البيهقي: اللفظ الذي رواه ابن عيينة في هذا الإسناد إنما هو في قصة ابن أم مكتوم الأعمى.
قلت: وقد اشتبهت القصتان على غير واحد، وقد سبق عن الإمام أحمد أنه ذكر أن ابن أم مكتوم سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصلي في بيته ليتخذه(3/181)
مصلى، وإنما هو عتبان بن مالك.
وقد اشتبه على بعض الرواة محمود بن الربيع الراوي له عن عتبان، فسماه محمود بن لبيد، وهو - أيضا - وهم، وقد وقع فيه بعض الرواة للحديث عن مالك.
وقال يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن محمود بن الربيع - أو الربيع بين محمود - شك يزيد.
وقد روي عن ابن عيينة بإسناد آخر: خرجه ابن عبد البر في ((التمهيد)) ، من طريق عبيد الله بن محمد: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة - إن شاء الله -، عن عتبان بن مالك، أنه سأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التخلف عن الصلاة، فقال: ((أتسمع النداء؟)) قَالَ: نَعَمْ. فَلَمْ يرخص لَهُ.
وهذا الإسناد غير محفوظ، ولهذا شك فيه الراوي - إما عن سفيان أو غيره -، وقال: ((إن شاء الله)) ، وإنما أراد حديث محمود بن الربيع.
وأما ابن أم مكتوم، فقد خرجه مسلم من رواية يزيد بن الأصم، عن أبي
هريرة، قال: أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل أعمى، فقال: يا رسول الله، أنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد. فسأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: ((هل تسمع النداء بالصلاة)) قال: نعم. قال: ((فأجب)) .(3/182)
وخرج الإمام أحمد وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث عيسى بن جارية، عن جابر بن عبد الله، قال: أتى ابن أم مكتوم إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، منزلي شاسع، وأنا مكفوف البصر، وأنا أسمع؟ قال: ((فإن سمعت الأذان فأجب، ولو حبوا، ولو زحفا)) .
وعيسى بن جارية، تكلم فيه.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة في ((صحيحه)) والحاكم من حديث عاصم بن بهدلة، عن أبي رزين، عن ابن أم مكتوم، أنه سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، إني رجل ضرير البصر، شاسع الدار، ولي قائد لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن اصلي في بيتي؟ قال: ((هل تسمع النداء؟)) قال: نعم. قال: ((لا أجد لك رخصة)) .
وفي إسناده اختلاف على عاصم:
وروي عنه، عن أبي رزين مرسلا.
ورواه أبو سنان سعيد بن سنان، عن عمرو بن مرة، عن أبي رزين، عن أبي هريرة.
وأبو سنان، قال أحمد: ليس بالقوي.(3/183)
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة، من حديث عبد الرحمن بن عابس، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن أم مكتوم، أنه قال: يا رسول الله، إن المدينة كثيرة الهوام والسباع. فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((تسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح؟)) قال: نعم. قال: ((فحيهلا)) .
وخرج الإمام أحمد من حديث عبد العزيز بن مسلم، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن شداد، عن ابن أم مكتوم؛ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى المسجد فرأى في القوم رقة، فقال: ((إني لأهم أن أجعل للناس إماما، ثم أخرج فلا أقدر على إنسان يتخلف عن الصلاة في بيته إلا أحرقته عليه)) . فقال ابن أم مكتوم، يا رسول الله، إن بيني وبين المسجد نخلا وشجرا، ولا أقدر على قائد كل ساعة، أيسعني أن أصلي في بيتي؟ قال: ((أتسمع الإقامة؟)) قال: نعم. قال: ((فأتها)) .
وخرجه ابن خزيمة والحاكم من رواية أبي جعفر الرازي، عن حصين، به - بنحوه.
وقد روي هذا الحديث من رواية البراء بن عازب وأبي أمامة وكعب بن عجرة. وفي أسانيدها ضعف. والله أعلم.(3/184)
وقد أشكل وجه الجمع بين حديث ابن أم مكتوم وحديث عتبان بن مالك، حيث جعل لعتبان رخصة، ولم يجعل لابن أم مكتوم رخصة:
فمن الناس: من جمع بينهما بأن عتبان ذكر أن السيول تحول بينه وبين مسجد قومه، وهذا عذر واضح؛ لأنه يتعذر معه الوصول إلى المسجد، وابن أم مكتوم لم يذكر مثل ذلك. وإنما ذكر مشقة المشي عليه. وفي هذا ضعف؛ فإن السيول لا تدوم، وقد رخص له في الصلاة في بيته بكل حال، ولم يخصه بحالة وجود السيل، وابن أم مكتوم قد ذكر أن المدينة كثيرة الهوام والسباع، وذلك يقوم مقام السيل المخوف.
وقيل: إن ابن أم مكتوم كان قريبا من المسجد، بخلاف عتبان، ولهذا ورد في بعض طرق حديث ابن أم مكتوم: أنه كان يسمع الإقامة. ولكن في بعض الروايات أنه أخبر أن منزله شاسع كما تقدم.
ومن الناس من أشار إلى نسخ حديث ابن أم مكتوم بحديث عتبان، فإن الأعذار التي ذكرها ابن أم مكتوم يكفي بعضها في سقوط حضور المسجد.
وقد أشار الجوزجاني إلى أن حديث ابن أم مكتوم لم يقل أحد بظاهره.
يعني: أن هذا لم يوجب حضور المسجد على من كان حاله كحال ابن أم مكتوم.(3/185)
وقيل: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أراد أنه لا يجد لابن أم مكتوم رخصة في حصول فضيلة الجماعة مع تخلفه وصلاته في بيته.
واستدل بعض من نصر ذلك - وهو: البيهقي - بما خرجه في ((سننه)) من طريق أبي شهاب الحناط، عن العلاء بن المسيب، عن أبيه، عن ابن أم مكتوم، قال: قلت: يا رسول الله، إن لي قائدا لا يلائمني في هاتين الصلاتين؟ قَالَ: ((أي
الصلاتين؟)) قلت: العشاء والصبح. فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لو يعلم القاعد عنهما ما فيهما لأتاهما ولو حبوا)) .
وحديث ابن أم مكتوم يدل على أن العمى ليس بعذر في ترك الجماعة، إذا كان قادرا على إتيانها، وهو مذهب أصحابنا.
ولو لم يمكنه المجيء إلا بقائد ووجد قائدا متبرعا له، فهل يجب عليه حضور المسجد؟ على وجهين، ذكرهما ابن حامد من أصحابنا.
وهذا بناء على قول أحمد: إن حضور المسجد للجماعة فرض عين.
وسيأتي ذكر ذلك مستوفى في موضعه - إن شاء الله تعالى.
وقد يستدل بحديث عتبان على أن الجماعة في البيت تكفي من حضور المسجد خصوصا للأعذار.
ويحتمل أن يكون عتبان جعل موضع صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيته مسجدا يؤذن فيه، ويقيم، ويصلي بجماعة أهل داره ومن قرب منه، فتكون صلاته حينئذ في مسجد: إما مسجد جماعة، أو مسجد بيت يجمع فيه،(3/186)
وأما ابن أم مكتوم فإنه استأذن في صلاته في بيته منفردا، فلم يأذن له، وهذا اقرب ما جمع به بين الحديثين. والله أعلم.
لكن في ((سنن البيهقي)) من حديث كعب بن عجرة، أن رجلا أعمى أتى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: إني اسمع النداء، ولعلي لا أجد قائدا، أفأتخذ مسجدا في داري؟ فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((تسمع النداء؟)) قال: نعم. قال: ((فإذا سمعت النداء فاخرج)) .
وفي إسناده اختلاف، وقد قال أبو حاتم فيه: أنه منكر.
ومع هذا؛ فلا دلالة فيه على أنه أراد أن يصلي في بيته جماعة، إنما فيه أنه أراد أن يجعل في داره مسجدا لصلاته في نفسه.
وفي حديث عتبان: دليل على جواز إمامة الأعمى، وجواز الجماعة في صلاة التطوع - أحيانا -، وجواز إمامة الزائر بإذن المزور في بيته.
وقوله: ((وحسبناه على خزيرة صنعناها له)) يدل على أن الزائر وإن كان صاحب المنزل قد استدعاه إلى بيته لحاجة له، فإنه يستحب له أن يضيفه، وإن حبسه لذلك في بيته بعد انقضاء حاجته لم يضر ذلك، بشرط ألا يكون على الزائر فيه مشقة.(3/187)
((والخزيرة)) : مرقة تصنع من النخالة. وقيل: من الدقيق - أيضا -، وقيل: أنه لا بد أن يكون معها شيء من دسم من شحم أو لحم. وخص بعضهم دسمها باللحم خاصة.
وقوله: ((فثاب في البيت رجال)) - يعني جاءوا متواترين، بعضهم في اثر بعض.
وقوله: ((من أهل الدار)) - يعني: دار بني سالم بن عوف، وهم قوم عتبان.
وفي قوله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا تقل ذلك)) نهى أن يرمي احد بالنفاق لقرائن تظهر عليه، وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجري على المنافقين أحكام المسلمين في الظاهر، مع علمه بنفاق بعضهم، فكيف بمسلم يرمي بذلك بمجرد قرينة؟
وفيه: أن من رمى أحدا بنفاق، وذكر سوء عمله، فإنه ينبغي أن ترد غيبته، ويذكر صالح عمله؛ ولهذا ذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أن لا اله إلا الله وان محمد عبده ورسوله، لا يلتفت إلى قول من قال: إنما يقولها تقية ونفاقا.
وإنما لم يأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهجر مالك بن الدخشن؛ لأنه لم يعرف عنده بما يخشى عليه من النفاق، ولم يثبت ذلك ببينة، وإنما رمي بذلك، بخلاف الثلاثة الذين خلفوا؛ فإنهم اعترفوا بما يخشى عليهم منه النفاق؛(3/188)
ولهذا عذر المعتذرين ووكلهم إلى الله، وكان كثير منهم كاذبا.
وقد سبق القول في معنى تحريم من قال: ((لا اله إلا الله)) على النار، في أواخر ((كتاب: العلم)) .
وقد شهد مالك بن الدخشم مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدرا واحدا والمشاهد كلها، واختلفوا: هل شهد مع الأنصار بيعة العقبة، أم لا؟
وقد روي أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعثه مع عاصم بن عدي لتحريق مسجد الضرار وهدمه.
وقد روى أسد بن موسى: ثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رجلا من الأنصار أرسل إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في داره، فأتاه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واجتمع قومه، وتغيب رجل منهم، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أين فلان؟)) فغمزه رجل منهم، فقال: أنه، وانه! فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أليس قد شهد بدرا؟)) قالوا: بلى. قال: ((فلعل الله قد اطلع إلى أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) .
وخرجه الطبراني من طريق حماد - أيضا -، حديثه: أن رجلا من الأنصار عمي، فبعث إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اخطط لي في داري مسجدا لأصلي فيه. فجاء
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد اجتمع إليه قومه وتغيب رجل.(3/189)
وخرجه ابن ماجة أول الحديث فقط، وخرج أبو داود آخره فقط من طريق حماد.
ولأنس عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حديث آخر في معنى حديث عتبان. خرجه البخاري في مواضع أخر، وقد ذكرناه في ((باب: الصلاة على الحصير)) فيما تقدم.(3/190)
47 - باب
التيمن في دخول المسجد وغيره
وكان ابن عمر يبدأ برجله اليمنى، فإذا خرج بدأ برجله اليسرى.(3/191)
426 - حدثنا سليمان بن حرب: ثنا شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن أبيه، عن مسروق، عن عائشة، قالت: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب التيمن ما استطاع في شانه كله، في طهوره، وترجله، وتنعله.
وقد سبق هذا الحديث في ((باب: التيمن في الوضوء والغسل)) وبسطنا القول عليه هناك، أنه يدل على تقديم اليمنى في الأفعال الشريفة، واليسرى فيما هو بخلاف ذلك، فالدخول إلى المسجد من اشرف الأعمال، فينبغي تقديم الرجل اليمنى فيه كتقديمها في الانتعال، والخروج منه بالعكس، فينبغي تأخير اليمنى فيه، كتأخيرها في خلع النعلين.
وأما ما ذكره عن ابن عمر تعليقا.
وروى شداد أبو طلحة الراسبي، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك، أنه كان يقول: من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى.
خرجه الحاكم.
وقال: صحيح على شرط مسلم.
وخرجه(3/191)
البيهقي.
وقال: تفرد أبو طلحة، وليس بالقوي.
وسئل الدارقطني عنه، فقال: يعتبر به.
وخرجه له مسلم.
وروي عن أنس من وجه أخر أضعف من هذا، من فعله، ولم يقل فيه: ((من السنة)) .(3/192)
48 - باب
هل تنبش قبور مشركي الجاهلية، ويتخذ مكانها مساجد
لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لعن الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))
وما يكره من الصلاة في القبور
ورأى عمر أنس بن مالك يصلي عند قبر، فقال: القبر القبر، ولم يأمره بالإعاده.
مقصود البخاري بهذا الباب: كراهة الصلاة بين القبور واليها، واستدل لذلك بان اتخاذ القبور مساجد ليس هو من شريعة الإسلام، بل من عمل اليهود، وقد لعنهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك.
وقد خرج البخاري هذا الحديث فيما تقدم، وسيأتي قريبا - أن شاء الله تعالى.
وقد دل القران على مثل ما دل عليه هذا الحديث، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً}
[الكهف: 12] ، فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بان مستند القهر والغلبة واتباع الهوى، وانه ليس من فعل أهل العلم والفضل المتبعين لما انزل الله على رسله من الهدى.(3/193)
وإذا كرهت الصلاة إلى القبور وبينها، فإن كانت القبور محترمة اجتنبت الصلاة فيها، وأن كانت غير محترمة كقبور مشركي الجاهلية ونحوهم ممن لا عهد له ولا ذمة مع المسلمين فإنه يجوز نبشها ونقل ما يوجد فيها من عظامهم، والصلاة في موضعها؛ فإنها لم تبق مقبرة ولا بقي فيها قبور، وقد نص الإمام أحمد على ذلك في رواية المروذي.
وأما ما ذكره عن عمر - رضي الله عنه -، فمن رواية سفيان، عن حميد، عن أنس، قال: رأني عمر وأنا اصلي إلى قبر، فجعل يشير إلي: القبر القبر.
ورواه إسماعيل بن جعفر عن حميد، عن أنس، حدثه أنه قام يصلي إلى قبر لا يشعر به، فناداه عمر: القبر القبر. قال: فظننت أنه يقول: القمر، فرفعت راسي، فقال رجل: أنه يقول: القبر، فتنحيت.
وروي عن أنس، عن عمر من وجوه أخر.
وروى همام: ثنا قتادة، أن أنسا مر على مقبرة وهم يبنون مسجدا، فقال أنس: كان يكره أن يبنى مسجد في وسط القبور.
وقال أشعث: عن ابن سيرين: كانوا يكرهون الصلاة بين ظهراني القبور.
خرج ذلك كله أبو بكر الأثرم.
وقال: سمعت أبا عبد الله - يعني:(3/194)
أحمد - يسال عن الصلاة في المقبرة؟ فكره الصلاة في المقبرة. فقيل له: المسجد يكون بين القبور، أيصلي فيه؟ فكره ذَلِكَ. قيل لَهُ: أنه مسجد وبينه وبين القبور حاجز؟ فكره أن يصلي فيه الفرض، ورخص أن يصلي فيه على الجنائز. وذكر حديث أبي مرثد الغنوي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لا تصلوا إلى القبور)) ، وقال: إسناد جيد.
وحديث أبي مرثد هذا: خرجه مسلم، ولفظه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها)) .
وروي عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه عن أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال:
((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، إلا المقبرة والحمام)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وابن حبان والحاكم
وصححه.(3/195)
وقد اختلف في إرساله ووصله بذكر ((أبي سعيد)) فيه، ورجع كثير من الحفاظ إرساله: عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، ومنهم: الترمذي والدارقطني.
وفي هذا الباب أحاديث أخر، قد استوفيناها في ((في كتاب شرح الترمذي)) .
وأما ما ذكره البخاري: أن عمر لم يأمر أنسا بالإعادة.
فقد اختلف في الصلاة في المقبرة: هل تجب إعادتها، أم لا؟
وأكثر العلماء على أنه لا تجب الإعادة بذلك، وهو قول مالك، والشافعي، واحمد في رواية عنه.
والمشهور عن أحمد الذي عليه عامة أصحابه: أن عليه الإعادة؛(3/196)
لارتكاب النهي في الصلاة فيها.
وهو قول أهل الظاهر - أو بعضهم -، وجعلوا النهي هاهنا لمعنى يختص بالصلاة من جهة مكانها، فهو كالنهي عن الصلاة المختص بها لزمانها كالصلاة في أوقات النهي، وكالصيام المنهي عنه لأجل زمنه المختص به كصيام العيدين.
حتى أن من أصحابنا من قال: متى قلنا: النهي عن الصلاة في المقبرة والأعطان ونحوها للتحريم، فلا ينبغي أن يكون في بطلان الصلاة فيها خلاف عن أحمد، وإنما الخلاف عنه في عدم البطلان مبني على القول بأنه مكروه كراهة تنزيه.
وأكثر العلماء على أن الكراهة في ذلك كراهة تنزيه، ومنهم من رخص فيه.
قال ابن المنذر: اختلفوا في الصلاة في المقبرة، فروينا عن علي وابن عباس
وعبد الله بن عمرو وعطاء والنخعي أنهم كرهوا الصلاة فيها. واختلف عن مالك فيه، فحكى ابن القاسم عنه أنه قال: لا باس به، وحكى أبو مصعب عنه أنه قال: لا أحب ذلك.
قال ابن المنذر: ونحن نكره من ذلك ما كرهه أهل العلم استدلالا بالثابت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: ((اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورا)) ، ففي هذا دليل على أن المقبرة ليست بموضع للصلاة.
قلت: قد استدل البخاري بذلك - أيضا - وعقد له بابا مفردا، وسيأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى.
قال ابن المنذر: وقد قال نافع مولى ابن عمر: صليتا على عائشة(3/197)
وأم سلمه وسط البقيع، والإمام يومئذ أبو هريرة، وحضر ذلك ابن عمر.
قلت: صلاة الجنازة مستثناة من النهي عند الإمام أحمد وغيره، وقد سبق قول أحمد في ذلك. وقال أيضاً -: لا يصلي في مسجد بين المقابر إلا الجنائز؛ لأن الجنائز هذه سنتها.
يشير إلى فعل الصحابة - رضي الله عنهم -.
قال ابن المنذر: وروينا أن واثلة بن الأسقع كان يصلي في المقبرة، غير أنه لا يستتر بقبر.
قلت: لأنه هو روى عن أبي مرثد حديث النهي عن الصلاة إلى القبور، فكان يخص النهي بحاله استقبال القبر خاصة.
قال ابن المنذر: وصلى الحسن البصري قي المقابر.
قلت: لعله صلى على جنازة، فإنه روي عنه أنه أمر بهدم المساجد المبنية في المقابر.
قال: وكره عمر بن الخطاب وأنس بن مالك الصلاة إلى المقابر. انتهى ما ذكره.
واختلف القائلون بالكراهة في علة النهي:
فقال الشافعي: علة ذلك النجاسة، فإن تراب المقابر يختلط بصديد الموتى ولحومهم، فإن كانت طاهرة صحت الصلاة فيها مع الكراهة.
وقسم أصحابه المقبرة إلى ثلاثة أقسام: ما تكرر نبشها، فلا تصح(3/198)
الصلاة فيها، لاختلاط ترابها بالصديد. وجديدة لم تنبش، فيصح الصلاة فيها مع الكراهة؛ لأنها مدفن للنجاسة.
وما شك في نبشها، ففي صحة الصلاة فيها قولان.
وأختلف أصحابنا في علة النهي [عن الصلاة] ، فمنهم من قال: هو مظنة النجاسة، ومنهم من قال: هو تعبد لا يعقل.
وقالو مع هذا: لا فرق بين أن تكون قديمة أو حديثة، نبشت أو لم تنبش، إذا تناولها اسم مقبرة.
قالوا: فإن كان في بقعة قبر أو قبران فلا بأس بالصلاة فيها وما لم يصل إلى القبر.
وأنكر آخرون التعليل بالنجاسة، بناء على طهارة تراب المقابر بالاستحالة، وعللوا: بان الصلاة في المقبرة والى القبور، إنما نهى عنه سدا لذريعة الشرك، فإن اصل الشرك وعبادة الأوثان كانت من تعظيم القبور، وقد ذكر البخاري في ((صحيحه)) في ((تفسير سورة نوح)) عن ابن عباس معنى ذلك، وسنذكره فيما بعد - أن شاء الله.
وفي ((صحيح مسلم)) عن جندب، سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يموت بخمس يقول: ((أن من كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)) .
وهذا يعم كل القبور.
وخرج الإمام أحمد وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أن من شرار الناس من(3/199)
تدركهم الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد)) .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي صالح، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج)) .
وقال الترمذي: حسن - وفي بعض النسخ: صحيح.
وخرج ابن حبان فِي ((صحيحه)) والحاكم وصححه.
واختلف في أبي صالح هذا، من هو؟
فقيل: إنه السمان -: قاله الطبراني، وفيه بعد. وقيل: إنه ميزان البصري، وهو ثقة؛ قاله ابن حبان. وقيل: إنه باذان مولى أم هاني -: قاله الإمام أحمد والجمهور.
وقد اختلف في أمره:
فوثقه العجلي. وقاله ابن معين: ليس(3/200)
به باس. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتاج به. وقال النسائي: ليس بثقة. وضعفه الإمام أحمد وقال: لم يصح عندي حديثه هذا.
وقال مسلم في ((كتاب التفصيل)) : هذا الحديث ليس بثابت، وأبو صالح باذام قد اتقى الناس حديثه، ولا يثبت له سماع من ابن عباس.
وروي عن زيد بن ثابت، أنه نهى أن يبنى عند قبر أبيه مسجد.
خرجه حرب الكرماني.
وقال أبو بكر الأثرم في كتاب ((الناسخ والمنسوخ)) : إنما كرهت الصلاة في المقبرة للتشبه بأهل الكتاب؛ لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد.
ووجدنا في كتاب مصنف على مذهب سفيان الثوري: وإذا صلى الرجل وبين يديه ميت تنحى عنه. إنما كره الصلاة إلى القبور من اجل الميت، فإن صلى إليها فلا باس.
وفيه - أيضا -: قال سفيان: ويكره أن يصلي الرجل إلى القبور أو ما بين
القبور. ثم قال: ومن صلى إلى القبور فلا إعادة عليه.
وفيه: قال: ولا تعجبني الصلاة على الجنازة في المقبرة.
وهذا قول الشافعي وإسحاق ورواية عن أحمد؛ لعموم النهي عن الصلاة في المقبرة.(3/201)
واستدل من رخص في صلاة الجنازة في المقبرة: بان الصلاة على القبر جائزة بالسنة الصحيحة، فعلم أن الصلاة على الميت في القبور غير منهي عنها.
خرج البخاري في هذا الباب حديثين:
الحديث الأول:
قال:(3/202)
427 - ثنا محمد بن المثنى: ثنا يحيى، عن هشام: اخبرني أبي، عن عائشة، أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا ذلك للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، وأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)) .
هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصوير صورهم فيها كما يفعله النصارى، ولا ريب أن كل واحد منهما محرم على انفراد، فتصوير صور الآدميين محرم، وبناء القبور على المساجد بانفراده محرم كما دلت(3/202)
عليه النصوص أخر يأتي ذكر بعضها.
وقد خرج البخاري في ((تفسير سورة نوح)) من ((كتابه)) هذا من حديث ابن جريج، فقال: عطاء، عن ابن عباس: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب تعبد، أما ود كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع كانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبإ وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع -: أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت.
وقد ذكر الإسماعيلي: أن عطاء هذا هو الخرساني، والخرساني لم يسمع من ابن عباس. والله أعلم.
فإن اجتمع بناء المسجد على القبور ونحوها من آثار الصالحين مع تصوير صورهم فلا شك في تحريمه، سواء كانت صورا مجسدة كالأصنام أو على حائط ونحوه، كما يفعله النصارى في كنائسهم، والتصاوير التي في الكنيسة التي ذكرتها أم حبيبة وأم سلمة أنهما رأتاها بالحبشة كانت على الحيطان ونحوها، ولم يكن لها ظل، وكانت أم سلمة وأم حبيبة قد هاجرتا إلى الحبشة.
فتصوير الصور على مثل(3/203)
صور الأنبياء والصالحين؛ للتبرك بها والاستشفاع بها محرم في دين الإسلام، وهو من جنس عبادة الأوثان، وهو الذي أخبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أهله شرار الخلق عند الله يوم القيامة.
وتصوير الصور للتآنس برؤيتها أو للتنزه بذلك والتلهي محرم، وهو من الكبائر وفاعله من اشد الناس عذابا يوم القيامة، فإنه ظالم ممثل بأفعال الله التي لا يقدر على فعلها غيره، والله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله سبحانه وتعالى.
الحديث الثاني:(3/204)
428 - حدثنا مسدد: ثنا عبد الوارث، عن أبي التياح، عن أنس، قال: قدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف، فأقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى بني النجار فجاءوا متقلدين السيوف، فكأني أنظر إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على راحلته، وأبو بكر ردفه، وملأ بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب، وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، وإنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملإ بني النجار، فقال: ((يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا)) . قالوا: لا والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله - عز وجل -. قال أنس: فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خرب، وفيه نخل، فأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقبور المشركين فنبشت، ثم بالخرب فسويت، ثم بنخل فقطع، فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه(3/204)
بالحجارة، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معهم وهو يقول:
اللهم لا خير إلا خير الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجره
أعلى المدينة: هو العوالي والعالية، وهو قباء وما حوله، وكانت قباء مسكن بني عمرو بن عوف.
وقيل: إن كل ما كان من جهة نجد من المدينة، من قراها وعمائرها إلى تهامة يسمى العالية، وما كان دون ذلك يسمى السافلة.
وبنو النجار كانوا أخوال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد ذكرنا سبب ذلك في ((كتاب: الإيمان)) في ((باب: الصلاة من الإيمان)) .
وكان مقصود النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ينتقل من العوالي إلى وسط المدينة، وان يتخذ بها مسكنا يسكنه.
وفي إردافه لأبي بكر في ذلك اليوم دليل على شرف أبي بكر واختصاصه به دون سائر أصحابه.
وقوله: ((وملأ بني النجار حوله)) - يريد: رجالهم وشجعانهم وأشرافهم.
وقوله: ((حتى ألقى بفناء أبي أيوب)) - أي: بفناء داره، و ((ألقى)) بالقاف، ومعناه: أنه نزل به، فإن السائر إذا نزل بمكان ألقى فيه رحله وما معه.(3/205)
وقد ذكر شرحبيل بن سعد وأهل السير: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان كلما مر بدار من دور الأنصار كبني سالم وبني حارث بن الخزرج وبني عدي أخذوا بخطام راحلته، وعرضوا عليه النزول بحيهم، وهو يقول: ((خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة)) ، حتى بركت بفناء دار أبي أيوب، عند مسجده الذي بناه.
وقول أنس: ((وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة ويصلي في مرابض الغنم)) ، موافق لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره)) . ولقوله لما سئل: أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: ((المسجد الحرام)) . قيل له: ثم أي؟ قال: ((ثم مسجد بيت المقدس)) . قيل: كم بينهما؟ قال: ((أربعون سنة)) . ثم قال: ((الأرض لك مسجد، فأينما أدركتك الصلاة فصل؛ فإنه لك مسجد)) .
وقوله: فأرسل إلى بني النجار، فقال: ((ثامنوني بحائطكم)) - يعني: بيعوني إياه بثمنه.
قال الخطابي: وفيه أن صاحب السلعة أحق بالسوم.
فإنه طلب منهم أن يذكروا له الثمن، ولم يقطع ثمنا من عنده.
والحائط: ما فيه(3/206)
شجر وعليه بنيان.
وقوله: ((قالوا: والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله)) يدل على أنهم لم يأخذوا له ثمنا، وقد ذكر الزهري وغيره خلاف ذلك.
قال ابن سعد: أبنا الواقدي: حدثني معمر، عن الزهري، قال: بركت ناقة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند موضع مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يومئذ يصلي فيه رجال من المسلمين، وكان مربدا لسهل وسهيل: غلامين يتيمين من الأنصار، وكانا في حجر أبي أمامة أسعد بن زرارة، فدعا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغلامين، فساومهما بالمربد؛ ليتخذه مسجدا. فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله. فأبى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى ابتاعه منهما.
قال الواقدي: وقال غير معمر، عن الزهري: فابتاعه بعشرة دنانير. وقال معمر، عن الزهري: وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك.
وهذا إن صح يدل على أن الغلامين كانا قد بلغا الحلم.
وحديث أنس اصح من رواية يرويها الواقدي عن معمر وغيره، عن الزهري مرسلة، فإن مراسيل الزهري لو صحت عنه من اضعف المراسيل، فكيف إذا تفرد بها الواقدي؟(3/207)
وقد روي عن الحسن، أنهما وهباه للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقبله:
قال المفضل الجندي في ((فضائل المدينة)) له: ثنا محمد بن يحيى: ثنا سفيان، عن أبي موسى، عن الحسن، قال: كان مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مربدا لغلامين من الأنصار، يقال لهما: سهل وسهيل، فلما رآه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعجبه، فكلم فيه عمهما - وكانا في حجره - أن يبتاعه منهما، فأخبرهما عمهما أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراده، فقالا: نحن نعطيه إياه. فأعطياه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبناه.
قال الحسن: فأدركت فيه أصول النخل غلابا - يعني: غلاظا -، وكان
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة إلى جذع منها، ويسند إليه ظهره، ويصلي إليه.
ثم قال الواقدي - في روايته عن معمر، عن الزهري -: كان - يعني: ذلك المربد - جدارا مجدرا، ليس عليه سقف، وقبلته إلى بيت المقدس، كان أسعد بن زرارة بناه، فكان يصلي بأصحابه فيه، ويجمع فيه بهم الجمعة قبل مقدم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالنخل الذي في الحديقة، وبالغرقد الذي فيه أن يقطع، وأمر باللبن فضرب، وكان في المربد قبور جاهلية، فأمر بها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنبشت، وأمر بالعظام أن تغيب، وكان في المربد ماء مستنجل فسيروه حتى ذهب، وأسسوا المسجد، فجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، وفي هذين الجانبين مثل ذلك، فهو مربع - ويقال: كان اقل من المائة -، وجعلوا الأساس قريبا من ثلاث أذرع على الأرض بالحجارة، ثم بنوه باللبن، وبناه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وجعل ينقل(3/208)
معهم الحجارة بنفسه، وهو يقول:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجره
وجعل يقول:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر - ربنا -، وأطهر
وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: بابا في مؤخره، وبابا يقال له: باب الرحمة، وهو باب الذي يدعى باب عاتكة، والباب الثالث الذي يدخل منه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو الباب الذي يلي آل عثمان، وجعل طول الجدار بسطة وعمدة الجذوع، وسقفه جريدا، فقيل له: ألا نسقفه؟ فقال: ((عريش كعريش موسى، خشيبات وثمام، الشأن أعجل من ذلك)) .
وبنى بيوتا إلى جنبه باللبن، وسقفها بجذوع النخل والجريد، فلما فرغ من البناء بنى بعائشة في البيت الذي بابه شارع إلى المسجد، وجعل سودة بنت زمعة في البيت الآخر الذي يليه إلى الباب الذي يلي آل عثمان. انتهى.
وذكر ابن سعد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام في منزل أبي أيوب سبعة أشهر.
وهذا يدل على أن بعض حجره تم بناؤه بعد ذلك، وانتقل إليها.
وروى ابن سعد - أيضا - عن الواقدي: ثنا عبد الرحمن بن(3/209)
أبي الرجال، قال: مات أسعد بن زرارة في شوال، على رأس تسعة أشهر من الهجرة، ومسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤمئذ يبنى.
وهذا يدل على أن بناء المسجد لم يتم إلا بعد تسعة أشهر من الهجرة.
وأما قول أنس: ((فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خرب، وفيه نخل)) .
لفظه: ((خرب)) رويت بالخاء المعجمة والباء الموحدة. ورويت: ((حرث)) بالحاء والثاء المثلثة.
قال الإسماعيلي: من قال: ((حرث)) . فهو محتمل؛ لأن ما حرث ولم يزرع أو زرع فرفع زرعه، كانت الأخاديد والشقوق باقية في الأرض.
يشير إلى أن ذلك يناسب قوله: ((فأمر بالحرث فسويت)) .
قال: ومن قال: ((خرب)) فهو صحيح؛ فهو جمع خربة أو خربة – بضم الخاء – وهو العيب، كالجحر والشق ونحوه.
قال: وأما ((الخرب)) فهو كقولك: مكان خرب - يعني: أنه يكون وصفا لمذكر.
قال: والحديث خارج على تأنيث هذا الحرف، فكأنه بالجمع أشبه.
وقال الخطابي: روي ((خرب)) - يعني: بكسر الخاء وبفتح الراء - قال الليث: هي لغة تميم خرب، والواحد خربة.
قال: وسائر الناس يقولون: ((خرب)) - يعني: بفتح الخاء وكسر الراء -، جمع خربة، كما قيل: كلم جمع كلمة. ولعل الصواب ((الخرب)) مضمومة الخاء جمع خربة وهي الخروق التي في الأرض، إلا أنهم يقولونها في كل ثقبة مستديرة.
قال: ولعل الرواية: ((الجرف)) جمع الجرفة، وهي جمع الجرف،(3/210)
كما قيل: خرج وخرجه، وترس وترسه.
قال: وأبين منها - إن ساعدت الرواية -: ((حدب)) جمع حدبة، لقوله: ((فسويت)) ، وإنما يسوى المكان المحدودب، أو ما فيه خروق، فأما الخرب فتبنى وتعمر. انتهى ما ذكره.
وفيه تكلف شديد، وتلاعب بهذه اللفظة بحسب ما يدخلها من الاحتمالات المستبعدة. والرواية التي رواها الحفاظ: ((خرب)) ، فإن كان مفردا، فإنما أنث
تسويته؛ لأن التأنيث يعود إلى أماكنه، والظاهر أنها كانت متعددة، وإن كان
((خرب)) ؛ - بالجمع - فتأنيثها واضح.
ومعنى تسوية الخرب: أن البناء الخراب المستهدم يصير في موضعه أماكن مرتفعة عن الأرض فتحتاج إلى أن تحفر وتسوى بالأرض، وهذا أمر واضح ظاهر، لا يحتاج إلى تكلف ولا تعسف.
وأما ((النخل)) فقد اخبر أنس أنه قطع، وصف قبلة للمسجد، وأما ((قبور المشركين)) فنبشت، وذكر أنهم بدءوا بنبش القبور، ثم بتسوية الخرب، ثم بقطع النخل.
والمقصود من تخريج الحديث في هذا الباب: أن موضع المسجد كان فيه قبور للمشركين، فنبشت قبورهم، وأخرجت عظامهم منها، وهذا يدل على أن المقبرة إذا نبشت وأخرج ما فيها من عظام الموتى لم تبق مقبرة، وجازت الصلاة فيها.
ويدل على كراهة الصلاة في المقبرة(3/211)
ولو كانت قبور المشركين؛ لما فيه من سد الذريعة إلى اتخاذ القبور مساجد، فإنه إذا تطاول العهد، ولم تعرف الحال، خشي من ذلك الفتنة.
وقد يقال مع ذلك: إن في نبش عظام المشركين للصلاة في أماكنها تباعدا في الصلاة عن مواضع العذاب والغضب، وهي مما يكره الصلاة فيها، كما سيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى.
وفي الحديث: دليل على طهارة الأرض بالاستحالة؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر عند نبش الأرض بإزالة تراب القبور ولا تطهيرها، ولو فعل ذلك لما أهمل نقله؛ للحاجة إليه.
ويدل عليه - أيضا -: أن الصحابة كانوا يخوضون الطين في الطرقات ولا يغسلون أرجلهم - كما تقدم عنهم - والنجاسات مشاهدة في الطرقات، فلو لم تطهر بالاستحالة لما سومح في ذلك.
وهذا قول طائفة من العلماء من السلف، كأبي قلابة وغيره، ورجحه بعض أصحابنا، وهو رواية عن أبي حنيفة، والمشهور عنه: أن الأرض النجسة إذا جفت فإنه يصلى عليها، ولا يتيمم بها. ومذهب مالك والشافعي واحمد وغيرهم: أنها نجسة بكل حال.
وفي الحديث: دليل على أن قبور المشركين لا حرمة لها، وأنه يجوز نبش عظامهم، ونقلهم من الأرض للانتفاع بالأرض إذا احتيج إلى ذلك.
واختلفوا في نبش قبورهم لطلب ما يدفن معهم من مال، فرخص فيه كثير من العلماء. حكاه ابن عبد البر عن أبي حنيفة والشافعي. قال وكرهه مالك ولم يحرمه، وكان الناس يفعلون ذلك في أول(3/212)
الإسلام كثيرا.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر بقبر أبي رغال، فأخبرهم أن معه غصنا من
ذهب، فنبشوه واستخرجوه منه.
ومن العلماء من كره ذلك، منهم الأوزاعي، وعلل بأنه يكره الدخول إلى مساكنهم؛ خشية نزول العذاب، فكيف بقبورهم؟
وكره بعض السلف نبش القبور العادية المجهولة؛ خشية أن يصادف قبر نبي أو صالح، وخصوصا بأرض الشام كالأردن.
ونص أحمد على أنه إذا غلب المسلمون على ارض الحرب فلا تنبش قبورهم.
وهذا محمول على ما إذا كان النبش عبثا لغير مصلحة، أو أن يخشى منه أن يفعل الكفار مثل ذلك بالمسلمين إذا غلبوا على أرضهم.
وفي الحديث: دليل على أن بيع الأرض التي في بعضها قبور صحيح، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طلب شراء هذا المربد.
وهذه المسألة على قسمين:
أحدهما: أن يكون المقبور في الأرض يجوز نبشه ونقله، كأهل الحرب، ومن دفن في مكان مغصوب، فهذا لا شك في صحة البيع للأرض كلها، وينقل المدفون فيها، كما أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنقل عظام المشركين من المربد.(3/213)
والثاني: أن يكون المقبور محترما لا يجوز نبشه، فلا يصح بيع موضع القبور خاصة.
وهل يصح في الباقي؟ يخرج على الخلاف المشهور في تفريق الصفقة.
ولو اشترى أرضا، فوجد في بعضها عظام موتى، ولم يعلم: هل هي مقبرة أم لا؟ فقال ابن عقيل من أصحابنا وبعض الشافعية في زمنه: لا يصح البيع في محل الدفن؛ لأن تلك البقعة إما أن تكون مسبلة، وإما أن تكون ملكا للميت قد وصى بدفنه فيها، فيكون أحق بها، ولا ينقل إلى الورثة.
وهذا الذي قالوه هو الأغلب، وإلا فيحتمل أن يكون الدفن في أرض مغصوبة أو مغارة للدفن، إلا أن هذا قليل أو نادر، فلا يعول عليه. والله أعلم.
والمنصوص عن أحمد: أنه إذا دفن في بيت من داره فلا بأس ببيعه، ما لم يجعل مقبرة مسبلة.
وفي الحديث: دليل على جواز قطع النخل لمصلحة في قطعه، وقد نص على جوازه أحمد: إذا كان في داره نخلة ضيقت عليه، فلا بأس أن يقطعها.
وكره جماعة قطع الشجر الذي يثمر، منهم: الحسن والأوزاعي وإسحاق، وكره أحمد قطع السدر خاصة لحديث مرسل ورد فيه، وقال: قل إنسان فعله إلا رأى ما يكره في الدنيا.
ورخص في قطعه آخرون. والله أعلم.(3/214)
49 - باب
الصلاة في مرابض الغنم(3/215)
429 - حدثنا سليمان بن حرب: ثنا شعبة، عن أبي التياح، عن أنس، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في مرابض الغنم.
ثم سمعته بعد يقول: كان يصلي في مرابض الغنم، قبل أن يبني المسجد.
هذا مختصر من الحديث الذي قبله، وإنما ترك الصلاة في مرابض الغنم بعد بناء المسجد؛ لاستغنائه عنها بالمسجد لا لنسخ الصلاة فيها، فإنه روي عنه أنه أذن في ذلك.
ففي ((صحيح مسلم)) عن جابر بن سمرة، أن رجلا قال للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصلي في مرابض الغنم؟ قال: ((نعم)) قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: ((لا)) .
وفيه أحاديث أخر، يأتي بعضها - إن شاء الله تعالى.
وقد روي الرخصة في ذلك عن ابن عمر، وأبي ذر، وأبي(3/215)
هريرة، وجابر ابن سمرة، وابن الزبير وغيرهم، وهو قول العلماء بعدهم.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إباحة الصلاة في مرابض الغنم، إلا الشافعي، فإنه قال: لا أكره الصلاة في مراح الغنم، إذا كان سليما من أبوالها وأبعارها.(3/216)
50 - باب
الصلاة في مواضع الإبل(3/217)
430 - حدثنا صدقة بن الفضل: ثنا سليمان بن حيان: ثنا عبيد الله، عن
نافع، قال: رايت ابن عمر يصلي إلى بعيره، فقال: رايت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله.
سليمان بن حيان، هو: أبو خالد الأحمر.
وقد خرج الشيخان هذا الحديث في ((صحيحيهما)) من طريقة، ومن طريق المعتمر بن سليمان - أيضا -، عن عبيد الله بن عمر.
ورواه - أيضا - شريك، عن عبيد الله كذلك.
وخالفهم ابن نمير ومحمد بن عبيد، فروياه عن عبيد الله، عن نافع، أن ابن عمر كان يفعل ذلك - ولم يرفعاه.
وزعم الدارقطني: أنه صحيح.
وتصرف الشيخين يشهد بخلاف ذلك، وان الصحيح رفعه؛ لان من رفعه فقد زاد، وهم جماعة ثقات.
والحديث نص في جواز الصلاة إلى البعير.
قال ابن المنذر: فعل ذلك ابن عمر وانس، وبه قال مالك والاوزاعي.
وقال أبو طالب: سالت أحمد: يصلي الرجل(3/217)
إلى بعيره؟ قال: نعم؛ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل، وابن عمر.
وكلام أحمد هذا يدل على صحة رفع الحديث عنده، كما هي طريقة البخاري ومسلم.
وممن روى عنه الاستتار ببعيره في الصلاة: سويد بن غفلة، والأسود بن يزيد، وعطاء، والقاسم، وسالم.
وقال الحسن: لا بأس به.
قال ابن عبد البر: لا أعلم فيه خلافا.
ونقل البويطي، عن الشافعي: أنه لا يصلي إلى دابة.
قال بعض أصحابه المتأخرين: لعل الشافعي لم يبلغه الحديث، وقد وصانا باتباع الحديث إذا صح، وقد صح هذا الحديث، ولا معارض له.
وتبويب البخاري: يدل على أن هذا الحديث يؤخذ منه يجوز الصلاة في مواضع الإبل وأعطانها، وقد سبقه إلى ذلك بعض من تقدم.
وقد كتب الليث بن سعد إلى عبد الله بن نافع مولى ابن عمر يسأله عن مسائل، منها: الصلاة في أعطان الإبل، فكتب له كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي على راحلته، وقد كان ابن عمر ومن أدركنا من خيار أهل أرضنا يعرض احدهم ناقته بينه وبين القبلة، فيصلي إليها، وهي تبعر وتبول.
وروى وكيع، عن إسرائيل، عن جابر - هو: الجعفي -، عن عامر(3/218)
الشعبي، عن جندب بن عامر السلمي، أنه كان يصلي في أعطان الإبل ومرابض الغنم.
ورخص سفيان الثوري في الصلاة في أعطان الإبل، وذكره بعض المصنفين على مذهبه، وقال: رواه عنه القناد.
وأكثر أهل العلم على كراهة الصلاة في أعطان الإبل.
قال ابن المنذر: وممن روينا عنه أنه رأى الصلاة في مرابض الغنم، ولا يصلي في أعطان الإبل: جابر بن سمرة، وعبد الله بن عمر، والحسن، ومالك وإسحاق، وأبو ثور. انتهى.
وهو - أيضا - قول الشافعي وأحمد.
وقد روى ذلك عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طرق متعددة، وقد سبق حديث جابر بن
سمرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالنهي عن الصلاة في أعطان الإبل، والأمر بالصلاة في مرابض
الغنم.
خرجه مسلم.
وخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في
((صحيحيهما)) من حديث ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل)) .
وصححه الترمذي، وإسناده كلهم ثقات، إلا أنه اختلف على ابن سيرين في رفعه ووقفه.(3/219)
قال الدارقطني: كانت عادة ابن سيرين أنه ربما توقف عن رفع الحديث توقيا.
وخرجه الترمذي من حديث أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنحوه، وذكر أنه اختلف في رفعه ووقفه - أيضا -، في كتاب ((العلل)) عن البخاري: أن المعروف وقفه.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث البراء بن عازب، قال: سئل
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في مبارك الإبل؟ فقال: ((لا تصلوا في مبارك الإبل؛ فإنها من الشياطين)) .
وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: ((صلوا فيها؛ فإنها بركة)) .
قال ابن عبد البر: هو أحسن أحاديث الباب، وأكثرها تواترا.
وروى الحسن، عن عبد الله بن مغفل أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الصلاة في أعطان الإبل.(3/220)
خرجه الإمام أحمد والنسائي وخرجه ابن ماجه وابن حبان في ((صحيحه)) ، ولفظهما: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل، فأنها خلقت من الشياطين)) .
وفي رواية للإمام أحمد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لاتصلوا في أعطان الإبل؛ فإنها من الجن خلقت، إلا ترون عيونها وهبتها، إذا نفرت، وصلوا في مرابد الغنم؛ فإنها هي اقرب من الرحمة)) .
وخرجه الشافعي بإسناد فيه ضعف، ولفظه: ((إذا أدركتم الصلاة وانتم في مراح الغنم فصلوا فيها؛ فأنها سكينة وبركة، وإذا أدركتكم الصلاة وانتم فِي أعطان الإبل فاخرجوا مِنْهَا فصلوا؛ فأنها جن من جن خلقت إلا ترونها إذا نفرت كيف تشمخ
بأنفها)) .
وله طرق متعددة عن الحسن.
قال ابن عبد البر: رواه عن الحسن خمسة عشر رجلا.
والحسن، سمع من عبد الله بن المغفل -: قاله الإمام أحمد.
وخرج مسلم حديثه(3/221)
عنه في ((صحيحه)) .
وخرج الإمام أحمد - بإسناد جيد -، عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل)) .
وخرجه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو - مرفوعا - من رواية يونس ابن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عنه - مرفوعا.
ويونس وثقه غير واحد.
لكن رواه مالك عن هشام، عن أبيه، عن رجل من المهاجرين، أنه سأل عبد الله بن عمرو - فذكره، ولم يرفعه.
ورواه عبدة ووكيع، عن هشام: حدثني رجل من المهاجرين - فذكره، ولم يذكر في الإسناد: ((عروة)) .
قال مسلم في ((كتاب التمييز)) : وهو الصواب.
واختلف القائلون بالكراهة: هل تصح الصلاة في أعطان الإبل، أم لا؟ فقال الأكثرون: تصح، وهو رواية عن أحمد، وأنه يعيد الصلاة استحبابا.
والمشهور عن أحمد: أنها لا تصح، وعليه الإعادة.
وعنه رواية ثالثة: إن علم بالنهي لم تصح، وألا صحت.
وعلله أصحاب الشافعي بأنها تنفر، فربما قطعت على المصلي صلاته.(3/222)
وهذا ضعيف؛ لوجهين:
أحدهما: أنه يبطل بالصلاة إلى البعير، لكن في كلام الشافعي ما يدل على كراهته.
والثاني: أنه ينتقض بما إذا لم تكن الإبل في أعطانها، فإن الكراهة لا تنتفي بذلك.
والمنصوص عن الشافعي: التعليل بما ورد به النص، أنها خلقت من الشياطين.
قال الشافعي: وفي قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا تصلوا في أعطان الإبل؛ فأنها جن من جن خلقت)) دليل على أنه إنما نهى عنها، كما قال حين نام عن الصلاة: ((اخرجوا بنا من هذا الوادي، فإنه واد به شيطان)) . فكره أن يصلي قرب شيطان وكذا كره أن يصلي قرب الإبل؛ لأنها خلقت من جن، لا لنجاسة موضعها.
وذكر أبو بكر الأثرم معنى هذا - أيضا - وأنه إنما كره الصلاة في معاطن الإبل؛ لأنها خلقت من الشياطين.
وقد فسر ابن قتيبة خلق الإبل من الشياطين بأنها خلقت من جنس خلقت منه الشياطين. قال: وورد في حديث آخر أنها خلقت من أعيان الشياطين، يريد من نواحيها وجوانبها. قال: ولم تزل العرب تنسب(3/223)
جنسا من الإبل إلى الحوش، فتقول: ناقة حوشية، وهي أنفر الإبل وأصعبها، ويزعمون أن للجن إبلا ببلاد الحوش، وأنها ضربت في نعم الناس فنتجت منها هذه الحوشية، فعلى هذا يجوز أن يراد أنها خلقت من نتاج نعم الجن، لا من الجن نفسها. انتهى.
ويجوز أن خلقت في أصلها من نار، كما خلقت الجن من نار، ثم توالدت كما توالدت الجن. والله تعالى أعلم.
وزعم الخطابي أنها نسبت إلى الشياطين لما فيها من النفار والشرود. قال: والعرب تسمي كل مارد شيطانا.
وقال أبو عبيد: المراد: أنها في أخلاقها وطبائعها تشبه الشياطين.
وقد ورد في حديث آخر: ((إن على ذروة كل بعير شيطانا)) مع أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في السفر على بعيره النوافل، وهذا مما يستدل به من يقول: إن النهي عن الصلاة في الأعطان لا يمنع صحة الصلاة.
واختلفوا في تفسير أعطان الإبل.
فقال الشافعي: العطن: قرب البئر التي يستقى منها، وتكون البئر في موضع، والحوض قريبا منها، فيصب فيه فيملأ، فتسقى الإبل ثم تنحى عن البئر شيئا حتى تجد الواردة موضعا، فذلك العطن. قال: وليس العطن مراحها الذي تبيت فيه.
وكره أصحابه الصلاة في مأواها بالليل دون كراهة العطن.(3/224)
وقال الإمام أحمد - في رواية ابنه عبد الله -: العطن: الذي تقيم في المكان تأوي إليه.
وقال - في رواية ابنه صالح -: يعيد الصلاة إذا صلى في الموضع الذي تأوي إليه.
وقال أبو بكر الخلال: العطن: الذي تأوي إليه بالليل والنهار.
وقال أصحاب مالك: لا يصلي في أعطان الإبل التي في المناهل.
وهذا يشبه قول الشافعي، وهو وجه لأصحابنا - أيضا -، وأن العطن: هو موضع اجتماعها إذا صدرت عن المنهل، وبذلك فسره كثير من أهل اللغة.
وبكل حال؛ فليس الموضع الذي تنزله في سيرها عطنا لها، ولا تكره الصلاة فيه، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كان يعرض بعيره ويصلي إليه في أسفاره، ولم يكن يدخل إلى أعطان الإبل فيعرض البعير ويصلي إليه فيها، فلا تعارض حينئذ بين صلاته إلى بعيره، وبين نهيه عن الصلاة في أعطان الإبل، كما توهمه البخاري ومن وافقه. والله أعلم.
وأما مواضع البقر فغير منهي عن الصلاة فيه عند أكثر العلماء، ومنهم: عطاء ومالك وابن المنذر، واستدل لَهُ بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أينما أدركتك الصلاة فصل، فهو مسجد)) .
وقد ورد(3/225)
فيه حديثان:
أحدهما: خرجه ابن وهب في ((مسنده)) عن سعيد بن أبي أيوب، عمن
حدثه، عن عبد الله بن مغفل صاحب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصلى في معاطن الإبل، وأمر أن يصلى في مراح الغنم والبقر.
وفي إسناده جهالة.
والثاني: من حديث ابن لهيعة، عن حيي بن عبد الله، أن أبا عبد الرحمان الحبلي حدثه، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في مرابد الغنم ولا يصلي في مرابد الإبل والبقر.
خرجه الإمام أحمد.
وهذا إسناد ضعيف. والله أعلم.(3/226)
51 - باب
من صلى وقدامه تنور أو نار أو شيء مما يعبد،
فأراد به الله - عز وجل -
وقال الزهري: اخبرني أنس: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((عرضت علي النار وأنا اصلي)) .(3/227)
431 - حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك عن زيد بن اسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عباس، قال: انخسفت الشمس، فصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قال: ((أريت النار، فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع)) .
حديث ابن عباس هذا قد خرجه بطوله في ((أبواب صلاة الكسوف)) وخرج فيها - أيضا - معناه من حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما -.
وأما حديث أنس الذي علقه فهو قطعة من حديث طويل، فيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر عند الزوال، ثم صعد المنبر فذكر الساعة، ثم قال: ((من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل)) . وفي آخره: قال: ((عرضت علي الجنة والنار - آنفا - في عرض هذا الحائط، فلم أر كالخير والشر)) .
وقد خرجه البخاري بتمامه في ((باب: وقت الصلاة عند الزوال)) ، كما سيأتي - إن شاء(3/227)
الله تعالى -، وخرج بعضه في ((كتاب: العلم)) فيما سبق.
وخرجه - أيضا - بمعناه من حديث قتادة، عن أنس في ((كتاب: الفتن)) .
وليس في حديث الزهري وقتادة عن أنس أن عرض الجنة والنار عليه كان في الصلاة.
وخرج - أيضا - في ((باب: رفع البصر إلى الإمام في الصلاة)) من حديث فليح: ثنا هلال بن علي، عن أنس، قال: صلى لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم رقي المنبر، فأشار بيده قبل قبلة المسجد، ثم قال: ((لقد رأيت الآن منذ صليت لكم الصلاة الجنة والنار ممثلتين في قبلة هذا الجدار، فلم أر كاليوم في الخير والشر)) - ثلاثا.
وخرج مسلم من حديث عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر، قال: انكسفت الشمس في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر صلاته وخطبته بعد الصلاة، وانه قال فيها: ((ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه، لقد جيء بالنار، وذلك حين رأيتموني تأخرت؛ مخافة أن يصيبني من لفحها)) - وذكر الحديث.
ومقصود البخاري بهذا الباب: أن من صلى لله عز وجل، وكان بين يديه شيء من جنس ما عبد من دون الله كنار وتنور وغير ذلك، فإن صلاته صحيحة، وظاهر كلامه أنه لا يكره ذلك - أيضا.
واستدل بعرض النار على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته، وفي هذا الاستدلال(3/228)
نظر.
قال الإسماعيلي: ليس ما أراه الله من النار حتى أطلعها بمنزلة نار يتوجه المرء إليها وهي معبودة لقوم، ولا حكم ما أري ليخبرهم بما رآه كحكم من وضع الشيء بين يديه أو رآه قائما موضوعا فجعله أمام مصلاه وقبلته. انتهى.
فأشار إلى الفرق من وجوه:
منها: أن من كره الصلاة إلى نار أو تنور، فإنما كره أن يتعمد المصلي ذلك، وعرض النار على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن كذلك.
ومنها: أن المكروه استقبال نار الدنيا؛ لأنها هي التي عبدت من دون الله عز وجل، فأما نار جهنم فهي دار عقاب الكفار، فليست كنار الدنيا.
ومنها: أن ما أري النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أمر الغيب لا يتعلق به أحكام أمور الدنيا.
ومن هنا قيل: إن جبريل لما شق قلب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغسله في طست من ذهب لم يجر على ذلك حكم استعمال أواني الذهب في الدنيا.
وقد كره أكثر العلماء الصلاة إلى النار، منهم: ابن سيرين، كره الصلاة إلى تنور، وقال: هو بيت نار.
وقال سفيان: يكره أن يوضع السراج في قبلة المسجد.
وقال إسحاق: السراج لا بأس به، والكانون أكرهه -: نقله عنه حرب.(3/229)
وقال مهنا: سألت أحمد عن السراج والقنديل يكون في قبلة المسجد؟ قال: أكرهه، وأكره كل شيء؛ حتى كانوا يكرهون أن يجعلوا في القبلة شيئا حتى المصحف. وكان ابن عمر يكره أن يكون بينه وبين القبلة شيء.
ونقل الفرج بن الصباح البرزاطي عن أحمد، قال: إذا كان التنور في قبلة لا يصلى إليه؛ كان ابن سيرين يكره أن يصلي إلى التنور.
ووجه الكراهة: أن فيه تشبها بعباد النار في الصورة الظاهرة، فكره ذلك، وإن كان المصلي يصلي لله، كما كرهت الصلاة في وقت طلوع الشمس وغروبها لمشابهة سجود المصلي فيه سجود عباد الشمس لها في الصورة، وكما تكره الصلاة إلى صنم والى صورة مصورة.
قال أحمد في رواية الميموني: لا تصل إلى صورة منصوبة في وجهك.
وقد سبق ذكر كراهة الصلاة إلى الصور.
وأما استثناء إسحاق من ذلك السراج، فقد أشار حرب إلى الاستدلال له بما خرجه من طريق أسباط، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال بينما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي على حصير - وبين يديه مصباح - قال: فجاءت الفأرة، فأخذت الفتيلة: فألقتها على الحصير، وأحرقت منه قدر الدرهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن الفويسقة لتضرم على أهل البيت)) .
وقد خرجه أبو داود، وليس عنده ذكر الصلاة على الحصير، ولا(3/230)
أن بين يديه مصباحا.
ولو وضع بين يدي المصلي في صلاته نار لم تبطل صلاته، ويزيلها عنه بحسب القدرة.
وفي ((صحيح مسلم)) عن أبي الدرداء قال: قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأم، فسمعناه يقول: ((أعوذ بالله منك)) . ثم قال: ((ألعنك بلعنة الله)) - ثلاثا - وبسط يديه كأنه تناول شيئا، فلما فرغ من الصلاة قلنا يا رسول الله، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك. قال: ((إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار؛ ليجعله في وجهي فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة. فلم يستأخر - ثلاث مرات -، ثم أردت آخذه، والله؛ لولا دعوة أخينا سليمان - عليه السلام - لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة)) .
وخرج الإمام أحمد من حديث سماك بن حرب، سمع جابر بن سمرة يقول: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الفجر، فجعل يهوي بيده فسأله القوم حين انصرف، فقال: ((إن الشيطان كان يلقي علي شرر النار؛ ليفتنني عن الصلاة، فتناولته، فلو أخذته ما انفلت مني حتى يناط إلى سارية من سواري المسجد ينظر إليه ولدان أهل المدينة)) .(3/231)
52 - باب
كراهية الصلاة في المقابر(3/232)
432 - حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورا)) .
قد سبق استدلال ابن المنذر بهذا الحديث - أيضا - على كراهة الصلاة في
المقبرة، وكذلك الخطابي وغيره.
ووجه ذلك: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرهم بأن يصلوا في بيوتهم، ولا يتخذوها قبورا بترك الصلاة فيها، فدل على أن القبور ليس فيها صلاة، وان البيت يكره إخلاءه عن الصلاة، لما فيه من تشبيه بالمقابر الخالية عن الصلاة.
ولكن قد يقال: النهي عن تشبيه البيوت بالمقابر في إخلائها عن الصلاة إنما يراد منه أن المقابر تخلو عن الصلاة فيها في الواقع المشاهد؛ فإنها ليست محلا لصلاة الأحياء عادة. ومن فيها من الأموات لا يقدرون على الصلاة، فصارت خالية عن الصلاة عادة.
وهذا إخبار بحسب الغالب، وإلا فقد شوهد صلاة بعض الموتى في قبورهم، ورئي ذلك في المنام واليقظة، ولكنه نادر، فنهى عن تشبيه(3/232)
بيوت الأحياء بمقابر الأموات في إخلائها عن الصلاة فيها لذلك.
وقد قال الحسن: من أوى إلى فراشه طاهرا، وذكر الله حتى تغلبه عيناه كان فراشه له مسجدا، ومن أوى إلى فراش غير طاهر، ولم يذكر الله كان فراشه له قبرا.
يشير إلى أنه يصير كالقبر لخلوه عن الذكر، والنائم عن الذكر يصير له كالمسجد.
وحينئذ فلا يبقى في الحديث تعرض لمنع الصلاة في المقابر شرعاً، حيث كان المراد ذكر امتناع الصلاة فيها في الواقع.
وقد قال بعضهم في قوله: ((ولا تتخذوها قبورا)) : أنه نهى عن الدفن في البيوت، وهذا بعيد جداً.
قال الخطابي: لا معنى لقول من تأوله على النهى عن دفن الموتى في البيوت، فقد دفن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيته الذي كان يسكنه.
وأكثر العلماء على جواز الدفن في البيوت، ووصى يزيد بن عبد الله بن الشخير أن يدفن في داره، فدفن فيها، وشهد الحسن جنازته، ولم ينكر ذلك أحد.
قال أحمد: لا بأس أن يشتري الرجل موضع قبره، ويوصي أن يدفن فيه إذا مات، قد فعل ذلك عثمان بن عفان وعائشة وعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنهم.
وقال - أيضا -: ما أحب أن يدفن في بيته، يدفن في المقابر مع المسلمين.
وقال فيمن وصى أن يدفن في داره: يدفن في المقابر مع المسلمين. وإن دفن في داره(3/233)
أضر بالورثة، والمقابر مع المسلمين أعجب إلي.
وتأوله بعض أصحابنا على أنه نقص من قيمة الدار بدفنه فيها أكثر من مقدار ثلث مال الموصي.
وهذا بعيد جدا، بل ظاهر هذه الرواية يدل على أن من وصى في دفنه بمكروه أو بما هو خلاف الأفضل أنه لا تنفذ وصيته بذلك.(3/234)
53 - باب
الصلاة في موضع الخسف والعذاب
ويذكر أن علياً - رضوان الله عليه - كره الصلاة بخسف بابل.
هذا مروي عن علي من وجوه:
فروى وكيع عن سفيان، عن عبد الله بن شريك العامري، عن عبد الله بن أبي المحل، عن علي أنه كره الصلاة في الخسوف.
ورواه غير وكيع، فقال: عن عبد الله بن أبي المحل، عن أبيه، عن علي.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: سمعت أبي يسأل عن الأرض الخسف: أيصلى فيها؟ فكره ذلك، وقال: حديث علي - وذكر هَذَا الحديث.
وروى يعقوب بن شيبة، عن أبي النعيم: ثنا المغيرة بن أبي الحر الكندي: حدثني حجر بن عنبس، قال: خرجنا مع علي إلى الحرورية، فلما وقع في أرض بابل قلنا: أمسيت يا أمير المؤمنين، الصلاة! الصلاة! قال: لم أكن أصلي في أرض قد خسف الله بها.
وخرجه وكيع، عن مغيرة بن أبي الحر، به بنحوه.(3/235)
وهذا إسناد جيد، والمغيرة بن أبي الحر وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: ليس به بأس. وحجر بن عنبس، قال ابن معين: شيخ كوفي مشهور.
وروي عن علي مرفوعا.
خرجه أبو داود من طريق ابن وهب: ثنا ابن لهيعة ويحيى بن أزهر، عن عمارة بن سعد المرادي، عن أبي صالح الغفاري، أن عليا مر ببابل وهو يسير، فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة، فلما فرغ قال: إن حبي نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة.
وخرجه - أيضا - من وجه آخر عن ابن وهب: أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة، عن الحجاج بن شداد، عن أبي صالح الغفاري، عن علي، بمعناه.
وقال ابن عبد البر: هو إسناد ضعيف، مجمع على ضعفه، وهو منقطع غير متصل، وعمارة بن سعد والحجاج وأبو صالح مجهولون.
قلت: الموقوف أصح، وضعف أبو الحسين ابن المنادي الجميع. والله أعلم.(3/236)
قال البخاري - رحمه الله -:(3/237)
433 - ثنا إسماعيل بن عبد الله: حدثني مالك، عن عبد الله بن دينار، عن
عبد الله بن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم)) .
هذا الحديث: نص في المنع من الدخول على مواضع العذاب، إلا على أكمل حالات الخشوع والاعتبار، وهو البكاء من خشية الله وخوف عقابه الذي نزل بمن كان في تلك البقعة، وان الدخول على غير هذا الوجه يخشى منه إصابة العذاب الذي أصابهم.
وفي هذا تحذير من الغفلة عن تدبر الآيات فمن رأى ما حل بالعصاة ولم يتنبه بذلك من غفلته، ولم يتفكر في حالهم، ويعتبر بهم فليحذر من حلول العقوبة به، فإنها إنما حلت بالعصاة لغفلتهم عن التدبر وإهمالهم اليقظة والتذكر.
وهذا يدل على أنه لا يجوز السكنى بمثل هذه الأرض، ولا الإقامة بها، وقد صرح بذلك طائفة من العلماء، منهم: الخطابي وغيره، ونص عليه أحمد.
قال مهنا: سألت أحمد عمن نزل الحجر: أيشرب من مائها ويعجن به؟ قال: لا، إلا لضرورة، ولا يقيم بها.(3/237)
وعلى هذا: فيتوجه أن من صلى بها لغير ضرورة، ولم يكن في صلاته على حالة الخشوع والخشية التي رخص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الدخول عليها أن لا تصح صلاته، على قياس قول من قال: إن الصلاة في المقبرة وأعطان الإبل لا تصح، إلا أن يفرق: بأن النهي هنا عن الدخول لا يخص الصلاة، بخلاف النهي عن الصلاة في المقبرة والأعطان، فيتخرج حينئذ الصلاة فيها على الصلاة في الأرض المغصوبة، كما سبق ذكره.
وأحمد - في رواية - مع جماعة من أهل الظاهر: يوجبون الإعادة على من صلى في أرض غصب، وكذلك إسحاق - في رواية عنه -، إذا كان عالما بالنهي.
وأما الوضوء من مائها: فقد صرح طائفة من الظاهرية بأنه لا يصح، ويتخرج على قواعد الإمام أحمد وأصحابه على الخلاف عندهم في الوضوء بالماء المغصوب.
وقد ورد النهي عن الوضوء بخصوصه في حديث خرجه الطبراني في ((أوسطه)) من رواية ابن إسحاق: حدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: مر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحجر واستقى الناس من بئرها، ثم راح فيها، فلما استقل أمر الناس ألا يشربوا من مائها، ولا يتوضئوا منه، وما كان من عجين عجن بشيء من مائها أن يعلف به، ففعل الناس.
وروى يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن العباس بن سهل بن سعد - أو عن العباس بن سعد -، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين مر بالحجر ونزلها استقى الناس من بئرها، فلما راحوا منها قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للناس: ((لا تشربوا من مائها شيئا، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من(3/238)
عجين عجنتم به فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئا)) .
وهذا مرسل.
وقد خرج البخاري حديث ابن عمر هذا في ((قصص الأنبياء)) من ((كتابه)) هذا من حديث عبد الله بن دينار ونافع وسالم، عن ابن عمر. وفي رواية عبد الله ونافع: أنهم نزلوا الحجر. وفي حديث سالم: أنه مر بالحجر وتقنع بردائه، وهو على الرحل.
وخرج مسلم حديث سالم، وفيه: ثم زجر فأسرع حتى خلفها.
وحمل أبو الحسين ابن المنادي من متقدمي أصحابنا النهي عن دخولها وعن شرب مائها على الكراهة دون التحريم. والله أعلم.(3/239)
54 - باب
الصلاة في البيعة
وقال عمر: إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور.
وكان ابن عباس يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل.
روى حجاج بن منهال: ثنا ربيعة بن كلثوم، عن نافع، قال: قال عمر: إنا لا ينبغي لنا أن ندخل كنيسة فيها تصاوير.
وروى وكيع في ((كتابه)) ، عن عبد الله بن نافع مولى ابن عمر، عن أبيه، عن أسلم مولى عمر، قال: قال عمر: إنا لا ندخل كنائسكم التي فيها تصاوير.
وعن سفيان، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، أنه كره الصلاة في الكنيسة إذا كان فيها تماثيل.
وقال سفيان: لا بأس بالصلاة فيها إذا لم يكن فيها تمثال، وإن وجد غيرها فهو أحب إلي.
وكره مالك الصلاة في البيع والكنائس؛ لنجاستها من أقدامهم، ولما فيها من الصور، وقال: لا ينزل بها إلا من ضرورة -: ذكره صاحب ((التهذيب)) .
ورخص أكثر أصحابنا في دخول ما ليس فيه صور منها، والصلاة فيها. وكرهه بعضهم، منهم: ابن عقيل(3/240)
ومنهم من حكى في الكراهة عن أحمد روايتين، والمنصوص عن أحمد: كراهة دخولها في أعيادهم ومجامعهم فيها.
ويستدل للكراهة فيما فيه صور: بأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة، وبأنه محل الشياطين، فتكره الصلاة فيه كالحمام والحش.
ويدل على كراهته - أيضا -: خروج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الوادي الذي ناموا فيه عن الصلاة، وقال: ((إن هذا الوادي حضرنا فيه شيطان)) .
وكره أصحاب الشافعي الصلاة فيها، مع الصحة.
وحكى ابن المنذر وغيره: الرخصة فيها عن طائفة من العلماء، منهم: أبو موسى، والحسن، والشعبي، والنخعي، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، واختاره ابن المنذر.
وأكثر المنقول عن السلف في ذلك قضايا أعيان لا عموم لها، فيمكن حملها على ما لم يكن فيه صور.
وصرح كثير من أصحابنا بتحريم الدخول إلى بيت فيه صور على جدرانه، وإن كان لا يقدر على إزالتها، وسواء كان حماما أو غيره، منهم: ابن بطة، والقاضي وأبو يعلى.
وذكر صاحب ((المغني)) أن ظاهر كلام أحمد أنه مكروه غير محرم، وحكاه - أيضا - عن مالك، وعن أكثر أصحاب الشافعي أنه محرم، وذكر في أثناء كلامه: أن دخول البيع والكنائس جائز، ولو كان(3/241)
فيها صور، وجعله دليلا له، وهو يشعر بأنه محل إجماع.
ولعل الفرق: أن صور البيع والكنائس تقر ولا يلزم إزالتها، كما يقر أصل البيع والكنائس، وبخلاف الصور في بيوت المسلمين؛ فإنه يجب إزالتها ومحوها.
قال البخاري:(3/242)
434 - ثنا محمد: ثنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن أم سلمة ذكرت لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كنيسة رأتها بأرض الحبشة، يقال لها: مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)) .
((محمد)) : شيخ البخاري، شيخ البخاري، الظاهر أنه: ابن سلام البيكندي. وشيخه، هُوَ: عبدة بْن سُلَيْمَان الكلابي.
وهذا الحَدِيْث: يدل على تحريم التصوير في المساجد المبنيه على القبور، والصور التي في البيع والكنائس في معناها؛ لأنها صور مصورة على صور أنبيائهم وصالحيهم للتبرك بها - في(3/242)
زعمهم -، وكنائسهم وبيعهم منها ما هو على القبور أكابرهم، ومنها ما هو على أسمائهم، فالكل ملتحق بما بنى على القبور في المعنى، فلهذا ذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا الكلام عند ذكر الكنائس، وما فيها من الصور، وكفى بذلك ذما للكنائس المصور فيها، وأنها بيوت ينزل على أهلها الغضب والسخط، فلا ينبغي للمسلم أن يصلي فيها.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من رواية قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لا تجتمع قبلتان في ارض)) .
وقال طاووس: لا ينبغي لبيت رحمة أن يكون عند بيت عذاب. وفسره أبو عبيد وغيره: بأنه لا ينبغي الجمع بين المساجد والكنائس في ارض واحدة.
فالجمع بين فعل الصلاة التي وضعت لأجلها المساجد، بين الكفر المفعول في الكنائس في بقعة واحدة أولى بالنهي عنه، فكما أنهم لا يمكنون من فعل عباداتهم في المساجد، فكذا لا ينبغي للمسلمين أن يصلوا صلواتهم في معابد الكفار التي هي موضع كفرهم.(3/243)
فإن قيل: فقد روي ما يدل على جواز إقرارهم على أن يصلوا صلواتهم في مساجد المسلمين، وإذا جاز الإقرار على ذلك جاز للمسلمين أن يصلوا في بيعهم وكنائسهم بطريق الأولى:
فروى ابن إسحاق، قال حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: قدموا على
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة - يعني: وفد نجران -، فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات: جنب وأردية، قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فقاموا في مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلون، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((دعوهم)) ، فصلوا إلى المشرق.
قيل: هذا منقطع ضعيف، لا يحتاج بمثله، ولو صح فإنه يحمل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تألفهم بذلك في ذلك الوقت استجلابا لقلوبهم، وخشية لنفورهم عن الإسلام، ولما زالت الحاجة إلى مثل ذلك لم يجز الإقرار على مثله.
ولهذا شرط عليهم عمر - رضي الله عنه - عند عقد الذمة إخفاء دينهم، ومن جملة إلا يرفعوا أصواتهم في الصلاة، ولا القراءة في صلاتهم فيما يحضره المسلمون.(3/244)
55 - باب(3/245)
435، 436 - حدثنا أبو اليمان: أبنا شعيب، عن الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله، أن عائشة، وعبد الله بن عباس قالا: لما نزل برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بِهَا كشفها عن وجهه، فقال - وهو كذلك -: ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) - يحذر ما صنعوا.(3/245)
437 - حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((قاتل الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) .
وقد خرج البخاري في موضع آخر من ((كتابه)) من حديث عروة، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) . قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكنه خشي - أو خشي - أن يتخذ مسجدا.
وخرج الإمام أحمد من حديث سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) .(3/245)
وروى مالك في ((الموطإ)) عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((اللهم، لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) .
ورواه محمد بن سليمان بن أبي داود الحراني: حدثنا عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه من طريقه البزار.
وعمر هذا، هو: ابن صهبان، جاء منسوبا في بعض نسخ ((مسند البزار)) ، وظن ابن عبد البر أنه: عمر بن محمد العمري، والظاهر أنه وهم.
وقد روي نحوه من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، بإسناد فيه نظر.
قال ابن عَبْد البر: الوثن الصنم. يقول: لا تجعل قبري صنما يصلى إليه، ويسجد نحوه، ويعبد، فقد اشتد غضب الله على من فعل ذلك، وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبلهم الذين صلوا في قبور أنبيائهم، واتخذوها قبلة ومسجدا، كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها، وذلك الشرك الأكبر، وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه، وانه مما لا يرضاه؛ خشية عليهم من امتثال طرقهم، وكان رسول(3/246)
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب مخالفة أهل الكتاب وسائر الكفار، وكان يخاف على أمته اتباعهم، ألا ترى إلى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جهة التعيير والتوبيخ: ((لتتبعن سنن الذين كانوا قبلكم حذو النعل بالنعل، حتى إن أحدهم لو دخل حجر ضب لدخلتموه)) . انتهى.
ويؤيد ما ذكره: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحذر من ذلك في مرض موته، كما في حديث عائشة وابن عباس، وسبق حديث جندب أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذلك قبل موته بخمس.
وفي ((مسند الإمام أحمد)) من حديث أبي عبيده بن الجراح، قال: آخر ما تكلم به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أن شرار الناس الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) .
وقد روي هذا المعنى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وانه قال ذلك في مرض موته من حديث علي، وأسامة بن زيد، وكعب بن مالك وغيرهم.
وخرج الإمام أحمد حديث أسامة بن زيد، ولفظه: قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أدخل علي أصحابي)) . فدخلوا عليه، فكشف القناع،(3/247)
ثم قال: ((لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) .
وخرج حديث عائشة من رواية ابن إسحاق، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، وقال في آخر حديثه: ((يحرم ذلك على أمته)) .
وقد اتفق أئمة الإسلام على هذا المعنى:
قال الشافعي - رحمه الله -: وأكره أن يعظم مخلوق حتى يتخذ قبره مسجدا، خشية الفتنة عليه وعلى من بعده.
وقال صاحب ((التنبيه)) من أصحابه: أما الصلاة عند رأس قبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متوجها إليه فحرام.
قال القرطبي: بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأعلوا حيطان تربته، وسدوا الداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذ كان مستقبل المصلين فتتصور إليه الصلاة بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من ناحية الشمال، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره. ولهذا المعنى قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره.(3/248)
56 - باب
قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا))(3/249)
438 - حدثنا محمد بن سنان: ثنا هشيم: ثنا سيار - وهو أبو الحكم -: ثنا يزيد الفقير: ثنا جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي)) .
فذكر الحديث، وفيه:
((وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل)) .
وذكر بقية الحديث.
وقد خرجه بتمامه في أول ((التيمم)) من هذا الوجه، ومن وجه آخر، وسبق الكلام عليه هنالك مستوفى.
وذكرنا: أن قوله: ((جعلت لي الأرض مسجدا، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل)) قد استدل بعمومه بعض الناس على الصلاة في المقابر والأعطان والحمام وغير ذلك مما اختلف في الصلاة فيه، وإن من العلماء من منع دلالته على ذلك، وقال: إنما خرج الكلام لبيان أن هذه الأمة خصت عن الأمم بأنهم يصلون في غير المساجد المبنية للصلاة فيها، فيصلون حيث أدركتهم الصلاة من الأرض، في مسجد مبني وغير مبني، فالأرض كلها لهم مسجد ما بني للصلاة فيه وما لم يبن،(3/249)
وهذا لا يمنع أن ينهى عن الصلاة في أماكن خاصة من الأرض؛ لمعنى يختص بها غير كونها غير مسجد مبني للصلاة فيه.
وقد خرج الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((أعطيت خمسا ما أعطيهن أحد كان قبلي)) - فذكر منها: ((وجعلت لي الأرض مساجد وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم)) .
وهذا يرجع إلى العموم إذا سيق لمعنى خاص عم ما سيق له من ذلك المعنى دون غيره مما لم يسق الكلام له، ومن الناس من يأخذ بعموم اللفظ، والأظهر الأول. والله أعلم.
وليس هذا كتخصيص العموم بسببه الخاص، فإن الشارع قد يريد بيان حكم عام يدخل فيه السبب وغيره، بخلاف ما إذا ظهر أنه لم يرد من العموم إلا معنى خاص سيق له الكلام، فإنه يظهر أن غير ما سيق له غير مراد من عموم كلامه. والله أعلم.
وقد زعم بعضهم: أن عموم قوله: ((جعلت لي الأرض مسجدا)) لا يصح الاستثناء منه؛ لأنه وقع في ((صحيح مسلم)) من حديث حذيفة: ((جعلت لي الأرض كلها مسجدا)) . قال: وتأكيد العموم بـ ((كل)) ينفي الاستثناء منه؛ لأن التأكيد ينفي المجاز، والعام المستثنى منه يصير مجازا.(3/250)
وهذا الذي زعمه غير صحيح، وقد قالت عائشة: ((كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم شعبان كله، كان يصومه إلا قليلا)) . وهذا يدل على أن التأكيد بـ ((كل)) لا يمنع من الاستثناء، ولا من أن يراد به بعض مدلوله عند الإطلاق.
وقوله: ((إن العام المستثنى منه يصير مجازا)) فممنوع، بل هو حقيقة فيما عدا المستثنى منه عند أصحابنا وغيرهم.
وأيضا؛ فالعموم المؤكد بـ ((كل)) يصح الاستثناء منه بغير خلاف، فلو قال: نسائي كلهن طوالق إلا فلانة، فإنه مثل قوله: كل امرأة لي طالق إلا فلانة، أو كل عبد لي حر إلا فلانا، والاستثناء صحيح في الكل، ولو استثنى ذلك بقلبه من غير تلفظ به ففي صحته روايتان عن أحمد، حكاهما ابن أبي موسى وغيره.
وفي القرآن العظيم: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ - إِلاَّ إِبْلِيسَ} [ص:73و74] وحكى عن إبليس أنه قال: {لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ - إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82و83] وهذا استثناء من عموم مؤكد، وما صح الاستثناء منه صح تخصيصه.(3/251)
57 - باب
نوم المرأة في المسجد(3/252)
439 - حدثنا عبيد بن إسماعيل: ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب، فأعتقوها، فكانت معهم. قالت: فخرجت صبية لهم عليها وشاح أحمر من سيور: قالت: فوضعته أو وقع منها، فمرت حدياة وهو ملقى، فحسبته لحماً، فخطفته. قالت: فالتمسوه فلم يجدوه. قالت: فاتهموني به. قالت: فطفقوا يفتشونني. حتى فتشوا قبلها. قالت: والله، إني لقائمة معهم إذ مرت الحدياة فألقته. قالت: فوقع بينهم. قالت: فقلت: هذا الذي اتهمتموني به، زعمتم، وأنا منه بريئة وهو ذا هو. قالت: فجاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسلمت. قالت عائشة: فكان لها خباء في المسجد أو حفش. قالت: فكانت تأتيني فتحدث
عندي. قالت: فلا تجلس عندي مجلساً إلا قالت:
ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا إلا أنه من بلدة الكفر أنجاني.
قالت عائشة: فقلت لها: ما شأنك؟ لا تقعدين معي مقعدا إلا قلت هذا؟ قالت: فحدثتني بهذا الحديث.(3/252)
الوشاح: قيل: أنه ضرب من الحلي، وجمعه: وشح، ومنه: توشح بالثوب واتشح به، والظاهر: أنه كان شيئا من لباس المرأة الذي تتوشح به، وفيه حلي وسيور حمر. والله أعلم.
والحدياة: الحدأة. والرواية المشهورة: حدياة بضم الحاء وتشديد الياء، وقيل: إن الصواب: حديأة بتخفيف الياء وبعدها همزة، وهو تصغير حدأة.
وفي الحديث: دليل على أن الله تعالى قد يفرج كربات المكروبين ويخرق لهم العوائد وإن كانوا كفارا. كما روي أن جيشا من المسلمين حاصروا حصنا من الكفار، فعطش الكفار واشتد بهم العطش، فجأروا إلى الله يسألونه أن يسقيهم، فجاءت سحابة فمطرت على حصنهم حتى شربوا فارتحل عنهم المسلمون.
وقد ذكرها ابن أبي الدنيا بإسناده في ((كتاب: مجابي الدعوة)) .
فإن كان الكافر مظلوما كهذه المرأة فهو أقرب إلى تفريج كربته وإجابة دعوته، فإن دعوة المظلوم قد تجاب من الكافر، كما ورد في أحاديث مرفوعة متعددة؛ فإن عدل الله يسمع المؤمن والكافر، والبر والفاجر.
وظاهر هذا الحديث: يدل على أن هذه المرأة إنما أسلمت بعد قصة الوشاح.(3/253)
وقول عائشة: فكان لها خباء في المسجد أو حفش، والحفش: خباء صغير.
ومقصود البخاري بتخريج هذا الحديث في هذا الباب: أنه يجوز للمرآة أن تقيم في المسجد وتنام فيه، فإن هذه المرأة كان لها خباء في المسجد تقيم فيه.
وقد روى محمد بن سعد في ((طبقاته)) : أبنا محمد بن عمر - هو: الواقدي -: حدثني عمر بن صالح بن نافع: حدثتني سودة بنت أبي ضبيس الجهني - وقد أدركت وبايعت، وكانت لأبي ضبيس صحبة -، عن أم صبية خولة بنت قيس، قالت: كنا نكون في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر في المسجد نسوة قد
تخاللن، وبما غزلنا، وربما عالج بعضنا فيه الخوص. فقال عمر: لأردنكن حرائر. فأخرجنا منه، إلا أنا كنا نشهد الصلوات في الوقت.
وهذا الإسناد فيه ضعف.
واستدل بحديث عائشة المخرج في هذا الباب طائفة من أهل الظاهر: على جواز مكث الحائض في المسجد؛ لأن المرأة لا تخلو من الحيض كل شهر غالبا، وفي ذلك
نظر؛ لأنها قضية عين لا عموم لها، ويحتمل أن هذه السوداء كانت عجوزا قد يئست من الحيض، وأكثر العلماء على منع جلوس الحائض في المسجد.(3/254)
وخرج أبو داود وابن خزيمة من حديث عائشة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لا أحل المسجد لحائض ولا جنب)) .
وفي إسناده مقال.
وفيه أحاديث أخر. والله أعلم.(3/255)
58 - باب
نوم الرجال في المسجد
وقال أبو قلابة، عن أنس: قدم رهط من عكل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكانوا في الصفة.
وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: كان أصحاب الصفة فقراء.
حديث أبي قلابة عن أنس خرجه البخاري في كتاب ((المحاربة)) : ثنا موسى ابن إسماعيل، عن وهيب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: قدم رهط من عكل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكانوا في الصفة، فاجتووا المدينة - وذكر الحديث.
وحديث عبد الرحمن بن أبي بكر خرجه في ((أبواب: السمر بعد العشاء)) من حديث أبي عثمان النهدي، عن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال إن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء، وإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث)) - وذكر الحديث بطوله.
وخرج - أيضا - في ((كتاب: الرقاق)) في ((باب: عيش النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه)) من حديث مجاهد، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: ((الحق أهل الصفة فادعهم)) . قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون(3/256)
على أهل ولا مال، ولا على احد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها - وذكر حديثا طويلا.
خرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:(3/257)
440 - ثنا مسدد: ثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: حدثني نافع، قال: أخبرني عبد الله بن عمر، أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
كذا في هذه الرواية: ((أعزب)) . وقال جماعة من أهل اللغة: إن الصواب: ((عزب)) ، يقال: رجل عزب إذا لم يكن له زوجة، وامرأة عزبة إذا لم يكن لها زوج، وأصل العزوبة الغيبة والبعد، ومنه قوله تعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ - فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاء} [سبأ:3] و [يونس:61] ، وسمي العزب: عزبا؛ لبعد عهده بالجماع.
وخرج البخاري في ((التعبير)) من ((صحيحه)) ، من حديث صخر بن
جويرية، عن نافع، عن ابن عمر - في حديث طويل ذكره -، قال: وكان بيتي(3/257)
المسجد قبل أن أنكح.
ومن حديث سالم، عن ابن عمر، قال: كنت غلاما شابا عزبا في عهد
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكنت أبيت في المسجد.
وخرجه في ((المناقب)) بمعناه.
وروى الإمام أحمد عن ابن إدريس، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كنا في زمن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ننام في المسجد، ونقيل فيه ونحن شباب.
وروى وكيع، عن عبد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر، قال: ما كان لي مبيت ولا مأوى على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا في المسجد.
الحديث الثاني:(3/258)
441 - حدثنا قتيبة بن سعيد: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: جاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيت فاطمة، فلم يجد عليا في البيت. فقال: ((أين ابن عمك؟)) . فقالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني، فخرج فلم يقل عندي. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لإنسان: ((انظر أين هو)) . فجاء، فقال يا رسول الله، هو في المسجد راقد. فجاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مضطجع، قد سقط رداؤه عن شقه،(3/258)
وأصابه تراب -، فجعل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسحه عنه ويقول: ((قم أبا تراب، قم أبا تراب)) .
وخرجه في ((المناقب)) عن القعنبي، عن عبد العزيز، بزيادة ونقص.
الحديث الثالث:(3/259)
442 - ثنا يوسف بن عيسى: ثنا ابن فضيل، عن أبيه، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده؛ كراهية أن تبدو عورته.
أبو حازم هذا، اسمه: سلمان الأشجعي الكوفي،: وأبو حازم الذي روى عن سهل بن سعد الحديث الذي قبله اسمه: سلمة بن دينار الأعرج الزاهد المدني.
وقد خرجه الإمام أحمد، عن وكيع، عن فضيل بن غزوان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: لقد رأيت سبعين من أهل الصفة يصلون في ثوب، فمنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من هو أسفل من ذلك، فإذا ركع أحدهم قبض عليه مخافة أن تبدو عورته.
وفيه: دليل على إعراء المناكب في الصلاة للضرورة، إذا لم يجد ما(3/259)
يسترهما، وان الصلاة تصح حينئذ. وقد سبق ذكر ذلك.
وفي معنى هذا الحديث: ما رواه زيد بن واقد: حدثني بسر بن عبيد الله الحضرمي، عن واثلة بن الأسقع، قال: كنت من أصحاب الصفة، وما منا أحد عليه ثوب تام، قد اتخذ العرق في جلودنا طرقا من الوسخ والغبار.
وخرج أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري، قال: جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين، وإن بعضهم ليستتر عورته ببعض من العري، وقارئ يقرأ علينا، إذ جاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقام علينا فسلم - وذكر حديثا.
وخرج الترمذي وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث فضالة بن عبيد، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة، وهم أصحاب الصفة، حتى تقول الأعراب: هؤلاء مجانين، فإذا صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف إليهم، فقال: ((لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة)) . قال فضالة: وأنا يومئذ مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال الترمذي: حديث صحيح.
وخرج ابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم من حديث طلحة(3/260)
بن عمرو، قال: نزلت الصفة فرافقت رجلا، فكان يجري علينا من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كل يوم مد من تمر بين رجلين، فسلم ذات يوم من الصلاة، فناداه رجل منا، فقال: يا رسول الله، قد أحرق التمر بطوننا - وذكر بقية الحديث - وفي رواية: وتخرقت عنا الخنف.
وفي رواية عن طلحة بن عمرو، قال: كان الرجل إذا قدم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان له بالمدينة عريف نزل عليه، وإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة. قال: وكنت ممن نزل الصفة - وذكر بقية الحديث.
وروى البيهقي بإسناده، عن عثمان بن اليمان، قال: لما كثر المهاجرون بالمدينة، ولم يكن لهم دار ولا مأوى أنزلهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسجد، وسماهم: أصحاب الصفة، فكان يجالسهم ويأنس بهم.
والأحاديث في ذكر أهل الصفة كثيرة جدا في ذكر فقرهم وحاجتهم وصبرهم على ذلك، وليس المقصود من ذلك في هذا الباب إلا نومهم في المسجد، ولا شك في أن أهل الصفة كانوا ينامون في المسجد، لم يكن لهم مأوى بالليل والنهار غير الصفة، وكانت في مؤخر المسجد ينزلها من لا مأوى له من الغرباء الواردين على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ممن لا يجد مسكنا.
ويدل على نومهم في المسجد: ما خرجه الإمام أحمد وأبو داود(3/261)
والنسائي وابن ماجه من حديث يحيى بن أبي كثير: ثنا أبو سلمة، عن يعيش بن طخفة بن قيس
الغفاري، قال: كان أبي من أصحاب الصفة، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((انطلقوا بنا إلى بيت عائشة)) ، فانطلقنا، فقال: ((يا عائشة، أطعمينا)) ، فجاءت بحشيشة فأكلنا، ثم قال: ((يا عائشة، أطعمينا)) ، فجاءت بحيسة مثل القطاة فأكلنا، ثم قال: ((يا عائشة، اسقينا)) ، فجاءت بعس من لبن، فشربنا، ثم قال: ((يا عائشة، اسقينا)) فجاءت بقدح صغير فشربنا، ثم قال: ((إن شئتم بتم، وإن شئتم انطلقتم إلى المسجد)) . قال: فبينما أنا مضطجع من السحر على بطني إذا رجل يحركني برجله، فقال: ((إن هذه ضجعة يبغضها الله - عز وجل -)) ، فنظرت فإذا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرج الترمذي بعضه من رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقيل: أنه وهم، والصواب: رواية يحيى بن أبي كثير، وقد اختلف عليه في إسناده.
وروى ابن سعد عن الواقدي: حدثني واقد بن أبي ياسر التميمي، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، قال: كان أهل الصفة ناسا فقراء من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا منازل لهم، فكانوا ينامون على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد ويظلون فيه، ما لهم مأوى غيره، فكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعوهم بالليل إذا تعشى فيفرقهم على أصحابه، ويتعشى طائفة منهم(3/262)
مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى جاء الله بالغنى.
وقد سئل سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار عن النوم في المسجد؟ فقالا: كيف تسألون عنه وقد كان أهل الصفة ينامون فيه، وهم قوم كان مسكنهم المسجد؟
واعلم أن النوم في المسجد على قسمين:
أحدهما:
أن يكون لحاجة عارضة مثل نوم المعتكف فيه والمريض والمسافر، ومن تدركه القائلة ونحو ذلك، فهذا يجوز عند جمهور العلماء، ومنهم من حكاه إجماعا، ورخص في النوم في المسجد: ابن المسيب، وسليمان بن يسار، والحسن، وعطاء وقال: ينام فيه وإن احتلم كذا وكذا مرة.
وقال عمرو بن دينار: كنا نبيت في المسجد على عهد ابن الزبير.
وممن روي عنه أنه كان يقيل في المسجد: عمر وعثمان - رضي الله عنهما.
ونهى مجاهد عن النوم في المسجد.
وقال أيمن بن نابل: رآني سعيد بن جبير نائما في الحجر فأيقظني، وقال: مثلك ينام هاهنا!
وكرهه الأوزاعي.
وممن كان لا يدع أحدا ينام في المسجد: عمر بن الخطاب وابن مسعود، وابن عمر.(3/263)
وخرج الإمام أحمد وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث داود بن أبي هند، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن عمه، عن أبي ذر، قال: أتاني نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا نائم في المسجد، فضربني برجله، وقال: ((ألا أراك نائما فيه؟)) . قلت: يا نبي الله، غلبتني عيني.
وعمُّ أبي حرب: قال الأثرم: ليس بالمعروف.
ورواه شريك، عن داود، عن أبي حرب، عن أبيه، عن أبي ذر.
والصحيح عن عمه -: قاله الدارقطني.
وخرج الإمام أحمد من رواية عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب: حدثتني أسماء، أن أبا ذر كان يخدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا فرغ من خدمته أوى إلى المسجد، فكان هو بيته يضطجع فيه، فدخل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسجد ليلة، فوجد أبا ذر نائما منجدلا في المسجد، فنكته رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجله حتى استوى جالسا، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ألا أراك نائما؟)) قال أبو ذر: يا رسول الله، فأين أنام؟ هل لي من بيت غيره؟ - وذكر الحديث.
وروى ابن لهيعة، عن عمرو بن الحارث، عن ابن زياد، عن سعد بن أبي وقاص، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج على ناس من أصحابه - وهم رقود في المسجد -، فقال: ((انقلبوا؛ فإن هذا ليس بمرقد)) .
ذكره الأثرم، وقال: إسناده(3/264)
مجهول منقطع.
قال: وحديث أبي ذر ليس فيه بيان نهي.
قلت: وقد روي حديث سعد: عن ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن سعد.
خرجه الهيثم بن كليب في ((مسنده)) ، وهو منقطع منكر.
والقسم الثاني:
أن يتخذ مقيلا ومبيتا على الدوام: فكرهه ابن عباس وقال: - مرة -: إن كنت تنام فيه لصلاة فلا بأس.
وهذا القسم - أيضا - على نوعين:
أحدهما: أن يكون لحاجة كالغريب، ومن لا يجد مسكنا لفقره، فهذا هو الذي وردت فيه الرخصة لأهل الصفة، والوفود، والمرأة السوداء ونحوهم.
وقد قال مالك في الغرباء الذين يأتون: من يريد الصلاة، فإني أراه واسعا، وأما الحاضر فلا أرى ذلك.
وقال أحمد: إذا كان رجل على سفر وما أشبهه فلا بأس، وأما أن يتخذه مبيتا أو مقيلا فلا.
وهو قول إسحاق - أيضا.
والثاني: أن يكون ذلك مع القدرة على اتخاذ مسكن، فرخص فيه طائفة، وحكي عن الشافعي وغيره، وحكي رواية عن أحمد، وهو اختيار أبي بكر الأثرم.
وقال الثوري: لا بأس بالنوم في المسجد.
وروى حماد بن سلمة في ((جامعه)) : ثنا ثابت، قال: قلت لعبد الله بن عبيد بن عمير: ما أراني إلا مكلم الأمير أن ينهى هؤلاء الذين ينامون في المسجد ويحدثون
ويجنبون. فقال: لا تفعل، فإن ابن عمر(3/265)
سئل عنهم، فقال: هم العاكفون.
وحمل طائفة من العلماء كراهة من كره النوم في المسجد من السلف على أنهم استحبوا لمن وجد مسكنا ألا يقصد المسجد للنوم فيه. وهذا مسلك البيهقي.
واستدل بما خرجه أبو داود من حديث أبي هريرة - مرفوعا -: ((من أتى المسجد لشيء فهو حظه)) .
وفي إسناد عثمان بن أبي العاتكة الدمشقي، فيه ضعف.
ويعضده: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنما بنيت المساجد لما بنيت له)) . وقوله: ((إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن)) - أو كما قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(3/266)
59 - باب
الصلاة إذا قدم من سفر
وقال كعب بن مالك: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فصلى فيه.(3/267)
443 - حدثنا خلاد بن يحيى: ثنا مسعر: ثنا محارب بن دثار، عن جابر بن عبد الله، قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد - قال مسعر: أراه قال: ضحى -، فقال: ((صل ركعتين)) . وكان لي عليه دين، فقضاني وزادني.
حديث كعب قد خرجه بتمامه في مواضع أخر، وهو حديث توبته وتخلفه عن تبوك. وفي الحديث: وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس.
وخرجه مختصرا في أواخر ((السير)) ، فقال: ((باب: الصلاة إذا قدم من سفر)) وخرج فيه من حديث كعب، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قدم من سفر ضحى دخل المسجد، فصلى ركعتين قبل أن يجلس.
وقد خرجه مسلم، ولفظه: كان لا يقدم من سفر إلا نهارا في الضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم جلس فيه.(3/267)
وخرج البخاري - أيضا - من حديث شعبة، عن محارب بن دثار، قال: سمعت جابرا، قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فلما قدمنا المدينة قال لي: ((ادخل المسجد فصل ركعتين)) .
وفي رواية له - أيضا - بهذا الإسناد، عن جابر، قال: اشترى مني النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعيرا، فلما قدم المدينة أمرني أن أتي المسجد، فأصلي ركعتين، ووزن لي ثمن البعير.
وفي رواية أخرى، قال: قدمت من سفر، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صل ركعتين)) .
وخرج مسلم من رواية وهب بن كيسان، عن جابر، قال: جئت المسجد، فوجدته - يعني: النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على باب المسجد، فقال: ((فدع جملك، وادخل المسجد فصل ركعتين)) . قال: فدخلت فصليت، ثم رجعت.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أقبل من حجته دخل المدينة، فأناخ على باب
مسجده، ثم دخله فركع ركعتين، ثم انصرف إلى بيته. قال نافع: فكان ابن عمر كذلك يصنع.
ونقل حرب، عن إسحاق، قال: هو حسن جميل. قال: وإن صليتها في بيتك حين تدخل بيتك فإن ذلك يستحب.(3/268)
وقد صرح الشافعية بأن صلاتهم في المسجد سنة، وهذا حق لا توقف فيه.
وقد بوب أبو بكر الخلال في ((كتاب الجامع)) في آخر الجهاد: ((باب سجدة الشكر للسلامة)) . ولم يورد في ذلك أثرا ولا نصا عن أحمد، ولا غيره في القدوم بخصوصه، وسجود الشكر للقدوم من الجهاد أو غيره سالما لا يعلم فيه شيء عن سلف، إنما الذي جاءت به السنة. صلاة ركعتين في المسجد عند القدوم.(3/269)
60 - باب
إذا دخل المسجد فليركع ركعتين(3/270)
444 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن أبي قتادة السلمي، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس)) .
أبو قتادة السلمي منسوب إلى بني سلمة - بكسر اللام -، بطن من الأنصار من الخزرج، واسم أبي قتادة، الحارث بن ربعي. وقيل: اسمه: النعمان.
وأما النسبة إلى بني سلمة، فيقال فيها: سلمي بفتح اللام. هذا ما اتفق عليه أهل العربية واللغة. ووافقهم على ذلك من أهل الحديث. وكذلك قيده بن ما كولا في ((إكماله)) وغيره.
وحكى الحازمي عن أكثر أهل الحديث أنهم يكسرون اللام، ويقولون: سلمي.
وفي الحديث: الأمر لمن دخل المسجد أن يركع ركعتين قبل جلوسه، وهذا الأمر على الاستحباب دون الوجوب عند جميع العلماء المعتد بهم.(3/270)
وإنما يحكى القول بوجوبه عن بعض أهل الظاهر.
وإنما اختلف العلماء: هل يكره الجلوس قبل الصلاة أم لا؟
فروي عن طائفة منهم كراهة ذلك، منهم: أبو سلمة بن عبد الرحمن، وهو قول أصحاب الشافعي.
ورخص فيه آخرون، منهم: القاسم بن محمد وابن أبي ذئب واحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
قال أحمد: قد يدخل الرجل على غير وضوء، ويدخل في الأوقات(3/271)
التي لا يصلى فيها.
يشير إلى أنه لو وجبت الصلاة عند دخول المسجد لوجب على الداخل إليه أن يتوضأ، وهذا مما لم يوجبه احد من المسلمين.
وأما الداخل في أوقات النهي عن الصلاة، فللعلماء فيه قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد، أشهرهما: أنه لا يصلي، وهو قول أبي حنيفة وغيره. وعند الشافعي يصلي.
وربما تأتي هذه المسالة في موضع أخر - أن شاء الله.
وروي عن جرير، عن مغيرة؛ عن إبراهيم، قال: كان يقال: إذا دخلت مسجدا من مساجد القبائل فلا باس أن تقعد ولا تركع، وإذا دخلت مسجدا من مساجد الجمع فلا تقعد حتى تركع.
ولعل أهل العلم هذه المقالة حملوا قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا دخل أحدكم المسجد)) على المسجد المعهود في زمنه، وهو مسجده الذي كان يجمع فيه، فيلتحق به ما في معناه من مساجد الجمع دون غيرها.
والجمهور حملوا الألف واللام في ((المسجد)) على العموم لا على العهد.
وروى الإمام أحمد في المسند: ثنا حسين بن محمد: ثنا ابن(3/272)
أبي ذئب، عن رجل من بني سلمة، عن جابر بن عبد الله، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى مسجد بعض الأحزاب، فوضع رداءه، فقام ورفع يديه مدا يدعو عليهم، ولم يصل، ثم جاء ودعا عليهم وصلى.
وفي كتاب ((العلل)) لأبي بكر الخلال، عن أبي بكر المروذي، قال: قيل لأبي عبد الله - يعني: أحمد -: حديث حميد بن عبد الرحمن، عن هشام بن سعد، عن نعيم المجمر، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه دخل المسجد فاحتبى، ولم يصل الركعتين - أمحفوظ هو؟ قال: نعم.
قال المروذي: ورأبت أبا عبد الله كثيرا يدخل المسجد، يقعد ولا يصلي، ثم يخرج ولا يصلي في أوقات الصلوات.
وهذا الحديث غريب جدا، ورفعه عجيب، ولعله موقوف. والله أعلم.
وقال جابر بن زيد: إذا دخلت المسجد فصل فيه، فإن لم تصل فيه فاذكر الله، فكأنك صليت فيه.
والصلاة عند دخول المسجد تسمى: تحية المسجد، وقد جاء ذلك عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خرج ابن حبان في ((صحيحه)) من حديث أبي ذر، قال: دخلت المسجد فإذا
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحده، فقال: ((يا أبا ذر، إن للمسجد تحية، وإن تحيته ركعتان، فقم فاركعهما)) ، فقمت فركعتهما، ثم عدت فجلست إليه - وذكر الحديث بطوله.
وفي إسناد إبراهيم بن هشام بن يحيى بن الغساني، تكلم(3/273)
فيه أبو زرعة وغيره.
وقد روي من وجوه متعددة عن أبي ذر، وكلها لا تخلو من مقال.
وتسمى - أيضا - حق المسجد.
وروى ابن إسحاق، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرو ابن سليم الزرقي، عن أبي قتادة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أعطوا المساجد حقها)) قالوا: وما حقها؟ قال: ((تصلوا ركعتين قبل أن تجلسوا)) .
واعلم أن حديث أبي قتادة قد روي بلفظين:
أحدهما: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس)) .
كذا رواه مالك، وقد خرجه البخاري هاهنا من طريقه كذلك.
وهذا اللفظ يقتضي الأمر لهم بالصلاة قبل الجلوس، فمن جلس في المسجد كان مأمورا بالصلاة قبل جلوسه.
ومن لم يجلس فيه، فهل يكون مأمورا بالصلاة؟ ينبغي على أن القبلية المطلقة هل تصدق بدون وجود ما أضيفت إليه أم لا؟ وفيه اختلاف قد سبق ذكره في ((باب: غسل القائم يده من النوم قبل إدخالها الإناء)) .(3/274)
فإن قيل: إنها لا تصدق بدونه، فالأمر لا يتناول من لا يجلس، وإن قيل: إنها تصدق بدونه تناوله الأمر.
واللفظ الثاني: ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين)) .
وقد خرجه البخاري في ((أبواب: صلاة التطوع)) من رواية عبد الله بن سعيد - هو: ابن أبي هند - عن عامر بن عبد الله بن الزبير - بإسناده.
وهذه الرواية إنما فيها النهي عن الجلوس حتى يصلي، فمن دخل ولم يجلس، بل مر في المسجد مجتازا فيه، أو دخل لحاجة ثم خرج ولم يجلس لم يتناوله هذا النهي.
ولكن خرجه أبو داود من رواية أبي عميس، عن عامر بن عبد الله، عن رجل من بني زريق، عن أبي قتادة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بنحوه، زاد فيه: ((ثم ليقعد بعد إن شاء، أو ليذهب إلى حاجته)) .
وهذه الزيادة تدل على تناول الأمر لمن قعد ومن لم يقعد، ولعلها مدرجة في الحديث.
وقد خرج أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ((كتاب الشافي)) هذا الحديث من هذا الوجه، ووقفه كله على أبي قتادة.
وقد فرق أحمد وإسحاق بين أن يجلس الداخل في المسجد، فقالا: لا يجلس فيه حتى يصلي. قالا: وأما إذا مر فلا بأس، ولا(3/275)
يتخذه طريقا. نقله إسحاق بن منصور عنهما.
وكان ابن عمر يمر في المسجد ولا يصلي فيه.
وفي ((تهذيب المدونة)) : قال مالك: ومن دخل المسجد فلا يقعد حتى يركع ركعتين، إلا أن يكون مجتازا لحاجة، فجائز أن يمر فيه ولا يركع، وقاله زيد بن ثابت ثم كره زيد أن يمر فيه ولا يركع، ولم يأخذ به مالك.
وقال زيد بن أسلم: كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون. قال: ورأيت ابن عمر يفعله.
وكان سالم بن عبد الله يمر فيه مقبلا ومدبرا ولا يصلي فيه.
ورخص فيه الشعبي.
وقال الحسن: لا بأس أن يستطرق المسجد.
وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه مر في المسجد فصلى فيه ركعة، وقال: إنما هو تطوع. وقال: كرهت أن أتخذه طريقا.
ومر طلحة في المسجد، فسجد سجدة.
ومر فيه الزبير فركع ركعة أو سجد سجدة.
خرجه وكيع في ((كتابه)) .
وفي أسانيد المروي عن عمر وطلحة والزبير مقال.(3/276)
وفي جواز التطوع بركعة قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد.
وقد بوب البخاري على أن ((التطوع لا يكون إلا ركعتين يسلم فيهما)) .
وخرج فيه حديث أبي قتادة هذا مع غيره.
وللشافعية خلاف فيما إذا صلى ركعة: هل يقتضي بذلك حق المسجد، أم لا؟ والصحيح عندهم أنه لا يقضيه بذلك.
وأما الاقتصار على سجدة فقول غريب.
وفي النهي عن اتخاذ المسجد طريقا أحاديث مرفوعة متعددة، في أسانيدها ضعف.
وروينا من طريق الحكم بن عبد الملك، عن قتادة، عن سالم، عن أبيه، قال: لقي عبد الله رجل فقال: السلام عليك يا بن مسعود. فقال عبد الله: صدق الله
ورسوله؛ قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من أشراط الساعة أن يمر الرجل في المسجد لا يصلي فيه ركعتين، ولا يسلم الرجل إلا على من يعرفه، وان يبرد الصبي الشيخ)) .
الحكم بن عبد الملك، ضعيف.
ورواه - أيضا - ميمون أبو حمزة - وهو ضعيف جدا -، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود - مرفوعا.
وخرجه البزار من رواية بشير بن سليمان أبو(3/277)
إسماعيل، عن سيار، عن طارق، عن ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعناه.
وخرجه الإمام أحمد بغير هذا اللفظ، ولم يذكر فيه المرور في المسجد، وذكر خصالا أخر.
وأما من مر على المسجد، فهل يستحب له الدخول إليه لقصد الصلاة فيه؟ لا نعلم في ذلك إلا ما رواه سعيد بن أبي هلال: أخبرني مروان بن عثمان، أن عبيد بن حنين أخبره، عن أبي سعيد بن المعلى، قال: كنا نغدو إلى السوق على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنمر على المسجد، فنصلي فيه.
خرجه النسائي.
وبوب عليه: ((صلاة الذي يمر على المسجد)) .
ومروان بن عثمان، قال فيه الإمام أحمد: لا يعرف. وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف.(3/278)
61 - باب
الحدث في المسجد(3/279)
445 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه، ما لم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه)) .
قد سبق ذكر هذا الحديث في ((أبواب الوضوء)) ، وخرجه البخاري في ((باب: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين)) من رواية المقبري، عن أبي هريرة.
وذكرنا هناك أن الحدث قد فسر بحدث اللسان والأعمال، وفسر بحدث
الفرج، وبهذا فسره البخاري.
ومقصوده: أنه يجوز تعمد إخراج الحدث في المسجد؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكره، ولم ينه عنه، إنما أخبر أنه يقطع صلاة الملائكة.
وقد رخص في تعمد إخراج الحدث في المسجد الحسن وعطاء وإسحاق.
وقد تقدم أن النوم في المسجد جائز للضرورة بغير خلاف،(3/279)
ومنه نوم المعتكف لضرورة صحة اعتكافه، ولغير ضرورة عند الأكثرين، والنوم مظنة خروج الحدث، فلو منع من خروج الريح في المسجد لمنع من النوم فيه بكل حال، وهو مخالف للنصوص والإجماع.
قال أصحاب الشافعي: والأولى اجتناب إخراج الريح فيه لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)) . قالوا: ولا يكره الجلوس فيه للمحدث، سواء كان له غرض شرعي أو لم يكن.
ومن أصحابهم من كرهه لغير غرض. وقيل: أنه لم يوافق على ذلك.(3/280)
62 - باب
بنيان المسجد
وقال أبو سعيد: كان سقف المسجد من جريد النخل.
وأمر عمر ببناء المسجد، وقال: أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس.
وقال أنس: يتباهون بها، لا يعمرونها إلا قليلا.
وقال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى.
وأما حديث أبي سعيد فقد خرجه بتمامه في مواضع من ((كتابه)) في
((الصلاة)) و ((الاعتكاف)) وغيروهما.
وفي الحديث: إن السماء مطرت فوكف المسجد، فانصرف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صلاة الصبح وعلى جبهته وانفه اثر الماء والطين.
وهذا يدل على أن سقف المسجد لم يكن يكن الناس من المطر، ولا يمنع من نزول ماء المطر إليه.
وقد ذكرنا فيما سبق من مراسيل الزهري أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل طول جداره بسطه وعمده الجذوع وسقفه جريدا. فقيل له: إلا نسقفه؟ فَقَالَ: ((عريشا كعريش موسى، خشبات وثمام، الأمر أعجل(3/281)
من ذَلِكَ)) .
وقال المروذي في ((كتاب الورع)) : قرئ على أبي عبد الله - يعني: أحمد -: سفيان، عن عمرو، عن أبي جعفر، قال: قيل للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد: هده، طده. قال: ((لا عريش كعريش موسى)) ؟ قال أبو عبد الله: قد سألوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكحل المسجد، فقال: ((لا، عريش كعريش موسى)) .
قال أبو عبد الله: إنما هو شيء مثل الكحل يطلى، أي: فلم يرخص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال أبو عبيد: كان سفيان بن عيينة يقول: معنى قوله: ((هده)) : أصلحه. قال: وتأويله كما قال، واصله: أنه يراد به الإصلاح بعد الهدم، وكل شيء حركته فقد هدته، فكان المعنى أنه يهدم ثم يستأنف ويصلح.
قال المروذي: وقلت لأبي عبد الله: أن محمد بن أسلم الطوسي لا يجصص مسجده، ولا بطوس مسجد مجصص إلا قلع جصه؟ فقال أبو عبد الله: هو من زينة الدنيا.
وروى ابن أبي الدنيا من حديث إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، قال: لما بنى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسجد أعانه عليه أصحابه وهو(3/282)
معهم يتناول اللبن حتى اغبر صدره، فقال: ((ابنوه عريشا كعريش موسى)) . فقيل للحسن: وما عريش موسى؟ قال: إذا رفع يده بلغ العريش - يعني السقف.
ومن رواية ليث، عن طاووس، قال: لما قدم معاذ اليمن، قالوا له: لو أمرت بصخر وشجر فينقل فبنيت مسجدا؟ قال: إني أكره أن انقله على ظهري يوم القيامة - كأنه يخاف إذا أتقن بناءه بالصخر والخشب.
وروى سفيان، عن أبي فزارة، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ما أمرت بتشييد المساجد)) .
قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفها اليهود والنصارى. خرجه الإمام أحمد وأبو داود.
كذا رواه ابن عيينة، عن الثوري.
ورواه وكيع عن الثوري فجعل أوله مرسلا عن يزيد بن الأصم،(3/283)
لم يذكر فيه: ((ابن عباس)) . وكذا رواه ابن مهدي عن سفيان.
وخرج ابن ماجه كلام ابن عباس من وجه آخر - مرفوعا -: ((ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم)) .
وروى حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
وروى المروذي في كتاب الورع بإسناد عن أبي الدر داء، قال: إذا حليتم مصاحفكم وزخرفتم مساجدكم؛ فعليكم الدمار.
وقال المروذي: ذكرت لأبي عبد الله مسجدا قد بنى وانفق عليه مال كثير، فاسترجع وأنكر ما قلت.
قال حرب: قلت لإسحاق - يعني: ابن راهويه -: فتجصيص(3/284)
المساجد؟ قال: أشد وأشد. المساجد لا ينبغي أن تزين، إلا بالصلاة والبر.
وقال سفيان الثوري: يكره النقش والتزويق في المساجد، وكل ما تزين به المساجد.
ويقال: إنما عمارته ذكر الله - عز وجل -.
وممن كره زخرفة المساجد وتزو يقها: عمر بن عبد العزيز، وكان قد أراد إزالة الزخرفة التي كان الوليد وضعها في مسجد دمشق الجامع فكبر ذلك على من يستحسنه ممن تعجبه زينة الحياة الدنيا، واحتالوا عليه بأنواع الحيل، وأوهموه أنه يغيظ الكفار، حتى كف عن ذلك.
وقد روي عن ابن جريج، قال: أول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك.
ذكره الأزرقي.
ولأصحابنا وأصحاب الشافعي في تحريم تحلية المساجد بالذهب والفضة وجهان، وكرهه المالكية وبعض الحنفية، ومنهم من رخص فيه، وقالوا: أن فعل ذلك من مال الوقف فقد ضمنه من ماله.
وأما ما حكاه البخاري عن عمر وأنس [............ ..............................] .
وقد روي عن أنس - مرفوعا -، رواه سعيد بن عامر: ثنا صالح بن رستم، قال: قال أبو قلابة: سمع أنس بن مالك يقول - وقد مروا بمسجد أحدث -، فذكر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ((يأتي على أمتي زمان(3/285)
يتباهون فيه بالمساجد ولا يعمرونها إلا قليلا)) - أو قال: ((لا يعمرونها إلا قليلا)) .
خرجه ابن خزيمة في صحيحه.
ثم خرج البخاري هاهنا حديثا، فقال:(3/286)
446 - ثنا علي بن عبد الله: ثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا أبي، عن صالح بن كيسان: ثنا نافع، أن عبد الله اخبره، أن المسجد كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مبنيا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه
عمر، وبناه على بنيانه في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باللبن والجريد، وأعاد عمده خشبا، ثم غيره عثمان، فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج.
القصة: الجص.
والساج: نوع من أرفع أنواع الخشب، يجلب من بلاد الهند والزنج.(3/286)
ويستدل بما فعله عثمان من يرخص في تجصيص المساجد وتزويقها ونقشها.
وقد روي عن ابن عمر في هذا الباب روايات أخر:
فخرج أبو داود من طريق فراس، عن عطية، عن ابن عمر، أن مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت سواريه على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جذوع النخل، أعلاه مظلل بجريد النخل، ثم إنها تخربت في خلافة أبي بكر، فبناها بجذوع النخل وجريد النخل، ثم إنها تخربت في خلافة عمر، فبناها بجذوع النخل وجريد النخل، وتخربت في خلافة عثمان فبناها بالآجر، فلم تزل ثابتة حتى الآن.
وفي هذه الرواية زيادة تجديد أبي بكر له وإعادته على ما كان، لكنه لم يزد في بقعة المسجد شيئا، وإنما زاد فيه عمر.
وروى الإمام أحمد: ثنا حماد الخياط: ثنا عبد الله، عن نافع، أن عمر زاد في المسجد من الاسطوانة إلى المقصورة، وزاد عثمان، فقال عمر: لولا أني سمعت
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((ينبغي أن نزيد في مسجدنا)) ما زدت.
وليس في رواية ذكر ابن عمر، وهو منقطع.
وفيما فعله عمر وعثمان من تخريب المسجد والزيادة فيه: دليل(3/287)
على جواز الزيادة في المساجد وتخريبها لتوسعتها وإعادة بناءها على وجه أصلح من البناء الأول؛ فإن هذا فعله عمر وعثمان بمشهد من المهاجرين والأنصار واقروا عليه.
فأما توسعة المساجد إذا احتيج إلى ذلك لضيقها وكثرة أهلها فقد صرح بجوازه أكثر العلماء من المالكية والحنفية وغيرهم.
وأما توسعة المسجد العامر، وإعادة بنائه على وجه أصلح من الأول فقد نص على جواز الإمام أحمد.
قال أبو داود في ((مسائله)) : سئل أحمد عن رجل بنى مسجدا فعتق، فجاء رجل فأراد أن يهدمه فيبنيه بناء أجود من ذلك، فأبى عليه الباني الأول وأحب الجيران لو تركه يهدمه؟ فقال: لو صار إلى رضا جيرانه لم يكن به باس.
قال: وسمعت أحمد سئل عن مسجد يريدون أن يرفعوه من الأرض، فمنعهم من ذلك مشايخ يقولون: لا نقدر نصعد؟ قال: أحمد: ما تصنع بأسفله؟ قال: اجعله سقاية. قال: لا أعلم به باسا. قال أحمد: ينظر إلى قول أكثرهم - يعني: أهل المسجد.
وبوب عليه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ((كتاب الشافي)) : ((باب: المسجد يبنى بناء أجود من بنائه)) .
وهو - أيضا - قول أصحاب أبي حنيفة، ومذهب سفيان الثوري، حكى أصحابه عنه في تصانيفهم على مذهبه أنه قال في المسجد يكون فيه ضيق، فأراد أهله أن يوسعوه من ملك(3/288)
رجل منهم، فلهم ذلك، وان أرادوا أن يوسعوه من الطريق والطريق واسع لا يضر بالمارة فيه فليس لهم ذلك، إلا إن يأذن الإمام. قال: وللإمام أن يحول الجامع من موضع إلى غيره إذا كان فيه صلاح للرعية ونوى الشد فيه؛ ذكروا أن ابن مسعود حول مسجد الكوفة من موضع التمارين.
قال: وسئل سفيان عن بيع حصير المسجد الخلق فيجعل في ثمن الجديد؟ فلم يره به باسا.
ومذهب الإمام أحمد أن ما خرب من الأوقاف كلها ولم يمكن عمارتها، فأنها تباع ويستبدل بها ما يقوم مقامها.
وعنه في المساجد روايتان: إحداهما كذلك. والثانية: لا تباع وتنقل آلاتها إلى موضع آخر يبنى بها مثله.
ونقل عنه حرب في مسجد خرب، فنقلت آلاته وبني بها مسجد في مكان آخر: أن العتيق يرم ولا يعطل، ولا يبنى في مكانه بيت ولا خان للسبيل، ولكن يرم ويتعاهد.
ونقل حرب، عن إسحاق بن راهويه أنه أجاز للسلطان خاصة أن يبني مكان المسجد الخراب خانا للسبيل أو غيره، مما يكون للمسلمين، فيفعل ما هو خير لهم.
وروى حرب بإسناده عن عبيد الله بن الحسن العنبري في مسجد خافض أراد أهله أن يستبدلوا به؟ قال: إذا كان الخليفة هو الذي يفعل(3/289)
ذلك أراه جائزا.
وروى وكيع بإسناد، عن جابر، عن الشعبي، قال: لا بأس أن يجعل المسجد حشا والحش مسجدا.
ومما يدل على جواز ذلك: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عزم على هدم بناء الكعبة، وإعادتها على قواعد إبراهيم، فيدخل فيها غالب الحجر، ويجعل لها بابين لاصقين بالأرض.
وقد فعل ذلك ابن الزبير، وزاد مع ذلك في طولها، ثم أعادها الحجاج بأمر عبد الملك إلى حالها الأول، واقر الزيادة في طولها.
فيالله العجب!! كيف تقر زيادة لم يذكرها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتزال زيادة ذكرها وعزم عليها؛ ولهذا ندم عبد الملك على ما فعل لما بلغه الحديث عن عائشة.
ومما يدل على جواز ذلك: أن العبادات يجوز إبطالها لأعادتها على وجه أكمل مما كانت، كما أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة؛ ليعيدوا الحج على وجه أكمل مما كان، وهو وجه التمتع؛ فإنه لفضل من الأفراد والقران بغير سوق هدي، كما دل عليه هذه النصوص بالأمر بالفسخ.
وكما أن من دخل في صلاة مكتوبة منفردا، ثم حضر جماعة، فإن إبطال صلاته أو قلبها نفلا؛ ليعيد فرضه في جماعة، فإنه أكمل من صلاته منفردا.
وهذا قول جمهور العلماء، منهم: أحمد، والشافعي في أحد قوليه،(3/290)
وكذلك قال مالك وأبو حنيفة إذا لم يكن قد صلى أكثر صلاته.
وكذلك الهدي المعين والأضحية المعينة يجوز إبدالها بخير منهما عند أبي حنيفة واحمد وغيرهما.
وإذا هدم المسجد، ثم أعيد بناؤه أو وسع، فالبناء المعاد يقوم مقام الأول، ولا يحتاج إلى تجديد وقفه.
وهذا يدل على قول من يرى أن الوقف ينعقد بالقول وبالفعل الدال عليه، وان المسجد يصير مسجدا بالأذان وصلاة الناس فيه، كما قول هُوَ مالك وأبي حنيفة والثوري واحمد - ظاهر، وتصير الزيادة في المسجد مسجدا بمجرد وصلها في المسجد وصلاة الناس فيها.
وقد قال مجاهد والأوزاعي في الفرس الحبيس إذا عطب، فاشتري بثمنه فرس آخر، وزيد في ثمنه زيادة: أن الفرس كله يكون حبيسا كالأول.
وحكم الزيادة حكم المزيد فيه في الفضل - أيضا - فما زيد في المسجد الحرام ومسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كله، والصلاة فيه كله سواء في المضاعفة والفضل.
وقد قيل: أنه لا يعلم عن السلف في ذلك خلاف، إنما خالف فيه بعض المتأخرين من أصحابنا، منهم ابن عقيل وابن الجوزي، وبعض الشافعية.
ولكن قد روي عن الإمام أحمد التوقف في ذلك:
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: الصف الأول في مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(3/291)
أي صف
هو، فإني رأيتهم يتوخون دون المنبر، ويدعون الصف الأول؟ قال: ما أدري. قلت لأبي عبد الله: فما زيد في مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهو عندك منه؟ فقال: وما عندي، إنما هم أعلم بهذا - يعني: أهل المدينة.
وقد روى عمر بن شبة في كتاب ((أخبار المدينة)) بإسناد فيه نظر، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لو بني هذا المسجد إلى صنعاء لكان مسجدي)) . فكان أبو هريرة يقول: لو مد هذا المسجد إلى باب داري ما عدوت أن أصلي فيه.
وبإسناد فيه ضعف، عن أبي عمرة، قال: زاد عمر في المسجد في شاميه، ثم قال: لو زدنا فيه حتى نبلغ الجبانة كان مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وبإسناده، عن ابن أبي ذئب، قال: قال عمر: لو مد مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ذي الحليفة كان منه.
وكذلك الزيادة في المسجد الحرام:
روى مثنى بن الصباح، عن عطاء، أنه قيل له في المضاعفة في المسجد وحده، أو في الحرم؟ قال: في الحرم كله؛ فإن الحرم كله مسجد.
وروى الأزرقي بإسناده، عن أبي هريرة، قال: إنا لنجد في كتاب الله أن حد المسجد الحرام من الحزورة إلى المسعى.
وبإسناده، عن عبد الله بن عمرو، قال: أساس المسجد الحرام الذي وضعه إبراهيم - عليه السلام - من الحزورة إلى المسعى.
وبإسناده، عن عطاء، قال: المسجد الحرام الحرم كله.(3/292)
وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) من رواية ليث، عن مجاهد، قال: الحرم كله مسجد، يعتكف في أيه شاء، وإن شاء في منزله، إلا أنه لا يصلي إلا في جماعة.
وقد ذكر الشافعية: أنه لو حلف لا يدخل هذا المسجد، فزيد فيه، فدخل موضع الزيادة لم يحنث، فلو حلف لا يدخل مسجد بني فلان، فزيد فيه، فدخل موضع الزيادة حنث.
وهذا مما يشهد لأن حكم الزيادة حكم المزيد في المسجد الحرام ومسجد النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه عرف المسجد الحرام بالألف واللام، ومسجده بإضافته إليه، ولكنه جمع بين الإشارة إليه وتعريفه بالإضافة، فقال: ((مسجدي هذا)) . والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/293)
63 - باب
التعاون في بناء المسجد
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} - إلى قوله -: {مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:17و18] .
عمارة المساجد تكون بمعنيين:
أحدهما: عمارتها الحسية ببنائها وإصلاحها وترميمها، وما أشبه ذلك.
والثاني: عمارتها المعنوية بالصلاة فيها، وذكر الله وتلاوة كتابه، ونشر العلم الذي أنزله على رسوله، ونحو ذلك.
وقد فسرت الآية بكل واحد من المعنيين، وفسرت بهما جميعا، والمعنى الثاني أخص بها.
وقد خرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان)) ، ثم تلا: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} - الآية [التوبة:18] .(3/294)
ولكن قال الإمام أحمد: هو منكر.
وقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} - وقرئ ((مسجد
الله)) .
فقيل: إن المراد به جميع المساجد على كلا القراءتين؛ فإن المفرد المضاف يعم، كقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} [البقرة:187] .
وقيل: المراد بالمسجد الحرام خاصة، كما قال: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاّ الْمُتَّقُونَ} [الأنفال:34] .
وقيل أنه المراد بالمساجد على القراءة الأخرى، وانه جمعه لتعدد بقاع المناسك هناك، وكل واحد منها في معنى مسجد. روي ذلك عن عكرمة. والله أعلم.
فمن قال: إن المراد به المسجد الحرام خاصة، قال: لا يمكن الكفار من دخول الحرم كله، بدليل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] .
وجمهور أهل العلم على أن الكفار يمنعون من سكنى الحرم، ودخوله بالكلية، وعمارته بالطواف وغيره، كما أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ينادي: ((لا يحج بعد العام مشرك)) .
ورخص أبو حنيفة لهم في دخوله دون الإقامة به.(3/295)
ومن قال: المراد جميع المساجد، فاختلفوا:
فمنهم: من قال: لا يمكن الكفار من قربان مسجد من المساجد، ودخوله بالكلية.
ومنهم: من رخص لهم في دخول مساجد الحل في الجملة.
ومنهم: من فرق بين أهل الكتاب والمشركين، فرخص فيه لأهل الكتاب دون المشركين.
وقد أفرد البخاري بابا لدخول المشرك المسجد، ويأتي الكلام على هذه المسألة هناك مستوفى - إن شاء الله تعالى.
واتفقوا على منع الكفار من إظهار دينهم في مساجد المسلمين، لا نعلم في ذلك خلافا.
وهذا مما يدل على اتفاق الناس على أن العمارة المعنوية مرادة من الآية.
واختلفوا في تمكينهم من عمارة المساجد بالبنيان والترميم ونحوه على قولين:
أحدهما: المنع من ذلك؛ لدخوله في العمارة المذكورة في الآية، ذكر ذلك كثير من المفسرين كالواحدي وأبي فرج ابن الجوزي، وكلام القاضي أبي يعلى في كتاب ((أحكام القرآن)) يوافق ذلك وكذلك كيا الهراسي من الشافعية، وذكره البغوي منهم احتمالا.(3/296)
والثاني: يجوز ذلك، ولا يمنعون منه، وصرح به طائفة من فقهاء أصحابنا والبغوي من الشافعية وغيرهم.
وهؤلاء؛ منهم من حمل العمارة على العمارة المعنوية خاصة، ومنهم من قال: الآية إنما أريد بها المسجد الحرام، والكفار ممنوعون من دخول الحرم على كل وجه، بخلاف بقية المساجد، وهذا جواب ابن عقيل من أصحابنا.
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز، أنه استعمل طائفة من النصارى في عمارة مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لما عمره في خلافة الوليد بن عبد الملك.
ويتوجه قول ثابت، وهو: أن الكافر إن بنى مسجدا للمسلمين من ماله لم يمكن من ذلك، ولو لم يباشره بنفسه، وإن باشر بناءه بنفسه باستئجار المسلمين له جاز، فإن في قبول المسلمين منة الكفار ذلا للمسلمين، بخلاف استئجار الكفار للعمل للمسلمين؛ فإن فيه ذلا للكفار.
وقد اختلف الناس في هذا - أيضا - على قولين:
أحدهما: أنه لو وصى الكافر بمال للمسجد أو بمال يعمر به مسجد أو يوقد به، فإنه تقبل وصيته، وصرح به القاضي أبو يعلى في ((تعليقه)) في مسألة الوقيد، وكلامه يدل على أنه محل وفاق، وليس كذلك.
والثاني: المنع من ذلك، وانه لا تقبل الوصية بذلك، وصرح به الواحدي في ((تفسيره)) وذكره ابن مزين في كتاب ((سير(3/297)
الفقهاء)) ، عن يحيى بن يحيى، قال: سمعت مالكا، وسئل عَن نصراني أوصى بمال تكسى به الكعبة؟ فأنكر ذلك، وقال: الكعبة منزهة عن ذلك.
وكذلك المساجد لا تجري عليها وصايا أهل الكفر.
وكذلك قال محمد بن عبد الله الأنصاري قاضي البصرة: لا يصح وقف النصراني على المسلمين عموما، بخلاف المسلم المعين، والمساجد من الوقف على عموم المسلمين -: ذكره حرب، عنه بإسناده.
وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن المرأة الفقيرة تجيء إلى اليهودي أو النصراني فتصدق منه؟ قَالَ: أخشى أن ذَلِكَ ذلة.
وَقَالَ مهنا: قُلتُ لأحمد: يأخذ الْمُسْلِم من النصراني من صدقته شيئا؟ قال:
نعم، إذا كان محتاجا.
فقد يكون عن أحمد روايتان في كراهة أخذ المسلم المعين من صدقة الذمي، وقد يكون كره السؤال، ورخص في الأخذ منه بغير سؤال. والله أعلم.
وأما وقفهم على عموم المسلمين كالمساجد، فيتوجه كراهته بكل حال، كما قاله الأنصاري.
وقد ذكر أهل السير كالوا قدي ومحمد بن سعد إن رجلا من أحبار اليهود، يقال له: مخيريق، خرج يوم أحد يقاتل مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: إن أصبت في وجهي هذا فمالي لمحمد يضعه حيث يشاء، فقتل يومئذ، فقبض رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمواله، فقيل: أنه فرقها وتصدق بها،(3/298)
وقيل: أنه حبسها ووقفها.
وروى ابن سعد ذلك بأسانيد متعددة، وفيها ضعف. والله أعلم.
قال البخاري - رحمه الله -:(3/299)
447 - حدثنا مسدد: ثنا عبد العزيز بن مختار: ثنا خالد الحذاء، عن عكرمة: قال لي ابن عباس ولابنه علي: إنطلقا إلى أبي سعيد، فاسمعا من حديثه، فإنطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ رداءه فاحتبى، ثم أنشأ يحدثنا، حتى أتى على ذكر بناء
المسجد. قال: كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجعل ينفض التراب عنه، ويقول: ((ويح عمار، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار)) . قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن.
في هذا الحديث: حرص العالم المتسع علمه على أولاده ومواليه في تعليمهم
العلم، حتى يرسلهم إلى غيره من العلماء، وإن كان هو أعلم وأفقه، لما يرجى من تعليمهم من غيره ما ليس عنده.
وفيه: إن الصحابة كانوا يعملون في حوائطهم وهي بساتينهم(3/299)
وحدائقهم
بأيديهم، وأن أحدهم كان إذا عمل في عمل دنياه ألقى رداءه واكتفى بإزاره، فإذا جاءه من يطلب العلم أخذ رداءه، وجلس معهم في ثوبين: إزار ورداء.
وقول أبي سعيد: ((كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين)) ، يدل على إن أبا سعيد شهد بناء المسجد وعمل فيه، وهذا يدل على إن المراد بناء المسجد ثاني مرة لا أول مرة، فإن جماعة من أهل السير ذكروا إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدما فتح الله عليه خيبر بنى مسجده مرة ثانية، وزاد فيه مثله.
وإنما استشهدنا لذلك بمشاركة أبي سعيد في بناء المسجد، ونقل اللبن؛ لأن أبا سعيد كان له عند بناء المسجد في المرة الأولى نحو عشر سنين أو دونها؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رده يوم أحد ولم يجزه، وله نحو ثلاث عشرة سنة، وكانت غزوة أحد في أواخر السنة الثالثة من الهجرة، ومن له عشر سنين أو دونها فبعيد أن يعمل مع الرجال في البنيان.
ويدل على تجديد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمارة مسجده أدلة أخر:
منها: إن عثمان وسع مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته بأذن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاشترى له مكانا من ماله، وزاده في المسجد.
روى ثمامة بن حزن، قال: شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان، فقال: إنشدكم بالله والإسلام: هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من يشتري بقعة آل فلان فيزيد ها في المسجد بخير له منها في الجنة)) ، فاشتريتها من صلب مالي، فأنتم اليوم تمنعوني أن اصلي فيها ركعتين؟ قالوا: اللهم نعم - وذكر الحديث.(3/300)
خرجه النسائي والترمذي، وقال: حديث حسن.
وروى عمرو بن جاوان، عن الأحنف بن قيس، قال: إنطلقنا حجاجا، فمررنا بالمدينة، فإذا الناس مجتمعون على نفر في المسجد، فإذا علي والزبير وطلحة
وسعد، فلم يكن بأسرع من إن جاء عثمان، فقال لهم: إنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، أتعلمون إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من يبتاع مربد بني فلان غفر الله له)) ،
فابتعته، فأتيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: أني قد ابتعته، فقال: ((اجعله في مسجدنا، وأجره لك)) ؟ قالوا: نعم - وذكر الحديث.
خرجه الإمام أحمد والنسائي.
وفي بعض الروايات: ((أحسبه قال: ابتعته بعشرين أو بخمسة وعشرين ألفا)) .
وروى ابن لهيعة: حدثني يزيد بن عمرو المعافري، قال: سمعت أبا ثور
الفهمي، قال: دخلت على عثمان، فقال: قد قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من يشتري هذه الربعة ويزيد ها في المسجد، وله بيت في الجنة؟)) فاشتريتها وزدتها في المسجد.
خرجه البزار في ((مسنده)) .
وخرج الإمام أحمد والنسائي من رواية أبي إسحاق السبيعي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: أشرف عثمان - فذكر الحديث، وفيه:(3/301)
أنه قال: أنشد بالله من شهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من يوسع لنا بهذا البيت في المسجد ببيت له في الجنة؟)) فابتعته من مالي، فوسعت به المسجد فانتشد له رجال - وذكر بقية الحديث.
وفي سماع أبي سلمة من عثمان نظر.
وقد اختلف في إسناده على أبي إسحاق:
فرواه، عنه: ابنه يونس وحفيده إسرائيل بن يونس، كلاهما عن أبي إسحاق، عن أبي سلمة.
ورواه زيد بن أبي أنيسة وشعبة وغيروهما، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان.
وقد خرج البخاري في ((صحيحه)) قطعة من هذا الحديث من رواية شعبة، ولم يذكر فيه المسجد، إنما ذكر خصالا أخر.
وكذلك خرجه النسائي والترمذي من حديث زيد بن أبي أنيسة، وعند الترمذي: ((وأشياء عدها)) .
وقال: صحيح غريب.
وقال الدارقطني: قول شعبة ومن تابعه أشبه بالصواب.
ومن الأدلة على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جدد عمارة مسجده مرة ثانية: أن وفد بني حنيفة قدموا على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يبني مسجده، ومعلوم أن وفود العرب لم يفد منهم أحد على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسلما في(3/302)
السنة الأولى من الهجرة، هذا أمر معلوم بالضرورة لكل من عرف السير وخبرها، إنما قدمت الوفود مسلمين بعد انتشار الإسلام وظهوره وقوته، وخصوصا وفد بني حنيفة؛ فإنه قد ورد في ذمهم أحاديث متعددة في ((مسند الإمام أحمد)) والترمذي وغيرهما من الكتب، فكيف يظن بهم أنهم سبقوا الناس إلى الإسلام في أول سنة من سني الهجرة؟
ويدل على قدوم وفد بني حنيفة والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبني مسجده: ما رواه ملازم ابن عمرو: حدثني جدي عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه، قال: بنيت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسجد المدينة، فكان يقول: ((قدموا اليمامي من الطين؛ فإنه من أحسنكم لَهُ مسا)) .
خرجه [..........] ابن حبان في ((صحيحه)) .
وخرجه الإمام أحمد، وزاد في آخره: ((وأشدكم منكبا))
وعنده عن ملازم، عن سراج بن عقبة وعبد الله بن بدر، عن قيس.
وخرجه النسائي بهذا الإسناد، عن طلق، قال: خرجنا وفدا إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبايعناه وصلينا معه - وذكر حديثا.
فتبين بهذا: أنه إنما قدم في وفد بني حنيفة.
وخرجه الدارقطني من رواية محمد بن جابر - وفيه ضعف -،(3/303)
عن قيس ابن طلق، عن أبيه، قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم يؤسسون مسجد المدينة. قال: وهم ينقلون الحجارة. قال: فقلت يا رسول الله، ألا ننقل كما ينقلون؟ قال: ((لا، ولكن اخلط لهم الطين يا أخا اليمامة، فأنت أعلم به)) . قال: فجعلت أخلطه، وهم ينقلونه.
وخرجه الإمام أحمد من رواية أيوب، عن قيس، عن أبيه، قال: جئت إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه يبنون المسجد. قال: فكأنه لم يعجبه عملهم. قال: فأخذت المسحاة، فخلطت بها الطين. قال: فكأنه أعجبه أخذي للمسحاة وعملي، فقال: ((دعوا الحنفي والطين؛ فإنه أضبطكم للطين)) .
وأيوب، هو: ابن عتبة، فيه لين.
وأما نفض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن عمار التراب الذي أصابه من نقل اللبن، فقد بوب عليه البخاري في ((السير)) : ((مسح الغبار عن الناس في السبيل)) ، وخرج فيه هذا الحديث مختصرا، وفيه: فمر به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمسح عن رأسه الغبار، وقال: ((ويح عمار، يدعوهم إلى الله،(3/304)
ويدعونه إلى النار)) .
وقوله: ((ويح عمار)) ، ويح: كلمة رحمة -: قاله الحسن وغيره.
وروي مرفوعا من حديث عائشة بإسناد فيه ضعف.
وقيل: ويح: رحمة لنازل به بلية. وانتصابه بفعل مضمر، كأنه يقول: أترحم عمارا ترحما.
وقوله: ((يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار)) فيه: إخبار بأن ذلك سيقع
له، ولهذا تعوذ عمار عند ذلك من الفتن.
وفيه إشارة إلى أن عمارا على الحق من دون خالفه.
وقد وقع في بعض نسخ ((صحيح البخاري)) زيادة في هذا الحديث، وهي: ((تقتله الفئة الباغية)) .
وقد خرجه بهذه الزيادة الإمام أحمد عن محبوب بن الحسن، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، سمع أبا سعيد يحدث عن بناء المسجد - فذكره، وقال فيه: ((ويح عمار، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار)) .
وخرجه النسائي.
وقد رواه يزيد بن زريع وغيره، عن خالد الحذاء.
ولكن لفظة: ((تقتله الفئة الباغية)) لم يسمعها أبو سعيد من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إنما سمعها من(3/305)
بعض أصحابه عنه.
وقد خرج الإمام أحمد من رواية داود بن أبي هند، عن أبي نظرة، عن أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر قصة بناء المسجد، وقال: حدثني أصحابي - ولم أسمعه -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل ينفض التراب عن عمار، ويقول: ((ويح ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية)) .
وخرج مسلم في ((صحيحه)) من حديث شعبة، عن أبي مسلمة: سمعت أبا نضرة يحدث، عن أبي سعيد ألخدري، قال: أخبرني من هو خير منى أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمار حين جعل يحفر الخندق، جعل يمسح رأسه ويقول: ((بؤس ابن سمية، تقتلك فئة باغية)) .
وفي رواية له بهذا الإسناد تسمية الذي حدث أبا سعيد، وهو أبو قتادة.
وفي رواية له - أيضا - قال: أراه - يعني: أبا قتادة.
كذا قال أبو نضرة في روايته عن أبي سعيد، أن ذلك كان في حفر الخندق، والصحيح: أن ذلك كان في بناء المسجد.
وقد روى الدراوردي، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: كنا نحمل اللبن لمسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكنا نحمل لبنة لبنة، وكان عمار يحمل(3/306)
لبنتين لبنتين، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أبشر عمار، تقتلك الفئة الباغية)) .
خرجه يعقوب بن شيبة في ((مسنده)) ، عن أبي مصعب، عن الدراوردي.
وخرجه الترمذي عن أبي مصعب، لكنه اختصره، ولم يذكر فيه قصة بناء المسجد، وقال: حسن صحيح غريب من حديث العلاء.
وإسناد في الظاهر على شرط مسلم، ولكن قد أعله يحيى بن معين، بأنه لم يكن في كتاب الدراوردي، قال: وأخبرني من سمع كتاب العلاء - يعني: من الدراوردي - ليس فيه هذا الحديث. قال يحيى: والدراوردي حفظه ليس بشيء، كتابه أصح.
وهذا الحديث - أيضا - مما يدل على أن بناء المسجد الذي قيل لعمار فيه ذلك كان بعد فتح خيبر، لأن أبا هريرة أخبر أنه شهده.
وروي شهود أبي هريرة لبناء المسجد من وجه أخر ليس فيه ذكر عمار.
خرجه الإمام أحمد من رواية عمرو بن أبي عمرو، عن ابن عبد الله ابن حنطب، عن أبي هريرة، أنهم كانوا يحملون اللبن إلى بناء المسجد، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معهم. قال: فاستقبلت رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو(3/307)
عارض لبنة على بطنه، فظننت أنها شقت عليه، فقلت ناولنيها يا رسول الله،. قال: ((خذ غيرها يا أبا هريرة؛ فإنه لا عيش إلا عيش الآخرة)) .
ولكن ابن حنطب، وهو: المطلب، ولا يصح سماعه من أبي هريرة.
وروى الأعمش عن عبد الرحمن بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول لأبيه يوم صفين: يا أبه، أما سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول، وهم يبنون المسجد، والناس ينقلون لبنة لبنة، وعمار ينقل لبنتين لبنتين، وهو يوعك، فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((انك لحريص على الأجر، وانك لمن أهل الجنة، وانك لتقتلك الفئة الباغية)) .
خرجه يعقوب بن شيبة في ((مسنده)) بتمامه.
وخرجه الإمام أحمد والنسائي في ((الخصائص)) - مختصرا. والحاكم.
وفي إسناده اختلاف عن الأعمش.
وهو - أيضا - مما يدل على تأخر بناء المسجد حتى شهده عمرو بن العاص وابنه عبد الله.
وروى ابن عون، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، قالت: لما(3/308)
كان يوم الخندق، وجعل الناس يحملون لبنة لبنة، وجعل عمار يحمل لبنتين لبنتين، حتى اغبر شعر صدره، فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ويحك يا ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية)) .
خرجه [.........] .
وخرجه مسلم مختصرا، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمار: ((تقتله الفئة الباغية)) .
وذكر حفر الخندق في هذا الحديث فيه نظر، والصواب: بناء المسجد، يدل على ذلك وجهان:
أحدهما: أن حفر الخندق لم يكن فيه نقل لبن، إنما كان ينقل التراب، وإنما ينقل اللبن لبناء المسجد.
والثاني: أن حديث أم سلمة قد روي بلفظ أخر، أنها قالت: ما نسيت الغبار على صدر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يقول:
((اللهم إن الخير خير الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة))
إذ جاء عمار فقال: ((ويحك - أو ويلك - يا بن سمية، تقتلك الفئة الباغية)) .
وأم سلمة أين كانت من حفر الخندق؟ إنما كانت تشاهد بناء المسجد في المرة الثانية، لأن حجرتها كانت عند المسجد.
وقد اختلف في حديث: ((تقتل عمار الفئة الباغية)) .(3/309)
فذكر الخلال في كتاب ((العلل)) : ثنا إسماعيل الصفار: سمعت أبا أمية الطرسوسي يقول: سمعت في حلقة أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبي خيثمة والمعيطي ذكروا: ((تقتل عمار الفئة الباغية)) ، فقالوا: ما هي حديث صحيح.
قال الخلال: وسمعت عبد الله بن إبراهيم يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: روي في عمار: ((تقتله الفئة الباغية)) ثمانية وعشرون حديثا، ليس فيها حديث صحيح.
وهذا الإسناد غير معروف، وقد روي عن أحمد خلاف هذا:
قال يعقوب بن شيبة الدسوسي في ((مسند عمار)) من ((مسنده)) : سمعت أحمد بن حنبل سئل عن حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمار: ((تقتلك الفئة الباغية)) فقال أحمد: كما قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((قتلته الفئة الباغية)) . وقال: في هذا غير حديث صحيح، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكره أن يتكلم في هذا بأكثر من هذا.
وقال الحاكم في ((تاريخ نيسابور)) : سمعت أبا عيسى محمد بن عيسى العارض - وأثنى عليه - يقول: سمعت صالح بن محمد الحافظ - يعني: جزرة - يقول: سمعت يحيى بن معين وعلي بن المديني يصححان حديث الحسن، عن أمه، عن أم سلمة: ((تقتل عمارا الفئة الباغية)) .(3/310)
وقد فسر الحسن البصري الفئة الباغية بأهل الشام: معاوية وأصحابه.
وقال أحمد: لا أتكلم في هذا، السكوت عنه أسلم.
وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بناء المسجد: ((ويح عمار، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار)) هو من جنس الارتجاز كما كان يقول في بناء المسجد في أول أمره:
((اللهم أن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة))
ومثل ارتجازه عند حفر الخندق بقول ابن رواحة:
((اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا))
وروى محمد بن سعد: أبنا عبد الله بن نمير، عن الأجلح، عن عبد الله بن أبي الهذيل، قال: لما بنى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسجده، جعل القوم يحملون، وجعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحمل هو وعمار، فجعل عمر يرتجز، ويقول:
نحن المسلمون نبني المساجدا
وجعل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((المساجدا)) .
وقد كان عمار اشتكى قبل ذلك، فقال بعض القوم: ليموتن عمار اليوم، فسمعهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنفض لبنته، وقال: ((ويحك)) - ولم يقل: ويلك - ((يا ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية)) .(3/311)
وهذا مرسل.
وخرجه البزار من رواية شريك، عن الأجلح، عن عبد الله بن أبي الهذيل، عن عمار، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال له: ((تقتلك الفئة الباغية)) .
ثم قال: رواه أبو التياح، عن عبد الله بن أبي الهذيل - مرسلا، لم يقل: عن عمار.
قلت: وقد خرجه الطبراني بإسناد فيه نظر، عن حماد بن سلمة، عن أبي التياح، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبني المسجد، وكان عمار يحمل صخرتين، فقال: ((ويح ابن سمية، تقتله الفئة الباغية)) .
والمرسل أشبه. والله أعلم.
وروى حماد بن سلمة في ((جامعه)) ، عن أبي جعفر الخطمي، أن عبد الله بن رواحه كان يقول وهم يبنون مسجد قباء:
أفلح من يعالج المساجدا
فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((المساجدا)) .
يقرأ القرآن قائما وقاعدا.
فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((قاعدا)) .
ولا يبيت الليل عنه راقدا
فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((راقدا)) .
وفي هذا الارتجاز عند بناء المسجد فائدتان:
إحداهما: ما في هذا الكلام من الموعظة الحسنة، والحث على العمل، فيوجب ذلك للسامعين النشاط في العمل، وزوال ما يعرض للنفس من الفتور والكسل عند سماع ثواب العمل وفضله، أو الدعاء لعامله بالمغفرة.(3/312)
والثانية: أن المتعاونين على معالجة الأعمال الشاقة كالحمل والبناء ونحوها قد جرت عادتهم بالاسترواح إلى استماع بعضهم إلى ما ينشده بعضهم، ويجيبه الأخر عنه، فإن كل واحد منهم يتعلق فكره بما يقول صاحبه، ويطرب بذلك، ويجيل فكره في الجواب عنه بمثله، فيخف بذلك على النفوس معالجة تلك الأثقال، وربما نسي ثقل المحمول بالاشتغال بسماع الارتجاز، والمجاوبة عنه.
ويؤخذ من هذا أنواع من الاعتبار:
منها: حاجة النفس إلى التلطف بها في حمل أثقال التكليف، حتى تنشط للقيام بها، ويهون بذلك عليها الأعمال الشاقة على النفس، من الطاعات.
ومنها: احتياج الإنسان في حمل ثقل التكليف إلى من يعونه على طاعة الله، وينشط لها بالمواعظ وغيرها كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] وقال: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] .
سئلت أم الدرداء: ما كان أفضل عمل أبي الدرداء؟ قالت: التفكر. قالت: ونظر إلى ثورين يخدان في الأرض، ثم استقلا بعملهما، فتعب أحدهما، فقام الأخر. فقال أبو الدرداء: في هذا تفكر استقلا بعملهما ما اجتمعا، وكذلك المتعاونون على ذكر الله - عز وجل -.
خرجه ابن أبي الدنيا في ((كتاب التفكر)) .(3/313)
64 - باب
الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد(3/314)
448 - حدثنا قتيبة: ثنا عبد العزيز: حدثني أبو حازم، عن سهل، قال: بعث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى امرأة: ((مري غلامك النجار يعمل لي أعوادا اجلس عليهن)) .(3/314)
449 - حدثنا خلاد: ثنا عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر، أن امرأة قالت: يا رسول الله، ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه، فإن لي غلاما نجارا؟ قال: ((إن شئت)) ، فعملت المنبر.
في هذين الحديثين كليهما: أن النجار الذي صنع المنبر كان غلاما لامرأة.
وحديث سهل مختصر، قد أتمه البخاري في مواضع، وقد سبق بتمامه في ((باب: الصلاة في المنبر والسطوح)) ، وفيه: أن سهلا سئل: من أي شيء المنبر؟ فقال: ما بقي في الناس أعلم به مني، هو من أثل الغابة، عمله فلان مولى فلانة - وذكر الحديث.
وخرج ابن سعد وغيره من حديث عباس بن سهل بْن سعد، عن أبيه، أنه ذكر المنبر، فقال: لم يكن بالمدينة إلا نجار واحد، فذهبت أنا وذلك(3/314)
النجار إلى الخانقين، فقطعت هذا المنبر من أثلة.
وخرج الطبراني بإسناد ضعيف، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب إلى
جذع، فمر رومي فقال: لو دعاني محمد لجعلت له ما هو أرفق من هذا، فدعي
لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجعل له المنبر أربع مراق - وذكر الحديث.
وخرج ابن سعد عن الواقدي، بإسناد له، عن أبي هريرة - وبعض الحديث بإسناد أخر -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب إلى جذع في المسجد قائما، فقال: ((إن القيام قد شق علي)) ، فقال له تميم الداري: إلا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسلمين في ذلك، فرأوا إن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: يا رسول الله، أن لي غلاما - يقال له: كلاب - أعمل الناس، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مره أن يعمله)) ، فأرسله إلى أثلة بالغابة، فقطعها، ثم عمل منها درجتين، ومقعدا، ثم جاء به فوضعه في موضعه اليوم - وذكر حديثا طويلا.
وإسناده لا يعتمد عليه.
وخرج أبو داود من طريق عبد العزيز بن أبي داود، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بدن قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك يا رسول الله منبرا يجمع - أو يحمل - عظامك؟ قال: ((بلى)) ، فاتخذ له منبرا مرقاتين.(3/315)
وخرج الطبراني من رواية شيبة أبي قلابة عن الجريري، عن أبي نضرة عن جابر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب إلى جذع، فقيل له: أن الإسلام قد انتهى، وكثر الناس، فلو أمرت بصنعة شيء تشخص عليه، فقال لرجل: ((أتصنع المنبر؟)) قال: نعم. قال: ((ما اسمك؟)) قال: فلان. قال: ((لست صاحبه)) ، فدعا أخر، فقال: ((أتصنع المنبر؟)) فقال مثل مقالته، ثم دعا أخر، فقال: نعم - إن شاء الله - قال: ((ما اسمك؟)) قال: إبراهيم. قال: ((خذ في صنعته)) .
وخرجه عبد بن حميد في ((مسنده)) عن علي بن عاصم، عن الجريري عن أبي نضرة، عن أبي سعيد.
وروى عبد الرزاق، عن رجل من أسلم - وهو إبراهيم بن أبي يحيى -، عن صالح مولى التوأمة، أن باقوم مولى العاص بن أمية صنع للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منبره من طرفاء، ثلاث درجات.
ورواه محمد بن سليمان بن مسمول، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن صالح مولى التوأمة: حدثني باقوم مولى سعيد بن العاص، قال: صنعت لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منبرا من طرفاء الغابة، ثلاث درجات: القعدة، ودرجتيه.
وكلا الإسنادين واه جدا.(3/316)
وقد روي عن ابن سيرين، أن باقوم الرومي أسلم، فلم يدر به سهيل بن عمرو، ومات ولم يدع وارثا، فدفع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ميراثه إلى سهيل.
ذكر ذلك ابن منده في كتاب ((معرفة الصحابة)) .
وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: الغلام اسمه: مينا. ومولاته: لا نعلم أحدا سماها.
ثم رواه بإسناده، عن هارون بن موسى، ثنا محمد بن يحيى، قال: قال إسماعيل بن عبد الله: الذي عمل المنبر: غلام الأنصارية، واسمه: مينا.
ومما يدخل في هذا الباب: حديث قيس بن طلق، عن أبيه، في استعانة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به في بناء المسجد في عمل الطين، وقد سبق في الباب الماضي.(3/317)
65 - باب
من بنى مسجدا(3/318)
450 - حدثنا يحيى بن سليمان: ثنا وهب: أخبرني عمرو، أن بكيرا حدثه، أن عاصم بن عمر بن قتادة حدثه، أنه سمع عبيد الله الخولاني، أنه سمع عثمان بن عفان يقول - عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنكم أكثرتم، وإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((من بنى مسجدا)) - قال بكير: حسبته أنه قال:
((يبتغى به وجه الله)) - بنى الله له مثله في الجنة)) .
لما أراد عثمان - رضي الله عنه - هدم مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واعادة بنائه على وجه أحسن من بنائه الأول كره الناس لذلك لما فيه من تغير بناء المسجد عن هيئة بنيانه في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن عمر لما بناه أعاد بناءه على ما كان عليه في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما وسعه وزاد فيه، فلهذا أكثر الناس القول على عثمان.
وخرج مسلم من حيث محمود بن لبيد، أن عثمان بن عفان أراد بناء المسجد، فكره الناس ذلك، فأحبوا أن يدعه على هيئته، فقال: سمعت(3/318)
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:
((من بنى مسجدا لله بنى الله له في الجنة مثله)) .
وقد اتفق صاحبا ((الصحيحين)) على تخريج حديث عثمان من رواية عبيد الله الخولاني عنه؛ لاتصال إسناده، وتصريح رواته بالسماع.
وتفرد مسلم بتخريج حديث محمود بن لبيد عن عثمان.
وخرجه الترمذي وصححه، وقال: محمود بن لبيد أدرك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
يشير بذلك إلى أنه لا يستنكر من عثمان؛ فإن له رؤية من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكيف ينكر أن يروي عن عثمان؟
وقد اختلف فِي صحبة محمود بن لبيد، وقد أنكر ابن المديني حَدِيْث محمود بن لبيد، عَن عُثْمَان، وقال: في إسناده بعض الشيء، ومحمود بن لبيد أدرك عثمان.
ومسلم ومن وافقه يكتفون في اتصال الإسناد بإمكان اللقى، وغيرهم يعتبر ثبوت اللقى.
وقد ذكر الهيثم بن كليب في ((مسنده)) عن صالح بن محمد الحافظ، أنه قال: لا احسب محمود بن لبيد سمع من عثمان شيئا.(3/319)
وخرجه ابن جرير الطبري من رواية محمود بن لبيد، عن أبان بن عثمان، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وليس ذكر: ((أبان)) في إسناده بمحفوظ.
وقد ذكرنا في الباب الماضي من غير وجه، عن عثمان، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن يوسع في المسجد، وضمن له بيتا في الجنة؛ فلهذا - والله أعلم - ادخل عثمان هدم المسجد وتجديد بنيانه على وجه هو أتقن من البيان الأول مع التوسعة فيه في قوله: ((من بنى مسجدا لله بنى الله له بيتا في الجنة)) .
وهذا يرجع إلى قاعدة الجزاء على العمل من جنسه، كما أن من اعتق رقبة اعتق الله بكل عضو منه عضوا منها من النار، ومن نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الاخرة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما في الدنيا ستره الله في الآخرة، والراحمون يرحمهم الرحمن.
ومثل هذا كثير، فمن بنى لله مسجدا يذكر فيه اسم الله في الدنيا بنى الله له في الجنة بيتا.
وأما قوله: ((مثله)) ، فليس المراد أنه على قدره، ولا على صفته في بنيانه، ولكن المراد - والله أعلم - أنه يوسع بنيانه بحسب توسعته، ويحكم بنيانه بحسب إحكامه، لا من جهة الزخرفة ويكمل انتفاعه بما يبنى له في(3/320)
الجنة بحسب كمال انتفاع الناس بما بناه لهم في الدنيا، ويشرف على سائر بنيان الجنة كما تشرف المساجد في الدنيا على سائر البنيان، وإن كان لا نسبة لما في الدنيا إلى ما في الآخرة، كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم ترجع)) .
وقد دل على ما قلناه: ما خرجه الإمام أحمد من حديث أسماء بنت يزيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من بنى لله مسجدا في الدنيا فإن الله عز وجل يبني له بيتا أوسع منه في الجنة)) .
وخرجه بمعناه من حديث حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومن حديث واثلة بن الاسقع، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((من بنى مسجدا يصلى فيه بنى الله له في الجنة أفضل منه)) .
وخرج البزار والطبراني من حديث أبي هريرة - مرفوعا - ((من بنى لله بيتا يعبد الله فيه من حلال بنى الله له بيتا في الجنة من در وياقوت)) .(3/321)
وقيل: أن الصحيح وقفه على أبي هريرة.
وأما اللفظة التي شك فيها بكير بن الاشج، وهي قوله: ((يبتغي به وجه الله)) ، فهذا الشرط لا بد منه، ولكن قد يستفاد من قوله: ((من بنى مسجدا لله)) أنه أريد به: من بنى مسجدا خالصا لله.
وقد روى المثنى بن الصباح؛ عن عطاء، عن عائشة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من بنى مسجدا لا يريد به رياء ولا سمعة بنى الله له بيتا في الجنة)) .
خرجه الطبراني.
والمثنى، فيه ضعف.
وبكل حال؛ فالإخلاص شرط لحصول الثواب في جميع الأعمال؛ فإن الأعمال بالنيات، وإنما لا مريء ما نوى، وبناء المساجد من جملة الأعمال، فإن كان الباعث على عمله ابتغاء وجه الله حصل له هذا الأجر، وإن كان الباعث عليه الرياء والسمعة أو المباهاة فصاحبه متعرض لمقت الله وعقابه، كسائر من عمل شيئا من إعمال البر(3/322)
يريد به الدنيا كمن صلى يرائي، أو حج يرائي، أو تصدق يرائي.
ولكن روى عن قتادة، أنه قال: كل بناء رياء فهو على صاحبه لا له، ألا من بنى المساجد رياء فهو لا عليه ولا له.
خرجه ابن أبي الدنيا بإسناد صحيح عنه.
وهذا فيه نظر، ولو كان النفع المتعدي يمنع من عقاب المرائي به لما عوقب العالم والمجاهد والمتصدق للرياء وهم أول من تسعر به النار يوم القيامة.
وأما من بنى المساجد من غير رياء ولا سمعة، ولم يستحضر فيه نية الإخلاص، فهل يثاب على ذلك، أم لا؟ فيه قولان للسلف.
وقد روى عن الحسن البصري وابن سيرين، أنه يثاب على إعمال البر والمعروف بغير نية، لما من النفع المتعدي.
وقد سبق ذكر ذلك في أواخر ((كتاب الإيمان)) . والله أعلم.
وبناء المساجد المحتاج إليها مستحب، وعده بعض أصحابنا من فروض الكفايات، ومراده: أنه لا يجوز أن يخلي مصر أو قرية يسكنها المسلمون من بناء مسجد فيها.(3/323)
ويدل لهذا: مما روى موسى بن إسماعيل، عن عبد العزيز بن زياد أبي حمزة الحبطي، عن أبي شداد - رجل من أهل دما -، قال: جاءنا كتاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قطعة ادم: ((من محمد النبي إلى أهل عمان، سلام: أما بعد؛ فأقروا بشهادة أن لا اله إلا
الله، وأني رسول الله، وأدوا الزكاة، وخطوا المساجد كذا وكذا، والا غزوتكم)) .
خرجه البزار والطبراني.
وخرجه أبو القاسم البغوي في ((معجمه)) - مختصرا -، وعنده: عبد العزيز بن نزار الحبطي.
وقد سماه ابن أبي حاتم: عبد العزيز بن زياد الحبطي. وسماه البخاري: في ((تاريخه)) : عبد العزيز بن شداد.
وكانه وهم، ولا يعرف بغير هذا الحديث.(3/324)
66 - باب
يأخذ بنصول النبل إذا مر في المسجد(3/325)
451 - حدثنا قتيبة: ثنا سفيان، قال قلت لعمرو: أسمعت جابر بن عبد الله يقول: مر رجل في المسجد، ومعه سهام، فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((امسك
بنصالها)) ؟ قال: نعم.
وخرجه في موضع أخر من كتابه بلفظ أخر، وهو: أن رجلا مر في المسجد باسهم، قد أبدى نصولها، فأمره أن يأخذ بنصولها، لا تخدش مسلما.
خرجه مسلم من رواية أبي الزبير، عن جابر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر رجلا كان يتصدق بالنبل في المسجد أن لا يمر بها الا وهو اخذ بنصولها.
وقد خرج البخاري في الباب الذي يلي هذا: حديث موسى، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ(3/325)
على نصالها، لا يعقر بكفه مسلما)) .
وخرجه مسلم - أيضا.
وفي الحديث: ذكر علة ذلك، وهو: خشية أن تصيب مسلما من حيث لا يشعر صاحبها، وسوى في ذلك بين السوق والمسجد؛ فان الناس يجتمعون في الأسواق والمساجد فليس للمسجد خصوصية بذلك حينئذ. لكن؛ قَدْ يقال: أن المسجد يختص بقدر زائد عَن السوق، وَهُوَ: أنه قَدْ روي النهي عن إشهار السلاح فيه ونثر النبل.
خرجه ابن ماجه من رواية زيد بن جبيرة، عن داود بن الحصين، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعا -: ((خصال لا ينبغين في المسجد: لا يتخذ طريقا، ولا يشهر فيه سلاحا، ولا ينبض فيه بقوس، ولا ينثر فيه نبل، ولا يمر فيه بلحم نيئ، ولا يضرب فيه حد، ولا يقتص فيه من احد، ولا يتخذ سوقا)) .
ورفعه منكر وزيد بن جبيرة ضعيف جدا، متفق على ضعفه.(3/326)
وخرج - أيضا -: النهي عن سهل السيوف في المسجد، من حديث واثلة - مرفوعا - بإسناد ضعيف جدا.
وقال عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى: لا يسل السيف في المسجد.
خرجه وكيع في كتابه.
وقال أصحابنا: لا يشهر السلاح في المسجد.(3/327)
67 - باب
المرور في المسجد(3/328)
452 - حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا عبد الواحد: ثنا أبو بردة بن عبد الله، قال: سمعت أبا بردة، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها، لا يعقر بكفه مسلما)) .
أبو بردة بن عبد الله، هو بريد بن عبد الله بن أبي بردة.
وقد ذكرنا هذا الحديث في الباب الماضي، وإنما أعاده هاهنا: لأنه استنبط منه جواز المرور في المسجد، وقد ذكرنا حكمه في ((باب: الصلاة إذا دخل المسجد)) .
وقد دل على جوازه - أيضا - قول الله تعالى: {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] ، على قول من تأول النهي: على قربان موضع الصلاة، وهو المسجد، وعابر السبيل: بالمجتاز، وقد سبق ذكره - أيضا.(3/328)
68 - باب
الشعر في المسجد(3/329)
453 - حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع: ابنا شعيب، عن الزهري: اخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أنه سمع حسان بن ثابت يستشهد أبا هريرة: أنشدك الله، هل سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((يا حسان، أجب عن رسول الله، اللهم أيده بروح القدس)) ؟ قال أبو هريرة: نعم.
ليس في هذه الرواية التي خرجها البخاري هاهنا إنشاد حسان في المسجد، إنما فيه ذكر مدح حسان على أجابته عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والدعاء له على ذلك، وكفى بذلك على فضل شعره المتضمن للمنافحة عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والرد على أعدائه والطاعنين عليه، والمساجد لا تنزه عن مثل ذلك.
ولهذا قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن من الشعر حكمة)) .
وقد خرجه البخاري في موضع أخر من حديث أبي بن كعب - مرفوعا.
وخرج - أيضا - من حديث البراء، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لحسان: ((اهجهم - او هاجمهم - وجبريل معك)) .(3/329)
وإنما خص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جبريل وهو روح القدس بنصرة من نصره ونافح عنه؛ لان جبريل صاحب وحي الله إلى رسله، وَهُوَ يتولى نصر رسله وإهلاك أعدائهم المكذبين
لهم، كما تولى إهلاك قوم لوط وفرعون في البحر.
فمن نصر رسول الله وذب عنه أعداءه ونافح عنه كان جبريل معه ومؤيدا له كما قال لنبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] .
وقد خرج البخاري في بدء الخلق عن ابن المديني، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: مر عمر في المسجد وحسان ينشد، فقال كنت انشد فيه، وفيه من هو خير منك ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله، أسمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((اجب عني، اللهم أيده بروح القدس)) ؟ قال: نعم.
وهذا نوع إرسال من ابن المسيب؛ لأنه لم يشهد هذه القصة لعمر مع حسان عند أكثر العلماء الذين قالوا لم يسمع من عمر ومنهم من اثبت سماعه منه شيئا يسيرا.(3/330)
وقد خرج هذا الحديث مسلم، عن غير واحد، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أن عمر مر بحسان - فجعل الحديث كله عن أبي هريرة متصلا.
ورواية ابن المديني اصح، وكذا رواه جماعة عن الزهري.
وروى ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضع لحسان منبرا في المسجد يقوم عليه قائما، يفاخر عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو قالت: ينافح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتقول: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أن الله يؤيد حسان بروح القدس ما يفاخر - او ينافح - عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) .
خرجه الترمذي.
وخرجه - أيضا - في طريق ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة، عن عائشة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله.
وقال: حسن صحيح غريب، وهو حديث ابن أبي الزناد.
يعني أنه تفرد به.(3/331)
وخرجه أبو داود من الطريقين - أيضا -.
وكذلك خرجه الإمام أحمد، وعنده: ((ينافح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشعر)) .
وذكره البخاري في موضع اخرمن صحيحه - تعليقا -، فقال: وقال ابن أبي الزناد.
وخرجه الطبراني، وزاد في حديثه: ((فينشد عليه الأشعار)) .
وروى سماك، عن جابر بن سمرة، قَالَ: شهدت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر من مائة مرة في المسجد، وأصحابه يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية، فربما تبسم معهم.
خرجه الإمام أحمد.
وخرجه النسائي، ولفظه: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس، فيتحدث أصحابه، ويذكرون حديث الجاهلية، وينشدون الشعر، ويضحكون، ويبتسم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرجه مسلم، إلا أنه لم يذكر الشعر.
وقد روى ما يخالف هذا وهو النهي عن إنشاد الأشعار في المساجد:
فروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى(3/332)
أن ينشد في المسجد الأشعار - في حديث ذكره.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي، قال: حديث حسن.
وخرج أبو داود نحوه من حديث حكيم بن حزام، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإسناد فيه نظر وانقطاع.
وروى أبو القاسم البغوي في معجمه من طريق ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن الحارث بن عبد الرحمن بن هشام، عن أبيه، قال: أتى ابن الحمامة السلمي إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد؟ فَقَالَ: أني أثنيت عَلَى ربي تعالى ومدحتك. قَالَ:
((امسك عليك)) ، ثم قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرج به من المسجد، فقال: ((ما أثنيت به على ربك فهاته، وأما مدحي فدعه عنك)) ، فانشد حتى إذا فرغ دعا بلالاً، فأمره أن يعطيه شيئا، ثم اقبل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الناس، فوضع يده على حائط المسجد، فمسح به وجهه وذراعيه، ثم دخل.(3/333)
وهذا مرسل، وفيه جواز التيمم بتراب جدار المسجد، وهو رد على من كرهه من متأخري الفقهاء، وهو من التنطع والتعمق.
وروى وكيع في كتابه عن مبارك بن فضالة، عن ظبيان بن صبيح الضبي، قال: كان ابن مسعود يكره أن ترفع الأصوات في المساجد، أو تقام فيها الحدود، أو ينشد فيها الأشعار، أو تنشد فيها الضالة.
وروى أسد بن موسى في كتاب الورع: ثنا ضمرة، عن ابن عطاء الخراساني، عن أبيه، قال: كان أهل العلم يكرهون أن ينشد الرجل ثلاثة أبيات من شعر في المسجد حتى يكسر الثالث.
وهذا تفريق بين قليل فيرخص فيه، وهو البيت والبيتان، وبين كثيرة، وهو ثلاثة أبيات فصاعدا.
وقال ابن عبد البر: إنما ينشد الشعر في المسجد غباً من غير مداومة. قال: وكذلك كان حسان ينشد.(3/334)
وجمهور العلماء على جواز إنشاد الشعر المباح في المساجد، وحمل بعضهم حديث عمرو بن شعيب على أشعار الجاهلية، وما لا يليق ذكره في المساجد، ولكن الحديث المرسل يرد ذلك.
والصحيح في الجواب: أن أحاديث الرخصة صحيحة كثيرة، فلا تقاوم أحاديث الكراهة في أسانيدها وصحتها.
ونقل حنبل، عن أحمد، قال: مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاصة لا ينشد فيه الشعر، ولا يمر فيه بقطع اللحم، يجتنب ذلك كله، كرامة لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(3/335)
69 - باب
أصحاب الحراب في المسجد(3/336)
454 - حدثنا عبد العزيز بن عبد الله: ثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: اخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة قالت: لقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوما في باب حجرتي، والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسترني بردائه، انظر إلى لعبهم.(3/336)
455 - زاد إبراهيم بن المنذر: ثنا ابن وهب: اخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والحبشة يلعبون بحرابهم.
وخرجه في كتاب: المناقب من طريق عقيل، عن ابن شهاب، ولفظه: رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسترني وان أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، فزجرهم عمر، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((دعهم؛ أمنا بني أرفدة)) يعني: من الأمن.
وإنما ذكر هنا رواية إبراهيم بن المنذر تعليقا؟ لزيادة في الحديث: ذكر الحراب.(3/336)
وقد خرجه الإمام أحمد، عن عثمان بن عمر، عن يونس بهذا الإسناد، وقال فيه: ((يلعبون بحرابهم)) ولم يذكر: ((في المسجد)) .
وخرجه مسلم في ((صحيحه)) عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، قال فيه:
((والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) .
وقد خرجه البخاري في ((عشرة النِّسَاء)) من رواية معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: ((كان الحبشة يلعبون بحرابهم، فيسترني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أنظر، فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن تسمع اللهو)) .
كذا خرجه من رواية هشام بن يوسف، عن معمر.
وقد روي عن عبد الرزاق، عن معمر، وفيه ذكر الحراب في المسجد.
وعند الزهري في هذا الحديث إسناد أخر: رواه عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، خرجه البخاري في ((كتاب: السير)) ومسلم - أيضا - من رواية معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، قال: بينا الحبشة يلعبون عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحرابهم دخل عمر، فأهوى إلى الحصى فحصبهم بها، فقال: ((دعهم يا عمر)) .
قال البخاري: وزاد علي: ثنا عبد الرزاق: أبنا معمر: ((في(3/337)
المسجد)) .
فجمع عبد الرزاق في روايته لهذا الحديث من هذا الوجه - أيضا - بين ذكر الحراب والمسجد.
وخرج - أيضا - في العيدين وفي ((السير)) من رواية أبي الأسود، عن عروة عن عائشة، قالت: كان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب، فإما سالت
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإما قال: تشتهين أن تنظري؟)) قلت: نعم، فأقامني وراءه، خدي على خده، وهو يقول: ((دونكم، بني أرفدة)) ، حتى إذا مللت قال: ((حسبك؟)) قلت نعم. قال: ((فاذهبي)) .
وخرجه مسلم - أيضا.
وفي هذه الرواية زيادة: ((الدرق)) ، وفيها زيادة: أن ذلك كان يوم عيد وليس فيه ذكر المسجد.
وخرج مسلم من حديث جرير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاء حبش يزفون في يوم عيد في المسجد، فدعاني النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوضعت راسي على منكبه، فجعلت أنظر إلى لعبهم حتى كنت أنا التي أنصرف عن النظر إليهم.
وخرجه من طريق يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ومحمد بن بشر، عن هشام ولم يذكرا: ((في المسجد)) .(3/338)
وخرج مسلم - أيضا - من طريق ابن جريج: أخبرني عطاء: أخبرني عبيد
بن عمير، قال: أخبرتني عائشة، أنها قالت للعابين: وددت أني أراهم، فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقمت على الباب أنظر بين أذنيه وعاتقيه، وهم يلعبون في المسجد. قال عطاء: فرس او حبش. قال: وقال لي ابن عتيق: بل حبش.
وقد رَوَى أن ذَلِكَ العيد كَانَ يوم عاشوراء؛ فإنه كَانَ عيداً لأهل الجَاهِلِيَّة ولأهل الكتاب.
فروى ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجه بن زيد، عن أبيه، أن يوم عاشوراء كان يوما تستر فيه الكعبة، وتقلس فيه الحبشة عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر الحديث.
خرجه الطبراني.
والتقلس: اللعب بالسيوف ونحوها من آلات الحرب.
لكن خرج الإمام أحمد، عن وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كانت الحبشة يلعبون يوم عيد، فدعاني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكنت أطلع بين عاتقه فأنظر إليه، فجاء أبو بكر، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((دعها؛ فان لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا)) .
وهذا يدل على أنه كان أحد عيدي المسلمين.
وخرج - أيضا - من حديث أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة،(3/339)
عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يومئذ: ((ليعلم يهود أن في ديننا فسحة، أني أرسلت بحنيفية سمحة)) .
والمقصود من هذا الحديث: جواز اللعب بآلات الحرب في المساجد؛ فان ذلك من باب التمرين على الجهاد، فيكون من العبادات.
ويؤخذ من هذا: جواز تعلم الرمي ونحوه في المساجد، ما لم يخشى الأذى بذلك لمن في المسجد، كما تقدم في الأمر بالإمساك على نصال السهم في المسجد لئلا تصيب مسلما، ولهذا لم تجر عادة المسلمين بالرمي في المساجد.
وقد قال الأوزاعي: كان عمر بن عبد العزيز يكره النصال بالعشي، فقيل له: لم؟ قال: لعمارة المساجد.
ولكن أن كان مسجد مهجور ليس فيه أحد، أو كان المسجد مغلقا ليس فيه إلا من يتعلم الرمي فلا يمنع جوازه حينئذ. والله أعلم.
وحكى القاضي عياض، عن بعض شيوخه، أنه قال: إنما يمنع في المساجد من عمل الصنائع التي يختص بنفعها آحاد الناس وتكتسب به، فأما الصنائع التي يشمل نفعها المسلمين في دينهم كالمثاقفة، وإصلاح آلات الجهاد مما لا امتهان للمسجد في عمله فلا بأس به. والله أعلم.(3/340)
70 - باب
ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد(3/341)
456 - حدثنا علي بن عبد الله: ثنا سفيان، عن يحيى، عن عمرة، عن عائشة، قالت: أتتها بريرة تسألها في كتابتها، فقالت: إن شئت أعطيت أهلك ويكون الولاء لي. وقال أهلها: إن شئت أعطيتها ما بقي - وقال سفيان مرة: إن شئت أعتقتها ويكون الولاء لنا - فلما جاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكرته ذلك، فقال: ((ابتاعيها فأعتقيها؛ فإنما الولاء لمن أعتق)) ، ثم قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر - وقال سفيان مرة: فصعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر - فقال: ((ما بال أقوام يشترطون شروطا ليس في كتاب الله؟ من اشترط شرطا ليس فِي كِتَاب الله فليس لَهُ، وان اشترط مائة مرة)) .
ورواه مَالِك، عَن يَحْيَى، عَن عمرة، أن بريرة – ولم يذكر: ((صعد المنبر)) .
قال علي: قال يحيى وعبد الوهاب، عن يحيى عن عمرة - نحوه.
وقال جعفر بن عون، عن يحيى: سمعت عمرة: سمعت عائشة.(3/341)
حاصل ما ذكره من الاختلاف في إسناد هذا الحديث: أن ابن عيينة رواه عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، فوصله كله.
ورواه مالك في ((الموطإ)) ، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، أن بريرة أتت عائشة - فذكر الحديث، ولم يسند متنه عن عائشة، إلا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: ((اشتريها وأعتقيها؛ فإنما الولاء لمن أعتق)) ، ولم يذكر صعوده على المنبر.
وقد رواه بعضهم عن مالك، فأسنده كله عن يحيى، عن عمرة، عن عائشة، كما رواه سفيان، وليس بمحفوظ عن مالك.
وذكر البخاري، عن ابن المديني، أن يحيى - وهو: ابن سعيد - وعبد الوهاب - وهو: الثقفي - روياه عن يحيى بن سعيد، عن عمرة - نحوه.
والظاهر: أنه أراد أنهما لم يذكرا عائشة في أوله كمالك.
وإن جعفر بن عون رواه عن يحيى بن سعيد: سمعت عمرة، قالت: سمعت عائشة، فصرحت بسماعها من عائشة الحديث كله، وهذا يقوي رواية ابن عيينة.
لكن خرجه الإمام أحمد، عن جعفر بن عون، ولم يذكر فيه السماع.
وفي حديث ابن عيينة شك منه في لفظتين:
إحداهما: هل قال في الحديث: ((ثم قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر)) ؟ أو قال: ((فصعد على المنبر)) ؟(3/342)
وهذا اختلاف قريب؛ لأن المعنى متقارب، غير أن رواية: ((قام على المنبر)) تقتضي أنه خطب بذلك قائما، وليس في مجرد صعوده ما يقتضي قيامه.
والثانية: شك سفيان: هل في الحديث: أن أهل بريرة قالوا لعائشة: ((أن شئت أعتقتها ويكون الولاء لنا)) ؟ أو قالوا: ((إن شئت أعطيتها ما بقي)) بدل: ((أعتقتها)) ؟
وقد خرج ابن خزيمة في مصنف له مفرد في الكلام على حديث بريرة: هذا الحديث، عن عبد الجبار بن العلاء، عن سفيان، وقال فيه: إنهم قالوا لعائشة: ((إن شئت فأعطي ما بقي، ويكون لنا الولاء)) .
وقال: هذه اللفظة: ((فأعطي ما بقي)) وهم؛ ثنا بهذا الخبر عبد الله بن محمد، عن الزهري، عن سفيان، ولم يذكر هذه اللفظة، ورواه الثقفي عن يحيى، وليس فيه هذه اللفظة.
قلت: قد تبين برواية البخاري، عن ابن المديني، عن سفيان، أنه كان يتردد في هذه اللفظة، ولا يجزم بها، وقد رواه الحميدي وغيره عن سفيان، ولم يذكروها، إنما ذكروا: لفظة العتق.(3/343)
ومقصود البخاري بتخريج الحديث في هذا الباب: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب على المنبر في مسجده، وذكر في خطبته أحكام البيع والشراء، فدل على جواز مثل ذلك في المسجد.
وقد روى مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قصة بريرة - أيضا -، وقال في حديثه: فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ((ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله)) ؟ - الحديث.
وقد خرجه البخاري في موضع أخر.
وظاهر هذا: يدل على أنه خطب بذلك على المنبر.
وذكر البيع والشراء يقع على وجهين:
أحدهما: أن يكون ذكرهما على وجه الإفاضة في حديث الدنيا أو في التجارة، فهذا من مباح الكلام في غير المسجد، وقد اختلف في كراهة مثله في المسجد، فكرهه طائفة من العلماء.
قال أصحابنا، منهم ابن بطة وغيره: يكره الحديث فيه، إلا لمصلحة في الدين.
قال أحمد في رواية حنبل: لا أرى لرجل إذا دخل المسجد إلا أن يلزم نفسه الذكر والتسبيح؛ فإن المساجد إنما بنيت لذكر الله عز وجل.
وروى حماد بن سلمة في ((جامعه)) : ثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن عمر بن الخطاب سمع ناسا يذكرون تجاراتهم(3/344)
في المسجد والدنيا، فقال: إنما بنيت المساجد لذكر الله، فإذا أردتم أن تذكروا تجاراتكم فاخرجوا إلى البقيع.
وقال سعيد بن عبد العزيز: رأى أبو الدرداء رجلا يقول لصاحبه في المسجد: اشتريت وسق حطب بكذا وكذا. فقال أبو الدرداء: أن المساجد لا تعمر لهذا.
وقال سفيان: عن رجل، عن الحسن: يأتي على الناس زمان لا يكون لهم حديث في مساجدهم إلا في أمر دنياهم، فليس لله فيهم حاجة، فلا تجالسوهم.
وكره أبو مسلم الخولاني وغيره من السلف.
وروي عن عمر، أنه بنى البطحاء خارج المسجد، وقال: من أراد أن يلغط فليخرج إليها.
ورخص أصحاب الشافعي في التحدث بأمور الدنيا المباحة في المساجد، وأن حصل معه ضحك.
واستدلوا بما خرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام. قال: وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون ويتبسم.
وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يختم مجالسه بكفارة المجلس، وأمر أن تختم المجالس به، وأخبر أنه إن كان المجلس لغوا كانت كفارة له، وروي ذلك عن جماعة من الصحابة، فإذا وقع اللغو في المساجد ثم ختم المجلس بكفارته، فهو شبيه(3/345)
بالبصاق في المسجد ودفنها بعده، كما سبق.
الثاني: أن يكون ذكر البيع والشراء على وجه الإخبار عن أحكامهما الشرعية، وما يجوز من ذلك وما لا يجوز، فهذا من نوع تعليم العلم، وهو من أجل القرب وأفضلها مع صلاح النية فيه.
فإن أقترن بذلك إرادة الإنكار على من باع بيعا غير سائغ، أو شرط في بيعه شرطا غير سائغ، فقد اجتمع فيه حينئذ أمران: تعليم العلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومثل هذا إذا أعلن به على المنابر في المساجد كان أبلغ في إشهاره ونشره وظهوره وارتداع المخالفين له، وهذا كله من أفضل القرب والطاعات.
وحينئذ؛ ففي دخول هذا الحديث في تبويب البخاري نظر، فإن كان قد أشار إلى الاستدلال بهذا الحديث على جواز البيع والشراء في المسجد فهو أبعد وأبعد.
وأما عقد البيع والشراء في المسجد: فقد ورد النهي عنه من حديث عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وحسنه.
وخرج الترمذي والنسائي وابن خزيمة في ((صحيحه)) والحاكم من(3/346)
حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك)) .
وقد روي، عن ابن ثوبان - مرسلا، وهو أصح عند الدارقطني.
وحكى الترمذي في ((جامعه)) قولين لأهل العلم من التابعين في كراهة البيع في المسجد.
والكراهة قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وهو عند أصحابنا كراهة تحريم، وعند كثير من الفقهاء كراهة تنزيه.
وللشافعي قَوْلِ: أنه لا يكره، وَهُوَ قَوْلِ عَطَاء وغيره.
واختلف أصحابنا في انعقاد البيع في المسجد على وجهين.
وفرق مالك بين اليسير والكثير، فكره الكثير دون اليسير، وحكي عن أصحاب أبي حنيفة نحوه.(3/347)
71 - باب
التقاضي والملازمة في المسجد(3/348)
457 - حدثنا عبد الله بن محمد: ثنا عثمان بن عمر: أبنا يونس، عن الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن كعب، أنه تقاضي ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته، فنادى: ((يا كعب!)) ، قال: لبيك يا رسول الله. قال: ((ضع من دينك هذا)) . وأومأ إليه، أي الشطر. قال: لقد فعلت يا رسول الله. قال: ((قم فاقضه)) .
مقصود البخاري: الاستدلال بهذا الحديث على جواز تقاضي الغريم لغريمه في المسجد، ومطالبته بدينه، وملازمته له لطلب حقه؛ فان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم بذلك وسمعه ولم ينكره.
وهذا مما يعتضد به من يجيز البيع والشراء في المسجد، كما دل عليه تبويب البخاري في الباب الماضي.
ومن كره البيع، فرق بينه وبين التقاضي بأن البيع في المسجد ابتداء لتحصيل المال فيه، وذلك يجعل المسجد كالسوق المعد للتجارة، واكتساب الأموال، والمساجد لم تبن لذلك، ولهذا قال عطاء بن يسار وغيره لمن(3/348)
رأوه يبيع في المسجد: عليك بسوق الدنيا، فهذا سوق الآخرة.
أما تقاضي الدين، فهو حفظ مال له، وقد لا يتمكن من مطالبته إلا في المسجد، فهو في معنى حفظ ماله من الذهاب، وفي معنى التحاكم إلى الحاكم في المسجد، كما سبق ذكره.
وممن رخص في المطالبة لغريمه في المسجد: عطاء وابن جريج.
وفي إشارة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده، وإيمائه إليه، أن يضع الشطر: دليل على أن إشارة القادر على النطق في الأمور الدينية مقبولة كالفتيا ونحوها، وقد سبق ذكر ذلك في ((كتاب: العلم)) .
ولم يكن هذا من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكما؛ لأنه لم يستوف شرائط الحكم من ثبوت الدين ونحوه، وإنما كان على وجه الإصلاح. والله أعلم.(3/349)
72 - باب
كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان(3/350)
458 - حدثنا سليمان بن حرب: ثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن رجلا أسود - أو أمرأة سوداء - كان يقم المسجد، فمات، فسأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه، فقالوا: مات. فقال: ((أفلا كنتم آذنتموني به؟ دلوني على قبره)) - أو ((على قبرها)) - فأتى قبره فصلى عليها)) .
فيه: دليل على أن المسجد حسن مندوب إليه؛ فان هذا الذي كان يقم المسجد في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن حاله يخفى عليه.
والقم: هو إخراج القمامة، وهي الزبالة.
وقد روي من وجوه أخر أنها كانت امرأة، من غير شك:
فروي إسماعيل بن أبي أويس: حدثني أخي، عن سليمان بن بلال، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: كانت سوداء تلتقط الخرق والعيدان من المسجد، فسأل عنها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقيل: ماتت من الليل، ودفنت، وكرهنا أن نوقظك، فذهب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قبرها، وصلى عليها، وقال: ((إذا مات أحد من المسلمين فلا تدعوا أن تؤذنوني به)) .(3/350)
وروى ابن لهيعة، عن عبيد الله بن المغيرة، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، قال: كانت سوداء تقم المسجد، فتوفيت ليلا، فلما أصبح رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر بموتها، فقال: ((ألا آذنتموني بها؟)) فخرج بأصحابه، فوقف على قبرها، فكبر عليها والناس خلفه، فدعا لها، ثم انصرف.
خرجه ابن ماجه.
وقد روي: أن هذه المرأة يقال لها: أم محجن:
فروى محمد بن حميد الرازي: ثنا مهران بن أبي عمر، عن أبي سنان، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر على قبر حديث عهد بدفن، ومعه أبو بكر وعمر، فقال: ((قبر من هذا؟)) قال أبو بكر: هذه - يا رسول الله - أم محجن، كانت مولعة بأن تلتقط الأذى من المسجد. قال: ((ألا آذنتموني؟)) قالوا: كنت نائما، فكرهنا أن نجهدك. قال: ((فلا تفعلوا؛ فإن صلاتكم على موتاكم تنور لهم في قبورهم)) قال: فصف بأصحابه؛ فصلى عليها.
وفي هذا الإسناد ضعف.
وروى أبو الشيخ الأصبهاني في ((كتاب ثواب الأعمال)) بإسناد له، عن عبيد بن مرزوق، قال: كانت بالمدينة إمرأة يقال لها: أم محجن، تقم(3/351)
المسجد، فماتت، فلم يعلم بها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمر على قبرها، فقال: ((ما هذا القبر؟)) قالوا: أم محجن. فقال: ((التي كانت تقم المسجد؟)) قالوا: نعم. فصف الناس، وصلى عليها، ثم قال: ((أي العمل وجدت أفضل؟)) قالوا: يا رسول الله، أتسمع؟ قال: ((ما أنتم بأسمع منها)) ، فذكر أنها أجابته: قم المسجد.
وهذا مرسل غريب.
وقد ذكرنا فيما تقدم حديث الأمر باتخاذ المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب.
وروى ابن جريج، عن عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((عرضت علي أجور أمتي، حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد)) .
خرجه أبو داود والترمذي.
والمطلب لم يسمع من أنس -: قاله ابن المديني وغير واحد. وابن جريج، قال الدارقطني: لم يسمع من المطلب. قال: ويقال: أنه كان يدلسه عن ابن أبي سبرة وغيره من الضعفاء.
وكنس المساجد وإزالة الأذى عنها فعل شريف، لا يأنف منه من يعلم آداب الشريعة، وخصوصا المساجد الفاضلة، وقد ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(3/352)
رأى نخامة في قبلة المسجد فحكها بيده، وقد سبق هذا الحديث.
وروى وكيع: ثنا كثير بن زيد، عن عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب، أن عمر أتى مسجد قباء على فرس له، فصلى فيه ركعتين، ثم قال: يا أوفى، ائتني بجريدة، فأتاه بجريدة، فاحتجز عمر بثوبه، ثم كسحه.
وقال أبو نعيم الفضل: ثنا أبو عاصم الثقفي، قال: كنت أمشي أنا والشعبي في المسجد، فجعل يطأطئ رأسه، فقلت: ماذا تأخذ؟ قَالَ: المشاط والصوف.(3/353)
73 - باب
تحريم تجارة الخمر في المسجد(3/354)
459 - حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة، قالت: لما أنزلت الآيات من سورة البقرة في الربا خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المسجد، فقرأهن على الناس، ثم حرم تجارة الخمر.
ذكر الخمر بالتحريم - إما لشربه أو للتجارة فيه -: من جملة تبليغ دين الله وشرعه؛ وذلك لأنه تصان عنه المساجد؛ فأن الله ذكر في كتابة الذي يتلى في الصلوات في المساجد: الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، كما ذكر: الزنا والربا وسائر المحرمات من الشرك والفواحش، ولم يزل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتلو ذلك في المسجد في الصلوات وغيرها، ولم يزل يذكر تحريم ما حرمه الله في المساجد وفي خطبه على المنبر، وهذا الباب مما لا تدعو الحاجة إليه؛ لظهوره.
ولكن يشكل في هذا الحديث أمران:
أحدهما: أن تحريم التجارة في الخمر مما شرع من حين نزول تحريم الخمر، ولم يتأخر إلى نزول آيات الربا، فإن آيات الربا من أخرما نزل من(3/354)
القرآن، كما روى البخاري في ((التفسير)) من رواية الشعبي، عن ابن عباس، قال: آخر آية نزلت على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آية الربا.
وفي ((الصحيحين)) عن جابر، أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الفتح وهو بمكة يقول: ((أن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)) .
وخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدري، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((يا أيها الناس، إن الله يعرض بالخمر، ولعل الله سينزل فيها أمرا، فمن كان عنده منها شيء فليبيعه ولينتفع به)) . قال: فما لبثنا إلا يسيرا حتى قال: ((أن الله حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبع)) . قال: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها في طريق المدينة فسفكوها.
وهذا نص في تحريم بيعها مع تحريم شربها.
والثاني: أن آيات الربا ليس فيها ذكر الخمر، فكيف ذكر تحريم التجارة في الخمر مع تحريم الربا؟
ويجاب عن ذلك: بأن مراد عائشة: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر بتحريم التجارة في الخمر مع الربا، وأن كان قد سبق ذكر تحريم بيع الخمر.
وقد روى حجاج بن أرطاة - حديث عائشة -، عن الأعمش بإسناد البخاري، ولفظه: لما نزلت الآيات التي في سورة البقرة نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الخمر والربا.(3/355)
وإنما أراد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والله أعلم - بتحريم التجارة في الخمر مع الربا ليعلم بذلك أن الربا الذي حرمه الله يشمل جميع أكل المال مما حرمه الله من المعاوضات، كما قال:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] ، فما كان بيعا فهو حلال، وما لم يكن بيعا فهو ربا حرام: أي: هو زيادة على البيع الذي أحله الله.
فدخل في تحريم الربا جميع أكل المال بالمعاوضات الباطلة المحرمة، مثل ربا الفضل فيما حرم فيه التفاضل، وربا النساء فيما حرم فيه النسأ، ومثل أثمان الأعيان المحرمة، كالخمر والميتة والخنزير والأصنام، ومثل قبول الهدية على الشفاعة، ومثل العقود الباطلة، كبيع الملامسة والمنابذة، وبيع حبل الحبلة، وبيع الغرر، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، والمخابرة، والسلف فيما لا يجوز السلف فيه.
وكلام الصحابة في تسمية ذلك ربا كثير، وقد قالوا: القبالات ربا، وفي النجش أنه ربا، وفي الصفقتين في الصفقة أنه ربا، وفي بيع الثمرة قبل صلاحها أنه ربا.
وروي: أن غبن المسترسل ربا، وأن كل قرض جر نفعا فهو ربا.
وقال ابن مسعود: الربا ثلاثة وسبعون بابا.(3/356)
وخرجه ابن ماجه والحاكم عنه مرفوعا.
وخرج الإمام أحمد وابن ماجه، أن عمر قال: من آخر ما نزل آية الربا، وأن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبض قبل أن يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة.
يشير عمر إلى أن أنواع الربا كثيرة، وأن من المشتبهات ما لا يتحقق دخوله في الربا الذي حرمه الله، فما رابكم منه فدعوه.
وفي ((صحيح مسلم)) عن عمر، أنه قال: ثلاث وددت أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عهد إلينا عهدا ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا.
وبعض البيوع المنهي عنها نهي عنها سدا لذريعة الربا، كالمحاقلة، والمزابنة، وكذلك قيل في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، وعن بيعتين في بيعة، وعن ربح ما لم يضمن، وبسط هذا موضعه ((البيوع)) .
وإنما أشرنا هنا إلى ما يبين كثرة أنواع أبواب الربا، وأنها تشمل جميع المعاوضات المحرمة، فلذلك لما نزل تحريم الربا نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الربا، وعن بيع الخمر؛ ليبين أن جميع ما نهى عن بيعه داخل في الربا المنهي عنه. والله أعلم.(3/357)
74 - باب
الخدم للمسجد
وقال ابن عباس {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران:35] : للمسجد يخدمها.
هذا من رواية عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وقاله - أيضا -: مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والربيع بن أنس وغيرهم.
وقال قتادة والربيع وغيرهما: كانوا يحررون الذكور من أولادهم للكنيسة يخدمها، فكانت تظن أن ما في بطنها ذكرا، فلما وضعت أنثى اعتذرت من ذلك إلى الله، وقالت: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36] ؛ لأن الأنثى لا تقوى على ما يقوى عليه الذكر من الخدمة، ولا تستطيع أن تلازم المسجد في حيضها ومع الله، فقال الله - عز وجل -: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} [آل عمران:37]- يعني: أن الله قبل نذرها، وأن كان أنثى؛ فإنه أعلم بما وضعت، وهذا كان في دين بني إسرائيل.
وقد ذكر طائفة من المفسرين: أن هذا كان شرعا لهم، وأن شرعنا غير موافق له.
وخالفهم آخرون:(3/358)
قال القاضي أبو يعلى في ((كتاب أحكام القرآن)) : هذا النذر صحيح في شريعتنا، فإنه إذا نذر الإنسان أن ينشئ ولده الصغير على عبادة الله وطاعته، وأن يعلمه القرآن والفقه وعلوم الدين صح النذر.
وهذا الذي قاله حق؛ فقد قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه)) ، فلو نذر أحد أن يخدم مسجداً لله - عز وجل - لزمه الوفاء بذلك مع القدرة، وأما إن نذر أن يجعل ولده لله ملازما لمسجد يخدمه ويتعبد فيه، فلا يبعد أن يلزمه الوفاء بذلك، فإنه نذر طاعة فيلزمه أن يجرد ولده لما نذره له، ويجب على الولد طاعة أبيه إذا أمره بطاعة الله - عز وجل -.
وقد نص الإمام أحمد على أن الكافرين إذا جعلا ولدهما الصغير مسلما صار مسلما بذلك.
ولو وقف عبده على خدمة الكعبة صح -: نص عليه أحمد - أيضا.
ونص في عبد موقوف على خدمة الكعبة أنه إذا أبى أن يخدم بيع واشترى بثمنه عبد يخدم مكانه.
وروى سعيد بن سالم القداح، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، أن معاوية أخدم الكعبة عبيدا بعث بهم إليها، ثم اتبعت ذلك الولاة بعده.
خرجه الأزرقي.(3/359)
قال البخاري:(3/360)
460 - حدثنا أحمد بن واقد: ثنا حماد، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن أمرأة - أو رجلا - كانت تقم المسجد - ولا أراه إلا أمرأة - فذكر حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه صلى على قبرها.
وقد سبق الحديث قريبا بتمامه مع الكلام عليه.
وإنما خرج هاهنا منه ما يدخل في هذا الباب، وهو: أن هذه المرأة كانت تقم المسجد، وتقوم بخدمته وتنظيفه وإخراج القمامة منه.(3/360)
75، 76 - باب
الأسير والغريم يربط إلى سارية المسجد
فيه حديثان:
أحدهما:
قال:(3/361)
461 - ثنا اسحاق بن إبراهيم: ثنا روح ومحمد بن جعفر، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((أن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة)) - أو كلمة نحوها - ((ليقطع علي الصلاة، فأمكنني الله منه، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] )) .
قال روح: ((فرده خاسئا)) .(3/361)
والثاني:
قال:(3/362)
462 - ثنا عبد الله بن يوسف: ثنا الليث: حدثني سعيد بن أبي سعيد، أنه سمع أبا هريرة قال: بعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ((أطلقوا ثمامة)) ، فان طلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
دل هذان الحديثان: على ربط الأسير إلى سارية من سواري المسجد؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن في زمانه سجن يسجن فيه الأسارى، ولهذا لما ندم أبو لبابة على ما قال لبني قريظة ربط نفسه بسارية من سواري المسجد.
وفي بعض نسخ ((كتاب البخاري)) في هذا الباب زيادة:
وكان شريح يأمر بالغريم أن يحبس إلى سارية المسجد.
وروي ذلك عن علي - أيضا -:
قال يعقوب بن شيبة: ثنا عبيد بن يعيش: ثنا صيفي بن ربعي الأنصاري، عن أبيه: حدثني مشيخة الحي، أن عليا استعمل رجلا على عمل، فأتاه، فسأله عن المال، فلم يرفع إليه ما أراد. قال: فشده على أسطوانة من أساطين المسجد، فقال: أد مال الله.(3/362)
وربط الأسير، أن كان من الكفار فربطه من مصالح الدين، وقد أمر الله تعالى به بقوله: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4] .
وإن كان من المسلمين على دين له أو حق ليخرج منه فهو من مصالح المسلمين المحتاج إليها، لحفظ أموالهم واستيفاء حقوقهم، وهو من جنس القضاء في المسجد، وأمر الخصوم بإنصاف بعضهم لبعض، والخروج من الحقوق اللازمة لبعضهم بعضا، وقد سبق أن القضاء في المسجد جائز.
وهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بربط الشيطان هو من عقوبات العصاة المتمردين المتعرضين لإفساد الدين، وليس من جنس إقامة الحدود بالضرب والقطع حتى تصان عنه المساجد، إنما هو حبس مجرد، فهو كحبس الأسارى من الكفار.
وبقية فوائد الحديثين تذكر في مواضع أخر - إن شاء الله تعالى.(3/363)
77 - باب
الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم(3/364)
463 - حدثنا زكريا بن يحيى: ثنا عبد الله بن نمير: ثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: أصيب سعد يوم الخندق في الأكحل، فضرب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلم يرعهم - وفي المسجد خيمة من بني غفار - إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دما، فمات فيها.
في الحديث: دليل على جواز ضرب الخيام في المسجد؛ فإنه كان فيه خيمة لبني غفار، وضرب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيمة لسعد بن معاذ لما رمي بسهم في أكحله يوم الخندق، وقصد بذلك أن يعوده من قرب؛ فإن منزله كان فيه بعد عن المسجد.
وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضرب له قبة في اعتكافه في المسجد، وأزواجه معه، وقد كان للأمة السوداء حفش أو خباء في المسجد كما سبق، وروي أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنزل وفد ثقيف في قبة في المسجد.
وقد اختلف العلماء في ذلك: فكره أحمد للمعتكف أن يضرب خيمة ونحوها في المسجد، إلا لشدة البرد، ورخص فيه إسحاق(3/364)
إذا كان قصده أن يصون المسجد عما يكون منه من حدث أو سقوط شيء من طعامه في المسجد -: نقله عنهما إسحاق بن منصور في ((مسائله)) .
ومن رخص في ضرب الأخبية ونحوها في المساجد - كما دلت عليه الأحاديث في هذا الباب - قال: هي لا تتأبد، فلا تكون ممنوعة، بخلاف ما يتأبد كالغراس والبناء، فإنه لا يجوز.
وقد نص أحمد على منع الغراس في المساجد، وهو قول مالك: وقال أصحاب الشافعي: يكره. وحكي جوازه عن الأوزاعي.(3/365)
78 - باب
إدخال البعير في المسجد للعلة
وقال ابن عباس: طاف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بعير.(3/366)
464 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة، قالت: شكوت إلى
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني أشتكي. قال: ((طوفي من وراء الناس، وأنت راكبة)) ، فطفت ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى جنب البيت، يقرا بالطور وكتاب مسطور.
حديث ابن عباس في طواف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بعير، قد خرجه البخاري في ((كتاب: الحج)) مع حديث أم سلمة هذا في ((باب: طواف المريض راكبا)) .
وبوب على الحديثين هاهنا: ((إدخال البعير في المسجد للعلة)) - يعني: لحاجة إلى إدخاله، مثل أن يطوف عليه في مرضه.
وقد جاء في رواية أخرى في هذا الحديث: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أم سلمة أن تطوف على بعيرها.
وإدخال ما يوكل لحمه من الحيوانات إلى المساجد ينبني على حكم بولها وروثها: فمن قال: أنه طاهر أجازه، ولم يكرهه للحاجة إليه.(3/366)
وقد استدل أصحابنا وأصحاب مالك بهذه الأحاديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه، وقالوا: لو كان بول البعير نجسا لم يدخل المسجد.
وقد خرج البخاري في ((كتاب: العلم)) حديث قدوم ضمان بن ثعلبة ودخوله المسجد وعقله بعيره فيه، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متكئ في المسجد.
ومن قال: أنه نجس كره دخولها، وقد صرح به أصحاب الشافعي، وقالوا: إنما طاف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بعيره لبيان الجواز.
وهذا مردود بأمره أم سلمة بالطواف راكبة، وبإقراره ضماما على عقل بعيره في المسجد.
وأما ما لا يؤكل لحمه من الحيوانات، فيكره إدخاله المسجد بغير خلاف، وقد نص عليه مالك في الكلاب وجوارح الطير، ورخص أحمد في غلق المساجد؛ لئلا تدخلها الكلاب.
وقد روي عن عمر، أنه نهى عن الطواف بالبيت راكبا على فرس ونحوها.
فروى سفيان: عن عمرو بن دينار، قال: طاف رجل بالبيت على فرس، فمنعوه، فقال: أتمنعوني؟ فكتب في ذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر: أن امنعوه.
وإنما منع عمر من ذلك مبالغة في صيانة المسجد؛ ولئلا يؤذي الراكب الماشين في الطواف. والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/367)
79 - باب(3/368)
465 - حدثنا محمد بن المثنى: ثنا معاذ بن هشام: ثنا أبي، عن قتادة: ثنا أنس، أن رجلين من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرجا من عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ليلة مظلمة، ومعهما مثل المصباحين يضيئان بين أيديهما، فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحد حتى أتى أهله.
وخرج في ((المناقب)) من رواية همام: ثنا قتادة، عن أنس، أن رجلين خرجا من عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ليلة مظلمة، فإذا نور بين أيديهما، حتى تفرقا فتفرق النور معهما.
قال البخاري: وقال معمر، عن ثابت، عن أنس، أن أسيد بن حضير ورجلا من الأنصار. وقال حماد: أبنا ثابت، عن أنس: كان أسيد بن حضير وعباد بن بشر عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وهاتان الروايتان المعلقتان ليستا على شرطه؛ لأن روايات معمر عن ثابت رديئة -: قاله ابن معين وابن المديني وغيرهما؛ فلذلك لا(3/368)
يخرج البخاري منها شيئا، وحماد بن سلمة لم يخرج له شيئا استقلالا.
وفي رواية حماد بن سلمة: أن هما كانا عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتحدثا عنده في ليلة ظلماء حندس، ثم خرجا من عنده.
فيحتمل أنهما كانا عنده في المسجد، وأنهما كانا عنده في بيته:
فإن كان اجتماعهما به في المسجد فإنه يستفاد من الحديث أن المشي إلى المساجد والرجوع منها في الليالي المظلمة ثوابه النور من الله عز وجل، وذلك يظهر في الآخرة عيانا، وأما في الدنيا فقد يستكن النور في القلوب، وقد يظهر أحيانا كرامة لمن أراد الله كرامته ولم يرد فتنته.
وإن اجتماعهما عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيته، فإنه يستنبط منه فضيلة الذهاب إلى المساجد والرجوع منها في الظلم – أيضا -؛ فإنه أفضل(3/369)
ما مشى إليه المسلمون في الدنيا، فيلتحق بالمشي إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته ذهابا إليه ورجوعا من عنده.
وإنما اقتصر البخاري على هذا الحديث في هذا الباب؛ لأن الأحاديث الصريحة فِي تبشير المشائين إلى المساجد فِي الظلم بالنور التام يوم القيامة ليس شيء مِنْهَا عَلَى
شرطه، وإن كانت قد رويت من وجوه كثيرة.
ولكن يستدل - أيضا - لفضيلة المشي إلى المساجد في الظلم بما في ((الصحيحين)) من رواية أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا)) .
ويستدل - أيضا - بحديث أنس الذي خرجه البخاري هاهنا على جواز الاستضاءة في الرجوع من المسجد في الليالي المظلمة.
وقد ورد حديث أصرح من هذا:
خرجه الإمام أحمد من رواية فليح بن سليمان، عن سعيد بن الحارث، عن أبي سلمة، سمع أبا سعيد الخدري، قال: هاجت السماء ليلة، فلما خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصلاة العشاء الآخرة برقت برقة، فرأى قتادة بن النعمان، فقال: ((ما السرى يا قتادة؟)) قال: علمت أن شاهد الصلاة قليل، فأحببت أن أشهدها. قال: ((فإذا صليت فاثبت حتى أمر بك)) ، فلما انصرف أعطاه عرجونا، وقال: ((خذ هذا يستضيء لك أمامك عشرا وخلفك عشرا)) - وذكر حديثا فيه طول.
وهذا إسناد جيد.(3/370)
وقد كان السلف يختارون المشي إلى صلاة العشاء والصبح في غير ضوء.
وروي عن سعيد بن المسيب، أنه قال لقوم معهم ضوء يمشون به إلى المساجد: ضوء الله خير من ضوئكم.
ولما ولى عمر بن عبد العزيز أبا بكر بن حزم إمرة المدينة مع قضائها أرسل إلى عمر يطلب منه شمعا كان للأمراء قبله يمشون به إلى المسجد في الليل، فأرسل إليه عمر - رحمه الله - يعاتبه على ذلك، ويأمره أن يفعل كما كان يفعل من قبل ولايته، ويمشي إلى المسجد في الظلمة، وإن ذلك خيرا له.
وقال النخعي: كانوا يرون أن المشي في الليلة الظلماء إلى الصلاة موجبة.
يعني: توجب المغفرة.
وروينا عن الحسن، قال: أهل التوحيد في النار لا يقيدون، فتقول الخزنة بعضهم لبعض: ما بال هؤلاء لا يقيدون وهؤلاء يقيدون؟ فيناديهم مناد: إن هؤلاء كانوا يمشون في ظلم الليل إلى المساجد.
وقد كان بعض المتقدمين يمشي بين يديه الشيطان في الليل إلى المسجد بضوء، فمنهم من يفطن لذلك فلم يغتر به، ومنهم من قل علمه فاغتر وافتتن بذلك؛ فإن جنس هذه الخوارق يخشى منها الفتنة، إلا لمن قوي إيمانه ورسخ في العلم قدمه، وميز بين حقها وباطلها.
والحق منها فتنة - أيضا -؛ فإنه شبيه بالقدرة والسلطان الذي يعجز عنه كثير من الناس، فالوقوف معه والعجب به مهلك، وقد اتفق على ذلك مشايخ العارفين الصادقين، كما ذكره عنهم أبو طالب المكي في كتابه ((قوت القلوب)) ،(3/371)
وأنهم رأوا الزهد فيه كما آثروا الزهد في الملك والسلطان والرياسة والشهرة؛ فإن ذلك كله فتنة ووبال على صاحبه، إلا لمن شكر عليه وتواضع فيه وخشي من الافتتان به.
وقد اخبر الله تعالى عن سليمان - عليه السلام - أنه لما رأى عرش ملكة سبأ عنده قال:
{قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40] .
وقد قيل: إن مراد البخاري بهذا الباب، وتخريج هذا الحديث فيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في مسجده بالليل في الظلمة، من غير سراج ولا ضوء، ولهذا خرجا من عنده ومعهما مثل المصباحين، وهذا يدل على أن هذا الضوء صحبهما من قبل مفارقته من المسجد، فلو كان في المسجد مصباح لما احتاجا إلى الضوء إلا بعد خروجهما.
وهذا حق - أعني: صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه في المسجد في غير مصباح -، وقد اخبر أنس أنه رأى بريق خاتم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي في يده من فضة في الليل، وهذا إنما يكون في الظلمة.
وقيل: أن أول من أسرج مسجد المدينة تميم الداري في عهد عمر. وكان تميما اخذ الإيقاد في المساجد مما عرفه بالشام من إيقاد المسجد الأقصى.
وقد روى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر بإرسال زيت إلى المسجد الأقصى يسرج في قناديله، وقال: أن ذلك يقوم مقام الصلاة فيه.(3/372)
وقد أبو داود.
وفي إسناده نظر.
وفي ((سنن ابن ماجه)) بإسناد ضعيف، عن أبي سعيد الخدري، قال: أول من أسرج المساجد تميم الداري.
والمراد به: المساجد في الإسلام.(3/373)
80 - باب
الخوخة والممر في المسجد(3/374)
466 - حدثنا محمد بن سنان: ثنا فليح: ثنا أبو النضر، عن عبيد بن حنين، عن بسر بن سعيد، عن أبي سعيد الخدري، قال: خطب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ((أن الله خير عبدا بَيْن الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله)) ، فبكى أبو بكر، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ؟ إن يكن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله عز وجل، فكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال: ((يا أبا بكر، لا تبك، أن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر)) .(3/374)
467 - حدثنا عبد الله بن محمد الجعفي: ثنا وهب بن جرير: ثنا أبي، قال: سمعت يعلي بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((أنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذا من الناس(3/374)
خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر - رضي الله عنه -)) .
حديث أبي سعيد، قد رواه - أيضا - مالك، عن أبي النضر. وخرجه البخاري من طريقه في موضع أخر، وخرجه مسلم من طريق مالك وفليح - أيضا.
وإنما خرج لفليح متابعة، ولم يخرج حديث ابن عباس؛ فإنه لا يخرج لعكرمة إلا متابعة - أيضا -، وحديث ابن عباس إنما يرويه عنه عكرمة.
وقد روى بعضه أيوب، عن عكرمة، وخرجه البخاري في موضع أخر.
هذه الخطبة التي خطبها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا اليوم كانت أخر خطبة خطبها على المنبر، فعرض فيها باختياره لقاء الله على المقام في الدنيا، واخبر أنه أعطى مفاتيح خزائن الدنيا، وخير بين أن يبقى ما شاء الله وبين لقاء ربه فاختار لقاء ربه، ولكنه لم يصرح بتخييره، واختار في نفسه وإنما قال: ((إن عبدا خير)) ، فلم يتفطن لذلك احد غير أبي بكر الصديق، وكان أبو بَكْر أعلمهم برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأفهمهم عنه، وهذا من الفهم في العلم الذي يخص الله به من شاء من عباده.(3/375)
وذكر في هذه الخطبة تخصيص أبي بكر من بين الصحابة كلهم بالفضل، وأومأ إلى خلافته بفتح بابه إلى المسجد، وسد أبواب الناس كلهم، ففي ذلك إشارة إلى أنه هو القائم بالإمامة بعده، فإن الإمام يحتاج إلى استطراق المسجد، وذلك من مصالح المصلين فيه.
وفي هذه الخطبة وصى بالأنصار، وأمر من يلي الأمر بالإحسان إليهم، وفيه إشارة إلى أنه ليس لهم من الأمر شيء، كما ظنه من قال منهم للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير.
وفي هذه الخطبة اخبر عن نفسه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه فرط لهم على الحوض - يعني: أنه سابق لهم إلى الحوض -، وهو ينتظرهم عنده، فهو الموعد بينه وبينهم، وحذر من الاغترار بزهرة الدنيا، والركون اليها؛ فإنه كان قد أعطى خزائنها فاختار لقاء ربه قبل ذلك، وفتحت بعده على أمته.
وهذا كله ثابت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد خرج البخاري في ((كتابه)) هذا، فبعضه من حديث أبي سعيد، وبعضه من حديث عقبة بن عامر، وبعضه من حديث ابن عباس، وبعضه من حديث أنس.
وروى - أيضا - أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصى في تلك الخطبة بتنفيذ جيش أسامة، وذكر
فضله، ووصى به خيرا.(3/376)
ونحن نذكر هذه الأحاديث هاهنا.
فأما حديث أبي سعيد: فقد خرجه البخاري ها هنا، وفي غير موضع، وخرجه مسلم - أيضا.
وخرج الإمام أحمد وابن حبان في ((صحيحه)) من رواية أنيس بن أبي يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد، قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه الذي مات فيه، وهو معصوب الرأس، فاتبعه حتى قام على المنبر، فقال: ((إني الساعة قائم على الحوض)) ، ثم قال: ((إن عبدا عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة)) . قال: فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر، فقال: بأبي وأمي، بل نفديك بأموالنا وأنفسنا. قال: ثم هبط من المنبر، فما رئي عليه حتى الساعة.
وأما حديث عقبة بن عامر: فخرجه البخاري في ((غزوة أحد)) من رواية أبي الخير، عن عقبة، قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على قتلى احد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر، فقال: ((إني بين أيديكم فرط، وأنا شهيد عليكم، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها)) .(3/377)
قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرجه مسلم - أيضا -، وعنده: قال عقبة: فكانت أخر ما رأيت رسول الله على المنبر.
وتوديعه للأحياء والأموات: هو أنه صلى على الموتى واستغفر لهم وهنأهم بما هم فيه من سبقهم للفتن.
وتوديعه للأحياء: هو نصيحتهم وتحذيرهم من الاغترار بالدنيا، وإيماؤه إلى أنه منتقل عنهم إلى الآخرة، وأنه سابق لهم إلى الحوض، فهو موعدهم.
وقد كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى أهل البقيع بالليل فاستغفر لهم، ثم ذهب إلى شهداء احد بالنهار فاستغفر لهم، ثم رجع فخطب هذه الخطبة، وودع الأحياء.
ففي ((المسند)) عن أبي مويهبة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج ليلة إلى البقيع فاستغفر لأهل البقيع، وقال: ((ليهنكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس، أقبلت الفتن - كقطع الليل المظلم، يتبع بعضها بعضا، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى)) ، ثم قال: ((يا أبا مويهبة إني قد أعطيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي، فاخترت لقاء ربي والجنة)) . ثم انصرف، فابتدأه وجعه الذي(3/378)
قبضه الله فيه.
وذكر ابن سعد بإسناده عن زيد بن أسلم، قال: أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث مرات، كل مرة يقال له: صل على أهل البقيع، فيفعل ذلك، وقال: ((اللهم اغفر لأهل البقيع)) ، ثم أمر أن يأتي الشهداء، فذهب إلى أحد، فصلى على قتلى أحد، فرجع معصوب الرأس، فكان بدء الوجع الذي مات فيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأما حديث ابن عباس: فقد خرجه البخاري هاهنا.
وخرج في ((المناقب)) - أيضا - من حديث عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج وعليه ملحفة متعطفا بها، وعليه عصابة برد دسماء حتى جلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ((أما بعد، أيها الناس، فإن الناس يكثرون ويقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمرا يضر فيه أحدا آو ينفعه فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم)) .
وخرجه ابن سعد في ((طبقاته)) ، وزاد فيه: ((وكان آخر مجلس جلسه حتى قبض - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) .
وأما حديث أنس: فخرجه البخاري في ((المناقب)) من حديث هشام بن زيد، عن أنس، قال: خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد عصب على رأسه حاشية برد(3/379)
فصعد المنبر - ولم يصعده بعد ذلك اليوم -، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((أوصيكم بالأنصار؛ فأنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم)) .
وأما أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتجهيز جيش أسامة: فقد خرجه ابن سعد بإسناد فيه ضعف عن عروة - مرسلا -، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد بعث أسامة وأمره أن يوطئ الخيل نحو البلقاء حيث قتل أبوه وجعفر، فجعل أسامة وأصاحبه يتجهزون، وقد عسكر بالجرف، فاشتكى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على ذلك، ثم وجد من نفسه راحة، فخرج عاصبا رأسه، فقال: ((أيها الناس، أنفذوا بعث أسامة)) - ثلاث مرات -، ثم دخل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستعز به، فتوفي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد خرجا في ((الصحيحين)) من حديث ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أثنى على أسامة ووصى به، وقال: ((أنه لخليق بالإمارة)) .
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر)) .
قال الخطابي: معنى قوله: ((أمن)) ، أي: أبذل لنفسه وأعطى لماله، والمن: العطاء من غير استثابة، ومنه قوله تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} [ص:39] وقوله: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] أي: لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت، ولم يرد به المنة؛ فإنها تفسد الصنيعة، ولا منة لأحد على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل له المنة على جميع(3/380)
الأمة.
وأما قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا)) يدل على أن مقام الخلة أفضل من مقام المحبة؛ فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحب أبا بكر وقد نفى عنه الخلة، والله تعالى يحب أنبياءه ورسله كلهم، ولم يخص بالخلة غير محمد وإبراهيم صلى الله عليهما.
وفي ((صحيح مسلم)) ، عن ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((ألا إني أبرأ إلى كل خل من خلته، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، وإن صاحبكم خليل الله)) .
وفي رواية له - أيضا -: ((لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا)) .
وخرج مسلم - أيضا - من حديث جندب بن عبد الله: سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل موته بخمس يقول: ((قد كان لي منكم أخلاء وأصدقاء، وإني أبرأ إلى كل ذي خلة من خلتة، ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا)) .
والظاهر: أن جندب سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول ذلك في خطبته هذه، فإن كان كذلك فلعل خطبته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت يوم الأربعاء؛ فإنه توفي يوم الاثنين، واشتد وجعه يوم الخميس، كما قال ذلك ابن عباس، فالظاهر أنه لم يخرج(3/381)
فيه إلى الناس، أو لعله أعاد هذا القول في بيته فسمعه جندب، وهذا أظهر - والله أعلم -؛ فإن خطبة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه كانت في ابتداء مرضه، وكانت مدة مرضه فوق عشرة أيام. والله أعلم.
وقد أشار - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى سبب براءته من خلة المخلوقين، وهو أن الله اتخذه خليلا لنفسه كما اتخذ إبراهيم خليلا، ومن كان خليلا لله فلا يصلح له أن يخالل بشرا.
ومن هنا قيل: إن إبراهيم - عليه السلام - إنما أمر بذبح ولده إسماعيل لتفريغ قلبه من محبته وشدة تعلقه به، حيث وهب له على الكبر، فلما بادر إلى اضطجاعه وإخراجه من قلبه امتثالا لأمر الله وطاعته أسقط عنه ذبحه بعد ذلك؛ لأنه لم يكن المقصود إراقة دمه، بل تفريغ محل الخلة منه، حتى لا تزاحم خلة الواحد الأحد محبة الولد.
والخلة: هي المحبة المبالغة المخللة لمسالك الروح من القلب والجسد، كما قيل.
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبهذا سمي الخليل خليلا
وهذا لا يصح لغير الله، وإنما يصلح للمخلوق المحبة، وهي درجة دون الخلة، فلهذا اقتصر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حق الصديق على الأخوة(3/382)
والمودة، وهي أخوة الإسلام المشار إليها في حديث ابن عباس الذي خرجه هاهنا.
وقد خرجه في ((المناقب)) من حديث أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، وفيه: ((ولكن أخوة الإسلام أفضل)) .
ولعل هذه الرواية أصح، وأيوب يقدم على يعلى بن حكيم في الحفظ والضبط.
وكان أبو بكر مقدما على سائر الرجال في المحبة من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ولهذا لما سأله عمرو بن العاص عن أحب الناس إليه؟ قال: ((عائشة)) قال: ((فمن الرجال؟ قال: ((أبوها)) .
وقال عمر لأبي بكر يوم السقيفة: أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقوله: ((سدوا عني كل باب في المسجد، إلا باب أبي بكر)) ، وفي حديث ابن عباس: ((كل خوخة)) .
قال الخطابي: الخوخة: بويب صغير.
قال: وفي أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد غير بابه اختصاص شديد له، وأنه أفرده بأمر لا يشاركه فيه أحد، وأول ما يصرف التأويل فيه الخلافة، وقد أكد الدلالة عليها بأمره إياه بإمامة الصلاة التي لها بني المسجد، ولأجلها يدخل إليه من أبوابه.
قال: ولا أعلم دليلا في إثبات القياس والرد على نفاته أقوى من(3/383)
إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على استخلاف أبي بكر؛ مستدلين في ذلك باستخلاف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياه في أعظم أمور الدين وهو الصلاة، وإقامته إياه فيها مقام نفسه، فقاسوا عليها سائر أمور الدين. انتهى.
وأشار بإجماع الصحابة في ذلك إلى ما روى ابن مسعود، قال: لما قبض
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير. قال: فأتاهم عمر، فقال: يا معاشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أمر أبا بكر يؤم الناس؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر.
خرجه الإمام أحمد، وعلي بن المديني، وقال: هو صحيح، والحاكم، وقال: هُوَ صحيح الإسناد.
وقد روي هذا المعنى عن طائفة من الصحابة، منهم: علي والزبير وأبو عبيدة بن الجراح، - رضي الله عنهم - أجمعين.
وقد دل أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسد الأبواب الشارعة في المسجد على منع إحداث الاستطراق إلى المساجد من البيوت؛ فإن ذلك نفع يختص به صاحب الاستطراق، فلا يجوز في المساجد كما لا يجوز الاستطراق إلى أملاك الناس بغير إذنهم.
وهذا بخلاف وضع الخشب على جدار المسجد، فإن فيه عن الإمام أحمد روايتين؛ لأن هذا النفع يجوز عنده في ملك الجار بغير إذنه، بخلاف الاستطراق إلى ملك الجار، فإنه غير(3/384)
جائز.
واستثنى من ذلك الإمام ومن يتبعه؛ فإن استطراقه إلى المسجد فيه نفع يعود بمصلحة المصلين عموما، فكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته يستطرق إلى المسجد هو وآل بيته تبعا له، ولهذا روي أنه أمر بسد الأبواب غير باب علي، كما خرجه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما من وجوه.
فلما انقضت مدته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الدنيا سد الأبواب كلها إلى المسجد غير باب أبي بكر؛ لأنه الإمام بعده، واستطراقه إلى المسجد من بيته فيه نفع عام يعود على المصلين كلهم. والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/385)
81 - باب
الأبواب والغلق للكعبة والمساجد
وقال لي عبد الله بن محمد: ثنا سفيان، عن ابن جريج، قال: قال لي ابن أبي مليكة: يا عبد الملك، لو رأيت مساجد ابن عباس وأبوابها.
هذا الأثر رواه الإمام أحمد، عن ابن عيينة.
قال يعقوب بن بختان: سئل أبو عبد الله - يعني: أحمد - عن المسجد يجعل له أبواب؟ فلم ير به بأسا، وقال: ثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، قال: قال لي ابن أبي مليكة: لو رأيت مساجد ابن عباس وأبوابها.
وقال جعفر بن محمد: سمعت أبا عبد الله يسأل عن المسجد يغلق بابه؟ قال: إذا خاف أن يدخله كلب او صبيان.
وقال في رواية مهنا: ينبغي أن تجنب الصبيان المساجد.
وقال أصحاب الشافعي: لا بأس بإغلاق المسجد في غير وقت الصلاة؛ لصيانته أو حفظ آلاته.
قال بعضهم: هذا إذا خيف امتهانه وضياع ما فيه، ولم تدع إلى فتحه حاجة، فأما إذا لم يخف من فتحه مفسدة ولا انتهاك حرمة، وكان فيه(3/386)
رفق بالناس، فالسنة فتحه، كما لم يغلق مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زمنه ولا بعده.
وقالوا: يكره إدخال المجانين والصبيان - الذين لا يميزون - المساجد، ولا يحرم ذلك؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى وهو حامل أمامة، وفعله لبيان الجواز.
وقال أصحاب مالك: إذا كان الصبي يعبث فلا يؤت به المسجد، وإن كان لا يعبث ويكف إن نهي فجائز.
قالوا: وإن أتى أباه وهو في الصلاة المكتوبة نحاه عن نفسه، ولا بأس بتركه في النافلة.
وخرج ابن ماجه بإسناد ضعيف، عن واثلة مرفوعا: ((جنبوا مساجدنا صبيانكم، ومجانينكم)) .
وروي عن بعض السلف أن أول ما استنكر من أمر الدين لعب الصبيان في المساجد.
واختلف الحنفية في إغلاق المساجد في غير أوقات الصلوات: فمنهم من كرهه؛ لما فيه من المنع من العبادات. ومنهم من أجازه؛ لصيانته وحفظ ما فيه.
قال البخاري - رحمه الله -:(3/387)
468 - ثنا أبو النعمان وقتيبة بن سعيد، قالا: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم مكة، فدعا عثمان بن طلحة ففتح الباب، فدخل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبلال وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة، ثم أغلق الباب، فلبث فيه ساعة، ثم خرجوا. قال ابن عمر: فبدرت فسألت بلالا، فقال: صلى فيه، فقلت في أي؟ قال: بين الأسطوانتين. قال ابن عمر: فذهب علي أن أساله: كم صلى؟
هذا الحديث يدل على أن الكعبة كان لها باب يغلق عليهم ويفتح، ولم يزل ذلك في الجاهلية والإسلام، وقد أقر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها على ما كانت عليه، ودفع مفتاح الكعبة إلى عثمان بن(3/387)
طلحة، وأقره بيده على ما كان.
وفي ((المسند)) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عائشة أن تطلب من شيبة أن يفتح لها الكعبة ليلا، فأتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: والله ما فتحته بليل في جاهلية ولا في إسلام، فقال: ((فانظر ما كنت تصنع فافعله، ولا تفتحه)) وأمر عائشة أن تصلي في الحجر.
وقد روي عن ابن جريج وغيره، أن أول من جعل للكعبة بابا يغلق وكساها كسوة كاملة تبع.
وذكر ابن إسحاق أن ذلك بلغه عن غير واحد من أهل العلم -: ذكره الأزرقي في ((أخبار مكة)) .
ولكن الكعبة لا تقاس بها سائر المساجد في صيانتها(3/388)
واحترامها؛ فإن سائر المساجد إنما تراد ليعبد الله فيها، فإغلاقها لغير حاجة يمنع من المقصود منها، وأما الكعبة فالعبادة حولها لا فيها؛ فإن أخص العبادات منها الطواف، وإنما يطاف حولها ثم الصلاة، وإنما يصلى إليها.
وقد اختلف العلماء في الصلاة فيها كما سبق ذكره، وكذلك الاعتكاف، فإغلاقها لا يمنع حصول المقصود منها من عبادة الله حولها.
وأما غلق المسجد الحرام المبني حولها، فحكمه حكم غلق سائر المساجد أو أشد؛ لما فيه من منع الطواف الذي لا يتمكن منه في غير ذلك المسجد، بخلاف غلق سائر المساجد؛ فإنه لا يتعذر بإغلاقها الصلاة؛ فإن الأرض كلها مسجد. والله أعلم.(3/389)
82 - باب
دخول المشرك المسجد(3/390)
469 - حدثنا قتيبة: ثنا الليث، عن سعيد بن أبي سعيد، أنه سمع أبا هريرة يقول: بعث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيل قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد.
قد سبق هذا الحديث بأتم من هذا السياق في ((باب: الأسير يربط في
المسجد)) ، وفيه: أن ثمامة حين ربط كان مشركا، وأنه إنما أسلم بعد إطلاقه.
وفي هذا: دليل على جواز إدخال المشرك إلى المسجد، لكن بإذن المسلمين.
وقد أنزل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفد ثقيف في المسجد؛ ليكون أرق لقلوبهم.
خرجه أبو داود من رواية الحسن، عن عثمان بن أبي العاص.
وروى وكيع، عن سفيان، عن يونس، عن الحسن، قال: إن وفدا(3/390)
قدموا على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ثقيف، فدخلوا عليه المسجد، فقيل له: إنهم مشركون؟ قال: ((الأرض لا ينجسها شيء)) .
وخرجه أبو داود في ((المراسيل)) من رواية أشعث، عن الحسن، أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضرب لهم قبة في مؤخرة المسجد؛ لينظروا صلاة المسلمين، إلى ركوعهم، وسجودهم، فقيل: يا رسول الله، أتنزلهم المسجد وهم مشركون؟ قال: ((أن الأرض لا تنجس، إنما ينجس ابن آدم)) .
وكذلك سائر وفود العرب ونصارى نجران، كلهم كانوا يدخلون المسجد إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويجلسون فيه عنده.
ولما قدم مشركو قريش في فداء أسارى بدر كانوا يبيتون في المسجد.
وقد روى ذلك الشافعي بإسناد له.
وقد خرج البخاري حديث جبير بن مطعم - وكان ممن قدم في فداء الاسارى -، أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرا في المغرب بالطور. قال: وكان ذلك أول ما وقر الأيمان في قلبي.
وخرج البخاري فيما سبق في ((كتاب: العلم)) حديث دخول ضمام بن ثعلبة المسجد، وعقله بعيره فيه، وسؤاله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الإسلام، ثم أسلم عقب ذلك. وروى أبو داود في المراسيل بإسناد عن الزهري، قال: اخبرني(3/391)
سعيد بن المسيب، أن أبا سفيان كان يدخل المسجد بالمدينة وهو كافر، غير أن ذلك لا يصلح في المسجد الحرام؛ لما قَالَ الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28]
وقد اختلف أهل العلم منهم في دخول الكافر المسجد، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وحكي رواية عن أحمد، رجحها طائفة من أصحابنا.
قال أصحاب الشافعي: وليس له أن يدخل المسجد إلا بأذن المسلم. ووافقهم طائفة من أصحابنا على ذلك.
وقال بعضهم: لا يجوز للمسلم أن يأذن فيه إلا لمصلحة من سماع قرآن، أو رجاء إسلام، أو إصلاح شيء ونحو ذلك، فأما لمجرد الأكل واللبث والاستراحة فلا.
ومن أصحابنا: من أطلق الجواز، ولم يقيده بإذن المسلم.
وهذا كله في مساجد الحل، فأما المسجد الحرام فلا يجوز للمسلمين الإذن في دخوله للكافر، بل لا يمكن الكافر من دخول الحرم بالكلية عند الشافعي وأحمد وأصحابهما.
واستدلوا بقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] ، وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر مناديا ينادي: ((لا يحج بعد العام مشرك)) .
وأجازه أبو حنيفة وأصحابه.(3/392)
فأما مسجد المدينة، فالمشهور عندنا وعند الشافعية أن حكمه حكم مساجد الحل.
ولأصحابنا وجه: أنه ملحق بالمسجد الحرام؛ لأن المدينة حرم، وحكي عن ابن حامد، وقاله القاضي أبو يعلى في بعض كتبه.
وهذا بعيد؛ فإن الأحاديث الدالة على الجواز إنما وردت في مسجد المدينة بخصوصه، فكيف يمنع منه ويخص الجواز بغيره؟
وقالت طائفة: لا يجوز تمكين الكافر من دخول المساجد بحال، وهذا هو المروي عن الصحابة، منهم: عمر، وعلي، وأبو موسى الأشعري، وعن عمر بن عبد العزيز، وهو قول مالك، والمنصوص عن أحمد، قال: لا يدخلون المسجد ولا ينبغي لهم أن يدخلوهم.
واستدلوا بقول الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ} [البقرة:114] .
وظاهره: يدل على أن الكفار لا يمكنون من دخول المساجد، فإن دخلوا أخيفوا وعوقبوا، فيكونون في حال دخولهم خائفين من عقوبة المسلمين لهم.
وقد روي عن علي، أنه كان على المنبر فبصر بمجوسي، فنزل وضربه وأخرجه.
خرجه الأثرم.(3/393)
وعلى هذا القول، فأحاديث الرخصة قد تحمل على أن ذلك قبل النهي عنه، أو أن ذلك كان جائزا حيث كان يحتاج إلى تألف قلوبهم، وقد زال ذلك.
وفرقت طائفة بَيْن أهل الذمة وبين أهل الحرب، فقالوا: يجوز إدخال أهل الذمة دون أهل الحرب، وروي عن جابر بن عبد الله وقتادة.
وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ
هَذَا} [التوبة:28] قال: إلا أن يكون عبدا أو أحداً من أهل الذمة.
وقد روى مرفوعا من رواية شريك: ثنا أشعث بن سوار، عن الحسن، عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لا يدخل مسجدنا هذا مشرك بعد عامنا هذا، غير أهل الكتاب وخدمهم)) .
خرجه الإمام أحمد.
وفي رواية له: ((غير أهل العهد وخدمهم)) .
وأشعث بن سوار، ضعيف الحديث.
وقد خص بعض أصحابنا حكاية الخلاف المحكي عن أحمد في المسألة بأهل الذمة.(3/394)
83 - باب
رفع الصوت في المسجد
خرج فيه حديثين:
الحديث الأول: موقوف:(3/395)
470 - ثنا علي بن المديني: ثنا يحيى بن سعيد القطان: ثنا الجعيد بن
عبد الرحمن: ثنا يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد، قال: كنت قائما في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين. قال: فجئته بهما، فقال: من أنتما - ومن أين أنتما؟ - قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -!
إنما فرق عمر بين أهل المدينة وغيرها في هذا؛ لأن أهل المدينة لا يخفى عليهم حرمة مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتعظيمه، بخلاف من لم يكن من أهلها؛ فإنه قد يخفى عليه مثل هذا القدر من احترام المسجد، فعفى عنه بجهله.
ولعل البخاري يرى هذا القبيل من المسند - أعني: إذا أخبر الصحابي عن شهرة أمر وتقريره، وأنه مما لا يخفى على أهل مدينة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن(3/395)
ذلك يكون كرفعه.
ويشبه هذا: ما قال الفقهاء: أن من ارتكب حدا كالزنا ونحوه ممن نشأ في بادية بعيدة عن الإسلام، وادعى الجهل بتحريمه، فإنه لا يقام عليه ويعذر بذلك، بخلاف من نشأ ببلاد الإسلام.
وفيه: أن التنبيه في المسجد بالحصب بالحصى جائز، وقد كان ابن عمر إذا رأى من يصلي ولا يرفع يديه حصبه بالحصى. وكذلك إذا رأى من يتكلم والإمام يخطب.
وفي هذه الرواية: ((كنت قائما في المسجد)) ، كذا هو في كثير من نسخ
((صحيح البخاري)) ، وقد خرجه البيهقي في سننه، وقرأته بخطه من رواية أبي خليفة، عن علي بن المديني، وفيه: ((كنت نائما)) بالنون.
وقد خرجه الإسماعيلي في مسند عمر من طرق، وعنده: أنه قال: كنت مضطجعا وهذه صريحة في النوم، ولم ينكر عليه عمر نومه في المسجد.
وخرجه الإسماعيلي - أيضا - من رواية حاتم - هو: ابن إسماعيل -، عن الجعيد، عن السائب - لم يذكر بينهما: ((يزيد بن خصيفة)) .
وأشار إلى ترجيح هذه الرواية على رواية القطان وفي قوله نظر.
والجعيد - ويقال: الجعد - بن عبد الرحمن بن أوس، وينسب تارة إلى جده. وقد وقع في بعض(3/396)
روايات هذا الحديث تسميه: ((الجعد)) ، وفي بعضها تسميته: ((الجعد بن أوس)) ، وهو رجل واحد، فلا يتوهمن غير ذلك.
وقد روي هذا عن عمر من وجه آخر:
خرجه الإسماعيلي في مسند عمر من طريق عبدة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، أن رجلا من ثقيف أخبره، أن عمر بن الخطاب سمع ضحك رجل في المسجد، فأرسل إليه، فدعاه، فقال: ممن أنت؟ فقال: أنا رجل من أهل الطائف، فقال: أما إنك لو كنت من أهل البلد لنكلت بك، أن مسجدنا هذا لا يرفع فيه صوت.
وقد روي في حديث واثلة المرفوع: ((جنبوا مساجدكم خصوماتكم ورفع أصواتكم)) .
خرجه ابن ماجه بإسناد ضعيف جدا.
وروي عن ابن مسعود، أنه كان يكره أن ترفع الأصوات في المسجد. وقد سبق.
ورفع الأصوات في المسجد على وجهين:
أحدهما: أن يكون بذكر الله وقراءة القرآن والمواعظ وتعليم العلم وتعليمه، فما كان من ذلك لحاجة عموم أهل المسجد إليه، مثل الأذان والإقامة(3/397)
وقراءة الإمام في الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة، فهذا كله حسن مأمور به.
وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خطب علا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش، يقول: ((صبحكم ومساكم)) ، وكان إذا قرأ في الصلاة بالناس تسمع قراءته خارج المسجد، وكان بلال يؤذن بين يديه ويقيم في يوم الجمعة في المسجد.
وقد كره بعض علماء المالكية في مسجد المدينة خاصة لمن بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يزيد في رفع صوته في الخطب والمواعظ على حاجة إسماع الحاضرين، تأدبا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاضر يسمع ذلك، فيلزم التأدب معه، كما لو كان حيا.
وما لا حاجة إلى الجهر فيه، فإن كان فيه أذى لغيره ممن يشتغل بالطاعات كمن يصلي لنفسه ويجهر بقراءته، حتى يغلط من يقرأ إلى جانبه أن يصلي، فإنه منهي عنه.
وقد خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة على أصحابه وهم يصلون في المسجد ويجهرون بالقراءة، فقال: ((كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن.
وفي رواية: ((فلا يؤذ بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي سعيد.
وكذلك رفع الصوت بالعلم زائدا على الحاجة مكروه عند أكثر العلماء، وقد سبق ذكره مستوفى في أوائل ((كتاب: العلم))(3/398)
في باب رفع الصوت بالعلم.
الوجه الثاني: رفع الصوت بالاختصام ونحوه من أمور الدنيا، فهذا هو الذي نهى عنه عمر وغيره من الصحابة.
ويشبه: إنشاد الضالة في المسجد، وفي صحيح مسلم، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كراهته والزجر عنه، من رواية أبي هريرة وبريدة.
وأشد منه كراهة: رفع الصوت بالخصام بالباطل في أمور الدين؛ فإن الله ذم الجدال في الله بغير علم، والجدال بالباطل، فإذا وقع ذلك في المسجد ورفعت الأصوات به تضاعف قبحه وتحريمه.
وقد كره مالك رفع الصوت في المسجد بالعلم وغيره.
ورخص أبو حنيفة ومحمد بن مسلمة من أصحاب مالك في رفع الصوت في المسجد بالعلم والخصومة وغير ذلك مما يحتاج إليه الناس؛ لأنه مجمعهم ولا بد لهم منه.
وهذا مبني على جواز القضاء في المساجد. وقد سبق ذكره.
الحديث الثاني:
قال البخاري:(3/399)
471 - حدثنا أحمد: ثنا ابن وهب: اخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: حدثني عبد الله بن كعب بن مالك، أن كعب بن مالك(3/399)
اخبره، أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا له عليه في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد، فارتفعت اصواتهما حتى سمعها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في بيته، فخرج إليهما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى كشف سجف حجرته، ونادى كعب بن مالك، فقال: ((يا كعب)) قال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ((ضع الشطر من دينك)) . قال كعب: قد فعلت يا رسول الله. قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((قم فاقضه)) .
البخاري يروي في كتابه هذا عن أحمد - غير منسوب -، عن ابن وهب، وقد اختلف فيه:
فقيل: هو: ابن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي ابن وهب -: قاله أبو أحمد الحاكم وغيره.
وأنكر آخرون أن يكون يروي عن ابن أخي ابن وهب هذا شيئا في كتابه؛ فإنه قد كثر الطعن عليه.
قالوا: ويحتمل أنه أحمد بن صالح المصري الحافظ، أو أحمد بن عيسى التستري؛ فإنه روى عنهما صريحا في مواضع. والله أعلم.
ويستدل بهذا الحديث من يجيز رفع الأصوات بالخصومات في المساجد عند الحكام وغيرهم؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينكر ذلك عليهما، إنما أصلح بينهما، وأمر صاحب الحق بأن يضع شيئا منه، ثم أمر المدين بالقضاء لما بقي عليه، وهذا إصلاح.
ومن كره ذلك أجاب: بأن ما وقع من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو قطع لما وقع(3/400)
بينهما من التشاجر، ورفع الأصوات في المسجد، فهو في معنى الإنكار؛ لأن المقصود من الإنكار إزالة ما ينكر، وقد حصل بذلك لا سيما والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما خرج من بيته لسماع أصواتهما المرتفعة، فدل على أنه قصد إزالة ذلك، ومنعهما منه، فأزال ذلك وأزال المشاجرة بينهما، وأصلح ذات بينهما، وأمر كل واحد منهما بالإحسان إلى صاحبه برفق ورأفة من غير عنف.
ولعل هذين كانا غير عالمين بكراهة رفع الصوت في المسجد، فلهذا أزال ما وقع منهما من المكروه برفق ورأفة - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسليما كثيرا.(3/401)
84 - باب
الحلق والجلوس في المسجد
خرج فيه ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:(3/402)
472 - من رواية: عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سأل رجل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على المنبر: ما ترى في صلاة الليل؟ قال: ((مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة، فأوترت له ما صلى)) ، وأنه كان يقول: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر به.
الضمير في: ((أنه كان يقول)) يعود إلى ابن عمر - رضي الله عنهما.
والحديث الثاني:(3/402)
473 - من رواية: أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن رجلا جاء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يخطب، فقال: كيف صلاة الليل؟ قال: ((مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة، توتر لك ما قَدْ صليت)) .(3/402)
ثم قال: وقال الوليد بن كثير: حدثني عبيد الله بن عبد الله، أن ابن عمر حدثهم أن رجلا نادى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد.
وإنما ذكر رواية الوليد بن كثير تعليقا - وقد خرجها مسلم في ((صحيحه)) مسندة -؛ لأن فيما التصريح بأن ذلك كان في المسجد.
وفي الروايتين اللتين أسندهما البخاري أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب، وكان أكثر خطبه على المنبر في المسجد، إلا خطبه في العيدين وفي موسم الحج ونحو ذلك.
وإنما أدخل البخاري هذا الحديث في هذا الباب؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خطب على المنبر جلس الناس حوله، واستقبلوه بوجوههم.
وقد خرج البخاري في ((كتاب: الجمعة)) حديث أبي سعيد، قال: جلس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله.
فكانت خطبه على المنبر مثل حلق الذكر والعلم، وكان يسأل في حال الخطبة عن مسائل من الدين، ويجيب عنها، وقد سبق ذكر ذلك في أول ((كتاب: العلم)) ، وفي آخره - أيضا - في ((باب: ذكر العلم والفتيا في المسجد)) .
الحديث الثالث:(3/403)
474 - من رواية: مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أن(3/403)
أبا مرة مولى عقيل أخبره، عن أبي واقد الليثي، قال: بينما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد، فأقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذهب واحد، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الآخر فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((ألا أخبركم عن الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه)) .
وقد سبق في ((كتاب: العلم)) ، واستوفينا الكلام عليه هناك بما فيه كفاية - إن شاء الله تعالى.(3/404)
85 - باب
الاستلقاء في المسجد(3/405)
475 - حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عباد بن تميم، عن عمه، أنه رأى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستلقيا في المسجد، واضعا إحدى رجليه على الأخرى.
وعن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب: كان عمر وعثمان يفعلان ذلك.
هذا الحديث رواه أكابر أصحاب الزهري، عنه، عن عباد، عن عمه.
وخالفهم عبد العزيز بن الماجشون، فرواه عن الزهري: حدثني محمود بن لبيد، عن عباد.
فزاد في إسناده: ((محمود بن لبيد)) ، وهو وهم -: قاله مسلم بن الحجاج، وأبو بكر الخطيب وغيرهما.
وعم عباد بن تميم، هو: عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، صاحب حديث الوضوء.
والاستلقاء في المسجد جائز على أي وجه كان، ما لم يكن منبطحا على وجهه؛ فإنه يروى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن ذلك، وقال: ((إنها(3/405)
ضجعة يبغضها الله عز وجل)) . وقد ذكرنا إسناده في ((باب: النوم في المسجد)) .
وقد ذكر الزهري، عن ابن المسيب، عن عمر وعثمان، إنهما كانا يفعلان ذلك.
وأما الاستلقاء على هذا الوجه، وهو وضع إحدى الرجلين على الأخرى في المسجد وغيره فقد اختلف فيه:
فروي كراهته والتغليظ فيه عن كعب بن عجرة، وأبي سعيد، وقتادة بن النعمان، وسعيد بن جبير.
وقد روي النهي عنه مرفوعا. خرجه مسلم من حديث أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ويروى - أيضا - من حديث ابن مسعود وأبي هريرة وأخي أبي سعيد - وهو: قتادة بن النعمان.
وأما أكثر العلماء، فرخصوا فيه.
وممن روي أنه كان يفعله: عمر، وعثمان، وابن مسعود، ونص أحمد على جوازه.
واختلفوا في أحاديث النهي:
فمنهم من قال: هي منسوخة بحديث الرخصة، ورجحه الطحاوي وغيره.
ومنهم من قال: هي محمولة على من كان بين الناس فيخاف أن تنكشف عورته، أو لم يكن عليه سراويل، روي ذلك عن الحسن.
وروي عنه، أنه قال فيمن كره ذلك: ما أخذوا ذلك إلا عن(3/406)
اليهود.
خرجه الطحاوي.
وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) عن معمر، عن الزهري، قال: أخبرني ابن المسيب، قال: كان ذلك من عمر وعثمان ما لا يحصى منهما. قال الزهري: وجاء الناس بأمر عظيم.
وقال الحكم: سئل أبو مجلز عن الرجل يضع إحدى رجليه على الأخرى؟ فقال: لا بأس به، إنما هذا شيء قاله اليهود: أن الله لما خلق السموات والأرض استراح، فجلس هذه الجلسة، فأنزل الله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] .
خرجه أبو جعفر ابن أبي شيبة في ((تاريخه)) .
وقد ذكر غير واحد من التابعين: أن هذه الآية نزلت بسبب قول اليهود: أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع، منهم: عكرمة وقتادة.
فهذا كلام أئمة السلف في إنكار ذلك ونسبته إلى اليهود، وهذا يدل على أن الحديث المرفوع المروي في ذلك لا أصل لرفعه، وإنما هو متلقى عن اليهود، ومن قال: أنه على شرط الشيخين فقد أخطأ.
وهو من رواية محمد بن فليح بن سليمان، عن أبيه، عن سعيد بن الحارث، عن عبيد(3/407)
بن حنين: سمع قتادة بن النعمان يحدثه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعنى قول أبي مجلز. وفي آخره: وقال عز وجل: ((إنها لا تصلح لبشر)) .
وعبيد بن حنين، قيل: أنه لم يسمع من قتادة بن النعمان - قاله البيهقي.
وفليح، وإن خرج له البخاري فقد سبق كلام أئمة الحفاظ في تضعيفه، وكان يحيى بن سعيد يقشعر من أحاديثه، وقال أبو زرعة - فيما رواه عنه سعيد البرذعي -: فليح واهي الحديث، وابنه محمد واهي الحديث.
ولو كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يروي عن ربه أنه قال: ((إنها لا تصلح لبشر)) لم(3/408)
يفعله رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو كان قد انتسخ فعله الأول بهذا النهي لم يستمر على فعله خلفاؤه الراشدون الذين هم أعلم أصحابه به، وأتبعهم لهديه وسنته.
وقد روي عن قتادة بن النعمان من وجه أخر منقطع، من رواية سالم أبي النضر، عن قتادة بن النعمان - ولم يدركه -، أنه روى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه نهى عن ذلك.
خرجه الإمام أحمد.
وهذا محتمل، كما رواه عنه جابر وغيره.
فأما هذه الطامة، فلا تحتمل أصلاً.
وقد قيل: أن هذه مما اشتبه على بعض الرواة فيه ما قاله بعض اليهود، فظنه مرفوعاً فرفعه، وقد وقع مثل هذا لغير واحد من متقدمي الرواة، وأنكر ذلك عليهم، وأنكر الزبير على من سمعه يحدث عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: إنما حكاه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بعض أهل الكتاب.
فروى مسلم بن الحجاج في ((كتاب التفصيل)) والبيهقي فِي ((المدخل)) من رواية ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن عبد الله بن عروة، عن عروة، أن الزبير سمع رجلاً يحدث حديثاً عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاستمع الزبير له، حتى إذا قضى الرجل حديثه قال له الزبير: أنت سمعت هذا من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ الرَّجُلُ: نَعَمْ. فَقَالَ الزُّبَيْر: هَذَا وأشباهه مِمَّا يمنعنا أن نحدث عَن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَدْ – لعمري – سَمِعْت(3/409)
هَذَا من
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا يومئذ حاضر، ولكن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابتدأ هذا الحديث، فحدثاه عن رجل من أهل الكتاب حدثه إياه، فجئت أنت بعد أن تقضى صدر الحديث وذكر الرجل الذي من أهل الكتاب، فظننت أنه من حديث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروى مسلم - أيضا - في ((كتاب التفصيل)) بإسناد صحيح، عن بكير بن الأشج، قال: لنا بسر بن سعيد: أيها الناس، اتقوا الله، وتحفظوا في الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة، فيحدثنا عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحدثنا عن كعب، ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كعب، ويجعل حديث كعب عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ولو ذكرنا الأحاديث المرفوعة التي أعلت بأنها موقوفة: إما على عبد الله بن سلام، أو على كعب، واشتبهت على بعض الرواة فرفعها، لطال الأمر.(3/410)
86 - باب
المسجد يكون في الطريق من غير ضرر للناس فيه
وبه قال الحسن وأيوب ومالك.(3/411)
476 - حدثنا يحيى بن بكير: ثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طرفي النهار بكرة وعشية، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، ويعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين.
هذه قطعة من حديث الهجرة الطويل، وقد خرجه بتمامه في ((باب: الهجرة)) .
والمقصود منه هاهنا: أن أبا بكر - رضي الله عنه - ابتنى مسجدا بفناء داره بمكة، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة، وكان يأتي بيت أبي بكر كل يوم مرتين بكرة(3/411)
وعشية، ولم ينكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك على أبي بكر، ولم يغيره، فدل على جواز بناء المسجد في الطريق الواسع إذا لم يضر بالناس.
وقد حكى البخاري جوازه عن الحسن وأيوب ومالك، وهو - أيضا - قول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد - في رواية عنه -، وأبي حنيفة، وسليمان بن داود الهاشمي.
واختلفوا: هل يجوز ذلك بدون إذن الإمام، أم لا يجوز بدون إذنه؟ على قولين: أحدهما: أن إذنه معتبر لذلك، وهو قول الثوري ورواية عن أحمد، وحكي عن ابن مسعود وقتادة ما يدل عليه؛ لأن نفع الطريق حق مشترك بين المسلمين، فلا يجوز تخصيصه بجهة خاصة بدون إذن الإمام كقسمة الأموال المشتركة بين المسلمين.
والثاني: لا يعتبر إذن الإمام، وهو المحكي عن الحسن وأيوب وأبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم ممن جوزه، وهو رواية عن أحمد - أيضا - لأن الطريق إذا كان متسعا لا يضر بالمارة بناء مسجد فيه، فحق الناس في المرور فيه المحتاج إليه باق لم يتغير، بخلاف قسمة أموال بيت المال؛ فإن مصارفها كثيرة جدا، فيرجع فيها إلى اختيار الإمام.
وعن أحمد رِوَايَة ثالثة: أنه لا يجوز بناء المساجد فِي الطريق بحال، بل تهدم ولا يصلى فيها.
فمن أصحابنا من حكاها مطلقة، ومنهم من خصها بما إذا لم يأذن(3/412)
فيها الإمام، وهذا أقرب.
وأجاز الجوزجاني بناء المساجد في الطريق، بشرط أن يبقى من الطريق بعد المسجد سبعة أذرع.
ونسب ذلك إلى أحمد، ولا يصح ذلك عن أحمد.
وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((إذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع)) ، معناه - عند أحمد وأصحابه -: إذا أرادوا أن يحدثوا طريقا في ارض موات أو مملوكة، وليس معناه - عندهم - أنه يجوز البناء في الطريق الواسع حتى يبقى منه سبعة أذرع، كما قاله الجوزجاني.(3/413)
87 - باب
الصلاة في مسجد السوق
وصلى ابن عون في مسجد في دار يغلق عليهم الباب.
قد سبق ذكر مساجد البيوت والصلاة فيها، وما ذكره البخاري هناك أن البراء ابن عازب صلى في مسجد بيته جماعة، وذكرنا قول أحمد، أنه لا يحصل بالصلاة فيها فضيلة الصلاة في المسجد، إلا أن يكون يؤذن فيه ويقام، كأنه يشير إلى أن يكون في حال الصلاة غير ممنوع، وأن إسحاق قال: لا يحصل بالصلاة فيه جماعة فضل الجماعة في المسجد، إلا أن يكون له عذر.
وما حكاه البخاري هنا عن ابن عون، ظاهره: يدل على حصول فضل الجماعة في المسجد بذلك، وإن كان مغلقا، وهو قياس قول من أجاز الاعتكاف فيه، كما سبق ذكره، ويحتمل أن يكون ابن عون لا يرى حضور المساجد في الجماعة واجبا، أو أنه كان لهم عذر. والله أعلم.
وأما مساجد الأسواق، إذا كانت مسبلة، فحكمها حكم سائر المساجد المسبلة.
وقد كره طلحة اليامي الصلاة في مساجد السوق.
خرجه حرب الكرماني من رواية ليث عنه.(3/414)
وكأنه يشير إلى أنه إنما يستحب الصلاة في المسجد الأعظم الذي يجمع فيه.
وقد ورد التصريح بفضل الصلاة في مسجد الجامع على الصلاة في مساجد القبائل التي لا يجمع فيها.
خرجه ابن ماجه: ثنا هشام بن عمار: ثنا أبو الخطاب الدمشقي: ثنا رزيق أبو عبد الله الألهاني، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صلاة الرجل في بيته بصلاة، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة)) .
رزيق الألهاني - بتقديم الراء على الزاي -، قال أبو زرعة الرازي: لا بأس به. وذكره ابن حبان في ((ثقاته)) وذكره - أيضا في ((الضعفاء)) ، وقال: لا يحتج به.
وأما أبو الخطاب الدمشقي، فقيل: اسمه: حماد، وقع كذلك مصرحا به في ((معجم الطبراني الأوسط)) ، وذكر ابن عدي أنه: معروف الخياط الذي رأى واثلة بن الأسقع، وأن هشام بن عمار يروي عنه وفيه ضعف.
وقال ابن ماكولا:(3/415)
اسمه: سلمة بن علي، كان يسكن اللاذقية، روى عنه هشام بن عمار والربيع بن نافع. قال: والحديث منكر، ورجاله مجهولون.
كذا قال، وليس فيهم من يجهل حاله سوى أبي الخطاب هذا.
وقد كان بالمدينة مساجد في قبائل الأنصار، وهي دورهم، يصلون فيها الجماعات سوى الجمع.
وروى ابن لهيعة، أن بكير بن الأشج حدثه، أنه كان بالمدينة تسعة مساجد مع مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يسمع أهلها تأذين بلال على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيصلون في مساجدهم بني عمرو بن مبذول من بني النجار، ومسجد بني ساعدة، ومسجد بني عبيد، ومسجد بني سلمة، ومسجد بني رابح من بني عبد الاشهل، ومسجد بني زريق، ومسجد بني غفار، ومسجد أسلم، ومسجد جهينة. وشك في التاسع.
خرجه أبو داود في ((المراسيل)) .
قال البخاري - رحمه الله -:(3/416)
477 - حدثنا مسدد: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح،
عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((صلاة الجميع تزيد على صلاته في بيته(3/416)
وصلاته
في سوقه خمسا وعشرين درجة، فإن أحدكم إذا توضأ فأحسن وأتى المسجد لا يريد
إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة أو حط عنه بها خطيئة حتى
يدخل المسجد، وإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه وتصلي
الملائكة عليه مادام في مجلسه الذي يصلي فيه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم
يحدث فيه)) .
وقد خرجه البخاري - أيضا - في موضع أخر من كتابه بزيادة تصريح الأعمش بالسماع له من أبي صالح، فزال ما كان يتوهم من تدليس الأعمش له.
والحديث: نص في أن الصلاة في المسجد تزيد على صلاة المرء في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين درجة، وهو أعم من أن تكون صلاته في بيته وفي سوقه في جماعة أو منفردا.
ويدل على ذلك: أنه ذكر سبب المضاعفة، وهو فضل مشيه إلى المسجد على طهارة،(3/417)
وفضل انتظاره للصلاة حتى تقام، وفضل قعوده في المسجد حتى يحدث، وهذا كله لا يوجد شيء منه في صلاته في بيته وفي سوقه.
لكن المراد - والله أعلم -: صلاته في سوقه في غير مسجد، فإنه لو صلى في سوقه في مسجد لكان قد حصل له فضل المشي إلى المسجد، وانتظار الصلاة فيه، والجلوس فيه بعد الصلاة - أيضا -، وإن كان المسجد الأعظم يمتاز بكثرة الخطا إليه، وبكثرة الجماعة فيه، وذلك يتضاعف به الفضل - أيضا - عند جمهور العلماء، خلافا لمالك.
وقد روي من حديث أبي بن كعب، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله)) .
خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) والحاكم.
وقال علي بن المديني: ما أراه إلا صحيحا.
ويفضل - أيضا - المسجد الأعظم بكونه عتيقا:
قال أبو نعيم الفضل بن دكين: ثنا عمارة بن زاذان، عن ثابت البناني، قال كنت اقبل مع أنس بن مالك من الزاوية، فإذا مر بمسجد قال: أمحدث هذا؟ فإن قلت: نعم مضى، وأن قلت: عتيق صلى.(3/418)
88 - باب
تشبيك الأصابع في المسجد وغيره
فيه حديثان:
أحدهما:
قال:(3/419)
481 - ثنا خلاد بن يحيى: ثنا سفيان: عن أبي بردة بن عبد الله بن أبي بردة، عن جده، عن أبي موسى، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إن المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا)) - وشبك أصابعه.
ليس في هذا الحديث أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان حينئذ في المسجد؛ فلهذا بوب على تشبيك الأصابع في المسجد وغيره.
وهذا التشبيك من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث كان لمصلحة وفائدة، لم يكن عبثا؛ فإنه لما شبه شد المؤمنين بعضهم بعضا بالبنيان، كان ذلك تشبيها بالقول، ثم أوضحه بالفعل، فشبك أصابعه بعضها في بعض؛ ليتأكد بذلك المثال الذي(3/419)
ضربه لهم بقوله، ويزداد بيانا وظهورا.
ويفهم من تشبيكه: أن تعاضد المؤمنين بينهم كتشبيك الأصابع بعضها في بعض، فكما أن أصابع اليدين متعددة فهي ترجع إلى اصل واحد ورجل واحد، فكذلك المؤمنون وإن تعددت أشخاصهم فهم يرجعون إلى اصل واحد، وتجمعهم أخوة النسب إلى آدم ونوح، وأخوة الإيمان.
وهذا كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث النعمان بن بشير: ((مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالحمى والسهر)) .
خرجاه في الصحيحين.
وفي رواية: ((المؤمنون كرجل واحد، أن اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)) .
الحديث الثاني:(3/420)
482 - ثنا إسحاق: ثنا ابن شميل: أبنا ابن عون: عن ابن سيرين، عن أبي
هريرة، قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدى صلاتي العشي - قال ابن سيرين: قد سماها أبو هريرة، ولكن نسيت أنا - قال: فصلى بنا ركعتين، ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه(3/420)
غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى، وخرجت السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين، فقال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: ((لم أنس، ولم تقصر)) . فقال: ((أكما يقول ذو اليدين؟)) قالوا: نعم فتقدم فصلى ما ترك، ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر.
فربما سألوه: ثم سلم؟ فيقول: نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم.
المسئول: ((ثم سلم)) ؟ هو ابن سيرين.
وقد أعاده البخاري في ((أبواب: سجود السهو)) ، ويأتي الكلام عليه هناك مستوفي - إن شاء الله تعالى.
إنما المقصود في هذا الباب منه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام بعد سلامه من الصلاة إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها، ووضع يده اليمنى(3/421)
على ظهر كفه اليسرى، وشبك بين أصابعه، فدل على جواز تشبيك أصابع اليدين في المسجد لغير حاجة إليه.
والظاهر: أنه إنما فعله لما غلبه من الهم؛ فإن ذلك يفعله المهموم كثيرا.
وقد رخص في التشبيك في المسجد جماعة:
قال وكيع: ثنا الربيع بن صبيح، قال رأيت الحسن في المسجد هكذا - وشبك وكيع بين أصابعه.
وقال حرب: رأيت إسحاق جالسا في المسجد يقرأ وشبك أصابعه.
وقد روي النهي عن التشبيك في المسجد من رواية مولى لأبي سعيد الخدري، أنه كان مع سعيد وهو مع رسول الله، قال: فدخل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرأى رجلا جالسا في وسط المسجد مشبكا أصابعه يحدث نفسه فأومأ إليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يفطن، فالتفت إلى أبي سعيد، فقال: ((إذا صلى أحدكم فلا يشبكن بين أصابعه؛ فإن التشبيك من الشيطان؛ وإن أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه)) .
خرجه الإمام أحمد.
وفي إسناده عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، ضعفه ابن معين.
وروي - أيضا - النهي عن تشبيك الأصابع لمن هو(3/422)
ماش إلى المسجد للصلاة فيه، من حديث كعب بن عجرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه؛ فإنه في صلاة)) .
خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه.
وفي إسناده اختلاف كثير واضطراب.
وقد ذكر أبو بكر الإسماعيلي في ((صحيحه)) المخرج على ((صحيح البخاري)) أن حديث كعب بن عجرة وما في معناه لا ينافي حديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري في هذا الباب، وأنه يمكن الجمع بينهما، بأنه إنما يكره التشبيك لمن كان في صلاة، أو حكمه حكم من كان في صلاة، كمن يمشي إلى المسجد أو يجلس فيه لانتظار الصلاة، فأما من قام من الصلاة وانصرف منها، كما فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سلم من ركعتين وقام إلى الخشبة المعترضة، فإنه صار منصرفا من الصلاة لا منتظرا لها، فلا يضره التشبيك
حينئذ.
قال: وقد قيل إن من كان في صلاة ومنتظرا الصلاة في جماعة فهم على ائتلاف، فإذا شبك لم يؤمن أن يتطير بهم عدوهم، بأنهم سيختلفون، ألا تراه في حديث عبد الله بن عمرو يقول: ((مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا وصاروا هكذا)) - وشبك بين أصابعه، ولم يؤمن أن يكون ذلك سببا أو أمارة لاختلاف فهم،(3/423)
كما أمرهم بأن يستووا في صفوفهم، وقال: ((لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)) . انتهى ما ذكره.
وهو مناسبة بعيدة جدا؛ فإن التشبيك كما مثل به الاختلاف والافتراق فقد مثل به الائتلاف والتعاون والتناصر، كما في حديث أبي موسى الذي خرجه البخاري في أول الباب، فليس كراهته لمشابهته لمثل الافتراق بأولى من عدم كراهته لمشابهته لمثل التعاون والتعاضد والتناصر.
ومثل هذه المعاني توجد كثيرا في كتب شروح الحديث المتأخرة، وأكثرها مدخول، ولم يكن علماء سلف الأمة يقعون في شيء من ذلك، وكذلك لم أستكثر من ذكر مثله في هذا الكتاب، وإنما ذكرت هذا لأن الإسماعيلي مع تقدمه ذكره في ((صحيحه)) ، ونبهت على ما فيه.
وجمع الخطابي في ((الأعلام)) بين حديث كعب بن عجرة في النهي وحديث أبي هريرة في فعل التشبيك، بأن النهي إنما يحمل على الاحتباء بالتشبيك للأصابع؛ لأنه يجلب النوم الناقض للوضوء، وما سواه فمباح.
فخص الكراهة بحالة الاحتباء، وهذا في غاية البعد؛ لأن حديث كعب فيه
النهي عن التشبيك للعامد إلى المسجد، والمراد به الماشي إليه، والماشي لا يحتبي،(3/424)
وقد ورد مصرحا بذلك في رواية خرجها مسلم في كتاب ((العلل)) له عن أبي ثمامة القماح، قال: لقيني كعب بن عجرة وأنا رائح إلى المسجد مشبك بين أصابعي، فضرب يدي ضربة ففرق بينهما، وقال: نهينا أن نشبك بين أصابعنا في الصلاة. فقلت: إني لست في صلاة. فقال: أن الرجل إذا توضأ فأحسن وضوءه، ثم خرج يؤم المسجد فهو في صلاة.
وخرجه أبو داود بمعناه، إلا أنه لم يذكر قوله: ((إني لست في صلاة)) ، وصرح برفع آخر الحديث إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأعل محمد بن يحيى الهمداني في ((صحيحه)) حديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري في هذا الباب، وقال: ذكر تشبيك الأصابع ووضع الخد لا أعلم ذكره غير النضر - يعني: ابن شميل -، عن ابن عون.
وأما تشبيك الأصابع في الصلاة فمكروه.
وقد خرج ابن ماجه حديث كعب بن عجرة المتقدم، ولفظه: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا قد شبك بين أصابعه في الصلاة، ففرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أصابعه.(3/425)
وخرج وكيع، عن عاصم بن محمد العمري، عن ابن المنكدر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه، مرسلا.
وخرج أبو داود بإسناده عن نافع، أنه سئل عن الرجل يصلي وهو مشبك
أصابعه؟ فقال: قال ابن عمر: تلك صلاة المغضوب عليهم.
وكرهه طاوس والنخعي.
وقال النعمان بن أبي عياش: كانوا ينهون عن ذلك.
وكلام ابن عمر يدل على أنه كره لما فيه من مشابهة أهل الكتاب، وهو - أيضا - من نوع العبث الذي تنزه عنه الصلاة، ومثله تفقيع الأصابع.
وقد روى الحارث، عن علي، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهاه أن يفقع أصابعه في الصلاة.
وخرجه ابن ماجه.
وخرج الإمام أحمد من رواية زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إن الضاحك في الصلاة، والملتفت، والمفقع أصابعه بمنزلة واحدة)) .
وزبان وسهل، فيهما ضعف.
وفيه إشارة إلى أن ذلك كله من العبث المنافي للخشوع في الصلاة.(3/426)
89 - باب
المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي
صلى فيها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
خرج فيه حديثين:
أحدهما:
قال:(3/427)
483 - ثنا محمد بن بكر المقدمي: ثنا فضيل بن سليمان: ثنا موسى بن عقبة، قال: رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في تلك الأمكنة.
وحدثني نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلي في تلك الأمكنة.
وسألت سالما، ولا أعلمه إلا وافق نافعا في الأمكنة كلها، إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء.
قد ذكرنا فيما سبق في ((باب: اتخاذ المساجد في البيوت)) حكم أتباع آثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والصلاة في مواضع صلاته، وأن ابن عمر كان يفعل ذلك، وكذلك ابنه سالم.
وقد رخص أحمد في ذلك على ما فعله ابن عمر، وكره ما أحدثه الناس بعد ذلك من الغلو والإفراط، والأشياء المحدثة التي لا أصل لها في(3/427)
الشريعة.
وقد كان ابن عمر مشهورا بتتبع آثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن ذلك صلاته في المواضع التي كان يصلي فيها.
وهي على نوعين:
أحدهما: ما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقصده للصلاة فيه، كمسجد قباء، ويأتي ذكره في موضعه من ((الكتاب)) - إن شاء الله تعالى.
والثاني: ما صلى فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتفاقا لإدراك الصلاة له عنده، فهذا هو الذي اختص ابن عمر بأتباعه.
وقد روى ابن سعد: أنا معن بن عيسى: ثنا عبد الله بن المؤمل، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: ما كان أحد يتبع آثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في منازله، كما كان ابن عمر يتبعه.
وروى أبو نعيم من رواية خارجة بن مصعب، عن موسى بن عقبة، عن نافع، قال: لو نظرت إلى ابن عمر إذا اتبع أثر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقلت: هذا مجنون.
ومن طريق عاصم الأحول، عمن حدثه، قال: كان ابن عمر إذا رآه أحد ظن أن به شيئا من تتبعه آثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومن طريق أبي مودود، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان في طريق مكة يقود برأس راحلته يثنيها، ويقول: لعل خفا يقع على خف -(3/428)
يعني: خف راحلة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والمسجد الذي وقع فيه الاختلاف بشرف الروحاء، والروحاء من الفرع، بينها وبين المدينة مرحلتان، يقال: بينهما أربعون ميلا، وقيل ثلاثون ميلا.
وفي ((صحيح مسلم)) : بينهما ستة وثلاثون ميلا.
يقال: أنه نزل بها تبع حين رجع من قتال أهل المدينة يريد مكة، فأقام بها وأراح، فسماها: الروحاء.
وقيل: إن بها قبر مضر بن نزار.
وقد روى الزبير بن بكار بإسناد له، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صلى بشرف الروحاء، عن يمين الطريق وأنت ذاهب إلى مكة، وعن يسارها وأنت مقبل من مكة.
ودون هذا الشرف الذي به هذا المسجد موضع يقال له: ((السيالة)) ، ضبطها صاحب ((معجم البلدان)) بتخفيف الياء، كان قرية مسكونة بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبها آثار البناء والأسواق، وآخرها شرف الروحاء، والمسجد المذكور عنده قبور عتيقة، كانت مدفن أهل السيالة، ثم تهبط منه في وادي الروحاء، ويعرف اليوم بوادي بني سالم.
الحديث الثاني:
هو حديث طويل، فنذكره قطعا قطعا، ونشرح كل قطعة منه بانفرادها:
قال البخاري - رحمه الله -:(3/429)
484 - حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي: ثنا أنس بن عياض: ثنا موسى بن
عقبة، عن نافع، أن عبد الله بن عمر أخبره، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر وفي حجته حين حج تحت سمرة في موضع المسجد الذي بذي الحليفة، وكان إذا رجع من غزوة، وكان في تلك الطريق أو حج أو عمرة هبط بطن واد، فإذا ظهر من بطن واد أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية، فعرس ثم حتى يصبح، ليس عند المسجد الذي بحجارة ولا على الأكمة التي عليها المسجد، كان ثم خليج يصلي عبد الله عنده في بطنه كثب، كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يصلي، فدحا فيه السيل بالبطحاء حتى دفن ذلك المكان الذي كان عبد الله يصلي فيه.
ذو الحليفة: قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة، وهي ميقات أهل المدينة، وتسمى - أيضا -: الشجرة، وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينزل بها حين يعتمر وحين حج حجة الوداع، وقد اعتمر منها مرتين: عمرة الحديبية، وعمرة القضية.
وقد ذكر ابن عمر في حديثه هذا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل بها(3/430)
تحت سمرة في موضع المسجد الذي بني بها، وهذا يدل على أن المسجد لم يكن حينئذ مبنيا، إنما بني بعد ذلك في مكان منزل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها، وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحرم منها، وكان يصلي بها في موضع المسجد.
وقد روي أنه صلى في المسجد، ولعل المراد في بقعته وأرضه، قبل أن يجعل مسجدا، حتى يجمع بذلك بين الحديثين.
وقد خرج البخاري في ((الحج)) عن إبراهيم بن المنذر - أيضا -، عن أنس ابن عياض، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة
وخرج مسلم من حديث الزهري، أن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أخبره، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل بذي الحليفة مبدأه، وصلى في مسجدها.
ومن حديث الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يركع بذي الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل.
وفي ((الصحيحين)) من حديث مالك، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه، قال: ما أهل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا من عند المسجد - يعني: مسجد ذي الحليفة.(3/431)
وفي رواية لمسلم من رواية حاتم بن إسماعيل، عن موسى بن عقبة: إلا من عند الشجرة.
وخرج البخاري - أيضا - في ((الحج)) من حديث عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوادي العقيق يقول: ((أتاني الليلة آت من ربي عز وجل، فقال: صل في هذا الوادي المبارك؛ وقل: عمرة في حجة)) .
ووادي العقيق متصل بذي الحليفة.
فهذا كان حال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفره إلى مكة.
فأما حاله في رجوعه إلى المدينة إذا رجع على ذي الحليفة من حج أو عمرة، أو من غزاة في تلك الجهة، فإنه كان يهبط بطن واد هنالك، فإذا ظهر من بطن الوادي أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية، فيعرس هناك حتى يصبح.
قال الخطابي: التعريس: نزول استراحة بغير إقامة، وفي الأكثر يكون آخر الليل، ينْزلون فينامون نومة خفيفة، ثم يرتحلون.
قال: والبطحاء: حجارة ورمل.
قلت: المراد بالتعريس هنا: نومة حتى يصبح.
وقد خرجه البخاري في ((الحج)) عن إبراهيم بن المنذر، عن أنس بن(3/432)
عياض، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة، وإذا رجع صلى بذي الحليفة ببطن الوادي، وبات حتى يصبح.
وخرج فيه - أيضا - من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أناخ بالبطحاء بذي الحليفة فصلى بها، وكان عبد الله يفعل ذلك.
ومن طريق موسى بن عقبة، قال: حدثني سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه رئي وهو معرس بذي الحليفة ببطن الوادي، قيل له: إنك ببطحاء مباركة. وقد أناخ بنا سالم يتوخى بالمناخ الذي كان عبد الله ينيخ يتحرى معرس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي، بينه وبين الطريق وسط من ذلك.
وقد خرجه مسلم مع حديث مالك الذي قبله، وخرج حديث أنس بن عياض بلفظ أخر.
فظهر من هذه الأحاديث كلها: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبيت بالمعرس، وهو ببطحاء ذي الحليفة حتى يصبح، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي هناك، وأنه كان هناك مسجد قد بني ولم يكن في موضع صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل(3/433)
كان قريباً منه.
وفي حديث سالم: أن المسجد كان ببطن الوادي، وفي حديث موسى بن عقبة بن نافع - الطويل الذي خرجه البخاري هنا -، أنه كان مبنياً بحجارة على أكمة، وفي حديثه: أنه كان ثم خليج يصلي عبد الله عنده، في بطنه كثب، كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم
يصلي.
قال الخطابي: الخليج: واد له عمق، ينشق من آخر أعظم منه. والكثب: جمع كثيب، وهو ما غلظ وأرتفع عن وجه الأرض.
وقوله: ((فدحا السيل فيه بالبطحاء حتى دفن ذلك المكان الذي كان عبد الله يصلي فيه)) .
قال الخطابي: معنى ((دحا السيل)) : سواه بما حمل من البطحاء. والبطحاء: حجارة ورمل.
وهذه الصلاة التي كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في هذا الموضع قد جاء في رواية إنها كانت صلاة الصبح إذا أصبح.
وقد خرجه الأمام أحمد عن موسى بن قرة، عن موسى بن عقبة، عن نافع، أن
عبد الله حدثه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعرس بها حتى يصلي صلاة الصبح.
قال ابن عبد البر في كلامه على حديث مالك الذي ذكرناه من قبل:(3/434)
هذه البطحاء المذكورة في هذا الحديث هي المعروفة عند أهل المدينة وغيرهم بالمعرس.
قال مالك في ((الموطإ)) : لا ينبغي لأحد أن يتجاوز المعرس إذا قفل حتى يصلي
فيه، وأنه من مر به في غير وقت صلاة فليقم حتى تحل الصلاة ثم يصلي ما بدا له؛ لأنه بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرس به، وأن ابن عمر أناخ به.
قال ابن عبد البر: واستحبه الشافعي، ولم يأمر به.
وقال أبو حنيفة: من مر بالمعرس من ذي الحليفة فإن أحب أن يعرس به حتى يصلي فعل، وليس ذلك عليه.
وقال محمد بن الحسن: وهو عندنا من المنازل التي نزلها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طريق مكة، وبلغنا أن ابن عمر كان يتبع آثاره، فلذلك كان ينزل بالمعرس، لا أنه كان يراه واجباً ولا سنة على الناس. قال ولو كان واجباً أو سنه من سنن الحج لكان سائر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقفون وينزلون ويصلون، ولم يكن ابن عمر ينفرد بذلك دونهم.
وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي: ليس نزوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمعرس كسائر نزوله بطريق مكة؛ لأنه كان يصلي الفريضة حيث أمكنه، والمعرس إنما كان يصلي فيه نافلة. قال: ولو كان المعرس كسائر المنازل ما أنكر ابن عمر على نافع تأخره عنه.
وذكر حديث موسى بن عقبه، عن نافع، أن ابن عمر سبقه إلى المعرس فأبطأ عليه، فقال له: ما حسبك؟ فذكر(3/435)
عذراً، قال: ما ظننت انك أخذت الطريق ولو فعلت لأوجعتك ضرباً. انتهى.
وفي قوله: ((أنه صلى بالمعرس نافلة)) نظر، وقد قدمنا أنه إنما صلى به الصبح لما أصبح.
وظاهر كلام أحمد: استحباب الصلاة بالمعرس، فإنه قال في رواية صالح: كان ابن عمر لا يمر بموضع صلى فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا صلى فيه، حتى أنه صب الماء في أصل شجرة، فكان ابن عمر يصب الماء في أصلها.
وإنما أخرج أحمد ذلك مخرج الاحتجاج به؛ فإنه في أول هذه الرواية استحب ما كان ابن عمر يفعله من مسح منبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومقعده منه.
وقد تبين بهذه النصوص المذكورة في هذا الموضع: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج من المدينة إلى مكة في طريق ويرجع في غيره، كما كان يفعل ذلك في العيدين، وكما كان يدخل مكة من أعلاها ويخرج من أسفلها.
وقد خرج البخاري في ((الحج)) من حديث ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج من طريق الشجرة ويدخل من طريق المعرس.
وخرجه مسلم - أيضا.
وهذا يدل على أن موضع الشجرة - وهو مسجد ذي الحليفة - غير طريق المعرس، والذي كان يرجع منه.(3/436)
وخرج البزار نحوه من حديث أبي هريرة.
ثم رجعنا إلى بقية حديث موسى بن عقبة عن نافع الذي خرجه البخاري هاهنا:(3/437)
485 - وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى حيث المسجد الصغير الذي دون المسجد الذي بشرف الروحاء، وقد كان عبد الله يعلم المكان الذي صلى فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يقول ثم عن يمينك حين تقوم في المسجد تصلي، وذلك المسجد على حافة الطريق اليمنى، وأنت ذاهب إلى مكة، بينه وبين المسجد الأكبر رمية بحجر، أو نحو ذلك.
هذا هو المسجد الذي اختلف فيه سالم ونافع، كما ذكرناه في شرح الحديث الأول.
وهذا الحديث: يدل على أن بالروحاء مسجدين: كبير وصغير، فالكبير بشرف الروحاء، ولم يصل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنده، إنما صلى موضع الصغير عن يمين ذلك المسجد، وأن بين المسجدين رمية بحجر.
ثم رجعنا إلى بقية الحديث.(3/437)
486 - وأن ابن عمر كان يصلي إلى العرق الذي عند منصرف الروحاء، وذلك العرق انتهاء طرفه على حافة الطريق، دون المسجد الذي بينه وبين المنصرف، وأنت ذاهب إلى مكة وقد ابتني ثم مسجد، فلم يكن عبد الله يصلي في ذلك المسجد، كان يتركه عن يساره ووراءه ويصلي أمامه إلى العرق نفسه، وكان عبد الله يروح من الروحاء فلا يصلي الظهر حتى يأتي ذلك المكان، فيصلي فيه الظهر، وإذا أقبل من مكة فإن مر به قبل الصبح بساعة أو من آخر السحر عرس حتى يصلي بها الصبح.
قال الخطابي: العرق: جبيل صغير.
ومنصرف الروحاء: المنصرف - بفتح الراء -، ويقال: أن بينه وبين بدر أربعة برد، والمسجد المبني هناك، قيل: أنه في آخر وادي الروحاء مع طرف الجبل على يسار الذاهب إلى مكة. وقيل: أنه لم يبق منه زمان إلا آثار يسيرة، وأنه كان يعرف حينئذ بمسجد الغزالة.
وذكروا: أن عن يمين الطريق لمن كان بهذا المسجد وهو مستقبل النازية موضع كان ابن عمر ينزل فيه، ويقول: هذا منزل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان ثم شجرة، كان ابن عمر إذا نزل وتوضأ صب فضل وضوئه(3/437)
في أصلها، ويقول: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل.
والنازية: قال صاحب ((معجم البلدان)) : - بالزاي وتخفيف الياء -: عين على طريق لآخذ من مكة إلى المدينة قرب الصفراء، وهي إلى المدينة أقرب.
ولم يصرح ابن عمر في صلاته إلى هذا العرق بأنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إليه، ولكن محافظته على الصلاة في هذا المكان ذاهبا وراجعا وتعريسه به حتى يصلي به يدل على أنه إنما فعل ذلك إقتداء بصلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه.
ثم رجعنا إلى بقية الحديث:(3/439)
487 - وأن عبد الله حدثه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل تحت سرحة ضخمة دون الرويثة عن يمين الطريق، ووجاه الطريق في مكان بطح سهل حتى يفضي من أكمة دوين بريد الرويثة بميلين وقد انكسر أعلاها فانثنى في جوفها، وهي قائمة على ساق، وفي ساقها كثب كثيرة.
السرحة: شجرة، وتجمع على سرح كتمرة وتمر، وهو ضرب من الشجر له ثمر، وقيل: هي شجرة بيضاء. وقيل: كل شجرة طويلة سرحة.
وقال إبراهيم الحربي: السرح شجر كبار طوال لا ترعى، يستظل به، لا ينبت في رمل أبدا، ولا جبل، ولا تأكله الماشية إلا قليلا، له غصن اصفر.(3/439)
وقد وصفها بأنها ضخمة - أي: عظيمة -، وأنه انكسر أعلاها فانثنى في جوفها، وأنها قائمة على ساق، وفي كثب كثيرة.
وقد سبق أن الكثب جمع كثيب، وهو ما غلظ وارتفع عن وجه الأرض.
والبطح: الواسع. والرويثة مكان معروف بين مكة والمدينة.
وأما مكان هذه السرحة، فلا يعرف منذ زمان، وقد ذكر ذلك بعض من صنف في أخبار المدينة بعد السبعمائة، وذكر أنه لا يعرف في يومه ذاك من هذه المساجد المذكورة في هذا الحديث سوى مسجد الروحاء ومسجد الغزالة، وذكر معهما مسجدا ثالثا، وزعم أنه معروف - أيضا - بالروحاء، عند عرق الظبية، عند جبل ورقان، وذكر فيه حديثا رواه الزبير بن بكار بإسناد ضعيف جدا، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لقد صلى في هذا المسجد قبلي سبعون نبيا)) . وهذا لا يثبت، ولعله أحد المسجدين بالروحاء، وقد تقدم ذكرهما.
ثم رجعنا إلى بقية الحديث:(3/440)
488 - وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في طرف تلعة من وراء العرج كبيرة، وأنت ذاهب إلى هضبة عند ذلك المسجد(3/440)
قبران أو ثلاثة، على القبور رضم من حجارة، عن يمين الطريق عند سلمات الطريق، بين أولئك السلمات كان
عبد الله يروح من العرج بعد أن تميل الشمس بالهاجرة، فيصلي الظهر في ذلك المسجد.
وفي رواية الإمام أحمد لهذا الحديث زيادة في هذا بعد قوله: ((وأنت ذاهب على راس خمسة أميال من العرج فِي مسجد إلى هضبة)) - وذكر باقيه.
والتلعة: المكان المرتفع من الأرض.
قال الخطابي: التلعة مسيل الماء من فوق لأسفل. قال: والهضبة فوق الكثيب في الارتفاع ودون الجبل. والرضم: حجارة كبار واحدتها رضمة. والسلمات: جمع سلمة، وهي شجرة ورقها القرظ الذي يدبغ به الأدم. وقيل: السلم يشبه القرظ وليس به. انتهى ما ذكره.
وحكى غيره أن الهضبة كل جبل خلق من صخرة واحدة وكل صخرة راسية تسمى هضبة، وجمعها هضاب -: قاله الخليل.
وقال الأصمعي: الهضبة: الجبل المنبسط على الأرض.(3/441)
والسلمات - بالفتح -: شجر، والسلمات بالكسر -: حجارة. والرضم والرضام: دون الهضاب -: قاله أبو عمرو. والوحدة منها رضمة. والعرج: مكان معروف بين مكة والمدينة؛ يقال: أنه عقبة.
رجعنا إلى بقية الحديث:(3/442)
489 - وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل عند سرحات عن يسار الطريق، في مسيل دون هرشي، ذلك المسيل لاصق بكراع هرشي، بينه وبين الطريق قريب من غلوة، وكان عبد الله بن عمر يصلي إلى سرحة هي اقرب السرحات إلى الطريق، وهي أطولهن.
قال الخطابي: هرشي: ثنية معروفة، وكراعها: ما يمتد منها دون سفحها.
وقال غيره: الغلوة - بفتح الغين المعجمة -: قدر رمية بعيدة بسهم أو حجر.
وعند الإمام أحمد في حديث ابن عمر هذا، في هذا الموضع زيادة: ((غلوة
سهم)) .
وقال صاحب ((معجم البلدان)) هرشي: ثنية في طريق مكة، قريبة من
الجحفة، يرى منها البحر ولها طريقان، فكل من سلك واحدا منهما أفضى به إلى موضع واحد.(3/442)
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بوادي الأزرق، فقال: ((أي واد هذا؟)) قالوا: وادي الأزرق. قال: ((كأني أنظر إلى موسى هابطا من الثنية وله جؤار إلى الله بالتلبية)) ، ثم أتى على ثنية هرشي، فقال: ((أي ثنية هذا؟)) قالوا: هرشي. قال: ((كأني أنظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء جعدة، عليه جبة من صوف، خطام ناقته خلبة، وهو يلبي)) .
قال هشيم: يعني: ليفا.
رجعنا إلى بقية الحديث:(3/443)
490 - وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل في المسيل الذي في أدنى مر الظهران قبل المدينة حين يهبط من الصفراوات، ينزل في بطن ذلك المسيل عن يسار الطريق، وأنت ذاهب إلى مكة، ليس بين منزل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين الطريق إلا رمية بحجر.
مر الظهران: معروف قريب من مكة ويسمى بطن مر.
والصفراوات: موضع قريب منه بينه وبين عسفان.
رجعنا إلى بقية الحديث:(3/443)
491 - وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل بذي طوى، ويبيت حتى يصبح،(3/443)
يصلي الصبح حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك على أكمة غليظة، ليس في المسجد الذي بني ثم، ولكن أسفل من ذلك على أكمة غليظة.
هذه القطعة من هذا الحديث خرجها مسلم في ((صحيحه)) عن محمد بن إسحاق المسيبي، عن أبي ضمرة أنس بن عياض، بإسناد البخاري.
وذو طوى: يروى بضم الطاء وكسرها وفتحها، وهو واد معروف بمكة بين الثنيتين، وتسمى أحداهما: ثنية المدنيين، تشرف على مقبرة مكة، وثنية تهبط على جبل يسمى: الحصحاص، بحاء مهملة وصادين مهملين.
وكان بذي طوى مسجد بني بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يكن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فيه، وإنما صلى أسفل منه على أكمة غليظة.
وذكر الأزرقي في ((أخبار مكة)) أن المسجد بنته زبيدة.
وخرج من طريق مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عم موسى بن عقبة، أن نافعا حدثه، أن ابن عمر اخبره، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل بذي طوى حين يعتمر وفي حجته حين حج، تحت سمرة في موضع المسجد.
قال ابن جريج: وحدثني نافع، أن ابن عمر حدثه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل ذا طوى فيبيت به حتى يصلي(3/444)
الصبح حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك على أكمة غليظة الذي بالمسجد الذي بني ثم، ولكنه أسفل من الجبل الطويل الذي قبل مكة، تجعل المسجد الذي بني يسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسفل منه على الأكمة السوداء، تدع من الأكمة عشرة اذرع ونحوها بيمين، ثم تصلى مستقبل الفرضتين من الجبل الطويل الذي بينه وبين الكعبة.
كذا ذكره الأزرقي.
ومسلم بن خالد، لم يكن بالحافظ.
وهذا إنما يعرف عن موسى بن عقبة عن نافع، فجعله عن ابن جريج، عنه.
وبقي من الحديث الذي خرجه البخاري:(3/445)
492 - وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استقبل فرضتي الجبل الذي بينه وبين الجبل الطويل نحو الكعبة، فجعل المسجد الذي بني ثم يسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسفل منه على الأكمة السوداء، تدع من الأكمة عشرة أذرع أو نحوها، ثم تصلي مستقبل(3/445)
الفرضتين من الجبل الذي بينك وبين الكعبة.
وهذه القطعة خرجها - أيضا - مسلم عن المسيبي، عن أبي ضمرة، وأعاد إسنادها بعد تخريج القطعة التي قبلها.
وهذا كله يوهم أن هذه صفة موضع آخر صلى فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل دخوله مكة، وليس كذلك، وإنما هو من تمام صفة موضع صلاته بذي طوى كما ساقه الأزرقي في رواية.
والظاهر: أنه هناك مسجدان مبنيان بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يعرف منهما اليوم شيء.
وفرضة الجبل - بضم الفاء - مدخل الطريق إليه؛ وأصله مأخوذ من الفرض وهو القطع غير البليغ -: قاله الخطابي.
وفي مبيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذي طوى، وصلاته الصبح في هذا المكان: دليل على أن من كان قادرا على الدخول إلى مكة معاينة الكعبة فله أن يصلي خارجا منها بغير معاينة، وأن من كان بمكة وبينه وبين الكعبة حائل أصلي كالجبل فله أن يصلي بالاجتهاد إلى الكعبة، ولا يلزمه أن يعلو فوق الجبال حتى يشهد الكعبة؛ لما في ذلك من الحرج والمشقة.
وهذا قول أصحابنا والشافعية، ولا نعلم فيه خلافا.
وهذا ((أخر أبواب المساجد)) ، وبعدها ((أبواب السترة)) ، وما يصلى إليه، والمرور بين يدي المصلي، ونحو ذلك.(3/446)
90 - باب
سترة الإمام سترة لمن خلفه
خرج فيه ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
قال:(4/5)
493 - ثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عباس، أنه قال: أقبلت راكبا على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد.
وقد خرجه - أيضا - في ((كتاب العلم)) عن إسماعيل، عن مالك.
وخرجه في آخر ((المغازي)) في ((باب: حجة الوداع)) عن يحيى بن قزعة، عن مالك.
وذكره تعليقا، قال: وقال الليث: حدثني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله، أن ابن عباس أخبره، أنه أقبل يسير على حمار، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائم بمنى في حجة الوداع يصلي بالناس، فسار الحمار بين يدي بعض الصف، ثم نزل عنه فصف مع الناس.
ولكن هذا لفظ رواية يونس.(4/5)
وقد خرجه به مسلم في ((صحيحه)) من طريق ابن وهب، عنه.
وخرجه مسلم - أيضا - من طريق ابن عينية، عن الزهري، وقال: والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بعرفة.
ومن طريق معمر، عن الزهري، ولم يذكر فيه: منى ولا عرفة، وقال في حجة الوداع - أو يوم الفتح.
واقتصر من حديث ابن عيينة ومعمر على هذا.
وذكر يوم الفتح لا وجه له؛ فإن ابن عباس لم يكن قد ناهز يومئذ الاحتلام، ولا كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي يومئذ بمنى ولا عرفة.
وفي رواية ابن عيينة: جئت أنا والفضل على أتان لنا.
وفي رواية - أيضا - فلم يقل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنا شيئا.
وقد خرجه النسائي بتمامه هكذا.
وخرج الترمذي حديث معمر بتمامه، ولفظه: كنت رديف الفضل على أتان، فجئنا والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بأصحابه بمنى، فنزلنا عنها، فوصلنا الصف، فمرت بين أيديهم، فلم تقطع صلاتهم.
ففي هذه الروايات: أن ابن عباس مر على حماره بين يدي بعض الصف والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس، فلم ينكر ذلك عليه أحد، لا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا أحد ممن صلى خلفه.
وبهذا استدل البخاري وغيره من العلماء على أن سترة الإمام سترة لمن خلف؛ لأن سترة الإمام إذا كَانَتْ محفوظة كفى ذَلِكَ المأمومين، ولم يضرهم مرور من مر بَيْن
أيديهم؛ ولذلك لا يشرع للمأمومين اتخاذ سترة لهم وهم خلف الإمام.(4/6)
ولا نعلم أحدا ذكر في حديث ابن عباس: ((إلى غير جدار)) غير مالك. وقد خرجه في ((الموطإ)) في موضعين، ذكر في أحدهما هذه الكلمة، وأسقطها في الأخرى.
وقد قال الشافعي: قول ابن عباس: ((إلى غير جدار)) ، أراد - والله أعلم -: إلى غير سترة.
واستدل بذلك على أن السترة غير واجبة في الصلاة.
وحمله غيره على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي إلى عنزة، فإن هذه كانت عادته في الأسفار، على ما يأتي - إن شاء الله تعالى.
فكلام البخاري قد يدل على هذا؛ لإدخاله هذا الحديث في أن سترة الإمام سترة لمن خلفه.
وحمله الإمام أحمد - في رواية ابن منصور والأثرم - على مثل هذا.
لكن البخاري قد خرج الحديث، وفيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إلى غير جدار، كما تقدم، إلا أن يقال: لا يلزم من عدم الجدار نفي استتاره بحربة ونحوها.
وقد ذكر الأثرم أن ابن أخي الزهري روى هذا الحديث عن الزهري، وذكر فيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إلى غير سترة.
وقد روي عن الإمام أحمد مثل قول الشافعي، وأنه حمل الحديث على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إلى غير سترة -: نقله عنه الحسن بن ثواب.(4/7)
واستدل بالحديث - في رواية جماعة من أصحابه عنه - على أن مرور الحمار بين يدي المصلي لا يقطع صلاته، وعارض به حديث أبي ذر.
وهذا إنما يكون إذا كان يصلي إلى غير سترة.
وقد ورد في رواية التصريح بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي إلى غير سترة. وفي حديث آخر التصريح بأن ابن عباس مر بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فأما الأول، فمن طريق الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن أبي الصهباء، قال: تذاكرنا ما يقطع الصلاة عند ابن عباس، قال: جئت أنا وغلام من بني عبد المطلب على حمار، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي، فنزل ونزلت وتركنا الحمار أمام الصف، فما بالاه، وجاءت جاريتان من بني عبد المطلب فدخلتا بين الصف، فما بالى ذلك.
خرجه أبو داود - وهذا لفظه -، والنسائي.
وخرجه الأثرم، وعنده: ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في أرض خلاء.
وخرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ((كتاب الشافي)) من طريق شعبة، ولفظه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في فضاء ليس بين يديه سترة.
وقد ذكره الإمام أحمد بهذا اللفظ من حديث شعبة، واحتج به، ولم(4/8)
نجده في ((المسند)) بهذا اللفظ.
وذكر الأثرم أن شعبة ومنصورا رويا في هذا الحديث: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في فضاء من الأرض، ليس بين يديه سترة، ولعل هذا مما تصرفوا في لفظه لما فهموه من معناه، هكذا رواه شعبة ومنصور، عن الحكم، عن يحيى، عن صهيب.
ورواه شعبة - أيضا - عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الجزار، عن ابن عباس - من غير ذكر: ((صهيب)) في إسناده.
خرجه الإمام أحمد كذلك.
وقد روي عن منصور، عن الحكم كذلك - أيضا.
خرجه ابن حبان في ((صحيحه)) كذلك.(4/9)
ورواه حجاج، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن ابن عباس - من غير ذكر: ((أبي الصهباء)) - أيضا - ولفظ حديثه: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في فضاء، ليس بين يديه شيء - ولم يزد على ذلك.
خرجه من طريقه الإمام أحمد.
وأبو الصهباء، اسمه: صهيب المدني، وهو ثقة، وثقه أبو زرعة وغيره. ويقال أنه البكري، وهو مدني، لكن سئل عن صهيب هذا، فقال: شيخ من أهل البصرة. وهذا يدل على أنه غير المدني.
وصحح أبو حاتم الرازي - فيما نقله عنه ابنه - كلا القولين: إدخال صهيب في إسناده، وإسقاطه.
وفي ((مسند الإمام أحمد)) : أن يحيى بن الجزار لم يسمعه من ابن عباس.
والظاهر: أن ذلك من قول شعبة.
وكلام أحمد يدل على أن الصحيح دخوله في الإسناد.
وذكر الإمام أحمد هذا الحديث، واستدل به على أن الصلاة إلى غير سترة صحيحة، وقال: ليس هو بذاك.
يعني: من جهة إسناده، ولعله رأى أن صهيبا هذا غير معروف، وليس هو بأبي الصهباء البكري مولى ابن عباس؛ فإن ذاك مدني.
وأما الثاني: فمن طريق ابن جُرَيْج: حَدَّثَنِي عَبْد الكريم الجزري، أن(4/10)
مجاهدا
أخبره، عن ابن عباس، قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا والفضل على أتان، فمررنا بين يدي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفة وهو يصلي المكتوبة، ليس شيء يستره، يحول بيننا وبينه.
خرجه البزار.
وخرج الإمام أحمد من طريق ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: جئت أنا والفضل على حمار، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس في فضاء من الأرض، فمررنا بين يديه ونحن عليه، حتى جاوزنا عامة الصف، فما نهانا ولا ردنا.
وشعبة هذا، تكلم فيه.
فعلى تقدير أن يكون ابن عباس مر بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي إلى غير سترة، فإنه يحمل على أنه مر بين يديه من بعد؛ فإنه لا يظن بالفضل وأخيه أن يمرا على حمار بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقرب منه، وإذا كان مرورهما بين يديه متباعدا فإنه لا يضر، ومرورهما على هذه الحال وجوده كعدمه.
وعلى تقدير أن يكونا لم يمرا إلا بين يدي بعض الصف، ولم يمرا بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والروايات الصحيحة إنما تدل على ذلك فمع ما علم من عادة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صلاته إلى العنزة في أسفاره.
وقد روي ذلك من حديث(4/11)
ابن عباس - أيضا.
خرجه الإمام أحمد: ثنا يزيد بن أبي حكيم: حدثني الحكم بن أبان، قال: سمعت عكرمة يقول: قال ابن عباس قال: ركزت العنزة بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفات، فصلى والحمار من وراء العنزة.
والظاهر: أنه أشار إلى مروره على الحمار بين يديه، فيستدل بالحديث حينئذ على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، كما استدل به البخاري.
وسواء كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذ يصلي إلى سترة أو إلى غير سترة؛ لأن قبلته كانت محفوظة عن المرور فيها، وكان هو - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سترة لمن وراءه؛ فلذلك لم يضرهم مرور الحمار بين أيديهم.
وهذا قول جمهور العلماء: إن سترة الإمام سترة لمن خلفه.
قال ابن المنذر: روي ذلك عن ابن عمر، وبه قال النخعي ومالك والأوزاعي واحمد. انتهى.
وروي - أيضا - عن أبي قلابة وعن الشعبي.
وروي عنه، عن مسروق.
ولكن أنكره الإمام أحمد، وذكره عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن فقهاء المدينة السبعة(4/12)
في مشيخة سواهم من نظرائهم أهل ثقة وفضل، وهو قول الثوري.
وقد روي فيه حديث مرفوع:
خرجه الطبراني من رواية سويد بن عبد العزيز، عن عاصم الأحول، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((سترة الإمام سترة لمن خلفه)) .
ولكن لا يصح؛ وسويد هذا ضعيف جدا.
وقد أنكر الإمام أحمد عليه أنه روى عن حصين، عن الشعبي، عن مسروق أنه قال: سترة الإمام سترة لمن خلفه، وقال: إنما هو قول الشعبي. فكيف لو سمع أنه روى ذلك بإسناد له عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
ومنهم من قال: الإمام سترة لمن خلفه، وهو قول طائفة من أصحاب مالك.
ومعنى كون سترة الإمام سترة لمن خلفه: أن المأمومين لا يشرع لهم أن ينصبوا بين أيديهم سترة إمامهم، وأنه لا يضرهم من مر بين أيديهم إذا لم يمر بين يدي إمامهم.
ويدل على ذلك - أيضا -: ما روى هشام بن الغاز، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: هبطنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(4/13)
ثنية أذاخر، فحضرت الصلاة - يعني: إلى جدر - فاتخذه قبلة ونحن خلفه، فجاءت بهيمة تمر بين يديه، فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدر، ومرت من ورائه.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود.
وهذا يدل على أن المرور بين الإمام وسترته محذور، بخلاف المرور بين يدي من خلفه، إذا كانت سترة الإمام محفوظة.
وأما جواز المرور بين يدي المأمومين إذا كانت سترة إمامهم محفوظة ففيه قولان:
أحدهما: أنه منهي عنه - أيضا - نص عليه في رواية الأثرم، في الرجل يكون خلف الإمام وبين يديه صف، فيكون في الصف الذي بين يديه خلل عن يساره ليس هو بحذائه، أيمشي إليه فيسده؟ قال: إن كان بحذائه فعل فأما أن يمشي معترضا فيؤذي الذي إلى جنبه ويمر بين يديه فلا.
وهذا يدل على أن المشي بين يدي المأمومين داخل في النهي.
ومن أصحابنا من حمل ذلك على كراهة التنزيه، بخلاف المشي بين الإمام والمنفرد.
والكراهة قول أصحاب الشافعي - أيضا - وسيأتي عن الشافعي ما يدل عليه.
وقال سفيان: لا يعجبني ذلك.
وذكر مالك في ((الموطإ)) أنه بلغه، أن ابن عمر كان يكره أن يمر بين يدي النساء وهن(4/14)
يصلين.
وحمله بعضهم على كراهة المرور بين يدي صفوف النساء في مؤخرة المسجد إذا صلين مع الإمام.
والقول الثاني: جوازه من غير كراهة، وأنه غير داخل في النهي، وقد حكاه بعض أصحابنا رواية عن أحمد، إذا كان مشيه لحاجة؛ كمشيه إلى فرجة في الصف، أو إذا لم يجد موضعا يصلي قيه.
وهو ظاهر كلام كثير من أصحابنا؛ فإنهم استدلوا بحديث ابن عباس على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، وجعلوا عدم الإنكار على ابن عباس دليلا على ذلك.
وكلام ابن عباس يدل عليه - أيضا - فإنه استدل بعدم الإنكار على الجواز.
وهو مستلزم لعدم بطلان الصلاة، وهذا مذهب مالك وأصحابه.
ذكر مالك في ((الموطإ)) : ((باب: الرخصة في المرور بين يدي المصلي)) ، وخرج فيه حديث ابن عباس هذا، ثم قال: بلغني أن سعد بن وقاص كان يمر بين يدي بعض الصفوف والصلاة قائمة.
قال مالك: وأنا أرى ذلك واسعا، إذا أقيمت الصلاة بعد أن يحرم الإمام ولم يجد المرء مدخلا إلى المسجد إلا بين الصفوف.
وقد ذكر أبو داود في ((سننه)) بعض كلام مالك، عن القعنبي، عنه.
وقال سفيان الثوري: إذ انتهى إلى المسجد والطريق بين أيديهم، فانه يمشي معترضا حتى يدخل المسجد.(4/15)
وفي ((تهذيب المدونة)) للبرادعي: ولا بأس بالمرور بين الصفوف عرضا، والإمام سترة لهم، وإن لم يكونوا إلى سترة، وكذلك من رعف وأحدث فليخرج عرضا، وليس عليه أن يرجع الى عجز المسجد.
وذكر ابن عبد البر في ((التمهيد)) أن المأموم لا يدفع من مر بين يديه، وقال: لا أعلم بين أهل العلم فيه خلافا.
وذكر في ((الاستذكار)) قول مالك الذي ذكره في ((الموطإ)) ، وذكر أن مالكا يرخص في ذلك لمن لم يجد منه بدا، وأن غيره لا يرى به بأسا - يعني: بكل حال، سواء اضطر إليه أو لا -؛ لحديث ابن عباس. قال: وقد قدمنا أن الإمام سترة لمن خلفه، فالماشي خلفه أمام الصف كالماشي خلفه دون صف. قال: ويحتمل هذا أن يكون المار لم يجد بدا كما قال مالك. ولكن الظاهر ما قدمنا من الآثار الدالة على أن الإمام سترة لمن خلفه.
وهذا الكلام يدل على أن للعلماء اختلافا: هل الرخصة تختص بحال الضرورة أم تعم؟
وقد حكى بعض أصحابنا رواية أخرى عن أحمد، بأن من كان بين يديه فرجة فلا يكره له أن يمشي عرضا بين الصفوف حتى يقوم فيها.(4/16)
وهذا قول ثالث بالرخصة في ذلك لحاجة إليه، وإن لم يكن ضرورة.
وذكر البيهقي في كتابه ((المعرفة)) عن الشافعي في القديم، أنه ذكر قول مالك في هذا، واعتراض من اعترض عليه ثم أخذ في الذب عنه، واحتج بحديث ابن عباس
وغيره، وأشار إلى أن ذلك إنما قاله في المرور بين يدي المتنفلين الذين عليهم قطع النافلة للمكتوبة، ولا يجد الداخل طريقا غير الممر بين أيديهم.
ومعنى هذا أنه إنما يجوز المرور للضرورة بين يدي من يصلي صلاة مكروهة، هو من يتنفل بعد إقامة الصلاة، أو يطيل في نافلته وقد أقيمت الصلاة.
ولكن أصحاب مالك حملوا كلام مالك على عمومه في حال الضرورة كما تقدم، وهذا الكلام من الشافعي يدل على أن المأمومين لا يجوز المرور بين أيديهم إذا كانوا يقتدون بصلاة الإمام لضرورة ولا غيرها، كما قاله أحمد في غير حال الضرورة في رواية الأثرم.
وقال أصحاب الشافعي: إذا وجد الداخل فرجة في الصف الأول، فله أن يمر بين يدي الصف الثاني ويصف فيها؛ لتقصير أهل الثاني بتركها.
وهذا موافق لكلام الشافعي، حيث لم يجز المرور إلا مع تقصير المصلين، لكنه يخصه بحال الضرورة وأصحابه لم يخصوه بذلك.
ونص الشافعي في كتاب ((مختلف الحديث)) على أن المرور بين يدي المصلي إلى غير سترة مباح غير مكروه، واستدل بحديث(4/17)
ابن عباس هذا، وبحديث المطلب بن أبي وداعة.
وذهبت طائفة من العلماء إلى أن سترة الإمام ليست سترة لمن خلفه من المأمومين:
فروى الجوزجاني وغيره من طريق ابن سيرين، أنه بلغه، أن الحكم الغفاري أم جيشا، وأنه كان بين يديه رمح، فمر به ما يقطع الصلاة، فأعاد بالقوم الصلاة، فلما انصرف ذكر ذلك له، فقال: أولم تروا إلى ما مر بين أيدينا؟ فأنا ومن يليني قد سترنا الرمح، فإنما أعدت الصلاة من أجل العامة.
قال ابن المنذر في ((كتابه الكبير)) : وروي عن عطاء نحوه.
وروى عمر بن شبة في كتاب ((أخبار قضاة البصرة)) : ثنا محمد بن حاتم: ثنا إسماعيل بن إبراهيم: ثنا يونس؛ قال: كان موسى بن أنس يصلي بالناس في صحن المسجد، فكان كلب يمر بين أيديهم، فسألوا الحسن، فقال: أما الإمام ومن كان إلى سارية ومن كان خلف الصف فلا يعيد، ومن كان بين السواري فليعد.
وأما على تقدير أن يكون ابن عباس مر على الأتان بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يصلي إلى غير سترة، ولم ينهه عن ذلك، فهذا يحتمل وجوها:
أحدها: أن يكون مر بين يديه من بعد، والمار أمام المصلي إلى غير(4/18)
سترة عن بعد كالمار خلف سترته.
ولكن خرج الإمام أحمد من حديث الحسن العرني، عن ابن عباس، قال: أقبلت على حمار ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس، حتى إذا كنت قريبا منه نزلت عنه، وخليت عنه، ودخلت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته، فما أعاد صلاته، ولا نهاني عما صنعت.
والحسن العرني لم يسمع من ابن عباس -: قاله الإمام أحمد، فحديثه عنه منقطع.
والثاني: أن يحمل على أن الاستتار في الصلاة غير واجب، وإنما هو على الاختيار، وهذا حكاه البيهقي عن الشافعي.
ولكن يقال: فالمرور بين يدي المصلي إلى غير سترة، إما أنه حرام، أو مكروه، فكيف أقر عليه ولم ينكر؟
وقد يجاب: بأنه إذا كان مكروها، فإنكاره غير واجب.
ولأصحابنا وجه: أن من صلى إلى غير سترة لم يكن المرور بين يديه منهيا عنه إنما النهي يختص بمن صلى إلى سترة، فينهى عن المرور بينه وبين السترة، وهو قول ابن المنذر.
وقال أصحاب الشافعي: لا يحرم المرور بين يدي المصلي إلى غير(4/19)
سترة، بل يكره.
وهل للمصلي إلى غير سترة أن يدفع المار بين يديه؟ على وجهين لهم، أصحهما: ليس له الدفع.
والثالث: أن يكون مرور ابن عباس بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى كما في رواية مالك وغيره من أصحاب الزهري، وحكم الحرم أنه يجوز المرور فيه بين يدي المصلي دون سائر البلدان -: قاله طائفة من أصحابنا، وستأتي هذه المسألة فيما بعد حيث بوب البخاري عليها.
وقد روي ما يخالف هذا، وأن المار يرد بالأبطح، فروى ابن لهيعة: حدثني حبان بن واسع، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد وأبي بشير الأنصاري، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم ذات يوم وامرأة بالبطحاء، فأشار إليها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تأخري، فرجعت حتى صلى ثم مرت.
خرجه الإمام أحمد.
وابن لهيعة، حاله مشهور.
الحديث الثاني:
قال:(4/20)
494 - ثنا إسحاق: ثنا عبد الله بن نمير: ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس من ورائه، وكان يفعل ذلك في السفر، فمن ثم اتخذها الأمراء.(4/20)
في هذا الحديث: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا صلى في فضاء من الأرض صلى إلى الحربة، فيركزها بين يديه، ثم يصلي إليها، فكان يفعل ذلك في العيدين؛ لأنه كان يصليهما بالمصلى، ولم يكن فيه بناء ولا سترة، وكان يفعل ذلك في أسفاره – أيضا -؛ لأن المسافر لا يجد غالبا جدارا يستتر به، وأكثر ما يصلي في فضاء من الأرض.
وخرج ابن ماجه من طريق الأوزاعي: أخبرني نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغدو إلى المصلى في يوم عيد، والعنزة تحمل بين يديه، فإذا بلغ المصلى نصبت بين يديه، فيصلي إليها، وذلك أن المصلى كان فضاء ليس شيء يستتر به.
وخرج البخاري أوله دون آخره.
وقال أبو نعيم: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن مكحول، قال: كانت تحمل الحربة مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه كان يصلي إليها.
وما ذكر في حديث ابن عمر من اتخاذ الأمراء لها، فالأمراء الذين عناهم في زمنه إنما اتخذوها تعاظما وكبرا، لم يتخذوها لأجل الصلاة كما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتخذها للصلاة.
وفي الحديث: دليل على استحباب السترة للمصلي وإن كان في فضاء، وهو قول الأكثرين.
ورخص طائفة من العلماء لمن في فضاء أن يصلي إلى غير سترة، منهم: الحسن وعروة.
وكان القاسم وسالم يصليان في السفر إلى غير سترة. وروي عن الإمام أحمد نحوه -: نقله(4/21)
عنه الأثرم وغيره. وهو - أيضا - مذهب مالك.
قال صاحب ((تهذيب المدونة)) : ولا يصلي في الحضر إلا إلى سترة، ويصلي في السفر أو بموضع يأمن فيه مرور شيء بين يديه إلى غير سترة.
ويستدل لذلك بصلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى إلى غير جدار، كما تقدم في رواية مالك لحديث ابن عباس، وان الشافعي وغيره فسروه بصلاته إلى غير سترة بالكلية.
وقد قيل: إن فائدة السترة منع المرور بين يدي المصلي.
وقيل: كف النظر عما وراء السترة.
والأول أظهر وأشبه بظواهر النصوص، والعنزة ونحوها لا تكف النظر.
وحيث تستحب الصلاة إلى السترة، فليس ذلك على الوجوب عند الأكثرين، وهو المشهور عند أصحاب الإمام أحمد.
ومنهم من قال: هي واجبة، لكن لا تبطل الصلاة بتركها حتى يوجد المرور المبطل للصلاة الذي لأجله شرعت السترة.
وقال الأثرم: حديث ابن عباس في صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى غير سترة إن كان محفوظا فإنما وجهه إذا لم يجد سترة أجزأه.
فحمله على حالة تعذر وجود السترة، وفيه نظر؛ فان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يتعذر عليه تحصيل ما يستتر به، وهو بمنى أو بعرفة، ومعه الخلق العظيم من(4/22)
المسلمين.
ورخصت طائفة في الصلاة إلى غير سترة مطلقا؛ روى جابر، عن الشعبي، قال: لا بأس أن يصلي إلى غير سترة.
وقال ابن سيرين قلت لعبيدة: ما يستر المصلي، وما يقطع الصلاة؟ قال: يسترها التقوى ويقطعها الفجور. قال: فذكرته لشريح، فقال: أطيب لنفسك أن تجعل بين يديك شيئا.
خرجهما وكيع.
وروى بإسناده، عن ابن مسعود، قال: من الجفاء أن يصلي الرجل إلى غير سترة.
الحديث الثاني:(4/23)
495 - ثنا أبو الوليد: ثنا شعبة، عن عون بن أبي جحيفة، قال: سمعت أبي يحدث، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم بالبطحاء - وبين يديه عنزة - الظهر ركعتين والعصر ركعتين، يمر بين يديه المرأة والحمار.
هذا - أيضا - يدل - كما دل عليه حديث ابن عمر - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في أسفاره إلى عنزة تستره ممن يمر بين يديه،(4/23)
وهذا مما يضعف حمل الأثرم لصلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى أو عرفة إلى غير سترة على أنه تعذر عليه السترة؛ فان حديث أبي جحيفة يدل على أن العنزة كانت معه في حجة الوداع، وانه صلى إليها بمكة.
وقوله: ((يمر بين يديه المرأة والحمار)) مما يسدل به على أن مرورها بين يدي المصلي إلى غير سترة يقطع عليه صلاته، ولولا ذلك لم يكن لتخصيص المرأة والحمار بمرورهما بين يديه من وراء السترة - معنى.
وقوله: ((يمر بين يديه المرأة والحمار)) - يعني: من وراء العنزة، كما في الرواية الأخرى: يمرون من ورائها، وستأتي قريبا - إن شاء الله تعالى.(4/24)
91 - باب
قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة؟(4/25)
496 - حدثنا عمرو بن زرارة: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل، قال: كان بين مصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين الجدار ممر مشاة.(4/25)
497 - حدثنا المكي بن إبراهيم: ثنا يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة، قال: كان جدار المسجد عند المنبر، ما كادت الشاة تجوزها.
هذا الحديث الثاني أحد ثلاثيات البخاري، وهي الأحاديث التي بينه وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها ثلاثة رجال.
وحديث سهل يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي قريبا من الجدار بحيث لا يكون بين موقفه وبين الجدار غير قدر ما تمر فيه الشاة.
وأما حديث سلمة بن الأكوع، فتخريج البخاري له في هذا الباب يدل على أنه فهم منه أن المنبر كان بإزاء موقف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته أو متقدما عليه، متنحيا عن جدار قبلة المسجد، وبينهما خلل لا تجوز منه الشاة.
وقد قيل: أنه يحتمل أن المراد به: أنه كان بين المنبر وبين جدار المسجد الغربي خلل يسير، لا تكاد الشاة تجوز منه، وانه(4/25)
ليس المراد به جدار القبلة.
لكن قد خرج البخاري هذا الحديث في كتاب ((الاعتصام)) بلفظ صريح في المعنى الذي فهمه منه هاهنا، عن ابن أبي مريم، عن أبي غسان، عن أبي حازم، عن سهل، أنه كان بين جدار المسجد مما يلي القبلة وبين المنبر ممر الشاة.
وخرج الإمام أحمد، عن حماد بن مسعدة، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة، قال: كان بين المنبر والقبلة قدر ممر شاة.
وفي القرب من السترة أحاديث أخر:
فمنها: ما خرجه البخاري في باب مفرد بعد هذا من حديث موسى بن عقبة، عن نافع، أن عبد الله كان إذا دخل الكعبة مشى قبل وجهه حين يدخل، وجعل الباب قبل ظهره يمشي حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريب من ثلاثة أذرع صلى به، يتوخى المكان الذي أخبره به بلال أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فيه.
ومنها: ما ورد في الأمر بالدنو من السترة من غير تقدير بشيء:
فروى نافع بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة، يبلغ به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في(4/26)
((صحيحه)) .
وذكر أبو داود في إسناده اختلافا، وكذلك ذكره البخاري في ((تاريخه)) .
وقد روى - أيضا - عن نافع بن جبير - مرسلا، وفيه: ((فإن الشيطان يمر بينه وبينها)) .
وقال العقيلي: حديث سهل هذا ثابت.
وقال الميموني: قلت لأبي عبد الله - يعني: أحمد -: كيف إسناد حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا صلى أحدكم فليدن من سترته)) ؟ قال: صالح، ليس بإسناده بأس.
وروى ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه.
وروي هذا المتن من وجوه أخر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروى إسحاق بن سويد، عن عمر، أنه رأى، رجلا يصلي متباعدا عن
القبلة، فقال: تقدم، لا يفسد الشيطان عليك صلاتك،(4/27)
أما إني لم أقل إلا ما سمعت من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه الإسماعيلي وغيره.
وهو منقطع؛ فإن إسحاق لم يسمع من عمر.
وقد روي عنه مرسلا.
وروي عنه، عمن حدثه، عن عمر.
وروى مصعب بن ثابت، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أرهقوا القبلة)) .
خرجه البزار والأثرم.
وقال الدارقطني - فيما نقله عنه البرقاني -: لم يروه إلا مصعب بن ثابت، وليس بالقوي.
ومعنى إرهاق القبلة مضايقتها ومزاحمتها والدنو منها -: فسره ابن قتيبة وغيره، وتوقف أحمد في تفسيره.
وخرجه الجوزجاني، ولفظه: ((إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليقرب منها)) .
وفي الباب أحاديث أخر مسندة ومرسلة:
وروى وكيع بإسناده عن ابن مسعود، قال: يصلي وبينه وبين القبلة مقدار ممر رجل.
وعنه: قال: لا يصلين أحدكم وبينه وبين القبلة فجوة.
وسئل الحسن: هل كانوا يرقبون في البعد شيئا؟ قال: لا أعلمه.
وقال ابن المنذر: كان عبد الله بن معقل يجعل بينه وبين سترته ستة(4/28)
أذرع.
وقال عطاء: أقل ما يكفيك ثلاثة أذرع، وبه قال الشافعي.
وقال مهنأ: سألت أحمد عن الرجل يصلي، كم يكون بينه وبين القبلة؟ قال: يدنو من القبلة ما استطاع، ثم قال: إن ابن عمر قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكعبة، فكان بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع.
وقال الأثرم: سئل أبو عبد الله عن مقدار ما بين المصلي وبين السارية؟ فذكر حديث ابن عمر هذا. قيل له: يكون بينه وبين الجدار إذا سجد شبر؟ قال: لا أدري ما شبر.
قال الأثرم: ورأيته يتطوع وبينه وبين القبلة كثير، أذرع ثلاثة أو أكثر.
قال ابن عبد البر: ولم يحد مالك في ذلك حدا.
ثم أشار ابن عبد البر إلى أن الآخذين بحديث سهل بن سعد الذي خرجه البخاري في قدر ممر الشاة أولى.
وقال في موضع آخر: حديث ابن عمر أصح إسنادا من حديث سهل، وكلاهما حسن.
قلت: ولو جمع بين حديث سهل وابن عمر فأخذ بحديث ابن عمر في النافلة وحديث سهل في الفريضة لكان له وجه؛ فإن صلاة النبي في الكعبة كانت تطوعا، وسهل إنما أخبر عن مقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجده الذي كان يصلي فيه بالناس الفرائض.(4/29)
وقال القرطبي: قدره بعض الناس بقدر شبر.
قلت: هذا فيما يفصل عن محل سجوده، لا عن محل قيامه، كما سئل عنه الإمام أحمد فيما سبق.
قال: ولم أحد في ذلك حدا، إلا أن ذلك بقدر ما يركع فيه ويسجد، ويتمكن من دفع من يمر بين يديه.
قال: وقد حمل بعض شيوخنا حديث ممر الشاة على ما إذا كان قائما، وحديث ثلاثة أذرع على ما إذا ركع أو سجد.
كذا وجدته، وينبغي أن يكون بالعكس؛ فإن الراكع والساجد يدنوان من السترة أكثر من القائم كما لا يخفى.
وذكر صاحب ((المهذب)) من الشافعية: أن ممر العنز قدر ثلاثة أذرع، فعلى قوله يتحد معنى حديث سهل وحديث ابن عمر، وهو بعيد جدا.
ومتى صلى إلى سترة وتباعد عنها، فقال أصحاب الشافعي: هو كما لو صلى إلى غير سترة، في المرور بين يديه ودفعه للمار، على ما سبق حكاية مذهبهم.(4/30)
92 - باب
الصلاة إلى الحربة(4/31)
498 - حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن عبد الله بن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت تركز له الحربة، فيصلي إليها.
قد تقدم هذا الحديث بأبسط من هذا السياق.(4/31)
93 - باب
الصلاة إلى العنزة(4/32)
499 - حدثنا آدم: ثنا شعبة: ثنا عون بن أبي جحيفة، قال: سمعت أبي، قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمهاجرة، فأتي بوضوء فتوضأ، فصلى بنا الظهر والعصر، وبين يديه عنزة، والمرأة والحمار يمرون من ورائها.(4/32)
500 - حدثنا محمد بن حاتم بن بزيع، ثنا شاذان، عن شعبة، عن عطاء بن أبي ميمونة، قال: سمعت انس بن مالك يقول: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج لحاجته تبعته أنا وغلام، ومعنا عكازة أو عصى أو عنزة، ومعنا إداوة، فإذا فرغ من حاجته ناولناه الإداوة.
((شاذان)) ، هو: أسود بن عامر، وشاذان لقب له.
وحديث انس قد خرجه في ((كتاب الوضوء)) ، في ((أبواب الاستنجاء)) ، وذكرنا هناك فائدة حمل العنزة.
وظاهر تبويب البخاري يدل على التفريق بين العنزة والحربة، وأكثر العلماء فسروا العنزة بالحربة.
وقال أبو عبيد: العنزة عصا قدر نصف الرمح أو أكثر، لها سنان.(4/32)
وقد خرج مسلم حديث ابن عمر الذي خرجه البخاري في الباب الماضي من حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان تركز له العنزة ويصلي إليها.
قال عبيد الله: وهي الحربة.
وقد فرق قوم بين العنزة والحربة، فعن الأصمعي قال: العنزة: ما دور نصله، والحربة: العريضة النصل.
وأشار بعضهم إلى عكس ذلك.
وصلاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى العنزة والحربة يستفاد منه: أن السترة يستحب أن يكون عرضها كعرض الرمح ونحوه، وطولها ذراع فما فوقه.
قال ابن المنذر: جاء الحديث عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبالي من مر وراء ذلك)) .
وقال أنس وأبو هريرة بذلك في الطول.
وقال الأوزاعي: يجزئ السهم والسوط والسيف.
وقال عطاء: قدر مؤخرة الرحل يكون حالقها على وجه الأرض ذراعا.
وبه قال الثوري وأصحاب الرأي.
وقال مالك والشافعي: قدر عظم الذراع فصاعدا.
وقال قتادة: ذراعا وشبرا.
وقال الأوزاعي: يستر المصلي مثل مؤخرة الرحل، وبه قال الثوري. انتهى.(4/33)
وسئل أبو العالية عن السترة؟ فقال: طول الرحل، والعرض ما عرض أحب إلي.
وقال ابن عبد البر: قال مالك: أقل ما يجزئ المصلي في السترة غلظ الرمح، وكذلك السوط أن كان قائما، وارتفاعها: قدر عظم الذراع، هذا أقل ما يجزئ عنده، ولا تفسد عنده صلاة من صلى إلى غير سترة، وإن كان ذلك مكروها له.
وقول الشافعي في ذلك كقول مالك.
وقال الثوري وأبو حنيفة: أقل السترة: قدر مؤخرة الرحل، ويكون ارتفاعها على ظهر الأرض ذراعا، وهو قول عطاء.
وقال قتادة: ذراع وشبر.
وقال الأوزاعي: قدر مؤخرة الرحل، ولم يحد ذراعا، ولا عظم ذراع، ولا غير ذلك، وقال: يجزئ السهم والسوط والسيف - يعني في الغلظ. انتهى.
وفي ((تهذيب المدونة)) للبرادعي المالكي: ويستره قدر مؤخرة الرحل، وهو نحو من عظم الذراع. قال مالك: وإني لأحب أن يكون في جلة الرمح أو الحربة، وليس السوط بسترة. انتهى.
وأما مذهب الشافعي وأصحابه، فيستحب عندهم أن يكون ارتفاع السترة قدر مؤخرة الرحل، واختلفوا في تقديرها، فالمشهور عندهم: إنها نحو ثلثي ذراع فصاعدا. وقيل: ذراع، وأما عرضها فلا حد له عندهم،(4/34)
بل يكفي الغليظ والدقيق.
وأما مذهب أحمد وأصحابه، فنص أحمد على أن السترة قدر مؤخرة الرحل، وأن مؤخرة الرحل ذراع -: نقله عنه أكثر أصحابه.
ونقل ابن قاسم، عنه في قدر ما يستر المصلي، قال: قدر عظم الذراع من الأشياء، وهو كمؤخرة الرحل.
وهذا مثل قول من قدره بنحو ثلثي ذراع؛ لأن ذَلِكَ هُوَ طول عظم ذراع الإنسان.
وأما عرضها فلا حد له عند أصحابنا، إلا أنه كلما غلظ كان أولى.
وقال إسحاق: قدر مؤخرة الرحل ذراع.
وقد خرج البخاري حديث الصلاة إلى مؤخرة الرحل من حديث ابن عمر، وسيأتي قريبا - أن شاء الله.
وخرج مسلم من حديث سماك، عن موسى ابن طلحة، عن أبيه طلحة بن عبيد الله، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبالي بمن مر وراء ذلك)) .
قال علي بن المديني: إسناده حسن.
وخرج مسلم - أيضا - من حديث أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل في غزوة تبوك عن سترة المصلى؟ فقال: ((كمؤخرة الرحل)) .(4/35)
ومن حديث عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل)) .
وخرج الإمام أحمد من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة، عن أبيه، عن
جده، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يستر الرجل في صلاته السهم، وإذا صلى أحدكم فليستتر بسهم)) .
وفي رواية له ـ أيضا ـ بهذا الإسناد: ((ليستتر أحدكم في صلاته، ولو بسهم)) .
وخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.
وخرج الحاكم ـ أيضا ـ من حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال:
((يجزئ من السترة مؤخرة الرحل، ولو بدقة شعرة)) .
وزعم أنه صحيح على شرطهما، وليس كذلك؛ فإن هذا تفرد برفعة محمد بن القاسم الأسدي، عن ثور بن يزيد، عن يزيد بن يزيد بن جابر، عن مكحول، عن يزيد بن جابر، عن أبي هريرة.(4/36)
والأسدي، ضعيف جدا.
قال الدارقطني: غيره لا يرفعه ـ يعني: أنه يقفه على أبي هريرة.
وسئل ابن معين عن حديث أبي هريرة الموقوف. فقال: هو مستقيم الإسناد.
وروى مسعر، عن الوليد بن أبي مالك، عن أبي عبيد الله، عن أبي هريرة: يجزئ المصلي مثل مؤخرة الرحل في مثل جلة السوط.
كذا رواه الحفاظ عن مسعر، وهو المحفوظ ـ: قَالَ الدارقطني وغيره.
وأبو عُبَيْدِ الله، هُوَ: مُسْلِم بْن مشكم صاحب معاذ -: قاله يعقوب بن سفيان [وابن ناجية] .
والوليد ومسلم شاميان ثقتان.
ورواه أبو هشام الرفاعي، عن حفص بن غياث، عن مسعر ـ فرفعه.
خرجه الإسماعيلي.
وأبو هشام ليس بالقوي.
وسنذكر ـ أن شاء الله ـ حديث الصلاة إلى العصا.
وهذا كله مما استدل به على مالك في قوله: إن ما كان دون عرض الرمح لا تحصل به سنة الاستتار.(4/37)
وعن أبي العالية، قال: يستر المصلي كحرف القلم.
خرجه وكيع.
وأما إذا لم يجد ما يصلي إليه، إلا ما كان دون مؤخرة الرحل في الانتصاب، مثل حجر أو عصا لا يستطيع نصبها، فهل يضعها بين يديه ويصلي إليها، أم لا؟ فِيهِ قولان:
أحدهما: أنه يصلي إلى ذَلِكَ إذا لَمْ يجد غيره، وحكاه ابن المنذر عَن سَعِيد بن جبير والأوزاعي وأحمد، وَهُوَ قَوْلِ إسحاق –أيضا -.
وروى ابن أبي شيبة في ((كتابه)) عن الشعبي ونافع بن جبير نحوه.
وقال طائفة من الشافعية: إذا لم يجد شيئا شاخصا بسط مصلى.
وروي عن أبي سعيد: كنا نستتر بالسهم والحجر في الصلاة.
ذكره ابن المنذر.
والثاني: تكره الصلاة إلى ذلك.
قال ابن المنذر: كره النخعي الصلاة إلى عصا يعرضها.
وقال الثوري: الخط أحب إلي من هذه الحجارة التي في الطريق إذا لم يكن ذراعا.
وحكى بعض من صنف في مذهب سفيان: أن سفيان سئل: هل يجزئ الحبل الممدود المعترض؟ قال: لا يغني من السترة.
وروى حرب بإسناده، عن النخعي، أنه سئل عن الرجل يصلي يستتر بحبل معترضا؟ قال: لو كان الحبل بالطول كان أحب إلي.
وهذا يدل على أن الصلاة إلى المستطيل أولى من الصلاة إلى المعترض عنده؛ لأن المستطيل أشبه بالسترة القائمة.
والأكثرون،(4/38)
كالأوزاعي والثوري وأحمد يرون أن المعترض أولى؛ ولهذا رجحوا في الخط أن يكون معترضا.
ولو صلى وبين يديه ما يمنع الاستطراق من نهر أو نحوه، فهل هو سترة؟
قالت طائفة: هو سترة، منهم الحسن والأوزاعي.
وروي ذلك عن ابن عمر بإسناد ضعيف.
خرجه كله حرب الكرماني.
وقال: سألت إسحاق عن ذلك، فقال: إذا كان نهرا تجري فيه السفن فلا يصلي، وإن لم يكن تجري فيه فهو أسهل.
يشير إسحاق إلى أنه إذا كان تجري فيه السفن فهو طويق مسلوك، فلا يصلي إليه بدون سترة تحول بينه وبينه.
وأيضا؛ فالصلاة إلى النهر الجاري مما يلهي المصلي؛ فإنه مما يستحسن النظر إليه، وقد سبق كراهة الصلاة إلى ما يلهي.
وقال سفيان: إذا صلى على حائط قدر ثلاثة أذرع أو نحو ذلك فأرجو أن يكون سترة ما لم يكن طريقا.
وسئل النخعي عن الصلاة على السطح، والناس يمرون بين يديه؟ قال: يتأخر حتى لا يراهم.
ونقل الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز مثل قول النخعي.
قال الوليد: وقال مالك: إن كان ارتفاع السطح مثل مؤخرة الرحل فأكثر من ذلك فصل.
وأما الخط في الأرض إذا لم يجد ما يستتر به ففيه قولان:
أحدهما: أنه يحصل به الاستتار - أيضا -، وهو قول أبي هريرة،(4/39)
وعطاء، وسعيد بن جبير، والأوزاعي، والثوري، والشافعي في أحد قوليه - ورجحه كثير من أصحابه أو أكثرهم - وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور.
والثاني: أنه ليس بسترة، وهو قول مالك، والنخعي، والليث، وأبي حنيفة، والشافعي في الجديد.
وقال مالك: الخط باطل.
واستدل من قال بالخط بما روى إسماعيل بن أمية، عن أبي محمد عمرو بن حريث العذري، عن جده، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يجد عصا فليخط خطا، ثم لا يضره ما مر بين يديه)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان في ((صحيحه)) .
وحكي عن ابن المديني أنه صححه.
وحكى ابن عبد البر عن أحمد وعلي بن المديني أنهما صححاه.
وأحمد لم يعرف عنه التصريح بصحته، إنما مذهبه العمل بالخط، وقد يكون اعتمد على الآثار الموقوفة لا على الحديث المرفوع.
فإنه قال(4/40)
في رواية ابن القاسم: الحديث في الخط ضعيف.
وكان الشافعي يقول بالخط، ثم توقف فيه، وقال: إلا أن يكون فيه حديث يثبت.
وهذا يدل على أنه توقف في ثبوته.
وقال ابن عيينة لم نجد شيئا نشد به هذا الحديث، ولم يجئ إلا من هذا الوجه.
وذكر أن هذا الشيخ الذي روى عنه إسماعيل بن أمية سئل عنه فخلط فيه.
ذكر ذلك أبو داود في ((سننه)) بإسناده عن ابن عيينة.
وقد اختلف على إسماعيل في تسمية شيخه، وفيمن رواه عنه شيخه:
فقيل: عنه كما ذكرنا.
وقيل: عنه، عن أبي عمرو بن محمد بن حريث.
وقيل: عنه، عن أبي عمرو بن حريث.
وأما الاختلاف فيمن رواه عنه شيخه.
فقيل: عن إسماعيل، عن شيخه هذا - على اختلاف في تسميته كما تقدم -، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وقيل: عنه، عن شيخه هذا، عن جده، عن أبي هريرة.
وقيل: عنه، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وقيل: عنه، عن شيخه هذا، عن أبي هريرة - بغير واسطة بينهما.
وقال أبو زرعة: الصحيح: عن إسماعيل، عن أبي عمرو بن حريث، عن أبيه، عن أبي هريرة.
ونقل الغلابي في ((تاريخه)) عن يحيى بن معين، أنه قال: الصحيح: إسماعيل بن أمية، عن جده حريث - وهو: أبو أمية، وهو من عذرة.(4/41)
قال: ومن قال فيه: عمرو بن حريث فقد أخطأ.
وهذا الكلام يفيد شيئين:
أحدهما: أن إسماعيل بن أمية هذا هو ابن حريث، وهو يروي هذا الحديث عن جده حريث العذري، عن أبي هريرة.
وكذا رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن إسماعيل، عن حريث بن عمار عن أبي هريرة.
والثاني: أن إسماعيل هذا ليس هو ابن أمية القرشي المشهور، بل هو: ابن أمية بن حريث العذري.
وهذا غريب جدا، ولا أعلم أحدا ذكر إسماعيل هذا، وهذا الحديث قد رواه الأعيان عن إسماعيل، منهم: الثوري وابن جريج وابن عيينة، وإنما يروي هؤلاء عن إسماعيل بن أمية الأموي المكي الثقة المشهور، ويمتنع أن يوري هؤلاء كلهم عن رجل لا يعرف، ولا يذكر اسمه في تاريخ ولا غيره.
ولكن هذا الرجل الذي روى عنه إسماعيل وأبوه وجده قد قيل: إنهم مجهولون.
وقد اختلف - أيضا - في رفع هذا الحديث ووقفه على أبي هريرة، لكن الأكثرون رفعوه.
وقال الدارقطني: رفعه عن إسماعيل بن أمية صحيح.
وقد روي عن أبي هريرة من وجه آخر:
روى وكيع في ((كتابه)) ، عن أبي مالك، عن أيوب بن موسى، عن المقبري، عن أبي هريرة، قال: إذا صلى أحدكم فلم يجد ما يستره فليخط خطا.(4/42)
وقد روي عن الأوزاعي، عن أيوب بن موسى، عن أبي سلمة - مرفوعا.
وقيل: عن الأوزاعي، عن رجل من أهل المدينة، عن أبي هريرة - موقوفا.
قال الدارقطني: والحديث لا يثبت.
قلت: وقد روي في الخط بين يدي المصلي حديث مرفوع من حديث انس.
خرجه حمزة السهمي في ((تاريخ إستراباذ)) .
وإسناده مجهول ساقط بمرة.
واختلف القائلون بالخط: هل يخط طولا، أو عرضا كالهلال؟ على قولين:
قال عطاء والثوري وأحمد وإسحاق: يكون عرضا.
وقال عمرو بن قيس وغيره: يكون طولا.
وأجازه أحمد على كل حال، ولكن المعترض عنده أولى،(4/43)
94 - باب
السترة بمكة وغيرها(4/44)
501 - حدثنا سليمان بن حرب: ثنا شعبة، عن الحكم، عن أبي جحيفة، قال: خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالهاجرة، فصلى بالبطحاء الظهر والعصر ركعتين، ونصب بين يديه عنزة، وتوضأ، فجعل الناس يتمسحون بوضوئه.
مراد البخاري: أن السترة تشرع بمكة وغيرها، واستدل بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالبطحاء - وهو أبطح مكة - في حجته إلى عنزة.
وقد اختلف العلماء في حكم مكة في السترة: هل حكمها كحكم سائر
البلدان، أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أن حكمها في سترة الصلاة حكم سائر البلدان، وهو اختيار البخاري وقول [........] والشافعي، وحكي رواية عن أحمد.
وروي نحوه عن ابن عمر:
قال أبو نعيم الفضل بن دكين في ((كتاب الصلاة)) : ثنا جعفر بن برقان، عن يزيد الفقير، قال: كنت أصلي إلى جنب ابن عمر بمكة، فلم أر رجلا اكره أن يمر بين يديه منه.
ثنا عبد العزيز الماجشون، عن صالح بن كيسان، قال: رأيت ابن عمر يصلي في الكعبة، فلا يدع أحدا يمر بين يديه، يبادره - قال: يرده.(4/44)
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن يحيى بن أبي كثير، قال: رأيت انس بن مالك في المسجد الحرام قد نصب عصا يصلي إليها.
القول الثاني: أن مكة تجوز الصلاة فيها إلى غير سترة، والمرور بين يدي المصلي من غير كراهة في ذلك، وهو قول طاوس وعطاء وأحمد، نص عليه في رواية ابن الحكم وغيره.
وكان محمد بن الحنفية يصلي بمسجد منى، والناس يمرون بين يديه، فجاء فتى من أهله، فجلس بين يديه.
وروى ابن جريج، عن ابن أبي عمار، قال: رأيت ابن الزبير طاف بالبيت، ثم جاء فصلى، والطواف بينه وبين القبلة.
قال: تمر بين يديه المرأة فينتظرها حتى تمر، ثم يضع جبهته في موضع قدميها.
واستدل الإمام أحمد بحديث المطلب بن أبي وداعة:
وقد خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه من رواية ابن جريج، عن كثير بن كثير، عن أبيه، عن المطلب بن أبي وداعة، قال: رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا فرغ من سبعه جاء حتى يحاذي بالركن، فيصلي ركعتين في حاشية المطاف، وليس بينه وبين الطواف أحد.
وخرجه الإمام أحمد - أيضا - عن ابن عيينة، قال: حدثني كثير بن(4/45)
كثير ابن أبي وداعة، سمع بعض أهله يحدث، عن جده، أنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي مما يلي الباب بني سهم، والناس يمرون بين يديه، ليس بينهم سترة.
قال ابن عيينة: وكان ابن جريج أخبرنا عنه، فقال: ثنا كثير، عن أبيه، فسألته، فقال: ليس من أبي سمعته، ولكن من بعض أهلي، عن جدي، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى مما يلي باب بني سهم، ليس بينه وبين الطواف سترة.
وخرجه أبو داود عن الإمام أحمد.
وقد تبين برواية ابن عيينة هذه أنها أصح من رواية ابن جريج، ولكن يصير في إسنادها من لا يعرف.
وقد رواه غير واحد عن كثير بن كثير كما رواه عنه ابن جريج.
وصلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالأبطح إلى العنزة لا يعارض حديث المطلب؛ لأن حديث المطلب دل على جواز الصلاة بمكة إلى غير سترة، وحديث أبي جحيفة دل على جواز الصلاة بمكة إلى سترة.
وقد نص أحمد على أن مكة مخصوصة من بين البلدان بذلك ومن أصحابنا من قال: إن حكم الحرم كله كذلك، ولو قيل: إن الصلاة إلى غير سترة مختص بالمسجد الحرام وحده دون بقاع مكة والحرم لكان جمعا بين الحديثين متوجها، وكلام القاضي(4/46)
أبي يعلى في كتابه ((الجامع الكبير)) يدل عليه، وصرح به غيره من أصحابنا.
وحمل الشافعي حديث المطلب بن أبي وداعة على أن الأمر بالصلاة إلى السترة على الاستحباب دون الوجوب، كما حمل عليه حديث ابن عباس في صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى إلى غير جدار.
وحديث أبي جحيفة قد يوهم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالهاجرة الظهر والعصر، فجمع بينهما في أول وقتهما وهو مقيم بمكة، ولم يستدل به أحد - فيما نعلم - على الجمع بين الصلاتين.
وقد جاء في رواية للإمام أحمد: ((فصلى الظهر أو العصر)) - بالشك.
ولكن رواية من قال: ((بالهاجرة)) يدل على أنه صلى الظهر بغير شك.
وقد خرجه مسلم، ولفظه: فتقدم، فصلى الظهر ركعتين، يمر بين يديه الحمار والكلب لا يمنع، ثم صلى العصر ركعتين، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة.
وهذا يدل على أنه إنما صلى العصر في وقتها.
وقد رواه حجاج بين أرطاة، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، وقال فيه - بعد ذكر صلاة الظهر - ثم حضرت العصر، فقام بلال فأذن، فصلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين.
خرجه من طريقه ابن سعد.(4/47)
وهو صريح في أنه لم يجمع بين الصلاتين.
وحجاج بن أرطاة، وإن كان متكلما فيه، إلا أنه فقيه يفهم معنى الكلام، فيرجع إلى زيادته على من ليس له مثل فهمه في الفقه والمعاني.(4/48)
95 - باب
الصلاة إلى الأسطوانة
وقال عمر: المصلون أحق بالسواري من المتحدثين إليها.
ورأى ابن عمر رجلا يصلي بين أسطوانتين، فأدناه إلى سارية، فقال: صل إليها.
خرج فيه حديثين:
الحديث الأول:(4/49)
502 - ثنا المكي: ثنا يزيد بن أبي عبيد، قال: كنت آتي مع سلمة بن الأكوع، فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت: يا أبا مسلم، أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة؟ قال: فإني رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحرى الصلاة عندها.
هذا - أيضا - من ثلاثيات البخاري.
والأسطوانة: السارية.
وهذه الأسطوانة الظاهر أنها من أسطوان المسجد القديم الَّذِي يسمى الروضة، وفي الروضة أسطوانتان، كل منهما يقال: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي إليها:
الأسطوانة المخلقة، وتعرف بأسطوانة المهاجرين؛ لأن أكابرهم كانوا(4/49)
يجلسون إليها ويصلون عندها، وتسمى: أسطوان عائشة.
ويقال: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إليها المكتوبة بعد تحويل القبلة بضع عشرة يوما، ثم تقدم إلى مصلاه اليوم.
وهي الأسطوانة الثالثة من المنبر، والثالثة من القبلة، والثالثة من القبر الشريف، وهي متوسطة في الروضة.
وأسطوانة التوبة، وهي التي ربط فيها أبو لبابة نفسه حتى تاب الله عليه.
وقد قيل: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا اعتكف في رمضان طرح له فراشه، ووضع سريره وراءها.
وقد روي عن عمر مولى غفرة ومحمد بن كعب، أن أكثر نوافل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت عندها.
وهي الأسطوانة الثانية من القبر الشريف، والثالثة من القبلة، والرابعة من المنبر.
وفي الحديث: دليل على أنه لا بأس أن يلزم المصلي مكانا معينا من المسجد يصلي فيه تطوعا.
وقد ورد في رواية التصريح بأن هذه الصلاة كانت تطوعا.
خرجه ابن ماجه، ولفظ حديثه: أن سلمة كان يأتي إلى سبحة الضحى فيعمد إلى الأسطوانة دون المصحف، فيصلي قريبا منها،(4/50)
فأقول له: ألا تصلي هاهنا، وأشير إلى بعض نواحي المسجد، فيقول: إني رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحرى هذا المقام.
وقوله: ((قريبا منها)) قد يحمل على أنه كان ينحرف عنها في صلاته، ولا يستقبلها استقبالا.
وخرج البزار، من رواية يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن عبد الرحمن ابن صفوان، قال: لما خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من البيت سألت من كان معه: أين صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالوا: صلى ركعتين عند السارية الوسطى، عن يمينها.
ويزيد بن أبي زياد ليس بالحافظ.
وروى عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، سأل بلالا: أين صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني: في الكعبة –؟ قَالَ: فأشار لَهُ بلال إلى السارية الثانية عِنْدَ
الباب. قال: صلى عن يمينها، تقدم عنها شيئا.
وعبد العزيز - أيضا - ليس بالحافظ.
وقد صرح أصحابنا وأصحاب الشافعي وغيرهم بأنه يستحب لمن صلى إلى سترة منصوبة أن ينحرف عنها ولا يستقبلها.
وصرح بذلك من أصحابنا: أبو بكر عبد العزيز وابن بطة والقاضي أبو يعلى وأصحابه.
وأخذوه من نص الإمام أحمد على أن الإمام يقوم عن(4/51)
يمين طاق المحراب.
وكذا قال النخعي.
واستدلوا بما روى علي بن عياش، عن الوليد بن كامل، عن المهلب بن حجر البهراني، عن ضباعة بنت المقداد بن الأسود، عن أبيها: ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى عود ولا إلى عمود ولا إلى شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد له صمدا.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود.
وخرجه الإمام أحمد - أيضا من رواية بقية بن الوليد، عن الوليد بن كامل، عن حجر - أو ابن حجر - بن المهلب، عن ضبيعة بنت المقداد بن معد يكرب، عن أبيها، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا صلى إلى عمود أو خشبة أو شبه ذلك لا يجعله نصب عينيه ولكن يجعله على حاجبه الأيسر.
ولعل هذه الرواية أشبه: وكلام ابن معين وأبي حاتم الرازي يشهد له.
والشاميون كانوا يسمون المقدام بن معد يكرب: المقداد، ولا ينسبونه - أحيانا، فيظن من سمعه غير منسوب أنه ابن الأسود، وإنما هو ابن معد يكرب وقد وقع هذا الاختلاف لهم في غير حديث من رواياتهم.
والمهلب بن حجر شيخ ليس بالمشهور.
والوليد، قال أبو حاتم: وهو(4/52)
شيخ. وقال البخاري: عنده عجائب.
قال القرطبي: لعل هذا كَانَ أول الإسلام؛ لقرب العهد بإلف عبادة الحجارة والأصنام، حتى تظهر المخالفة في استقبال السترة لما كانوا عليه من استقبالهم تلك المعبودات. انتهى.
وقد كره مالك أن يصلي إلى حجر في الطريق، فأما إلى حجارة كثيرة فجائز.
ذكره في ((تهذيب المدونة)) .
وقد ورد النهي عن أن يوطن الرجل له مكانا في المسجد يصلي فيه: من رواية تميم بن محمود، عن عبد الرحمن بن شبل، قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يوطن الرجل المكان الذي في المسجد كما يوطن البعير.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
وفي إسناده اختلاف كثير.
وتميم بن محمود، قال البخاري: في حديثه نظر.
وقد حمل أصحابنا حديث النهي على الصلاة المفروضة، وحديث الرخصة على الصلاة النافلة.
وكان للإمام أحمد مكان يقوم فيه في الصلاة المكتوبة خلف الإمام، فتأخر يوماً فنحاه الناس وتركوه، فجاء بعد ذلك فقام في طرف الصف ولم يقم فيه، وقال: قد جاء أنه يكره أن يوطن الرجل مكانه.(4/53)
الحديث الثاني:(4/54)
503 - حدثنا قبيصة: ثنا سفيان، عن عمرو بن عامر، عن أنس، قال: لقد أدركت كبار أصحاب محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبتدرون السواري عند المغرب.
وزاد شعبة، عن عمرو، عن أنس: حتى يخرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
رواية شعبة قد أسندها البخاري في ((كتاب الأذان)) .
وخرج مسلم من رواية عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، قال: كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري، فركعوا ركعتين، حتى أن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما.
فهذا الحديث: يدل على أن عادة أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زمنه كان التنفل إلى السواري قبل الصلاة المكتوبة وبعدها، وبخلاف الصلاة المكتوبة، فإنهم كانوا يصلونها صفوفاً صفوفاً، ولا يعتبرون لها سترةً، بل يكتفون بسترة إمامهم.
وروى وكيع، عن هشام بن الغاز، عن نافع، قال: كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلاً إلى سارية من سواري المسجد قال لي: اجلس وول ظهرك.(4/54)
96 - باب
الصلاة بين السواري في غير جماعة(4/55)
504 - حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: دخل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البيت وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحه وبلال، فأطال ثم خرج، فكنت أول الناس دخل على أثره، فسألت بلالاً: أين أصلي؟ فَقَالَ: بَيْن العمودين المقدمين.(4/55)
505 – حَدَّثَنَا عبد الله بْن يوسف: أبنا مَالِك بْن أنس، عَن نَافِع، عَن ابن
عمر، أن رسوا الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل الكعبة وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي، فأغلقها عليه، ومكث فيها، فسألت بلالاً حين خرج: ما صنع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: جعل عمودا عن يساره، وعموداً عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه - وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة -، ثم صلى.
وقال إسماعيل: حدثني مالك، فقال: عمودين عن(4/55)
يمينه.
قد دل هذان الحديثان على أن البيت الحرام كان فيه ستة أعمدة حين دخله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكانت الأعمدة صفين، في كل صف ثلاثة أعمدة، فجعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأعمدة الثلاثة التي تلي باب البيت خلف ظهره، وتقدم إلى الأعمدة المتقدمة، فصلى بين عمودين منها.
وفي رواية مالك التي ذكرها البخاري - تعليقا -: أنه جعل عمودين عن يمينه، وعمودا عن يساره.
وقد خرجها مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك.
وهذا يدل على أنه كان إلى جهة الركن اليماني أقرب منه من جهة الحجر.
ويشهد لذلك - أيضا -: رواية سالم، عن أبيه، أنه سأل بلالا: هل صلى فيه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: نعم، بين العمودين اليمانيين.
وقد خرجها البخاري في ((الحج)) .
والمراد باليمانيين: ما يلي جهة الركن اليماني.
ويدل عليه - أيضا -: حديث مجاهد، عن ابن عمر، أنه سأل بلالا: أصلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكعبة؟ قال: نعم، بين الساريتين اللتين على يساره إذا دخل.
وقد خرجه البخاري في ((أبواب استقبال القبلة)) ، وقد مضى.
وقد روى عبد العزيز بن أبي رواد، قال: حدثني نافع، أن ابن عمر(4/56)
سأل بلالا: أين صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فأشار له بلال إلى السارية الثانية عند الباب، قال: صلى عن يمينها، تقدم عنها شيئا.
خرجه الأزرقي.
وقوله: ((السارية الثانية عند الباب)) ، كأنه يريد السارية الثانية مما يلي الباب؛ فإن الباب يليه سارية من الصف المؤخر، ثم يليها سارية ثانية من الصف المقدم، وهي السارية الوسطى من ذلك الصف.
وقوله: ((صلى عن يمينها)) يوهم أنه جعلها عن يساره حتى يكون مصليا عن يمينها، وعلى هذا التقدير، فيكون قد جعل عمودا عن يمينه وعمودين عن يساره.
وهذا يخالف رواية مالك المتقدمة، وتلك الرواية مع ما عضدها وشهد لها أصح من رواية ابن أبي رواد، ويزيد بن أبي زياد التي ذكرناها في الباب الماضي.
وقوله في رواية ابن أبي رواد: ((تقدم عنها شيئا)) يدل على أنه صلى متقدما عنها إلى مقدم البيت، وسيأتي في الباب الذي يلي هذا أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل بينه وبين الجدار نحو ثلاثة أذرع.
وقد روى الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي الشعثاء - وهو: سليم المحاربي -، قال: خرجت حاجا، فجئت حتى دخلت البيت، فلما كنت بين الساريتين مضيت حتى لزقت بالحائط، فجاء ابن عمر فصلى إلى جنبي، فلما صلى قلت له: أين صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(4/57)
من البيت؟ قال: أخبرني أسامة بن زيد، أنه صلى هاهنا.
خرجه الإمام أحمد وابن حبان في ((صحيحه)) .
وفيه: دليل على أنه صلى متقدما على الساريتين، وإن لم يكن جعلهما خلف ظهره، كما جعل الأعمدة الثلاثة المتأخرة التي تلي باب البيت، فإنه جعلها وراء ظهره في صلاته.
ومقصود البخاري بهذا الباب: أن من صلى بين ساريتين منفردا، كمن يصلي تطوعا؛ فإنه لا يكره له ذلك كما فعله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكعبة، وكان ابن عمر يفعله.
وكذا لو صلى جماعة، وكان إمامهم، ووقف بين الساريتين وحده، وقد فعل ذلك سعيد بن جبير وسويد بن غفلة.
ورخص فيه سفيان للإمام وكرهه للمأمومين.
وإنما يكره ذلك؛ لصف تقطعه السواري، فلو صلى اثنان أو ثلاثة جماعة بين ساريتين لم يكره - أيضا -، هذا قول أصحابنا وأصحاب الشافعي وغيرهم من العلماء.
وعلى مثل ذلك حملوا ما ورد من النهي عنه - مرفوعا، وموقوفا.
فالمرفوع؛ روي من حديث سفيان، عن يحيى بن هانئ بن عروة المرادي، عن عبد الحميد بن محمود، قال: صلينا خلف أمير من الأمراء، فاضطرنا الناس فصلينا بين الساريتين، فلما صلينا قال انس بن مالك: كنا نتقي هذا على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن خزيمة وابن(4/58)
حبان في ((صحيحيهما)) والحاكم، وقال: صحيح.
وقال الترمذي: حديث حسن.
وعبد الحميد هذا ابن محمود المعولي البصري، روى عنه جماعة، وقال أبو حاتم: هو شيخ.
ويحيى بن هانئ المرادي، كوفي ثقة مشهور.
وروى هارون بن مسلم أبو مسلم، عن قتادة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه، قال: كنا ننهي أن نصف بين السواري على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونطرد عنها طردا.
خرجه ابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) والحاكم وصححه.
وقال ابن المديني: إسناده ليس بالصافي. قال: وأبو مسلم هذا مجهول.
وكذا قال أبو حاتم: هو مجهول.
وليس هو بصاحب الحناء؛ فإن ذاك معروف، وقد فرق بينهما مسلم في كتاب ((الكنى)) وأبو حاتم الرازي.
وفيه: عن ابن عباس - مرفوعا -، ولا يثبت.(4/59)
قال ابن المنذر: لا اعلم في هذا خبرا يثبت.
وقد روي النهي عنه، عن حذيفة وابن مسعود وابن عباس، وهو قول النخعي، وحكاه الترمذي عن أحمد وإسحاق.
وقد نص أحمد على كراهة الصلاة بين الأساطين مطلقا من غير تفصيل -: نقله عنه جماعة، منهم: أبو طالب وابن القاسم، وسوى في روايته بين الجمعة وغيرها.
ونقل عنه حرب: يكره ذلك، قلوا أو كثروا، وإن كانوا عشرة.
وصرح أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ((كتاب الشافي)) بكراهة قيام الإمام بين السواري.
وأما القاضي أبو يعلى وأصحابه، فقالوا: إنما يكره ذلك لصف تقطعه السواري، وحملوا كلام أحمد على ذلك.
ويشهد له: ما نقله ابن منصور، عن أحمد، وقد سأله: هل يقوم الإمام بين الساريتين، يؤم القوم؟ قال: إنما يكره للصف، إذا كان يستتر بشيء فلا بأس.
قال إسحاق بن راهويه كما قال.
وكذا نقل حرب، عن إسحاق، أنه يكره ذلك للصف، ولا يكره لمن صلى وحده.
ورخص فيه ابن سيرين وأبو حنيفة ومالك وابن المنذر.
وفي(4/60)
((تهذيب المدونة)) للمالكية: لا بأس بالصلاة بين الأساطين لضيق المسجد.
وقد روي عن حذيفة، أنه كرهه لقطع الصفوف - أيضا.
قال أبو نعيم: ثنا زفر - وهو ابن عبد الله، عن حصين بن عبد الرحمن، عن هلال بن يساف، قال: كان حذيفة يكره أن نقوم بين الأسطوانتين لتقطع الصفوف.
ومن أهل الحديث من حمل الكراهة على من صلى وحده مع الجماعة بين السواري، لأنه يصير فذا، بخلاف من صلى مع غيره.
وهذا بعيد جدا، ولا فرق في هذا بين ما بين السواري وغيرها.(4/61)
97 - باب(4/62)
506 - حدثنا إبراهيم بن المنذر: ثنا أبو ضمرة: ثنا موسى بن عقبة، عن نافع، أن عبد الله كان إذا دخل الكعبة مشى قبل وجهه حين يدخل، وجعل الباب قبل ظهره، فمشى حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريبا من ثلاثة أذرع صلى، يتوخى المكان الذي أخبره به بلال أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فيه.
قال: وليس على أحدنا بأس أن يصلي في أي نواحي البيت شاء.
هذا الحديث: مما يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في الكعبة تلقاء وجهه لما دخل، وجعل الباب وراء ظهره.
وقد خرج مسلم من حديث أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أنه سأل بلالا: أين صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: بين العمودين، تلقاء وجهه.
وفي هذا الحديث: زيادة: أنه صلى إلى الجدار الذي تلقاء وجهه حتى كان بينه وبينه قريب من ثلاثة أذرع.
وقد روي في حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن بلال هذه الزيادة - أيضا -، وانه صلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع.
وقد خرجها أبو داود من رواية ابن مهدي، عن مالك.
وقال جماعة، عن مالك،(4/62)
فيه: ((نحو من ثلاثة أذرع)) .
وقد خرجه النسائي كذلك من رواية ابن القاسم، عن مالك.
وقد روى حماد بن سلمة، عن ابن أبي مليكة، أن معاوية قدم مكة، فدخل الكعبة، فأرسل إلى ابن عمر: أين صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: صلى بين الساريتين بحيال الباب، فجاء ابن الزبير، فدخل، فقال لمعاوية: أما إنك قد علمت أني اعلم مثل الذي يعلم، ولكنك حسدتني.
خرجه الإمام أحمد.
وخرجه الأزرقي بسياق مطول، من حديث عبد الحميد بن جبير بن شيبة، عن أخيه شيبة بن جبير بن شيبة بن عثمان، قال: حج معاوية وهو خليفة - فذكر حديثا طويلا، وفيه: أنه فتح له باب الكعبة، فدخل وأرسل إلى ابن عمر، فجاءه، فقال له معاوية: يا أبا عبد الرحمن، أين صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام دخلها؟ فقال: بين العمودين المقدمين، واجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة - وذكر بقية الحديث في دخول ابن الزبير، وغير ذلك.
وقد ذكرنا هذا الحديث في ((باب الدنو من السترة)) .
وفي الحديث - أيضا - دليل على أن من دخل مسجدا وأراد أن يصلي فيه تطوعا، فالأولى له أن يصلي في صدر المسجد، لا(4/63)
عند بابه.
وقد روي أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ليلة اسري به إلى المسجد الأقصى في صدر المسجد - أيضا -: فخرج الإمام أحمد من رواية حماد بن سلمة: ثنا أبو سنان، عن عبيد بن
آدم، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لكعب: أين ترى أن اصلي - يعني: في بيت المقدس -؟ أن أخذت عني صليت خلف الصخرة، فكانت القدس كلها بين يديك. فقال عمر - رضي الله عنه -: ضاهيت اليهود، ولكن اصلي حيث صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتقدم إلى القبلة، فصلى، ثم جاء فبسط رداءه وكنس الكناسة في ردائه، وكنس الناس.
عبيد بن آدم، ذكره ابن حبان في ((ثقاته)) . وأبو سنان، هو: القسملي عيسى بن سنان، ضعفه الأكثرون، منهم: أحمد ويحيى. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال العجلي: لا باس به. وقال ابن خراش: صدوق.
وقد رواه أبو أسامة، عن أبي سنان عيسى بن سنان القسملي، عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: صليت مع عمر في كنيسة مريم، في وادي جهنم، فلما انصرف قال: لقد كنت غنيا أن تصلي على باب من أبواب جهنم، ثم تنخع، فاخرج قميصه، فبزق فيه فقلنا: يا أمير المؤمنين، لو تفلت في الكنيسة، وهو مكان شرك؟ فَقَالَ: أنه وان كَانَ يشرك(4/64)
فِيهِ فإنه يذكر فِيهِ اسم الله كثيرا. قَالَ ثُمَّ دخلنا المسجد، فَقَالَ عُمَر: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صليت ليله اسري بي فِي مقدم المسجد، ثُمَّ دخلت فِي الصخرة الَّتِيْ فِي بيت المقدس)) – وذكر بقية الحَدِيْث، وفي أخره: قَالَ: ((ثُمَّ انطلق بي إلى السماء، ففرضت عَلِيّ الصلاة، ثُمَّ رجعت إلى خديجة، وما تحولت عَن جانبها الآخر)) .
خرجه الإسماعيلي في ((مسند عمر)) في ترجمة: ((حديث: عبد الرحمن بن محمد والد المغيرة بن عبد الرحمن، عن عمر)) .
وقد كره بعض المتقدمين التطوع في مقدم المسجد من السحر:
فخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عامر الالهاني، قال: دخل المسجد حابس بن سعد الطائي من السحر - وقد أدرك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرأى الناس يصلون في مقدم المسجد، فقال: مراءون ورب الكعبة، أرعبوهم، فمن أرعبهم فقد أطاع الله ورسوله، فأتاهم الناس فأخرجوهم، فقال: أن الملائكة تصلي من السحر في مقدم المسجد.
وإنما خرجه في ((المسند)) لقول حابس: ((من أرعبهم فقد أطاع الله
ورسوله)) ، وهذا في حكم المرفوع.
وحابس بن سعد معدود من الصحابة.(4/65)
وقد روي - أيضا - النهي عن ذلك عن عمر بن الخطاب، وأنه ضرب من رآه في مقدم المسجد يصلي، وقال: ألم أنهكم أن تقدموا في مقدم المسجد بالسحر؛ إن له عوامر.
خرجه جعفر الفرياني في ((كتاب الصلاة)) .
قال القاضي أبو يعلى من أصحابنا: هذا يدل على كراهة التقدم في الصف الأول في صدر المسجد قبل السحر.
ويكره - أيضا - استناد الظهر إلى القبلة بين أذان الفجر والإقامة.
وكرهه ابن مسعود، وقال: لا تحولوا بين الملائكة وبين صلاتهم.
وقال النخعي: كانوا يكرهونه.
وقال الإمام أحمد: هو مكروه، وأمر من فعله أن يحول وجهه إلى القبلة.
وروي عن عمر بن عبد العزيز، أنه نهى أن يستند إلى القبلة في مواقيت الصلاة.
وهذا يعم سائر الصلوات، ولعله كرهه؛ لأن الداخل إلى المسجد يصلي عند دخوله، فإذا كان بين يديه رجل مسند ظهره إلى القبلة صلى مستقبل وجهه، وذلك مكروه، كما تقدم.
وقد روي فيه حديث مرفوع، يدل على الرخصة فيه في غير صلاة الفجر، من رواية عيسى بن المسيب، عن الشعبي، عن كعب بن عجرة، قال: بينما أنا جالس في مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مسندي ظهورنا إلى قبلة مسجده سبعة رهط، إذ خرج إلينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الظهر حتى انتهى(4/66)
إلينا، فقال: ((ما يجلسكم ها هنا؟)) فقلنا: يا رسول الله، ننتظر الصلاة. قال: فارم قليلا، ثم رفع رأسه، فقال: ((أتدرون ما يقول ربكم؟)) - ثم ذكر حديثا طويلا في فضل المحافظة على الصلوات.
خرجه الإمام أحمد.
وعيسى بن المسيب، تكلم فيه.
وذكر مالك عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع، قال: كنت اصلي وابن عمر مسند ظهره إلى جدار القبلة، فلما قضيت صلاتي انصرفت إليه.
قال ابن عبد البر: فيه الاستناد إلى حائط القبلة في المسجد، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يفعله من يستقبل الصلاة.
وقوله: ((وَقَالَ: ليس على احدنا باس أن يصلي في نواحي البيت شاء)) .
الظاهر أنه من قول نافع، وقد وافقه أكثر العلماء على ذلك، منهم: الثوري والشافعي.
وقد روي عن أحمد أنه لا يصلي في الكعبة إلا إلى الجهة التي صلى أليها النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وحمله أصحابنا على الاستحباب، وقد سبق ذلك.(4/67)
98 - باب
الصلاة إلى الراحلة والبعير والشجر والرحل(4/68)
507 - حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي البصري: ثنا معتمر بن سليمان، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يعرض راحلته فيصلي إليها. فقلت: أفرأيت إذا هبت الركاب؟ قال: كان يأخذ الرحل فيعد له، فيصلي إلى آخرته - أو قال: مؤخرته -، وكان ابن عمر يفعله.
قد ذكرنا في ((باب: الصلاة في مواضع الإبل)) الاختلاف في رفع هذا الحديث ووقفه، وحكم الاستتار بالبعير في الصلاة.
وقوله: ((يعرض راحلته)) بكسر الراء - أي: ينيخها، معترضة بينه وبين جهة القبلة.
وفيه لغة أخرى: يعرض - بضم الراء -، ذكرها صاحب ((كشف المشكل)) .
وقوله ((هبت الركاب)) ، معناه: قامت الإبل للسير -: قاله الهروي وغيره.
ويقال للنائم إذا قام من نومه: هب من منامه.(4/68)
والمراد إذا لم يكن عنده إبل باركة يستتر بها.
وقاله الخطابي: هبت أي هاجت، يقال: هب الفحل هبيبا إذا هاج. قال: يريد، أن الإبل إذا هاجت لم تهدا، ولم تقر، فتفسد على المصلي إليها صلاته.
وهذا الذي قاله في غاية البعد، وان كان محتملا في اللفظ، فليس هو المراد في الحديث.
وقوله: ((يأخذ الرحل)) : رحل البعير، هو: ما على ظهره مما يركب عليه، والراحلة: هي ما يرتحل الرجل - أي: يركبه في ارتحاله، بعيرا كان أو ناقة -: قاله الأزهري وغيره.
ومنه: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((الناس كإبل مائة، ليست فيها راحلة)) .
وقوله: ((فيعدله)) - بفتح الياء، وكسر الدال.
قال الخطابي: أي يقيمه تلقاء وجهه.
و ((آخرة الرحل)) - بكسر الخاء -: هي الخشبة التي يستند إليها الراكب على الرحل.
وقد سبق الخلاف في تقديرها: هل هو ذراع تام بالذراع الذي يذرع به، أو ذراع بعظم ذراع الإنسان،(4/69)
وهو نحو ثلثي ذراع مما يذرع به؟
ويقال في آخرة الرحل: مؤخرة الرحل.
واختلفوا في ضبطها:
فمنهم من ضبطها بضم الميم وسكون الهمزة، وكسر الخاء المعجمة.
وقد حكاها أبو عبيد، وانكرها ابن السكيت وغيره.
وقال بعضهم: لا يقال: مؤخرة ومقدم - بكسر -، إلا في العين خاصة، وإنما يقال في غيرها بالفتح.
وضبطها بعضهم بسكون الهمزة، وفتح الخاء وتخفيفها.
ذكره ثابت في ((دلائله)) وأنكر ذلك ابن قتيبة وغيره.
وضبطها الأصيلي في نسخته بالبخاري - فيما حكى عنه - بفتح الميم وسكون الواو وكسر الخاء.
وضبطها بعضهم بضم الميم وفتح الهمزة والخاء وتشديدها.
ذكره صاحب ((المشارق)) ، وانكرها صاحب ((النهاية)) .
وقال بعضهم: المحدثون يروونه بتشديد الخاء، والصواب: آخرة.
وقد تبين بهذا الحديث الذي ذكره البخاري في ((صحيحه)) جواز الاستتار بالراحلة وبالبعير، سواء كان مرتحلا أو غير مرتحل، اللهم إلا أن يكون غير المرتحل
هائجا، فيخشى من هيجانه إفساد الصلاة على من يصلي إليه كما ذكره الخطابي.
وجواز الاستتار برحل الراحلة.
وأما الشجر، فذكره البخاري في تبويبه، ولم يذكر فيه شيئا، وهو مأخوذ من الاستتار بالرحل؛ فإن الرحل خشب، والخشب(4/70)
مأخوذ من الشجر، فإذا ثبت جواز الاستتار في الصلاة بالخشب دل على جواز الاستتار بالشجر قبل قطعه.
وفيه حديث ليس على شرط البخاري، من رواية أبي إسحاق، عن حارثة ابن مضرب، عن علي، قال: لقد رايتنا ليلة بدر، وما فينا إنسان ألا نائم، إلا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه كان يصلي إلى شجرة، ويدعو حتى أصبح.
خرجه الإمام أحمد والنسائي.
وابن حبان في صحيحه، وعنده: ((تحت شجرة)) .
وقد رواه بعضهم، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي.
ورواه غيره، عن أبي إسحاق، عن البراء.
والصحيح: عن حارثة، عن علي -: قاله الدارقطني.
وخرج أبو داود بإسناد فيه نظر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل بتبوك إلى نخلة، فقال: ((هذه قبلتنا)) ، ثم صلى إليها.
وقد سبق حديث المقداد، أنه لم ير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر.(4/71)
99 - باب
الصلاة إلى السرير(4/72)
508 - حدثنا عثمان بن أبي شيبة: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: أعدلتمونا بالكلب والحمار؟! لقد رأيتني مضطجعة على السرير، فيجيء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيتوسط السرير فيصلي، فأكره أن أسنحه، فأنسل من قبل رجلي السرير حتى أنسل من لحافي.
زعم الإسماعيلي: أن هذا الحديث لا دلالة فيه على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي إلى السرير، وإنما يدل على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي على السرير.
قال: ولكن صلاته إلى السرير موجود في حديث الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي والسرير بينه وبين القبلة.
وحديث الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة: خرجه البخاري فيما بعد، ولفظه: لقد رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وإني لبينه وبين القبلة، وأنا مضطجعة على السرير.
وخرجه - أيضا - من طريق الأعمش بهذا الإسناد، وبإسناد آخر، عن إبراهيم، عن الأسود، عن(4/72)
عائشة، قالت: لقد رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وأنا على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة.
وكذا خرجه مسلم من حديث الأعمش بالإسنادين، ومن طريق جرير عن منصور، كما خرجه البخاري في هذا الباب.
وهذه الألفاظ كلها ليس فيها تصريح بأنه كان يصلي تحت السرير.
ولكن خرجه الإمام أحمد، عن ابن نمير، عن الأعمش، بالإسنادين معا. فذكر الحديث -، وفيه: لقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي مقابل السرير، وأنا عليه بينه وبين القبلة.
وقول عائشة: ((فأكره أن أسنحه)) .
قال الخطابي: قولها: ((أسنحه)) من قولك: سنح لي الشيء، إذا عرض، تريد: أني أكره أن أستقبله ببدني في صلاته. ومن هذا سوانح الطير والظباء، وهي ما يعترض الركب والمسافرين، فتجيء عن مياسرهم وتجوز إلى ميامنهم.
في الحديث: دليل على جواز أن يصلي المصلي إلى سترة شاخصة من الأرض، وإن كان فوقها إنسان نائم.
ونظيره: الصلاة إلى سرير الطفل وهو فيه.(4/73)
وروى الإمام أحمد: ثنا محمد بن بكر: أبنا ابن جريج: أخبرني عطاء، عن عروة أن عائشة أخبرته، قالت: لقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وإني لمعترضة على السرير بينه وبين القبلة. قلت: أبينهما جدر المسجد؟ قالت: لا، في البيت إلى جدره.
وهذا يدل على أن سترته كانت جدار البيت دون السرير، ولعل السرير لم يكن مرتفعا شاخصا عن الأرض كمؤخرة الرحل.
ويدل على هذا: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أحيانا إذا سجد يغمزها برجله، ولو كان السرير مرتفعا عن الأرض قدر ذراع أو قريب منه لم يتمكن من ذلك.(4/74)
100 - باب
يرد المصلي من مر بين يديه
ورد ابن عمر في التشهد وفي الكعبة، وقال: أن أبى إلا أن يقاتله قاتله.
رد ابن عمر في الكعبة قد ذكرناه في ((باب: السترة بمكة وغيرها)) .
وأما رده في التشهد، فقال أبو نعيم: ثنا فطر بن خليفة، عن عمرو بن دينار، قال: مررت بابن عمر بعد ما جلس في آخر صلاته حتى أنظر ما يصنع، فارتفع من مكانه فدفع في صدري.
قال: وثنا جعفر بن برقان، عن عمرو بن دينار، قال: أردت أن أمر بين يدي ابن عمر وهو يصلي، فانتهرني بتسبيحه.
قال: وثنا بشير بن مهاجر، قال: رأيت أنس بن مالك وهو جالس في صلاته لم ينصرف، فجاء رجل يريد أن يمر بينه وبين السارية، فأماطه.(4/75)
وروى ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: انصرف الإمام من العصر، فقمت أبادر مجلس عبيد بن عمير، فمررت بين يدي ابن عمر وأنا لا أشعر، فقال: سبحان الله، سبحان الله - مرتين - وجثا على ركبتيه، ومد يديه حتى ردني.
وأما قول ابن عمر: ((أن أبى إلا أن تقاتله فقاتله)) . فقد خرجه عبد الرزاق في ((كتابه)) عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لا تدع أحدا يمر بين يديك وأنت تصلي، فإن أبى إلا أن تقاتله فقاتله.
وقد روي عن ابن عمر مرفوعا من رواية الضحاك بن عثمان، عن صدقة بن يسار، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله؛ فإن معه القرين)) .
خرجه مسلم.
وفي رواية أخرى لابن ماجه: ((فإن معه العزى)) .
وروى النضر بن كثير أبو سهل السعدي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،(4/76)
قال: ((إذا كنت تصلي فمر بين يديك أحد، فرده، فإن أبى فرده، فإن أبى فقاتله؛ فإنه شيطان)) .
خرجه الدارقطني في ((المختلف والمؤتلف)) .
وقال في النضر هذا: فيه نظر.
وكذا قال أبو حاتم الرازي: شيخ فيه نظر. وكذا قال البخاري: فيه نظر. وقال في موضع آخر: عنده مناكير.
وخرجه الطبراني في ((الأوسط)) ، وقال: تفرد به النضر بن كثير.
ولفظه: ((فإن عاد الرابعة فقاتله)) .
وخرجه البزار، وقال: لا نعلم أسند قتادة عن نافع، عن ابن عمر إلا هذا، ولا رواه عن سعيد إلا النضر، وهو بصري مشهور لا بأس به.
وزعم ابن حبان: أنه يروي الموضوعات عن الثقات. فالله اعلم.
قال البخاري - رحمه الله -:(4/77)
509 - حدثنا أبو معمر: ثنا عبد الوارث: ثنا يونس، عن حميد بن هلال، عن أبي صالح، أن أبا سعيد قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وحدثنا آدم: ثنا سليمان بن المغيرة: ثنا حميد بن هلال(4/77)
العدوي: ثنا أبو صالح السمان، قال: رأيت أبا سعيد الخدري في يوم جمعة يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه، فدفع أبو سعيد في صدره، فنظر الشاب فلم يجد مساغا إلا بين يديه، فعاد ليجتاز، فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى، فنال من أبي سعيد، ثم دخل على مروان، فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد، ودخل أبو سعيد خلفه على مروان، فقال: مالك ولابن أخيك يا أبا سعيد؟ قال: سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله؛ فإنما هو شيطان)) .
سليمان بن المغيرة، لم يخرج له البخاري إلا هذا الحديث متابعة لحديث يونس بن عبيد، وإنما خرجه بعد إسناد حديث يونس؛ لما فيه من الزيادة في إسناده ومتنه.
أما في إسناده، ففيه: التصريح بسماع حميد له من أبي صالح، وسماع أبي صالح له من أبي سعيد.
وأما في المتن، فإن فيه: ذكر الصلاة إلى السترة، وليس هو في حديث يونس.
وكذلك رواه سليم بن حيان، عن حميد، ولم يقل - أيضا - ((إذا(4/78)
صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس)) .
وحينئذ؛ فلفظ الحديث الذي ساقه البخاري لسليمان بن المغيرة، وحمل حديث يونس عليه، ولم ينبه على ما في حديث سليمان من الزيادة.
وقد نبه على ذلك الإسماعيلي.
وكذلك روى مالك، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد
الخدري، عن أبيه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا كان أحدكم يصلى فلا يدع أحدا يمر بين يديه، وليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله؛ فإنما هو شيطان)) .
خرجه مسلم.
وقد روي هذا الحديث عن أبي سعيد من رواية عطاء بن يسار وأبي الوداك.
وروي - أيضا - من رواية عطاء بن يسار، عنه.
وليس في حديث احد منهم ذكر الصلاة إلى السترة، وإنما تفرد بذكرها سليمان بن المغيرة في حديثه عن حميد بن هلال. والله اعلم.
وتابعه على ذكرها: ابن عجلان، عن زيد بن اسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه.
وقد خرج حديثه أبو داود وابن ماجه.
وليس ابن عجلان بذاك الحافظ.
وتابعه - أيضا -: داود بْن قيس، عَن زيد بْن أسلم.
خرج حديثه عبد الرزاق، عنه، بسياق مطول، وفيه: أن أبا سعيد دفع(4/79)
الفتى حتى صرعه، وانه لما سأله مروان عن ذلك قال: ما فعلت، إنما دفعت شيطانا، ثم قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((إذا أراد أن يمر بين يديك وبين سترتك احد فاردده، فإن أبى فاردده فإن أبى فقاتله؛ فإنما هو شيطان)) .
وخرج الإمام أحمد عن عبد الرزاق المرفوع منه خاصة.
وخرج من حديث زهير، عن زيد بن اسلم الحديث بنحو رواية مالك، من غير ذكر سترة.
وخرج مسلم حديث سليمان بن المغيرة: عن شيبان بن فروخ، عنه، وفي سياقه أشياء مخالفة لسياق البخاري.
منها: أن أبا سعيد دفع في نحر الشاب مرتين، وقال في الثانية: فمثل قائما، فنال من أبي سعيد، ثم زاحم الناس، فخرج فدخل على مروان. وفيه: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((فليدفع في نحره)) .
وفيما فعله أبو سعيد: دليل على دفع المار بين المصلي وبين سترته، وإن ازدحم الناس، ولم يجد المار سبيلا سوى ذلك.
ويدل عليه - أيضا -: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر)) .
فإنه يدل على أن وقوفه أربعين ينتظر مسلكا يباح له المرور فيه خير له من المرور بين يدي المصلي، وإن لم يجد طريقا غيره.(4/80)
وقد قال بعض الشافعية والمالكية وبعض أصحابنا: لا يكره المرور حينئذ، ولا يمنع منه.
قال أصحابنا: لكن يضع المار شيئا يمر من ورائه، أو يخط خطا إذا لم يجد.
وكلام أحمد وأكثر أصحابنا ليس فيه شيء من هذا، وكذا كلام أكثر أصحاب الشافعي، والرجوع إلى ما فهمه الصحابي من الحديث الذي رواه وعمل به مستدلا به أولى.
وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه وليدرأه ما استطاع)) . أمر بدفع المار، ونهى عن تمكينه من المرور، وظاهره الوجوب.
وقد وقع في كلام ابن عبد البر ما يقتضيه، وانه لا يعلم فيه خلافا ووقع في كلامه - أيضا - ما يقتضي أنه على الندب دون الوجوب، وهو قول كثير من أصحابنا والشافعية وغيرهم.
وروي أبو نعيم: ثنا سفيان، عن داود، عن الشعبي، قال: إذا مر الرجل بين يديك وأنت تصلي فلا ترده.
ولعله أراد إذا مر وذهب من بين يديه إلى الناحية الأخرى، فإنه لا يرده من حيث جاء، فإنه يصير مرورا ثانيا.
وهذا قول الجمهور، وخالف فيه بعض السلف، منهم ابن مسعود وسالم.(4/81)
وفي كلام بعض المالكية ما يقتضي وجوب الدفع، إذا كان للمار مندوحة عنه وكان المصلى قد تعرض لذلك في ابتداء صلاته.
وسيأتي مزيد بيان لذلك في الباب الأتي - إن شاء الله.
وفي رواية سليمان بن المغيرة المخرجة في ((الصحيحين)) : ((إذا كان أحدكم يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد احد أن يمر بين يديه، فليدفعه)) : دليل من قبل مفهوم الشرط على أن من صلى إلى غير سترة فلا يرد من مر بين يديه، وهو قول ابن المنذر وبعض أصحابنا.
وأما أكثر أصحابنا فعندهم: أن رد المصلي لا يختص بمن كان يصلي إلى سترة، بل يشترك فيه من صلى إلى سترة ومن صلى إلى غير سترة ومر بقربه مار.
واستدلوا بعموم الأحاديث التي لَمْ يذكر فيها هذا الشرط، وجعلوا هذه الرواية المذكور فيها الشرط من باب تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر، فلا يقتضي تخصيصه، إلا أن يكون له مفهوم، فيبنى على أنه: هل يخص العموم بالمفهوم، أم لا؟
وأما الشافعية، فقالوا يحرم المرور بين يدي المصلي إلى سترة وبين سترته، على الصحيح عندهم، ومن صلى إلى غير سترة كره المرور بين يديه، ولم يحرم.
وهل يدفعه المصلي؟ لهم فيه وجهان: أصحها(4/82)
عندهم: لا يدفعه؛ لمفهوم قوله: ((إذا كان أحدكم يصلي إلى سترة)) .
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فليدفعه)) ، وفي رواية مسلم: ((فليدفع في نحره)) ، وفي روايته: أن أبا سعيد دفع في نحر المار بين يديه، وفي رواية البخاري: أنه دفع في صدره.
وقد كان ابن عمر وغيره من الصحابة يدفعون المار بين أيديهم.
ونقل أبو طالب، عن أحمد، وذكر حديث أبي سعيد هذا، فقال أحمد: يمنعه فإن أبى عليه فهو في صلاته يدرأ عن نفسه ما استطاع.
وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء: رأيت أبا عبد الله - يعني: أحمد - إذا صلى فمر بين يديه احد دفعه دفعا رفيقا، فإن أبى إلا أن يمر دفعه دفعا شديدا.
وقال أبو الحارث: أخبرني بعض أصحابنا، أنه رأى أحمد يوم الجمعة يصلي في مسجد الجامع، فمر بين يديه رجل فرده، فأبى أن يرجع، فدفعه حتى رمى به.
وقال في رواية حنبل: إذا أراد أن يمر بين يديك رجل فامنعه ما قدرت.
وقد دل فعل أبي سعيد على أن المار إذا أبى أن يرجع بالدفع الأول فإنه يدفع في المرة الثانية اشد من(4/83)
الدفع الأول وكذلك فعله الإمام أحمد.
وأما قوله: ((فإن أبى فليقاتله)) ، إذن في قتاله في المرة الثانية.
وفي رواية ابن عمر: أن القتال في الرابعة، لكن في إسنادها ضعف كما سبق.
وقال أصحاب الشافعي: يدفعه دفع الصائل بالأسهل فالأسهل، ويزيد بحسب الحاجة، وإن أدى إلى قتله فمات منه فلا ضمان فيه كالصائل.
وحكى القاضي أبو يعلى ومن تابعه من أصحابنا عن أحمد في قتاله روايتين:
إحداهما: يقاتله، وذكروا نصوص أحمد السابقة.
والثانية: لا يفعل؛ فإنه قال في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي: يدرأ ما استطاع، وأكره القتال في الصلاة.
ذكره عنه الجوزجاني في ((كتابه المترجم)) ، وخالف في ذلك، وقال: بل يقاتله؛ فإنه شيطان لا حرمة له.
وقال ابن عبد البر في ((التمهيد)) في قوله: ((فليقاتله)) : المراد بالمقاتلة: المدافعة، وأظنه كلاما خرج على التغليظ، ولكل شيء حد. قال: وأجمعوا على أنه لا يقاتله بسيف ولا بخاطفة ولا يبلغ معه مبلغا تفسد به صلاته.
وحكى عن أشهب، أنه قال: يرده بإشارة، ولا يمشي إليه؛ لأن مشيه إليه أشد من مروره بين يديه، فإن فعل لم تبطل صلاته إذا لم(4/84)
يكن عملا كثيرا.
قال ابن عبد البر: وقد بلغني أن عمر بن عبد العزيز - في أكبر ظني - ضمن رجلا دفع آخر مرّ بين يديه وهو يصلي، فكسر أنفه دية ما جنى على أنفه، فدل على أنه لم يكن له أن يبلغ به ذلك.
وقد كان الثوري يدفع المار بين يديه دفعا عنيفا.
وذكر القاضي أبو يعلى من أصحابنا: أن أبا بكر أحمد بن سلمان النجاد روى بإسناده عن مالك، أنه بلغه أن رجلا في زمان عثمان مر بين يدي رجل وهو يصلي، فرماه فشجه، فأتوا عثمان، فقال: أيمر بين يدي وأنا أصلي؟ فقال عثمان: الذي صنعت أعظم.
وقال ابن عبد البر: في ((الاستذكار)) . فإن دافعه مدافعة لا يقصد بها قتله فكان فيها تلف نفسه كانت عليه ديته كاملة في ماله.
وقد قيل: الدية على عاقلته.
وقيل: هي هدر على حسب ثنية العاض.
قال: وهذا كله يدل على نفي القود؛ لأنه فعل تولد من عمل أصله مباح.
قال: وقد كان أبو سعيد الخدري يشتد في هذا - وهو راوي الحديث - طلبا لاستعمال ظاهره.
ثم ذكر عن ابن أبي شيبة، أنه روى عن أبي معاوية، عن عاصم، عن ابن
سيرين، قال: كان أبو سعيد قائما يصلي،(4/85)
فجاءه عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يمر بين يديه، فمنعه، فأبى إلا أن يمضي، فدفعه أبو سعيد وطرحه، فقيل له: تصنع هذا بعبد الرحمن؟ فقال: والله لو أبى إلا أن آخذ بشعره لأخذت.
قال: وذكر عبد الرزاق، عن الثوري، عن عاصم، عن محمد بن سيرين، عن أبي العالية، عن أبي سعيد الخدري، قال: مر رجل من بني مروان بين يدي في الصلاة، فدفعته ثلاث مرات، فشكاني إلى مروان، فذكر ذلك لي، فقلت: لو أبى لأخذت بشعره.
قال عبد الرزاق: وأنا ابن جريج، قال: سمعت سليمان بن موسى يحدث، عن عطاء، قال: أراد داود بن مروان أن يمر بين يدي أبي سعيد الخدري، وهو يصلي، وعليه حلة له، ومروان أمير بالمدينة، فرده، فكأنه أبى، فلهزه في صدره، فذهب الفتى إلى أبيه، فاخبره، فدعا مروان أبا سعيد، فذكر ذلك له، فقال: نعم؛ قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أردده، فإن أبى فجاهده)) .
وروى أبو نعيم في ((كتاب الصلاة)) : ثنا عبد الله بن عامر، عن زيد بن أسلم، قال: بينما أبو سعيد يصلي في المسجد، فأقبل الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فأراد أن يمر بين يديه، فدرأه، فأبى إلا أن يمر، فدفعه ولطمه، وقال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((أن أبى إلا أن يمر فاردده، فإن أبى إلا أن يمر فادفعه؛ فإنما تدفع الشيطان)) .(4/86)
عبد الله بن عامر الأسلمي فيه ضعف.
وزيد بن أسلم، إنما رواه عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، كما تقدم.
وتسمية المار الوليد بن عقبة غريب غير محفوظ.
وروى ابن أبي شيبة: ثنا أبو أسامة، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: سمعت عبد الحميد بن عبد الرحمن - عامل عمر بن عبد العزيز -، ومر بين يديه رجل وهو يصلي، فجبذه حتى كاد يخرق ثيابه.
وبإسناده، عن سعيد بن جبير، أنه سئل: أدع أحدا يمر بين يدي؟ قال: لا. فقيل له: فإن أبى؟ قال: فما تصنع؟ قيل له: إن ابن عمر كان لا يدع أحدا يمر بين يديه. قال: أن ذهبت تصنع صنيع ابن عمر دق أنفك.
وفي هذا إشارة إلى شدة رد ابن عمر من مر بين يديه، وأن غيره لا يتمكن من مثل ذلك.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فإنما هو شيطان)) . تعليل للإذن في قتاله.
وقد اختلف في معناه:
فقيل: المعنى: أن معه الشيطان المقترن به، وهو يأمره بذلك وهو اختيار أبي حاتم وغيره.
ويدل عليه: حديث ابن عمر: ((فإن معه(4/87)
القرين)) .
وقيل: المراد: أن فعله هذا فعل الشيطان، فهو بذلك من شياطين الإنس، وهو اختيار الجوزجاني وغيره.
وروى الدراوردي، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، أنه كان يصلي ومر بين يديه ابن لمروان، فضربه، فقال مروان: ضربت ابن أخيك؟ فقال: ما ضربت إلا شيطانا؛ سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((إن أبى فرده، فإن أبى فقاتله؛ فإنما هو شيطان)) .
وبكل حال؛ فيستدل به على تحريم المرور بين المصلي وسترته؛ لأنه جعله من عمل الشياطين، وأمر بالعقوبة عليه، وذلك من أدلة التحريم.(4/88)
101 - باب
إثم المار بين يدي المصلي(4/89)
510 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن
عبيد الله، عن بسر بن سعيد، أن زيد بن خالد أرسله إلى أبي جهيم يسأله: ماذا سمع من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المار بين يدي المصلي؟ فقال أبو جهيم: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه)) .
قال أبو النضر: لا أدري: قال أربعين يوما، أو شهرا، أو سنة؟
وخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك.
وخرجه - أيضا - من طريق وكيع، عن سفيان - هو: الثوري -، عن سالم أبي النضر - بمعنى حديث مالك.
ورواه ابن عيينة، عن سالم أبي النضر، عن بسر بن سعيد، قال: أرسلني أبو الجهيم، أسأل(4/89)
زيد بن خالد الجهني: ما سمعت من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول - فذكره من رواية زيد بن خالد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
كذا رويناه في ((مسند الحميدي)) ، عن سفيان.
وكذا خرجه ابن ماجه، عن هشام بن عمار، عن ابن عيينة، إلا أنه قال: ((أرسلوني إلى زيد بن خالد أسأله)) - ولم يذكر من أرسله.
وذكر أن الشك في تمييز الأربعين من ابن عيينة.
وهذا كله وهم.
وممن نص على أن جعل الحديث من مسند زيد بن خالد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم من ابن عيينة، وخطأ: ابن معين في رواية ابن أبي خيثمة، وأشار إليه الإمام أحمد في رواية حنبل.
وقد اضطرب ابن عيينة في لفظه وإسناده، ولم يحفظه جيدا.
وقد روي عنه كقول مالك وسفيان على الصواب.
خرجه ابن خزيمة، عن علي بن خشرم، عنه.
ومن تكلف الجمع بين القولين من المتأخرين، فقوله ليس بشيء، ولم(4/90)
يأت بأمر يقبل منه.
وأبو الجهيم، هو: ابن الحارث بن الصمة، وقد سبق له حديث في ((التيمم)) .
وقد رواه الضحاك بن عثمان، عن سالم أبي النضر، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن خالد، قال: قَالَ: رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لو يعلم المار بين يدي المصلي والمصلي ما عليهما)) - وذكر الحديث.
خرجه أبو العباس السراج في ((مسنده)) .
وهذا يوافق رواية ابن عيينة، وهو - أيضا - وهم.
وزيادته: ((والمصلي)) غير محفوظة - أيضا.
وقد وقع في بعض نسخ كتاب البخاري، ومسلم - أيضا - بعد: ((ماذا عليه)) : ((من الإثم)) ، وهي غير محفوظة.
وذكر ابن عبد البر: أن هذه اللفظة في رواية الثوري، عن سالم أبي النضر.
وقد وقعت في كتاب ابن أبي شيبة من رواية الثوري، مدرجة بلفظة: ((يعني: من الإثم)) ، فدل على إنها مدرجة من قول بعض الرواة، وتفسير للمعنى؛ فإن هَذَا يفهم من قوله: ((ماذا عَلِيهِ)) ، فإن ابن آدم لَهُ عمله الصالح وعليه عمله السيئ، كما قَالَ تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46] . وقال: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] ، وإذا كان هذا عليه فهو من سيئاته.
وفي المعنى أحاديث أخر، ليست على شرط البخاري:(4/91)
فروى عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن عمه، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لو يعلم أحدكم ما له أن يمشي بين يدي أخيه معترضا وهو يناجي ربه، كان لأن يقف في ذلك المكان مائة عام أحب إليه أن يخطو)) .
خرجه أحمد، وهذا لفظه.
وخرجه ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) بمعناه.
وخرجه ابن ماجه، ولم يذكر: ((وهو يناجي ربه)) ، وعنده: ((معترضا في الصلاة)) .
وعبيد الله بن عبد الله بن موهب، ضعفه يحيى. وقال النسائي: ليس بذاك القوي. وقال ابن عدي هو حسن الحديث يكتب حديثه.
وخرج الطبراني من رواية ابن أخي ابن وهب، عن عمه: ثنا عبد الله بن عيا ش، عن أبي رزين الغافقي، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((الذي يمر بين يدي الرجل وهو يصلي عمدا، يتمنى يوم القيامة أنه شجرة يابسة)) .
إسناده ليس بقوي.(4/92)
وقد روي موقوفا، بلفظ آخر، من وراية أبي عبد الرحمن المقري: ثنا موسى بن أيوب، قال: سمعت أبا عمران الغافقي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: لأن يكون الرجل رمادا يذرى به خيرا له من أن يمر بين يدي رجل متعمدا وهو يصلي.
خرجه ابن عبد البر وغيره.
وروى ابن أبي شيبة، عن أبي أسامة، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: سمعت عبد الحميد بن عبد الرحمن - عامل عمر بن عبد العزيز - يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لو يعلم المار بين يدي المصلي لأحب أن تنكسر فخذه ولا يمر بين يديه)) .
هذا مرسل.
وأبو أسامة، قد قيل: إنه كان يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم الشامي، ويسميه: ابن جابر، وابن تميم ضعيف، وابن جابر ثقة.
وذكر مالك في ((الموطإ)) عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن كعب الأحبار، قال: لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يخسف به خير له من أن يمر بين يديه.
وروى أبو نعيم في ((كتاب الصلاة)) : ثنا سليمان بن المغيرة، عن(4/93)
حميد بن هلال، قال: قَالَ عمر - رضي الله عنه -: لو يعلم المار بين يدي المصلي ما يصيب من الإثم ما مر أحد بَيْن يدي أحد، وهو يصلي.
وروى أبو بكر النجاد الفقيه الحنبلي، بإسناده عن ابن عمر، قال: لأن يكون الرجل رمادا يذري به خير من أن يمر بين يدي رجل وهو يصلي
وبإسناده، عن قتادة، أن عمر وأبا الدرداء قالا: لو يعلم المار بين يدي المصلي كان أن يقوم حولا أهون عليه من أن يمر بَيْن يديه.
وروى أبو النعيم – أيضا -: ثنا أبو خلدة، عن أبي العالية، قالا: إن الإنسان إذا صلى بين يديه ملك يكتب ما يقول، فما أحب أن يمر بين يدي شيء.
وفي هذا إشارة إلى علة كراهة المرور بين يدي المصلي، وهو قرب الملائكة منه، فالمار يصير دخيلا بين المصلي وملائكته الموكلين به.
وفي حديث أبي هريرة المتقدم: إشارة إلى أن المصلي مشتغل بمناجاة ربه، والرب تعالى يقرب المصلي له إليه، قربا لا يشبه قرب المخلوقين، كما سبق ذكره في ((أبواب: البصاق في القبلة)) .
فالداخل بين المصلي وبين ربه في حال مناجاته له، وتقريبه إياه، وإقباله عليه، واستماعه(4/94)
منه ما يناجيه، ورده عليه جواب ما يتلوه من كتابه متعرض لمقت الله، ومستحق لعقوبته.
وهذا كله يدل على تحريم المرور بين يدي المصلي، وهو الصحيح عند أصحابنا، والمحققين من أصحاب الشافعي.
وطائفة منهم ومن أصحابنا أطلقوا الكراهة.
وكذلك أطلقها غيرهم من أهل العلم، منهم: ابن عبد البر وغيره.
وحكاه الترمذي عن أهل العلم.
وقد حمل إطلاق هؤلاء للكراهة على التحريم؛ فإن متقدمي العلماء كانوا يستعملون ذلك كثيرا.
وقد حكى ابن حزم في ((كتاب الإجماع)) الاتفاق على أن المار بين المصلي وسترته آثم.
وفي الحديث: دليل على تحريم المرور بين يدي المصلي، سواء كان يصلي إلى سترة أو لم يكن، فإن كان يصلي إلى سترة حرم المرور بينه وبينها، إذا لم يتباعد عنها كثيرا.
وإن لم يكن بينه وبين القبلة سترة، أو كانت سترة وتباعد عنها تباعدا فاحشا، ففي تحريم المرور وجهان لا صحابنا:
أصحهما: التحريم؛ لعموم حديث أبي جهيم.
والثاني: يكره ولا يحرم، وهو قول أصحاب الشافعي.
والذي نص عليه الشافعي في ((كتاب اختلاف الحديث)) أنه مباح غير مكروه،(4/95)
واستدل عليه بحديث ابن عباس والمطلب بن أبي وداعة.
وفي قدر القرب الذي يمنع المرور فيه وجهان لأصحابنا
أحدهما: أنه محدود بثلاثة اذرع؛ لأنها منتهى المسنون في وضع السترة، على ما سبق.
والثاني: حده بما لو مشى إليه لدفع المار أو غيره، لم تبطل صلاته.
وجاء في حديث مرفوع من حديث ابن عباس: تقديره بقدر قذفة بحجر.
خرجه أبو داود وسنذكره فيما بعد - أن شاء الله تعالى.(4/96)
وحكي عن الحنفية، أنه لا يمنع من المرور إلا في محل سجود المصلي خاصة.
وحكى أبو بكر ابن العربي، عن قوم أنهم قدروه بمثل طول الرمح، وعن آخرين أنهم قدروه برمية السهم، وقالوا: هو حريم للمصلي. قال: وأخذوه من لفظ المقاتلة، ولم يفهموا المراد منها. قال: والمقاتلة هنا: المنازعة بالأيدي خاصة.
وقال الشافعي: قوله: ((فليقاتله)) - يعني: فليدفعه.
فإما من وقف في مجاز الناس الذي ليس لهم طريق غيره وصلى، فلا إثم في المرور بين يديه، صرح به أصحابنا وغيرهم؛ لأنه مفرط بذلك، فلا حرمة له.
وحكى القرطبي، عن أصحابهم المالكية، أن المصلي إذا كان في موضع لا يأمن المرور عليه اشترك هو والمار في ألاثم.
وهذا يدل على أنه يحرم المرور بين يديه - أيضا -، ولكنه يأثم المار والمصلي جميعا.
وكذلك قال بعض الشافعية: أنه إذا صلى على الطريق، أو قصر في الدفع شارك المار في الإثم، وحملوا رواية السراج المتقدمة: ((لو يعلم المار بين يدي المصلي والمصلي ما عليهما)) على ذلك.
وحكي عن بعض الفقهاء، أنه إن كان للمار مندوحة عن المرور، وكان المصلي متعرضا لذلك أثما جميعا، وإن لم يكن للمار مندوحة، ولا(4/97)
المصلي متعرضا لذلك فلا إثم على واحد منهما، وإن لم يتعرض المصلي لذلك، وكان للمار مندوحة إثم المار وحده، وإن لَمْ يتعرض المصلي لذلك، ولم يكن للمار مندوحة أثم المصلي وحده.
وقال أبو عمر ابن عبد البر، الإثم على المار بين يدي المصلي فوق الإثم على الذي يدعه يمر بين يديه، وكلاهما عاص إذا كان بالنهي عالما، والمار اشد إثما إذا تعمد ذلك، وهذا مما لا اعلم فيه خلافا.
كذا قال؛ مع أنه ذكر في موضع آخر: أن الدفع ليس بلازم، ولا يأثم من تركه، وإنه قول الثوري وغيره.
وخرج ابن أبي شيبة من رواية الأسود، قال: قال عبد الله - هو: ابن مسعود -: من استطاع منكم أن لا يمر بين يديه وهو يصلي فليفعل؛ فإن المار بين يدي المصلي انقص من الممر عليه.
ولعله أراد أن المار انقص علما أو دينا أو خيرا من الممر عليه، ولم يرد - والله أعلم - أنه انقص منه إثما، اللهم إلا أن يحمل على ما إذا كان المصلي مفرطا بصلاته في موضع مرور الناس، والمار لا يجد بدا من مروره كما سبق.(4/98)
وقد روى عن جماعة من الصحابة، أن الصلاة تنقص بمرور المار:
فروى أبو نعيم: ثنا سليمان بن المغيرة - أظنه: عن حميد بن هلال -، قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لو يعلم المصلي قدر ما ينقص من صلاته ما صلى أحدكم إلا إلى شيء يستره من الناس.
وهذا منقطع.
وقد روي عن ابن مسعود، أنه ينقص نصف صلاته.
قال أبو طالب: قلت لأحمد: قول ابن مسعود: أن ممر الرجل يضع نصف صلاته؟ قَالَ: نَعَمْ، يضع من صلاته، ولكن لا يقطعها، ينبغي له أن يمنعه.
وهذا الذي أشار إليه خرجه أبو بكر النجاد بإسناده، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، قال: كان عبد الله إذا مر بين يديه رجل وهو يصلي التزمه حتى يرده. قال: وقال عبد الله: إن مرور الرجل بين يدي الرجل ليضع نصف صلاته.
قال القاضي أبو يعلي: وينبغي أن يكون هذا محمولا على ما إذا(4/99)
أمكنه أن يرده فلم يرده، فيكون قد اخل بفضيلة الرد.
كذا قال؛ وفيه نظر.
ومذهب أحمد وأصحابه: أن مرور الكلب الأسود يبطل الصلاة ويقطعها، سواء أمكنه الرد وتركه، أو تركه عجزا، كما سيأتي ذكره - أن شاء الله تعالى.
وعلى هذا؛ فلا يبعد القول بنقص كمال الصلاة بمرور غير الكلب، وإن عجز عَن دفع ذَلِكَ.
ولهذا المعنى رد طائفة من العلماء حديث قطع الصلاة بمرور الكلب وغيره، وقالوا: إنه مخالف للقرآن في قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] ، كما ذكر ذلك الشافعي.
وقد روي: أن مرور الرجل بين يدي الرجل في صلاته يقطع صلاته.
وخرجه أبو داود في ((سننه)) بإسناد فيه نظر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بتبوك إلى
نخلة، فأقبل غلام يسعى حتى مر بينه وبين قبلته، فقال: ((قطع صلاتنا، قطع الله
أثره)) . قال: فما قمت عليها إلى يومي هذا.
وهذا مما يستدل به على أن قطع الصلاة يراد به إذهاب كمال فضلها، دون إبطالها من أصلها، وإيجاب إعادتها، كما سيأتي ذكره - أن شاء الله تعالى.(4/100)
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في ((المسند)) : ثنا سويد بن سعيد: ثنا إبراهيم بن سعد: حدثني أبي، عن أبيه، قال: كنت أصلي، فمر رجل بين يدي فمنعته، فسألت عثمان بن عفان، فقال: لا يضرك يا ابن أخي.
وظاهر هذا: أنه لا ينقض الصلاة، ويحتمل أنه أراد أنه لم تبطل صلاته أو لعله أراد أنه إذا منعه من المرور فلا يضره إذا رجع ولم يمر.
وقد روي، عن عائشة ما يدل على أن المرور بين يدي المصلي إذا لم يقطع صلاته فهو جائز:
قال: عبد الله ابن الإمام أحمد في ((مسائله)) : ثنا أبي: ثنا حجاج: أبنا شعبة، قال: سمعت عبد الرحمن بن سعيد بن وهب، قال: سمعت صفية بنت شيبة، قالت: كانت امرأة تصلي عند البيت إلى مرفقة، وكانت عائشة تطوف، فمرت عَائِشَة بينها وبين المرفقة، فقالت عائشة: إنما يقطع الصلاة الهر والكلب الأسود.
ولعل عائشة - رضي الله عنها - كانت ترى أن المسجد الحرام لا يمنع فيه المرور بين يدي المصلي كما سبق، وإنما ذكرت أن الصلاة لا تقطع بذلك لئلا؛ تظن تلك المرأة بطلان صلاتها. والله أعلم.(4/101)
102 - باب
استقبال الرجل الرجل وهو يصلي
وكره عثمان أن يستقبل الرجل وهو يصلي.
وهذا إذا اشتغل به، فأما إذا لم يشتغل به، فقد قال زيد بن ثابت: ما باليت؛ إن الرجل لا يقطع صلاة الرجل.
حكى البخاري عن عثمان - رضي الله عنه -، أنه كره أن يستقبل الرجل وهو يصلي، وعن زيد بن ثابت، أنه قال: لا يبالي بذلك؛ إن الرجل لا يقطع صلاة الرجل.
وجمع بينهما بان الكراهة إذا اشتغل به المصلي عن صلاته، وعدم الكراهة إذا لم يشتغل به عن صلاته.
وقد روى في هذا حديث مرفوع يشهد لما قاله:
رواه عبد الأعلى الثعلبي، عن محمد بن الحنفية، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نظر إلى رجل يصلي إلى رجل، فأمره أن يعيد الصلاة، فقال: يا رسول الله، إني قد أتممت؟ فقال: ((إنك صليت وأنت تنظر إليه مستقبله)) .
خرجه أبو داود في ((المراسيل)) .
وخرجه البزار في ((مسنده))(4/102)
والإسماعيلي في ((مسند علي)) ، وعندهما: عن ابن الحنفية، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وعبد العلي هذا، ضعيف الحديث.
وقد علل الإعادة بالنظر إليه، وهو يشعر بأن نظره إليه ألهاه عن صلاته.
وقال البزار بعد تخريجه للحديث: إنما أمره بالإعادة؛ لاستقباله وجه الرجل من غير انحراف عنه.
وروى أبو نعيم: ثنا مسعر، قال: أراني أول من سمعته من القاسم، قال: ضرب عمر رجلين: أحدهما مستقبل الآخر وهو يصلي.
وهذا منقطع.
ونص أحمد على كراهة أن يصلي مستقبل رجل -: نقله عنه المروذي.
ونقل عنه ابنه صالح، أنه قال: هذا منهي عنه.
وعلل الأصحاب كراهة ذلك بان فيه تشبها بعبادة المخلوقين، فكره كما تكره الصلاة إلى صورة منصوبة.
وعلى هذا التعليل، فلا فرق بين أن يشتغل بالنظر إلى ذلك، أو لا يشتغل. والله اعلم.
وكره أصحاب الشافعي الصلاة إلى آدمي، يستقبله ويراه، وعللوه بأنه(4/103)
يشغل المصلي ويلهيه نظره إليه.
قال البخاري - رحمه الله -:(4/104)
511 - ثنا إسماعيل بن خليل: أبنا علي بن مسهر، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة، ذكر عندها ما يقطع الصلاة، فقالوا: يقطعها الكلب والحمار والمرأة، فقالت: لقد جعلتمونا كلابا؛ لقد رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي، وإني لبينه وبين القبلة، وأنا مضطجعة على السرير، فتكون لي الحاجة، فأكره أن استقبله، فأنسل انسلالا.
وعن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة - نحوه.
وقد روى هذا الحديث أبو معاوية، عن الأعمش، بالإسناد الثاني، وقال في حديثه: فأنسل من قبل رجلى السرير، كراهة أن استقبله بوجهي.
خرجه عنه الإمام أحمد.
ورواه ابن أبي زائدة، عن الأعمش بالإسنادين، وقال فيه: وأكره أن أستقبله بوجهي فأوذيه، فأنسل من قبل رجلى السرير.
وهذا يدل عل إنها كانت تعلم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكره أن يستقبله أحد بوجهه وهو يصلي، وكان ذلك ليلا، ولم يكن في البيوت مصابيح،(4/104)
كما صرحت به عائشة في حديثها الآخر، فدل على أن كراهة استقبال المصلي وجه إنسان والإنسان ليس هو لمعنى الاشتغال بالنظر إليه عن الصلاة، كما يراه البخاري. والله اعلم.
والظاهر: أن البخاري استدل بصلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عائشة على أنه لا تكره الصلاة مستقبل إنسان، وفي ذلك نظر؛ فإن عائشة لم تكن مستقبلة له، بل كانت مضطجعة، وإنما كره من كره استقبال وجه الآدمي.(4/105)
103 - باب
الصلاة خلف النائم(4/106)
512 - حدثنا مسدد: ثنا يحيى: ثنا هشام: قال: حدثني أبي، عن عائشة، قالت: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي، وأنا راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقضني فأوترت.
استدل البخاري بصلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عائشة بالليل على أنه لا تكره الصلاة خلف النائم.
وكذلك قال أصحاب الشافعي.
ونقل حرملة عن الشافعي، أنه إن كان النائم لا يحتشم من المصلي، ولا يحتشم المصلي منه كالزوجة فلا بأس به، وان النهي عن الصلاة خلف نائم يحتشمه.
والنهي الذي أشار إليه هو من رواية محمد بن كعب القرظي، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لا تصلوا خلف النيام والمتحدثين)) .
خرجه أبو داود وابن ماجه.
وله طرق إلى محمد بن كعب، كلها واهية -: قاله أبو داود والعقيلي والبيهقي وغيرهم.(4/106)
وخرج البزار من رواية ابن أبي ليلى، عن عبد الكريم، عن مجاهد، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((نهيت أن أصلي إلى النيام والمتحدثين)) .
ابن أبي ليلى، ضعيف؛ لسوء حفظه.
وخالفه سُفْيَان، فرواه وكيع، عن سفيان، عن عبد الكريم، عن مجاهد -
مرسلا، وهو أصح.
وكره طائفة الصلاة إلى النائم مطلقا، منهم: أحمد وإسحاق.
وعلل ذلك أصحابنا؛ بأنه لا يؤمن أن يكون من النائم ما يشغل المصلي.
وأجاب من ذهب إلى هذا عن حديث عائشة، بأن الحاجة دعت إليه؛ لضيق البيت.
وعن أحمد، أنه تختص الكراهة بالفريضة دون(4/107)
النافلة؛ جمعا بين حديث عائشة وحديث ابن عباس.
ولعل هذا القول اقرب مما قبله.
وإذا خالف وصلى، فلا إعادة عليه في ظاهر مذهب أحمد وإسحاق، وهو قول جمهور العلماء.
وعن أحمد، أنه يعيد الفريضة.
قال القاضي أبو يعلى: يحتمل أن هذا على الاستحباب دون الإيجاب.
وسئل النخعي عن الرجل يصلي إلى نائم ومضطجع: أيكون له سترة؟ قَالَ:
لا. قيل له: فيستر الجالس؟ قال: نعم.
وأما الصلاة خلف المتحدث، فكرهها أكثر العلماء.
روى سفيان، عن أبي إسحاق، عن معد يكرب، عن عبد الله، قال: لا تصلوا إلى قوم يتحدثون.
خرجه الأثرم.
وخرجه أبو نعيم في ((كتاب الصلاة)) ، ولفظه: لا تصلوا بين يدي قوم يمترون.
وهذا يدل على كراهة الصلاة أمام المتحدثين - أيضا.
قال ابن المنذر: روينا عن ابن مسود وسعيد بن جبير، أنهما كرها الصلاة إلى المتحدثين. وبه قال أحمد وأبو ثور. ورخص فيه الزهري والنعمان.(4/108)
وحكى الخطابي، عن الشافعي، أنه كرهه - أيضا.
وعلل أحمد الكراهة بأن المتحدث يشغل المصلي إليه.
وفرق سعيد بن جبير بين المتحدثين بذكر الله وغيره، فكره الصلاة إلى المتحدث بغير الذكر، دون الذاكر.
خرجه حرب الكرماني وغيره.
ولا إعادة على من صلى إلى متحدث عند الجمهور.
ونقل حرب، عن أحمد، أنه قال: نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه. وقال: الفريضة أشد.
وكأنه ذهب إلى أنه يعيد.(4/109)
104 - باب
التطوع خلف المرأة(4/110)
513 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن
عبيد الله، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنها قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني، فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما.
قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح.
دل هذا الحديث على أن من صلى إلى امرأة بين يديه، وليست معه في صلاة واحدة فإن صلاته صحيحة، وقد نص على ذلك سفيان وأحمد وإسحاق، ولا نعلم فيه خلافا.
وإنما اختلفوا: إذا كانا في صلاة واحدة، وليس بينهما سترة.
وقد سبق ذكر ذلك في ((باب: إذا أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد)) .
ولكن يجيء على قول من يقول: إن مرور المرأة يبطل الصلاة، وإن قيامها وجلوسها واضطجاعها كمرورها، أنه تبطل الصلاة باستقبالها.
وقد حكي رواية عن أحمد، ونص أحمد على أن المرأة إذا كانت بين يدي المصلي، وهي في غير صلاة فلا بأس به، واحتج بحديث عائشة -: نقله عنه حرب.(4/110)
وكره الشافعي أن يستتر الرجل بالمرأة في صلاته؛ لما يخشى من فتنتها للمصلي، وشغلها لقلبه.
وهذا إذا كان بحيث ينظر إليها، فأما إن كان ذلك في ظلمة الليل، كما في حديث عائشة، فقد أمن من ذلك.
ولم يفرق الشافعي وأحمد بين النفل والفرض.
وظاهر تبويب البخاري يدل على التفريق بينهما، وأن الرخصة في النفل خاصة.
وقد نص أحمد على مثل ذلك في رواية أخرى عنه، وأن الرخصة في صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المرأة كان مخصوصا به؛ لأنه كان يملك نفسه، وغيره يخشى عليه الفتنة، وهذه دعوى لا دليل عليها.(4/111)
105 - باب
من قال: لا يقطع الصلاة شيء(4/112)
514 - حدثنا عمر بن حفص بن غياث: ثنا أبي: ثنا الأعمش: ثنا إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة.
قال الأعمش: وحدثني مسلم، عن مسروق عن عائشة، ذكر عندها ما يقطع الصلاة: الكلب والحمار والمرأة، فقالت: شبهتمونا بالحمير والكلاب، والله لقد رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وأنا على السرير، بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس فأوذي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فانسل من عند رجليه.(4/112)
515 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم: ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد: ابنا ابن أخي ابن شهاب، أنه سأل عمه عن الصلاة يقطعها شيء؟ قال: لا يقطعها شيء.
قال: وأخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: لقد كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوم فيصلي من الليل، وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله.
في الرواية الأولى: أن عائشة استدلت بحديثها هذا على أن المرأة لا تقطع
الصلاة، وأنكرت التسوية بين المرأة والحمار والكلب، وهذا يشعر بموافقتها على الحمار والكلب، وسيأتي كلامها صريحا في ذلك فيما بعد - إن شاء الله تعالى.
وفي الرواية الثانية: أن الزهري استدل بحديث عائشة على أن الصلاة لا يقطعها شئ؛ لما فيه من الدلالة على أن المرأة لا(4/112)
تقطع صلاة الرجل إذا كانت بين يديه.
وقد اختلف العلماء في هذا:
فقالت طائفة - كما قاله الزُّهْرِيّ -: لا يقطع الصلاة شئ.
وروي ذلك عن عثمان وعلي وحذيفة وأبي سعيد وابن عمر وابن عباس، على اختلاف عن بعضهم.
وروي عن أبي بكر وعمر من وجه لا يصح، وسيأتي ذكره ـ أن شاء الله.
وممن قال ذلك بعد الصحابة: سعيد بن المسيب وعبيدة السلماني والشعبي والقاسم بن محمد وعروة والزهري، وهو قول الثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأبي ثور وغيرهم.
وروى شعبة، عن عبيد الله بن عمر، عن سالم ونافع، عن ابن عمر، قال: كان يقال: لا يقطع صلاة المسلم شئ.
ورواه إبراهيم بن يزيد الخوزي، عن سالم، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر قالوا: ((لا يقطع صلاة المسلم شئ، وادرأ ما استطعت)) .
خرجه الدارقطني.(4/113)
والخوزي، ضعيف جدا.
وصحح الدارقطني في كتاب ((العلل)) وقفة، وأنكر رفعه.
وخرج أبو داود من رواية أبي أسامة، عن مجالد، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال ((لا يقطع الصلاة شئ، وادرءوا ما استطعتم)) .
وخرجه –أيضا - من رواية عبد الواحد بن زياد، عن مجالد، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد، قال: إن الصلاة لا يقطعها شئ، ولكن قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ادرءوا ما استطعتم)) .
فجعل أوله موقوفا.
ومجالد، فيه ضعف مشهور.
وقال أحمد: كم من أعجوبة لمجالد.
وروى إدريس بن يحيى الخولاني، عن بكر بن مضر، عن صخر بن عبد الله بن حرملة، سمع عمر بن عبد العزيز يقول: عن أنس بن مالك، أن رسول ألله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالناس، فمر بين أيديهم حمار، فقال عياش بن أبي ربيعة: سبحان الله، سبحان الله، فلما سلم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من المسبح آنفا: سبحان الله وبحمده؟)) قال: أنا يا رسول الله؛ إني سمعت أن الحمار يقطع الصلاة. قال: ((لا يقطع الصلاة شئ)) .
خرجه الدارقطني.
وقال في كتاب ((العلل)) : خالف إدريس في رواية هذا الحديث الوليد(4/114)
بن مسلم، فرواه عن بكر بن مضر، عن صخر، عن عمر بن عبد العزيز، عن عياش بن أبي ربيعة. وغيرهما يرويه عن بكر بن مضر، عن صخر، عن عمر ابن عبد العزيز - مرسلا. والمرسل أصح.
وقد روي هذا المتن من حديث علي وأبي هريرة وعائشة وأبي أمامه، ولا يثبت منها شئ.
قال العقيلي: الرواية في هذا الباب فيها لين وضعف.
وقالت طائفة: يقطع الصلاة مرور بعض الحيوانات.
ثم اختلفوا:
فمنهم من قال: يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة، روي ذلك عن ابن عباس وأنس وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة(4/115)
ومكحول والحسن وأبي الإحوص.
ومنهم من قال: يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة الحائض والحمار والكافر، رواه جابر بن زيد، عن ابن عباس.
وروي عن الحكم الغفاري، أنه أعاد الصلاة من مرور حمار بين يديه.
وروي عن عكرمة، قال: يقطع الصلاة الكلب والمرأة والخنزير والحمار والكافر.
وعن عطاء، قال: يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب الأسود.
واختاره أبو بكر ابن خزيمة، وزاد عليهما: الحمار.
والمشهور: عن عطاء، أنه يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود.
وهو قول ابن جريج وأحمد في رواية عنه.
وروت صفية بنت شيبة، عن عائشة، قالت: إنما يقطع الصلاة الكلب والحمار والسنور.
وفي رواية أخرى عن عائشة، أنها قالت: والسنور الأسود.
وحكي رواية عن أحمد في السنور الأسود.
وقالت طائفة: لا يقطع الصلاة سوى الكلب، وروي ذلك عن ابن عمر.
وروي عنه أنه أعاد صلاته من مرور كلب أصفر بين يديه، رواه مطر الوراق، عن نَافِع، عَنْهُ.
وروى بكر المزني، أن ابن عمر أعاد ركعة(4/116)
من جرو مر بين يديه.
وهذا يدل على أنه تختص الإعادة بالركعة التي مر فيها الكلب.
وروى ليث، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: ادرءوا عن صلاتكم ما استطعتم، وأشد ما يتقى عليها مرابض الكلاب.
وقال ابن طاوس: كان أبي يشدد في الكلاب.
ومن هؤلاء من خص القطع بالكلب الأسود دون غيره من سائر الألوان.
وروى شعبة، عن الحكم، عن خيثمة، عن الأسود، عن عائشة، قالت: لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود.
وقال أبو نعيم: ثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الكلب الأسود البهيم شيطان، وهو يقطع الصلاة.
حدثنا ابن عيينة، عن ليث، عن مجاهد، عن معاذ ـ مثله.
وهو المشهور عن أحمد، وقول إسحاق وأبي خيثمة زهير بن حرب وسليمان ابن داود الهاشمي والجوزجاني وغيرهم من فقهاء أهل الحديث.
واستدل من قال: تقطع الصلاة بشئ من ذلك بأحاديث رويت عن(4/117)
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس شئ منها على شرط البخاري، ولا مما يحتج به.
وقد خرج مسلم منها حديثين: حديث: أبي ذر، وحديث أبي هريرة.
فحديث أبي ذر: خرجه من طريق حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود. قلت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ فقال: يا ابن أخي، سألت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما سألتني، فقال: ((الكلب الأسود شيطان)) .
وحديث أبي هريرة خرجه من طريق عبيد الله بن عبد الله بن الأصم: ثنا يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، قال: قال: رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل)) .
فأما حَدِيْث أبي ذر، فَقَدْ قَالَ الإمام أحمد –فِي رِوَايَة المروذي -: إليه أذهب، وَهُوَ صحيح الإسناد، وَقَالَ - في رواية علي بن سَعِيد -: هو حديث ثبت، يرويه شعبة وسليمان بن المغيرة - يعني: عن حميد بن هلال -، ثم قال: ما في نفسي من هذا الحديث شيء.
وقال الترمذي: حديث أبي ذر حسن صحيح.
وقال البيهقي في ((كتاب(4/118)
المعرفة)) : هذا الحديث صحيح إسناده، ونحن نحتج بأمثاله في الفقهيات، وإن كان البخاري لا يحتج به.
وقوله: ((إن البخاري لا يحتج به)) ، يشير إلى أنه لا يحتج بحديث عبد الله ابن الصامت بن أخي أبي ذر، ولم يخرج له في ((كتابه)) شيئا.
وقال الشافعي في كتاب ((مختلف الحَدِيْث)) - في الحديث الذي فيه المرأة والحمار والكلب -: أنه عندنا غير محفوظ.
ورده لمخالفته لحديث عائشة وغيره، ولمخالفته لظاهر قول الله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] .
وفي مسائل الحسن بن ثواب عن الإمام أحمد: قيل له: ما ترى في الحمار والكلب والمرأة؟ قال: الكلب الأسود يقطع؛ أنه شيطان. قيل له حديث أبي ذر؟ قال: هاتوا غير حديث أبي ذر، ليس يصح إسناده، ثم ذكر حديث الفضل بن عباس، أنه مر على بعض الصف وهو على حمار. قيل له: إنه كان بين يديه عنزة؟ قَالَ: هَذَا الحَدِيْث فِي(4/119)
فضاء.
وأما حَدِيْث أبي هُرَيْرَةَ، فَلَمْ يخرج البخاري ليزيد بْن الأصم، ولا بني أخيه:
عبد الله بن عبد الله أبي العنبس، وأخيه عبيد الله شيئا.
وهذا الحديث من رواية عبيد الله كما وجد في بعض النسخ، وقيل: إن الصواب: أنه من رواية عبد الله.
وقد روى حديث أبي هريرة من وجه آخر: من رواية هشام الدستوائي، عن قتادة عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال:
((يقطع الصلاة المرأة والكلب والحمار)) .
خرجه الإمام أحمد وابن ماجه.
وفي إسناده اختلاف على هشام في رفعه ووقفه، وفي ذكر: ((سعد بن
هشام)) في إسناده وإسقاطه منه، والصحيح: ذكره -: قاله الدارقطني.
ورواه ابن أبي عروبة وغير واحد، عن قتادة، فوقفوه، وذكروا في إسناده:
((هشاما)) .
ولعل وقفه أشبه.
وقد روي عن أبي هريرة مرفوعا من وجه أخر لا يصح.
وروى يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة؛ قال: سمعت جابر بن(4/120)
زيد يحدث، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب)) .
خرجه أبو داود، وابن ماجه وابن خزيمة في ((صحيحة)) ، وعند هما: ((الكلب الأسود)) .
قال أبو داود: وقفه سعيد وهشام وهمام، عن قتادة، عن ابن عباس. انتهى.
وكذا وقفه غندر، عن شعبة. ورفعه سفيان بن حبيب، عن شعبة.
وذكر الحافظ أبو نعيم بإسناده، عن يحيى بن سعيد، قال: لم يرفعه عن قتادة غير شعبة. قال يحيى: وأنا أفرقه.
وحكى غيره عن يحيى، أنه قال: أخاف أن يكون وهم - يعني: شعبة.
وقال الإمام أحمد: ثنا يحيى، قال شعبة رفعه. قال: وهشام لم يرفعه.
قال أحمد: كان هشام حافظا.
وهذا ترجيح من أحمد لوقفه، وقد تبين أن شعبة اختلف عليه في وقفه ورفعه.
ورجح أبو حاتم الرازي رفعه.
وخرج أبو داود، عن محمد بن إسماعيل البصري - هو: ابن أبي(4/121)
سمينة -، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن يحيى - هو: ابن أبي كثير -، عن عكرمة، عن ابن عباس - قال: أحسبه عَن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا صلى أحدكم إلى غير سترة فإنه يقطع صلاته الحمار والخنزير واليهودي والمجوسي والمرأة، ويجزئ عنه إذا مروا بين يديه على قذفه بحجر)) .
وقال أبو داود: لم أر أحدا يحدث به عن هشام، واحسب الوهم فيه من ابن أبي سمينة؛ لأنه يحدثنا من حفظه. انتهى.
وهو مشكوك في رفعه.
وقد خرجه ابن عدي من طريقين، عن معاذ، وقال: هذا عن يحيى غير محفوظ بهذا المتن.
وقد تبين بذلك أن ابن أبي سمينة لم ينفرد به كما ظنه أبو داود، ولكنه منكر كما قاله ابن عدي.
وخرجه ابن أبي شيبة عن أبي داود، عن هشام، عن يحيى، عن عكرمة - من قوله.
ورواه عبيس بن ميمون، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال أبو زرعة الرازي، هو حديث منكر، وعبيس شيخ ضعيف الحديث.
وقال الأثرم: هذا إسناد واه.(4/122)
وروى سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب)) .
خرجه الإمام أحمد وابن ماجه وابن حبان في ((صحيحة)) .
وقد اختلف فيه على قتادة، وعلى الحسن:
فقيل: عن قتادة، كما ترى في الإسناد، وهو الصحيح عند الدارقطني وغيره.
وقيل عن سعيد، عن قتادة، عن أنس.
وقيل عنه، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس - من قوله كما سبق.
وقال هشام: عن قتادة، عن زرارة، عن سعد، عن أبي هريرة كما سبق.
واختلف فيه عن الحسن:
فقيل: عنه كما ترى.
وقال حوشب: عن الحسن، عن الحكم بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وذكر هذا الاختلاف الدارقطني، وقال: الصحيح من ذلك: قتادة، عن الحسن، عن ابن مغفل.
وروى يحيى بن أبي كثير، عن شعبة: عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((يقطع الصلاة الكلب والمرأة والحمار)) .
خرجه البزار.
وكذا رواه أبو زيد الهروي سعد بن(4/123)
الربيع، عن شعبة - مرفوعا.
ورواه غندر وأبو الوليد ومحمد بن كثير، عن شعبة، عن عبيد الله، عن أنس موقوفا.
قال الدارقطني: والموقوف اصح.
وخرج الإمام أحمد ثنا أبو المغيرة: ثنا صفوان: ثنا راشد بن سعد، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((لا يقطع صلاة المسلم شيء، إلا الحمار والكافر والكلب والمرأة)) . قالت عائشة: يا رسول الله، لقد قرنا بدواب سوء.
هذا منقطع؛ راشد لَمْ يسمع من عَائِشَة بغير شك.
ووهم فِي ذَلِكَ، وإنما الصحيح: ما رواه أصحاب عائشة الحفاظ، عنها، أنه ذكر عندها ذلك، فقالت: لقد قرنتمونا بقرناء سوء، ونحو هذا المعنى.
وقد ذكر الميموني أن أحمد ذكر له أن ألحوضي روى من طريق الأسود، عن عائشة - مرفوعا -: ((يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود)) . . فقال أحمد: غلط الشيخ عندنا؛ هذا عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي تقول: عدلتمونا بالكلب والحمار؟ ! .
يعني: لو كان هذا عندها عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(4/124)
لما قالت ما قالت.
وخرج أبو داود من رواية سعيد بن عبد العزيز، عن مولى ليزيد بن نمران، عن يزيد بن نمران، قال، رأيت رجلا بتبوك مقعدا، فقال: مررت بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا على حمار وهو يصلي، فقال: ((اللهم اقطع أثره)) ، فما مشيت عليها بعد.
وفي رواية له: فقال: ((قطع صلاتنا قطع الله أثره)) .
وفي إسناد جهالة.
فالقائلون: بأن الصلاة يقطعها الكلب والحمار والمرأة تعقلوا بظواهر هذه الأحاديث.
وأما من قال: لا يقطع الصلاة غير الكلب الأسود، كما قاله أحمد في ظاهر مذهبه، وإسحاق، فقالوا: المرأة والحمار قد تعارضت فيهما الأحاديث، فحديث عائشة دل على عدم قطع الصلاة بالمرأة، وحديث ابن عباس دل على أن الحمار لا يقطع الصلاة، وبقي الكلب الأسود لا معارض له فيؤخذ به.
وهذا هو جادة مذهب أحمد وأصحابه، وما قالوه في ذلك.
ولهم في ذلك مسلكان آخران:
أحدهما: أن حديث عائشة لا يعارض حديث أبي ذر؛ فإن حديث(4/125)
عائشة في وقوف المرأة بين يدي المصلي، وانه لا يبطل صلاته، وحديث أبي ذر في مرور المرأة، وأنه مبطل للصلاة، فيعمل بكلا الحديثين، فتبطل الصلاة بمرور هذه الثلاثة دون وقوفها في قبلة المصلي، وهو رواية عن أحمد.
وهذا يتوجه على إحدى الروايتين عن أحمد في إبطال الصلاة بمرور الثلاثة المذكورة في حديث أبي ذر، وقد رجحها بعض أصحابنا المتأخرين.
وقد تقدم قول عائشة: ((فأكره أن أسنحه)) - أي: أعترض بين يديه مارة، فدل على أن مرورها بين يديه مما يكره ويتقى، بخلاف نومها معترضة.
وروى الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر: ثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كنت أكون بين يدي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي، فإذا أردت أن أقوم كرهت أن أمر بين يديه، فأنسل انسلالا.
ويدل على أنه يفرق بين المرور والوقوف: أن المصلي مأمور بدفع المار ولو كان حيوانا، وقد وردت السنة بالصلاة إلى الحيوان البارك والمرأة النائمة، فدل على الفرق بين الأمرين.
وقد استدل الإمام أحمد بهذا على التفريق بين المرور والوقوف.
والثاني: أن يحمل حديث عائشة على صلاة النفل،(4/126)
فلا تقطعها المرأة، وحديث أبي ذر على الفريضة.
وهذا مسلك آخر لأصحابنا، وقد حكوا رواية عن أحمد بالفرق بين الفريضة والنافلة في قطع الصلاة بمرور هذه الثلاثة.
ومما استدل به أحمد على الفرق بين الفريضة والنافلة: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أو يوتر أيقظ عائشة، ولم يوتر وهي معترضة بين يديه.
وفي رواية خرجها أبو داود من حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أن يوتر قال لها: ((تنحي)) .
وبهذه الرواية احتج أحمد في هذه المسألة.
وخرج الجوزجاني من رواية موسى بن أيوب الغافقي، أن عمه إياس بن عامر حدثه، أنه سمع علي بن أبي طالب يقول: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يوتر أمرها - يعني: عائشة - أن تتنحى عنه، وقال: إنها صلاة ازددتموها.
فإذا فرق بين النفل المطلق والوتر في الصلاة إلى المرأة، فالفريضة أولى.
وقد سلك بعضهم مسلكا آخر، وهو نسخ القطع بالمرأة والحمار بحديث عائشة وابن عباس؛ لأن حَدِيْث ابن عَبَّاس كَانَ فِي حجة الوداع فِي آخر عُمَر النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحديث عَائِشَة يدل بظاهره عَلَى استمرار النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا أخبرت بِهِ عَنْهُ إلى آخر
عمره، ولو كان قد(4/127)
ترك ذلك في آخر عمره لما خفي عليها، وبقي الكلب الأسود لا ناسخ له.
وهذا المسلك فيه نظر، وقد أنكره الإمام أحمد في رواية حرب، وأنكره - أيضا - الشافعي في ((كتاب مختلف الحديث)) .
وعلى هذا المسلك يتوجه القول بإبطال الصلاة بالكلب الأسود خاصة.
وأحمد كان شديد الورع في دعوى النسخ، فلا يطلقه إلا عن يقين وتحقيق؛ فلذلك عدل عن دعوى النسخ هنا إلى دعوى تعارض الأخبار، والأخذ بأصحها إسنادا، فأخذ بحديث عائشة في المرأة، وحديث ابن عباس في الحمار، فبقي الكلب الأسود من غير معارض.
وهذا إنما يتوجه على القول بالفرق بين الوقوف والمرور، كما هو إحدى الروايتين عن أحمد.
فأما على الرواية الثانية عنه بالتسوية بينهما، فلا تعارض بين حديث عائشة وحديث أبي ذر في المرأة، وإنما التعارض بين حديث ابن عباس في مرور الحمار وبين حديث أبي ذر، فمقتضى ذلك حينئذ أن تبطل الصلاة بمرور الكلب والمرأة دون الحمار، ولا يعرف هذا عن أحمد.
وعلى رواية التفريق بين الفرض والنفل، فلا تعارض بين حديث عائشة(4/128)
وأبي ذر في حق المرأة، وإن قلنا: إن الوقوف كالمرور، وأما أن فرقنا بينهما انتفى التعارض حينئذ من وجهين، وتبقى المعارضة بين حديث أبي ذر وحديث ابن عباس في مرور الحمار، فإن حديث ابن عباس في الفرض وحديث أبي ذر عام في الفرض والنفل، فيخرج من هذا أن يقال: حديث أبي ذر عام في الفرض والنفل في مرور الثلاثة، خص من عمومه النفل بمرور المرأة إن سوينا بينه وبين الوقوف، وإن فرقنا بينهما فالوقوف غير داخل في لفظ حديث أبي ذر ولا في معناه.
فأما الحمار فقد عارضه حديث ابن عباس، وهو في الفرض، وهو أصح من حديث أبي ذر، ولكن يلزم من العمل بحديث ابن عباس وترك حديث أبي ذر في الفرض إبطال حكم مرور الحمار جملة، وذلك نسخ.
ويخص - أيضا - من عموم حديث أبي ذر في الكلب النفل بالقياس على المرأة، فيقتضي هذا التقرير أن يقال: إن مرور الكلب والمرأة يبطل الصلاة المفروضة دون النافلة، ومرور الحمار لا يبطل شيئا.
وهذا - أيضا - قول غريب لا يعرف عن أحمد ولا غيره.
وإنما حكى القاضي أبو يعلى رواية عن أحمد أن هذه الثلاثة يبطل مرورها الفرض دون النفل.
وأخذه مما رواه بكر بن محمد وغيره، عن أحمد: يقطع الصلاة الكلب والمرأة والحمار، فذكر حديث عائشة،(4/129)
فقال: هو عندي في المار بين يدي المصلي، فإذا كانت بين يديه كان أسهل، وهذا في التطوع، فأما الفرض فهو آكد، أليس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أراد أن يوتر قال: ((تنحي)) ؟
قال: هذا إنما يدل على تفريق أحمد بين الفرض والتطوع في استقبال المرأة في الصلاة دون مرورها، أما في المرور فلم يفرق، وإنما فرق في الصلاة إلى المرأة النائمة ونحوها بين الفرض والنفل، فجوزه في النفل وكرهه في الفرض، وفرق بين المرور والوقوف في إبطال الصلاة بالمرور دون الوقوف، فما يبطل الصلاة - وهو المرور - لم يفرق فيه بين فرض ونفل، إنما فرق بينهما فيما يكره في الصلاة، وهو الصلاة إلى المرأة، فكرهه في الفرض دون النفل، هذا هو الذي دل عليه كلام أحمد هذا. والله اعلم.
وظاهر قول عائشة - رضي الله عنها -: ((عدلتمونا بالحمر والكلاب)) ، واستدلالها بصلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليها: يدل على أنها رأت المرور والوقوف سواء، وإلا فلو كان الحكم عندها مختصا بالمرور لم يكن لها في حديثها دليل.
ومتى قيل: إن حديث ابن عباس في مروره بالحمار بين يدي بعض الصف لم يكن مرورا بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل كانت سترته محفوظة، فلا(4/130)
دليل في حديثه هذا على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة، وإن انضم إلى ذلك التفريق بين مرور المرأة ووقوفها وجلوسها ونومها لم يبق في حديثها دليل على أن المرأة لا يقطع مرورها، فيسلم حينئذ حديث أبي ذر وما أشبهه من معارض في الكلب والمرأة والحمار.
وأما جمهور أهل العلم الذين لم يروا قطع الصلاة وبطلانها بمرور شيء بين يدي المصلي، فاختلفت مسألكهم في هذه الأحاديث المروية في قطع الصلاة:
فمنهم: من تكلم فيها من جهة أسانيدها، وهذه تشبه طريقة البخاري؛ فإنه لم يخرج منها شيئا، وليس شيء منها على شرطه كما سبق بيانه.
ومنهم: من ادعى نسخها بحديث مرور الحمار وهو في حجة الوداع، وهي في آخر عمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإذا نسخ منها شيء دل على نسخ الباقي، وسلك هذا الطحاوي وغيره من الفقهاء.
وفيه ضعف، وقد أنكر الشافعي وأحمد دعوى النسخ في شيء من هذه الأحاديث؛ لعدم العلم بالتاريخ.
ومنهم من قال: حديث أبي ذر ونحوه قد عارضه ما هو أصح منه إسنادا، كحديث ابن عباس وعائشة، وقد أعضدهما أحاديث أخر تشهد لهما:
فروى شعبة، أن الحكم أخبره، قال: سمعت يحيى - هو: ابن(4/131)
الجزار - يحدث، عن صهيب، قال: سمعت ابن عباس يحدث، أنه مر بين يدي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو وغلام من بني هاشم على حمار بين يدي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي، فنزلوا ودخلوا معه، فصلوا فلم ينصرف، فجاءت جاريتان تسعيان من بني عبد المطلب، فأخذنا بركبتيه، ففرع بينهما ولم ينصرف.
خرجه الإمام أحمد والنسائي، وهذا لفظه، وقد سبق ذكر إسناده.
وخرج النسائي - أيضا - من رواية ابن جريج: أخبرني محمد بن عمر بن علي، عن عباس بن عبيد الله بن عباس، عن الفضل بن عباس بن عبد المطلب، قال: زار رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عباسا في بادية لنا، ولنا كليبة وحمارة ترعى، فصلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر وهما بين يديه، فلم يزجرا ولم يؤخرا.
وخرجه الإمام أحمد وأبو داود، ولفظه: أتانا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن في بادية لنا، ومعه عباس، فصلى في صحراء، ليس بين يديه سترة، وحمارة لنا وكليبة تعبثان - أو تعيثان - بين يديه، فما بالى ذاك.
ومحمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، وثقه الدارقطني وغيره.
وعباس بن عبيد الله بن عباس، روى عنه أيوب السختياني مع جلالته، انتقاده للرجال، حتى قال أحمد: لا تسأل عمن روى عنه أيوب. وذكره ابن حبان في ((الثقات)) .(4/132)
وقد اختلف قول أحمد في هذا: فمرة، قال: حديث أبي ذر يخالفه، ولم يعتد به -: نقله عنه علي بن سعيد. ومرة، عارض به حديث أبي ذر، وقدمه عليه -: نقله عنه الحسن بن ثواب.
لكن ليس في هذا الحديث أن الكلب كان أسود؛ فلذلك لم يرد به حديث أبي ذر في الكلب الأسود، ولم يجعله معارضا له.
وروى أسامة بن زيد، عن محمد بن قيس - قاص عمر بن عبد العزيز -، عن أبيه، عن أم سلمة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في حجرة أم سلمة، فمر بين يديه عبد الله - أو عمر بن أبي سلمة -، فقال بيده فرجع، فمرت زينب بنت أم سلمة، فقال بيده هكذا، فمضت، فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((هن أغلب)) .
خرجه ابن ماجه.
وقد يفرق من يقول ببطلان الصلاة بمرور المرأة بين الجارية التي لم تبلغ وبين
البالغ، ويقول: إذا أطلقت المرأة لم يرد بها إلا البالغ، وزينب حينئذ كانت صغيرة، والصغيرة لا تسمى امرأة في الحال؛ ولهذا قَالَتْ(4/133)
عَائِشَة: إذا بلغت الجارية تسع سنين فَهِيَّ امرأة.
وفي دخول الصغيرة في مسمى النساء خلاف ذكره الماوردي وغيره من
المفسرين، فكذا ينبغي أن يكون في دخولها في مسمى المرأة.
وقد سلك الشافعي في ((كتاب مختلف الحديث)) هذا المسلك في ترجيح أحاديث الرخصة على أحاديث قطع الصلاة، وعضدها بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ} [الأنعام:164] .
وسلك آخرون مسلكا آخر، وهو: أن الأحاديث إذا تعارضت نظر إلى ما عمل به الصحابة فيرجح، وقد عمل الصحابة بأن الصلاة لا يقطعها شيء، وقد روي ذلك عن الخلفاء الراشدين الأربعة وغيرهم.
وقد سلك هذا أبو داود في ((سننه)) ، وهو من أجل أصحاب الإمام أحمد.
وسلك آخرون مسلكا آخر، وهو: تأويل القطع المذكور في هذه الأحاديث، وانه ليس المراد به إبطال الصلاة وإلزام إعادتها، وإنما المراد به القطع عن إكمالها والخشوع فيها بالاشتغال بها، والالتفات إليها، وهذا هو الذي قاله الشافعي في رواية حرملة، ورجح هذا الخطابي والبيهقي وغيروهما من العلماء.
وقد تعرض عليه بأن المصلي قد يكون أعمى، وقد يكون ذلك ليلا(4/134)
بحيث لا يشعر به المار ولا من مر عليه، والحديث يعم هذه الأحوال كلها،
وأيضا؛ فقد يكون غير هذه الثلاثة أكثر إشغالا للمصلي كالفيل والزرافة والوحوش والخيل المسومة، ولا يقطع الصلاة مرور شيء من ذلك.
وأقرب من هذا التأويل: أن يقال: لما كان المصلي مشتغلا بمناجاة الله، وهو في غاية القرب منه والخلوة به، أمر المصلي بالاحتراز من دخول الشيطان في هذه الخلوة الخاصة، والقرب الخاص؛ ولذلك شرعت السترة في الصلاة خشية من دخول الشيطان، وكونه وليجة في هذه الحال فيقطع بذلك مواد الأنس والقرب؛ فإن الشيطان رجيم مطرود مبعد عن الحضرة الإلهية، فإذا تخلل في محل القرب الخاص للمصلي أوجب تخلله بعدا وقطعا لمواد الرحمة والقرب والأنس.
فلهذا المعنى - والله اعلم - خصت هذه الثلاث بالاحتراز منها، وهي: المرأة؛ فإن النساء حبائل الشيطان، وإذا خرجت المرأة من بيتها استشرفها الشيطان، وإنما توصل الشيطان إلى إبعاد آدم من دار القرب بالنساء. والكلب الأسود: شيطان، كما نص عليه الحديث. وكذلك الحمار؛ ولهذا يستعاذ بالله عند سماع صوته بالليل، لأنه يرى الشيطان؛ فلهذا أمر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالدنو من السترة خشية أن يقطع الشيطان عليه صلاته، وليس ذلك موجبا لإبطال الصلاة وإعادتها. والله أعلم.
وإنما هو منقص لها، كما نص عليه الصحابة، كعمر وابن مسعود، كما سبق(4/135)
ذكره في مرور الرجل بين يدي المصلي، وقد أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدفعه وبمقاتلته، وقال: ((إنما هو شيطان)) .
وفي رواية: ((أن معه القرين)) .
لكن النقص الداخل بمرور هذه الحيوانات التي هي بالشيطان أخص أكثر وأكثر، فهذا هو المراد بالقطع، دون الإبطال والإلزام بالإعادة. والله اعلم.
وقد ذكرنا فيما سبق حديث أبي داود في مرور الغلام بتبوك بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه قال: ((قطع علينا صلاتنا)) ، ودعا عليه، فهذا قطع لا يقتضي البطلان.
ويدل على ذلك - أيضا -: أن ابن عباس قد قال: يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب الأسود والحمار، كما سبق عنه.
وروي عنه إنكار بطلان الصلاة بذلك:
فروى الحسن العرني، قال: ذكر عند ابن عباس: يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة. قال: بئسما عدلتم بامرأة مسلمة كلبا وحمارا، لقد رأيتني أقبلت على حمار ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس، حتى إذا كنت قريبا منه نزلت عنه، وخليت عنه، ودخلت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته، فما أعاد صلاته ولا نهاني عما صنعت، ولقد كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس، فجاءت وليدة تخلل الصفوف، حتى عاذت برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فما أعاد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاته، ولا نهاها عما صنعت، ولقد كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في مسجد، فخرج جدي من بعض حجراته، فذهب يجتاز بين يديه، فمنعه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال ابن عباس: أفلا(4/136)
تقولون: الجدي يقطع الصلاة؟
خرجه الإمام أحمد.
ومراد ابن عباس، أنه ليس كل ما أمر بدفعه ومنعه من المرور تبطل الصلاة بمروره، ولا يقطعها بمعنى أنه يبطلها، وإن كان قد يسمى قطعا باعتبار أنه ينقصها.
وروى سفيان، عن سماك، عن عكرمة، قال: قيل لابن عباس: أيقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب؟ فقال: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، فما يقطع هذا، ولكن يكره.
خرجه البيهقي.
وقد أشار طائفة من السلف إلى أن الشيطان لا سبيل له إلى قطع قرب المصلي، ولا أن يحول بين المصلي وبين تقريب الله له، واختصاصه بما اختصه به.
قال ابن أبي شيبة: ثنا ابن نمير: ثنا حنظلة، عن القاسم، قال: لا يقطع الصلاة شيء، الله أقرب من كل شيء.
وقال الحكيم الترمذي في ((تفسيره)) : ثنا مؤمل بن هشام اليشكري: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن ابن عون، عن القاسم بن محمد، قال: لا يقطع الصلاة شيء؛ فإن الله دون كل شيء إلى العبد.
قال الحكيم: يعني: أدنى إليه من كل شيء، كما(4/137)
قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] .
وحينئذ فيتوجه أن يقال: أن المصلي وجد منه تفريط في حصول مرور الشيطان بين يديه، إما بصلاته في موضع تجتاز فيه المرأة والحمار والكلب من غير سترة، أو مر ذلك وفرط في دفعه ورده، فإنه ينقص أجر صلاته.
وربما يقال: أنه يستحب له إعادتها، كما أعاد ابن عمر صلاته من مرور جرو الكلب.
وكذلك الحكم الغفاري، أعاد من مرور حمار.
وإما إن لَمْ يحصل منه تفريط في ذلك بالكلية، فإنه لا ينقص صلاته، كمن صلى ومر بين يديه رجل فدفعه ولم يندفع، فإنه لا تبطل صلاته، بل ولا تنقص مع إخبار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن المار بين يديه شيطان.
وهو بمنزلة من صلى وهو يدافع وساوس الشيطان، فإنه لا يضره ذلك، ولا يكون به محدثا لنفسه في صلاته، وإنما يكون محدثا لنفسه إذا استرسل مع وساوسه وخواطره.
وقد ألحق طائفة من أصحابنا بمرور الكلب والمرأة والحمار: مرور الشيطان حقيقة، وقالوا: إن حكم مروره حكم مرور الكلب.
وقد صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: ((أن الشيطان تفلت علي البارحة؛ ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه)) .
وقد خرجه البخاري فيما سبق في ((باب: ربط الأسير ونحوه في المسجد)) .
والظاهر: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد بقطع صلاته ما ذكرناه.(4/138)
وقد خرج البخاري حديث عائشة، قالت: سألت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: ((هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)) .
وفي حديث أبي ذر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا يزال الله مقبلا على العبد وهو مقبل عليه في صلاته، ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة في ((صحيحة)) .
وفي حديث الحارث الأشعري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات، أن يعمل بهن، وان يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن)) - فذكر الحديث - وفيه: ((وآمركم بالصلاة؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا)) .
خرجه الإمام أحمد والترمذي وصححه.
والالتفات - أيضا - مما يسرقه الشيطان من صلاة العبد، فتنقص به صلاته.
وقد روي: ((لا صلاة لملتفت)) ، وإنما أريد نفي كمالها وتمامها؛(4/139)
فإنه يوجب إعراض الله من عبده في تلك الحال.
وكذلك تنخم المصلي أمامه في صلاته يوجب إعراض الله عن عبده المصلي له في حال تقريبه له وخلوته بمناجاته.
فالشيطان يحمل المصلي على هذا كله ليقطع عليه صلاته، بمعنى: أنه ينقص عليه كمالها وفوائدها وثمراتها من خشوعها وحضورها، وما يتنعم به المصلي وتقر به عينه من ذكر الله فيها، ومناجاته بتلاوة كتابه.
وكذلك ما يقذفه الشيطان في قلب المصلي من الوساوس ويذكره به حتى ينسيه كم صلى وقد أمر المصلي حينئذ بان يسجد سجدتين، فتكونا ترغيمتين للشيطان، ولا تبطل الصلاة، ولا تجب إعادتها بشيء من ذلك كله. والله أعلم.
* * *(4/140)
106 - باب
إذا حمل جارية صغيرة على عنقه(4/141)
516 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن أبي قتادة الأنصاري، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها.
((أمامة)) ، هذه التي حملها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته هي بنت ابنته زينب، وأبوها: أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، وأم أبي العاص: هالة بنت خويلد، أخت خديجة بنت خويلد.
وفي رواية مالك لهذا الحديث: ((أبو العاص بن ربيعة)) ، وكذا رواه عامة رواه ((الموطإ)) عنه.
والصواب: ابن الربيع.(4/141)
وقد خرجه مسلم، عن يحيى بن يحيى، عن مالك على الصواب.
وأمامة، تزوجها علي بن أبي طالب بعد موت فاطمة عليها السلام.
وقد خرج مسلم هذا الحديث من طريق مالك.
وخرجه - أيضا - من طريق سفيان بن عيينة، عن عثمان بن أبي سليمان وابن عجلان، سمعا عامر بن عبد الله بن الزبير يحدث، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن أبي قتادة، قال رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤم الناس وأمامة ابنة أبي العاص - وهي بنت زينب ابنة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها.
ومن طريق ابن وهب: أخبرني مخرمة، عن أبيه، عن عمرو بن سليم الزرقي، قال: سمعت أبا قتادة الأنصاري يقول: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي للناس، وأمامة ابنة أبي العاص على عنقه، فإذا سجد وضعها.(4/142)
ومن طريق سعيد المقبري، عن عمرو بن سليم، سمع أبا قتادة يقول: بينا نحن في المسجد جلوس، خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنحوه، غير أنه لم يذكر أنه أم الناس في تلك الصلاة.
وخرجه أبو داود من طريق ابن إسحاق، عن المقبري، عن عمرو بن سليم، عن أبي قتادة، قال: بينما نحن ننتظر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الظهر أو العصر، وقد دعاه بلال للصلاة، خرج إلينا وأمامة بنت أبي العاص بنت ابنته على عاتقه، فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مصلاه، فقمنا خلفه، وهي في مكانها الذي هي فيه، قال: فكبر فكبرنا. قال: حتى إذا أراد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يركع أخذها فوضعها، ثم ركع وسجد حتى إذا فرغ من سجوده وقام أخذها فردها في مكانها، فما زال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنع بها ذلك في كل ركعة حتى فرغ من صلاته.
وخرج الزبير بن بكار في كتابه ((الجمهرة)) بإسناد له عن عمرو بن سليم
الزرقي، أن الصلاة التي صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يحمل أمامة صلاة الصبح.
وهو مرسل، ضعيف الإسناد.(4/143)
فمجموع هذه الروايات يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استفتح الصلاة بالناس إماما لهم في صلاة الفريضة، وهو حامل أمامة، وأنه كان إذا ركع وسجد وضعها بالأرض، فإذا قام إلى الركعة الثانية عاد إلى حملها إلى أن فرغ من صلاته.
والحديث نص صريح في جواز مثل هذا العمل في الصلاة المكتوبة، وأن ذلك لا يكره فيها، فضلا عن أن يبطلها.
وقد أخذ بذلك كثير من العلماء أو أكثرهم:
فقال الحسن والنخعي: ترضع المرأة جنينها وهي تصلي.
خرجه الأثرم عنهما بإسناد صحيح.
وروى - أيضا - بإسناد صحيح، عن ابن مسعود، أنه ركع ثم سجد، فسوى الحصى ثم خبطه بيده.
قال الأثرم: وسئل أبو عبد الله - يعني: أحمد - عن الرجل يكبر للصلاة وبين يديه رمح منصوب، فيريد أن يسقط فيأخذه فيركزه مرة أخرى - وقيل له: حكوا عن ابن المبارك أنه أمر رجلا صنع هذا أن يعيد التكبير -؟ فقال: أرجو أن لا يكون به بأس أن لا يعيد التكبير، ثم ذكر حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يصلي الفرض بالناس وأمامة على عاتقه.
قال: وسمعت أبا عبد الله سئل: أيأخذ الرجل ولده وهو يصلي؟ قال: نعم.
قال: وأخبرني محمد بن داود(4/144)
المصيصي، قال: رأيت أبا عبد الله رأى رجلا قد خرج عن الصف، فرده وهو في الصلاة.
قال: وربما رأيته يسوي نعليه برجليه في الصلاة.
وقال الجوزجاني في كتابه ((المترجم)) : حدثني إسماعيل بن سعيد، قال: سألت أحمد بن حنبل عمن حمل صبيا ووضعه في صلاته، كما فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: صلاته جائزة.
قلت له: فمن فعل في صلاته فعلا كفعل أبي برزة حين مشى إلى الدابة، فأخذها حين انفلتت منه، وهو في صلاته؟ فقال: صلاته جائزة.
وبه قال أبو أيوب - يعني: سليمان بن داود الهاشمي - وأبو خيثمة.
وقال ابن أبي شيبة: من فعل ذلك على ما جاء عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجونا أن تكون صلاته تامة.
قال: ويجزئ عمن فعل كفعل أبي برزة في صلاته.
قال الجوزجاني: وأقول: إن اتباع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نجاة لا رجاء، وإنما الرجاء في اتباع غيره فيما لم يكن عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ثم خرج حديث أبي قتادة في حمل أمامة بإسناده.
ومراده: الإنكار على ابن أبي شيبة في قوله: ((أرجو)) ، وأن مثل هذا لا ينبغي أن يكون فيه رجاء؛ فإنه اتباع لسنة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك نجاة وفلاح.
وحديث أبي برزة في اتباع فرسه وأخذها في صلاته، قد خرجه(4/145)
البخاري، وسيأتي في موضعه - إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وحكى ابن المنذر عن الشافعي وأبي ثور جواز حمل الصبي في الصلاة المفروضة.
وإذا عرفت هذا تبين لك ضعف ما قاله ابن عبد البر: أنه لا نعلم خلافا أن هذا العمل في الصلاة مكروه، ولم يحك كراهته عن أحد إلا عن مالك، فإنه قال: ذكر أشهب عن مالك، أن ذلك من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة النافلة، وان مثل هذا الفعل غير جائز في الفريضة، وحكى عن بعض أهل العلم أنه لا يحب لأحد فعل ذلك في صلاته، ولا يرى عليه إعادة به.
وقد تبين أن أكثر العلماء أجازوه من غير كراهة، وتخصيصه بالنافلة مرود بالنصوص المصرحة بأنه فعل ذلك في الفريضة، وهو يؤم الناس فيها.
وروى الإسماعيلي في ((صحيحه)) من حديث عبد الله بن يوسف، عن مالك، أنه قال - بعد روايته هذا الحديث -: من حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناسخ ومنسوخ، وليس العمل على هذا.
ومالك إنما يشير إلى عمل من لقيه من فقهاء أهل المدينة خاصة كربيعة ونحوه، وقد عمل به فقهاء أهل العراق كالحسن والنخعي، وفقهاء أهل الحديث،(4/146)
ويتعذر على من يدعي نسخه الإتيان بنص ناسخ له.
وقد رخص عطاء في ذلك - أيضا -:
قال عبد الرزاق: عن ابن جريج، قلت لعطاء: أمرآة يبكي ابنها وهي في الصلاة أتتوركه: قال: نعم: قد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأخذ حسنا في الصلاة فيحمله حتى إذا سجد وضعه. قلت: في المكتوبة؟ قال: لا أدري.
وقال حرب الكرماني: ثنا محمد بن يحيى، ثنا عمر بن علي: ثنا عبد الملك ابن أبي سليمان، عن عطاء في الرجل يصلي ومعه المتاع بين يديه، فيتقدم الصف أو يتأخر فيحني ظهره، فيقدم متاعه أو يؤخره؟ قال: لا بأس به.
قال حرب: قلت لأحمد: الرجل يكون في الصلاة فيسقط رداؤه عن ظهره، أيحمله؟ قال: أرجو أن لا يضيق ذلك. قلت: فيفتح الباب بحيال القبلة؟ قال: في التطوع.
قال حرب: وثنا المسيب بن واضح، قال: سمعت ابن المبارك سئل عن الرجل يكون معه الثوب أو غيره، فيضعه بين يديه في الصلاة، فيتقدم الصفوف، أو يتأخر فيتناول ذلك الشيء، ويتقدم ويتأخر؟ قال: لا بأس بذلك. قيل: وما وقت ما يمشي المصلي في صلاته؟ قال: ما لا يخرج إلى حد المشي.
وقال الخطابي: في هذا الحديث من الفقه أن من صلى وعلى ظهره أو عاتقه كارة أو نحوها لم تبطل صلاته، ما لم يحتج لإمساكه إلى(4/147)
عمل كثير، أو التزام له ببعض أعضائه.
قال: ويشبه أن يكون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتعمد لحملها؛ لأن ذلك يشغله عن صلاته وعن الخشوع فيها، وأنها كانت إذا سجد جاءت فتعلقت بأطرافه والتزمته، فينهض من سجوده فيخليها وشأنها، فتبقى محمولة كذلك إلى أن يركع، فيرسلها إلى الأرض، حتى إذا سجد وأراد النهوض عاد إلى مثله.
قلت: هذا تبطله الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه خرج على الناس وهو حاملها، ثم صلى لهم وهو حاملها.
وفي حديث أبي قتادة: دليل على أن حمل الجارية الصغيرة في الصلاة ووضعها ليس بمبطل للصلاة، ولا هو بداخل فيما يبطل الصلاة من مرور المرأة بين يدي المصلي؛ فإن هذا ليس بمرور، وأكثر ما فيه أنه كان يضعها بين يديه، وليس هذا بأكثر من صلاته إلى عائشة وهي معترضة بين يديه، بل هذا أهون؛ لأن ذلك لم يكن يستمر في جميع صلاته. وأيضا؛ فهذه صغيرة لَمْ تكن بلغت حينئذ.
وقد سبق فِي حَدِيْث أن زَيْنَب بِنْت أم سَلَمَة مرت بَيْن يدي النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ
يصلي، فلم يقطع صلاته، وكانت زينب حينئذ صغيرة، وأن المرأة إذا أطلقت لم يرد بها إلا المرأة البالغ.
وهذا هو المعنى الذي بوب البخاري عليه هنا،(4/148)
وخرج الحديث لأجله.
وفيه - أيضا -: دليل على طهارة ثياب الأطفال؛ فإنه لو كان محكوما بنجاستها لم يصل وهو حامل لأمامة.
وقد نص الشافعي وغيره على طهارتها، ومن أصحاب الشافعي من حكى لهم قولين في ذلك.
ومنع ابن أبي موسى من أصحابنا من الصلاة في ثيابهم حتى تغسل؛ لأنهم لا يتنزهون من البول.
وروى أبو النعيم الفضل بن دكين في ((كتاب الصلاة)) : ثنا مندل: ثنا إسماعيل بن مسلم، عن الحارث العكلي، عن إبراهيم النخعي، قال: كانوا يكرهون أن يصلوا في ثياب الصبيان.
إسناد ضعيف.
وقد كره الصلاة في ثيابهم كثير من أصحابنا، وحكي مثله عن الحسن، ورخص فيه آخرون، وهو اختيار بعض أصحابنا، وهذا أصح، وهذا الحديث نص في ذلك. والله سبحانه وتعالى اعلم.(4/149)
107 - باب
إذا صلى إلى فراش فيه حائض(4/150)
517 - حدثنا عمرو بن زرارة: أبنا هشيم، عن الشيباني: عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: أخبرتني خالتي ميمونة بنت الحارث، قالت: كان فراشي حيال مصلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فربما وقع ثوبه علي وأنا على فراشي.(4/150)
518 - حدثنا أبو النعمان: ثنا عبد الواحد بن زياد: أبنا الشيباني: ثنا عبد الله بن شداد، قال: سمعت ميمونة تقول: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وأنا إلى جنبه نائمة، فإذا سجد أصابني ثوبه، وأنا حائض.
ليس في الرواية الأولى أنها كانت حائضا، وهو في الرواية الثانية.
وقد خرجه البخاري في آخر ((كتاب الحيض)) بلفظ ثالث، وهو: عن(4/150)
ميمونة: أنها كانت تكون حائضا لا تصلي، وهي مفترشة بحذاء مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يصلي على خمرته، إذا سجد أصابني بعض ثوبه.
وخرجه - أيضا - فيما سبق في ((أبواب الصلاة في الثياب)) ، في ((باب: إذا أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد)) ، ولفظه فيه: قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وأنا حذاءه، وأنا حائض، وربما أصابني ثوبه إذا سجد.
وقد تبين بالرواية الثانية التي خرجها البخاري في هذا الباب، أنها كانت نائمة إلى جانبه وهو يصلي، ولم تكن مضطجعة بين يديه.
وقد روي من حديث عائشة، أنها كانت تضطجع أمامه وهي حائض، فيصلي إليها.
خرجه أبو داود من رواية شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن عروة، عن عائشة، قالت: كنت بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين القبلة - قال شعبة: وأحسبها قالت -: وأنا حائض.
قال أبو داود: رواه الزهري وعطاء وأبو بكر بن حفص وهشام(4/151)
بن عروة وأبو مالك وأبو الأسود وتميم بن سلمة، كلهم عن عروة، عن عائشة. لم يذكروا فيه: ((وأنا حائض)) . ورواه إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة - وأبو الضحى، عن مسروق، عن عائشة - والقاسم، وأبو سلمة، عن عائشة -، ولم يذكروا: حائض.
وقد روي عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي من الليل، وأنا إلى جنبه، وأنا حائض.
خرجه مسلم من طريق طلحة بن يحيى، عن عبيد الله بن عبد الله، قال: سمعته عن عائشة.
وقد سبق الكلام على ما يتعلق بحديث ميمونة من طهارة الحائض وثيابها.
والمقصود هنا منه: أن الصلاة إليها لا تبطل الصلاة.
ولكن لم يخرج البخاري لفظا صريحا في الصلاة إلى فراش الحائض، بل في إحدى روايتيه: أنها كانت نائمة إلى جانبه، وفي الثانية أن فراشها كان حيال مصلاه، والمراد: أنه كان محاذيا له ومقابلا، وهذا يصدق بكونه إلى جانبه، عَن يمينه أوشماله، ويشهد لذلك: قولها في تمام الحديث: ((فربما وقع ثوبه علي وأنا على(4/152)
فراشي)) ، وهذا إنما يكون إذا كانت إلى جانبه، أما لو كانت بين يديه فمن أين كان يقع بعض ثيابه عليها؟
وبكل حال؛ فالصلاة إلى المرأة الحائض كالصلاة إلى الطاهر، إلا عند من يرى أن مرور الحائض يقطع الصلاة دون الطاهر، وأن وقوف المرأة واضطجاعها في قبلة المصلي كمرورها فيها.
وقد سبق ذلك كله، وسبق الكلام - أيضا - على التطوع خلف المرأة في بابه.
ولو كان بين يدي المصلي كافر قاعدا أو مضطجعا، فرخص الحسن في الصلاة إليه، وكرهه الإمام أحمد، وقال: هو نجس، وحكي مثله عن إسحاق.(4/153)
108 - باب
هل يغمز الرجل امرأته عند السجود لكي يسجد؟(4/154)
519 - حدثنا عمرو بن علي: ثنا يحيى: ثنا عبيد الله: ثنا القاسم، عن عائشة، قالت: بئسما عدلتمونا بالكلب والحمار؛ لقد رأيتني ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة، فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي فقبضتهما.
وقد تقدم هذا الحديث في ((باب: التطوع خلف المرأة)) من رواية أبي سلمة، عن عائشة، أنها قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما. قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح.
فدل على أن غمزها عند السجود كان لضيق المكان حيث كانت قدماها في موضع سجوده، فكان يغمزها لتكف قدميها فيسجد في موضعهما، وكان ذلك في سواد الليل وظلمته، فلم يكن يدرك التنبيه منه بإشارة ونحوها، فلذلك احتاج إلى غمزها.
ولم يجئ في حديثها هذا: بأي شيء كان يغمزها.
وقد روي في حديث آخر، أنه كان إذا أراد أن يوتر غمزها برجله.
وفي رواية: مسها برجله. ويأتي في موضعه - أن شاء الله تعالى.
واستدل بالحديث على(4/154)
أن مس النساء بغير شهوة لا ينقض الطهارة، كما هو قول مالك وأحمد في ظاهر مذهبه. ومن يقول: إن المس لا ينقض بكل حال، كما يقول أبو حنيفة وأحمد في رواية عنه.(4/155)
109 - باب
المرأة تطرح عن المصلي شيئا من الأذى(4/156)
520 - حدثنا أحمد بن إسحاق: ثنا عبيد الله بن موسى: ثنا إسرائيل: عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله، قال: بينما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائم يصلي عند الكعبة، وجمع قريش في مجالسهم، إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي، أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضعه بين كتفيه، وثبت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساجدا، فضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة - وهي جويرية -، فأقبلت تسعى، وثبت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساجدا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة قال: ((اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش)) ، ثم سمى: ((اللهم(4/156)
عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة ابن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد)) .
قال عبد الله: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب: قليب بدر.
ثم قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وأتبع أصحاب القليب لعنة)) .
قد سبق هذا الحديث بتمامه في أواخر ((الوضوء)) في ((باب: إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته)) .
وخرجه هناك من طريق شعبة ويوسف بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، ببعض زيادة في متنه ونقص، وفيه: ((وعد السابع فلم نحفظه)) .
وفي هذه الرواية: أن السابع عمارة بن الوليد.
والمعروف في السير: أن عمارة بن الوليد مات في جزيرة في أرض الحبشة في يد ابن عمه عبد الله بن أبي ربيعة، وكان النجاشي قد أمر به فنفخ في إحليله سحر، فذهب مع الوحش، ولم يقدر عليه حتى أمسكه عبد الله بن أبي ربيعة، فجعل يقول: أرسلني، فلم يرسله فمات في يده.
وفي هذه الرواية - مع الرواية التي خرجها في الطهارة -: ذكر عقبة بن أبي معيط، وقد روي أن عقبة أسر يوم بدر، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتله(4/157)
صبرا بين يديه، وصلبه بالصفراء في مرجعهم إلى المدينة.
وخرجه - أيضا - في ((مبعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) ، من طريق شعبة، عن أبي إسحاق - مختصرا، وفي سياقه: أن عقبة بن أبي معيط هو الذي جاء بسلى الجزور، وفيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((اللهم عليك الملأ من قريش: أبا جهل بن هشام، وعقبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف)) - أو ((أبي بن خلف)) ، شعبة الشاك -، فرأيتهم قتلوا يوم بدر، فألقوا في بئر، غير أمية - أو أبي - تقطعت أوصاله، فلم يلق في البئر.
وذكر أبي بن خلف وهم - أيضا -؛ فإن أبي بن خلف إنما قتل يوم أحد، ومات بعد الوقعة، كما روى ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، قال: أسر أبي بن خلف يوم بدر، فلما افتدى من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن عندي فرسا أعلفها كل يوم من ذرة، لعلي أقتلك عليها، فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((بل أنا أقتلك عليها، إن شاء الله)) . فلما كان يوم أحد أقبل أبي ابن خلف تركض فرسه تلك، حتى دنا من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاعترض رجال من المسلمين له ليقتلوه، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((استأخروا، استاخروا)) ، فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحربة في يده، فرمى بها أبي بن خلف، فكسرت ضلعا من أضلاعه، فرجع إلى أصحابه ثقيلا، فاحتملوه حتى ولوا به، وطفقوا يقولون له: لا بأس، فقال أبي: ألم يقل لي: ((بل أنا أقتلك، إن شاء الله)) ، فانطلق به(4/158)
أصحابه، فمات ببعض الطريق، فدفنوه.
قال سعيد بن المسيب: وفيه أنزل الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] .
وفي هذا الحديث: أنواع من معجزات النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإجابة دعوته، وتعجيل عقوبة من أذاه، وأن العقوبة من جنس الذنب، بأن هؤلاء تواطؤا على وضع فرث الجزور على ظهره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السجود، فما مضى إلا يسير حتى قتلوا وسحبوا إلى القليب في يوم شديد الحر، وخرج فرث كل منهم وحشوته من بطنه، وكان ذلك جزاء وفاقا.
والمقصود من تخريج هذا الحديث في هذا الباب: أن المصلي يجوز أن تدنو منه المرأة في صلاته، وتزيل عنه الأذى، ولا يقدح ذلك في صلاته.
والظاهر: أن فاطمة عليها السلام إنما جاءت من ورائه، فطرحت عنه ما طرحوا عليه، وكانت إذا ذاك جويرية صغيرة، كما صرح به في الحديث.
وقد سبق الكلام على حكم النجاسة إذا أصابت المصلي في صلاته، ثم أزيلت عنه في ((الطهارة)) ، وعلى حكم تكرار الدعاء ثلاثا في ((كتاب العلم)) .
والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/159)
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
9 - كتاب مواقيت الصلاة
1 - باب مواقيت الصلاة وفضلها
وقول الله عز وجل: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) [النساء: 103] . موقتا، وقته عليهم.
أما " الكتاب " فالمراد به: الفرض، ولم يذكر في القرآن لفظ الكتاب وما تصرف منه إلا فيما هو لازم: إما شرعا، مثل قوله: (كتب عليكم الصيام) [البقرة: 183] ، (كتب عليكم القتال) [البقرة: 216] وقوله: (كتاب الله عليكم) [النساء: 24] . وإما قدرا، نحو قوله: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) [المجادلة: 21] ، وقوله: (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء) [الحشر: 3] .
وأما قوله: (موقوتا) ففيه قولان.
أحدهما: أنه بمعنى المؤقت في أوقات معلومة، وهو قول ابن(4/161)
مسعود وقتادة وزيد بن أسلم، وهو الذي ذكره البخاري هنا، ورجحه ابن قتيبة وغير واحد.
قال قتادة في تفسير هذه الآية: قال ابن مسعود: إن للصلاة وقتا كوقت الحج.
وقال زيد بن أسلم: منجما، كلما مضى نجم جاء نجم، يقول: كلما مضى وقت جاء وقت.
وقالت طائفة: معنى {موْقُوتًا} : مفروضاً او واجبا -: قاله مجاهد والحسن وغيرهما.
وروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: يعني: مفروضا.
وتأول بعضهم الفرض هنا على التقدير، فرجع المعنى حينئذ إليَ تقدير اعدادها ومواقيتها. والله أعلم.
وقال الشافعي: الموقوت - والله أعلم -: الوقت الذي تصلى فيه وعددها.
قال البخاري - رحمه الله -:(4/162)
521 - نا عبد الله بن مسلمة، قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب، أن عمر بن عبد العزيز أَخر الصلاة يوما، فدخل عليه عروة بن الزبير، فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوما وهو بالعراق، فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري، فقال: ما هذا يا مغيرة؟ أليس قد علمت أَن جبريل(4/162)
عليه السلام نزل فصلى فصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم صلى فصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم صلى فصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قال: ((بهذا أمرت)) . فقال عمر لعروة: اعلم ما تحدث به، أو أن جبريل هو أقام لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقت الصلاة؟ قال عروة: كذلك كان بشير بن أبي مسعود يحدث عن أبيه.(4/163)
522 - قال عروة: ولقد حدثتني عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي العصر والشمس في حجرتها، قبل ان تظهر.
هذا الحديث يدل على أن مواقيت الصلوات الخمس بينها جبريل عليه السلام للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفعله، فكان ينزل فيصلي به كل صلاة في وقتها إلى أن بين له مواقيتها كلها، وكان ذلك في أول ما افترض الصلوات الخمس.
وقد روي في ذلك أحاديث متعددة، ولم يخرج في ((الصحيحين)) منها غير حديث أبي مسعود هذا، وقد خرجه البخاري - أيضا - في ((المغازي)) من رواية شعيب، عن الزهري - مختصراً.
وخرجه من طريق مالك والليث بن سعد، عن الزهري، ولفظ(4/163)
حديث الليث عنده: أن عروة قال لعمر: سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبا مسعود يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... {يقول} : ((نزل جبريل عليه السلام، فأمني، فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه)) ، ويحسب بأصابعه خمس صلوات.
ورواه ابن أبي ذئب في ((موطئه)) ، عن ابن شهاب، ولفظ حديثه: أن أبا مسعود قال للمغيرة: ألم تعلم أن جبريل نزل على محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلى، وصلى، وصلى، وصلى، وصلى، ثم صلى، ثم صلى، ثم صلى، ثم صلى، ثم صلى، ثم قال: ((هكذا امرت)) .
وفي هذا تكرار صلاة جبريل، وليس فيه ذكر بيان شيء من الأوقات.
قال أبو داود: يروي هذا الحديث عن الزهري: معمر ومالك وابن عيينة وشعيب بن أبي حمزة والليث بن سعد وغيرهم، لم يذكروا الوقت الذي صلى فيه، ولم يفسروه.
وكذلك - أيضا - رواه هشام بن عروة وحبيب بن أبي مرزوق، عن عروة نحو رواية معمر وأصحابه، الا ان حبيبا لم يذكر ((بشيرا)) .(4/164)
وخرجه أبو داود بسياق فيه تفسير المواقيت من رواية أسامة بن زيد الليثي، ان ابن شهاب أخبره، أن عروة قال لعمر بن عبد العزيز: سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبا مسعود الأنصاري يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {يقول} : ((نزل جبريل عليه السلام فاخبرني بمواقيت الصلاة، فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت {معه} ، ثم صليت معه، ثم صليت معه)) ، يحسب بأصابعه خمس صلوات، فرأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر حين تزول الشمس، وربما أخرها حين يشتد الحر، ورأيته يصلى العصر والشمس مرتفعة بيضاء قبل ان تدخلها الصفرة، فينصرف الرجل من الصلاة فيأتي ذا الحليفة قبل غروب الشمس، ويصلى المغرب حين تسقط الشمس، ويصلى العشاء حين يسود الأفق، وربما أخرها حتى يجتمع الناس، وصلى الصبح مرة بغلس ثم صلى مرة اخرى فأسفر(4/165)
بها ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، لم يعد إلى أن يسفر.
وخرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) والحاكم وصححه.
وقال الخطأبي: هو صحيح الإسناد.
وقال ابن خزيمة: هذه الزيادة لم يقلها أحد غير أسامة بن زيد.
وقال الدارقطني: خالفه يونس وابن أخي الزهري، فروياه عن الزهري، قال: بلغنا ان ... رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذكر مواقيت الصلاة بغير إسناد فوق الزهري، وحديثهما اولى بالصواب.
وقال أبو بكر الخطيب: وَهِمَ أسامة بن زيد إذا ساق الحديث كله بهذا الإسناد؛ لأن قصة المواقيت ليست من حديث أبي مسعود، وإنما كان الزهري يقول فيها: وبلغنا أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي الظهر حين تزول الشمس - إلى آخره، بين ذلك يونس في روايته عن ابن شهاب، وفصل حديث أبي مسعود(4/166)
المسند من حديث المواقيت المرسل، وأورد كل واحد منهما منفرداً.
وقد روي بيان المواقيت في حديث أبي مسعود من وجه آخر، من رواية أيوب بن عتبة، عن أبي بكر بن عمرو بن حزم، أن عروة بن الزبير حدث عمر بن عبد العزيز، قال: حدثني أبو مسعود الانصاري - أو بشير بن أبي مسعود، قال: كلاهما قد صحب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن جبريل جاء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين دلكت الشمس، فقال: يا محمد، صلي الظهر فصلى. قال: ثم جاء حين صار ظل كل شيء مثله، فقال: يا محمد صلي العصر. قال: فصلى، ثم أتاه حين غربت الشمس، فقال: يا محمد، صلي المغرب. قال: فصلى، ثم جاءه حين غاب الشفق، فقال: يا محمد، صلي العشاء. قال: فصلى، ثم اتاه حين انشق الفجر، فقال: يا محمد، صلي الصبح. قال: فصلى. قال: ثم أتاه حين كان ظل كل شيء مثله في الغد، فقال: يا محمد، صلي الظهر. قال: فصلى. قال: ثم أتاه حين صار ظل كل شيء مثليه، فقال: يا محمد، صلي العصر. قال: فصلى. قال: ثم أتاه حين غربت الشمس، فقال: يا محمد، صلي المغرب. قال: فصلى، ثم أتاه حين ذهب ساعة من الليل، قال: يا محمد، صلي العشاء. قال: فصلى. قال: ثم أتاه حين أضاء الفجر وأسفر، قال: يامحمد، صلي الصبح. قال: فصلى. ثم قال: ((ما بين هذين(4/167)
وقت)) - يعني: أمس واليوم.
أيوب بن عتبة اليمامي، ضعفه أحمد، وقال مرة: ثقة إلا أنه لا يقيم حديث يحيى بن أبي كثير. وقال البخاري: هو عندهم لين. وقال الدارقطني: يترك، وقال مرة: يعتبر به، هو شيخ. وقال ابن عدي: هو مع ضعفه يكتب حديثه. وضعف أبو حاتم حديثه من حفظه، وقال: كتابه صحيح.
وقد شك في إسناد هذا الحديث: هل هو عن أبي مسعود، أو عن بشير ابنه؟ وعلى تقدير أن يكون عن بشير ابنه فيكون مرسلا، وقوله: ((وكلاهما صحب النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) وهم، ونسب الدارقطني الوهم إلى أبي بكر بن حزم -: ذكره في "العلل".
وخرجه في "سننه" مختصرا من طريق ايوب بن عتبة، عن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عروة، {عن} ابن أبي مسعود، عن أبيه - إن شاء الله.
وهذا يدل على إنه اضطراب في إسناده.
وقد خالفه الثقات في هذا، فرووا هذا الحديث مرسلاً:(4/168)
رواه معمر، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن أبيه مرسلاً. ورواه الثوري وابن عيينة، عن عبد الله بن أبي بكر ويحيى بن سعيد - كلاهما -، عن أبي بكر بن حزم، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً، وكذا رواه أبو ضمرة، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن حزم مرسلاً.
لكن رواه سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمد، عن أبي مسعود الأنصاري، من غير ذكر ((عروة)) .(4/169)
خرجه بقي بن مخلد في "مسنده" عن ابن كاسب، عن إسماعيل بن عبد الله - هو: ابن أبي أويس -، عن سليمان، به - فذكر حديث المواقيت بطوله.
وخرجه البيهقي في "المعرفة" من طريق أحمد بن عبيد الصفار: حدثنا الأسفاطي: نا إسماعيل - فذكره.
{وخرجه} أبو بكر الباغندي في ((مسند عمر بن عبد العزيز)) ، عن إسحاق بن ابراهيم بن سويد الرملي، عن أيوب بن سليمان بن بلال، عن أبي بكر عبد الحميد بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن حزم، عن أبي مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر الحديث بطوله.(4/170)
ورواه البخاري في "تاريخه"، عن أيوب بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، قال: قال صالح بن كيسان: سمعت أبا بكر بن حزم، أنه بلغه أن أبا مسعود {قال:} نزل {جبريل} على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصلاة - فذكر الحديث بطوله، وقال في آخره: قال صالح بن كيسان: وكان عطاء يحدث عن جابر في وقت الصلاة بنحو ما كان أبو مسعود يحدث. قال صالح: وكان عمرو بن دينار وأبو الزبير المكي يحدثان مثل {ذلك، عن?} جابر بن عبد الله.
قال الدارقطني في "العلل": ورواه زفر بن الهذيل، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن [محمد] بن عمرو بن حزم، عن أُناس من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكر حديث المواقيت بطوله.
ورواه زفر - أيضا -، عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم - بمثله، مرسلاً.
وزفر: قال الدارقطني: ثقة.
وقد روي حديث صلاة جبريل بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلوات الخمس في مواقيتها في يومين مع بيان مواقيتها من رواية: ابن عباس، وجابر،(4/171)
وأبي سعيد، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وابن عمر، وأنس، ولم يخرج شيء منها في "الصحيح".
وحكى الترمذي في كتابه عن البخاري، أنه قال: أصح شيء في المواقيت حديث جابر.
وحديث جابر المشار إليه خرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي في "كتابه الكبير"، ولفظه: قال: جاء جبريل إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين مالت الشمس، فقال: قم يا محمد، فصل [الظهر] حين مالت الشمس، ثم مكث حتى إذا كان فيء الرجل مثله جاءه للعصر، فقال: قم يا محمد، فصل العصر، ثم مكث حتى إذا غابت الشمس جاءه، فقال: قم، فصل المغرب، فقام فصلاها حين غابت الشمس. سواء، ثم مكث حتى إذا ذهب الشفق جاءه فقال: قم، فصل العشاء، فقام فصلاها، ثم جاء جبريل حين سطع الفجر بالصبح، فقال: يا محمد، قم فصل، فقام فصلى الصبح،(4/172)
ثم جاءه من الغد، فقال: قم يا محمد فصل فقام فصلى الظهر ثم جاءه حين كان فيء الرجل مثليه فقال: قم يامحمد، فصل العصر، ثم جاءه للمغرب حين غابت الشمس وقتا واحداً لم يزل عنه، فقال: قم، فصل المغرب، ثم جاءه للعشاء حين ذهب ثلث الليل الأول، فقال: قم، فصل العشاء، ثم جاءه للصبح حين أسفر جداً، فقال: قم فصل الصبح، ثم قال: ((ما بين هذين وقت كله)) .
وذكر أبو داود في "كتابه" بعضه - تعليقاً.
وخرجه ابن حبان في "صحيحه" والحاكم، وقال: صحيح مشهور من حديث ابن المبارك، عن حسين بن علي بن حسين، عن وهب بن كيسان، عن جابر. قال: والشيخان لم يخرجاه لقلة حديث الحسين بن علي الأصغر.
وحسين هذا: وثقة النسائي وغيره.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبي عن هذا الحديث: ما ترى(4/173)
فيه، وكيف حال الحسين؟ فقال أبي: أماالحسين فهو أخو أبي جعفر محمد بن علي، وحديثه الذي روي في المواقيت ليس بالمنكر؛ لأنه قد وافقه على بعض صفاته غيره.
وإنما قال الإمام أحمد: ((ليس بالمنكر؛ لأنه قد وافقه على بعضه غيره)) ، لأن قاعدته: أن ما انفرد به ثقة، فإنه يتوقف فيه حتى يتابع عليه، فإن توبع عليه زالت نكارته، خصوصاً إن كان الثقة ليس بمشتهر في الحفظ والاتقان، وهذه قاعدة يحيى القطان وابن المديني وغيرهما.
وقال الترمذي: حديث جابر قد رواه عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار وأبو الزبير، عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نحو حديث وهب بن كيسان، عن جابر. انتهى.
ورواه - أيضا - بشير بن سلام الأنصاري المدني عن جابر - أيضا.(4/174)
وقد ذكرت أحاديث هذا الباب كلها بطرقها وعللها في "كتاب شرح الترمذي".
وقد دل القرآن في غير موضع على مواقيت الصلوات الخمس، وجاءت السنة مفسرة لذلك ومبينة له:
فمن ذلك: قوله الله تعالى: {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} .
وقد ذكر غير واحد من الأئمة كمالك والشافعي: أن هذه الآية تدل على الصلوات الخمس، وروي معناه عن طائفة من السلف.
فقال ابن عمر: دلوك الشمس: ميلها - يشير إلى صلاة الظهر حينئذ.
وعن ابن عباس، قال: دلوك الشمس: إذا جاء الليل. وغسق الليل: اجتماع الليل وظلمته.
وقال قتادة: دلوك الشمس: إذا زالت الشمس عن بطن السماء لصلاة الظهر. وغسق الليل: بدء الليل صلاة المغرب.
وقد قيل: إن الله تعالى ذكر ثلاثة أوقات، لأن اصل(4/175)
الأوقات ثلاثة، ولهذا تكون في حالة جواز الجمع بين الصلاتين ثلاثة فقط، فدلوك الشمس: وقت لصلاة الظهر والعصر في الجملة، وغسق الليل: وقت لصلاة المغرب والعشاء في الجملة، ثم ذكر وقت الفجر بقوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} ??.
وقد ثبت في "الصحيحين" عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((يجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر)) ، ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} ?.
وكذلك قوله تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ} . [هود: 144] .
فقوله: {طَرَفِي النَّهَارِ} يدخل فيه صلاة الفجر وصلاة العصر.
وقد قيل: إنه يدخل فيه صلاة الظهر والعصر، لأنهما في الطرف الأخير، وزلف الليل يدخل فيه المغرب والعشاء.
وكذا قال قتادة: إن زلف الليل يدخل فيه المغرب والعشاء، وإن طرفي النهار يدخل فيه الفجر والعصر.
وروي عن الحسن، أنه قال في قوله: {طَرَفِي النَّهَارِ} ، قال: صلاة الفجر، والطرف الآخر الظهر والعصر {وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ} ? المغرب والعشاء.
وكذلك قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه:130] .(4/176)
وفي الحديث الصحيح عن جرير البجلي - حديث الرؤية -: ((فان استطعتم ان لاتغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا)) ، ثم قرأ: {فسبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} ?.
وقد ادرج اكثر الرواة القراءة في الحديث، وبين بعضهم: أن جريرا هو الذي قرأ ذلك، فبين أن صلاة الصبح وصلاة العصر يدخل في التسبيح قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وأماالتسبيح من آناء الليل فيدخل فيه صلاة المغرب وصلاة العشاء. وقوله:
{واطراف النَّهَارِ} يدخل في صلاة الفجر وصلاة العصر،(4/177)
وربما دخلت فيه صلاة الظهر؛ لأنها في أول طرف النهار الاخر.
وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} [ق 39، 40] .
وقد قال ابن عباس وأبو صالح: إن التسبيح قبل طلوع الشمس وقبل الغروب: الصبح وصلاة العصر.
وقوله: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} ، قال مجاهد: الليل كله.
وهذا يدخل فيه صلاة المغرب والعشاء، ويدخل فيه التهجد المتنقل به - أيضا.
وقال خصيف: المراد بتسبيحه من الليل: صلاة الفجر المكتوبة، وفيه بعد.
وأما {َأَدْبَارَ السُّجُودِ} ، فقال اكثر الصحابة، منهم: عمر، وعلي، والحسن بن علي، وأبو هريرة، وأبو أمامة وغيرهم: أنهما ركعتان بعد الغروب، وهو رواية عن ابن عباس، وروي عنه مرفوعاً، خرجه الترمذي بإسناد فيه ضعف.
فاشتملت الآية على الصلوات الخمس مع ذكر بعض التطوع.(4/178)
وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 48، 49] .
فقوله: {حِينَ تَقُومُ} قد فسر بإرادة القيام إلى الصلاة، وهو قول زيد بن اسلم والضحاك، وفسر بالقيام من النوم، وهو قول أبي الجود، وفسر بالقيام من المجالس.
وقوله: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} ، قال مجاهد: من الليل كله، يدخل في ذلك صلاة المغرب والعشاء وصلاة الليل المتطوع بها.
وفسره خصيف بصلاة الفجر، وفيه نظر.
{وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} : ركعتا الفجر كذا قاله علي وابن عباس في(4/179)
رواية، وروي عن ابن عباس مرفوعاً.
خرجه الترمذي وفيه ضعف.
وقال تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17، 18] .
قال الإمام أحمد: نا ابن مهدي: نا سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، قال: جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس، فقال،: الصلوات الخمس في القران؟ فقال: نعم، فقرأ:
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} قال: صلاة المغرب {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} صلاة الفجر
{وَعَشِيًّا} صلاة العصر {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} صلاة الظهر، وقرأ: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} ? [النور:58] .
ورواه أدم بن أبي إياس في "تفسيره"، عن حماد بن سلمة، عن(4/180)
عاصم، قال: جاء نافع - ولم يذكر: أبا رزين.
وروى آدم - أيضا -: نا شريك، عن ليث بن أبي سليم، عن الحكم بن عتيبة، عن أبي البختري، عن ابن عباس، قال: جمعت هذه الآية الصلوات كلها - فذكره بمعناه، ولم يذكر فيه: صلاة العشاء.
روي عن الحسن وقتادة في قوله تعالى {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} ، قال: صلاة المغرب والعشاء، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} : صلاة الغداة، {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا} ، قال: العصر، {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} ، قال: الظهر:
خرجه البيهقي وغيره.
وأماتأخير المغيرة بن شعبة وعمر بن عبد العزيز الصلاة يوماً، فإنما كان تأخيرهما كذلك عن وقت صلاتهما المعتادة ولم يؤخراها حتى خرج الوقت.
وقد روى الليث هذا الحديث، عن الزهري، وفيه: ((أن عمر أخر العصر شيئاً)) .
ولهذا ذكر عروة حديث عائشة في تعجيل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصلاة العصر،(4/181)
ولم يكن عمر بن ... عبد العزيز يؤخر الصلاة كتأخير سائر بني أمية، إنما أخر العصر يوماً.
وفي حديث أسامة بن زيد، عن الزهري، أن عمر كان قاعدا على المنبر، فأخر العصر شيئاً.
وكان هذا في أيام ولايته للمدينة نيابة عن الوليد، ولم يكن - رحمة الله عليه - يظن أن توقيت الصلوات في هذه الأوقات الخمس كان بوحي من الله عز وجل مع جبريل عليه السلام، بل كان يظن ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سن ذلك لأمته، وربما لم يكن بلغَهُ ما سنه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من التوقيت، فكان يجري على العادة التي اعتادها الناس، حيث لم يكن في القران تصريح بمواقيت الخمس، ولم يبلغه ما سنه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك بتعليم جبريل إياه، فلما بلغه ذلك اجتهد حينئذ على المحافظة على مواقيت الصلاة، وكان في أيام خلافته يوصي عماله بذلك، وكان يعتب على الحجاج وغيره من ولاة السوء تأخيرهم الصلاة عن مواقيتها.
وفي رواية معمر، عن الزهري لهذا الحديث، قال: فما زال عمر يعلم وقت الصلاة بعلامة حتى فارق الدنيا.
وفي رواية حبيب بن أبي مرزوق، عن عروة لهذا الحديث، قال:(4/182)
فبحث عمر عن ذلك حتى وجد ثبته، فما زال عمر عنده علامات الساعات ينظر فيها حتى قُبض رحمه الله.
وقد كان عمر بن عبد العزيز - أحياناً - قبل سماعه لهذا الحديث يؤخر الصلوات إلى آخر الوقت على ما جرت به عادة بني أمية.
وفي "الصحيحين" عن أبي أمامة بن سهل، قال: صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر، ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك، فوجدناه يصلي العصر فقلت: يا عم، ما هذه الصلاة التي صليت؟ قال: العصر، وهذه الصلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي كنا نصلي معه.
وخرج مسلم من حديث عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها - أو يميتون الصلاة عن وقتها؟)) قال: فما تأمرني؟ قال: ((صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتهما معهم فصل، فانها لك نافلة)) .
وقد روي هذا الحديث عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من روايات متعددة.
وقد كان الصحابة يأمرون بذلك ويفعلونه عند ظهور تأخير بني أمية للصلاة عن أوقاتها، وكذلك أعيان التابعين ومن بعدهم من أئمة(4/183)
العلماء:
قال [أحمد] وإسحاق: إنما يصلي في بيته ثم يأتي المسجد إذا صلى الأئمة في غير الوقت -: نقله عنهما ابن منصور.
ومرادهما: إذا صلوا بعد خروج الوقت، فإن تأخير الصلاة عن وقتها عمداً في غير حال يجوز فيها الجمع لا يجوز إلا في صور قليلة مختلف فيها، فأماإن أخروا الصلاة عن أوائل وقتها الفاضلة، فإنه يصلي معهم ويقتصر على ذلك.
وقد روى الشافعي بإسناده، عن ابن عمر، أنه أنكر على الحجاج إسفاره بالفجر، وصلى معه يومئذ.
وقد قال النخعي: كان ابن مسعود يصلي مع الأمراء في زمن عثمان وهم يؤخرون بعض التأخير، ويرى أنهم يتحملون ذلك.
وإنما كان يفعل ذلك في أيام إمارة الوليد بن عقبة على الكوفة في زمن عثمان، فإنه كان أحيانا يؤخر الصلاة عن أول وقتها.
وفي "مسند الإمام أحمد" أن الوليد بن عقبة أخر الصلاة مرة،(4/184)
فقام ابن مسعود فتقرب، فصلى بالناس، وقال: أبن الله ورسوله علينا أن ننتظرك بصلاتنا وأنت في حاجتك.
وفي "سنن أبي داود": عن صالح بن عبيد، عن قبيصة بن وقاص، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يكون عليكم أمراء من بعدي، يؤخرون الصلاة، فهي لكم وعليهم، فصلوا معهم ما صلوا القبلة)) .
وهذا الحديث معلول من وجهين:
أحدهما: أن قبيصة بن وقاص وإن عده بعضهم في الصحابة، فقد أنكر ذلك آخرون.
والثاني: أن صالح بن عبيد، قال بعضهم: إنه لا يعرف حاله، منهم: الأثرم وغيره.(4/185)
وخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عطاف بن خالد، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن رجل من جهينة، عن عقبة بن عامر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معناه.
وفي هذا الإسناد ضعف.
وخرج الإمام أحمد نحو من حديث عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وعاصم، ضعيف.
وإن صحت هذه الأحاديث، فهي محمولة على من أخر الصلاة عن أول وقتها الأفضل إلى آخر الوقت، وحديث أبي ذر وما في معناه محمول على من أخرها عن الوقت حتى خرج الوقت، أو إلى وقت يكره تأخير الصلاة إليه، كتأخير العصر إلى أن تصفر الشمس، وقد روي ذلك عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعاً.
وعلى هذا يدل كلام أحمد وإسحاق كما سبق ذكره، وإن الإمام إذا صلى في آخر الوقت فإنه يصلي معه ولا(4/186)
يصلي قبله في البيت، كما إذا أخرها عن الوقت.
واستدل الإمام أحمد بقول ابن مسعود في الذين يؤخرون الصلاة إلى شرق الموتى، فأمرهم أن يصلوا للوقت، ثم يصلوا معهم.
وقد خرجه مسلم في "صحيحه".
وروي عن عطاء، أنه يكتفي بالصلاة معهم ولا يصلي في بيته ما لم يؤخروا حتى تغرب الشمس.
ذكره عبد الرزاق، عن ابن جريج، عنه.
وقال القاضي أبو يعلي من أصحابنا: إذا أخر الإمام الصلاة عن أول الوقت فإن وجد جماعة غيره في أول الوقت صلى مع الجماعة، وإلا انتظر الإمام حتى يصلي؛ لأن الجماعة عندنا فرض.
وكذلك مذهب مالك وأصحابه: أن تأخير الصلاة لانتظار الجماعة أفضل من الصلاة في أول الوقت منفرداً.
ونص الإمام أحمد في رجل أمره أبوه أن يصلي به، وكان أبوه يؤخر الظهر إلى العصر، أنه يصلي به. فإن كان يؤخر الصبح حتى تطلع الشمس لم يفعل.
وللشافعي في ذلك قولان: أحدهما: ينتظر الإمام إذا أخرها عن أول الوقت.(4/187)
والثاني: يصلي في أول الوقت منفرداً، وهو أفضل من التأخير للجماعة.
وقالت طائفة من أصحابه: الأفضل أن يجمع بين الأمرين، فيصلي في اول الوقت منفرداً، ثم يصلي مع الجماعة في أثناء الوقت، وإن أراد الاقتصار على صلاة واحدة فالتأخير للجماعة أفضل.
ومنهم من ذكر احتمالا: ان فحش التأخير فالانفراد أول الوقت أفضل، وإن خف فالانتظار أفضل.
واستدل صاحب "شرح المهذب" لتفضيل الجمع بينهما، بأن في "صحيح مسلم"، عن أبي ذر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه "سيجيء قوم يؤخرون الصلاة عن أول وقتها" - وذكر الحديث المتقدم.
وليس في "صحيح مسلم " ذكر أول الوقت ولا وجدناه في غيره - أيضا -، بل في الأحاديث ما يدل على خلاف ذلك، وأنهم يؤخرون الصلاة حتى يذهب وقتها. كذلك في حديث عبادة بن الصامت، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد خرجه الإمام أحمد وأبو داود.
وقد استدل الإمام أحمد بأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصلاة في الوقت عند تأخير الإمراء على أن الجمع بين الصلاتين لغير عذر غير جائز.
وسيأتي زيادة بيان لذلك في موضع آخر - إن شاء الله سبحانه وتعالى.(4/188)
وأماتقديم الصلاة على وقتها في غير جمع فلا يجوز - أيضا -، فلو صلى الظهر قبل الزوال، والصبح قبل طلوع الفجر، والمغرب قبل غروب الشمس فعليه الاعادة، وسواء تعمد ذلك او لم يتعمده، هذا قول جمهور العلماء.
قال ابن المنذر: اختلفوا في الصلاة قبل دخول الوقت، فروينا عن عمر وأبي موسى الاشعري، أنهما أعادا الفجر لأنهما كان صلياها قبل الوقت، وبه قال الزهري ومالك والأوزعي والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي، وقد روينا عن ابن عباس، أنه قال في رجل صلى الظهر في السفر قبل أن تزول الشمس، قال: يجزئه. وقال الحسن: مضت صلاته. وبنحو ذلك قال الشافعي.
وعن مالك فيمن صلى العشاء في السفر قبل غيبوبة الشفق جاهلا وساهياً يعيد ما كان في وقت، فإذا ذهب الوقت قبل أن يعلم أو يذكر فلا إعادة عليه.
انتهى.(4/189)
وقال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أن وقت الصلاة من فرائضها، وأنها لا تجزيء قبل وقتها، إلا شيء روي عن أبي موسى الأشعري وعن بعض التابعين، أجمع العلماء عن خلافه، فلم أر لذكره وجها؛ لأنه لا يصح عنهم، وقد صح عن أبي موسى خلافه بما وافق الجماعة، فصار اتفاقا صحيحاً.
قلت: ليس هذا الاختلاف في جواز تقديم الصلاة على وقتها عمداً، إنما الاختلاف فيمن اجتهد وصلى ثم تبينت صلاته قبل الوقت، وقد مضى الوقت، فهذا في وجوب الإعادة فيه قولان للشافعي، والاختلاف المروي عن السلف يرجع إلى هذين القولين، وقد حكي رواية عن أحمد أنه لايلزمه القضاء. قال القاضي أبو يعلى الصغير في "تعليقه": قد تأولها أصحابنا.
وما حكاه ابن المنذر عن مالك قد روي صالح بن أحمد(4/190)
وأبو الحارث، عن أحمد في المسافر إذا صلى العشاء قبل مغيب الشفق: أرجو.
وتأوله بعض أصحابه عن الشفق الأبيض، وهو بعيد.
وقد نقل ابن منصور، عن أحمد، أنه إذا صلى العشاء في السفر بعد غيبوبة الشفق الاحمر وقبل غيبوبة البياض، فإنه يجوز، وعلل بأنه أماأن يكون مصليا في الوقت عند من يرى أن الشفق الحمرة، وأماأن يكون جامعاً بين الصلاتين في السفر، وهو جائز.
وهذا يدل على جواز الجمع في السفر في وقت الأولى مع التفريق بين الصلاتين، وعلى أن نية الجمع لا تشترط.
وروى حرب، عن أحمد فيمن صلى العشاء قبل مغيب الشفق، قال: لا ادري. وفيمن صلى العصر قبل مصير ظل الشيء مثله: انه يعيد، ولم يقيد هذا بالسفر.
ولو كان معللا يجواز الجمع كما نقله عنه ابن منصور، لم يكن فرق بين العشاء والعصر، لأن كلتا الصلاتين تجمع إلى ما قبلها.
والظاهر: أنه أراد بالشفق الحمرة؛ فإن أحمد متوقف في صلاة العشاء قبل مغيب البياض، على ما سيأتي ذكره - إن شاء الله سبحانه وتعالى.(4/191)
2 - باب
{منِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا
تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31]
قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] .
فأمره بإقامة وجهه، وهو إخلاص قصده وعزمه وهمه للدين الحنيف، وهو الدين القيم، وهو فطرة الله التي فطر العباد عليها، فإن الله ركب في قلوب عباده كلهم قبول توحيده والإخلاص له، وإنما يغيرهم عن ذلك تعليم من عملهم الخروج عنه.
ولما كان الخطاب له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم تدخل فيه أمته معه قال بعد ذلك {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} ، فجعل ذلك حالا له ولأمته، وهو إنابتهم إليه، ويعني به: رجوعهم إليه، وأمرهم بتقواه، والتقوى تتضمن فعل جميع الطاعات وترك المعاصي والمخالفات.
وخص من ذلك إقام الصلاة، فلم يذكر من أعمال الجوارح باسمه الخاص سواها، والمراد بإقامتها: الاتيان بها قائمة على وجهها التام،(4/192)
وفي ذلك دليل على شرف الصلاة وفضلها، وأنها اهم أعمال الجوارح.
ومن جملة إقامتها المأموربه: المحافظه على مواقيتها، فمن صلى الصلاة لغير مواقيتها التي وقتها الله فلم يقم الصلاة، بل ضيعها وفرط فيها وسها عنها.
قال ابن عباس في قوله تعالى {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [المائدة:55] ، قال: يقيمون الصلاة بفرضها.
وقال قتادة: إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها وسجودها.
وقال مقاتل بن حيان: إقامتها: المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطهور فيها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القران فيها، والتشهد، والصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهذا إقامتها.
خرجه كله ابن أبي حاتم.
ولهذا مدح سبحانه الذين هم على صلاتهم يحافظون والذين هم(4/193)
على صلاتهم دائمون، وقد فسره ابن مسعود وغيره بالمحافظة على مواقيتها، وفسره بذلك مسروق والنخعي وغيرهما.
وقيل لابن مسعود: إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23] و {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34] ؟ قال: ذاك على مواقيتها. قيل له: ما كنا نرى ذلك إلا على تركها، قال: تركها الكفر.
خرجه ابن أبي حاتم ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما.
وكذلك فسر سعد بن أبي وقاص ومسروق وغيرهما السهو عن الصلاة بالسهو عن مواقيتها.
وروي عن سعد مرفوعا، والموقوف أصح(4/194)
قال البخاري - رحمه الله -:(4/195)
523 - نا قتيبة بن سعيد: نا عباد - هو: ابن عباد -، عن أبي جمرة، عن ابن عباس، قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: إنا هذا الحي من ربيعة، ولسنا نصل إليك إلا في الشهر الحرام، فمرنا بشيء نأخذه عنك، وندعو إليه من وراءنا. فقال: ((آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله)) ، ثم فسرها لهم: ((شهادة أن لا الله إلا الله، وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا إِليَّ خمس ما غنمتم، وأنهى عن الدباء والحنتم والنقير والمقير)) .
قد تقديم هذا الحديث في "كتاب: الايمان" و"كتاب: العلم" خرجه البخاري فيهما من حديث شعبة، عن أبي جمرة، وذكرنا شرحه في الموضعين المذكورين.(4/195)
والمقصود منه هاهنا: أمره لهم بإقامة الصلاة، وقد ذكرنا هاهنا تفسير إقامة الصلاة، وأن من جملته المحافظه على مواقيتها.
وخرج أبو داود من حديث عباد بن الصامت، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ... ((خمس صلوات افترضهن الله، من أحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن واتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهدا أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد، إِن شاء غفر له، وإن شاء عذبه)) .
وخرج ابن ماجه من حديث [أبي] قتادة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((قال الله تعالى: افترضت على أمتك خمس صلوات، وعهدت عندي عهداً: أنه من حافظ عليهن لوقتهن أدخلته الجنة، ومن لم يحافظ عليهن فلا عهد له عندي)) .
وخرج الأمام أحمد من حديث كعب بن عجرة: سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((قال ربكم: من صلى الصلاة لوقتها، وحافظ عليها ولم يضيعها استخفافا بحقها، فله علي عهد أن أدخله الجنة، ومن لم يصلها لوقتها، ولم يحافظ عليها وضيعها استخفافا بحقها، فلا عهد له، إن شئت عذبته،(4/196)
وإن شئت غفرت له)) .
ومن حديث حنظلة الكاتب، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((من حافظ على الصلوات الخمس بركوعهن وسجودهن ووضوئهن ومواقيتهن، وعلم أنهن حق من عند الله عز وجل دخل الجنة)) - او قال: ((وجبت له الجنة)) -، وفي رواية قال: ((حرم على النار)) .
وروى محمد بن نصر المروزي بإسناد صحيح عن ابن سيرين، قال: نبئت أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - كانا يعلمان الناس الإسلام: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة التي افترض الله لمواقيتها، فان في تفريطها الهلكة.(4/197)
3 - باب
البيعة على إقام الصلاة(4/198)
524 - حدثنا محمد بن المثنى: نا يحيى: نا إسماعيل: نا قيس، عن جرير بن عبد الله، قال: بايعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم.
خرج البخاري هذا الحديث فيما سبق في آخر " كتاب: الإيمان"، عن مسدد، عن يحيى - هو: ابن سعيد -، بمثله.
والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان بايع الناس على الإسلام، وأركان الإسلام خمس: الشهادتان، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام رمضان.
وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبايع - أحياناً - عليهن كلهن، كما في " مسند الإمام أحمد" عن بشير بن الخصاصية، قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبايعه، فاشترط عليَّ: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن أقيم الصلاة، وأن أؤدي الزكاة، وأن أحج حجة الإسلام، وأن أصوم رمضان، وأن أجاهد في سبيل الله، فقلت: يا رسول الله، أمااثنتين، فوالله ما(4/198)
أطيقهما: الجهاد، فإنهم زعموا أنه من ولى الدبر فقد باء بغضب من الله، فأخاف إن حضرت ذلك جشعت نفسي، وكرهت الموت. والصدقة، فوالله ما لي إلا غنيمة وعشر ذود، هن رسل أهلي وحمولتهم. قال: فقبض رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه، ثم حرك يده، ثم قال: ((فلا جهاد ولا صدقة، فبم تدخل الجنة إذاً؟)) قلت: يا رسول الله، أبايعك، فبايعته عليهم كلهن.
وتارة كان يبايع على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة مع الشهادتين، كما بايع جرير بن عبد الله؛ فإن الصلاة والزكاة أفضل خصال الإسلام العملية.
وتارة يكتفي بالبيعة على الشهادتين؛ لأن باقي الخصال حقوق لها ولوازم.
وتارة كان يقتصر في المبايعة على الشهادتين فقط، لأنهما رأس الإسلام، وسائر الأعمال تبع لهما.
وقد كان أحيانا يتآلف على الإسلام من يريد أن يسامح بترك بعض حقوق الإسلام، فيقبل منهم الإسلام، فإذا دخلوا فيه رغبوا في الإسلام فقاموا بحقوقه وواجباته كلها.
كما روى عبد الله بن فضالة الليثي، عن أبيه، قال: علمني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان فيما علمني: ((وحافظ على الصلوات الخمس)) . قال: قلت: إن هذه ساعات لي فيها أشغال، فمرني بأمر جامع، إذا أنا فعلته أجزأ عني. قال: ((حافظ على(4/199)
العصرين)) - وما كانت من لغتنا – قلت: وما العصران؟ قال: ((صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها)) .
خرجه أبو داود وابن حبان في " صحيحه" والحاكم.
وظن أن فضالة هو ابن عبيد، ووهم في ذلك، فليس هذا فضالة بن عبيد -: قاله ابن معين وغيره.
وفي " المسند" من حديث قتادة، عن نصر بن عاصم الليثي، عن رجل منهم، أنه أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسلم على أن يصلي صلاتين، فقبل منه.
وفي رواية: على أن لا يصلي إلا صلاتين، فقبل منه.
وفيه - أيضا - عن جابر، أن ثقيفاً إذ بايعت اشترطت على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا صدقة عليها ولا جهاد. قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يصدقون ويجاهدون إذا أسلموا)) .
قال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: إذا أسلم على أن يصلي صلاتين يقبل منه، فإذا دخل يؤمر بالصلوات الخمس، وذكر حديث قتادة عن نصر بن عاصم الذي تقدم.(4/200)
4 - باب
الصلاة كفارة
فيه حديثان:
الأول: كفارة الصلاة:
قال:(4/201)
525 - حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن الأعمش: حدثني شقيق: حدثني حذيفة، قال: كنا جلوساً عند عمر، فقال: أيكم يحفظ قول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الفتنة؟ قلت: أنا كما قاله. قال: إنك عليه - أو عليها - لجريء. قلت: فتنة الرجل في أهله وماله ولده وجاره، تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي. قال: ليس هذا أريد، ولكن الفتنة التي تموج كما يموج البحر. قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقاً. قال: يكسر أم يفتح؟ قال: يكسر. قال: إذن لا يغلق أبداً.
قلنا: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم، كما أن دون غد الليلة، إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط، فهبنا أن نسأل حذيفة، فأمرنا مسروقاً فسأله، فقال: الباب عمر.
أصل الفتنة: الابتلاء والامتحان والاختبار، ويكون(4/201)
تارةً بما يسوء، وتارة بما يسر، كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] ، وقال: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168] .
وغلب في العرف استعمال الفتنة في الوقوع فيما يسوء.
والفتنة نوعان: أحدهما: خاصة، تختص بالرجل في نفسه. والثاني: عامة، تعم الناس.
فالفتنة الخاصة: ابتلاء الرجل في خاصة نفسه بأهله وماله وولده وجاره، وقد قال [تعالى] : {?إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] ؛ فإن ذلك غالباً يلهي عن طلب الآخرة والاستعداد لها، ويشغل عن ذلك.
ولما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب على المنبر، ورأى الحسن والحسين يمشيان ويعثران
وهما صغيران، نزل فحملهما، ثم قال: ((صدق الله ورسوله، {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} ، إني رأيت هذين الغلامين يمشيان ويعثران فلم أصبر)) .
وقد ذم الله تعالى من ألهاه ماله وولده عن ذكره، فقال: {لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9] .
فظهر بهذا: أن الأنسان يبتلى بماله وولده وأهله(4/202)
وبجاره المجاور له، ويفتتن بذلك، فتارةً يلهيه الاشتغال به عما ينفعه في آخرته، وتارةً تحمله محبته على أن يفعل لأجله بعض ما لا يحبه الله، وتارةً يقصر في حقه الواجب عليه، وتارةً يظلمه ويأتي إليه ما يكرهه الله من قول أو فعل، فيسأل عنه ويطالب به.
فإذا حصل للأنسان شيء من هذه الفتن الخاصة، ثم صلى أو صام أو تصدق أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر كان ذلك كفارةً له، وإذا كان الأنسان تسوؤه سيئته، ويعمل لأجلها عملاً صالحاً كان ذلك دليلاً على إيمانه.
وفي " مسند بقي بن مخلد"، عن رجل سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما الإيمان يا رسول الله؟ قال: ((أن تؤمن بالله ورسوله)) ، فأعادها ثلاثا، فقال له في الثالثة: ((أتحب أن أخبرك ما صريح الإيمان؟)) فقال: ذلك الذي أردت. فقال: ((إن صريح الإيمان إذا أسأت أو ظلمت أحداً: عبدك أو أمتك، أو واحداً من الناس، صمت أو تصدقت وإذا أحسنت استبشرت)) .
وأماالفتن العامة: فهي التي تموج موج البحر، وتضطرب، ويتبع بعضها بعضاً كأمواج البحر، فكان أولهما فتنة قتل عثمان – رضي الله عنه -، وما نشأ منها من افتراق قلوب المسلمين، وتشعب أهوائهم وتكفير بعضهم بعضاً، وسفك بعضهم دماء بعض، وكان الباب المغلق الذي بين الناس وبين الفتن عمر - رضي الله عنه -، وكان قتل عمر كسراً لذلك الباب، فلذلك لم يغلق ذلك الباب بعده أبداً.(4/203)
وكان حذيفة أكثر الناس سؤالاً للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الفتن، وأكثر الناس علماً بها، فكان عنده عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم بالفتن العامة والخاصة، وهو حدث عمر تفاصيل الفتن العامة، وبالباب الذي بين الناس وبينها، وأنه هو عمر، ولهذا قال: إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط، والأغاليط: جمع أغلوطة، وهي التي يغالط بها، واحدها: أغلوطة ومغلطة، والمعنى: أنه حدثه حديثاً حقاً، ليس فيه مرية، ولا إيهام.
وهذا مما يستدل به على أن رواية مثل حذيفة يحصل بها لمن سمعها العلم اليقيني الذي لا شك فيه؛ فإن حذيفة ذكر أن عمر علم ذلك وتيقنه كما تيقن أن دون غد الليلة لما حدثه به من الحديث الذي لا يحتمل غير الحق والصدق.
وقد كانت الصحابة تعرف في زمان عمر أن بقاء عمر أمان للناس من الفتن.
وفي "مسند الإمام أحمد" أن خالد بن الوليد لما عزله عمر، قال له رجل: اصبر أيها الأمير، فإن الفتن قد ظهرت. فقال خالد: وابن الخطاب حي! إنما يكون بعده - رضي الله عنهما -.
وقد روي من حديث عثمان بن مظعون، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمى عمر: غلق الفتنة، وقال: ((لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغلق ما عاش هذا بين أظهركم)) .(4/204)
خرجه البزار.
وروي نحوه من حديث أبي ذر.
وروى كعب، أنه قال لعمر: أجدك مصراع الفتنة، فإذا فتح لم يغلق أبداً.
الحديث الثاني:(4/205)
526 - حدثنا قتيبة: ثنا يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود، أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره، فأنزل الله تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}
[هود: 114] . قال الرجل: يا رسول الله، إلي هذا؟ قال: ((لجميع أمتي كلهم)) .
هذا الذنب الذي أصابه ذلك الرجل وسأل عنه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت الآية بسببه كان من الصغائر، وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن الصلاة إنما تكفر الصغائر دون الكبائر.
وكذلك الوضوء، غير أن الصلاة تكفر أكثر مما يكفر الوضوء، كما قال سلمان الفارسي - رضي الله عنه -: الوضوء يكفر الجراحات الصغار، والمشي إلى المسجد يكفر أكثر، والصلاة تكفر أكثر من ذلك.
خرجه محمد بن نصر المروزي وغيره.
وقد سبق في حديث حذيفة: فتنة الرجل في أهله وماله وولده(4/205)
وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة؛ وذلك لأن أكثر ما يصيب الأنسان في هذه الإشياء تكون من الصغائر دون الكبائر.
وقد ذكرنا في " كتاب الوضوء" الاختلاف في أن الوضوء: هل يكفر الصغائر خاصة، أم يعم الذنوب كلها؟ والأكثرون على أن لا يكفر سوى الصغائر، وقد ذهب قوم إلى أنه يكفر الكبائر ... - أيضا -، وسنذكره فيما بعد – إن شاء الله سبحانه وتعالى.(4/206)
5 - باب
فضل الصلاة لوقتها(4/207)
527 - حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك: ثنا شعبة، قال: الوليد بن العيزار أخبرني، قال: سمعت أبا عمرو الشيباني يقول: ثنا صاحب هذه الدار - وأشار إلى دار عبد الله -، قال: سألت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) . قال: ثم أي؟ قال: ((ثم بر الوالدين)) . قال: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) . قال: حدثني بهن، ولو استزدته لزداني.
وخرجه بهذا الإسناد بعينه في " كتاب البر والصلة".
وخرجه أول " الجهاد" من طريق مالك بن مغول، عن الوليد، به، ولفظه: سألت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي العمل أفضل؟ قال: قال: ((الصلاة على ميقاتها)) – وذكر باقيه بمعناه.
وفي رواية لمسلم من حديث أبي يعفور، عن الوليد - بهذا الإسناد -، قلت: يا نبي الله، أي الأعمال أقرب إلى الجنة؟ قال: ((الصلاة على(4/207)
مواقيتها)) – وذكر باقية.
وهذه الألفاظ متقاربة المعنى أو متحدة؛ لأن ما كان من الأعمال أحب إلى الله فهو أفضل الأعمال، وهو أقرب إلى الجنة من غيره؛ فإن ما كان أحب إلى الله فعامله أقرب إلى الله من غيره، كما في حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يرويه عن ربه، قال: ((ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)) – وذكر الحديث.
خرجه البخاري في " الرقاق" من " كتابه" هذا.
وقال عمر بن الخطاب: أفضل الأعمال أداء ما فرض الله.
وكذا قال عمر بن عبد العزيز في خطبته.
فدل حديث ابن مسعود هذا على أن أفضل الأعمال وأقربها إلى الله وأحبها إليه الصلاة على مواقيتها المؤقتة لها.
وقد روي في هذا الحديث زيادة، وهي: ((الصلاة في أول وقتها)) ، وقد خرجها ابن خزيمة وابن حبان في " صحيحهما" والحاكم والدارقطني من طرق متعددة.
ورويت من حديث عثمان بن عمر، عن مالك بن مغول، [و] من حديث علي بن حفص المدائني، عن شعبة، ورويت عن شعبة من وجه(4/208)
آخر، وفيه نظر، ورويت من وجوه أخر.
واستدل بذلك على أن الصلاة في أول الوقت أفضل، كما استدل لحديث ام فروة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه سئل: أي العمل أفضل؟ قال: ((الصلاة لأول وقتها)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي.
وفي إسناده اضطراب -: قاله الترمذي والعقيلي.
وقد روي نحوه من حديث ابن عمر، إلا أن إسناده وهم، وإنما هو حديث أم فروة -: قاله الدارقطني في " العلل".
وروي نحوه من حديث الشفاء بنت عبد الله.
وفي قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الصلاة على وقتها - أو على مواقيتها)) : دليل – أيضا - على فضل أول الوقت للصلاة؛ لأن " على " للظرفية، كقولهم: ((كان كذا على عهد فلان)) ، والأفعال الواقعة في الأزمان المتسعة عنها لا تستقر فيها، بل تقع في جزء منها، لكنها إذا وقعت في أول ذلك الوقت فقد صار الوقت كله ظرفاً لها حكماً.
ولهذا سمى المصلي مصليا في حال(4/209)
صلاته وبعدها أماحقيقة أو مجازاً على اختلاف في ذلك، وأماقبل الفعل في الوقت فليس بمصل حقيقة ولا حكماً، وإنما هو مصل بمعنى استباحة الصلاة فقط، فإذا صلى في أول الوقت فإنه لم يسم مصلياً إلا في آخر الوقت.
وقوله: ((ثم بر الوالدين)) لما كان ابن مسعود له أم احتاج إلى ذكر بر والديه بعد الصلاة؛ لأن الصلاة حق الله وحق الوالدين متعقب لحق الله عز وجل، كما قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] .
وقوله: ((ثم الجهاد في سبيل الله)) ؛ لأن الجهاد فرض كفاية، والدخول فيه بعد قيام من سقط به حق فرض الكفاية تطوع إذا لم يتعين بحضور العدو، ولهذا تقدم بر الوالدين على الجهاد إذا لم يتعين، كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن أراد أن يجاهد معه: ((إلك والدان؟)) قال: نعم. [قال] : ... ((ففيهما فجاهد)) – وفي رواية: ((فأمره أن يرجع إليهما)) .
فذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابن مسعود أن أفضل الأعمال القيام بحقوق الله التي فرضها على عباده فرض، وأفضلها: الصلاة لوقتها، ثم القيام بحقوق عباده، وأكده بر الوالدين، ثم التطوع بأعمال البر، وأفضلها الجهاد في سبيل الله.
وهذا مما يستدل به الإمام أحمد ومن وافقه على أن أفضل أعمال التطوع الجهاد.
فإن قيل: فقد روي خلاف ما يفهم منه ما دل عليه حديث ابن مسعود هذا؛ ففي ... " الصحيحين"، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل: أي(4/210)
الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله)) . قيل: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) . قيل: ثم أي؟ قال: ((حج مبرور)) .
وفيهما – أيضا - عن أبي ذر، أنه سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله، والجهاد في سبيله)) .
ولم يذكر في هذين الحديثين الصلاة ولا بر الوالدين، وروي نصوص أُخر بأن الجهاد أفضل الأعمال مطلقاً، وروي ما يدل على أن أفضل الأعمال ذكر الله عز وجل، وجاء ذلك صريحاً عن جماعة كثيرة من الصحابة – رضي الله عنهم -.
قيل: هذا مما أشكل فهمه على كثير من الناس، وذكروا في توجيهه والجمع بين النصوص الواردة به وجوها غير مرضية.
فمنهم من قال: أراد بقوله: " أفضل الأعمال كذا" أي: أن ذلك من أفضل الأعمال، لا أنه أفضلها مطلقاً.
وهذا في غاية البعد.
ومنهم من قال: أجاب كل سائل بحسب ما هو أفضل الأعمال له خاصة كما خص ابن مسعود بذكر الوالدين لحاجته إليه، ولم يذكر ذلك لغيره.
لكن أبو هريرة كانت له أم – أيضا.
وظهر لي في الجمع بين نصوص هذا الباب ما أنا ذاكره بحمد الله(4/211)
وفضله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فنقول:
لا ريب أن أفضل الأعمال ما افترضه الله على عباده، كما ذكرنا الدليل عليه في أول الكلام على هذا الحديث، وأولى الفرائض الواجبة على العباد وأفضلها الإيمان بالله ورسوله، تصديقاً بالقلب، ونطقاً باللسان، وهو النطق بالشهادتين، وبذلك بعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأمر بالقتال عليه، وقد سبق ذلك مبسوطا في " كتاب الإيمان".
ثم بعد ذلك: الإتيان ببقية مباني الإسلام الخمس التي بني عليها، وهي: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج.
وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر من يبعثه يدعو إلى الإسلام أن يدعو أولاً إلى الشهادتين، ثم إلى الصلاة، ثم إلى الصيام، ثم إلى الزكاة، كما أمر بذلك معاذ بن جبل لما أرسله إلى اليمن، وكان يعلم من يسأله عن الإسلام مبانيه الخمس، كما في حديث سؤال جبريل عليه السلام له عن الإسلام، وكما في حديث طلحة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم الأعرأبي الذي سأله عن الإسلام المباني.
فإذا تقرر هذا، فقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث أبي هريرة لما سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله)) فهذا وجه ظاهر، لا إشكال فيه؛ فإن الإيمان بالله ورسوله أفضل الأعمال مطلقاً، وسمى الشهادتين مع التصديق بهما عملاً، لما في ذلك من عمل القلب واللسان.
وقد قرر البخاري ذلك في " كتاب الإيمان" وسبق الكلام عليه في موضعه.
وقوله في حديث أبي هريرة: ((ثم الجهاد في سبيل الله)) ، وفي حديث أبي ذر: "والجهاد" - بالواو - يشهد له أن الله قرن بين الإيمان به وبرسوله(4/212)
والجهاد في سبيله في مواضع، كقوله تعالى: ? {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} ، وقوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف: 10، 11] الآية.
فالإيمان بالله ورسوله: التصديق بهما في القلب مع الإقرار بذلك باللسان. والجهاد هو دعاء الناس إلى ذلك بالسيف والسنان، بعد دعائهم بالحجة والبيان، ولهذا يشرع الدعاء إلى الإسلام قبل القتال.
وقد قيل: إن الجهاد كان في أول الإسلام فرض عين على المسلمين كلهم، لا يسع أحداً التخلف عنه، كما قال تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41] ، ثم بعد ذلك رخص لأهل الأعذار، ونزل قوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] ، روي ذلك عن ابن عباس وغيره، وحينئذ فيحتمل جعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل الأعمال بعد الإيمان الجهاد معنيين:
أحدهما: أن يقال: إنما كان ذلك حيث كان الجهاد فرض عين، فكان حينئذ أفضل الأعمال بعد الإيمان، وقريناً له، فلما نزلت الرخصة وصار الجهاد فرض كفاية تاخر عن فرض الأعيان.
وقد اختلف ابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص في عد الجهاد(4/213)
من فرائض الإسلام، فعده عبد الله بن عمرو منها بعد الحج، وأنكر ذلك ابن عمر عليه، وقال: فرائضه تنتهي إلى الحج.
وقد روى اختلافهما في ذلك أبو عبيد في " كتاب الناسخ والمنسوخ" وغيره.
وعد حذيفة بن اليمان الجهاد من سهام الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأضافهما إلى مباني الإسلام الخمس، وجعلها ثمانية سهام، وكأنه جعل الشهادتين سهمين.
والثاني - وهو أشبه -: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سئل عن أفضل الأعمال، فتارةً يذكر الإيمان بالله ورسوله لدخوله في مسمى الأعمال، كما سبق تقريره، وتارة يذكر أعمال الجوارح؛ لأن المتبادي إلى الفهم عند ذكر الأعمال مع الإطلاق أعمال الجوارح، دون عمل القلب واللسان، فكان إذا تبين له أن ذلك هو مراد السائل ذكر الصلاة له، كما ذكرها في حديث ابن مسعود هذا؛ فإن الصلاة أفضل أعمال الجوارح، وحيث اجاب بذكر الإيمان أو بذكر الصلاة، فإنما مقصوده التمثيل بأفضل مباني الإسلام، ومراده المباني بجملتها؛ فإن المباني الخمس كالشيء الواحد، وكل من دخل في الإسلام بالإقرار بالشهادتين أو بالصلاة - على رأي من يرى فعلها إسلاماً -، فإنه يؤمر ببقية المباني، ويلزم بذلك، ويقاتل على تركه.
وفي حديث خرجه الإمام أحمد. أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((أربع فرضهن الله في الإسلام، فمن أتى بثلاث لم يغنين عنه شيئاً حتى يأتي بهن(4/214)
جيمعاً: الصلاة، والزكاة، وصيام رمضان، [وحج البيت] )) .
وفي حديث آخر: ((الدين خمس لا يقبل الله منهن شيئاً دون شيء)) - فذكر مباني الإسلام الخمس، وأن من أتى ببعضها دون بعض لم يقبل منه.
ونفي القبلول لها بمعنى نفي الرضا بذلك واستكمال الثواب عليه، وحينئذٍ فذكر بعض المباني مشعر بالباقي منها، فكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تارة يكتفي في جواب من ساله عن أفضل الأعمال بالشهادتين، وتارة بالصلاة، ومراده في كلا الجوأبين سائر المباني، لكنه خص بالذكر أشرفها، فكأنه قال: الشهادتان وتوابعهما، والصلاة وتوابعها ولوازمها، وهو بقية المباني الخمس.
ويشهد لهذا: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم)) .
فتوهم طائفة من الصحابة أن مراده أن مجرد هذه الكلمة يعصم الدم حتى توقفوا في قتال من منع الزكاة، حتى بين لهم أبو بكر -(4/215)
ورجع الصحابة إلى قوله -: أن المراد: الكلمتان بحقوقهما ولوازمهما، وهو الإتيان ببقية مباني الإسلام.
وقد تبين صحة قولهم بروايات أخر تصرح بإضافة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة إلى الشهادتين في شرط عصمة الدم.
وكذلك قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من قال: لا إله إلا الله لم تمسه النار - أو دخل الجنة)) .
إنما أراد الشهادتين بلوازمهما وتوابعهما، وهو الإتيان ببقية أركان الإسلام ومبانيه.
وفي حديث ابن مسعود قدم بر الوالدين على الجهاد إشارة إلى أن حقوق العباد اللازمة التي هي من فروض الأعيان تقدم على التطوع بالجهاد.
وحديث أبي هريرة وأبي ذر فيهما اقتران الجهاد بالإيمان، لكنه في حديث أبي هريرة جعله بعد الإيمان، وجعل بعده الحج المبرور، فيحتمل أن يقال: كان ذلك في زمان كان الجهاد فيه فرض عين، فكان مقدماً على الحج، ويحتمل أن يقال: قد فهم دخول الحج من ذكر الإيمان بالله ورسوله؛ لأن ذلك يتبعه بقية مباني الإسلام، ومنها الحج، لا سيما وقد تقرر في أول الكتاب أن الإيمان قول وعمل ويكون المراد به جهاد المتطوع.
وهذا أشبه بقواعد الشريعة؛ فإن من معه مال، وعليه زكاة أو حج، وأراد التطوع بالجهاد، فإنه لا خلاف أنه يقدم الزكاة والحج على التطوع بالجهاد، كما قال عبد الله بن عمرو بن العاص: حجة قبل الغزو أفضل من عشر غزوات، وغزوة بعد حجة أفضل من عشر حجات.(4/216)
وروي - مرفوعا - من وجوه في أسانيدها مقال.
فتبين بهذا التقرير أن الأحاديث كلها دالة على أن أفضل الأعمال الشهادتان مع توابعهما، وهي بقية مباني الإسلام، أو الصلاة مع توابعها - أيضا - من فرائض الأعيان التي هي من حقوق الله عز وجل، ثم يلي ذلك في الفضل حقوق العباد التي هي من فروض الأعيان، كبر الوالدين، ثم بعد ذلك [أعمال] التطوع المقربة إلى الله، وأفضلها الجهاد.
وفي حديث أبي هريرة تأخير الحج عن الجهاد، ولعله إنما ذكره بعد الجهاد حيث كان الحج تطوعاً، فإن الصحيح أن فرضه تأخر إلى عام الوفود.
وقد يقال: حديث أبي هريرة دل على أن جنس الجهاد أشرف من جنس الحج، فإن عرض للحج وصف يمتاز به على الجهاد وهو كونه فرض عين، كان ذلك الحج المخصوص أفضل من الجهاد، وإلا فالجهاد أفضل منه.
فهذه الثلاثة المذكورة في هذا الحديث هي رأس الإسلام وعموده وذروة سنامه، كما في حديث معاذ: ((فرأسه الشهادتان، وعموده(4/217)
الصلاة، وذروة سنامه الجهاد)) .
والجهاد أفضل ما تطوع به من الأعمال، على ما دلت عليه النصوص الصحيحة الكثيرة، وهو مذهب الإمام أحمد.
وفي " الصحيحين" عن أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((أفضل الناس مؤمن آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره)) .
فهذا نص في أن المجاهد أفضل من المتخلي لنوافل العبادات من الصلاة والذكر وغير ذلك، فأماالنصوص التي جاءت بتفضيل الذكر على الجهاد وغيره من الأعمال، وأن الذاكرين لله أفضل الناس عند الله مطلقاً فالمراد بذلك أهل الذكر الكثير المستدام في أغلب الأوقات.
وليس الذكر مما يقطع عن غيره من الأعمال كبقية الأعمال، بل يمكن اجتماع الذكر مع سائر الأعمال، فمن عمل عملاً صالحاً، وكان أكثر لله ذكراً فيه من غيره فهو أفضل ممن عمل مثل ذلك العمل من غير أن يذكر الله معه.
وقد ورد في نصوص متعددة أن أفضل المصلين والمتصدقين والمجاهدين والحاج وغيرهم من أهل العبادات أكثرهم لله ذكراً.
وقد خرجه الإمام أحمد متصلاً، وخرجه ابن المبارك وغيره مرسلاً.(4/218)
فهؤلاء أفضل الناس عند الله، ثم يليهم الذين يذكرون الله كثيراً وليس لهم نوافل من غير الذكر كالجهاد وغيره، بل يقتصرون مع الذكر على فرائض الأعيان، فهؤلاء هم الذاكرون لله كثيراً، المفضلون على المجاهدين، ويليهم قوم يقومون بالفرائض وبالنوافل كالجهاد وغيره من غير ذكر كثير لهم.
وإنما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن سأله عما يعدل الجهاد: ((هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر، وتقوم ولا تفتر؟)) . قال: لا. قال: ((فذلك الذي يعدل الجهاد)) ؛ لأنه سأله عن عمل ينشئه عند خروج المجاهد يعادل فضل جهاده.
وأماالذاكرون لله كثيراً، فإنما فضلوا على المجاهدين بغير ذكر؛ لأن لهم عملاً مستمراً دائماً قبل جهاد المجاهدين، ومعه وبعده، فبذلك فضلوا على المجاهدين بغير ذكر كثير.
وبهذا تجتمع النصوص الواردة في ذلك.
وأماحديث: ((خير الإسلام إطعام الطعام وافشاء السلام)) فقد سبق الكلام عليه في أول الكتاب، وأنه ليس المراد به تفضيل هاتين الخصلتين على سائر خصال الإسلام من الشهادتين والصلاة وغيرهما، بل المراد أن أفضل أهل الإسلام القائمين بخصاله المفروضة من الشهادتين والصلاة والصيام والزكاة والحج من قام بعد ذلك بإطعام الطعام وافشاء السلام.
فإن قيل: فيكون التطوع بذلك أفضل من التطوع بالجهاد والحج.
قيل: فيه تفصيل: فإن كان إطعام الطعام فرض عين كنفقة من(4/219)
تلزم نفقته من الأقارب فلا ريب أنه أفضل من التطوع بالنفقة في الجهاد والحج، فإن كان تطوعاً، فإن كان صلة رحم فهو أفضل من الجهاد والحج، نص عليه أحمد وكذا إن كان في عام مجاعة ونحوها، فهو أفضل من الحج عند الإمام أحمد، وقد يقال في الجهاد كذلك إذا لم يتعين.
وهذا الكلام كله في تفضيل بعض الأعمال على بعض لذاتها، فأماتفضيل بعض الأعمال على بعض لزمانها أو مكانها فإنه قد يقترن بالعمل المفضول من زمان أو مكان ما يصير به فاضلاً، فهذا فيه كلام آخر نذكره في موضع آخر - إن شاء الله سبحانه وتعالى.(4/220)
6 - باب
الصلوات الخمس كفارة للخطايا
إذا صلاهن لوقتهن في الجماعة وغيرها(4/221)
528 - حدثني إبراهيم بن حمزة: ثنا ابن أبي حازم والدراوردي، عن يزيد بن عبد الله، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمان، عن أبي هريرة، أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً ما تقول ذلك يبقي من درنه؟)) قالوا: لا يبقي من درنه شيئاً. قال: ((فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بها الخطايا)) .
هذا مثل ضربه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمحو الخطايا بالصلوات الخمس، فجعل مثل ذلك مثل من ببابه نهر يغتسل فيه كل يوم خمس مرار، كما أن درنه ووسخه ينقى بذلك حتى لا يبقى منه شيء، فكذلك الصلوات الخمس في كل يوم تمحو الذنوب والخطايا حتى لا يبقى منها شيء.
واستدل بذلك بعض من يقول: إن الصلاة تكفر الكبائر والصغائر، لكن الجمهور القائلون بأن الكبائر لا يكفرها مجرد الصلاة بدون توبة،(4/221)
يقولون: هذا العموم خص منه الكبائر بما خرجه مسلم من حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، ما اجتنبت الكبائر)) .
وفيه – أيضا -: عن عثمان، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها؛ إلا كانت كفارةً لما قبلها من الذنوب، ما لم تؤت كبيرة وكذلك الدهر كله)) .
وخرج النسائي وابن حبان والحاكم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((والذي نفسي بيده، ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة، ثم قيل له: ادخل بسلام)) .
وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي أيوب، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معناه - أيضا.
وقال ابن مسعود: الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.
وروي عنه مرفوعاً. والموقوف أصح.
وقال سلمان: حافظوا على هذه الصلوات الخمس؛ فإنهن كفارة لهذه الجراح، ما لم تصب المقتلة.(4/222)
وقد حكى ابن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك، وأن الكبائر لا تكفر بمجرد الصلوات الخمس، وإنما تكفر الصلوات الخمس الصغائر خاصة.
وقد ذهب طائفة من العلماء، منهم: أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا – إلى أن اجتناب الكبائر شرط لتكفير الصلوات الصغائر، فإن لم تجتنب الكبائر لم تكفر الصلوات شيئاً من الصغائر، وحكاه ابن عطية في " تفسيره" عن جمهور أهل السنة؛ لظاهر قوله: ((ما اجتنبت الكبائر)) .
والصحيح الذي ذهب إليه كثير من العلماء، ورجحه ابن عطية، وحكاه عن الحذاق: أن ذلك ليس بشرط، وأن الصلوات تكفر الصغائر مطلقاً إذا لم يصر عليها، فإنها بالإصرار عليها تصير من الكبائر.
وحديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري في هذا الباب وغيره من الأحاديث يدل على ذلك، وقد ذكر البخاري في تبويبه عليه أن صلاتهن في وقتهن شرط لتكفير الخطايا، وأخذ ذلك من قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يغتسل فيه كل يوم خمساً)) ، وهذا يدل على تفريق الصلوات خمس مرار في كل يوم وليلة، ومن جمع بينهما في وقت واحد أو في وقتين أو ثلاثة لغير عذر لم يحصل منه هذا التفريق ولا تكرير الاغتسال، وهو بمنزلة من اغتسل مرة أو مرتين أو ثلاثاً.(4/223)
وحديث عثمان الذي خرجه مسلم يدل على أن كل صلاة تكفر ذنوب ما بينهما وبين الصلاة الأخرى خاصة، وقد ورد مصرحاً بذلك في أحاديث كثيرة.
وحينئذ؛ فمن ترك صلاة إلى وقت صلاة أخرى لغير عذر وجمع بينهما فلا يتحقق أن هاتين الصلاتين المجموعتين في وقت واحد لغير عذر يكفران ما مضى من الذنوب في الوقتين معاً، وإنما يكون ذلك إن كان الجمع لعذر يبيح الجمع.
وتمثيله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالنهر هو مبالغة في إنقاء الدرن؛ فإن النهر الجاري يذهب الدرن الذي غسل فيه ولا يبقى له فيه أثر، بخلاف الماء الراكد؛ فإن الدرن الذي غسل فيه يمكث في الماء، وربما ظهر مع كثرة الاغتسال فيه على طول الزمان؛ ولهذا روي النهي عن الاغتسال في الماء الدائم كما سبق ذكره في الطهارة.
وفي " صحيح مسلم" من حديث الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات)) . قال: قال الحسن: وما يبقى ذلك من الدرن.
وقد روي عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن عبيد بن عمير، عن(4/224)
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً.
قال أبو حاتم: كذلك أرسله الحفاظ، وهو أشبه.
وروي تشبيه الصلوات بخمس أنهار.
خرجه ابن جرير الطبري والطبراني والبزار من طريق يحيى بن أيوب: وحدثني عبد الله بن قريط، أن عطاء بن يسار حدثه، أنه سمع أبا سعيد الخدري يحدث، أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((الصلوات(4/225)
الخمس كفارة ما بينهما)) . وقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أرأيت لو أن رجلاً كان له معتمل، وبين منزله ومعتمله خمسة أنهار، فإذا انطلق إلى معتمله عمل ما شاء الله، فأصابه الوسخ والعرق، فكلما مر بنهر اغتسل ما كان ذلك مبقياً من درنه، فكذلك الصلوات، كلما عمل خطيئة أو ما شاء الله، ثم صلى صلاة فدعا واستغفر غفر له ما كان قبلها)) .
وخرج البزار نحوه - أيضا - من طريق عمر بن صهبان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وهذه متابعة لابن قريط، ولكن ابن صهبان فيه ضعف شديد.
وأمااستنباط البخاري: أن هذا التكفير لا يشترط له أن تكون الصلاة في جماعة، فإنه أخذه من قوله ((بباب أحدكم)) ، ومن صلى في بيته فهو كمن صلى في باب منزله.
ولقائل أن يقول: لو كان الأمر على ذلك لجعل النهر في المنزل، فلما جعله ببابه دل على أنه خارج من بيته، ففيه إشارة إلى الصلاة في المساجد، وإن قربت من المنازل.
وحديث أبي سعيد صريح في أن النهر بين المنزل وبين المعتمل، وهو(4/226)
المكان الذي يعمل فيه المرء عمله وينتشر فيه لمصالح اكتسابه ونحو ذلك.
وهذا مما يدل على أن المراد بالدرن الصغائر التي تصيب الأنسان في كسبه ومعاشه ومخالطته للناس المخالطة المباحة.(4/227)
7 - باب
في تضييع الصلاة عن وقتها(4/228)
529 - حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا مهدي، عن غيلان، عن أنس، قال: ما أعرف شيئاً مما كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيل: الصلاة؟ قال: أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها؟(4/228)
530 - حدثنا عمرو بن زرارة: ثنا عبد الواحد بن واصل أبو عبيدة الحداد، عن عثمان بن أبي رواد أخي عبد العزيز، قال: سمعت الزهري يقول: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت.
وقال بكر بن خلف: حدثنا محمد بن بكر البرساني: أبنا عثمان بن أبي رواد نحوه.
إنما كان يبكي أنس بن مالك من تضييع الصلاة إضاعة مواقيتها، وقد جاء ذلك مفسراً عنه، وروى سليمان بن المغيرة، عن ثابت، قال: قال أنس: ما أعرف فيكم(4/228)
اليوم شيئاً كنت أعهده على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ليس قولكم: لا إله إلا الله. قلت: يا أبا حمزة، الصلاة؟ قال: قد صليتم حين تغرب الشمس، فكانت تلك صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ !.
خرجه الإمام أحمد.
ورواه حماد بن سلمة، أن ثابتاً أخبره، قال: قال أنس: ما شيء شهدته على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا وقد أنكرته اليوم، إلا شهادتكم هذه. فقيل: ولا الصلاة؟ فقال: إنكم تصلون الظهر مع المغرب، أهكذا كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يصلي؟ !.
وهذا استفهام إنكار من أنس، يعني: ان هذه لم تكن صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرج الإمام أحمد من حديث عثمان بن سعد، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ما أعرف شيئاً مما عهدت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليوم. قيل له: ولا الصلاة؟ قال: أوليس قد علمت ما صنع الحجاج في الصلاة؟
ويقال: أن الحجاج هو أول من أخر الصلاة عن وقتها بالكلية، فكان يصلي الظهر والعصر مع غروب الشمس، وربما كان يصلي الجمعة عند غروب الشمس، فتفوت الناس صلاة العصر، فكان بعض التابعين يومئ في المسجد الظهر والعصر خوفا من الحجاج.
وقد روي هذا الحديث عن أنس من وجوه متعددة.(4/229)
وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي عمران الجوني، عن أنس، قال: ما أعرف شيئاً مما كنا عليه على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قلت: أين الصلاة؟ قال: أو لم تصنعوا في صلاتكم ما قد علمتم؟
وغيلان - الذي خرجه البخاري من طريقه أولاً، عن أنس - هو: ابن جرير، رواه عنه مهدي بن ميمون.
وعثمان بن أبي رواد هو اخو عبد العزيز بن أبي رواد، يكنى: أبا عبد الله. قال ابن معين: كان ثقة. وقد روى عنه شعبة وغيره، وقد بين البخاري أنه روى عنه هذا الحديث: أبو عبيدة الحداد ومحمد بن بكر البرساني.
وبكر بن خلف الذي علق البخاري عنه الحديث، يقال له: ختن المقرئ، يكنى ابا بشر، ثقة، روى عنه أبو داود وابن ماجه.
ولهم شيخ آخر، يقال له: عثمان بن جبلة بن أبي رواد المروزي والد عبدان عبد الله بن عثمان، وهو ابن أخي عثمان هذا، يروي عن شعبة وطبقته، وروى عنه عمه عثمان بن أبي رواد، وهو ثقة – أيضا -، وقد خرج البخاري عن أبيه عبدان، عنه.(4/230)
8 - باب
المصلي يناجي ربه عز وجل(4/231)
531 - حدثنا مسلم بن إبراهيم: نا هشام، عن قتادة، عن أنس، قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن أحدكم إذا صلى يناجي ربه، فلا يتفلن عن يمينه، ولكن تحت قدمه اليسرى)) .
وقال سعيد، عن قتادة: ((لا يتفل قدامه أو بين يديه. ولكن عن يساره أو تحت قدمه)) .
وقال شعبة: ((لا يبزق بين يديه، ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه)) .
وقال حميد، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا يبزق في القبلة، ولا عن يمينه، ولكن عن شماله، أو تحت قدمه)) .(4/231)
532 - حدثنا حفص بن عمر: ثنا يزيد بن إبرهيم: ثنا قتادة، عن أنس عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: ((اعتدلوا في السجود، ولا يبسط احدكم ذراعية كالكلب، وإذا بزق فلا يبزق بين يديه، ولا عن يمينه؛ فإنه يناجي ربه عز وجل)) .(4/231)
عامة إلفاظ حديث أنس التي علقها هاهنا قد خرجها في " أبواب القبلة والبزاق في المسجد". وخرج هناك مناجاة المصلي لربه عز وجل من حديث أبي هريرة، ومعناه من حديث ابن عمر، وذكرنا نحن هناك أحاديث متعددة في هذا المعنى، وتكلمنا [على ذلك] بما فيه كفاية.
والنجاء: الحديث الخفي. والنداء: عكسه.
وإنما خرج البخاري هذه الأحاديث في هذا الباب ليبين بذلك فضل الصلاة، وإن المصلى مناج لربه في صلاته، وإذا كان المصلي مناجياً لربه وكان ربه قد أوجب عليه أن يناجيه كل يوم وليلة خمس مرات في خمس أوقات، واستدعاه لمناجاته بدخول الوقت والأذان فيه؛ فإن الأذان يشرع في أول الوقت، فإفضل المناجين له أسرعهم إجابة لداعيه، وقيأماإلى مناجاته، ومبادرة إليها في أول الوقت.
ولهذا المعنى - والله أعلم - خرجه في " أبواب مواقيت الصلاة".
ويستدل لذلك بأن الله تعالى لما استدعى موسى عليه السلام لمناجاته وكلامه أسرع إليه، فقال له ربه: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 83، 84] فدل على أن المسارعة إلى مناجاة الله توجب رضاه.
وهذا دليل حسن على فضل الصلاة في أول أوقاتها. والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/232)
9 - باب
الإبراد بالظهر في شدة الحر
خرج فيه أربعة أحاديث:
الحديث الأول:
قال:(4/233)
533، 534 - ثنا أيوب بن سليمان بن بلال: ثنا أبو بكر، عن سليمان، قال صالح بن كيسان: حدثنا الأعرج عبد الرحمان وغيره، عن أبي هريرة - ونافع مولى عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر -، أنهما حدثاه عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: ((إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم)) .
أبو بكر، هو: ابن أبي أويس. وسليمان، هو: ابن بلال.
وهذا من جملة نسخة يرويها أيوب، عن أبي بكر، عن سليمان. والبخاري يخرج منها كثيراً، وقد توقف فيها أبو حاتم الرازي؛ لأنها مناولة، فإنه قال: قال ابن أبي أويس: أخذت أنا وأيوب بن سليمان بن بلال من أخي ألفاً ومائتي ورقة مناولة، فعارضنا بها. قال أبو حاتم: فزهدت فيها من أجل ذلك، فلم أسمعها من واحد منهما.(4/233)
ولكن الرواية بالمناولة جائزة عند الأكثرين.
وقد ذكر الطبراني أن هذا الحديث تفرد به أيوب بهذا الإسناد.
ولكن قد روي حديث الأعرج، عن أبي هريرة من غير هذا الوجه.
خرجه ابن ماجه عن هشام بن عمار، عن مالك، عن أبي الزناد، عنه. وهو في " الموطا" كذلك.
وكذلك حديث نافع، خرجه ابن ماجة - أيضا - من طريق الثقفي، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((أبردوا بالظهر)) .
الحديث الثاني:(4/234)
535 - حدثنا محمد بن بشار: ثنا غندر ثنا شعبة، عن المهاجر أبي الحسن: سمع زيد بن وهب، عن أبي ذر: أذن مؤذن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر، فقال: ((أبرد، أبرد)) - او قال - ((انتظر، انتظر)) - وقال: ((شدة الحر من فيح جهنم؛ فإذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة)) . حتى رأينا فيء التلول.
قال ابن خراش في " تاريخه": زيد بن وهب، كوفي ثقة، دخل الشام، وروايته عن أبي ذر صحيحة. والمهاجر أبو الحسن صدوق كوفي.(4/234)
وهذا الحديث لم يروه إلا شعبة: ((أبردوا بالظهر)) .
الحديث الثالث:
قال:(4/235)
536 - ثنا علي بن عبد الله المديني: ثنا سفيان، قال: حفظناه من الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم)) .(4/235)
537 - ((واشتكت النار إلى ربها، فقالت: ربي، أكل بعضي بعضاً. فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير)) .
قول سفيان بن عيينة: ((حفظناه من الزهري عن سعيد)) يشير إلى أنه إنما حفظه عن الزهري، عن ابن المسيب، لم يحفظه عنه عن أبي سلمة.
وقد روي عن ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد أو أبي سلمة - بالشك.
ذكره الدارقطني.(4/235)
وروي عن الزهري، عن أبي سلمة وحده، عن أبي هريرة -: قاله عنه شعيب بن أبي حمزة.
وقد خرج البخاري في " بدء الخلق" من طريقه بهذا الإسناد حديث:
((اشتكت النار إلى ربها)) .
ورواه جماعة، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة - معاً -، عن أبي هريرة.
وقد خرج مسلم حديث: الإبراد من رواية الليث ويونس وعمرو بن الحارث، عن الزهري، عنهما.
وخرج حديث: ((اشتكت النار)) من حديث يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وحده.
وروى حديث [الإبراد] عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة - معاً -: يحيى الأنصاري ... وعبيد الله بن عمر وابن جريج وابن أبي ذئب ومعمر وغيرهم.
قال الدارقطني: القولان محفوظان عن الزهري.
يعني: عن سعيد وأبي سلمة.(4/236)
الحديث الرابع:(4/237)
538 - حدثنا عمر بن حفص بن غياث: ثنا أبي: ثنا الأعمش: ثنا أبو صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أبردوا بالظهر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم)) .
تابعه: سفيان ويحيى وأبو عوانة، عن الأعمش.
يعني: كلهم رووه، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري.
وقد خرجه البخاري في " بدء الخلق" عن الفريأبي، عن سفيان كذلك، ولفظه: ((أبردوا بالصلاة)) .
إلا أن رواية حفص فيها تصريح الأعمش بسماعه له من أبي صالح، فأمن بذلك تدليسه له عنه.
وإنما ذكر البخاري المتابعة لحفص على قوله؛ لأن عبد الرزاق والأشجعي روياه، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.
ذكره الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله.
وخرجه كذلك في " مسنده" في " مسند أبي هريرة"، ثم أتبعه بحديث أبي سعيد أنه هو الصواب.(4/237)
وكذلك حدث به عبد الرحمان بن عمر الأصبهاني – ويلقب: رسته -، عن ابن مهدي، عن سفيان، أملاه عليهم - قال أبي: من حفظه -، فأنكره عليه أبو زرعة، وقال: هو غلط؛ الناس يروونه عن أبي سعيد، فلما رجع رسته إلى بلده نظر في أصله فإذا هو عن أبي سعيد، فرجع عما أملاه، وكتب إلى أبي زرعة يعتذر عما وقع منه.
وعامة روايات هذا الحديث من طرقه إنما فيها: ((أبردوا بالصلاة)) أو ((عن الصلاة)) ، وليس في شيء منها في " الصحيح" ذكر " الظهر"، إلا في رواية أبي سعيد التي خرجها البخاري هاهنا.
وفي أحاديث الباب كله؛ الأمر بالإبراد بالصلاة في اشتداد الحر.
قال الخطأبي: قوله: ((أبردوا بالصلاة)) أي: تأخروا عنها مبردين، أي: داخلين في وقت البرد. قال: والمراد: كسر شدة [حر] الظهيرة؛ لأن فتور حرها بالإضافة إلى وهج الهاجرة برد، وليس المراد أن يؤخر إلى أحد بردي النهار، وهو برد العشي؛ إذ فيه الخروج من قول الأمة.
قال: وفيح جهنم شدة استعارها، وأصله السعة والانتشار، وكانت العرب تقول في غاراتها: فيحي فياح.(4/238)
وقال غيره: الفيح سطوع الحر، يقال: فاحت القدر تفوح إذا غلت.
وأماقول صاحب " الغريبين": أبردوا بالظهر: صلوها في أول وقتها. وبرد النهار أوله.
فهو خطأ، وتغيير للمعنى، وصلاة الظهر في أول وقتها في شدة الحر ليس إبراداً، بل هو ضده، بخلاف أول النهار، كما في الحديث: ((من صلى البردين دخل الجنة)) .
وقد بوب البخاري على هذه الأحاديث: ((الإبراد بالظهر في شدة الحر)) فدل ذلك على أنه يرى الإبراد في شدة الحر بكل حال، سواء كان في البلاد الحارة أو غيرها، وسواء كان يصلي جماعة أو وحده.
وهذا قول كثير من أهل العلم، وذكر طائفة من المالكية كالقاضي إسماعيل وأبي الفرج أنه مذهب مالك، وذكر صاحب " المغني" من أصحابنا أنه ظاهر كلام أحمد والخرقي، ورجحه، وكذلك حكاه ابن المنذر عن أحمد وإسحاق، وحكاه الخطأبي عن أحمد ورجحه ابن المنذر، وحكاه عن أهل الرأي، وحكاه الترمذي في " جامعه" عن ابن المبارك وأحمد وإسحاق، ورجحه.
ولذلك ذكر(4/239)
بعض الشافعية أنه ظاهر الحديث، ومال إليه، والمنصوص عن الشافعي: أنه لا يستحب الإبراد إلا في شدة الحر في البلاد الحارة لمن يصلي جماعة في موضع يقصده الناس من بعد، كذا نص عليه في " الأم"، وعليه جمهور أصحابه.
ولهم وجه: أنه لا يشترط البلاد الحارة، وحكوا قولاً للشافعي: أنه لا يشترط بعد المسجد، بل يبرد ولو كانت منازلهم قريبة منه.
واشترط طائفة من أصحابنا للإبراد: أن تكون الصلاة في مسجد، قالوا: وسواء كان مما ينتابه الناس أو لا، وأن تكون البلدان حارة شديدة الحر أو متوسطة.
ومنهم من اشترط مسجد الجماعة فقط.
وكذلك قال ابن عبد الحكم وطائفة من المالكية العراقيين: أنه لا يبرد إلا بالصلاة في مساجد الجماعة دون من صلى منفرداً.
وذكر القاضي إسماعيل، عن ابن أبي أويس، عن مالك، قال: بلغني أن عمر قال لأبي محذورة: إنك بأرض حارة، فأبرد، ثم أبرد، ثم ناد، فكأنني عندك.
واختلفوا في المعنى الذي لأجله أمر بالإبراد.
فمنهم من قال: هو حصول الخشوع في الصلاة؛ فإن الصلاة في شدة الحر(4/240)
كالصلاة بحضرة طعام تتوق نفسه إليه، وكصلاة من يدافع الأخبثين، فإن النفوس حينئذ تتوق إلى القيلولة والراحة، وعلى هذا فلا فرق بين من يصلي وحده أو في جماعة.
ومنهم من قال: هو خشية المشقة على من بعد من المسجد بمشيه في الحر، وعلى هذا فيختص الإبراد بالصلاة في مساجد الجماعة التي تقصد من الأمكنة المتباعدة.
ومنهم من قال: هو وقت تنفس جهنم.
وقد ثبت في " صحيح مسلم" من حديث عمرو بن عبسة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم اقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر)) .
وفي " صحيحي ابن خزيمة وابن حبان" من حديث أبي هريرة - مرفوعاً، قال:
((فإذا انتصف النهار فاقصر عن الصلاة حتى تميل الشمس؛ فإن حينئذ تسعر جهنم، وشدة الحر من فيح جهنم، فإذا مالت الشمس فالصلاة محضورة مشهودة متقبلة حتى تصلي العصر)) .
وخرجه ابن ماجه، ولفظه: " فإذا كانت - يعني: الشمس – على رأسك كالرمح فدع الصلاة؛ فإن تلك الساعة تسعر فيها جهنم، وتفتح فيها أبوابها، حتى تزيغ الشمس عن حاجبك الأيمن، فإذا زالت فالصلاة(4/241)
محضورة متقبلة".
وهذا يدل على أن شدة الحر عقيب الزوال من أثر تسجرها، فكما تمنع الصلاة وقت الزوال، فإنه يستحب تأخرها بعد الزوال حتى يبرد حرها ويزول شدة وهجها؛ فإنه إثر وقت غضب، والمصلي يناجي ربه، فينبغي أن يتحرى بصلاته أوقات الرضا والرحمة، ويجتنب أوقات السخط والعذاب، وعلى هذا فلا فرق بين المصلي وحده وفي جماعة – أيضا.
والأمر بالإبراد أمر ندب واستحباب، لا أمر حتم وإيجاب، هذا مما لا خلاف فيه بين العلماء.
فإن شذ أحد من أهل الظاهر جرياً على عادتهم، ولم يبال بخرق إجماع المسلمين، كان محجوباً بالإجماع قبله، وبحديث عمرو بن عبسة وأبي هريرة المذكورين، فإنهما يصرحان بأن الصلاة بعد الزوال مشهودة محضورة متقبلة، ولم يفرق بين فرض ونفل.
وذهب طائفة من العلماء إلى أن الإبراد رخصة، وأن تركه سنة، والصلاة في أول الوقت بكل حال أفضل، وهو قول الليث بن سعد وطائفة من أصحاب الشافعي.
والأحاديث الصحيحة ترده.
وقد جعل مالك القول بترك الإبراد قول الخوارج.
وأماحد الإبراد، فقال القاضي أبو يعلى من أصحابنا: يكون بين الفراغ من الصلاة وبين آخر وقت الصلاة فضل.(4/242)
وقال الشافعية: حقيقة الإبراد: أن يؤخر الصلاة عن أول الوقت بقدر ما يحصل للحيطان فيء يمشي فيه طالب الجماعة، ولا يؤخر عن النصف الأول من الوقت.
وحكى سفيان الثوري وإسحاق بن راهوية عن بعض العلماء، أنه إذا أخر الصلاة إلى نصف وقتها فلم يفرط، وإذا أخرها حتى كانت إلى وقت الصلاة الأخرى أقرب فقد فرط.
ولعله يريد: أنه يكره ذلك، لا أنه يحرم.
وأماصلاة الظهر في غير شدة الحر، فجمهور العلماء على أن الأفضل تعجيلها، وفيه خلاف عن مالك يأتي ذكره فيما بعد - إن شاء الله.
واستدل من لم ير استحباب الإبراد بحديث خباب بن الأرت: شكونا إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حر الرمضاء، فلم يشكنا، وقد ذكرناه في " باب: السجود على الثوب"، وذكرنا أن الصحيح في تفسيره: أنهم طلبوا منه تأخير الصلاة بالهاجرة، فلم يجبهم إلى ذلك، وأمرهم بالصلاة إذا زالت الشمس.
وقد أجيب عنه بوجهين:
أحدهما: أنهم طلبوا منه التأخير الفاحش المقارب آخر الوقت، فلم يجبهم إليه.
والثاني: أنه منسوخ بالأمر بالإبراد، وهو جواب الإمام أحمد والأثرم.
واستدلا بحديث المغيرة بن شعبة، قال: كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(4/243)
الظهر بالهاجرة، فقال لنا: ((أبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم)) .
خرجه الإمام أحمد وابن حبان في " صحيحه" وابن ماجه.
وزعمت طائفة أن معنى حديث خباب: أنهم شكوا إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم يعذبون في رمضاء مكة في شدة الحر، وسألوه أن يدعو لهم، فلم يجبهم.
وهذا بعيد، وألفاظ الحديث ترده، وقد سبق ذكره.
وأماقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اشتكت النار إلى ربها)) ، فالمحققون من العلماء على أن الله أنطقها بذلك نطقاًحقيقياً كما ينطق الأيدي والأرجل والجلود يوم القيامة، وكما أنطق الجبال وغيرها من الجمادات بالتسبيح والسلام على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وغير ذلك مما يسمع نطقه في الدنيا.
ويشهد لذلك: ما خرجه الإمام أحمد والترمذي - وصححه -، من حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((يخرج عنق من النار يوم القيامة، لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين)) .
وقد روي عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه الإمام أحمد - أيضا.
وقيل: إن هذا الإسناد هو المحفوظ.(4/244)
وخرجه البزار بهذا الإسناد، ولفظ حديثه: ((يخرج عنق من النار يتكلم بلسان طلق ذلق، لها عينان تبصر بهما، ولها لسان تتكلم به)) - وذكر الحديث.
وقوله: ((فأشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير)) - بمعنى: أنه من تنفس جهنم.
وقد فسر ذلك الحسن بما يحصل منه للناس أذى من الحر والبرد.
قال ابن عبد البر: أحسن ما قيل في معنى هذا الحديث: ما روي عن الحسن البصري - رحمه الله -، قال: اشتكت النار إلى ربها، قالت: يارب، أكل بعضي بعضاً، فخفف عني. قال: فخفف عنها، وجعل لها كل عام نفسين، فما كان من برد يهلك شيئاً فهو من زمهريرها، وما كان من سموم يهلك شيئاً فهو من حرها.
وقد جعل الله تعالى ما في الدنيا من شدة الحر والبرد مذكوراً بحر جهنم وبردها، ودليلاً عليها، ولهذا تستحب الاستعاذة منها عند وجود ذلك.
كما روى عثمان الدارمي وغيره من رواية دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد - أو عن ابن حجيرة الأكبر، عن أبي هريرة، أو أحدهما - حدثه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا كان يوم حار، فإذا قال الرجل: لا إله إلا الله، ما أشد حر هذا اليوم، اللهم أجرني من حر(4/245)
جهنم، قال الله لجهنم: إن عبداً من عبيدي استجارني من حرك، وأنا أشهدك أني قد أجرته، وإذا كان يوم شديد البرد، فإذا قال العبد: لا إله إلا الله، ما أشد برد هذا اليوم، اللهم أجرني من زمهرير جهنم، قال الله لجهنم: إن عبداً من عبادي قد استعاذني من زمهريرك، فإني أشهدك أني قد أجرته)) . قالوا: وما زمهرير جهنم؟ قال: ((بيت يلقى فيه الكافر فيتميز من شدة بردها)) .(4/246)
10 - باب
الإبراد بالظهر في السفر(4/247)
539 - حدثنا آدم: ثنا شعبة: ثنا مهاجر أبو الحسن مولى لبني تيم الله، قال: سمعت زيد بن وهب، [عن أبي ذر] الغفاري، قال: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال له: " أبرد"، ثم أراد أن يؤذن، فقال له: " أبرد"، حتى رأينا فيء التلول، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة".
وقال ابن عباس: {يَتَفَيَّأُ} [النحل: 48] يتميل.
مقصود البخاري بهذا الباب: أن الإبراد بالظهر مشروع في الحضر والسفر، وسواء كان جماعة المصلين مجتمعين في مكان الصلاة أو كانوا غائبين.
وقد استدل الترمذي في " جامعه" بهذا الحديث على أن الإبراد لا يختص بالمصلي في مسجد ينتابه الناس من البعد، كما يقوله الشافعي؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان هو وأصحابه مجتمعين في السفر، وقد أبرد بالظهر.
وقوله: " حتى رأينا فيء التلول" - يعني: حتى مالت الشمس وبعدت عن وسط السماء، حتى ظهر للتلول فيء.(4/247)
والفيء هو الظل العائد بعد زواله، فإن الشمس إذا طلعت كان للتلول ونحوها ظل مستطيل، ثم يقصر حتى يتناهى قصره وقت قيام الشمس بالظهيرة، ثم إذا زالت الشمس عاد الظل وأخذ في الطول، فما كان قبل الزوال يسمى ظلاً، وما كان بعده يسمى فيئاً؛ لرجوع الظل بعد ذهابه، ومنه سمى الفيء فيئاً، كأنه عاد إلى المسلمين ما كانوا أحق به مما كان في يده.
وقد حكى البخاري عن ابن عباس أنه فسر قوله: {يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ} : يتميل.
وفي حديث أبي ذر دليل على أن حد الإبراد إلى [أن] يظهر فيء التلول ونحوها.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم من حديث ابن مسعود، قال: كان قدر صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصيف ثلاثة أقدام، وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام.
وقد روي موقوفاً على ابن مسعود، وأنه قال في الصيف: ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام.
قال بعض أصحابنا: وهذا يدل على أنه إلى الطرف الأول أقرب، وهذا يشبه قول الشافعية: أنه لا يؤخر إلى النصف الآخر من الوقت، وهو(4/248)
الصحيح.
وقد تقدم عن سفيان، أنه حكى عن بعض العلماء، أنه عد التاخير إلى النصف الثاني تفريضاً، فظاهر حديث أبي ذر الذي خرجه البخاري يدل على انه يشرع الإبراد بالأذان عند إرادة الإبراد بالصلاة، فلا يؤذن إلا في وقت يصلي فيه، فإذا أخرت الصلاة أخر الأذان معها، وأن عجلت عجل الأذان.
وقد وقع في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن من أخر الصلاة في السفر إلى آخر وقتها وهو سائر، أنه يؤذن إذا نزل وأراد الصلاة، وحملوا فعل ابن مسعود بالمزدلفة على ذلك، إذا دخل وقت الثانية أذن لها.
ويشهد لذلك: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة جمع لما غربت له الشمس بعرفة، ودفع، لم ينقل عنه أنه أذن للصلاة، فلما قدم جمعاً أذن وأقام وصلى.
وهذا يدل على أن الصلاتين المجموعتين في وقت الثانية لا يؤذن لهما إلا عند صلاتهما في وقت الثانية، فيكون الأذان للوقت الذي يصلي فيه لا للوقت الذي يجمع فيه.
ولكن قد روى أبو داود الطيالسي هذا الحديث في " مسنده"، عن شعبة - وخرجه من طريقه الترمذي - ولفظه: قال أبو ذر: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر ومعه بلال، فأراد ان يقيم، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أبرد"، ثم أراد أن يقيم، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أبرد في الظهر". قال: حتى رأينا فيء التلول، ثم أقام فصلى، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن شدة الحر من فيح جهنم، فأبردوا عن الصلاة".(4/249)
ففي هذه الرواية التصريح بأن الإبراد إنما كان بالإقامة، والإقامة تسمى أذاناً، كما في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بين كل أذانين صلاة"، ومراده: بين الأذان والإقامة.
وقد خرجه البخراي في الباب الماضي، ولفظه: أذن مؤذن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر، فقال: "أبرد، أبرد" - أو قال: " انتظر، انتظر".
وهذا – أيضا - يدل على أنه إنما أخره بالإبراد والانتظار بعد ان أذن، وهو دليل على أنه يؤذن في أول وقت الصلاة بكل حال، سواء أبراد أو لم يبرد.
ولكن إن أراد تأخيرها عن وقتها بالكلية حتى يصليها في وقت الثانية جمعاً، فإنه يؤخر الأذان إلى وقت الثانية.
ويدل على هذا: ما خرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة، قال: كان بلال يؤذن إذا دحضت الشمس، فلا يقيم حتى يخرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا خرج أقام حين يراه.
وفي الأذان للمجوعتين في وقت الثانية خلاف يذكر في موضع آخر.
ومتى فرق بين المجموعتين في وقت الثانية تفريقاً كثيراً، فقال القاضي أبو يعلى من أصحابنا: تحتاج الثانية إلى أذان آخر.
وقد روي عن ابن مسعود في جمعه بالمزدلفة ما يشهد له. والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/250)
11 - باب
وقت الظهر عند الزوال
وقال جابر: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الظهر بالهاجرة.
حديث جابر هذا خرجه في " باب وقت المغرب "، ويأتي في موضعه - إن شاء الله.
وقد سبق الحديث أبي جحيفة في صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر بالبطحاء بالهاجرة.
وقد ذكرنا - أيضا - حديث جابر بن سمرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي الظهر إذا دحضت الشمس.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث زيد بن ثابت، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الظهر بالهاجرة، ولم يكن (يصلي) صلاة أشد على أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها، فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} (البقرة: 238) .
وخرج الإمام أحمد والنسائي نحوه من حديث أسامة بن زيد، أن رسول الله كان يصلي الظهر بالهجير، ولا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم، فأنزل الله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} .(4/251)
والحديثان إسنادهما واحد، مختلف فيه، وفيه نظر.
خرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
قال:(4/252)
540 - حدثنا أبو اليمان: أبنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني أنس بن مالك، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج حين زاغت الشمس، فصلى الظهر، فقام على المنبر، فذكر الساعة؛ فذكر أن فيها أموراً عظاماً، ثم قال: " من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل، فلا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم ما دمت في مقامي " فأكثر الناس في البكاء، وأكثر أن يقول: " سلوا "، فقام عبد الله بن حذاقة السهمي، فقال: من أبي؟ قال: " أبوك
حذافة "، ثم أكثر أن يقول: " سلوني " فبرك عمر على ركبتيه، فقال: رضينا بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد نبيا. فسكت. ثم قال: " عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط، فلم أر كالخير والشر ".
زيغ الشمس: ميلها، وهو عبارة عن زوالها.
والحديث يدل على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر في ذلك اليوم حين زالت الشمس من غير مهلة، لكن هل كانت تلك عادته في صلاة الظهر، أم(4/252)
عجلها ذلك اليوم لأمر حدث حتى يخبرهم به، ولذلك خطبهم وذكر الساعة؟
هذا محتمل، والثاني أظهر، فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يؤخر صلاة الظهر في شدة الحر، كما تقدم، وأمافي غير ذلك فكان يعجلها، لكن هل كانت عادته أن يدخل في صلاة الظهر حين تزول الشمس في غير وقت شدة الحر دائما؟ هذا فيه نظر، بل الأظهر خلافه.
وقد روي عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يصلي إذا زالت الشمس أربع ركعات، ويقول:
" إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، ويستجاب الدعاء " خرجه الترمذي وغيره.
وقد كان يصلي قبل الظهر ركعتين، وروي عنه أنه كان يصلي أربعا.
وهذا كله يدل على أنه لم يكن يحرم الصلاة عقيب الزوال من غير مهلة بينهما.
وقد ذكرنا في الباب الماضي حديث ابن مسعود في صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة – يعني: قدر الظل.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه أمر بلالاً أن يجعل بين أذانه وإقامته قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته.
خرجه الترمذي من حديث جابر، وقال: إسناده مجهول.
وخرجه عبد الله ابن الإمام أحمد من حديث أبي بن كعب.
وخرجه الدارقطني وغيره من حديث علي.(4/253)
وروي – أيضا – من حديث أبي هريرة وسلمان.
وأسانيده كلها ضعيفة.
والصحيح عند أصحابنا: أنه يستحب أن تكون الصلاة بعد مضي قدر الطهارة وغيرها من شرائط الصلاة، وكذلك هو الصحيح عند أصحاب الشافعي، وقالوا: لا يضر الشغل الخفيف كأكل لقم وكلام قصير، ولا يكلف خلاف العادة.
ولهم وجه آخر: أنه لا يحصل فضيلة أول الوقت حتى يقدم ذلك كله قبل الوقت حتى تنطبق الصلاة على أول الوقت.
قال بعضهم: وهذا غلط صريح مخالف للسنة المستفيضة، وقد جعله مالك قول الخوارج وأهل الاهواء.
وللشافعية وجه آخر: لا تفوت فضيلة أو نصف الوقت، ولا يستحب عندهم أن ينتظر بها مصير الفيء مثل الشراك.
وحكى الساجي، عن الشافعي، أنه يستحب ذلك، وحكى عن غيره أنه لا يجوز فعلها قبل ذلك؛ فإن جبريل عليه السلام صلى بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أول يوم الظهر والفيء مثل الشراك.
وهذا ليس بشيء، وهو مخالف للإجماع، وقد حمل حديث جبريل على أن الشمس يومئذ زالت على قدر الشراك من الفيء.
ونقل ابن القاسم، عن مالك، أنه كان يستحب لمساجد الجماعات أن يؤخروا صلاة الظهر بعد الزوال حين يكون الفيء ذراعاً، صيفا وشتاءً،(4/254)
عملا بما رواه في " الموطإ " عن نافع، أن عمر كتب إلى عماله بذلك.
وقال سفيان الثوري: كان يستحب أن يمهل المؤذن بين أذانه وإقامته في الصيف مقدار أربعين آية، وفي الشتاء على النصف منها، ويمهل في العصر أربعين آية، وفي الشتاء على النصف منها، وفي المغرب إذا وجبت الشمس أذن، ثم قعد قعدة، ثم قام وأقام الصلاة. قال: ويمهل في العشاء الآخرة قدر ستين آية. وفي الفجر إذا طلع الفجر أذن، ثم صلى ركعتين، ثم سبح الله وذكره.
وهذا يدل على استجابة الإبراد بالعصر في الصيف.
وحكي مثله عن أشهب من المالكية.
وقد استحب كثير من السلف المشي إلى المساجد قبل الأذان، وكان الإمام أحمد يفعله في صلاة الفجر، والاثار في فضل المبادرة بالخروج إلى المساجد كثيرة.
وبقية الحديث، قد سبق الكلام عليه، بعضه في " كتاب العلم "، وبعضه في " الصلاة على التنور والنار ".
وعرض الحائط – يضم العين -: جانبه.
الحديث الثاني:
قال:(4/255)
541 - حدثنا حفص بن عمر: ثنا شعبة، عن أبي المنهال، عن أبي برزة، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الصبح وأحدنا يعرف جليسه، ويقرأ(4/255)
فيها ما بين الستين إلى المئة، ويصلي الظهر إذا زالت الشمس، والعصر وأحدنا يذهب إلى أقصى المدينة، ثم يرجع والشمس حية، ونسيت ما قال في المغرب، ولا يبالي بتأخر العشاء إلى ثلث الليل – ثم قال: إلى شطر الليل.
وقال معاذ: قال شعبة: ثم لقيته مرة، فقال: أو ثلث الليل.
الكلام على هذا الحديث يأتي مفرقاً في أبوابه، حيث أعاد البخاري تخريجه فيها.
والغرض منه هاهنا صلاة الظهر، وأنه كان يصليها إذا زالت الشمس، وهذا يدل على مداومته على ذلك، أو على كثرته وتكراره، وهذا هو الأغلب في استعمال: " كان فلان يفعل ". وإنما يقع ذلك لغير التكرار نادراً.
وهذا لا ينافي ما قدمنا أنه يتأهب لها بعد دخول الوقت، وبعد الأذان فيه، وصلاة ركعتين أو أربع.
وقد روي أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي الجمعة إذا زالت الشمس ومعلوم أنه كان يخطب قبل صلاته خطبتين، ثم يصلي، وهذا كله لا يمنع أن يقال: كان يصلي الظهر أو الجمعة إذا زالت الشمس.
وفي رواية لحديث أبي برزة – وقد خرجها البخاري فيما بعد -: كان يصلي الهجير التي تدعونها الاولى إذا دحضت الشمس.
وفي هذه الرواية: أن لصلاة الظهر اسمين آخرين:
أحدهما: الهجير؛ لأنها تصلى بالهاجرة.
والثاني: الأولى.
وقيل: سميت بذلك لأنها أول(4/256)
صلاة صلاها جبريل بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند البيت، في أول ما فرضت الصلوات الخمس ليلة الإسراء.
الحديث الثالث:
قال:(4/257)
542 - حدثنا محمد بن مقاتل: ثنا عبد الله: أبنا خالد بن عبد الرحمان: حدثني غالب القطان، عن بكر بن عبد الله المزني، عن أنس بن مالك، قال: كنا إذا صلينا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر.
قد سبق هذا الحديث في " باب: السجود على الثياب".
وفيه: دليل على أن صلاة الظهر كانت تصلى في حال شدة حر الحصى الذي يسجد عليه.
ويشهد لهذا المعنى: حديث خباب: شكونا إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حر الرمضاء، فلم يشكنا، وكله يدل على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبرد بالظهر إبراداً يسيراً حتى تنكسر شدة الحر، ولم يكن يؤخرها إلى آخر وقتها حتى يبرد الحصى.
وقد روي بمثل هذا الإسناد الذي خرجه البخاري ها هنا عن بكر، عن أنس، قال: كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شدة الحر فيأخذ أحدنا الحصى في يده، فإذا برد وضعه وسجد عليه.
ذكره البيهقي في كتاب " المعرفة " تعليقاً.(4/257)
والمعروف في هذا حديث جابرٍ، قال: كنت أصلي الظهر مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فآخذ قبضة من الحصى لتبرد في كفي، أضعها لجبهتي، أسجد عليها؛ لشدة الحر.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في " صحيحه" والحاكم.
وليس هذا مما ينهى عنه من مس الحصى في الصلاة، كما سيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى – فإن ذلك المنهي عنه مسه عبثا، وهذا لمصلحة المصلي.
وقال مالك: يكره أن ينقل التراب والحصى من موضع الظل إلى موضع الشمس ليسجد عليه.(4/258)
12 - باب
تأخير الظهر إلى العصر(4/259)
543 – حدثنا أبو النعمان: ثنا حماد بن زيد، عن عمرو - وهو: ابن دينار - عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
فقال أيوب: لعله في ليلة مطيرة؟ قال: عسى.
وخرجه مسلم من طريق حماد - أيضا -، ولم يذكر فيه قول أيوب.
وخرجه من طريق ابن عيينة، عن عمرو، ولفظ حديثه: صليت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمانيا جميعاً وسبعاً جميعاً. قلت: يا أبا الشعثاء، أظنه أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء. قال: وأنا أظن ذلك.
وخرجه البخاري - أيضا - في " أبواب: صلاة التطوع".
وخرجه النسائي عن قتيبة، عن سفيان، وأدرج تفسيره في الحديث.
قال ابن عبد البر: الصحيح: أن هذا ليس من الحديث، إنما هو من ظن أبي الشعثاء وعمرو بن دينار.(4/259)
ورواه محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، وزاد في حديثه: " من غير مرضٍ ولا علة".
خرجه من طريقه الطبراني.
ومحمد بن مسلم، ليس بذاك الحافظ.
وخرج النسائي من طريق حبيب بن أبي حبيب، عن عمرو بن هرم، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، أنه صلى بالبصرة الأولى والعصر، ليس بينهما شيء، والمغرب والعشاء، ليس بينهما شيء، [فعل ذلك من شغلٍ، وزعم ابن عباس، أنه صلى مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة الأولى والعصر ثمان سجدات، ليس بينهما شيء] .
وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من وجوه أخر، بألفاظ مختلفة، روي عنه من رواية سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: صلى لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر والعصر جميعاً بالمدينة، في غير خوفٍ ولا سفرٍ.
خرجه مسلم.
وخرجه أبو داود، وزاد: قال مالك: أرى ذلك كان في مطرٍ.
وخرجه مسلم – أيضا - من طريق زهير، عن أبي الزبير - بمثله، وزاد: قال ابن عباس: أراد أن لا يحرج أحداً من أمته.
وخرجه – أيضا - من طريق قرة، عن أبي الزبير، وذكر فيه: أن ذلك كان في سفرةٍ سافرها في غزوة تبوك، وذكر فيه قول ابن عباس: أراد(4/260)
أن لا يحرج أمته.
وخرج - أيضا - من طريق الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: جمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة، في غير خوف ولا مطر. قلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: كيلا يحرج أمته.
وقد اختلف على الأعمش في إسناد هذا الحديث، وفي لفظه - أيضا -:
فقال كثير من أصحاب الأعمش، عنه فيه: من غير خوف ولا مطر.
ومنهم من قال عنه: من غير خوف ولا ضررٍ.
ومنهم من قال: ولا عذرٍ.
وذكر البزار، أن لفظة " المطر" تفرد بها حبيبٌ، وغيرهُ لا يذكرها. قال: على أن عبد الكريم قد قال نحو ذلك.
وكذلك تكلم فيها ابن عبد البر.
وروينا من طريق عبد الحميد بن مهدي البالسي: حدثنا المعافي بن سليمان الجزري: ثنا محمد بن سلمة: ثنا أبو عبد الرحيم، عن(4/261)
زيد بن [أبي أنيسة، عن] أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: صليت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة من غير مطر ولا قر الظهر والعصر جمعاً. قلت له: لم فعل ذلك؟ قال ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته.
وعن زيد، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس – مثله.
ولكن؛ عبد الحميد هذا، قال فيه الحافظ عبد العزيز النخشبي: عنده مناكير.
وأمارواية عبد الله بن شقيق، فمن طريق الزبير بن الخريت، عن عبد الله بن شقيق، قال: خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة. قال فجاءه رجل من بني تميم، لايفتر ولا ينثني: الصلاة الصلاة. فقال ابن عباس: أتعلمني السنة لا أم لك؟ ثم قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة، فسألته فصدق مقالته.(4/262)
خرجه مسلم.
وخرجه - أيضا - من رواية عمران بن حدير، عن عبد لله بن شقيق، قال: قال رجل لابن عباس: الصلاة، فسكت، ثم قال: الصلاة، فسكت، ثم قال: الصلاة، فسكت، ثم قال: لا أم لك، تعلمنا الصلاة؟ ! كنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأمارواية عكرمة، فمن طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقيما غير مسافر سبعاً وثمانياً.
خرجه الإمام أحمد.
وفي رواية أشعث بن سوار - وفيه ضعف -، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: جمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة، من غير خوف ولا مطر، أراد التخفيف عن أمته.
وأمارواية عطاء بن يسار، فمن رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، من غير مرض ولا مطر. فقيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: التوسعة على أمته.
خرجه حرب الكرماني، عن يحيى الحماني، عن عبد الرحمان، به.
وعبد الرحمان، فيه ضعف.
وأمارواية صالح مولى التوأمة، فذكرها أبو داود تعليقاً. وفيها: من(4/263)
غير مطر.
وخرجها الإمام أحمد من طريق داود بن قيس، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس، قال: جمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، في غير مطر ولا سفر. قالوا: يا أبن عباس، ما أراد بذلك؟ قال: التوسع على الامة.
وصالح، مختلف في أمره، وفي سماعه من ابن عباس - أيضا.
وفي الباب أحاديث أخر، في أسانيدها مقال.
وخرج النسائي من رواية يحيى بن هانئ المرادي: حدثنا أبو حذيفة، عن عبد الملك بن محمد بن أبي بشير، عن عبد الرحمان بن علقمة، قال: قدم وفد ثقيف على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأهدوا له هدية، وقعد معهم يسألهم ويسألونه، حتى صلى الظهر مع العصر.
قال الدارقطني: عبد الملك وابو حذيفة مجهولان. وعبد الرحمان بن علقمة لا تصح صحبته ولا يعرف.
وقد اختلفت مسالك العلماء في حديث ابن عباس هذا، في الجمع من غير خوف ولا سفر، ولهم فيه مسالك متعددة:(4/264)
المسلك الاول: أنه منسوخ بالإجماع على خلافه، وقد حكى الترمذي في آخر " كتابه" أنه لم يقل به أحد من العلماء.
وهؤلاء لا يقولون: إن الإجماع ينسخ، كما يحكى عن بعضهم، وإنما يقولون: هو يدل على وجود نص ناسخ.
المسلك الثاني: معارضته بما يخالفه، وقد عارضه الإمام أحمد بأحاديث المواقيت، وقوله: " الوقت ما بين هذين"، وبحديث أبي ذر في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وأمره بالصلاة في الوقت، ولو كان الجمع جائزاً من غير عذر لم يحتج إلى ذلك، فإن أولئك الأمراء كانوا يجمعون لغير عذرٍ، ولم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل، ولا صلاة الليل إلى النهار.
وكذلك في حديث أبي قتادة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال لما ناموا عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس: " ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الاخرى".
خرجه مسلم.
وخرجه أبو داود، وعنده: " إنما التفريط في اليقظة أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقت صلاة اخرى".
وقد عارض بعضهم حديث ابن عباس هذا بحديث آخر يروى عنه، وقد أشار إلى هذه المعارضة الترمذي وابن شاهين، وهو من رواية حنش، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " من جمع بين(4/265)
صلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من ابواب الكبائر".
خرجه الترمذي.
وقال: حنش هذا هو أبو علي الرحبي، وهو حسين بن قيس، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه أحمد وغيره، والعمل على هذا عند أهل العلم.
يعني: على حديث حنش مع ضعفه.
وخرجه الحاكم وصححه، ووثق حنشا، وقال: هو قاعدة في الزجر عن الجمع بلا عذر.
ولم يوافق على تصحيحه.
وقال العقيلي: ليس لهذا الحديث أصل.
ورواه بعضهم، وشك في رفعه ووقفه.
كذلك خرجه الحارث بن أبي اسامة.
ولعله من قول ابن عباس.
وقد روي مثله عن عمر وأبي موسى:
وروي وكيع، عن سفيان، عن هشام، عن رجل، عن أبي العالية، عن عمر بن الخطاب، قال: الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر.
وعن أبي هلال الراسبي، عن حنظلة السدوسي، عن أبي موسى، قال: الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر.(4/266)
المسلك الثالث: حمله على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخر الظهر إلى آخر وقتها، فوقعت في آخر جزء من الوقت، وقدم العصر في أول وقتها، فصلاها في أول جزء من الوقت، فوقعت الصلاتان مجموعتين في الصورة، وفي المعنى كل صلاة وقعت في وقتها، وفعل هذا ليبين جواز تأخير الصلاة [إلى] آخر وقتها.
وقد روي من حديث معاذ بن جبل، أن جمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الصلاتين بتبوك كان على هذا الوجه - أيضا.
خرجه الطبراني في " أوسطه" بإسناد في ضعف.
وقد سبق عن عمرو بن دينار وأبي الشعثاء، أنهما حملا الحديث على هذا الوجه، كما خرجه مسلم، وأشار اليه الإمام أحمد وغيره.
وعلى مثل ذلك حمل الجمع بين الصلاتين في السفر بغير عرفة والمزدلفة من لا يرى الجمع في السفر، منهم: سفيان الثوري وغيره من الكوفيين.
والمسلك الرابع: أن ذلك كان جمعا بين الصلاتين لمطر، وهذا هو الذي حمله عليه ايوب السختياني كما في رواية البخاري، وهو الذي حمله عليه مالك - أيضا.
ومن ذهب إلى هذا المسلك فإنه يطعن في رواية من روى: " من غير خوف ولا مطر" كما قاله البزار وابن عبد البر وغيرهما.
ومن حمل الحديث على هذا فإنه يلزم من قوله جواز الجمع في الحضر للمطر بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وقد اختلف في ذلك:(4/267)
فأماالجمع بين العشاءين للمطر، فقد روي عن ابن عمر.
روى مالك، عن نافع، أن ابن عمر كان يجمع في الليلة المطيرة.
وقد رويناه من طريق سفيان بن بشير، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعاً -، ولا يصح رفعه.
وفيه حديث آخر مرفوع من رواية أولاد سعد القرظ، عن آبائهم، عن أجدادهم، عن سعد القرظ، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجمع بين المغرب والعشاء في المطر.
خرجه الطبراني.
وإسناده ضعيف.
قال يحيى في أولاد سعد القرظ: كلهم ليسوا بشيء.
وممن رأى الجمع للمطر: مالك في المشهور عنه، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.
وروي عن عمر بن عبد العزيز، عن فقهاء المدينة السبعة.
وعن مالك رواية: لا يجوز الجمع للمطر إلا في المدينة في مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لفضله، ولأنه ينتاب من بعد، فيجمع بينهما بعد مغيب الشفق، وليس بالمدينة غيره.
والمشهور عنه الأول.
وأصل هذا: أن الأمراء بالمدينة كانوا يجمعون في الليلة المطيرة، فيؤخرون المغرب ويجمعون بينها وبين العشاء قبل مغيب الشفق،(4/268)
وكان ابن عمر يجمع معهم، وقد علم شدة متابعة ابن عمر للسنة، فلو كان ذلك محدثا لم يوافقهم عليه البتة.
وقد نص على ان جمع المطر يكون على هذا الوجه المذكور قبل مغيب الشفق: مالك وأحمد وإسحاق.
وقيل لأحمد: فيجمع بينهما بعد مغيب الشفق؟ قال: لا، إلا قبل، كما فعل ابن عمر. وقال: يجمع إذا اختلط الظلام.
وأماالجمع بين الظهر والعصر في المطر، فالأكثرون على أنه غير جائز: وقال أحمد: ما سمعت فيه شيئاً. وأجازه الشافعي إذا كان المطر نازلاً، وبه قال أبو ثور، هو رواية عن أحمد.
والعجب من مالك - رحمه الله - كيف حمل حديث ابن عباس على الجمع للمطر، ولم يقل به في الظهر والعصر، والحديث صريح في جمع الظهر والعصر والمغرب والعشاء؟!
المسلك الخامس: أن الذي نقله ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كان في السفر لا في الحضر، كما في رواية قرة، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن ذلك كان في غزوة تبوك، وقد خرجه مسلم كما تقدم.
وكذلك روى عبد الكريم، عن مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس، أخبروه عن ابن عباس، أنه أخبرهم، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجمع بين المغرب والعشاء في السفر من غير أن يعجله شيء، ولا يطلبه عدو،(4/269)
ولا يخاف شيئا.
ولكن؛ عبد الكريم هذا، هو: أبو أمية، وهو ضعيف جداً.
وأكثر رواة حديث ابن عباس ذكروا أن جمعه كان بالمدينة، وهم أكثر وأحفظ.
والمسلك السادس: أن جمعه ذلك كان لمرض.
وقد روي عن الإمام أحمد، أنه قال: هذا عندي رخصة للمريض والمرضع.
وقد اختلف في جمع المريض بين الصلاتين:
فرخص فيه طائفة، منهم: عطاء والنخعي والليث وأحمد وإسحاق.
وكذلك جوزه مالك للمضطر في [رمضة] ، فإن جمع لغير ضرورة أعاد في الوقت عنده، وعند أبي حنيفة.
والشافعي لا يبيح من المرض الجمع بين الصلاتين بحالٍ.
واستدل من أباح الجمع للمريض، بأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المستحاضة أن تجمع بين الصلاتين بغسل واحد؛ لمشقة الغسل عليها لكل صلاة، وذلك ما روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حديث حمنة بنت جحش وعائشة وأسماء بنت عميس، وفي أسانيدها بعض شيء.
وأمر به: علي وابن عباس، وهو قول عطاء والنخعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق.(4/270)
والمسلك السابع: أن جمعه كان لشغل، وفي رواية حبيب بن أبي حبيب، عن عمرو بن هرم، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، أنه جمع من شغل، كما خرجه النسائي وقد سبق.
وكذلك في حديث عبد الرحمان بن علقمة، أن وفد ثقيف شغلوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرج النسائي من رواية سالم، عن ابن عمر، أنه لما استصرخ على امرأته صفية أسرع السير، وجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ?: " إذا حضر أحدكم أمراً يخشى فوته فيصلي هذه الصلاة".
وخرجه النسائي، وفي رواية له: "إذا حضر أحدكم الأمر الذي يخاف فواته، فليصل هذه الصلاة".
وقد نص أحمد على جواز الجمع بين الصلاتين للشغل.
قال القاضي وغيره من أصحابنا: مراده: الشغل الذي يباح معه ترك الجمعة والجماعة.
وفي ذلك نظر.
وعن ابن سيرين: لا بأس بالجمع بين الصلاتين للحاجة والشيء مالم يتخذ عادة.
المسلك الثامن: حمل الحديث على ظاهره، وأنه يجوز الجمع بين(4/271)
الصلاتين في الحضر لغير عذر بالكلية، وحكي ذلك عن ابن عباس وابن سيرين، وعن أشهب صاحب مالك.
وروى ابن وهب وغيره، عن مالك أن آخر وقت الظهر والعصر غروب الشمس.
قال ابن عبد البر: وهذا محمول عند أصحابه على أهل الضرورات كحائض تطهرت، ومغمى عليه يفيق.
وحكى – أيضا - عن طاوس: امتداد الظهر والعصر إلى غروب الشمس.
وعن عطاء: امتدادهما إلى أن تصفر الشمس.
وكذلك روي عن عطاء وطاوس أن وقت المغرب والعشاء لا يفوت حتى يطلع الفجر.
وحكي معنى ذلك عن ربيعة، وأن الوقتين مشتركان، وأن وقت الصلاتين يمتد إلى غروب الشمس.
وحكي عن أهل الحجاز جملة.
وعده الأوزاعي مما يجتنب من أقوالهم، فروى الحاكم، عن الأصم: أخبرنا العباس بن الوليد البيروتي: ثنا أبو عبد الله بن بحر، قال: سمعت الأوزاعي يقول: يجتنب من قول أهل العراق: شرب المسكر، والأكل عند الفجر في رمضان، ولا جمعة إلا في سبعة أمصار، وتأخير صلاة العصر حتى يكون ظل كل شيء أربعة امثاله، والفرار يوم الزحف. ومن قول أهل الحجاز: استماع الملاهي، والجمع بين الصلاتين من غير عذر، والمتعة بالنساء، والدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين، وإتيان النساء(4/272)
في أدبارهن.
قال الأثرم في " كتاب العلل": قلت لأبي عبد الله – يعني: أحمد – أي شيء تقول في حديث ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً، من غير خوف ولا سفر؟
فقال: ابن عباس كما ترى قد أثبت هذا - أو صححه -، وغيره يقول - ابن عمر ومعاذٌ وغير واحدٍ -، يقولون: إنه في السفر. فقلت: أيفعله الأنسان؟ فقال: إنما فعله لئلا يحرج أمته.
وذكر الأثرم نحوه في " كتاب مسائله لأحمد"، وزاد: قال أحمد: أليس قال ابن عباس: أن لا يحرج أمته، إن قدم رجل أو آخر - نحو هذا.
وهذا الذي زاده في " كتاب المسائل" يبين أن أحمد حمله على تأخير الصلاة الأولى إلى آخر وقتها، وتقديم الثانية إلى أول وقتها، كما حمله على ذلك أبو الشعثاء وعمرو بن دينار وغيرهما كما سبق. والله أعلم.
وقول ابن عباس: " من غير خوف ولا سفر"، يدل بمفهومه على جواز الجمع للخوف والسفر، فأماالجمع للسفر فيأتي الكلام فيه في موضعه - إن شاء الله تعالى -، وأماالجمع للخوف للحضر فظاهر حديث ابن عباس جوازهُ.
وقد اختلف العلماء في جواز تأخير الصلاة عن وقتها بالكلية، وإن لم تكن مما تجمع، كتأخير صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، والعصر حتى تغرب الشمس، إذا اشتد الخوف.
وفيه عن أحمد روايتان.(4/273)
فتأخير الصلاتين المحموعتين إلى وقت الثانية وتقديمها في أول وقت الأولى إذا احتيج إلى ذلك في الخوف أولى بالجواز، بل لاينبغي أن يكون في جوازه خلاف عند من يبيح الجمع للسفر والمرض والمطر، ونحو ذلك من الأعذار الخفيفة.
وعن أحمد روايتان في جواز الفطر في الحضر للقتال، ومن أصحابنا من طردهما في قصر الصلاة - أيضا.
وقد حكى ابو عبيد في " غريبه" عن عثمان بن عفان – رضي الله عنه - جواز قصر الصلاة في الحضر للخوف.
فالجمع أولى بالجواز. والله أعلم.(4/274)
13 - باب
وقت العصر
خرج فيه عن عائشة، وأبي برزة، وأنس:
فحديث عائشة: خرجه من طرق مسندات تعليقاً، فقال:
وقال أبو أسامة، عن هشام: في قعر حجرتها.
وفي بعض النسخ ذكر هذا بعد ان اسنده من حديث أبي ضمرة، وهو أحسن وقال:(4/275)
544 - نا إبراهيم بن المنذر، قال: نا أنس بن عياض، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر والشمس لم تخرج من حجرتها.(4/275)
545 - ثنا قتيبة: ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى العصر والشمس في حجرتها، لم يظهر الفيء من حجرتها.(4/275)
546 - ثنا ابو نعيم: نا ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة،(4/275)
عن عائشة، قالت: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي صلاة العصر والشمس طالعة في حجرتي، لم يظهر الفيء بعد.
قال ابو عبد الله: وقال مالك، ويحيى بن سعيد، وشعيب، وابن أبي حفصة: والشمس قبل أن تظهر.
حديث مالك هذا الذي اشار اليه، قد خرجه في أول " كتاب: المواقيت" في ضمن حديث أبي مسعود الأنصاري، من طريق مالك، عن الزهري، ولفظه: قال عروة: ولقد حدثتني عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي العصر والشمس في حجرتها، قبل أن تظهر.
وكان مقصود عروة: الاحتجاج على عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - حيث أخر العصر يوماً شيئاً، فأخبره عروة بهذا الحديث، مستدلاً به على ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعجل العصر في اول وقتها.
ووجهة الدلالة من الحديث على تعجيل العصر: أن الحجرة الضيقة القصيرة الجدران يسرع ارتفاع الشمس منها، ولا تكون الشمس فيها موجودة، إلا والشمس مرتفعة في الافق جداً.
وفسر الهروي وغيره: ظهور الشمس من الحجرة بعلوها على السطح، فيكون الظهور العلو، ومنه: قوله تعالى: {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف:33] ، وقوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ(4/276)
يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97] ، وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق".
وقد ذكر ابن عبد البر في معنى ظهور الشمس من الحجرة في هذا الحديث قولين: أحدهما: العلو كما تقدم. والثاني: أن معناه خروج الشمس من قاعة الحجرة. قال: وكل شيء خرج فقد ظهر.
قلت: ورواية أبي ضمرة أنس بن عياض، عن هشام التي خرجها البخاري ها هنا تدل على هذه؛ لأنه قال في روايته: " والشمس لم تخرج من حجرتها " وفي رواية الليث وغيره: " لم يظهر الفيء من حجرتها ".
والفيء: هو الظل بعد الزوال بذهاب الشمس منه، والمعنى: أن الفيء لم يعم جميع حجرتها، بل الشمس باقية في بعضها.
وعلى هذه الرواية، فيكون معنى ظهور الفيء من الحجرة: وجوده وبيانه ووضوحه.
وفسر - أيضا - ظهوره: بعلوه لجدر الحجرة.
وفسر محمد بن يحيى الهمداني في " صحيحه" ظهور الفيء بغلبته على الشمس. قال: والمعنى: لم يكن الفيء أكثر من الشمس حين صلى العصر، كما يقال: ظهر فلان على فلان إذا غلب عليه.(4/277)
وفي بعض روايات ابن عيينة لهذا الحديث زيادة: " بيضاء نقية".
وأمارواية أبي أسامة، عن هشام التي ذكرها البخاري - تعليقا -: " والشمس في قعر حجرتها"، فهذه الرواية تدل على أن الشمس كانت موجودة في وسط الحجرة وأرضها، لم تظهر على جدران الحجرة.
وهذه الرواية تدل على شدة تعجيل العصر أكثر من غيرها من الروايات، فإن بقية الروايات إنما تدل على بقاء الشمس في الحجرة لم تخرج منها، فيحتمل ان تكون موجودة على حيطان الحجرة قد قاربت الخروج.
ورواية أبي أسامة تدل على ان الشمس كانت موجودة في أرض الحجرة.
وقد خرجه الإسماعيلي في " صحيحه" والبيهقي من حديث أبي أسامة، عن هشام، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر والشمس في قعر حجرتي.
وخرجه البيهقي - أيضا - من طريق أبي معاوية: نا هشام - فذكره، وقال: " والشمس بيضاء في قعر حجرتي طالعة".
وحكى عن الشافعي، أنه قال: هذا من أبين ما روي في أول الوقت؛ لأن حجر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في موضع منخفض من المدينة، وليست بالواسعة، وذلك أقرب لها من أن ترتفع الشمس منها في اول وقت العصر.(4/278)
وحديث أبي برزة:
قال:(4/279)
547 - حدثنا محمد بن مقاتل: أبنا عبد الله: أبنا عوف، عن سيار بن سلامة، قال: دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي، فقال له أبي: كيف كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي المكتوبة؟ فقال: كان يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس، ويصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية - ونسيت ما قال في المغرب -، وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، ويقرأ بالستين إلى المائة.
المقصود من هذا الحديث في هذا الباب: قول أبي برزة: " كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية".
وقد سبق الحديث من رواية شعبة، عن أبي المنهال، وفيه: " ويصلي العصر وأحدنا يذهب إلى اقصى المدينة، ثم يرجع والشمس حية"، وذكر في حديثه: زيادة الرجوع.
وقوله: " والشمس حية" فسر خيثمة حياتها بأن تجد حرها.
خرجه البيهقي.(4/279)
وقيل: حياتها: بقاء لونها.
وقيل: بقاء حرها ولونها -: قاله الخطأبي وغيره.
وحديث أنس:
خرج له ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:(4/280)
548 - حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، قال: كنا نصلي العصر، ثم يخرج الأنسان إلى بني عمرو بن عوف، فنجدهم يصلون العصر.
وكذا خرجه مسلم، عن يحيى بن يحيى، عن مالك، به. وكذا هو في " الموطإ ".
ورواه ابن المبارك وعتيق بن يعقوب، عن مالك، عن إسحاق، عن أنس، قال: كنا نصلي العصر مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرا الحديث، وصرحا برفعه.
والرواية المشهورة عن مالك في معنى المرفوع؛ لأن أنسا إنما أخرجه في مخرج الاستدلال به على تعجيل العصر.
وبنو عمرو بن عوف على ثلثي فرسخ من المدينة، وروي ذلك في حديث عن عروة بن الزبير.(4/280)
وفي الحديث: دليل على جواز تأخير العصر، ما لم يدخل وقت الكراهة؛ فإن الصحابة فيهم من كان يؤخرها عن صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عهده، والظاهر: أنه كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلم ذلك، ويقر عليه.
وروى ربعي بن حراش، عن أبي الأبيض، عن أنس، قال: كنت أصلي مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر والشمس بيضاء محلقة، ثم آتي عشيرتي وهم جلوس، فأقول: ما مجلسكم؟ صلوا؛ فقد صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه الإمام أحمد.
وخرج النسائي إلى قوله: " محلقة".
وخرجه الدارقطني بتمامه، وزاد فيه: وهم في ناحية المدينة.
وأبو الأبيض هذا، قال الإمام أحمد: لا أعرفه، ولا أعلم روى عنه الا ربعي بن حراش.
الحديث الثاني:(4/281)
549 - حدثنا ابن مقاتل: أبنا عبد الله: أبنا أبو بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف، قال: سمعت أبا أمامة يقول: صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر، ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك، فوجدناه يصلي العصر، فقلت: ياعم، ما هذه الصلاة التي صليت؟(4/281)
قال: العصر، وهذه صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ? التي كنا نصلي معه.
أبو أمامة، هو: ابن سهل بن حنيف.
وصلاة عمر بن عبد العزيز هذه كانت بالمدينة، حيث كان أميراً من قبل الوليد، وقد تقدم أنه حينئذ لم يكن عنده علم من مواقيت الصلاة المسنونة، فكان يجري على عادة أهل بيته وعموم الناس معهم في تأخير الصلاة أحياناً، فلما بلغته السنة اجتهد حينئذ على العمل بها، ولكنه لم يعمل القيام بها على وجهها إلا في أيام خلافته، فإنه بالغ حينئذ في إقامة الحق على وجهه، ولم يترخص في شيء مما يقدر عليه، ولا أخذته في الله لومة لائم - رضي الله عنه.
[الحديث الثالث] :(4/282)
550 - حدثنا أبو اليمان: أبنا شعيب، عن الزهري: حدثني أنس بن مالك، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالي، فيأتيهم والشمس مرتفعة.
وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه.(4/282)
551 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك، قال: كنا نصلي العصر، ثم يذهب الذاهب إلى قباء،(4/282)
فيأتيهم والشمس مرتفعة.
إنما خرجه من هذين الوجهين، ليبين مخالفته لأصحاب الزهري في هذا الحديث.
وقد خالفهم فيه من وجهين:
أحدهما: أنه لم يذكر فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذكره أصحاب الزهري، كما خرجه البخاري هنا من رواية شعيب.
وخرجه في أواخر " كتابه" من رواية صالح بن كيسان، ثم قال: زاد الليث، عن يونس: " وبعد العوالي أربعة أميال أو ثلاثة".
وخرجه مسلم من رواية الليث وعمرو بن الحارث - كلاهما -، عن الزهري، به.
ورواه أبو صالح، عن الليث، عن يونس، عن الزهري.
وما ذكره البخاري في رواية شعيب من قوله: " وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه"، فهو من قول الزهري، أدرج في الحديث.
قال البيهقي: وقد بين ذلك معمر، عنه.
ثم خرجه من طريق معمر عنه، وقال في آخر حديثه: قال الزهري: والعوالي من المدينة على ميلين وثلاثة - أو حسبه قال: وأربعة.
والوجه الثاني: أن مالكا قال في روايته: " ثم يذهب الذاهب إلى قباء"، كذا رواه أصحابه عنه، وكذا هو في " الموطا ".
وخالفه سائر(4/283)
أصحاب الزهري، فقالوا: " إلى العوالي".
وقد رواه خالد بن مخلد، عن مالك، فقال فيه: " العوالي"، وليس هو بمحفوظ عن مالك.
قال النسائي: لم يتابع مالكاً احد على قوله في هذا الحديث: " إلى قباء " والمعروف: " إلى العوالي".
وقال ابن عبد البر: رواه جماعة أصحاب الزهري عنه، فقالوا: " إلى العوالي"، وهو الصواب عند أهل الحديث. قال: وقول مالك: " إلى قباء " وهم لا شك فيه عندهم، ولم يتابعه أحد عليه.
وكذا ذكر أبو بكر الخطيب وغيره.
قلت: قد رواه الشافعي في القديم: أنا [أبو] صفوان ابن سعيد بن عبد الملك ابن مروان، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أنس، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر، ثم يذهب الذاهب إلى قباء فيأتيها والشمس مرتفعة.(4/284)
ورواه عن ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، وقال: " إلى العوالي".
وكذا رواه الواقدي، عن معمر، عن الزهري. وهذا لا يلتفت إليه.
قال ابن عبد البر: إلا أن المعنى في ذلك متقارب على سعة الوقت؛ لأن العوالي مختلفة المسافة، فأقربها إلى المدينة ما كان على ميلين أو ثلاثة، ومثل هذا هي المسافة بين قباء وبين المدينة، وقباء من بني عمرو بن عوف، وقد نص على بني عمرو بن عوف في [حديث أنس] هذا إسحاق بن أبي طلحة.
يشير إلى حديثه المتقدم، وخرجه من طريق إبراهيم بن أبي عبلة، عن الزهري، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال فيه: " والعوالي من المدينة على عشرة أميال"، وكان الزهري ذكر في هذه الرواية أبعد ما بين العوالي والمدينة، كما ذكر في الرواية المتقدمة أقرب ما بينها وبين المدينة.
وفي الباب حديث آخر: خرجه البخاري في " القسمة"، فقال: نا محمد ابن يوسف: نا الأوزاعي: نا أبو النجاشي، قال: سمعت رافع بن خديج [قال] : كنا نصلي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر، فننحر جزرواً، فتقسم عشر قسم، فناكل لحماً نضيجاً قبل ان تغرب الشمس.(4/285)
قال الدارقطني: ابو النجاشي، اسمه: عطاء بن صهيب، ثقة مشهور، صحب رافع بين خديج ست سنين.
والكلام هاهنا في مسألتين:
احداهما:
في حد وقت العصر: اوله واخره:
فأمااوله: فحكى ابن المنذر فيه اقوالا، فقال:
اختلفوا في اول وقت العصر: فكان مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وابو ثور يقولون: وقت الظهر إذا صار ظل كل شيء مثله.
واختلفوا بعد، فقال بعضهم: اخر وقت الظهر اول وقت العصر، فلو ان رجلين صلى احدهما الظهر والاخر العصر حين صار ظل كل شيء مثله لكانا مصليين الصلاتين في وقتها، قال بهذا إسحاق، وذكر ذلك عن ابن المبارك.
وأماالشافعي فكان يقول: اول وقت العصر إذا جاوز ظل كل شيء مثله ما كان، وذلك حين ينفصل من اخر وقت الظهر.
قلت: هذا هو المعروف في مذهب أحمد وأصحابه، وحكى بعض المتأخرين رواية عنه كقول ابن المبارك وإسحاق، وهي غير معروفة.
قال ابن المنذر: وحكي عن ربيعة قول ثالث، وهو: ان وقت الظهر والعصر إذا زالت الشمس.
وفيه قول رابع، وهو: ان وقت العصر ان يصير(4/286)
الظل قائمتين بعد الزوال، ومن صلاها قبل ذلك لم تجزئه، وهذا قول النعمان - يعني: ابا حنيفة.
وحكى ابن عبد البر، عن مالك مثل قول ابن المبارك وإسحاق، وعن الثوري والحسن بن صالح وأبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبي ثور مثل قول الشافعي، وعن أبي حنيفة: آخر وقت الظهر إذا صار ظل كل شيء مثليه.
قال: فخالف القياس في ذلك، وخالفه أصحابه فيه.
وذكر الطحاوي رواية اخرى عن أبي حنيفة، أنه قال: آخر وقت الظهر حين يصير ظل كل شيء مثله، كقول الجماعة. ولا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه، فترك بين الظهر والعصر وقتا مفرداً لا يصلح لاحدهما.
قال: وهذا لم يتابع عليه - أيضا.
وحكى ابن عبد البر، عن أبي ثور والمزني مثل قول ابن المبارك ومن تابعه، بالاشترك بين الوقتين إذا صار ظل كل شيء مثليه بقدر اربع ركعات، فمن صلى في ذلك الوقت الظهر والعصر كان مؤديا لها.
وحكي عن عطاء وطاوس، ان ما بعد مصير ظل كل شيء مثله وقت الظهر والعصر معاً، قال طاوس: إلى غروب الشمس، وقال عطاء:(4/287)
إلى اصفرارها، وقد سبق ذكر قولها، وانه حكى رواية عن مالك.
وقد نص الشافعي على ان وقت العصر لا يدخل حتى يزيد ظل الشيء على مثله، وكذلك قاله الخرقي من أصحابنا.
واختلف أصحاب الشافعي في معنى قوله: "بالزيادة".
فمنهم من قال: هي لبيان انتهاء الظل إلى المثل، والا فالوقت قد دخل قبل حصول الزيادة بمجرد حصول المثل، فعلى هذا تكون الزيادة من وقت العصر.
ومنهم من قال: انها من وقت الظهر، وانما يدخل العصر عقبها، وقيل: انه ظاهر كلام الشافعي والعراقيين من أصحابه.
ومنهم من قال: ليست الزيادة من وقت الظر ولا من وقت العصر، بل هي فاصل بين الوقتين. وهو اضعف الاقوال لهم.
وأماالمنقول عن السلف، فاكثرهم حدده بقدر سير الراكب فرسخاً أو فرسخين قبل غروب الشمس.
فروى مالك، عن نافع، أن عمر كتب إلى عماله: صلوا الظهر إذا كان الفيء ذراعاً، الا ان يكون ظل أحدكم مثله، والعصر والشمس بيضاء نقية، قدر ما يسير الراكب فرسخين أو ثلاثة، قبل غروب الشمس.
ورواه غيره: عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر.(4/288)
وروى ابو نعيم الفضل بن دركين: نا سعد بن أوس، عن بلال العبسي، ان عمر كتب إلى سعد: صل العصر وانت تسير لها ميلين او ثلاثة.
نا يزيد بن مردانبه، قال: سالت أنس بن مالك عن وقت العصر، فقال: إذا صليت العصر ثم سرت ستة اميال حتى إلى غروب الشمس فذلك وقتها.
نا ابن عيينة، عن أبي سنان، عن سعيد بن جبير، قال: تصلي العصر قدر ما تسير البعير المحملة فرسخين.
نا ابن عيينة، عن أبي سنان، عن عبد الله بن أبي الهذيل، قال: فرسخ.
وأمااخر وقت العصر، ففيه اقوال:
أحدهما: أنه غروب الشمس، روي ذلك عن ابن عباس وعكرمة وأبي جعفر محمد بن علي.
والثاني: إلى مصير ظل كل شيء مثليه، روي عن أبي هريرة، وهو قول الشافعي، وأحمد في رواية.
والثالث: حتى تصفر الشمس، روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو قول الاوزعي، وأحمد في(4/289)
رواية، وأبي يوسف، ومحمد.
وفيه حديث، عن عبد الله بن عمرو، اختلف في رفعه ووقفه، وقد خرجه مسلم في "صحيحه" مرفوعاً.
واكثر من قال بهذا القول والذي قبله، قالوا: لا يخرج وقت العصر بالكلية باصفرار الشمس ولا بمصير ظل كل شيء مثليه، انما يخرج وقت الاختيار، ويبقى ما بعده وقت ضرورة.
وهل يكون التأخير اليه لغير ذوي الاعذار محرما، او مكروهاً كراهة تنزيه؟ فيه وجهان لأصحابنا.
وقال الاصطخري من الشافعية: يخرج وقت العصر بالكلية حتى يصير ظل الشيء مثليه، ويصير بعد ذلك قضاء، ولم يوافقه على ذلك احد.
والمشهور عند الشافعية: انه بعد مصير ظل كل شيء مثليه إلى اصفرار الشمس يجوز التأخير اليه بلا كراهة، ولكن يفوت وقت الفضيلة والاختيار، وقالوا: يفوت وقت الفضيلة بمصير ظل الشيء مثله ونصف مثله، ووقت الاختيار بمصير ظل الشيء مثليه، ووقت الجواز يمتد إلى اصفرار الشمس، ومن وقت الاصفرار إلى ان تغرب الشمس وقت كراهة لغير ذوي الاعذار.
وحكى ابن عبد البر عن مالك وغيره من العلماء: ان من صلى العصر قبل اصفرار الشمس فقد صلاها في وقتها المختار، وحكاه اجماعاً، وحكاه عن الثوري وغيره.
قال: وهذا يدل على ان(4/290)
اعتبار المثلين انما هو للاستحباب فقط.
وحكى عن أبي حنيفة: ان وقت الاختيار بمتد إلى اصفرار الشمس.
وحكى عن إسحاق وداود: اخر وقت العصر ان يدرك المصلي منها ركعة قبل الغروب، وسواء المعذور وغيره.
وسيأتي القول في ذلك فيما بعد - ان شاء الله سبحانه وتعالى.
وحكى الترمذي في "جامعه" عن أبي بكرة انه نام عن صلاة العصر، فاستيقط عند الغروب، فلم يصل حتى غربت الشمس.
وهذا قد ينبني على ان وقت العصر يخرج بالكلية باصفرار الشمس، فتصير قضاء، والفوائت لا تقضي في اوقات النهي عند قوم من اهل العلم.
ونهى عمر بن الخطاب من فاته شيء من العصر ان يطول فيما يقضيه منها، حشية ان تدركه صفرة الشمس قبل ان يفرغ من صلاته.
والمسألة الثانية:
هل الافضل تعجيل العصر في اول وقتها، او تأخيرها؟ فيه قولان:
احدهما - وهو قول الحجازيين وفقهاء الحديث -: ان تعجيلها في اول وقتها افضل، وهو قول الليث، والاوزاعي، وابن مبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وقول اهل المدينة: مالك وغيره.
ولكن مالك(4/291)
يستحب لمساجد الجماعات ان يوخروا العصر بعد دخول وقتها قليلاً؛ وليتلاحق الناس إلى الجماعة.
وقد تقدم انكار عروة على عمر بن عبد العزيز تأخيره العصر شيئا، وانكار أبي مسعود الانصاري على المغيرة تأخير العصر شياً.
والاحاديث التي خرجها البخاري في هذا الباب كلها تدل على استحباب تعجيل العصر وتقديمها في اول وقتها.
والقول الثاني: ان تأخير إلى اخر وقتها ما لم تصفر الشمس افضل، وهو قول اهل العراق، منهم: النخعي، والثوري، وابو حنيفة.
قال النخعي: كان من قبلكم اشد تأخير للعصر منكم، وكان ابراهيم يعصر العصر - أي: يضيقها إلى اخر وقتها.
وقال ابو قلابة وابن شبرمة: انما سميت العصر لتعصر.
وقد روي هذا القول عن علي، وابن مسعود وغيرهما، وفيه احاديث مرفوعة، كلها غير قوية.
قال العقيلي: الرواية في تأخير العصر فيها لين.
وذكر الدارقطني انه لا يصح منها شيء يقاوم احاديث التعجيل؛ فانها احاديث كثيرة، واسانيدها صحيحة من اصح الاسانيد واثبتها. وقال: احاديث تأخير العصر لم يثبت، وانما وجهها - ان كانت محفوظة -: ان يكون ذلك على غير تعمد، ولكن للعذر والأمر يكون.(4/292)
14 - باب
إثم من فاتته العصر(4/293)
522 - حدثنا عبد الله بن يوسف: انا مالك عن، نافع، عن عبد الله بن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله)) .
قال أبو عبد الله: ? {يَتِرَكُمْ} [محمد:35] : وترت الرجل، إذا قتلت له قتيلاً، وأخذت ماله.
فوات صلاة العصر: أريد به: فواتها في وقتها كله، كذا فسره ابن عبد البر وغيره.
وقد فسره الاوزاعي: بفوات وقت الاختيار، بعد أن روى هذا الحديث عن نافع، قال الأوزاعي: وذلك أن ترى ما على الأرض من الشمس مصفراً.
خرجه أبو داود في " سننه" ومحمد بن يحيى الهمداني في " صحيحه".
وقد أدرج بعضهم هذا في الحديث:(4/293)
قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه الوليد، عن الأوزاعي، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من فاتته صلاة العصر - وفواتها: أن تدخل الشمس صفرةٌ - فكأنما وتر أهله وماله)) ؟ فقال أبي: التفسير من قول نافع. انتهى.
وقد تبين أنه من قول الأوزاعي كما سبق.
وقد رويت هذه اللفظة من حديث حجاج والأوزاعي، عن الزهري، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ?.
وروى هذا الحديث الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه من طريقه مسلم.
ورواه حفص بن غيلان، عن سالم، وزاد فيه: " في جماعة".
وهذه - أيضا - مدرجة، وكأنها في تفسير بعض الرواة، فسر فواتها المراد في الحديث بفوات الجماعة لها، وإن صلاها في وقتها، وفي هذا نظر.
وعلى تفسير الأوزاعي يكون المراد: تأخيرها إلى وقت الكراهة، وإن صلاها في وقتها المكروه.
وعلى مثل ذلك يحمل ما رواه مالك في " الموطأ" عن يحيى بن سعيد، أنه قال: إن الرجل ليصلي الصلاة وما قاتته، ولما فاتته من وقتها أعظم - أو أفضل - من أهله وماله.
وقد رواه الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن يعلى بن مسلم،(4/294)
عن طلق بن حبيب، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً.
ورواه جعفر بن عون، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن المنكدر، عن يعلى، عن طلق، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ورواه حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن المنكدر، عن طلق بن حبيب، قال: كان يقال - فذكره، ولم يذكر: النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه محمد بن نصر المروزي من هذه الوجوه كلها.
وقد روي موصولاً من وجوه أخر:
فروى وكيع في " كتابه" عن شعبة عن سعد بن إبراهيم، عن الزهري، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الرجل ليدرك الصلاة، وما فاته من وقتها خير له من أهله وماله".
ورواه نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، عن شعبة، به.
والزهري لم يسمع من ابن عمر عند جماعة، وقيل: سمع منه حديثاً أو حديثين.
ورواه هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن الوليد بن عبد الرحمن(4/295)
القرشي، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنحوه.
خرجه محمد بن نصر المروزي.
والوليد هذا، لا أعرفه، إلا أن يكون الجرشي الحمصي، فإنه ثقة معروف.
وروى إبراهيم بن الفضل المدني، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إن أحدكم ليصلي الصلاة لوقتها، وقد ترك من الوقت الأول ما هو خير له من اهله وماله)) .
خرجه الدارقطني.
وإبراهيم هذا، ضعيف جداً.
ورواه - أيضا - يعقوب بن الوليد المدني، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه.
ويعقوب هذا، منسوب إلى الكذب.
قال ابن عبد البر في " الاستذكار": وقد روي هذا الحديث من وجوه ضعيفة. وزعم في " التمهيد" أن حديث أبي هريرة هذا حسن، وليس كما قال.
قال ابن عبد البر: كان مالك - فيما حكى عنه ابن القاسم - لا يعجبه قول يحيى بن سعيد هذا - يعني: الذي حكاه عنه في " الموطا".
وذكر ابن(4/296)
عبد البر أن سبب كراهة مالك لذلك - والله اعلم - أن وقت الصلاة كله يجوز الصلاة فيه، كما قال: " ما بين هذين وقت"، ولم يقل: أوله أفضل. والذي يصح عندي في ذلك: أن مالكا إنما أنكر قول يحيى بن سعيد؛ لأنه إنما صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال ذلك فيمن فاتته العصر بالكلية حتى غربت الشمس، فكأن مالكا لم ير أن بين اول الوقت ووسطه وآخره من الفضل ما يبلغ ذهاب الأهل والمال؛ لأن ذلك إنما هو في ذهاب الوقت كله.
وفي هذا الحديث: أن ذهاب بعض الوقت كذهاب الوقت كله، وهذا لا يقوله أحد من العلماء، لا من فضل اول الوقت على آخره، ولا من سوى بينهما؛ لأن فوت بعض الوقت مباح، وفوت الوقت كله لا يجوز، وفاعله عاص لله إذا تعمد ذلك، وليس كذلك من صلى في وسط الوقت وآخره، وان كان من صلى في [أول] وقته أفضل منه. انتهى.
وقد تقدم أن الأوزاعي حمله على من فوت وقت الاختيار، وصلى في وقت الضرورة، وهو يدل على انه يرى ان التأخير إليه محرم، كما هو أحد الوجهين لأصحابنا، وهو قول ابن وهب وغيره.
ومنهم من حمله على من فوتها حتى غربت الشمس بالكلية.(4/297)
وظاهر تبويب البخاري يدل على ان الحديث محمول على من فوت العصر عمداً لتبويبه عليه: " باب: إثم من فاتته العصر".
فأمامن نام عنها أو نسيها فإن كفارته أن يصليها إذا ذكرها، وإذا كان ذلك كفارة له فكأنه قد أدرك بذلك فضلها في وقتها.
وفي هذا نظر، ولا يلزم من الإتيان بالكفارة إدراك فضل ما فاته من العمل، وفي الحديث: " من ترك الجمعة فليتصدق بدينار، أو بنصف دينار"، ولا يلزم من ذلك ان يلحق فضل من شهد الجمعة.
ولهذا المعنى يقول مالك والأوزاعي وغيرهما فيمن صلى في الوقت صلاة فيها بعض نقص: إنها تعاد في الوقت، ولا تعاد بعده؛ لأن نقص فوات الوقت أشد من ذلك النقص المستدرك بالإعادة بعده، فلا يقوم الإتيان به خارج الوقت مقام الإتيان به في الوقت، بل الإتيان في الوقت بالصلاة على وجه فيه نقص أكمل من الإتيان بالصلاة كاملة في غير الوقت.
ويدل على ما قاله البخاري: ما خرجه الإمام أحمد من رواية حجاج بن أرطاة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " الذي تفوته صلاة العصر متعمداً حتى تغرب الشمس فكأنما وتر أهله وماله".
ويدل عليه - أيضا - حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "(4/298)
من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فلم تفته".
خرجه الإمام أحمد من رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ورواه ابو غسان وهشام بن سعد، عن زيد بن اسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعناه.
وقد روي ما يدل على أن الناسي لا تكون الصلاة فائتة له كالنائم:
فروى الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة الأنصاري - فذكر قصة نومهم مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس -، وفيه: قال: فقلت: يا رسول الله، هلكنا، فاتتنا الصلاة، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لم تهلكوا ولم تفتكم الصلاة، وإنما تفوت اليقطان ولا تفوت النائم)) - وذكر الحديث.
وقد حمل بعض السلف هذا الحديث على من فاتته العصر بكل حال، وإن كان ناسياً.
فروى زهير بن معاوية: نا أسيد بن شبرمة الحارثي، قال: سمعت سالما يحدث عن عبد الله بن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله)) قال: فقلت: وإن نسي؟ قال: وإن نسي، فصلاة ينساها أشد عليه من ذهاب أهله وماله.(4/299)
خرجه الدارقطني في أول كتابه " المختلف والمؤتلف".
وذكر أن أسيد بن شبرمة، يقال: فيه " أسيد " - أيضا - بالضم، قال: ولا اعرف له غير هذا الحديث، وحديث آخر رواه عن الزهري.
وقوله: " وتر أهله وماله ".
قيل: معناه: حرب أهله وماله وسلبهما، من وترت فلاناً إذا قتلت حميمه، والوتر: الحقد، بكسر الواو، ولا يجوز فتحها، وذلك أبلغ من ذهاب الأهل والمال على غير هذا الوجه، لأن الموتور يهم بذهاب ما ذهب منه ويطلب ثأره حتى يأخذ به.
وقيل: معناه: أفرد عن أهله وماله، من الوتر - بكسر الواو وفتحها -، وهو الفرد - أي: صار هو فرداً عن أهله وماله.
وعلى هذا والذي قبله، فالمعنى: ذهاب جميع أهله وماله.
وقيل: معناه: قلل ونقص، ومنه: قوله تعالى: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] .
و ((أهله وماله)) : روايتهما بنصب اللام، على أنه مفعول ثان لـ" وتر "؛ لأن ((وتر)) و ((نقص)) يتعديان إلى مفعولين، ولو روي بضم اللام على المفعول الأول لم يكن لحنا، غير أن المحفوظ في الرواية الأول -: قاله الحافظ أبو موسى المديني.
وقال أبو الفرج ابن الجوزي في " كشف المشكل": في إعراب الأهل(4/300)
والمال، قولان:
أحدهما: نصبهما، وهو الذي سمعناه وضبطناه على أشياخنا في كتاب أبي عبيد وغيره، ويكون المعنى: فكأنما وتر في أهله وماله، فلما حذف الخافض انتصب.
والثاني: رفعهما على من لم يسم فاعله، والمعنى: نقصنا.
وكأنه يشير إلى أن النصب والرفع يبنى على الاختلاف في معنى " وتر": هل هو بمعنى: سلب، أو بمعنى: نقص؟ والله اعلم.
وفي الحديث: دليل على تعظيم قدر صلاة العصر عند الله عز وجل وموقعها من الدين، وأن الذي تفوته قد فجع بدينه وبما ذهب منه، كما يفجع من ذهب أهله وماله.
وهذا مما يستدل به على أن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى المأمور بالمحافظة عليها خصوصاً بعد الأمر بالمحافظة على الصلوات عموماً.
وقد زعم بعض العلماء: أن هذا لا يختص بفوات العصر، وأن سائر الصلوات فواتها كفوات العصر في ذلك، وأن تخصيص العصر بالذكر إنما كان بسؤال سائل سأل عنه فأجيب، ورجحه ابن عبد البر، وفيه نظر.
وقد يستدل له بما خرجه الإمام أحمد وغيره من حديث عمرو بن(4/301)
شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " من ترك الصلاة سكراً مرةً واحدة فكأنما كانت له الدنيا وما عليها، فسلبها".
واستدل من قال: إن جميع الصلوات كصلاة العصر في ذلك بما روى ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن نوفل بن معاوية الديلي، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من فاتته الصلاة فكأنما وتر اهله وماله".
قال: وهذا يعم جميع الصلوات، فإن الاسم المعرف بالألف واللام كما في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] .
وهذا ليس بمتعين؛ لجواز أن يكون الألف واللام هنا للعهد، كما في قوله تعالى {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة:106] على تأويل من فسرها بصلاة العصر.
وحديث نوفل بن معاوية قد اختلف في إسناده ومتنه، وقد خرجه البخاري ومسلم في " الصحيحين" في ضمن حديث آخر تبعا لغيره مخرجاً من حديث صالح بن كيسان، عن الزهري، عن(4/302)
ابن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم" - الحديث.
وعن الزهري: حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن عبد الرحمن بن مطيع بن الأسود، عن نوفل بن معاوية، مثل حديث أبي هريرة، إلا أن أبا بكر يزيد: " من الصلاة صلاةٌ من فاتته فكأنما وتر أهله وماله". كذا خرجه البخاري في " علامات النبوة" من " صحيحه"، وخرجه مسلم في " كتاب الفتن".
وكذا رواه عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري بهذا الإسناد لحديث نوفل.
ورواه ابن أبي ذئب، عن الزهري، فأسقط من إسناده: عبد الرحمن بن مطيع.
وكذلك روي عن معن، عن مالك، عن الزهري.
قال النسائي: أخاف أن لا يكون محفوظاً، عن مالك، ولعله: معن، عن ابن أبي ذئب.
وقد روي، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن نوفل، وهو وهم على ابن أبي ذئب.(4/303)
وأماالاختلاف في متن الحديث، فقد روي عن [ابن] أبي ذئب أنه قال في الحديث: " من فاتته الصلاة" كما تقدم، وروي عنه أنه قال في حديثه: " من فاتته صلاة" وروي عنه في حديثه: " من فاتته صلاة العصر".
وفي رواية له: " من فاتته الصلاة " وفي آخر الحديث - قلت لأبي بكر: ما هذه الصلاة؟ قال: هي العصر؛ سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من فاتته صلاة العصر" - الحديث.
وفي رواية: قال ابو بكر: لا أدري.
وقد خرجه الإمام أحمد بالوجهين، وهذه الرواية إن كانت محفوظة فإنها تدل على أن الزهري سمعه من أبي بكر بن عبد الرحمن، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما سمعه من سالم، عن أبيه.
وقد أشار الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله إلى أن الصحيح حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه كما سبق.
ويدل على صحة ما ذكره: أن البيهقي خرج حديث ابن أبي ذئب، ولفظه: " من فاتته الصلاة فكأنما وتر أهله وماله"، وزاد: قال ابن شهاب: فقلت: يا أبا بكر، أتدري أنت [أية] صلاة هي؟ قال ابن شهاب: بلغني أن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله".
قال: ورواه أبو داود الطيالسي، عن ابن أبي ذئب، وقال في آخره: قال الزهري: فذكرت ذلك لسالم، فقال: حدثني أبي، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من ترك صلاة العصر".(4/304)
وأمارواية صالح بن كيسان، عن الزهري المخرجة في " الصحيحين"، فقد سبق لفظها، وهو: " إن في الصلاة صلاةٌ من فاتته فكأنما وتر أهله وماله".
ولحديث نوفل طريق آخر: من رواية جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن نوفل بن معاوية، أنه حدثه، أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من فاتته صلاةٌ فكأنما وتر أهله وماله". قال عراك: فأخبرني عبد الله بن عمر انه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر اهله وماله".
خرجه النسائي.
وخرجه - أيضا - من طريق الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عراك، أنه بلغه ان نوفل بن معاوية قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من الصلاة، صلاةٌ من فاتته فكأنما وتر أهله وماله"؛ قال ابن عمر: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " هي صلاة العصر".
وخرجه - أيضا - من طريق ابن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن عراك، قال: سمعت نوفل بن معاوية يقول: صلاةٌ، من فاتته فكأنما وتر أهله وماله؛ قال ابن عمر: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هي صلاة العصر".
ففي رواية ابن إسحاق وجعفر بن ربيعة، ان عراكا سمعه من نوفل، وفي حديث الليث ان عركا بلغه عن نوفل.(4/305)
قال ابو بكر الخطيب: الحكم يوجب القضاء في هذا الحديث لجعفر بن
ربيعة بثبوت اتصاله للحديث؛ لثقته وحفظه. قال: ورواية الليث ليست تكذيباً؛ لأنه يجوز أن يكون عراك بلغه الحديث عن نوفل ثم سمعه منه، فرواه على الوجهين
جميعاً. انتهى.
وخرج الطحاوي حديث ابن إسحاق بزيادة حسنة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عراك بن مالك، قال: سمعت نوفل بن معاوية وهو جالس مع عبد الله بن عمر بسوق المدينة يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " صلاةٌ من فاتته فكأنما وتر أهله وماله" فقال ابن عمر: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هي العصر".
وهذه الرواية إن كانت محفوظة دلت على سماع عراك للحديث من نوفل وابن عمر.
وقال البيهقي: الحديث محفوظ عنهما جميعاً؛ رواه عراك عنهما، أمابلاغاً او سماعاً.
وهذا يدل على توقفه في سماع عراك له منهما.(4/306)
15 - باب
من ترك العصر(4/307)
553 - حدثنا مسلم بن إبراهيم ثنا هشام: أبنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي المليح، قال: كنا مع بريدة في غزوة في يوم ذي غيم، فقال: بكروا بصلاة العصر؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله".
قد سبق القول مبسوطا في حبوط العمل بترك بعض الفرائض وارتكاب بعض المحارم في " كتاب الايمان"، وبينا أن أكثر السلف والأمة على القول بذلك، وإمرار الاحاديث الواردة فيه على ما جاءت من غير تعسف في تأويلاتها، وبينا أن العمل إذا أطلق لم يدخل فيه الايمان وإنما يراد به أعمال الجوارح، وبهذا فارق قول السلف قول الخوارج؛ فإنهم أحبطوا بالكبيرة الإيمان [والعمل] ، وخلدوا بها في النار، وهذا قول باطل.
وأماالمتأخرون فلم يوافقوا السلف على ما قالوه، فاضطربوا في تأويل هذا الحديث وما أشبهه، وأتوا بأنواع من التكلف والتعسف.
فمنهم من قال: ترك صلاة العصر يحبط عمل ذلك اليوم.
ومنهم من قال: إنما يحبط العمل الذي هو تلك الصلاة التي تركها(4/307)
فيفوته أجرها، وهذا هو الذي ذكره ابن عبد البر.
وهو من أضعف الاقوال، وليس في الإخبار به فائدة:
ومنهم من حمل هذا الحديث على ان من ترك صلاة واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فإنه يصير بذلك كافراً مرتداً، كما يقول ذلك من يقوله ممن يرى أن ترك الصلاة كفر.
وهذا يسقط فائدة تخصيص العصر بالذكر، فإن سائر الصلوات عنده كذلك.
وقد روي تقييد تركها بالتعمد:
فروى عباد بن راشد، عن الحسن وأبي قلابة؛ أنهما كانا جالسين، فقال أبو قلابة: قال أبو الدرداء: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من ترك صلاة العصر متعمداً حتى تفوته فقد حبط عمله".
خرجه الإمام أحمد.
وأبو قلابة لم يسمع من أبي الدرداء.
ورواه أبان بن أبي عياش - وهو متروك -، عن أبي قلابة، عن أم الدرداء، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروى راشد أبو محمد، عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: أوصاني خليلي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تترك صلاةً مكتوبةً متعمداً، فمن تركها متعمداً فقد برئت منه الذمة".
خرجه ابن ماجة.
وخرجه البزار، ولفظه: " فقد كفر".(4/308)
وهذا مما استدل به على كفر تارك الصلاة المكتوبة متعمداً؛ فإنه لم يفرق بين صلاةٍ وصلاة.
وروى إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن معاذ بن جبل، قال: أوصاني خليلي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره بنحوه، وقال: " فقد برئت منه ذمة الله عز وجل".
خرجه الإمام أحمد.
ورواه - أيضا - عمرو بن واقد - وهو ضعيف -، عن يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس، عن معاذ.
خرجه الطبراني ومحمد بن نصر المروزي.
وخرجه المروزي - أيضا - من طريق سيار بن عبد الرحمن، عن يزيد بن قوذر، عن سلمة بن شريح، عن عبادة بن الصامت، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنحوه، وقال: " فمن تركها متعمداً فقد خرج من الملة".
وقال البخاري في " تاريخه": لا يعرف إسناده.(4/309)
وروى مكحول عن أم أيمن، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا تتركي الصلاة متعمداً؛ فإنه من ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه ذمةُ الله ورسوله".
خرجه الإمام أحمد.
وهو منقطع؛ مكحول لم يلق أم أيمن.
ورواه غير واحد؛ عن مكحول، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً.
ورواه عبد الرزاق، عن محمد بن راشد، عن مكحول، عن رجل، عن أبي ذر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال عبد الرزاق: وأبنا شيخ من أهل الشام، عن مكحول، قال: ومن برئت منه ذمة الله فقد كفر.
ورواه أبو فروة الرهاوي - وفيه ضعف -، عن أبي يحيى الكلاعي، عن جبير بن نفير، عن أميمة مولاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعناه.
خرجه محمد بن نصر المروزي.
وذكر عن محمد بن يحيى الذهلي،(4/310)
أنه قال: هذه هي أم أيمن، فقال أبو فروة: أميمة - يعني: أنه أخطأ في تسميتها.
فأسانيد هذا الحديث كلها غير قوية.
وأماحديث بريدة، فصحيح، وقد رواه عن يحيى بن أبي كثير: هشام الدستوائي والأوزاعي، فأماهشام فرواه كما خرجه البخاري من طريقه، وأماالأوزاعي فخالفه في إسناده ومتنه.
أماإسناده: فقيل فيه: عن الأوزاعي: حدثني يحيى، وثني أبو قلابة: حدثني أبو المهاجر، عن بريدة.
وخرجه من هذا الوجه الإمام أحمد وابن ماجة.
وقال الإمام أحمد في رواية مهنا: هو خطأ من الأوزاعي، والصحيح حديث هشام الدستوائي. وذكر – أيضا - أن أبا المهاجر لا أصل له، إنما هو أبو المهلب عم أبي قلابة، كان الأوزاعي يسميه أبا المهاجر خطأ، وذكره في هذا الإسناد من أصله خطأ، فإنه ليس من روايته، إنما هو من رواية أبي المليح،(4/311)
وكذا قاله الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله.
وقيل: عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي الميح، كما رواه هشام، عن يحيى.
وخرجه من هذا الوجه الاسماعيلي في " صحيحه".
وقيل: عن الأوزاعي، عن يحيى، عن ابن بريدة.
وقيل: عن الثوري، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن بريدة، بغير واسطة بينهما.
وهذا كله مما يدل على اضطراب الأوزاعي فيه، وعدم ضبطه.
وأمامتنه، فقال الأوزاعي فيه: إن بريدة قال: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة، فقال: " بكروا بالصلاة في اليوم الغيم فإنه من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله".
كذلك خرجه الإمام أحمد وابن ماجة والإسماعيلي وغيرهم.
فخالف هشأمافي ذلك؛ فإن هشأماقال في روايته: إن أبا المليح قال: كنا مع بريدة في غزوة في يوم غيم، فقال: بكروا بصلاة العصر؛ فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله".
فلم يرفع منه غير هذا القدر، وجعل الذين كانوا معه في الغزوة في يوم الغيم، والذي أمر بالتكبير بصلاة العصر هو بريدة، وهو الصحيح.(4/312)
واللفظ الذي رواه الأوزاعي لو كان محفوظاً لكان دليلاً على تأخير العصر في غير يوم الغيم، ولكنه وهم.
وقد خرج البخاري حديث بريدة فيما بعد وبوب عليه: " باب: التبكير بالصلاة في يوم غيم "، ثم خرج فيه حديث بريدة، عن معاذ بن فضالة، عن هشام، فذكره كما خرجه هاهنا، غير أنه لم يذكر: " في غزوة"، وقال فيه: عن بريدة: " بكروا بالصلاة"، ولم يقل: " صلاة العصر".
قال الإسماعيلي: جعل الترجمة لقول بريدة، لا لما رواه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان حق هذه الترجمة أن يكون الحديث المقرون بها ما فيه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الامر بتعجيل العصر في اليوم الغيم.
ثم ذكر حديث الأوزاعي بإسناده ولفظه، ثم قال: فإن كان هذا الإسناد لا يصح عنده كان ترك هذه الترجمة أولى.
وإنما أراد البخاري قول بريدة في يوم غيم: " بكروا بالصلاة"، ولهذا ساق الرواية التي فيها ذكر الصلاة، ولم يسقه كما ساقه في هذا الباب بتخصيص صلاة العصر، يشير إلى أنه يستحب في الغيم التبكير بالصلوات والقول بالتبكير لجميع الصلوات في يوم الغيم مما لا يعرف به قائل من العلماء، ولم يرد بريدة ذلك إنما أراد صلاة العصر خاصة، ولا يقتضي القياس ذلك، فإن التبكير بالصلوات في الغيم مطلقا يخشى منه وقوع الصلاة قبل الوقت، وهو محذور، والأفضل أن لا يصلي(4/313)
الصلاة حتى يتيقن دخول وقتها.
فإن غلب على ظنه، فهل يجوز له الصلاة حينئذ، أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه جائز، وهو قول الثوري والشافعي وأكثر أصحابنا.
والثاني: لا يجوز حتى يتيقن، وهو وجه لأصحابنا وأصحاب الشافعي.
واستدل الأولون: بأن جماعة من الصحابة صلوا ثم تبين لهم أنهم صلوا قبل الوقت، فأعادوا، منهم: ابن عمر وأبو موسى، وهذا يدل على أنهم صلوا عن اجتهاد، وغلب على ظنهم دخول الوقت من غير يقين.
وقال الحسن: شكوا في طلوع الفجر في عهد ابن عباس، فأمر مؤذنه فأقام الصلاة.
خرجه ابن أبي شيبة.
وقال ابو داود: " باب: المسافر يصلي ويشك في الوقت"، ثم خرج من حديث المسحاج بن موسى، أن أنسا حدثه، قال: كنا إذا كنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السفر، فقلنا: زالت الشمس، أو لم تزل، صلى الظهر ثم ارتحل.
والمنصوص عن أحمد: أنه لا يصلي الظهر حتى يتيقن الزوال في حضر ولا سفر، وكذا قال إسحاق في الظهر والمغرب والصبح؛ لأن هذه الصلوات لا تجمع إلى ما قبلها.
ولكن وقع في كلام مالك(4/314)
وأحمد وغيرهما من الأئمة تسمية الظن الغالب يقينا، ولعل هذا منه. والله اعلم.
وقد اختلف العلماء في الصلاة في يوم الغيم:
فقال الشافعي: ويحتاط ويتوخى أن يصلي بعد الوقت أو يحتاط بتأخيرها ما بينه وبين أن يخاف خروج الوقت. وقال إسحاق نحوه.
ولا يستحب عند الشافعي التاخير في الغيم مع تحقق دخول الوقت، إلا في حال يستحب التاخير في الصحو كشدة الحر ونحوه.
وحكى بعض أصحابنا مثل ذلك عن الخرقي، وحكاه – أيضا - رواية عن أحمد.
وعن أبي حنيفة رواية باستحباب تاخير الصلوات كلها مع الغيم.
وقالت طائفة: يؤخر الظهر ويعجل العصر، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء مع الغيم، وهو قول أبي حنيفة والثوري وأحمد، وحكي - أيضا - عن الحسن والأوزاعي، ونقله ابن منصور عن إسحاق.
وقال النخعي: كانوا يؤخرون الظهر ويعجلون العصر، ويؤخر المغرب في يوم الغيم.
قال ابن المنذر: روينا عن عمر، أنه قال: إذا كان يوم الغيم فعجلوا العصر وأخروا الظهر.
قال أصحابنا: يستحب ذلك مع تحقق دخول الوقت.
واختلفوا في(4/315)
تعليل ذلك:
فمنهم من علل بالاحتياط لدخول الوقت، ولو كان الأمر كذلك لاستوت الصلوات كلها في التأخير.
ومنهم من علل بأن يوم الغيم يخشى فيه وقوع المطر، ويكون فيه ريح وبرد غالبا، فيشق الخروج إلى الصلاتين المجموعتين في وقتين، فإذا أخر الأولى وقدم الثانية خرج لهما خروجاً واحداً، فكان ذلك أرفق به، وهذا قول القاضي أبي يعلى وأصحابه.
واختلفوا: هل يختص ذلك بمن يصلي جماعة، أو تعم الرخصة من يصلي وحده؟ وفيه وجهان:
ومن المتأخرين من قال: المعنى في تأخير الأولى من المجموعتين في يوم الغيم وتعجيل الثانية: أن تعجيل الأولى منهما عن الوقت غير جائز، وتعجيل الثانية جائز في حال الجمع، والجمع يجوز عند أحمد للأعذار، والاشتباه في الوقت نوع عذر؛ فلهذا استحب تأخير الأولى حتى يتيقن دخول الوقت دون الثانية، فهذا احتياط للوقت لكن مع وقع الصلاة في الوقت المشترك فكان اولى.
وقد نص أحمد على ان المسافر حال اشتباه الوقت عليه في الصحو – أيضا - يؤخر الظهر ويعجل العصر؛ لهذا المعنى، وهو يدل على ان التفريق بين المجموعتين في وقت الأولى لا يضر وأن نية الجمع لا تشترط، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في أول " أبواب المواقيت".
ويدل – أيضا - على أنه يجوز تعجيل الثانية من المجموعتين، وإن لم يتيقن دخول وقتها،(4/316)
ويستحب تأخير الاولى منهما حتى يتيقن دخول وقتها في السفر والغيم، وهذا أشبه بكلام الإمام أحمد.
ومن أصحابنا من استحب تأخير الظهر وتعجيل العصر في الغيم دون المغرب لما في تأخيرها من الكراهة؛ فإن وقتها مضيق عند كثيرٍ من العلماء، والمنصوص عن أحمد خلافه.
وروي عن ابن مسعود، قال: إذا كان يوم الغيم فعجلوا الظهر والعصر، وأخروا المغرب والإفطار.
وعن عبد العزيز بن رفيع، قال: عجلوا صلاة العصر؛ فإنه بلغنا ان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " عجلوا الصلاة" –يعني: صلاة في اليوم الغيم.
وفي رواية، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " عجلوا الصلاة في يوم غيم، وأخروا المغرب".
وكان الربيع بن خثيم إذا كان يوم غيم قال لمؤذنه: أغسق، أغسق - يعني: أخر حتى يظلم الوقت.
وروي استحباب التبكير بالصلاة في اليوم الغيم من وجوه:
فخرج محمد بن نصر المروزي في " كتاب الصلاة" بإسناد فيه ضعف عن أبي سعيد الخدري - مرفوعاً -، قال: " أربع من كن فيه بلغ حقيقة الإيمان" -(4/317)
فذكر منها -: " ابتدار الصلاة في اليوم الدجن".
وخرج ابن وهب في " مسنده" بإسناد ضعيف - أيضا -، عن أبي الدرداء - مرفوعاً -، قال: " تعجيل الصلاة في اليوم الدجن من حقيقة الإيمان".
وروى ابن سعد في " طبقاته" بإسناده، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وصى ابنه عند موته بخصال الإيمان، وعد منها: تعجيل الصلاة في يوم الغيم.
وقال الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير: ست من كن فيه فقد استكمل الإيمان، فذكر منها: التبكير بالصلاة في اليوم الغيم.(4/318)
16 - باب
فضل صلاة العصر
فيه حديثان:
أحدهما:
قال:(4/319)
554 - حدثنا الحميدي: ثنا مروان بن معاوية: ثنا إسماعيل، عن قيس، عن جرير بن عبد الله، قال: كنا عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: " إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها فافعلوا". ثم قرأ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] .
قال إسماعيل: افعلوا لا تفوتنكم.
هذا الحديث نص في ثبوت رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، كما دل على ذلك قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ*إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] ، ومفهوم قوله في حق الكفار: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] .
قال الشافعي وغيره: لما حجب أعداءه في السخظ دل على أن أولياءه يرونه في الرضا.(4/319)
والأحاديث في ذلك كثيرة جداً، وقد ذكر البخاري بعضها في أواخر " الصحيح" في ... " كتاب التوحيد"، وقد أجمع على ذلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من الإئمة وأتباعهم.
وإنما خالف فيه طوائف أهل البدع من الجهمية والمعتزلة ونحوهم ممن يرد النصوص الصحيحة لخيالات فاسدة وشبهات باطلة، يخيلها لهم الشيطان، فيسرعون إلى قبولها منه، ويوهمهم أن هذه النصوص الصحيحة تستلزم باطلاً، ويسميه تشبيها أو تجسيما، فينفرون منه، كما خيل إلى المشركين قبلهم أن عبادة الأوثان ونحوها تعظيم لجناب الرب، وأنه لا يتوصل إليه من غير وسائط تعبد فتقرب إليه زلفا، وأن ذلك أبلغ في التعظيم والاحترام، وقاسه لهم على ملوك بني آدم، فاستجابوا لذلك، وقبلوه منه.
وإنما بعث الله الرسل وانزل الكتب لإبطال ذلك كله، فمن اتبع ما جاءوا به فقد اهتدى، ومن أعرض عنه أو عن شيءٍ منه واعترض فقد ضل.
وقوله: " كما ترون هذا القمر" شبه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي سبحانه وتعالى.
وإنما شبه الرؤية برؤية البدر؛ لمعنيين:
أحدهما: أن رؤية القمر ليلة البدر لا يشك فيه ولا يمترى.
والثاني: يستوي فيه جميع الناس من غير مشقة.
وقد ظن المريسي ونحوه ممن ضل وافترى على الله، أن هذا الحديث يرد؛ لما يتضمن من التشبيه، فضل وأضل. واتفق السلف الصالح على تلقي هذا الحديث(4/320)
بالقبول والتصديق.
قال يزيد بن هارون: من كذب بهذا الحديث فهو بريء من الله ورسوله.
وقال وكيع: من رد هذا الحديث فاحسبوه من الجهمية.
وكان حسين الجعفي إذا حدث بهذا الحديث قال: زعم المريسي.
وقوله: " لا تضامون في رؤيته".
قال الخطأبي: " لا تضامون"، روي على وجهين:
مفتوحة التاء، مشددة الميم. وأصله تتضامون، أي: لا يضام بعضكم بعضاً، أي: لا يزاحم، من الضم، كما يفعل الناس في طلب الشيء الخفي، يريد أنكم ترون ربكم وكل واحد منكم وادع في مكانه، لا ينازعه فيه احد.
والآخر: مخفف: تضامون - بضم التاء - من الضيم، أي: لا يضيم بعضكم بعضا فيه. انتهى.
وذكر ابن السمعاني فيه رواية ثالثة: " تضامون" - بضم التاء، وتشديد الميم -، قال: ومعناها: لا تزاحمون، قال: ورواية فتح التاء مع تشديد الميم معناها: لا تزاحمون.
وقوله: " كما ترون القمر ليلة البدر" يقوي المعنى الأول.
وجاء التصريح به في رواية أبي رزين العقيلي، أنه قال: يارسول الله، أكلنا يرى ربه يوم القيامة؟ وما آيةُ ذلك في خلقه؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أليس(4/321)
كلكم ينظر إلى القمر مخلياً به؟ " قال: بلى، قال: " فالله أعظم".
خرجه الإمام أحمد.
وخرجه ابنه عبد الله في " المسند" بسياق مطول جداً، وفيه ذكر البعث والنشور، وفيه: " فتخرجون من الأصواء - أو من مصارعكم -، فتنظرون إليه وينظر إليكم". قال: قلت: يا رسول الله، وكيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد، ينظر إلينا وننظر إليه؟ قال: " أنبئك بمثل ذلك، الشمس والقمر، آية منه صغيرة، ترونهما ويريانكم ساعة واحدة، لا تضارون في رؤيتهما، ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وترونه من أن ترونهما ويريانكم، لا تضارون في رؤيتهما" - وذكر بقية الحديث.
وخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وقد ذكر أبو عبد الله بن منده إجماع أهل العلم على قبول هذا الحديث ونقل عباس الدوري، عن ابن معين أنه استحسنه.
وقوله: " فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع(4/322)
الشمس وقبل غروبها فافعلوا". أمر بالمحافظة على هاتين الصلاتين، وهما صلاة الفجر وصلاة العصر، وفيه إشارة إلى عظم قدر هاتين الصلاتين، وأنهما أشرف الصوات الخمس، ولهذا قيل في كل منهما: إنها الصلاة الوسطى، والقول بأن الوسطى غيرهما لا تعويل عليه.
وقد قيل في مناسبة الأمر بالمحافظة على هاتين الصلاتين عقيب ذكر الرؤية: أن أعلى ما في الجنة رؤية الله عز وجل، وأشرف ما في الدنيا من الأعمال هاتان الصلاتان، فالمحافظة عليهما يرجى بها دخول الجنة ورؤية الله عز وجل فيها.
كما في الحديث الآخر: " من صلى البردين دخل الجنة"، وسيأتي – إن شاء الله – في موضعه.
وقيل: هو إشارة إلى أن دخول الجنة إنما يحصل بالصلاة مع الإيمان، فمن لا يصلي فليس بمسلم، ولا يدخل الجنة بل هو من أهل النار، ولهذا قال أهل النار لما قيل لهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 42، 43] .
ويظهر وجه آخر في ذلك، وهو: أن أعلى أهل الجنة منزلة من ينظر في وجه الله عز وجل مرتين بكرة وعشياً، وعموم أهل الجنة يرونه في كل جمعة في يوم المزيد، والمحافظة على هاتين الصلاتين على ميقاتهما ووضوئهما وخشوعهما وآدابهما يرجى به أن يوجب النظر إلى الله عز وجل في(4/323)
الجنة في هذين الوقتين.
ويدل على هذا ما روى ثوير بن أبي فاختة، قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمة وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوةً وعشياً"، ثم قرأ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ* إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ*} [القيامة: 22، 23] .
خرجه الإمام أحمد والترمذي، وهذا لفظه. وخرجه - أيضا - موقوفاً على ابن عمر. وثوير فيه ضعف.
وقد روي هذا المعنى من حديث أبي برزة الأسلمي مرفوعاً - أيضا -، وفي إسناده ضعف.
وقاله غير واحد من السلف، منهم: عبد الله بن بريدة وغيره.
فالمحافظة على هاتين الصلاتين تكون سبباً لرؤية الله في الجنة في مثل هذين الوقتين، كما أن المحافظة على الجمعة سبب لرؤية الله في يوم المزيد في الجنة، كما قال ابن مسعود: سارعوا إلى الجمعات؛ فإن الله يبرز لأهل الجنة في كل جمعة على كثيب من كافور أبيض، فيكونون منه في الدنو على قدر تبكيرهم إلى الجمعات.
وروي عنه مرفوعاً.
خرجه ابن ماجة.(4/324)
وروي عن ابن عباس، قال: من دخل الجنة من أهل القرى لم ينظر إلى وجه الله؛ لأنهم لا يشهدون الجمعة.
خرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في " كتاب الشافي" بإسناد ضعيف.
وقد روي من حديث أنس - مرفوعاً -: " إن النساء يرين ربهن في الجنة في يومي العيدين".
والمعنى في ذلك: أنهن كن يشاركن الرجال في شهود العيدين دون الجمع.
وقوله: ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] الظاهر أن القارئ لذلك هو النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد روي من رواية زيد بن أبي أنيسة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن جرير البجلي في هذا الحديث: ثم قرأ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} - الآية.
خرجه أبو إسماعيل الأنصاري في " كتاب الفاروق".
وقد قيل: إن هذه الكلمة مدرجة، وإنما القارئ هو جرير بن عبد الله البجلي.
وقد خرجه مسلم في " صحيحه" عن أبي خيثمة، عن مروان بن(4/325)
معاوية - فذكر الحديث، وقال في آخره: ثم قرأ جرير: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] .
وكذا رواه عمرو بن زرارة وغيره، عن مروان بن معاوية، وأدرجه عنه آخرون.
الحديث الثاني:(4/326)
555 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين كانوا فيكم، فيسألهم – وهو أعلم بهم -: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون".
قوله: " يتعاقبون فيكم ملائكة" جمع فيه الفعل مع إسناده إلى ظاهر، وهو مخرج على اللغة المعروفة بلغة " أكلوني البراغيث"، وقد عرفها بعض متأخري النحاة بهذا الحديث، فقال: " هي لغة يتعاقبون فيكم ملائكة".
والتعاقب: التناوب والتداول، والمعنى: أن كل ملائكة تأتي تعقب الأخرى.
وقد دل الحديث على أن ملائكة الليل غير ملائكة النهار.
وقد خرجا في "الصحيحين" من حديث الزهري، عن سعيد وأبي سلمة،(4/326)
عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " تجتمع ملائكة الليل، وملائكة النهار في صلاة الفجر". ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] .
ففي هذه الرواية: ذكر اجتماعهم في صلاة الفجر، واستشهد أبو هريرة بقول الله عز وجل: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] .
وقد روي في حديث من رواية أبي الدرداء - مرفوعاً -، انه يشهده الله وملائكته.
وفي رواية: " ملائكة الليل وملائكة النهار".
خرجه الطبراني وابن منده وغيرهما.
فقد يكون تخصيص صلاة الفجر لهذا، وصلاة العصر يجتمع –أيضا - فيها ملائكة الليل والنهار، كما دل عليه حديث الأعرج، عن أبي هريرة.
وقد روي نحوه من حديث حميد الطويل، عن بكر المزني، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً.
وهؤلاء الملائكة، يحتمل أنهم المعقبات، وهم الحفظة، ويحتمل أنهم كتبة الأعمال.
وروى أبو عبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود، في قوله: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} ، قال: يعني صلاة الصبح، يتدارك فيه الحرسان ملائكة الليل وملائكة النهار.(4/327)
وقال إبراهيم، عن الأسود بن يزيد: يلتقي الحارسان من ملائكة الليل وملائكة النهار عند صلاة الصبح، فيسلم بعضهم على بعض، ويحيى بعضهم بعضاً، فتصعد ملائكة الليل وتبسط ملائكة النهار.
قال ابن المبارك: وكل بابن آدم خمسة أملاك: ملكا الليل، وملكا النهار، يجيئان ويذهبان، والخامس لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً.
وممن قال: إن ملائكة الليل وملائكة النهار تجتمع في صلاة الفجر، وفسر بذلك قول الله عز وجل: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ] كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] : مجاهدٌ ومسروقٌ وغيرهما.
قال ابن عبد البر: والأظهر أن ذلك في الجماعات. قال: وقد يحتمل الجماعات وغيرها.
قلت: يشهد للأول قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذا أمن الإمام فأمنوا، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه".
ونهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أكل الثوم أن يشهد المسجد، وتعليله: أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم.
وقد بوب البخاري على اختصاصه بالجماعات في " أبواب صلاة الجماعة"، كما سيأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى.
ويشهد الثاني: أن المصلي ينهى عن أن يبصق في صلاته عن يمينه؛ لأن عن يمينه ملكاً، ولا يفرق في هذا بين مصلي جماعة وفرادي.(4/328)
17 - باب
من أدرك من العصر ركعة قبل الغروب
فيه ثلاثة أحاديث:
الأول:(4/329)
556 - حدثنا أبو نعيم: ثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته".
وقد خرجه فيما بعد من وجه آخر عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولفظه: " من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر".
ومقصود البخاري بهذا الحديث في هذا الباب: أن وقت العصر يمتد إلى غروب الشمس؛ ولهذا جعله مدركا لها بإدراك ركعة منها قبل غروب الشمس، فإدراكها كلها قبل الغروب أولى أن يكون مدركاً لها.
وقد سبق قول من قال: إن وقت العصر إلى غروب الشمس، منهم:(4/329)
ابن عباس وعكرمة، وهو رواية عن مالك والثوري وهو قول إسحاق.
قال إسحاق: آخر وقتها للمفرط، وصاحب عذر هو قدر ما يبقى إلى غروب الشمس ركعة -: نقله عنه ابن منصور.
وحكي مثله عن داود.
وروي عن أبي جعفر محمد بن علي ما يشبهه.
وهو وجه ضعيف للشافعية مبني على قولهم: إن الصلاة كلها تقع أداء كما سيأتي.
والصحيح عندهم: أنه لا يجوز التاخير حتى يبقى من الوقت ركعة.
وإن قيل: إنها أداء - كمذهبنا ومذهب الأكثرين وأكثر العلماء - على ان تأخيرها إلى أن يبقى قدر ركعة قبل الغروب لا يجوز لغير أهل الأعذار، وهو قول الأوزاعي والشافعي وأحمد وأبي ثور وحكاه عن العلماء.
وقد دل على ذلك ما خرجه مسلم في " صحيحه" من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " وقت العصر ما لم تصفر الشمس".
ومن حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً".(4/330)
وخرجه أبو داود - بمعناه، وزاد: "حتى إذا اصفرت الشمس فكانت بين قرني الشيطان - أو على قرني الشيطان" - وذكر باقيه.
فهذا يدل على [أن] تأخيرها إلى بعد اصفرار الشمس وتضيقها للمغرب غير جائز لمن لا عذر له.
وأجمع العلماء على ان من صلى بعض العصر ثم غربت الشمس أنه يتم صلاته، ولا إعادة عليه.
وأجمعوا على أن عليه إتمام ما بقي منها، وهو يدل على أن المراد بإدراكها إدراك وقتها.
واختلفوا في الواقع منها بعد غروب الشمس: هل هو أداء، أو قضاء؟ وفيه وجهان لأصحابنا والشافعية:
أحدهما: أنه قضاء، وهو قول الحنفية؛ لوقوعه خارج الوقت.
والثاني: أنه أداء، وهو أصح عند أصحابنا والشافعية؛ لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فقد أردكها".
وللشافعية وجه آخر: أنها كلها تكون قضاء، وهو ضعيف.
هذا كله إذا أدرك في الوقت ركعة فصاعداً، فإن أدرك دون ركعة ففيه للشافعية طريقان:
أحدهما: أنه على هذا الخلاف - أيضا.
والثاني: أن الجميع قضاء، وبه قطع أكثرهم.
وأمامذهب أصحابنا:
فقال أكثرهم: لا فرق بين أن يدرك في الوقت(4/331)
ركعة أو ما دونها، حتى لو أدرك تكبيرة الإحرام كان كإدراك ركعة.
واستدلوا بحديث " من أدرك سجدة"، وقالوا: المراد به قدر سجدة.
وفيه نظر؛ فإن السجدة يراد بها الركعة، وهو المراد من هذا الحديث والله اعلم.
وحكى بعضهم رواية عن أحمد، أنه لا يكون مدركا لها في الوقت بدون إدراك ركعة كاملة، وبذلك جزم ابن أبي موسى في " إرشاده"، وجعله مذهب أحمد ولم يحك عنه فيه خلافاً، فعلى هذا ينبغي أن يكون الجميع قضاء إذا لم يدرك في الوقت ركعة، وهو ظاهر قول الأوزاعي.
الحديث الثاني:
قال:(4/332)
557 - حدثنا عبد العزيز بن عبد الله: حدثني إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، أنه أخبره، أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا بها حتى إذا انتصف النهار عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتينا القرآن، فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين. فقال أهل الكتأبين: أي ربنا، أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطاً قيراطاً، ونحن أكثر عملاً؟ قال الله: هل ظلمتكم(4/332)
من أجركم من شيء؟ قالوا: لا. قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء".
قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم" إنما أراد به - والله أعلم -: أتباع موسى وعيسى عليهما السلام، وقد سمى الله بني إسرائيل بانفرادهم أمما، فقال:
{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} ? [الأعراف: 168] ؛ ولهذا فسر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك بعمل أهل التوارة بها إلى انتصاف النهار، وعمل أهل الإنجيل به إلى العصر، وعمل المسلمين بالقرآن إلى غروب الشمس.
ويدل على ذلك - أيضا -: حديث أبي موسى الذي خرجه البخاري بعد هذا، ولفظه: " مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل أستأجر قوما يعملون له إلى الليل" - وذكر الحديث، كما سيأتي - إن شاء الله.
وإنما قلنا: إن هذا هو المراد من الحديث؛ لأن مدة هذه الأمة بالنسبة إلى مدة الدنيا من أولها إلى آخرها لا يبلغ قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس بالنسبة إلى ما مضى من النهار، بل هو أقل من ذلك بكثير.
ويدل عليه صريحا: ما خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم صلاة العصر يوماً بنهار، ثم قام خطيباً، فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به - فذكر الحديث بطوله، وقال في آخره: قال: وجعلنا نلتفت إلى الشمس هل بقي منها شيء، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الا إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه".
وقال الترمذي: حديث حسن.
وخرج الإمام أحمد من حديث ابن عمر، قال: كنا جلوسا عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والشمس على قعيقعان بعد العصر، فقال: " ما أعماركم في أعمار من مضى إلى كما بقي من النهار فيما مضى منه".
ومن حديث ابن عمر، أنه كان واقفا بعرفات ينظر إلى الشمس حين تدلت مثل الترس للغروب، فبكى، وقال: ذكرت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو واقف بمكاني هذا، فقال: " أيها الناس، لم يبق من دنياكم فيما مضى إلا كما(4/333)
بقي من يومكم هذا فيما مضى منه".
ويشهد لذلك من الأحاديث الصحيحة: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بعثت أنا والساعة كهاتين"، وقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى.
خرجاه في " الصحيحين" من حديث أنس، وخرجاه - أيضا - بمعناه من حديث أبي هريرة وسهل بن سعد.
وخرجه مسلم بمعناه من حديث جابر.(4/334)
وخرج الترمذي من حديث المستورد بن شداد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " بعثت في نفس الساعة، فسبقتها كما سبقت هذه هذه" - لأصبعيه: السبابة والوسطى.
وفي " مسند الإمام أحمد" عن بريدة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " بعثت أنا والساعة جميعاً، إن كادت لتسبقني".
وروى الإمام أحمد –أيضا: ثنا أبو ضمرة: حدثني أبو حازم، لا أعلمه إلا عن سهل بن سعد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " مثلي ومثل الساعة كهاتين" - وفرق كذا بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام، ثم قال: " مثلي ومثل الساعة كمثل فرسي رهان"، ثم قال: "مثلي ومثل الساعة كمثل رجل بعثه قومه طليعة، فلما خشي أن يسبق الاح بثوبه أتيتم أتيتم". ثم يقول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أنا ذاك".
وكل هذا النصوص تدل على شدة اقتراب الساعة، كما دل عليه قوله تعالى:
{اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] ، وقوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1] .
وقد فسر قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بعثت أنا والساعة كهاتين" - وقرن بين السبابة والوسطى بقرب زمانه من الساعة، كقرب السبابة من الوسطى، وبأن زمن بعثته تعقبه السعة من غير تخلل نبي آخر بينه وبين الساعة، كما قال في الحديث الصحيح: " أنا الحاشر،(4/335)
يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب".
فالحاشر: الذي يحشر الناس لبعثهم يوم القيامة على قدمه - يعني: ان بعثهم وحشرهم يكون عقيب رسالته، فهو مبعوث بالرسالة وعقيبه يجمع الناس لحشرهم.
والعاقب: الذي جاء عقيب الأنبياء كلهم، وليس بعده نبي، فكان إرساله من علأماالساعة.
وفي " المسند"، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " بعثت بالسيف بني يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له".
وفسر قتادة وغيره قوله: " كهاتين" - وأشار بالسبابة والوسطى، بأن المراد: كفضل إحداهما على الأخرى – يعني: كفضل الوسطى على السبابة.
وقد ذكر ابن جرير الطبري: أن فضل ما بين السبابة والوسطى نحو نصف سبع، وكذلك قدر ما بين صلاة العصر في أوسط نهارها بالإضافة إلى باقي النهار نصف سبع اليوم تقريباً، فإن كانت الدنيا سبعة آلاف سنة، فنصف يوم خمسمائة سنة.
وقد روي في ذلك حديث ابن زمل - مرفوعاً - أن الدنيا سبعة آلاف سنة، وأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في آخرها ألفاً.(4/336)
وإسناده لا يصح.
ويشهد لهذا الذي ذكره ابن جرير: ما خرجه أبو داود من حديث أبي ثعلبة الخشني، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم".
وروي موقوفاً، ووقفه أصح عند البخاري وغيره.
وخرج أبو داود –أيضا - بإسناد منقطع عن سعد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " إني لأرجو أن لا يعجز امتي عند ربهم أن يؤخرهم نصف يوم". قيل لسعد: كم نصف يوم؟ قال: خمسمائة سنة.
وإن صح هذا، فإنما يدل على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجا لأمته تاخير نصف يوم، فأعطاه الله رجاءه وزاده عليه، فإنا الآن في قريب رأس الثمانمائة من الهجرة، وما ذكره ابن جرير من تقدير ذلك بنصف سبع يوم على التحديد لا يصلح، وقد ذكر غيره أن المسبحة ستة أسباع الوسطى طولاً، فيكون بينهما من الفضل سبع كامل، وذلك ألف سنة، على تقدير أن تكون الدنيا سبعة آلاف سنة، وأن بعثة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في آخرها ألفاً، وهذا – أيضا - لا يصح، ولا يبلغ الفضل بينهما سبعاً كاملاً.
وقيل: إن قدر الفضل بينهما نحو من ثمن، كما سنذكره - ان شاء الله.(4/337)
وفي " صحيح مسلم" عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " بعثت أنا والساعة كهاتين". قال: وضم السبابة والوسطى.
وقد سبق في رواية الإمام أحمد، أنه فرق بينهما، وقد ذكر بعضهم على تقدير صحة رواية التفريق ان فرج ما بين الأصابع الخمسة ستة امثال فرجة ما بين السبابة والوسطى، وحجم الأصابع الخمس ضعف ما بين المسبحة والوسطى، فيكون حجم الأصابع الخمس مع الفرج الأربع الواقعة بينهم ثمانية أجزاء فرجة ما بين السبابة والوسطى جزء منها.
ويئول المعنى إلى أن ما بينه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين الساعة قدر ثمن الدنيا، وهو ثمانمائة وخمس وسبعون سنة على تقدير ما تقدم ذكره.
قال: ويعتضد ذلك بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم كما بين صلاة العصر والمغرب)) ، فإن ما بين العصر والغرب قريب من ثُمن زمان دورة الفلك التامة مرةً واحدة، وهي أربعة وعشرون ساعة. انتهى ما ذكره.
وأخذ بقاء ما بقي من الدنيا على التحديد من هذه النصوص لا يصح؛ فإن الله استأثر بعلم الساعة، ولم يطلع عليه أحداً من خلقه، وهو من مفاتح الغيب الخمس التي لا يعلمها إلا الله؛ ولهذا قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)) . وإنما خرج هذا من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على وجه التقريب للساعة من غير تحديد لوقتها.(4/338)
وقد قدمنا أن المراد بهذا الحديث مدةُ أمة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع مدة أمة موسى وعيسى عليهم السلام، فمدة هذه الأمم الثلاث كيوم تام، ومدة ما مضى من الأمم في أول الدنيا كليلة هذا اليوم؛ فإن الليل سابق للنهار، وقد خلق قبله على أصح القولين، وتلك الليلة السابقة كان فيها نجومُ تضيء ويهتدى بها، وهم الأبيياء المبعوثون فيها، وقد كان –أيضا - فيهم قمرٌ منير، وهو إبراهيم الخليل عليه السلام، إمام الحنفاء ووالدُ الأنبياء، وكان بين آدم ونوح ألف سنة، وبين نوح وإبراهيم ألف سنة، وبين إبراهيم وموسى عليه السلام ألف سنة. قال ذلك غير واحد من المتقدمين، حكاه عنهم الواقدي.
وذكر بعض علماء أهل الكتاب أن من آدم إلى إبراهيم ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثمان وعشرون سنة، ومن إبراهيم إلى خروج موسى من مصر خمسمائة وسبع وستون سنة، وذكر إن من آدم إلى مولد المسيح خمسة آلاف وخمسمائة سنة، ومن مولد المسيح إلى هجرة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ستمائة وأربع عشر سنة، ومن آدم إلى الهجرة ستة آلاف سنة ومائة وأربع عشرة سنة، ومن خروج بني أسرائيل إلى الهجرة ألفان ومائتان وتسع وسبعون سنة، ولكن إنما يؤرخون بالسنة الشمسية لا القمرية.
وأماابتداء رسالة موسى عليه السلام فكانت كابتداء النهار، فإن موسى وعيسى ومحمداً - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هم أصحاب الشرائع والكتب المتبعة والأمم العظيمة.
وقد أقسم الله بمواضع رسالاتهم في قوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ*} .(4/339)
[التين: 1 - 3]
وفي التوراة: ((جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران)) .
ولهذا سمي محمداً - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سراجاً منيراً؛ لأن نوره للدنيا كنور الشمس وأتم وأعظم وأنفع، فكانت مدة عمل بني إسرائيل إلى ظهور عيسى كنصف النهار الأول، ومدة عمل أمة عيسى كما بين الظهر والعصر، ومدة عمل المسلمين كما بين العصر إلى غروب الشمس، وهذا أفضل أوقات النهار.
ولهذا كانت الصلاة الوسطى هي العصر على الصحيح؛ وأفضل ساعات يوم الجمعة ويوم عرفة من العصر إلى غروب الشمس، فلهذا كان خيرُ قرون بني آدم القرن الذي بعث فيه محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد خرج البخاري ذلك من حديث أبي هريرة – مرفوعاً.
وقد أعطى الله تعالى من عمل بالتوراة والإنجيل قيراطاً قيراطاً، وأعطى هذه الامة لعملهم قيراطين.
فقال الخطأبي: كان كل من الأمم الثلاثة قد استؤجر ليعمل تمام النهار بقيراطين، فلما عجز كل واحد من الأمتين قبلها، وانقطع عن عمله في وسط المدة أعطى قيراطاً واحداً، وهذه الأمة قد أتمت مدة عملها فكمل لها أجرها.
وقد جاء في رواية أخرى من حديث ابن عمر، أن كل طائفة منهم استؤجرت لتعمل إلى مدة انتهاء عملها على ما حصل لها من الأجر.
فقال الخطأبي: لفظه مختصر، وإنما أخبر الراوي بما آل إليه الأمر فقط.(4/340)
وفيما قال نظر، وسيأتي الكلام عليه في الحديث الثالث – إن شاء الله.
وعجز اليهود والنصارى عن إتمام المدة هو بما حصل لهم مما لا ينفع معه عمل، مع البقاء على ما هم عليه من النسخ والتبديل، مع تمكنهم من إتمام العمل بالإيمان بالكتاب الذي أنزل بعد كتابهم.
وقولهم: ((نحن أكثر عملاً وأقل أجراً)) .
أماكثرة عمل اليهود فظاهر؛ فإنهم عملوا إلى انتصاف النهار، وأماالنصارى فإنهم عملوا من الظهر إلى العصر، وهو نظير مدة عمل المسلمين.
فاستدل بذلك من قال: إن أول وقت العصر مصير كل شيء مثليه، وهم أصحاب أبي حنفية، قالوا: لأنه لو كان أول وقت العصر مصير ظل كل شيء مثله لكان مدة عملهم ومدة عمل المسلمين سواء.
وأجاب عن ذلك من قال: إن أول وقت العصر مصير ظل الشيء مثله من أصحابنا والشافعية وغيرهم بوجوه:
منها: أن أحاديث المواقيت مصرحة بأن أول وقت العصر مصير ظل الشيء مثله، وهذا الحديثُ إنما ساقه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مساق ضرب الأمثال، والأمثال مظنة التوسع فيها، فكان الأخذ بأحاديث توقيت العصر المسوقة لبيان الوقت أولى.
ومنها: أن المراد بقولهم: ((أكثر عملاً)) ، أن عمل مجموع(4/341)
الفريقين أكثر.
فإن قيل: فقد قالوا: ((وأقل أجراً)) ومجموع الفريقين لهم قيراطان كأجر هذه الأمة.
قيل: لكن القيراطان في مقابلة عمل كثير، فإنهما عملا ثلاثة أرباع النهار بقيراطين، وعمل المسلمون ربع النهار بقيراطين، فلذلك كان أولئك أقل أجراً.
ومنها: أن وقت العصر إذا سقط من أوله مدة التأهب للصلاة بالأذان والإقامة والطهارة والستارة وصلاة أربع ركعات والمشي إلى المساجد، صار الباقي منه إلى غروب الشمس أقل مما بين الظهر والعصر.
وحقيقةُ هذا: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أراد أن أمته عملت من زمن فعل صلاة العصر المعتاد لا من أول دخول وقتها.
ومنها: أن كثرة العمل لا يلزم منه طول المدة، فقد يعمل الأنسان في مدة قصيرة أكثر مما يعمل غيره في مدة طويلة.
وقد ضعف هذا؛ بأن ظاهر الحديث يرده، ويدل على اعتبار طول المدة وقصرها، إلا أن يقال: كنى عن كثرة العلم وقلته بطول المدة وقصرها، وفيه بعد.
وقد روى هشام بن الكلبي، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: كان بين موسى وعيسى ألف سنة وتسعمائة سنة، ولم يكن بينهما فترة، وأنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم، وكان بين ميلاد عيسى والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألف سنة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء، وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولاً أربعمائة سنة وأربع وثمانون سنة.(4/342)
هذا إسناد ضعيف، لا يعتمد عليه.
وإنما يصح ذلك على تقدير أن يكون بين عيسى ومحمد أنبياء، والحديث الصحيح يدل على أنه ليس بينهما نبي، ففي ((صحيح البخاري)) عن سلمان، أن مدة الفترة كانت ستمائة سنة.
وقد ذكر قوم: أن من لدن خلق آدم إلى وقت هجرة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ستة آلاف سنة، تنقص ثمان سنين.
وقال آخرون: بينهما أربعة آلاف وستمائة واثنان وأربعون سنة وأشهر.
واختلفوا في مدة بقاء الدنيا جميعها:
فروي عن ابن عباس، أنها جمعة من جمع الآخرة، سبعة آلاف سنة.
وعن كعب ووهب، أنها ستة آلاف سنة.
وعن مجاهد وعكرمة، قالا: مقدار الدنيا من أولها إلى آخرها خمسون ألف سنة، ولا يعلم ما مضى منه وما بقي إلا الله عز وجل، وأن ذلك هو اليوم الذي قال الله فيه:
{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} . [المعارج: 4]
خرجه ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) .
وقد قدمنا: أن حديث ابن عمر الذي خرجه البخاري هاهنا يدل على أن مدة الدنيا كلها كيوم وليلة، وأن مدة الأمم الثلاث أصحاب الشرائع المتبعة قريب من نصف ذلك، وهو قدر يوم تام، وأن مدة اليهود منه إلى ظهور عيسى حيث كانت أعمالهم صالحة تنفعهم(4/343)
عند الله كما بين صلاة الصبح إلى صلاة الظهر، ومدة النصارى إلى ظهور محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث كانت أعمالهم صالحة مقبولة كما بين صلاةِ الظهر والعصر، ومدة المسلمين منه من صلاة العصر إلى غروب الشمس، وذلك في الزمان المعتدل قدر ربع النهار، وهو قدر ثمن الليل والنهار كما سبق ذكره وتقديره.
لكن مدة الماضي من الدنيا إلى بعثة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومدة الباقي منها إلى يوم القيامة، لا يعلمه على الحقيقة إلا الله عز وجل، وما يذكر في ذلك فأنما هو ظنون لا تفيد علماً.
وكان مقصود البخاري بتخريج هذا الحديث في هذا الباب: أن وقت العصر يمتد إلى غروب الشمس؛ لأنه جعل عمل المسلمين مستمراً من وقت العصر إلى غروب الشمس، وإنما ضرب المثل لهم بوقت صلاة العصر، واستمرار العمل إلى آخر النهار لاستمرار مدة وقت العصر إلى غروب الشمس، وأن ذلك كله وقت لعملهم، وهو صلاة العصر، فكما أن مدة صلاتهم تستمر إلى غروب الشمس، فكذلك مدة عملهم بالقرآن في الدنيا مستمر من حين بعث محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى تقوم عليهم الساعة ويأتي أمر الله وهم على ذلك.
الحديث الثالث:
قال:(4/344)
558 - حدثنا أبو كريب: ثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوماً يعملون له عملاً إلى الليل، فعملوا إلى نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك، فاستأجر آخرين، فقال: أكملوا بقية(4/344)
يومكم ولكم الذي شرطت، فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: لك ما عملنا، فاستأجر قوماً فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين)) .
ظاهر هذه الرواية: يدل على أن كلاً من الفريقين اليهود والنصارى أبطلوا عملهم ولم يسقطوا أجرهم فلم يستحقوا شيئاً، وهذا بخلاف ما في حديث ابن عمر الماضي أنهم أعطوا قيراطاً قيراطاً.
وقد يحمل حديث ابن عمر على من مات قبل نسخ دينه وتبديله، وكان عمله على دين حق، وحديث أبي موسى هذا على من أدركه التبديل والنسخ، فاستمر على عمله، فإنه قد أحبط عمله وأبطل أجره، فلم يستحق شيئاً من الأجر.
فإن قيل: فمن مات قبل التبديل والنسخ مؤمن، له أجره عند الله، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:(4/345)
62] .
قيل: هو كذلك، وإنما لهم أجر واحد على عملهم؛ لأنه شرط لهم ذلك، كما جاء في رواية أخرى صريحة من حديث أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، وهذه الأمة شرط لها على اتمام عمل بقية اليوم أجران.
وقوله: ((فاستكملوا أجر الفريقين)) ؛ لأنه لما بطل عملهما وسقط أجرهما، وعمل المسلمون بقيةَ النهار على قيراطين، فكأنهم أخذوا القيراطين منهما واستحقوا ما كان لهما على عملهما وحازوه دونهما،(4/345)
ولهذا قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لئلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 28، 29] ؛ ولهذا اعترف أهل الكتاب أنهم لم يظلموا من أجرهم شيئاً.
وفي حديث أيوب: ((أن اليهود استؤجرت لتعمل إلى الظهر على قيراط، والنصارى إلى العصر على قيراط)) ، وهذا صحيح؛ فإن كلاً من الطائفتين أشعر بنسخ دينه وتأقيته، وانه يعمل عليه إلى أن يأتي نبي آخر بكتاب آخر مصدق له، وإن لم يذكر لهم ذلك الوقت معيناً.
وقد تنازع أهل الأصول فيمن أمر أن يعمل عملاً إلى وقت غير معين، ثم أمر بترك ذلك العمل، والعمل بغيره: هل هو نسخ في حقه، أم لا؟ مثل قوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] .
وفي الجملة، فاستحقاق اليهود والنصارى قيراطاً واحداً على عملهم وإحباط أجرهم وإبطاله هو بالنسبة إلى طائفتين منهم، لا إلى طائفة واحدة.
وقد استدل أصحابنا بحديث أبي موسى على أن من استؤجر لعمل في مدة معينة، فعمل بعضه في بعض المدة، ثم ترك العمل في باقي المدة باختياره من غير عذر، أنه قد أسقط حقه من الأجرة، ولا يستحق منها شيئاً.(4/346)
ومقصود البخاري بهذا الحديث – أيضا -: أن ضرب المثل لعمل المسلمين من وقت صلاة العصر إلى غروب الشمس يؤخذ منه بقاء وقت صلاة العصر وامتداده إلى غروب الشمس، كما سبق.(4/347)
18 - باب
وقت المغرب
وقال عطاء: يجمع المريض بين المغرب والعشاء.
قد سبق الكلام على جمع المريض مستوفى في الكلام على حديث ابن عباس في الجمع لغير عذر.
وخرج في هذا الباب أربعة أحاديث:
الحديث الأول:
قال:(4/348)
559 - حدثنا محمد بن مهران: ثنا الوليد: ثنا الأوزاعي: حدثني أبو النجاشي مولى رافع – هو: عطاء بن صهيب -، قال: سمعت رافع بن خديج قال: كنا نصلي المغرب مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فينصرف أحدنا وإنه ليبصر مواقع نبله.
وقد روي هذا المعنى عن غير واحد من الصحابة في صلاتهم مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المغرب، ولم يخرج في ((الصحيحين)) من غير هذه الطريق.
وقد روى شعبة، عن أبي بشر، عن حسان بن بلال، عن رجال من أسلم من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أنهم كانوا يصلون مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يرجعون(4/348)
إلى أهليهم إلى أقصى المدينة يرمون، يبصرون مواقع سهامهم.
خرجه النسائي.
وخرجه الإمام أحمد عن هشيم، عن أبي بشر، عن علي بن بلال الليثي، عن ناس من الأنصار، قالوا: كنا نصلي مع رسول الله المغرب، ثم ننصرف فنترامى حتى نأتي ديارنا، فيما يخفى علينا مواقع سهامنا.
وخرجه –أيضا - من رواية أبي عوانة، عن أبي بشر – بنحوه.
وهو أشبه من رواية شعبة -: قاله البخاري في ((تاريخه)) .
وروى الزهري، عن رجل من أبناء النقباء، عن أبيه، قال: كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المغرب، ثم ننصرف فننظر إلى مواقع النبل، وبينهم نحو من ميل – يعني: قباء.
وفي رواية: ثم نخرج إلى منازلنا، وإن أحدنا لينظر إلى موقع نبله، قيل للزهري: كم كان منازلهم؟ قال: ثلثا ميل.
وخرج الإمام أحمد وابن خزيمة في ((صحيحه)) من حديث جابر، قال: كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المغرب، ثم نأتي بني سلمة ونحن نبصر مواقع النبل.
وخرجه الإمام أحمد من رواية ابن عقيل، عن جابر – بنحوه، إلا أنه قال: ثم نرجع إلى منازلنا وهي [على قدري] ميل وأنا أبصر موقع النيل.(4/349)
وهذا كله يدل على شدة تعجيل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصلاة المغرب، ولهذا كانت تسمى صلاة البصر.
كما خرجه الإمام أحمد من رواية أبي طريف الهذلي، قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين جاء خبر أهل الطائف، فكان يصلي بنا صلاة البصر، حتى لو أن رجلاً رمي لرأى موقع نبله.(4/350)
قال الإمام أحمد: صلاة البصر: هي صلاة المغرب.
الحديث الثاني:(4/351)
560 - ثنا محمد بن بشار: ثنا محمد بن جعفر: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي، قال: قدم الحجاج، فسألنا جابر بن عبد الله، فقال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس نقية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء أحياناً وأحياناً، إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطئوا أخر، والصبح كانوا – أو كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليها بغلس.
مقصوده من هذا الحديث في هذا الباب: صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المغرب إذا وجبت – يعني: الشمس -، ووجوبها: سقوطها، كقوله تعالى: {فَإذا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 36] ، والمعنى: إذا سقط قرص الشمس وذهب في الأرض وغاب عن أعين الناس.
الحديث الثالث:
قال: 561 - حدثنا المكي بن إبراهيم: ثنا يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة، قال: كنا نصلي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المغرب إذا توارت بالحجاب.
هذا [أحد] ثلاثيات البخاري، والضمير يعود إلى غير مذكور، وهو الشمس، وقرينة صلاة المغرب تدل عليه، وهو كقوله تعالى في قصة سليمان:(4/351)
{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 31، 32] ، فحذف ذكر الشمس لدلالة العشي عليها، والمعني بتواريها بالحجاب: تواري قرصها عن أعين الناظرين، بما حجبها عنها من الأرض.
وخرج مسلم حديث سلمة، ولفظه: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب.
وخرجه أبو داود، ولفظه: كان يصلي ساعة تغرب الشمس، إذا غاب حاجبها.
وهذا الحديث والذي قبله يدلان على أن مجرد غيبوبة القرص يدخل به وقت صلاة المغرب، كما يفطر الصائم بذلك، وهذا إجماع من أهل العلم -: حكاه ابن المنذر وغيره.
قال أصحابنا والشافعية وغيره: ولا عبرة ببقاء الحمرة الشديدة في السماء بعد سقوط قرص الشمس وغيبوبته عن الأبصار.
ومنهم من حكى رواية عن أحمد باعتبار غيبوبة هذه الحمرة، وبه قال الماوردي من الشافعية. ولا يصح ذلك.
وأماإن بقي شيء من شعاعها على الجدران أو تلك الجبال فلابد من ذهابه.
وحكى الطحاوي عن قوم، أنهم اعتبروا مع مغيب الشمس طلوع(4/352)
النجم، ولم يسمهم.
والظاهر: أنه قول طائفة من أهل البدع كالروافض ونحوهم، ولم يقل أحد من العلماء المعتد بهم.
وروى أبو نعيم الفضل بن دكين: ثنا إسرائيل، عن طارق، عن سعيد بن المسيب، قال: كتب عمر إلى أمراء الأمصار: لا تصلوا المغرب حتى تشتبك النجوم.
وهذا إنما يدل على استحباب ذلك، وقد روي عن عمر خلاف ذلك موافقة لجمهور الصحابة.
والأحاديث والآثار في كراهة التأخير حتى يطلع النجم كثيرة جداً:
ومن أجودها: ما روى ابن إسحاق: ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله، قال: قدم علينا أبو أيوب غازياً وعقبة بن عامر يومئذ على مصر، فأخر المغرب، فقام إليه أبو أيوب، فقال له: ما هذه الصلاة يا عقبة؟ قال: شغلنا. قال: أماسمعت من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((لا تزال أمتي بخير – أو قال: على الفطرة – ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم)) ؟
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن خزيمة في ((صحيحه)) والحاكم وصححه.
وقد خولف ابن إسحاق في إسناده،(4/353)
فرواه حيوة بن شريح، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران، عن أبي أيوب، قال: كنا نصلي المغرب حين تجب الشمس.
ورواه ابن لهيعة، عن يزيد، ورفعه إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال أبو زرعة: حديث حيوة أصح.
وخرج الإمام أحمد معناه من حديث السائب بن يزيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرجه ابن ماجه من حديث العباس بن عبد المطلب، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز، أنه أخر ليلة المغرب حتى طلع نجمان، فأعتق رقبتين كفارة لتأخيره.
فأماالحديث الذي خرجه مسلم من حديث أبي بصرة الغفاري، قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر، فقال: ((إن هذه الصلاة عرضت على من قبلكم فضيعوها، فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد)) ، والشاهد النجم.(4/354)
فقد اختلف العلماء في تأويله:
فمنهم من حمله على كراهة التنفل قبل المغرب حتى تصلى، وهو قول من كره ذلك من العلماء، وقال: قوله: ((لا صلاة بعدها)) إنما هو نهي عن التنفل بعد العصر فيستمر النهي حتى تصلى المغرب، فإذا فرغ منها حينئذ جاز التنفل، وحينئذ تطلع النجوم غالباً.
ومنهم من قال: إنما أراد أن النهي يزول بغروب الشمس، وإنما علقه بطلوع الشاهد لأنه مظنة له، والحكم يتعلق بالغروب نفسه.
ومنهم من زعم أن الشاهد نجم خفي يراه من كان حديد البصر بمجرد غروب الشمس، فرؤيته علامة لغروبها.
وزعم بعضهم: أن المراد بالشاهد الليل، وفيه بعد.
وقد أجمع العلماء على أن تعجيل المغرب في أول وقتها أفضل، ولا خلاف في ذلك مع الصحو في الحضر، إلا ما روي عن عمر كما تقدم، وروي عنه خلافه من وجوه.
فأمافي الغيم ففيه اختلاف سبق ذكره، وأمافي السفر فيستحب تأخيرها ليلة النحر بالمزدلفة من دفع من عرفة حتى يصليها مع العشاء بالمزدلفة كما فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي صحة صلاتها في طريقه قبل وصوله إلى المزدلفة اختلاف يذكر في موضع آخر – إن شاء الله.
وأمافي غير تلك الليلة في السفر فيجوز تأخيرها للجمع بينها وبين العشاء.
وقال مالك: يصلي المقيم المغرب إذا غربت(4/355)
الشمس، والمسافر لا بأس أن يمد ميلاً ثم ينزل فيصلي.
وقد روي ذلك عن ابن عمر. وروي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيضا.
وكذلك رخص الثوري في تأخيرها في السفر دون الحضر، وقال: كانوا يكرهون تأخيرها [في الحضر دون السفر] .
وهل يستحب أن يفصل بين آذان المغرب وإقامتها بجلسة خفيفة؟ فيه قولان:
أحدهما: يستحب، وهو قول النخعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبي يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: يفصل بينهما بسكتة بقدر ثلاث آيات قائماً؛ لأن مبناها على التعجيل، والقائم أقرب إليه، فإن وصل الإقامة بالأذان كره عنده.
والقول الثاني: لا يستحب الفصل بجلوس ولا غيره؛ لأن وقتها مضيق، وهو قول مالك.
وقال أحمد: الفصل بينهما بقدر ركعتين كما كانوا يصلون الركعتين في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الأذان والإقامة للمغرب. كما سيأتي في موضعه – إن شاء الله تعالى.
وعند الشافعي وأصحابه: يفصل بينهما فصلاً يسيراً بقعدة أو سكوت ونحوهما.
الحديث الرابع:
قال:(4/356)
562 - ثنا آدم: ثنا شعبة ثنا عمرو بن دينار، قال: سمعت جابر بن زيد، عن عبد الله بن عباس، قال: صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبعاً جميعاً،(4/356)
وثمانياً جميعاً.
قد سبق هذا الحديث في ((باب: تأخير الظهر إلى العصر)) والكلام عليه مستوفى.
ومقصود البخاري بتخريجه في هذا الباب: أن يستدل به على جواز تأخير المغرب إلى آخر وقتها قبل غروب الشفق، وأن وقتها ممتد إلى غروب الشفق، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاها مع العشاء جميعاً في الحضر من علة، وقد حمله طائفة من العلماء على أنه أخر المغرب إلى آخر وقتها، وقدم العشاء في أول وقتها، كذلك حمله عليه أبو الشعثاء وعمرو بن دينار، وأحمد في رواية عنه، وتبويب البخاري هنا يدل عليه.
وعلى هذا التقدير، فهو دليل ظاهر على امتداد وقت المغرب إلى مغيب الشفق.
ويدل على ذلك صريحاً: ما في ((صحيح مسلم)) عن عبد الله بن شقيق، قال: خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، فجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة. قال: فجاءه رجل من بني تميم، لا يفتر ولا ينثني: الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس: أتعلمني السنة لا أم لك؟! ثم قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء.
قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة فسألته، فصدق مقالته.
وممن ذهب إلى أن وقت المغرب يمتد إلى مغيب الشفق: الحسن بن حي والثوري وأبو حنيفة ومالك في ((الموطأ)) ، والشافعي في قول له رجحه طائفة من أصحابه، وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وروي عن ابن عباس وغيره.
وخرج مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،(4/357)
قال: ((إذا صليتم المغرب، فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق)) .
وفي رواية له – أيضا -: ((وقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق)) .
وفي رواية له – أيضا -: ((وقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق)) .
وقد اختلف في رفعه ووقفه.
وخرج مسلم – أيضا – من حديث بريدة، أن سائلاً سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مواقيت الصلاة – فذكر الحديث بطوله، وفيه: أنه صلى في اليوم الأول المغرب حين وجبت الشمس، وفي اليوم الثاني صلى قبل أن يقع الشفق، وقال: ((ما بين ما رأيت وقت)) .
وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن للصلاة أولاً وآخراً)) – فذكر الحديث، وفيه: ((وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق)) .
وله علة، وهي أن جماعة رووه عن الأعمش، عن مجاهد، قال: كان يقال ذلك.
وهذا هو الصحيح عند ابن معين والبخاري والترمذي(4/358)
وأبي حاتم والبزار والعقيلي والدارقطني وغيرهم.
وذهب طائفة إلى أن للمغرب وقتاً واحداً حين تغرب الشمس، ويتوضأ ويصلي ثلاث ركعات، وهو قول ابن المبارك، ومالك في المشهور عنه، والأوزاعي، والشافعي في ظاهر مذهبه.
واستدلوا: بأن جبريل صلى بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المغرب في اليومين في وقت واحد، وصلى به سائر الصلوات في وقتين.
وزعم الأثرم أن هذه الأحاديث أثبت، وبها يعمل.
ومن قال: يمتد وقتها، قال: قد صح حديث بريدة، وكان ذلك من فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة، فهو متأخر عن أحاديث صلاة جبريل.
وفي حديث عبد الله بن عمرو: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين ذلك بقوله، وهو أبلغ من بيانه بفعله.
ويعضده: عموم قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث أبي قتادة: ((إنما التفريط في اليقظة، أن(4/359)
يؤخر صلاة حتى يدخل وقت الأخرى)) ، خرج من عموم ذلك الصبح بالنصوص والإجماع، بقي ما عداها داخلاً في العموم.
ولأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر من حضره العشاء بتقديمه على الصلاة، ولولا اتساع وقت المغرب لكان تقديم العشاء تفويتاً للمغرب عن وقتها للأكل، وهو غير جائز.
ولأن الجمع بين المغرب والعشاء جائز في وقت المغرب للعذر بالاتفاق من القائلين: بأن وقتها واحد، ولا يمكن الجمع بينهما في وقت المغرب إلا مع امتداد وقتها واتساعه لوقوع الصلاتين.
ولعل البخاري إنما صدر الباب بقول عطاء: ((يجمع المريض بين المغرب والعشاء)) لهذا المعنى الذي أشرنا إليه. والله أعلم.
ومتى غاب الشفق، فات وقت المغرب بإجماع من سمينا ذكره.
وروي عن عطاء وطاوس: لا يفوت حتى يفوت العشاء بطلوع الفجر، وحكي رواية عن مالك – أيضا -، والأحاديث المذكورة ترد ذلك.
واختلفوا في الشفق الذي يفوت وقت المغرب بمغيبه: هل هو الحمرة، أو البياض؟ على قولين.
ومذهب الثوري ومالك والشافعي: أنه الحمرة.
ومذهب أبي حنيفة والمزني: أنه البياض.
واختلف قول أحمد وأصحابه في ذلك، وسنذكره فيما بعد – إن شاء الله تعالى.(4/360)
19 - باب
من كره أن يقال للمغرب: العشاء(4/361)
563 - حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو: ثنا عبد الوارث، عن الحسين: ثنا عبد الله بن بريدة: حدثني عبد الله المزني، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب)) . قال: وتقول الأعراب: هي العشاء.
عبد الله المزني، هو: ابن مغفل – رضي الله عنه.
وقد استدل بهذا الحديث من كره تسمية المغرب العشاء، وهو قول الشافعي وغيرهم.
وقال أصحابنا: لا يكره ذلك، واستدلوا بأن العشاء تسمى العشاء الآخرة، كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة)) .
خرجه مسلم.
وسيأتي بعض الأحاديث المصرحة بذلك، فدل على أن المغرب العشاء الأولى.(4/361)
وأجاب بعضهم بأن وصف العشاء بالآخرة لأنها آخر الصلوات، لا لأن قبلها عشاء أخرى.
وقد حكي عن الاصمعي، انه أنكر تسميتها العشاء الآخرة، ولا يلتفت إلى ذلك.
وفي ((صحيح مسلم)) عن علي، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى العصر يوم الأحزاب بين العشاءين: المغرب والعشاء.
قال أصحابنا: وحديث أبن مغفل يدل على أن تسميتها بالمغرب أفضل، ونحن نقول بذلك.
ومن متأخريهم من قال: حديث ابن مغفل إنما يدل على النهي عن أن يغلب اسم العشاء على المغرب حتى يهجر اسم المغرب، أو يقل تسميتها بذلك، كما هي عادة الأعراب، فأماإذا لم يغلب عليها هذا الاسم فلا يتوجه النهي حينئذ إليه.
وقد تقدم أنها تسمى صلاة البصر - أيضا - فإذا سميت بذلك من غير أن يهجر تسميتها بالمغرب، ويغلب تسميتها بذلك؛ جاز.(4/362)
20 - باب
ذكر العشاء والعتمة، ومن رآه واسعاً
مراده: أن العشاء الآخرة تسمى العشاء، وتسمى العتمة، وأنه يجوز تسميتها بالعتمة من غير كراهة، وإن كان تسميتها بالعشاء أفضل اتباعاً لقول الله عز وجل:
{وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58] .
وهذا قول كثير من العلماء، أو اكثرهم، وهو ظاهر كلام أحمد، وقول أكثر أصحابه، وكذا قال الشافعي في ((الأم)) : أحب إلي أن لا تسمى العشاء الآخرة عتمة، وهو قول كثير من أصحابه، أو أكثرهم.
ومنهم من قال: يكره أن تسمى عتمة، وهو وجه ضعيف لأصحابنا.
وقد روي عن طائفة من السلف، منهم: ابن عمر وكان يكرهه كراهة شديدة، ويقول أول من سماها بذلك الشيطان. وكرهه - أيضا - ابنه سالم وابن سيرين.
وخرج مسلم من حديث عبد الله بن أبي لبيد، عن أبي سلمة، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، ألا إنها العشاء، وهم يعتمون بالإبل)) .
وفي رواية له - أيضا -: ((لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء، فإنها في كتاب الله(4/363)
العشاء، وإنها تعتم بحلاب الإبل)) .
كذا رواه ابن أبي لبيد، عن أبي سلمة.
وابن أبي لبيد كان يتهم بالقدر. وقال العقيلي: كان يخالف في بعض حديثه.
وتابعه عليه ابن أبي ليلى، عن أبي سلمة، وابن أبي ليلى ليس بالحافظ.
ورواه عبد الرحمن بن حرملة، عن أبي سلمة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً.
وقيل: عن ابن حرملة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة – مرفوعاً.
خرجه ابن ماجه. وليس بمحفوظ.
وفيه – أيضا -: عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي إسناده جهالة.(4/364)
وقد حمله بعض أصحابنا على كراهة نفي الكمال دون الكراهة، وحمله بعضهم على كراهة هجران اسم العشاء وغلبة اسم العتمة علها كفعل الإعراب.
وتسميتها في كتاب الله بالعشاء لا يدل على كراهة تسميتها بغيره، كما أن الله تعالى سمى صلاة الصبح صلاة الفجر، ولا يكره تسميتها صلاة الصبح.
خرج البخاري في هذا الباب حديثاً مسنداً، وذكر فيه أحاديث كثيرة تعليقاً، وقد خرج عامتها في مواضع أخر من كتابه، فقال:
وقال أبو هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أثقل الصلاة على المنافقين العشاء والفجر) . وقال: (لو يعلمون ما في العتمة والفجر)) .
حديث أبي هريرة قد أسنده في ((باب: فضل صلاة العشاء في جماعة)) ، وخرج قبله في ((باب: فضل التهجير إلى الظهر)) من حديث أبي هريرة – مرفوعاً -: ((لو يعلمون ما في العتمة والصبح)) . وخرجه أيضا – في ((باب: الأستهمام على الأذان)) ثم قال البخاري:(4/365)
فالاختيار أن يقول: العشاء؛ لقول الله: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور:(4/366)
58] .
قال:
ويذكر عن أبي موسى: كنا نتناوب إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند صلاة العشاء، فأعتم بها.
حديث أبي موسى هذا قد خرجه بعد هذا قريباً في ((باب: فضل العشاء)) ، وخرجه في مواضع أخر، وقد علقه هنا بقوله: ((ويذكر)) ، فدل على أن هذه الصيغة عنده لا تقتضي ضعفاً فيما علقه بها، وأنه يعلق بها الصحيح والضعيف، إلا أن أغلب ما يعلق بها ما ليس على شرطه.
ثم قال:
وقال ابن عباس وعائشة: أعتم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[بالعشاء.
وقال بعضهم: عن عائشة أعتم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] بالعتمة.
حديث عائشة خرجه في ((باب: فضل العشاء)) ، ولفظ: ((أعتم بالعشاء)) .
وحديث ابن عباس خرجه في ((باب: النوم قبل العشاء)) ، بلفظ حديث عائشة.
وخرج مسلم حديث عائشة، ولفظه: ((أعتم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة(4/366)
بصلاة العشاء، وهي التي تدعى العتمة)) .
وخرج النسائي حديث عائشة وابن عباس، وعنده فيهما: أعتم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعتمة.
وخرج أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري، قال: صلينا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة العتمة.
ومن حديث معاذ بن جبل، قال: أبقينا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة العتمة.
ثم قال البخاري:
وقال جابر: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العشاء.
حديث جابر قد خرجه البخاري في الباب الذي بعد هذا، وقد خرجه فيما مضى – أيضا.
قال:
وقال أبو برزة: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤخر العشاء.
حديث أبي برزة هذا خرجه فيما مضى في ((باب: وقت العصر)) ولفظه: ((وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي(4/367)
تدعونها العتمة)) .
ثم قال:
وقال أنس: أخر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء الآخرة.
حديث أنس هذا خرجه النسائي، وخرجه البخاري في مواضع، ولفظه: ((أخر العشاء)) .
وخرج مسلم من حديث ابن عمر، قال: مكثنا ليلة ننتظر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصلاة العشاء الآخرة.
ثم قال البخاري:
وقال ابن عمر وأبو أيوب: صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المغرب والعشاء.
وحديثهما في جمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، وقد خرجه البخاري في ((كتاب الحج)) . وخرجه مسلم – أيضا.
وأماالحديث الذي أسنده في هذا الباب:
فقال:(4/368)
564 - حدثنا عبدان: أبنا عبد الله: ثنا يونس، عن الزهري: قال سالم: أخبرني عبد الله، قال: صلى لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة صلاة العشاء –(4/368)
وهي التي يدعو الناس العتمة -، ثم أنصرف فأقبل علينا، فقال: ((أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن راس مائة سنة [منها] لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد)) .
في هذا الحديث: أن صلاة العشاء يدعوها الناس العتمة، وكذا في حديث عائشة وأبي برزة، وهذا كله على اشتهار اسمها بين الناس بالعتمة، وهو الذي نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان ابن عمر وغيره يكرهونه أن يغلب عليها اسم العتمة حتى لا تسمى بالعشاء إلا نادراً.
وأماإذا غلب عليها اسم العشاء، ثم سميت – أحياناً - بالعتمة بحيث لا يزول بذلك غلبة اسم العشاء عليها، فهذا غير منهي عنه، وإن كان تسميتها بالعشاء – كما سماها الله بذلك في كتابه – أفضل.
وأماما قاله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أنه: ((لا يبقى على رأس مائة سنة من تلك الليلة أحد)) ، فمراده بذلك: انخرام قرنه وموت أهله كلهم الموجودين منهم في تلك الليلة على الأرض، وبذلك فسره أكابر الصحابة كعلي بن أبي طالب وابن عمر وغيرهما.
ومن ظن أنه أراد بذلك قيام الساعة الكبرى فقد وهم، وإنما اراد قيام ساعة الأحياء حينئذ وموتهم كلهم، وهذه الساعة الوسطى، والساعة الصغرى موت كل أنسان في نفسه، فمن مات فقد قامت ساعته الصغرى، كذا قاله المغيرة بن شعبة وغيره.(4/369)
21 - باب
وقت العشاء إذا اجتمع الناس أو تأخروا(4/370)
565 - حدثنا مسلم بن إبراهيم: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن محمد ابن عمرو – وهو: ابن الحسن بن علي -، قال: سألنا جابر بن عبد الله عن صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس حية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء إذا كثر الناس عجل، وإذا قلوا اخر، والصبح بغلس.
هذا الحديث: دليل على أن الأفضل في صلاة الإمام العشاء الآخرة مراعاة حال المأمومين المصلين في المسجد، فإن اجتمعوا في أول الوقت فالأفضل أن يصلي بهم في أول الوقت، وإن تأخروا فالأفضل أن يؤخر الصلاة حتى يجتمعوا؛ لما في ذلك من حصول فضل كثرة الجماعة، ولئلا يفوت صلاة الجماعة لكثير من المصلين.
وتبويب البخاري: يدل على استحباب ذلك، وهو – أيضا - قول عطاء وأبي حنيفة، وأحمد، نص عليه في رواية الأثرم، قال: يؤخرها ما قدر بعد أن لا يشق على الناس، وهو المذهب عند القاضي أبي يعلي في (كتاب الجامع الكبير) من غير خلاف.
ومن الأصحاب من حكى رواية اخرى عن أحمد: أن تأخيرها أفضل(4/370)
بكل حال.
والصحيح: ما قاله القاضي، وأن المذهب أن تأخيرها أفضل، إلا أن يشق على المأمومين، أو يشق على من كان يصلي وحده.
وقال عطاء: الأفضل تأخيرها، إمأماكان أو منفرداً، إلا أن يشق عليه أو على الجماعة فيصليها وسطاً لا معجلة ولا مؤخرة.
خرجه مسلم بإسناده عنه في (صحيحه) .
وروي أن عمر كتب إلى أبي موسى كتاباً، وقال فيه: صلي العشاء ما لم تخف رقاد الناس.
خرجه البيهقي.
وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إنه لوقتها، لولا أن أشق على أمتي) يدل على أنه كان يراعي حالهم إذا شق عليهم التأخير إلى وقتها الأفضل.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه وصى معاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن: (أن تعجل العشاء في الصيف، وتؤخرها في الشتاء) ، وذلك مراعاة لحال المأمومين.
وقد قال ابن أبي هريرة – من أعيان الشافعية -: إن قولي الشافعي في استحباب تأخير العشاء وتقديمها ليسا على قولين، بل على حالين: فإن علم من نفسه أنه إذا أخرها لا يغلبه نوم ولا كسل استحب تأخيرها، وإلا فتعجيلها، وجمع بين الأحاديث بهذا.(4/371)
وضعف الشاشي قوله في ذلك، ورد عليه صاحب (شرح المهذب) ، ورجح ما قاله ابن أبي هريرة، وقال: هو ظاهر، أو الأرجح. والله أعلم.(4/372)
22 - باب
فضل العشاء
فيه حديثان:
الأول:(4/373)
566 - حدثنا يحيى بن بكير: ثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، أن عائشة أخبرته، قالت: أعتم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة بالعشاء، وذلك قبل أن يفشو الإسلام، فلم يخرج حتى قال عمر: نام النساء والصبيان، فخرج، فقال لأهل المسجد: (ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم) .
قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم) ، قد فهمت منه عائشة – رضي الله عنها – أن الصلاة لم يكن يجتمع لها بغير المدينة.
وقد خرجه البخاري في موضع آخر، وفيه: قال: (ولا يصلى يومئذ إلا بالمدينة) ، ولعل هذا مدرج من قول الزهري أو عروة، وقد كان يصلي بالمدينة في غير مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كمسجد قباء وغيره من مساجد قبائل الأنصار.
وقد روي ما يدل على أن مراد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه لا يصليها أحد من أهل الأديان غير المسلمين.(4/373)
ففي (صحيح مسلم) من حديث منصور، عن الحكم، عن نافع، عن ابن عمر، قال: مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصلاة عشاء الآخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده، فلا ندري أشيء شغله في أهله أو غير ذلك؟ فقال حين خرج: (إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة) ، ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى.
وخرج الإمام أحمد من رواية عاصم، عن زر، عن ابن مسعود، قال: أخر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: (أماإنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم) ، قال: وأنزلت هؤلاء الآيات: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] .
وخرجه يعقوب بن شيبة في (مسنده) ، وقال: صالح الإسناد.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من رواية عاصم بن حميد السكوني، أنه سمع معاذ بن جبل قال: رقبنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة العتمة، فتأخر حتى خرج، فقال: (أعتموا بهذه الصلاة؛ فإنكم قد فضلتم بها على(4/374)
سائر الأمم، ولم تصلها أمة قبلكم) .
وعاصم هذا؛ وثقه ابن حبان والدارقطني، وهو من أصحاب معاذ.
وخرج أبو مسلم الكجي في (سننه) من حديث الشعبي، قال: بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخر صلاة العشاء ذات ليلة حتى ذهب من الليل ما شاء الله، ثم جاء، فقال: (هذه الصلاة لم يعطها أحد من الأمم قبلكم – أو غيركم - فمن كان طالباً إلى الله عز وجل حاجة لآخرة أو دنيا فليطلبها في هذا الصلاة) .
وقد دلت هذه الأحاديث على فضل ذكر الله تعالى في الأوقات التي يغفل عموم الناس فيها، ولهذا فضل التهجد في وسط الليل على غيره من الأوقات؛ لقلة من يذكر الله في تلك الحال.
وفي (المسند) عن أبي ذر، قال: سألت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي قيام الليل أفضل؟ قال: (جوف الليل الغابر – أو نصف الليل – وقليل فاعله) .
وفي الترمذي عن عمرو بن عبسة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن) .(4/375)
قال بعض السلف: ذاكر الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة، ولولا من يذكر الله في غفلة الناس هلك الناس.
ورويناه مرفوعاً بإسناد ضعيف، عن ابن عمر – مرفوعاً -: (ذاكر الله في الغافلين كالذي يقاتل عن الفارين، وذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء في وسط الشجر الذي تحات ورقه من الصريد) – والصريد: البرد الشديد – (والذاكر الله في الغافلين يغفر له بعدد كل رطب ويابس، وذاكر الله في الغافلين يعرف مقعده من الجنة) .
الحديث الثاني:(4/376)
567 - حدثنا محمد بن العلاء: ثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: كنت أنا وأصحابي الذين قدموا معي في السفينة نزولاً في بقيع بطحان، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة، فكان يتناوب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند صلاة العشاء كل ليلة نفر منهم، فوافقنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا وأصحابي، وله بعض الشغل في بعض أمره، فأعتم بالصلاة، حتى أبهار الليل، ثم خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى بهم، فلما قضى صلاته قال لمن حضره: (على رسلكم، أبشروا، إن من نعمة الله عليكم أنه ليس أحد من الناس يصلي هذه الساعة غيركم) – أو قال: (ما صلى هذه الساعة أحد غيركم) ، لا أدري أي الكلمتين قال – قال أبو موسى: فرجعنا فرحى، وفرحنا بما سمعنا من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
البقيع – في اللغة -: المكان الذي فيه شجر من ضروب شتى.
وبطحان: أحد أودية المدينة المشهورة، وهي ثلاثة: بطحان، والعقيق، وقناة.
وبطحان: يقوله أهل الحديث بضم أوله، وسكون ثانيه، وقيل: بفتح أوله، وأهل اللغة يقولونه بفتح أوله وكسر ثانيه، وقالوا: لا يجوز فيه غير ذلك -: ذكره صاحب (معجم البلدان) .
وقوله: (أعتم بالصلاة) أي أخرها، ومنه قيل: (قرى عاتم) إذا لم يقدم العجالة للضيف، وأبطأ عليه بالطعام.
ومعنى: (أبهار الليل) انتصف -: قاله الأصمعي وغيره، وقالوا: بهرة كل شيء وسطه.
وقيل: معناه: استنار الليل [باستهام] طلوع نجومه بعد أن تذهب فحمة الليل وظلمته بساعة، وهذا بعيد.
وقوله: (ليس أحد من الناس يصلي هذه(4/376)
الساعة غيركم) – أو (ما صلى هذه الساعة أحد غيركم) – يحتمل أنه أراد به أهل الأديان، كما تقدم وأنه أراد به المسلمين - أيضا.
وفي هذا الحديث والذي قبله: دليل على استحباب تأخير العشاء.
وفي حديث أبي موسى: دلالة على جواز تأخيرها إلى انتصاف الليل، وسيأتي القول في ذلك مبسوطاً – إن شاء الله تعالى.(4/377)
23 - باب
ما يكره من النوم قبل العشاء(4/378)
568 - حدثنا محمد بن سلام: ثنا عبد الوهاب الثقفي: ثنا خالد الحذاء، عن أبي المنهال، عن أبي برزة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها.
قد اخذ بظاهر هذا الحديث طائفة من العلماء، وكرهوا النوم قبل العشاء بكل حال.
قال ابن المبارك: أكثر الأحاديث على ذلك.
ورويت الكراهة عن عمر، وابن عمر وابن عباس، وأبي هريرة، وعن مجاهد، وطاوس، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والنخعي، وهو قول أصحاب الشافعي، وحكي عن مالك وأبي حنيفة والشافعي -: حكاه ابن عبد البر.
وذكره ابن أبي موسى من أصحابنا مذهباً لنا، وهو قول الثوري.
وروي عن ابن عمر كراهة النوم قبل العشاء وإن وكل به من يوقظه من رواية الفقير وغيره، عنه.
وعن مجاهد: لأن أصلي صلاة العشاء قبل أن يغيب الشفق وحدي أحب إلي من أن أنام ثم أدركها مع الإمام.(4/378)
كذا رواه عبد الكريم البصري، عنه.
وروى عنه – أيضا -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا نامت عين رجل نام قبل أن يصلي العشاء) .
وعبد الكريم هذا، ضعيف.
وروى عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلي الطائفي، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: ما نام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل العشاء الآخرة ولا سمر بعدها.
خرجه ابن ماجه.
وعبد الله هذا، قال ابن معين: صويلح. وقال البخاري: مقارب الحديث. وقال الدارقطني: يعتبر به. وقال النسائي: ليس بالقوي.
وروى يحيى بن سليم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نائماَ قبل العشاء ولا متحدثاً بعدها.
ذكره الأثرم، وضعفه من أجل يحيى بن سليم، وقال: لم يروه غيره.
كذا قاله.
وخرجه ابن حبان في (صحيحه) من طريق جعفر بن سليمان، عن هشام.(4/379)
وخرجه البزار من طريق محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير – وهو متروك -، عن ابن أبي مليكة، عن عروة، عن عائشة – وزاد فيه، في أوله: عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (من نام قبل العشاء فلا أنام الله عينه) .
وهذا لا يثبت مرفوعاً، وإنما روي عن عمر من قوله.
وروى ابن وهب في (مسنده) ، قال: أخبرني مخرمة بن بكير، عن أبيه، أن عائشة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت: سئل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأنسان يرقد عن العشاء قبل أن يصلي؟ قال: (لا نامت عينه) – ثلاث مرات.
وخرجه بقي بن مخلد من طريقه.
وهو منقطع بين بكير بن الأشج وعائشة.
وخرجه بقي من وجه آخر ضعيف، عن عائشة، مرفوعاً – بمعناه.(4/380)
24 - باب
النوم قبل العشاء لمن غلب
خرج فيه حديثين:
الأول:
قال:(4/381)
569 - حدثنا أيوب بن سليمان بن بلال: حدثني أبو بكر، عن سليمان – هو ابن بلال -: ثنا صالح بن كيسان، قال: أخبرني ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: أعتم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعشاء حتى ناداه عمر: الصلاة، نام النساء والصبيان. فخرج فقال: (ما ينتظرها من أهل الأرض أحد غيركم) .
قال: ولا يصلى يومئذ إلا بالمدينة، قال: وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول.
(أبو بكر) هو عبد الحميد بن أبي أويس، وهذا الحديث من جملة نسخة تروى بهذا الإسناد، قد سبق بعضها.
وقوله: (قال: ولا يصلى يومئذ إلا بالمدينة) قال: (وكانوا يصلون) – إلى آخره. الظاهر أنه مدرج من قول الزهري.(4/381)
وقد خرج هذا الحديث مسلم بدون هذا الكلام في آخره من رواية يونس وعقيل، عن ابن شهاب، وزاد فيه: وذلك قبل أن يفشو الإسلام في الناس.
وقد خرجه البخاري قبل هذا من حديث عقيل كذلك.
وخرجه فيما يأتي في أواخر الصلاة في (باب: وضوء الصبيان) : حدثنا أبو اليمان: أبنا شعيب، عن الزهري.
ثم قال: وقال عياش: ثنا عبد الأعلى: ثنا معمر، عن الزهري – فذكر هذا الحديث بمعناه. وفيه: قال: (إنه ليس أحد من أهل الأرض يصلي هذه الصلاة غيركم) . ولم يكن يومئذ يصلي غير أهل المدينة.
ثم خرجه في الباب الذي يليه: (باب: خروج النساء إلى المساجد) عن أبي اليمان، عن شعيب، وقال في حديثه: ولا يصلي يومئذ إلا بالمدينة، وكانوا يصلون العتمة فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل.
وخرجه النسائي من طريق شعيب، عن الزهري.
ومن طريق محمد بن حمير، عن ابن أبي عبلة، عن الزهري، به، وزاد فيه: (ولم يكن يصلي يومئذ إلا بالمدينة) . ثم قال: (صلوها فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل) .
قال: ولفظه لمحمد بن حمير.(4/382)
فجعله من قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا غير محفوظ؛ والظاهر أنه مدرج من قول الزهري. والله أعلم.
وقد خرجه الطبراني في (مسند إبراهيم بن [أبي] عبلة) من غير وجه، عن محمد بن حمير، وفيه: (وكانوا يصلونها) ، وهذا يبين أنه مدرج.
وعند مسلم فيه زيادة اخرى مرسلة. قال ابن شهاب: وذكر لي أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ما كان لكم أن تنزروا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للصلاة) . وذلك حين صاح عمر بن الخطاب.
وهذا يدل على أن في هذا الحديث ألفاظاً أرسلها الزهري، وكانت تلك عادته أنه يدرج في أحاديثه كلمات يرسلها أو يقولها من عنده.
وفي هذا ما يستدل به على وقت العشاء، وأنه من مغيب الشفق إلى ثلث الليل، وهذا القدر متفق على أنه وقت للعشاء، وأن المصلي فيه مصل للعشاء في وقتها، إلا ما حكاه ابن المنذر عن النخعي: أن وقت العشاء إلى ربع الليل، ونقله ابن منصور عن إسحاق.
واختلفوا: فيمن صلى بعد ذهاب ثلث الليل، وفيمن صلى قبل الشفق؟
فأمامن صلى بعد ثلث الليل فسيأتي الكلام عليه في موضعه من الكتاب – إن شاء الله.(4/383)
وأماتقديم صلاة العشاء على مغيب الشفق:
فحكى طائفة من العلماء الإجماع على أن من صلى العشاء قبل مغيب الشفق فعليه الإعادة؛ لأنه مصل في غير الوقت، وحكي فيه خلاف شاذ.
وقد تقدم عن عبد الكريم، عن مجاهد، أنه قال: لأن أصلي صلاة العشاء وحدي قبل أن يغيب الشفق أحب إلي من أن أنام ثم أدركها مع الإمام.
خرجه أبو نعيم في (كتاب الصلاة) له.
وعبد الكريم، هو أبو أمية، ضعيف جداً، مع أن البخاري حسن الرأي فيه.
وقال حرب: سئل أحمد عن الرجل يصلي المغرب قبل أن يغيب الشفق؟ قال: لا أدري.
وروى الإمام أحمد: ثنا عبد الله بن الحارث المخزومي: ثنا ثور بن يزيد، عن سليمان بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر حديث صلاة جبريل به في اليومين، وقال في الأول: (ثم صلى العشاء قبل غيبوبة الشفق) .
قال البيهقي: هذا مخالف لسائر الروايات.(4/384)
وقد خرجه النسائي عن عبيد الله بن سعيد، عن المخزومي به، وقال في الأول: (والعشاء حين غاب الشفق) .
وقد يحمل الشفق في هذا الحديث – على تقدير كونه محفوظاً -، وفي كلام مجاهد وأحمد على البياض، أو يكون مجاهد يرى أن وقت العشاء يدخل بدخول وقت المغرب.
وقد اختلف العلماء في الشفق الذي يدخل به وقت العشاء: هل هو البياض، أو الحمرة؟
فقال طائفة: هو الحمرة، وهو قول ابن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس.
وروي عن عمر وعلي وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس وقول كثير من التابعين، ومذهب الثوري والأوزاعي والحسن بن حي ومالك والشافعي وإسحاق وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور.
ورواه عتيق بن يعقوب، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر – مرفوعاً.
خرجه الدارقطني وغيره.
ورفعه وهم.
وقال البيهقي في (كتاب المعرفة) : لا يصح فيه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء.
وفي (صحيح ابن خزيمة) في حديث عبد الله بن عمرو المرفوع:(4/385)
(ووقت المغرب إلى أن تذهب حمرة الشفق) .
وقد أعلت هذه اللفظة بتفرد محمد بن يزيد الواسطي بها عن سائر أصحاب شعبة.
وقال طائفة: الشفق البياض الباقي بعد الحمرة.
وروي عن عمر بن عبد العزيز، وقو قول أبي حنيفة، وزفر، والمزني، وروي – أيضا - عن الثوري والأوزاعي.
وأماالإمام أحمد فالمشهور عند القاضي أبي يعلي ومن بعده من أصحابه أن مذهبه أن الشفق الحمرة حضراً وسفراً.
وقد نص أحمد في رواية الأثرم فيمن صلى العشاء في الحضر قبل مغيب البياض: يجزئه، ولكن أحب إلي أن لا يصلي في الحضر حتى يغيب البياض.
ونقل عنه جمهور أصحابه: أن الشفق في الحضر البياض، وفي السفر الحمرة وهو الذي ذكره الخرقي في (كتابه) ، قال: لأن في الحضر قد تنزل الحمرة فيواريها الجدران، فيظن أنها قد غابت، فإذا غاب البياض فقد تيقن.
وحمل القاضي ومن بعده هذا على مجرد الاحتياط والاستحباب دون الوجوب.
ومن الأصحاب من حكى رواية أخرى عن أحمد: أن الشفق(4/386)
البياض في السفر والحضر، ولا يكاد يثبت عنه.
وقال ابن أبي موسى: لم يختلف قول أحمد: أن الشفق الحمرة في السفر، واختلف قوله في الحضر على روايتين.
ونقل ابن منصور في (مسائله) ، قال: قلت لأحمد: ما الشفق؟ قال: في الحضر البياض، وفي السفر أرجو أن يكون الحمرة؛ لأن في السفر يجمع بين الصلاتين جد به السير أو لم يجد، فإذا جمع بينهما فلا يبالي متى صلاها.
وهذا تعليل آخر بجواز الجمع بين الصلاتين، وهو يدل على جواز جمع التقديم مع التفريق بين الصلاتين، وعلى أنه لا يشترط للجمع نية الجمع، وقد سبق التنبيه على ذلك.
ومقصود البخاري بتخريج هذا الحديث في هذا الباب: أن من نام قبل صلاة العشاء مغلوباً على ذلك من غير تعمد له فإنه لا يدخل في النهي، لأن النهي إنما هو عن تعمد ذلك، فأمامن لم يتعمده فلا يتوجه إليه النهي.
الحديث الثاني:
قال:(4/387)
570 - حدثنا محمود: ثنا عبد الرزاق: أبنا ابن جريج: أخبرني نافع: ثنا عبد الله بن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شغل عنها ليلة، فأخرها حتى رقدنا في المسجد، ثم استيقظنا، ثم رقدنا، ثم استيقظنا، ثم خرج علينا(4/387)
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قال: (ليس أحد من أهل الأرض ينتظر الصلاة غيركم) .
وكان ابن عمر لا يبالي أقدمها أم أخرها، إذا كان لا يخشى أن يغلبه النوم عن وقتها، وقد كان يرقد قبلها.(4/388)
571 - قال ابن جريج: قلت لعطاء، فقال: سمعت ابن عباس يقول: أعتم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة بالعشاء حتى رقد الناس، واستيقظوا، ورقدوا واستيقظوا، فقام عمر بن الخطاب، فقال: الصلاة.
قال عطاء: قال ابن عباس: فخرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كأني أنظر إليه الآن يقطر رأسَهُ ماءً، واضعاً يده على رأسه، فقال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يصلوها هكذا) .
فاستثبت عطاء: كيف وضع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده على رأسه كما أنبأه ابن عباس.؟ فبدد لي عطاء بين أصابعه شيئاً من تبديد، ثم وضع أطراف أصابعه على قرن الرأس، ثم ضمها يمر بها كذلك على الرأس حتى(4/388)
مست إبهامه طرف الأذن مما يلي الوجه على الصدغ وناحية اللحية، لا يقصر ولا يبطش إلا كذلك، وقال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يصلوها كذلك) .
في حديث ابن عمر أن تأخيرها ليلتئذ كان لشغل شغل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها، ولم يكن عمداً.
وفي رواية لمسلم عنه، قال: مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصلاة العشاء الآخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده قليلاً، فلا ندري أشيء شغله في أهله أو غير ذلك؟ – وذكر بقية الحديث.
وخرجه الإمام أحمد من رواية فليح، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخر ليلة العشاء حتى رقدنا، ثم استيقظنا، ثم رقدنا، ثم استيقظنا، وإنما حبسنا لوفدٍ جاءه، ثم خرج – فذكر الحديث.
وخرج – أيضا – من رواية الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: جهز رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جيشاً ليلة حتى ذهب نصف الليل أو بلغ ذلك، ثم خرج، فقال: (قد صلى الناس ورقدوا وأنتم تنتظرون هذه الصلاة، أماإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتموها) .(4/389)
وقوله: (حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا، ثم رقدنا ثم استيقظنا) . إدخال البخاري له في هذا الباب يدل على أنه يرى أن رقود من رقد إنما كان عن غلبة لم يكن تعمداً وقد كان الصحابة ينامون عن غلبة في انتظار الصلوات.
وقد خرج البخاري فيما بعد حديث عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، قال: أقيمت الصلاة والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يناجي رجلاً في جانب المسجد فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم.
وفي (صحيح مسلم) عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال: أقيمت صلاة العشاء فقال رجل: لي حاجة، فقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يناجيه حتى نام القوم – أو بعض القوم – ثم صلوا.
فحاصل ما ذهب إليه البخاري، وبوب عليه: أنه يكره النوم قبل العشاء إلا لمن غلب، وهو قريب من قول من قال: يكره النوم قبلها مطلقاً كما سبق؛ فإن النوم المغلوب عليه لا يوصف بالكراهة.
وفي حديث عائشة المتقدم ما يدل على ذلك، وأنه إنما نام النساء والصبيان لضعفهم وقلة ضبط نفوسهم عن النوم دون الرجال.
وقد ذهب قوم من العلماء إلى جواز تعمد النوم قبلها، كما في رواية البخاري، أن ابن عمر كان يرقد قبلها
وروى أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان ينام قبل العشاء ويوكل من أهله من يوقظه.(4/390)
وروى زفر بن الحارث أنه نام عند عائشة – يعني: قبل العشاء – فذهب بعض أهلها يوقظه، فقال: دعوه؛ فإنه في وقت ما بينه وبين نصف الليل.
وقال أبو حصين، عن أصحاب ابن مسعود، أنهم كانوا ينامون قبل العشاء. وقال: وكان الأسود ينام بين المغرب والعشاء في رمضان.
وقال حجاج: قلت لعطاء: إن أناساً يقولون: من نام قبل العشاء، فلا نامت عليه؟ فقال: بئس ما قالوا.
وروي – أيضا – عن علي وخباب وأبي وائل وعروة وسعيد بن جبير، وابن سيرين وغيرهم.
وقال الحاكم: كانوا يفعلون ذلك.
وروى الإمام أحمد في (المسند) : ثنا يحيى بن سعيد الأموي، حدثنا ابن أبي ليلى، عن ابن الأصبهاني، عن جدةٍ له – وكانت سرية لعلي -، قالت: قال علي: كنت رجلاً نئوماً، وكنت إذا صليت المغرب وعلي ثيأبي نمت – ثم قال يحيى بن سعيد: فأنام -، فسألت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(4/391)
عن ذلك، فرخص لي.
وروي موقوفاً، وهو أشبه.
رواه أبو بكر الحنفي، عن سفيان، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عبد الله، عن جده، عن علي، أنه كان يتعشى ثم يلتف في ثيابه، فينام قبل أن يصلي العشاء.
ذكره ابن أبي حاتم، وقال: سألت أبي عنه؟ فقال: هو عبد الله بن عبد الله الرازي، عن جدته أسيلة، عن علي، وغلط من قال: عن جده.
وروى أبو نعيم في (كتاب الصلاة) : ثنا إسرائيل، عن حجاج، عن عبد الله ابن عبد الله، عن جدته – وكانت تحت رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان ينام قبل العشاء، فإذا قام كان أنشط له.
وروي – مرفوعاً – من وجه آخر، رويناه من طريق سوار بن مصعب، عن المنهال، عن أبي عبد الله – أبو عبد الله -، عن علي، قال: قلت: يا رسول الله إني رجل نئوم، وقد نهيت عن النوم قبل العشاء، وعن السمر بعدها؟ فقال: (إن يوقظك فلا بأس) .
سوار، متروك الحديث، ورفعه لا يثبت.
ونص أحمد على جواز النوم قبل العشاء -: نقله عنه حنبل.
وقال عبد الله: سألت أبي عن الحديث الذي نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن النوم قبل العشاء الآخرة؟ فقال: كان ابن عمر ينام قبل العشاء ويوكل(4/392)
من يوقظه من نومه.
وهذا هو المذهب عند القاضي أبي يعلي وأصحابه.
وحكى الترمذي في (جامعة) عن بعضهم، أنه رخص في النوم قبل العشاء في رمضان خاصة.
وهذا مأخوذ مما روى إبراهيم، عن الأسود، أنه كان ينام في رمضان ما بين المغرب والعشاء، ولعل من خص ذلك برمضان رأى أن قيام ليله يستحب من أول الليل بخلاف سائر الشهور؛ فإن المستحب فيها التهجد بعد هجعة بعد صلاة العشاء.
وذكر عبد الرزاق بإسناده، عن الحسن، قال: كان الناس يقومون في رمضان، فيصلون العشاء إذا ذهب ربع الليل، وينصرفون وعليهم ربع.
وهذا يدل على أنهم كانوا يؤخرون العشاء إلى آخر وقتها المختار ثم يقومون عقيب ذلك. ومن فعل هذا فإنه يحتاج أن ينام قبل صلاة العشاء لينشط للقيام.
واستدل من لم يكره النوم قبل العشاء إذا كان له من يوقظه بأن الذي يخشى من النوم قبل العشاء هو خوف فوات وقتها المختار، أو فوات الصلاة مع الجماعة وهذا يزول إذا كان له من يوقظه للوقت أو للجماعة.(4/393)
ويدل على ذلك: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما عرس من آخر الليل وأراد النوم وخشي أن تفوته الصلاة قال: (من يكلؤنا الليلة لا نرقد عن صلاة الصبح؟) قال بلال: أنا، فنام هو وبقية أصحابه وجلس بلال يرقب لهم الصبح، حتى غلبته عيناه، فدل على أن النوم قبل الصلاة وإن قرب وقتها إذا وكل من يوقظه غير مكروه.
وفي ذلك دليل على جواز إيقاظ النائم للصلاة المكتوبة، ولا سيما إذا ضاق وقتها، وقد تقدم أن ابن عمر كان ينام قبل العشاء ويوكل من يوقظه، وأن أحمد استدل به.
وهذا يدل على أن أحمد يرى إيقاظ النائم للصلاة المكتوبة مطلقاً، وصرح به بعض أصحابنا، وهو قول الشافعية وغيرهم.
وقال الشافعية: إنه يستحب، لاسيما إن ضاق الوقت.
واستدلوا بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ، وبأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوقظ عائشة لتوتر.
وبما روى أبو داود من حديث أبي بكرة، قال: خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصلاة الصبح، فكان لا يمر برجل إلا ناداه بالصلاة، أو حركه برجله.
ويدل عليه – أيضا - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يطرق علياً وفاطمة بالليل،(4/394)
ويوقظهما للصلاة.
وورد الحث على إيقاظ أحد الزوجين الآخر بالليل للصلاة.
فإذا استحب إيقاظ النائم لصلاة التطوع، فالفرض أولى.
وكان عمر وعلي – رضي الله عنهما - إذا خرجا لصلاة الصبح أيقظا الناس للصلاة. وقد روي ذلك في خبر مقتل عمر وعلي – رضي الله عنهما.
وقد خرج البخاري في (التيمم) حديث عمران بن حصين في نوم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة بطوله، وفيه: وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا نام لم نوقظه حتى يكون هو يستيقظ، لأنا لا ندري ما يحديث له في نومه – وذكر الحديث.
وهذا يفهم منه أنهم كان يوقظ بعضهم بعضاً للصلاة؛ فإن هذا المعنى غير موجود في حق أحد غير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد ذهب بعض المتأخرين من أصحابنا إلى أنه لا يوقظ النائم للصلاة إلا عند تضايق الوقت، وبعضهم إلى أنه لا يوقظه بحال لأنه غير مكلف، ويلزمه أن لا يذكر الناسي بالصلاة؛ فإنه معفو عنه – أيضا.
ومن أصحابنا من حكى هذا الاختلاف في لزوم إيقاظه وعدم لزومه، وهذا أشبه.(4/395)
وكان سفيان الثوري ينهى عن إيقاظ أحد من أعوان الظلمة للصلاة، لما يخشى من تسلطه على الناس بالظلم.
وهذا يدل على أنه يرى إيقاظ من لا يخشى منه الأذى للصلاة. والله أعلم.
وحمل أبن خزيمة حديث النهي عن النوم قبل الصلاة على ما إذا عجلت الصلاة في أول وقتها، والجواز على ما إذا أخرت إلى آخر وقتها وطال تأخيرها؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما خرج إليهم ليلة تأخيرها وقد ناموا لم ينكر عليهم النوم حينئذ.
ويشبه هذا قول الليث بن سعد، قال: إنما معنى قول عمر: فلا نامت عينه: من نام قبل ثلث الليل.
وفي حديث ابن عباس الذي خرجه البخاري هاهنا زيادة خرجها مسلم، وهي: قال ابن جريج: قلت لعطاء: كم ذكر لك أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخرها ليلتئذ؟ قال: لا أدري.
وفيه – أيضا - قول عطاء: في وقت استحباب صلاة العشاء.
وقد ذكرنا مذهبه في ذلك فيما مضى.(4/396)
25 - باب
وقت العشاء إلى نصف الليل
وقال أبو برزة: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستحب تأخيرها.
حديث أبي برزة، قد خرجه فيما تقدم بألفاظ مختلفة.
ففي رواية عوف، عن أبي المنهال، عن أبي برزة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة.
وفي رواية شعبة، عن أبي المنهال، عن أبي برزة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يبالي بتأخير العشاء إلى ثلث الليل. ثم قال: إلى شطر الليل.
وفي رواية: قال شعبة: ثم لقيته مرة، فقال: أو ثلث الليل.
فقد روى شعبة أن أبا المنهال شك: هل كان تأخيره للعشاء إلى ثلث الليل أو نصفه؟
وكذا خرجه مسلم من حديث شعبة.
وخرجه من حديث حماد بن سلمة، عن أبي المنهال، وقال في حديثه: كان يؤخر العشاء إلى ثلث الليل.(4/397)
وقد تقدم – أيضا – حديث أبي موسى في تأخير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء حتى ابهار الليل – أي: توسط وانتصف.
قال البخاري:(4/398)
572 - حدثنا عبد الرحيم المحاربي: ثنا زائدة، عن حميد الطويل، عن أنس، قال: أخر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة العشاء إلى نصف الليل، ثم صلى، ثم قال: (قد صلى الناس وناموا، أماإنكم في صلاة ما انتظرتموها) .
وزاد ابن أبي مريم: أبنا يحيى بن أيوب: حدثني حميد: سمع أنسا: كأني أنظر إلى وبيص خاتمه ليلتئذ.
هذا الحديث صريح في تأخير العشاء إلى نصف الليل.
وعبد الرحيم المحاربي، هو: ابن عبد الرحمن بن محمد المحاربي، وكان أفضل من أبيه.
وإنما ذكر حديث يحيى بن أيوب، عنه تعليقاً؛ لأنه ذكر فيه سماع حميد له من أنس، فزال ما كان يتوهم من تدليسه؛ فإنه قد قيل: إن أكثر رواياته عن أنس مدلسة.
وقد تقدم عن الإسماعيلي، أنه قال في المصريين: إنهم يتسامحون في لفظة الإخبار بخلاف أهل العراق. ولفظة السماع قريب من ذلك.(4/398)
وقد خرج البخاري هذا الحديث في (اللباس) من رواية يزيد بن زريع، عن حميد، قال: سئل أنس: هل اتخذ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاتماً - فذكره.
ورواه يزيد بن هارون، عن حميد، عن أنس، وزاد فيه: فجعل الناس يصلون، فخرج وقد بقيت عصابة، فصلى بهم، فلما سلم أقبل عليهم بوجهه - وذكر باقي الحديث.
خرجه أحمد بن منيع في (مسنده) ، عن يزيد كذلك.
وخرجه البخاري في (باب: يستقبل الإمام الناس) . وكذا مسلم - مختصراً.
وقد روي هذا الحديث عن أنس من وجوه أخر:
وخرجه البخاري في أواخر (المواقيت) من حديث الحسن، عن أنس، قال: نظرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة، حتى كان شطر الليل يبلغه، فجاء فصلى لنا، ثم خطبنا، فقال: (ألا إن الناس قد صلوا ثم رقدوا، وإنكم لن تزالوا في صلاةٍ ما انتظرتم الصلاة) .(4/399)
وخرج مسلم من حديث قتادة، عن أنس، قال: نظرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة حتى كان قريب من نصف الليل، ثم جاء فصلى، ثم أقبل علينا بوجهه، فكأنما أنظر إلى وبيض خاتمه في يده من فضة.
ومن حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، أنهم سألوا أنساً عن خاتم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: أخر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء ذات ليلة إلى شطر الليل، أو كاد يذهب شطر الليل، ثم جاء فقال: (إن الناس قد صلوا وناموا، وإنكم لم تزالوا في صلاةٍ ما انتظرتم الصلاة) . قال أنس: كأني أنظر إلى وبيص خاتمه من فضة، ورفع إصبعه اليسرى بالخنصر.
وفي تأخير العشاء إلى نصف الليل أحاديث أخر، لم تخرج في (الصحيح) .
وروى داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: صلينا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة العتمة، فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل، فقال: (خذوا مقاعدكم) ، فأخذنا مقاعدنا، فقال: (إن الناس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة، ولولا ضعف الضعيف، وسقم السقيم لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل) .
خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه وابن خزيمة(4/400)
في (صحيحه) .
وإسناده على شرط مسلم، إلا أن أبا معاوية رواه عن داود، فقال: عن أبي نضرة، عن جابر.
والصواب: قول سائر أصحاب داود في قولهم: عن أبي سعيد -: قاله أبو زرعة، وابن أبي حاتم، والدارقطني وغيرهم.
وقد سبق في حديث ابن عباس الذي خرجه البخاري قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يصلوا هكذا) .
وهذا مما استدل به من قال: إن تعجيل العشاء أفضل؛ لأنه لم يأمرهم بالتأخير، بل أخبر أنه لولا أنه يشق عليهم لأمرهم. وما كان ليؤثر ما يشق على أمته، فلذلك لم يأمرهم.
وكذلك قوله: (لولا ضعف الضعيف، وسقم السقيم لأخرت) ، فإنه يدل على أنه لم يؤخر، وإذا كان الأمر بذلك مستلزماً للمشقة فهو لا يأمر بما يشق عليهم.
وقد تقدم أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يراعي حال المأمومين في تأخير العشاء وتقديمها، فإن اجتمعوا عجل، وإن أبطئوا أخر.(4/401)
وقد أجاب عن ذلك من قال باستحباب التأخير: أن المنتفي هو أمر الإيجاب، دون أمر الاستحباب، كما في السواك.
وقد خرج النسائي الحديث، وقال فيه: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن لا يصلوها إلا هكذا) .
ويدل على ذلك أن (لولا) تقتضي جملتين: اسمية، ثم فعلية، فيربط امتناع الثانية فيهما بوجود الأولى، والأولى هنا: خوف المشقة، وهو موجود، فالثانية منتفية، وهو الأمر.
وليس الأمر للإيجاب؛ لأنه ندب إلى تأخيرها، والمندوب مأمور به؛ ولأن في حديث معاذ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (اعتموا بهذه الصلاة) .
خرجه أبو داود.
وهذا أمر.
وهاهنا مسألتان يحتاج إلى ذكرهما:
المسألة الأولى:
هل تأخير العشاء إلى آخر وقتها المختار أفضل؟ أم تعجيلها أفضل؟ أم الأفضل مراعاة حال المأمومين؟
فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن تعجيلها أفضل، وهو أحد قولي الشافعي، بل أشهرهما، وقول مالك.(4/402)
وفي (المدونة) عنه: أنه قال: أحب للقبائل تأخيرها قليلاً بعد مغيب الشفق، وكذلك في الحرس، ولا تؤخر إلى ثلث الليل.
وقال ابن عبد البر: المشهور عن مالك أنه يستحب لأهل مساجد الجماعات أن لا يعجلوا بها في أول وقتها، إذا كان ذلك غير مضر بالناس، وتأخيرها قليلاً عنده أفضل.
وروي عنه: أن أول الوقت أفضل في كل الصلوات إلا الظهر في شدة الحر.
ورجح الجوزجاني القول باستحباب تعجيل العشاء، وادعى أن التأخير منسوخ، واستدل بما روى حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن الحسن، عن أبي بكرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخر صلاة العشاء الآخرة تسع ليال – وفي رواية: ثمان ليال -، فقال أبو بكر الصديق: لو عجلت يا رسول الله كان أمثل لقيامنا بالليل، فكان بعد ذلك يعجل.
خرجه الإمام أحمد.
وعلي بن زيد جدعان، ليس بالقوي.
وروى سويد بن غفلة، قال: قال عمر: عجلوا العشاء قبل أن يكسل العامل.
وقال مكحول: كان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس إذا غابت الحمرة ببيت المقدس صلوا العشاء.
خرجهما أبو نعيم.
وهذا منقطع.(4/403)
والقول الثاني: أن تأخيرها أفضل، وحكاه الترمذي في (جامعه) عن أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين.
قال عبد الرحمن بن يزيد: كنت أشهد مع عبد الله – يعني: ابن مسعود – الجماعة، فكان يؤخر العشاء.
وكان ابن عباس يستحب تأخير العشاء، ويقرأ: {زُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ} [هود:(4/404)
114] .
وممن رأى تأخير العشاء: أبو حنفية وأصحابه، والشافعي في أحد قوليه – وقيل: إنه نص على ذلك في أكثر كتبه الجديدة -، وأحمد وإسحاق.
وعلى هذا؛ فقال أصحابنا وأصحاب الشافعي: يكون تأخيرها إلى آخر وقتها المختار أفضل.
والمنصوص عن أحمد: أن تأخيرها في الحضر حتى يغيب البياض؛ لأنه يكون بذلك مصلياً بعد مغيب الشفق المتفق عليه.
وهذا يدل على أن تأخيرها بعد مغيب البياض لا يستحب مطلقاً، أو يكون مراعى بقدر ما لا يشق على الجيران -: كما نقله عنه الأثرم.
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: قدر كم تأخير العشاء الآخرة؟ قال: ما قدر ما يؤخر بعد أن لا يشق على الجيران.
فقد نص في رواية غير واحد على أنه يستحب للحاضر تأخير العشاء(4/404)
حتى يغيب البياض من غير اعتبار للمشقة، ونص على أنه يستحب التأخير مهما قدر بحيث لا يشق على الجيران، فيحمل هذا على ما بعد مغيب الشفق الأبيض.
ويدل على صحة هذا، وأن التأخير لا يكون على الدوام إلى نصف الليل ولا إلى ثلثه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يؤخر على الدوام العشاء إلى آخر وقتها، وإنما أخرها ليلة واحدة أو ليالي يسيرة، وشق ذلك على أصحابه فأخبرهم أنه وقتها لولا أن يشق عليهم، ولم يكن - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشق عليهم، بل كان يراعي التخفيف.
ولهذا صح عنه، أنه كان أحياناً وأحياناً: إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم ابطئوا أخر.
وحديث أبي بكر المتقدم يدل على مثل ذلك – أيضا.
وخرج ابن خزيمة في (صحيحه) وغيره من حديث أبي مسعود الأنصاري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر مواقيت الصلاة، وقال: ويصلي العشاء حين يسود الأفق، وربما أخرها حتى يجتمع الناس.
ومما يدل على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يؤخرها دائماً قليلاً، ولم يكن يؤخرها إلى آخر وقتها: ما خرجه مسلم من رواية سماك، عن جابر بن سمرة، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الصلوات نحواً من صلاتكم، وكان(4/405)
يؤخر العتمة بعد صلاتكم شيئاً، وكان يخف.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث النعمان بن بشير، قال: أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة – يعني: العشاء -، كان رسو الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليها لسقوط القمر لثالثة.
وفي رواية الإمام أحمد: كان يصليها بعد سقوط القمر في الليلة الثالثة من أول الشهر.
وفي رواية له: كان يصليها مقدار ما يغيب القمر ليلة ثالثة – أو ليلة رابعة.
وهذا الشك من شعبة، ولم يذكر الرابعة غيره.
قال أحمد: وهم فيه – يعني: في ذكر الرابعة.
ومما يدل على اعتبار حال المأمومين، وأنه لا يشق عليهم: ما روى أسامة ابن زيد، عن معاذ بن عبد الله بن خبيب، عن جابر بن عبد الله، قال: كان معاذ يتخلف عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا جاء أم قومه، فاحتبس عنهم معاذ ليلة فصلى سليم وحده وانصرف، فأخبر معاذ ذلك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأرسل إلى سليم، فسأله عن ذلك، فقال: إني رجل أعمل نهاري، حتى إذا أمسيت أمسيت ناعساً، فيأتينا معاذ وقد(4/406)
أبطأ علينا، فلما أبطأ عليّ أمسيت، ثم انقلبت إلى أهلي. قال: فأرسل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى معاذ: (لا تكن فاتنا تفتن الناس، ارجع إليهم فصل بهم قبل أن يناموا) .
خرجه البزار.
وخرجه الخرائطي من حديث عثمان بن أبي العاص، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (ما بال رجال ينفرون عن هذا الدين، يمسون بعشاء الآخرة) .
وإسناده ضعيف.
وقال سويد بن غفلة: قال عمر: عجلوا العشاء قبل أن يكسل العامل، وينام المريض.
فقد تبين بهذا أن هذا القول الثالث، وهو مراعاة حال المأمومين في التأخير الكثير دون اليسير، هو الأرجح في هذا المسألة.
وقد عقد له البخاري باباً منفرداً، سبق ذكره والكلام عليه.
المسألة الثانية:
في آخر وقت العشاء الآخرة، وفيه أقوال:(4/407)
أحدها: ربع الليل، حكاه ابن المنذر عن النخعي، ونقله ابن منصور، عن إسحاق.
والقول الثاني: إلى ثلث الليل، روي ذلك عن عمر، وأبي هريرة وعمر ابن عبد العزيز، وهو المشهور عن مالك، وأحد قولي الشافعي، بل هو أشهرهما، ورواية عن أحمد، وقول أبي ثور وغيره.
والقول الثالث: إلى نصف الليل، وروي عن عمر بن الخطاب – أيضا -، وهو قول الثوري والحسن بن حي وابن المبارك وأبي حنفية، والشافعي في قوله الآخر، وأحمد في الرواية الأخرى، وإسحاق، وحكي عن أبي ثور – أيضا.
وتبويب البخاري هاهنا يدل عليه.
وحمل ابن سريج من أصحاب الشافعي قوليه في هذا المسألة على أنه أراد أن أول ابتدائها ثلث الليل، وآخر انتهائها نصفه، وبذلك جمع بين الأحاديث الواردة في ذلك، ولم يوافق على ما قاله في هذا.
والقول الرابع: ينتهي وقت العشاء إلى طلوع الفجر.
رواه ليث، عن طاوس، عن ابن عباس، وعن أبي هريرة، قال: إفراط صلاة العشاء طلوع الفجر.
وهو قول داود.
ورواه ابن وهب، عن مالك، إلا أن أصحابه حملوه(4/408)
على حال أهل الأعذار؛ فإن قول من قال: آخر وقتها ثلث الليل أو نصفه، إنما أراد وقت الاختيار.
وقالوا: يبقى وقت الضرورة ممتداً إلى طلوع الفجر، فلو استيقظ نائم، أو أفاق مغمى عليه، أو طهرت حائض، أو بلغ صبي، أو أسلم كافر بعد نصف الليل لزمهم صلاة العشاء، وفي لزوم صلاة المغرب لهم قولان مشهوران للعلماء.
وقد روي عن عبد الرحمن بن عوف: أن المرأة إذا طهرت قبل طلوع الفجر صلت المغرب والعشاء، وعن ابن عباس – أيضا - وحكي مثله عن الفقهاء السبعة، وهو قول أحمد.
وقال الحسن وقتادة وحماد والثوري وأبو حنيفة ومالك: يلزمهم العشاء دون المغرب.
وللشافعي قولان، أصحهما: لزوم الصلاتين.
واختلفوا في تأخير العشاء اختياراً إلى بعد نصف الليل: فكرهه الأكثرون، منهم: مالك وأبو حنيفة.
ولأصحابنا وجهان في كراهته وتحريمه.
وقال عامة أصحاب الشافعي: هو وقت جواز.
واستدل من لم يحرمه بما في (صحيح مسلم) من حديث ابن جريج: أخبرني المغيرة بن حكيم، عن أم كلثوم بنت أبي بكر، أنها أخبرته، عن عائشة، قالت: أعتم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، ونام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، فقال: (إنه لوقتها، لولا(4/409)
أن أشق على أمتي) .
وهذا إن كان محفوظاً دل على استحباب التأخير إلى النصف الثاني، ولا قائل بذلك، ولا يعرف له شاهد.
وإنما يتعلق بهذا من يقول: يمتد وقت العشاء المختار إلى طلوع الفجر، كما روي عن ابن عباس، وهو قول داود وغيره، إلا أنهم لا يقولون باستحباب التأخير إلى النصف الثاني، هذا مما لا يعرف به قائل، والأحاديث كلها تدل على خلاف ذلك، مثل أحاديث صلاة جبريل بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند مغيب الشفق في اليوم الأول، وفي الثاني إلى ثلث الليل، وقوله: (الوقت ما بين هذين) .
ومثل حديث بريدة الذي فيه أن سائلاً سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن وقت العشاء، فأمره أن يشهد معه الصلاة، فصلى بهم في أول مرة العشاء لما غاب الشفق، وفي الثانية إلى ثلث الليل، وقال: (ما بين هذين وقت) .
وقد خرجه مسلم.
وخرج نحوه من حديث أبي موسى.
وخرج – أيضا – من حديث عبد الله بن عمرو، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:(4/410)
(وقت العشاء إلى نصف الليل) .
وهذا كله يدل على أن ما بعد ذلك ليس بوقت، والمراد: أنه ليس بوقت اختيار، بل وقت ضرورة.
وذهب الاصطخري من أصحاب الشافعي إلى أن الوقت بالكلية يخرج بنصف الليل أو ثلثه ويبقى قضاء.
وقد قال الشافعي: إذا ذهب ثلث الليل لا أراها إلا فائتة.
وحمله عامة أصحابه على فوات وقت الاختيار خاصة. والله أعلم.(4/411)
26 - باب
فضل صلاة الفجر
وفيه حديثان:
الأول:(4/412)
573 - حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن إسماعيل: ثنا قيس، قال لي جرير بن عبد الله: كنا عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: (أماإنكم سترون ربكم كما ترون هذا لا تضامون – أو لا تضاهون – في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) . ثم قال: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} .
قد سبق هذا الحديث والكلام عليه في (باب: فضل صلاة العصر) ، وليس في هذه الرواية زيادة على ما في الرواية السابقة، إلا الشك في (تضامون أو تضاهون) ، وقد سبق تفسير: تضامون.
وأما (تضاهون) : فإن كانت محفوظة، فالمعنى – والله أعلم -: أنكم لا تشبهون به عند رؤيته شيئاً من خلقه؛ فإنه سبحانه وتعالى لا مثل له(4/412)
ولا عدل ولا كفء.
ويشهد لهذا: ما روى علي بن زيد بن جدعان، عن عمارة القرشي عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (يجمع الله الأمم في صعيد واحد يوم القيامة، ثم يأتينا ربنا ونحن على مكان مرتفع فيقول: من أنتم؟ فنقول: نحن المسلمون. فيقول: ما تنتظرون. فنقول: ننتظر ربنا عز وجل، فيقول: وهل تعرفون إن رأيتموه؟ فنقول: نعم؛ إنه لا عدل له، فيتجلى لنا ضاحكاً، فيقول: أبشروا معاشر المسلمين؛ فإنه ليس منكم أحد إلا جعلت في النار يهودياً أو نصرانياً مكانه) .
خرجه الإمام أحمد.
وخرجه أبو بكر الآجري في كتاب (التصديق بالنظر) ، ولفظه: (فيقولون: إن لنا رباً كنا نعبده في الدنيا لم نره. قال: وتعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون: نعم. فيقال لهم: وكيف تعرفونه ولم تروه؟ قالوا: إنه لا شبه له، فيشكف لهم الحجاب، فينظرون إلى الله عز وجل، فيخرون له سجداً) – ذكر الحديث.
وروى أبو حمة محمد بن يوسف: حدثنا أبو قرة الزبيدي، عن(4/413)
مالك بن أنس، عن زياد بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (إذا كان يوم القيامة جمعت الأمم، ودعي كل أناس بإمامهم) – فذكر الحديث بطوله، إلى أن قال: (حتى يبقى المسلمون، فيقف عليهم، فيقول: من أنتم؟ فيقولون: نحن المسلمون. قال: خير اسم وخير داعية. فيقول: من نبيكم؟ فيقولون: محمد، فيقول: ما كتابكم؟ فيقولون: القرآن، فيقول: ما تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله وحده، لا شريك له. قال: سينفعكم ذلك إن صدقتم. قالوا: هذا يومنا الذي وعدنا. فيقول: أتعرفون الله إن رأيتموه؟ فيقولون: نعم. فيقول: وكيف تعرفونه ولم تروه؟ فيقولون: نعلم أنه لا عدل له. قال: فيتجلى لهم تبارك وتعالى، فيقولون: أنت ربنا تباركت أسماؤك، ويخرون له سجداً، ثم يمضي النور بأهله) .
خرجه أبو إسماعيل الأنصاري في (كتاب الفاروق) .
وروى شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد حديث جرير بن عبد الله، وقال في روايته: (لا تضارون في رؤيته) .
وكذا في رواية أبي سعيد وأبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد خرج حديثهما البخاري في آخر (كتابه) .
ورويت: (تضارون) بتشديد الراء وتخفيفها.
فمن رواه بالتشديد، فالمعنى: لا يخالف بعضكم بعضاً فيكذبه، كما يفعل الناس في رؤية الأشياء الخفية عليهم كالأهلة. يقال: ضاررته مضارة إذا خالفته، ومنه سميت الضرة لمخالفتها الأخرى.
وقيل: المعنى: لا تضايقون، والمضارة: المضايقة -: ذكره الهروي.(4/414)
ومن رواه بتخفيف الراء، فهي من الضير، والضير: الضر، يقال: ضاره يضيره ويضروه، إذا ضره. وهي قريبة من المعنى إلى الأولى.
وفي رواية أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟) قالوا: لا. قال: (فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب؟) قالوا: لا. قال: (فإنكم ترونه كذلك) .
وفسر قوله: (هل تمارون) بأن المعنى: هل تشكون، والمرية: الشك.
ويحتمل أن يكون المراد: هل يحصل لكم تمار واختلاف في رؤيتهما؟ فكما لا يحصل لكم في رؤيتهما تمارٍ واختصام، فكذلك رؤية الله عز وجل.
والتماري والتنازع إنما يقع من الشك وعدم اليقين، كما يقع في رؤية الأهلة.
وقوله في هذه الرواية: (ثم قال: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها} هكذا في هذه الرواية، وهذا إشارة إلى آية سورة {طه} ، وتلك إنما هي بالواو {وَسَبِّحْ} ، وفي الرواية السابقة {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] . وهو إشارة إلى آية سورة {ق} وهي بالفاء كما في الرواية.
الحديث الثاني:(4/415)
574 - حدثنا هدبة بن خالد: ثنا همام: حدثني أبو جمرة، عن أبي بكر، عن أبيه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من صلى البردين دخل الجنة) .(4/415)
وقال ابن رجاء: حدثنا همام، عن أبي جمرة، أن أبا بكر بن عبد الله بن قيس أخبره بهذا.
حدثنا إسحاق: ثنا حبان: ثنا همام: ثنا أبو جمرة، عن أبي بكر بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله.
(أبو جمرة) ، هو: نصر بن عمران الضبعي، وهو بالجيم والراء المهملة.
وقد خرج هذا الحديث مسلم عن هداب بن خالد، وهو هدبة الذي خرجه عنه البخاري، ونسب فيه أبا جمرة، فقال: حدثني أبو جمرة الضبعي.
وأما أبو بكر، فقد أشار البخاري إلى انه أبو بكر بن أبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس، واستشهد له بشيئين:
أحدهما: رواية ابن رجاء التي ذكرها تعليقاً، عنه، عن همام، عن أبي جمرة، أن أبا بكر بن عبد الله بن قيس أخبره.
والثاني: أنه أسنده من رواية حبان بن موسى، عن همام: ثنا أبو جمرة، عن أبي بكر بن عبد الله – وهو: ابن أبي موسى عبد الله بن قيس.
وخرجه مسلم من طريق بشر بن السري عمرو بن عاصم، قالا: ثنا همام – بهذا الإسناد، ونسبا أبا بكر، فقالا: ابن أبي موسى.(4/416)
وإنما احتيج إلى هذا؛ لاختلاف وقع بين الحفاظ في نسبة أبي بكر هذا:
فمنهم من قال: هو أبو بكر بن أبي موسى، وتصرف الشيخين في (صحيحهما) يدل على ذلك.
ومنهم من قال: هو أبو بكر بن عمارة بن رؤيبة.
واستدلوا بما خرجه مسلم من رواية وكيع، عن ابن أبي خالد ومسعر والبختري بن المختار، سمعوا من أبي بكر بن عمارة بن رؤيبة، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) – يعني: الفجر والعصر. وعنده رجل من أهل البصرة، فقال له: أنت سمعت هذا من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم. قال الرجل: وأنا أشهد أني سمعته من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سمعته أذناي، ووعاه قلبي.
وخرجه –أيضا – من حديث ابن عمارة بن رؤيبة، عن أبيه والرجل البصري. وزاد البصري: قال: سمعته من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمكان الذي سمعته منه.
فمن هنا قال بعضهم: أبو بكر الذي روى أبو جمرة هو ابن عمارة بن رؤيبة، عن أبيه عمارة بن رؤيبة، لأن معنى الحديثين متقارب.
قال ابن أبي خيثمة في (كتابه) : سألت يحيى بن معين عن أبي بكر الذي روى حديث (البردين) : من أبوه؟ قال: يرون أنه أبو بكر بن أبي موسى؛ فلذلك استغربوه. قال: فقال له أبي: يشبه أن يكون: أبو بكر بن عمارة(4/417)
بن رؤيبة؛ لأنه يروي عن أبيه عمارة: (من صلى قبل الغداة وقبل غروب الشمس) .
وقال صالح بن محمد، عن علي بن المديني: هو عندي أبو بكر بن عمارة؛ لأن معنى الحديثين واحد. قيل له: إن أبا داود الطيالسي وهدبة نسباء، فقالا: عن أبي بكر بن أبي موسى؟ فقال: ليسا ممن يضبط هذا؛ حدثاه بهز وحبان ولم ينسباه.
قال أبو بكر الخطيب: قد نسبه جماعة عن همام، منهم: بشر بن السري، وعبد الله بن رجاء، وعمرو بن عاصم وللناسب فضل تعرف وبيان على من لم ينسبه.
قال: وكان عفان بنسبه كذلك حتى قال له بلبل وعلي بن المديني: إنه أبو بكر بن عمارة، فترك نسبته، وقال: عن أبي بكر، عن أبيه.
ونقل البرقاني عن الدارقطني، أنه كان يقول: هو أبو بكر بن عمارة بن رؤيبة،(4/418)
وعن الإسماعيلي عن مطين مثله.
وقال أبو الحسن [العقيلي] : اختلف فيه، فالأقوى أنه ابو بكر بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه. ويقال: هو أبو بكر بن عمارة بن رؤبية، عن أبيه.
وكذلك قال مطين، وإليه كان يميل شيخنا أبو الحسن – يعني: الدارقطني رحمه الله.
و (البردان) : صلاة الصبح والعصر؛ لأنهما يصليان في برد النهار من أوله وآخره.
وأماالظهر فتسمى الهجير كما في حديث أبي برزة؛ لأنها تصلي بالهاجرة.
ويقال للعصر والفجر: العصران؛ كذلك روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حديث فضالة الليثي، وأنه وصاه بالمحافظة عليهما.
وصلاة الصبح من صلاها فهو في ذمة الله، كما في حديث جندب ابن سفيان، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا تخفروا الله في ذمته)
خرجه مسلم.
وفي رواية له – أيضا – زيادة: (فإنه من يطلبه من(4/419)
ذمته بشيء يدركه، ثم يكبه على وجهه في نار جهنم) .
وقد روي مثله في صلاة العصر – أيضا.
خرجه نعيم بن حماد في (كتاب الفتن) عن عبد العزيز الدراوردي، عن زيد ابن أسلم، عمن حدثه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من صلى الصبح كان في جوار الله حتى يمسي، ومن صلى العصر كان في جوار الله حتى يصبح، فلا تخفروا الله في جواره؟ فإنه من أخفر الله في جواره طلبه الله، ثم أدركه، ثم كبه على منخره) – أي: في جهنم.(4/420)
27 - باب
وقت الفجر
صلاة الفجر تسمى صلاة الفجر؛ قال تعالى: {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} [النور: 58] وقال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] .
وتسمى صلا الصبح، والأحاديث بذلك كثيرة.
قال الشافعي: ولا أحب أن تسمى صلاة الغداة، وكرهه بعض أصحابه، ولا دليل لقوله، والأحاديث تدل على خلافه، وقد سبق حديث جابر: (والصبح كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليها بغلس) ، وحديث أبي برزة، (أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينصرف من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، ويقرأ فيها بالستين إلى المائة) ، وهذا يدل على شدة التغليس بها.
وخرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:(4/421)
575 - حدثنا عمرو بن عاصم: ثنا همام، عن قتادة، عن أنس، أن زيد بن ثابت حدثه، أنهم تسحروا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قاموا إلى الصلاة.
قلت: كم كان بينهما؟ قال: قدر خمسين أو ستين - يعني: آية.(4/421)
576 - حدثنا الحسن بن الصباح: سمع روح بن عبادة: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وزيد بن ثابت تسحرا، فلما فرغا من سحورهما قام نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصليا.
قلت لأنس: كم بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية.
مقصود البخاري: تبيين الاختلاف في إسناد هذا الحديث على قتادة، فهمام جعله عن قتادة عن أنس عن زيد بن ثابت، وسعيد بن أبي عروبة جعله عن قتادة عن أنس من مسنده.
وقد خرجه البخاري في (الصيام) من حديث هشام الدستوائي، عن قتادة ومسلم من رواية هشام وهمام وعمر بن عامر، كلهم عن قتادة، عن أنس، عن زيد.
وفي رواية البخاري: (كم بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية) .
وقال عفان وبهز بن أسد، عن همام في حديثه: قلت لزيد: كم بين ذلك؟
فصرح بأن المسؤل زيد.
وقد خرجه عنهما الإمام أحمد.(4/422)
وكذا رواه خالد بن الحارث، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس عن زيد، وقال في حديثه: (أنس القائل: كم كان بينهما) .
فخالف خالد سائر أصحاب سعيد في ذكره زيداً في الإسناد.
وقد خرجه الإسماعيلي في (صحيحه) ، وقال: يحتمل أن يكون أنس سأل زيداً فأخبره، وأن يكون قتادة أو غيره سأل أنساً فأرسل له قدر ما كان بينهما، كما أرسل أصل الخبر، ولم يقل: عن زيد.
وهذا يدل على أن الصواب عنده: أن الحديث عن أنس، عن زيد، فهو من مسند زيد، لا من مسند أنس.
ورواه معمر، عن قتادة كما رواه سعيد، جعله من مسند أنس.
خرجه النسائي من طريقه.
ولفظ حديثه: عن أنس، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذلك عند السحر -: (يا أنس، إني أريد الصيام، أطعمني شيئاً) ، فأتيته بتمر وإناء فيه ماء، وذلك بعد ما أذن بلال. قال: (يا أنس، انظر رجلاً يأكل معي) ، فدعوت زيد بن ثابت، فجاءه، فقال: (إني شربت شربة من سويق، وأنا أريد الصيام. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وأنا أريد الصيام) ، فتسحر معه، ثم قام فصلى ركعتين، ثم خرج إلى الصلاة.
ومقصود البخاري بهذا الحديث في هذا الباب: الاستدلال به على تغليس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصلاة الفجر؛ فإنه تسحر ثم قام إلى الصلاة، ولم يكن بينهما إلا قدر خمسين آية.
وأكثر الروايات تدل على أن ذلك قدر ما بين السحور والصلاة.
وفي رواية البخاري المخرجة في (الصيام) : أن ذلك قدر ما بين(4/423)
[الأذان و] السحور.
وهذه صريحة بأن السحور كان بعد أذان بلال بمدة قراءة خمسية آية.
وفي رواية معمر: أنه لم يكن بين سحوره وصلاة الفجر سوى ركعتي الفجر، والخروج إلى المسجد.
وهذا مما يستدل به على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى يومئذ الصبح حين بزغ الفجر.
وقد روى حذيفة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحو حديث زيد، لكنه استدل به على تأخير السحور، وأنه كان بعد الفجر.
فروى عاصم، عن زر بن حبيش، قال: تسحرت، ثم انطلقت إلى المسجد، فمررت بمنزل حذيفة بن اليمان، فدخلت عليه، فأمر بلقحة فحلبت وبقدر فسخنت، ثم قال: ادن فكل. فقلت: إني أريد الصوم. فقال: وأنا أريد الصوم، فأكلنا وشربنا، وأتينا المسجد، فأقيمت الصلاة، فقال حذيفة: هكذا فعل بي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قلت: أبعد الصبح؟ قال: نعم، هو الصبح غير أن لم تطلع الشمس.
خرجه الإمام أحمد.
وخرج منه النسائي وابن ماجه: أن حذيفة قال: تسحرت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع.
وقد روي من غير وجه، عن حذيفة.
قال الجوزجاني: هو حديث أعيا أهل العلم معرفته.(4/424)
وقد حمل طائفة من الكوفيين، منهم: النخعي وغيره هذا الحديث على جواز السحور بعد طلوع الفجر في السماء، حتى ينتشر الضوء على وجه الأرض.
وروي عن ابن عباس وغيره: حتى ينتشر الضوء على رؤوس الجبال.
ومن حكى عنهم، أنهم استباحوا الأكل حتى تطلع الشمس فقد أخطأ.
وأدعى طائفة: أن حديث حذيفة كان في أول الإسلام ونسخ.
ومن المتأخرين من حمل حديث حذيفة على أنه يجوز الأكل في نهار الصيام حتى يتحقق طلوع الفجر، ولا يكتفي بغلبة الظن بطلوعه.
وقد نص على ذلك أحمد وغيره؛ فإن تحريم الأكل معلق بتبين الفجر، وقد قال علي بعد صلاته للفجر: الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
وأنه يجوز الدخول في صلاة الفجر بغلبة ظن طلوع الفجر كما هو قول أكثر العلماء على ما سبق ذكره.
وعلى هذا، فيجوز السحور في وقت تجوز فيه صلاة الفجر، إذا غلب على الظن طلوع الفجر، ولم يتيقن ذلك.
وإذا حملنا حديث حذيفة على هذا، وأنهم أكلوا مع عدم تيقن طلوع الفجر، فيكون دخولهم في الصلاة عند تيقن طلوعه والله أعلم.(4/425)
ونقل حنبل عن أحمد، قال: إذا نور الفجر وتبين طلوعه حلت الصلاة، وحرم الطعام والشراب على الصائم.
وهذا يدل على تلازمهما، ولعله يرجع إلى أنه لا يجوز الدخول في الصلاة إلا بعد تيقن دخول الوقت.
وقد روي عن ابن عباس وغيره من السلف تلازم وقت صلاة الفجر وتحريم الطعام على الصائم.
وروي في حديث ابن عباس المرفوع، أن جبريل صلى بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اليوم الأول حين حرم الطعام على الصائم.
وقد خرج البخاري في (الحج) حديث ابن مسعود، أنه قال بالمزدلفة حين طلع الفجر: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم.
وفي رواية له: أنه صلى الفجر حين طلع الفجر، قائل يقول: قد طلع الفجر، وقائل يقول: لم يطلع الفجر، ثم قال: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان المغرب والعشاء فلا يقدم الناس جمعاً حتى يعتموا، وصلاة الفجر هذه(4/426)
الساعة) .
وهذا كله يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم تكن عادته أنه يصلي الفجر ساعة بزوغ الفجر، وإنما فعل ذلك بمزدلفة يوم النحر. والله أعلم.
الحديث الثاني:
قال:(4/427)
577 - حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، عن أخيه، عن سليمان، عن أبي حازم، أنه سمع سهل بن سعد يقول: كنت أتسحر في أهلي، ثم يكون سرعة بي أن أدرك صلاة الفجر مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
رواه عن أبي حازم: سليمان بن بلال وعبد الله بن عامر.
وفيه: دلالة على تعجيل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصلاة الفجر - أيضا -، كحديث زيد بن ثابت الذي قبله.
الحديث الثالث:(4/427)
578 - حدثنا يحيى بن بكير: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة أخبرته، قالت: كن نساء المؤمنات يشهدن مع النبي صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يعرفهن أحد من الغلس.
(المروط) : الأكسية، وقد سبق تفسيرها.(4/427)
و (التلفع) : تغطية الرأس.
وروي عن مالك: (متلففات) - بفائين -، والمشهور عنه: (متلفعات) أيضا - بالعين، كرواية الأكثرين.
والحديث عند مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة.
وقد خرجه من طريقه البخاري في موضع آخر من (كتابه) ومسلم - أيضا.
وخرجه البخاري - أيضا - من رواية فليح، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة - بنحوه.
والحديث: يدل على تغليس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالفجر، فإنه كان يطيل فيها القراءة، ومع هذا فكان ينصرف منها بغلس.
فإن قيل: ففي حديث أبي برزة، أنه كان ينصرف من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، وهذا يخالف حديث عائشة.
قيل: لا اختلاف بينهما، فإن معرفة الرجل رجلاً يجالسه في ظلمة الغلس لا يلزم منه معرفته في ذلك الوقت أمرأة منصرفة متلفعة بمرطها، متباعدة عنه.
وروى الشافعي حديث أبي برزة في كتاب (اختلاف علي عبد الله) ، عن ابن علية، عن عوف، عن أبي المنهال، عن أبي برزة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي الصبح، ثم ننصرف وما يعرف الرجل منا جليسه.(4/428)
قال البيهقي: هذا الكتاب لم يقرأ على الشافعي، فيحتمل أن يكون قوله: (وما يعرف الرجل منا جليسه) وهما من الكاتب؛ ففي سائر الروايات: (حتى يعرف الرجل منا جليسه) . انتهى.
والظاهر: أن أبا برزة أراد أن الرجل إنما كان يعرف جليسه إذا تأمل وردد فيه نظره.
ويدل عليه: أحاديث أخر، منها: حديث قيلة بنت مخرمة، أنها قدمت على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي بالناس صلاة الغداة، وقد أقيمت حين انشق الفجر، والنجوم شابكة في السماء، والرجال لا تكاد تتعارف مع ظلمة الليل.
خرجه الإمام أحمد.
وهو إخبار عن حال الصلاة دون الانصراف منها.
وروى أبو داود الطيالسي وغيره من رواية حرملة العنبري، قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصليت معه الغداة، فلما قضى الصلاة نظرت في وجوه(4/429)
القوم، ما أكاد أعرفهم.
وخرج البزار والإسماعيلي من رواية حرب بن سريج، عن محمد بن علي ابن حسين، عن محمد بن الحنفية، عن علي بن أبي طالب، قال: كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصبح، وما يعرف بعضنا وجه بعض.
حرب بن سريج، قال أحمد: ليس به بأس، ووثقه ابن معين. قال أبو حاتم: ليس بقوي؛ منكر عن الثقات.
وفي الباب أحاديث أخر.
والكلام هاهنا في مسألتين:
المسألة الأولى:
في وقت الفجر:
أماأول وقتها: فطلوع الفجر الثاني، هذا مما لا اختلاف فيه.
وقد اعاد أبو موسى وابن عمر صلاة الفجر لما تبين لهما أنهما صليا قبل طلوع الفجر.
وروى ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: الفجر فجران: فجر يطلع بليل، يحل فيه الطعام والشراب ولا يحل فيه الصلاة. وفجر تحل فيه الصلاة ويحرم فيه الطعام والشراب، وهو الذي ينتشر على رؤوس الجبال.(4/430)
ورواه أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن ابن جريج، فرفعه.
خرجه من طريقه ابن خزيمة وغيره.
والموقوف أصح -: قاله البيهقي وغيره.
وروى ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (الفجر فجران، فإن الفجر الذي يكون كذنب السرحان فلا يحل الصلاة فيه ولا يحرم الطعام) .
وروي عن ابن أبي ذئب - بهذا الإسناد - مرسلاً من غير ذكر: جابر.
قال البيهقي: هو أصح.
وأماآخر وقت الفجر: فطلوع الشمس، هذا قول جمهور العلماء من السلف والخلف، ولا يعرف فيه خلاف، إلا عن الاصطخري من الشافعية، فإنه قال: إذا أسفر الوقت جداً خرج وقتها وصارت قضاء.
ويرد قوله: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها) .
وفي (صحيح مسلم) عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (وقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس) .(4/431)
وفي رواية له - أيضا -: (وقت الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول) .
المسألة الثانية:
في أن الأفضل: هل هو التغليس بها في أول وقتها، أم الإسفار بها؟ وفيه قولان:
أحدهما: أن التغليس بها أفضل، وروي التغليس بها عن أبي بكر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأبي موسى، وابن عمر، وابن الزبير، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، ومعاوية، وعمر بن عبد العزيز، وهو قول الليث، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وإسحاق، وأبي ثور، وداود.
وقد ذكرنا في هذا الباب عامة أحاديث التغليس بالفجر.
وذهب آخرون إلى أن الإسفار بها أفضل، وروي الإسفار بها عن عثمان، وعلي وابن مسعود.
روى الأوزاعي: حدثني نهيك بن يريم الأوزاعي: حدثني مغيث بن سمي، قال: صليت مع عبد الله بن الزبير الصبح بغلس، فلما سلم أقبلت على ابن عمر، فقلت: ما هذه الصلاة؟ قال: هذه صلاتنا، كانت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر، فلما طعن عمر أسفر بها عثمان.
خرجه ابن ماجه.
وذكر الترمذي في (علله) عن البخاري، أنه قال: هو حديث(4/432)
حسن.
وقال يزيد الأودي: كنت أصلي مع علي صلاة الغداة، فتخيل إلى أنه يستطلع الشمس.
وقال علي بن ربيعة: سمعت علياً يقول: يابن التياح، أسفر أسفر بالفجر.
وقال أبو إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود، أنه كان يسفر بصلاة الغداة.
وقال نافع بن جبير: كتب عمر إلى أبي موسى أن صل الفجر إذا نور النور.
وممن كان يرى التنوير بها: الربيع بن خثيم وسعيد بن جبير، وكان النخعي يسفر بها.
ذكر ذلك كله أبو نعيم في (كتاب الصلاة) بأسانيده.
وقال: رأينا سفيان يسفر بها.
وممن رأى الإسفار بها: طاوس وفقهاء الكوفيين، مثل: سفيان والحسن ابن حي وأبي حنيفة وأصحابه.
وروى وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، قال: ما اجتمع(4/433)
أصحاب محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على شيء ما اجتمعوا على التنوير بالفجر.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده، عن أبي الدرداء، قال: أسفروا بهذه الصلاة، فإنه أفقه لكم.
واستدل من رأى الإسفار: بما روى عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود ابن لبيد، عن رافع بن خديج، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي.
وقال: حديث حسن صحيح.
وخرجه ابن حبان في (صحيحه) .
وقال العقيلي: إسناده جيد.
قال الأثرم: ليس في أحاديث هذا الباب أثبت منه.
يشير إلى أن في الباب أحاديث وهذا أثبتها، وهو(4/434)
كما قال.
وأجاب من يرى التغليس أفضل عن هذا بأجوبةٍ:
منها: تضعيفه، وسلك ذلك بعض أصحابنا الفقهاء، وسلكه ابن عبد البر، وقال: مدار الحديث على عاصم بن عمر بن قتادة، وليس بالقوي.
كذا قال؛ وعاصم هذا مخرج حديثه في (الصحيحين) ، وقال ابن معين وأبو زرعة: ثقة.
وقد يعلل هذا بالاختلاف في إسناده على عاصم بن عمر بن قتادة:
فرواه ابن إسحاق وابن عجلان، عن عاصم، عن محمود بن لبيد، عن رافع كما تقدم.
ورواه زيد بن أسلم، عن عاصم بن عمر، واختلف عنه:(4/435)
فرواه أبو غسان، عن زيد بن أسلم، عن عاصم، عن محمود بن لبيد، عن رجال من قوم من الأنصار، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ما أسفرتم بالصبح، فإنه أعظم للأجر) .
وخرجه من طريقه النسائي كذلك.
ورواه يعقوب بن عبد الرحمن القاري، عن زيد بن أسلم، عن عاصم، عن رجال من قومه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يذكر: محمود بن لبيد.
ورواه هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن محمود بن لبيد، عن رجال من الصحابة – ولم يذكر: عاصماً.(4/436)
ورواه وكيع، عن هشام، عن زيد – مرسلاً.
ورواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن محمود بن لبيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرجه من طريقه الإمام أحمد.
وروي عن شعبة، عن أبي داود، عن زيد بن أسلم، عن محمود بن لبيد، عن رافع.
قال البزار: أبو داود هذا، هو: الجزري، لم يسند عنه شعبة إلا هذا.
وقال أبو حاتم الرزاي: شيخ واسطي مجهول.
ورواه بقية، عن شعبة، عن داود البصري، عن زيد.(4/437)
وزعم بعضهم: أنه داود بن أبي هند، وهو بعيد.
وزيد بن أسلم لم يسمع من محمود بن لبيد.
ورواه يزيد بن عبد الملك، عن زيد بن أسلم، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وهو وهم -: قاله الدارقطني وغيره.
ورواه إسحاق الحنيني، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن ابن بجيد الحارثي، عن جدته حواء، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(4/438)
لم يتابع عليه الحنيني، وهو وهم منه -: قاله الدارقطني، وأشار إليه الأثرم وغيره.
ورواه فليح بن سليمان، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال البزار: لا نعلم أحداً تابع فليحاً على هذا الإسناد.
والصواب من الخلاف على زيد بن أسلم، عن عاصم، عن محمود، عن رافع -: قاله الدارقطني.
قلت: أماابن إسحاق وابن عجلان فروياه عن عاصم بهذا الإسناد،(4/439)
وأمازيد فاختلف عنه كما ترى، ولا نعلم أحداً قال عنه مثل قول ابن إسحاق وابن عجلان، فكيف يكون هو الصواب عن زيد؟ فرجع الأمر إلى ما رواه ابن إسحاق وابن عجلان، عن عاصم وليسا بالمبرزين في الحفظ.
ومنها: تأويله، واختلف المتأولون له:
فقال الشافعي وأحمد وإسحاق وغيره: المراد بالإسفار: أن يتبين الفجر ويتضح، فيكون نهياً عن الصلاة قبل الوقت، وقبل تيقن دخول الوقت.
وذكر الشافعي: أنه يحتمل أن بعض الصحابة كان يصلي قبل الفجر الثاني، فأمر بالتأخير إلى تبين الفجر وتيقنه.
ورد ذلك بعضهم بأن قوله: (هو أعظم للأجر) يدل على أن في ترك هذا الإسفار أجراً، ولا أجر في الصلاة قبل وقتها إلا بمعنى أنها تصير نافلة.
ومنهم من قال: أمروا أن لا يدخلوا في صلاة الفجر حتى يتيقنوا طلوع الفجر، وقيل لهم: هو أفضل من الصلاة بغلبة الظن بدخوله.
وهذا جواب من يقول بجواز الدخول في الصلاة إذا غلب على الظن دخول وقتها من أصحابنا كالقاضي أبي يعلي وغيره، وأكثر أصحاب الشافعي، وحملوا حديث ابن مسعود في تقديم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة يوم النحر بالمزدلفة على أنه صلاها يومئذ بغلبة ظن دخول الوقت.(4/440)
وكلام أحمد يدل على أنه لا يدخل في الصلاة حتى يتيقن دخول وقتها كما سبق.
ومن أصحابنا من حمل حديث ابن مسعود في الصلاة بالمزدلفة على أن عادة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان بعد تيقن طلوع الفجر تأخير الصلاة بقدر الطهارة والسعي إلى المسجد، ولم يؤخر هذا القدر بالمزدلفة. وهذا أشبه.
واستدل بعض من فسر الإسفار المأمور به بتبين الفجر: بأن العرب تقول: أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته وأبانت عنه فدل على أن الإسفار هو التبيين والظهور.
وفي هذا نظر؛ فإنه لا يعرف في اللغة أسفرت المرأة عن وجهها، إنما يقال: سفرت، وأماالإسفار فإنما يقال في الفجر والصبح، يقال: سفر، وأسفر؛ قال تعالى:
{وَالصُّبْحِ إذا أَسْفَرَ} [المدثر: 34] ، ومعناه أضاء وأنار، ويقال: أسفر وجهه من السرور، إذا أنار، كما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ سر استنار وجهه كأنه فلقة قمر. ومنه قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ* ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 38، 39] فليس معنى قوله: (أسفروا بالفجر) إلا أنيروا به.(4/441)
لكن: هل المراد إنارة الأفق بطلوع الفجر فيه ابتداء، أم إنارة الأرض بظهور النور على وجهها؟ هذا محل نظر.
وحمله على الأول أقرب؛ لأنه موافق فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه الراشدين.
وعلى هذا المعنى يحمل كلام أحمد، بل هو ظاهره أو صريحه، وهو حسن.
ويدل عليه: ما روى مسلم الملائي، عن مجاهد، عن قيس بن السائب، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الصبح إذا يغشى النور السماء – وذكر الحديث:
خرجه الطبراني.
وقال آخرون: بل الإسفار يكون باستدامته الصلاة، لا بالدخول فيها، فيدخل فيها بغلس، ويطيلها حتى يخرج منها وقد أسفر الوقت.
وقد روي هذا المعنى عن عطاء، وقاله – أيضا – من أصحابنا: أبو حفص البرمكي والقاضي أبو يعلي في (خلافه الكبير) ، ورجحه(4/442)
الطحاوي.
ويعضد هذا: حديث أبي برزة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينصرف من صلاة الفجر حتى يعرف الرجل جليسه، ويقرأ فيها بالستين إلى المائة.
وقد رد هذا القول على من قاله كثير من العلماء، منهم: الشافعي وابن عبد البر والبيهقي، وقال: أكثر الأحاديث تدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدخل فيها بغلس، ويخرج منها بغلس؛ لحديث عائشة وغيره، وكذلك أكثر أصحابنا، وإن كان منهم من كان يخرج منها بإسفار ويطيل القراءة، كما روي عن الصديق لما قرأ بالبقرة، وعن عمر – أيضا.
وقد روي أن عمر هو الذي مد القراءة في الفجر، وروي عن عثمان أنه تبعه على ذلك.
وروي عن علي، أنه كان يقصر فيها القراءة، ولعله لما كان يسفر بها.(4/443)
ومن الناس من ادعى أن في هذه الأحاديث ناسخاً ومنسوخاً، وهم فرقتان.
فرقة منهم ادعت أن الأحاديث في الإسفار منسوخة.
واستدلوا بما في حديث أسامة بن زيد، عن الزهري، عن عروة، عن بشير ابن أبي مسعود، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر حديث المواقيت بطوله، وقال في آخره: وصلى الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، لم يعد إلى أن يسفر.
خرجه أبو داود.
وقد تقدم أن أسامة تفرد به بهذا الإسناد، وإنما أصله: عن الزهري – مرسلاً.
وفرقةً ادعت أن أحاديث التغليس منسوخة بالإسفار، منهم: الطحاوي.
وزعم: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغلس بالفجر قبل أن تتم الصلوات لما قدم المدينة، ثم لما أتمت الصلوات أربعاً أربعاً أطال في قراءة الفجر، وغلس بها حينئذ.
وأخذه من حديث عائشة الذي ذكرناه في أول (الصلاة) : أن الصلوات أتمت بالمدينة أربعاً، وأقرت الفجر لطول القراءة.(4/444)
وهذا في غاية البعد، ولم ترد عائشة أنه حينئذ شرعت طول القراءة فيها عوضاً عن الإتمام، وإنما أخبرت أنها تركت على حالها لما فيها من طول القراءة، ولم ينقل أحد عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يخفف القراءة في الفجر ثم أطالها، ولا أنه لما كان يخففها كان يسفر بها، وكل هذه ظنون لا يصح منها شيء.
واختلف القائلون باستحباب التغليس بها إذا كان جيران المسجد يشق عليهم التغليس، ولا يجتمعون في المسجد إلا عند الإسفار: هل الأفضل حينئذ التغليس، أم الإسفار؟
فقالت: طائفة: التغليس افضل بكل حال وهو قول مالك والشافعي وحكي رواية عن أحمد وقالت طائفة: الإسفار حينئذ أفضل، وهو منصوص أحمد في رواية غير واحد من أصحابه.
وجعله القاضي أبو يعلي في (خلافة الكبير) [و] في (جامعه الكبير) مذهب أحمد رواية واحدة، ولم يحك عنه في ذلك خلافاً في هذين الكتأبين، وهما من آخر كتبه.
واستدلوا بحديث جابر في مراعاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حال المأمومين في العشاء الآخرة، وقد سبق.(4/445)
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه أمر بذلك معاذ بن جبل لما أرسله إلى اليمن، فأمره أن يغلس بالفجر في الشتاء؛ لطول الليل واستيقاظ الناس في أول الوقت، وأن يؤخر في الصيف، لأن الناس ينامون لقصر الليل فيه.
وحمل بعض أصحابنا أحاديث الأمر بالإسفار على حالة تأخير المأمومين.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يعجل الصبح تارةً، ويؤخرها تارة، وعن جماعة من السلف.
فروى الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد الزبيري: ثنا أبو شعبة الطحان جار الأعمش، عن أبي ربيع، قال: قلت لابن عمر: إني أصلي معك الصبح، ثم التفت فلا أرى وجه جليسي، ثم أحياناً تسفر؟ قال: كذلك رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي، وأحببت أن أصليها كما رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليها.
وهذا إسناد ضعيف.
نقل البرقاني، عن الدارقطني، قال: أبو شعبة: متروك، وأبو الربيع: مجهول.(4/446)
وروينا من طريق أبي خالد الواسطي، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الفجر فيغلس ويسفر، ويقول: (ما بين هذين وقت، لئلا يختلف المؤمنون) .
قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هذا الحديث، فقال: أبو خالد الواسطي هو عمرو بن خالد، ضعيف الحديث جداً.
وروى بيان الرقاشي، قال: قلت لأنس: حدثني عن وقت نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصلاة – فذكر حديث المواقيت، وقال: كان يصلي الغداة عند الفجر إلى أن ينفسح البصر، كل ذلك وقت.(4/447)
بيان هذا، هو: ابن جندب، يكنى أبا سعيد. وقال أبو داود: لا أعلم له إلا حديث المواقيت. وقال ابن معين: هو مجهول.(4/448)
وله شاهد من وجهٍ آخر أقوى منه.
خرجه الإمام أحمد(4/449)
والنسائي من طريق شعبة، عن أبي صدقة، عن أنس، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(4/450)
يصلي الفجر إلى أن ينفسح البصر.
وأبو صدقة مولى أنس، أثنى عليه شعبة خيراً، ووثقه النسائي.
وممنى روي عند التغليس والإسفار: عمر وعثمان وعلي وابن مسعود – رضي الله عنهم.
قال أبو نعيم: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن خرشة بن الحر، قال: كان عمر يغلس بالفجر وينور.
وحدثنا سيف بن هارون، عن عبد الملك بن سلع، عن عبد خير، قال: كان علي ينور بها أحياناً، ويغلس بها أحياناً.
وفعل هؤلاء يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون ذلك على حسب مراعاة حال المأمومين في تقديمهم وتأخيرهم، وقد روي هذا صريحاً عن عمر.
والثاني: أن يكون التقديم والتأخير عندهم سواء في الفضل.
قال ابن عبد البر: ذهب طائفة إلى أن أول الوقت وآخره سواء في الفضل؛ لقوله: (ما بين هذين وقت) .
قال: ومال إلى ذلك بعض(4/451)
أصاب مالك، وذهب إليه أهل الظاهر، وخالفهم جمهور العلماء.
هذا؛ مع أنه حكى عن داود أن التغليس بالفجر أفضل، وحكى الاتفاق من المسلمين على أن التعجيل بالمغرب أفضل، من يقول: لها وقت، ومن يقول: إن وقتها متسع إلى العشاء.
واختلف – أيضا – من يقول بأن التغليس أفضل من الإسفار: هل حكمه كله واحد، أو مختلف؟
فقال أصحاب الشافعي: آخر وقت الاختيار إذا أسفر – أي أضاء -، ثم يبقى وقت الجواز إلى طلوع الشمس.
وقال الاصطخري منهم: يخرج الوقت بالإسفار جداً، فتكون الصلاة معه قضاء، وقد سبق حكاية قوله والرد عليه.
وقال بعض الشافعية: يكره تأخير الصبح بغير عذر إلى طلوع الحمرة – يعني: الحمرة التي قبيل طلوع الشمس.
واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: وقتها كله مختار إلى طلوع الشمس؛ لأن أبا موسى روى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه سأله سائل عن وقت الصلاة، فصلى بهم في يومين، فقدم في الأول، [وأخر في الثاني] ، وأخر في اليوم الثاني الصبح حتى انصرف منها والقائل يقول: طلعت الشمس أو كادت.(4/452)
خرجه مسلم.
وقد سبق عن علي بن أبي طالب نحو ذلك.
ومنهم من قال: يذهب وقت الاختيار بالإسفار، ويبقى وقت الإدراك إلى طلوع الشمس، وهو قول القاضي أبي يعلي في (كتابه المجرد) .
وقد روي عن أحمد ما يدل على كراهة التأخير إلى الإسفار الفاحش.
قال إسحاق بن هانئ في (مسائله) : خرجت مع أبي عبد الله من المسجد في صلاة الفجر، وكان محمد بن محرز يقيم الصلاة، فقلت لأبي عبد الله: هذه الصلاة على مثل حديث رافع بن خديج في الإسفار؟ فقال: لا، هذه صلاة مفرط؛ إنما حديث رافع في الإسفار أن يرى ضوء الفجر على الحيطان. قال:
وسمعت أبا عبد الله يقول: الحديث في التغليس أقوى.
يشير أحمد إلى أنه مع تعارض الأحاديث يعمل بالأقوى منها، وأحاديث التغليس أقوى إسناداً وأكثر.(4/453)
وكذلك الشافعي أشار إلى ترجيح أحاديث التغليس بهذا، وعضده: موافقاً ظاهر القرآن من الأمر بالمحافظة على الصلوات.
وقد حمل أحمد حديث رافع في الإسفار في هذه الرواية على ظاهره، لكنه فسر الإسفار برؤية الضوء على الحيطان، وجعل التأخير بعده تفريطاً، وهذا خلاف ما يقول أصحابنا.
وروى ابن القاسم، عن مالك، أن آخر وقتها الإسفار. وكذلك روى ابن عبد الحكم، عنه، أن آخر وقتها الإسفار الأعلى.
وهذا يشبه قول الاصطخري، إلا أن يكون مراده آخر وقت الاختيار.
وأمامن يرى أن الإسفار أفضل فلا كراهة عندهم في التأخير إلى قريب طلوع الشمس، وهو أفضل عندهم، وهو قول الثوري والحسن بن حي وأبي حنيفة وأصحابه.
واستدل من كره التأخير إلى شدة الإسفار بما روى الحارث بن وهب، عن أبي عبد الرحمن الصنابحي، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تزال أمتي في مسكة ما لم يعملوا بثلاث: ما لم يؤخروا المغرب انتظار الظلام مضاهاة اليهود، وما لم يؤخروا الفجر إمحاق النجوم مضاهاة النصارى، وما لم يكلوا الجنائز إلى أهلها) .
خرجه الإمام أحمد،(4/454)
وهو مرسل.
وإن ثبت حمل على اجتماع الأمة على ذلك؛ فإنه يخشى أن يظن أن ما قبل ذلك ليس بوقت.
والحارث بن وهب، قال البخاري: روايته عن الصنابجي مرسلة - يعني: لم يسمع منه.(4/455)
28 - باب
من أدرك من الفجر ركعة(5/5)
579 - حدثنا عبد الله بن مسلمة: عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار وعن بسر بن سعيد وعن الأعرج، يحدثونه عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) .
هذا الحديث نص في أن من صلى الفجر قبل طلوع الشمس فإنه مدرك لوقتها؛ فإنه إذا كان مدركاً لها بإدراكه منها ركعة قبل طلوع الشمس، فكيف إذا أدركها كلها قبل الطلوع؟
فإن قال فائل: نحمله على أهل الأعذار والضرورات، كما حملتم قوله: (من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها) على حال الضرورة.
قلنا: في العصر قد دل دليل على كراهة التأخير إلى اصفرار الشمس، ولم يدل دليل على كراهة تأخير الفجر إلى الإسفار.(5/5)
وقد ذكرنا معنى قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فقد أدركها) في (باب: من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب) .
وقد فسره الإمام أحمد بإدراك وقتها.
وجمهور العلماء على أن تأخير صلاة الفجر حتى يبقى منها مقدار ركعة قبل طلوع الشمس لغير ضرورة غير جائز، وقد نص عليه الإمام أحمد، وحكي جوازه عن إسحاق وداود.
وتقدم مثله في صلاة العصر.
وقد سبق الحديث في (باب: من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب) من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (إذا أدرك أحدكم سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته) .
وقد روى الدراوردي عن زيد بن أسلم حديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري هاهنا بالإسناد الذي رواه عنه مالك، ولفظ حديثه: (من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس وركعة بعد ما تطلع فقد ادركها، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس وثلاثاً بعد ما تغرب فقد أدركها) .
ورواه –أيضا - مسلم بن خالد، عن زيد بن أسلم، عن الأعرج(5/6)
وعطاء، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الصبح بمعنى رواية الداروردي.
ورواه أبو غسان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من صلى سجدة واحدة من العصر قبل غروب الشمس، ثم صلى ما بقي بعد غروب الشمس فلم تفته العصر، ومن صلى سجدة من الصبح قبل طلوع الشمس، ثم صلى ما بقي بعد طلوع الشمس فلم تفته الصبح) .
وروى سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن خلاس، عن أبي رافع، عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إذا ادركت ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فصل إليها اخرى) .
خرجه الإمام أحمد.(5/7)
ورواه همام عن قتادة - بنحوه، وصرح فيه بسماع قتادة من خلاس.
ورواه هشام الدستوائي، عن قتادة، عن عزرة بن تميم، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (إذا صلى أحدكم ركعة من صلاة الصبح ثم طلعت الشمس فليصل إليها اخرى) .
وفي هذه النصوص كلها: دليل صريح على أن من صلى ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس ثم طلعت الشمس أنه يتم صلاته وتجزئه، وكذلك كل من طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الفجر فإنه يتم صلاته وتجزئه، وكذلك كل من طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الفجر فإنه يتم صلاته وتجزئه، وهو قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وروى الشافعي: اخبرنا ابن عيينة، عن ابن شهاب، عن أنس،(5/8)
أن أبا بكر صلى بالناس الصبح، فقرأ سورة البقرة، فقال له عمر: كادت الشمس أن تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين.
وروى عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، قال: صليت مع عمر بن الخطاب الفجر، فلما سلم ظن الرجال ذوو العقول أن الشمس طلعت، فلما سلم قالوا: يا أمير المؤمنين، كادت الشمس تطلع، فتكلم بشيء لم أفهمه، فقلت: أي شيء قال؟ فقالوا: قال: لو طلعت لم تجدنا غافلين.
وروى الأوزاعي: حدثني يحيى بن سعيد، عن سعيد المقبري، قال: كان أبو هريرة يقول: من نام أو غفل عن صلاة الصبح فصلى ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس والأخرى بعد طلوعها فقد أدركها. وقال في العصر كذلك.
وممن ذهب إلى ذلك من العلماء: مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور.
وكذلك قال الثوري، إلا أنه قال: يستحب أن يعيدها.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: تبطل صلاته؛ لأنه دخل في وقت نهي عن الصلاة فيه.(5/9)
فبطلت صلاته، بناء على أصلين لهم: أحدهما: أن ما وقع منها بعد طلوع الشمس يكون قضاءً. والثاني: أن الفوائت لا تقضى في أوقات النهي.
وأماالجمهور فخالفوا في الأصلين.
وقد تقدم ذكر الاختلاف فيما يقع من الصلاة خارج الوقت إذا وقع أولها في الوقت: هل هو قضاء، أو لا؟ وأن ظاهر مذهب الشافعي وأحمد لا يكون قضاء؛ لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فقد أدركها) .
وأماقضاء الفوائت في أوقات النهي، فخالف فيه جمهور العلماء، وأجازوه عملاً بعموم قوله: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) .
وقالوا: إنما النهي عن النفل، لا عن الفرض، ولهذا يجوز أن يصلي بعد اصفرار الشمس ودخول وقت النهي صلاة العصر الحاضرة، وقد وافق عليه أبو حنيفة وأصحابه، وإنما خالف فيه بعض الصحابة.
وعلى تقدير تسليم منع القضاء في أوقات النهي، فإنما ذاك في القضاء المبتدأ به في وقت النهي، فأم المستدام فلا يدخل في النهي؛ فإن القواعد تشهد بأنه يغتفر في الاستدامة ما لا يغتفر في الابتداء.
وعلى هذا؛ فنقول في النفل كذلك، وأن من كان في نافلة فدخل عليه وقت نهي عن الصلاة لم تبطل صلاته ويتمها، وهو ظاهر كلام الخرقي من أصحابنا، وصرح به ابن عقيل منهم.(5/10)
وقد روى محمد بن سنان العوقي: حدثنا همام: ثنا قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (من صلى ركعة من الصبح ثم طلعت الشمس فليصل الصبح) .
قال البيهقي في (خلافياته) : هذا ليس بمحفوظ، إنما المحفوظ: عن قتادة – بغير هذا الإسناد -: (فليتم صلاته) – كما تقدم، وإنما المحفوظ بهذا الإسناد: حديث: (من لم يصل ركعتي الفجر حتى طلعت الشمس فليصلها) . انتهى.
وقد خرج الترمذي في (جامعه) حديث همام، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة – مرفوعاً -: (من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس) .
ثم قال: لم يروه عن همام بهذا الإسناد نحو هذا إلا عمرو بن عاصم الكلأبي، والمعروف من حديث قتادة: عن النصر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح) . انتهى.
وإذا كان هذا معروفاً بهذا الإسناد عن قتادة، فلم يهم فيه محمد بن سنان، وإنما غير بعض لفظه حيث قال: (فليصل الصبح) ، وهو رواية بالمعنى الذي فهمه من قوله: (فليتم صلاته) ، ومراده: فليتم صلاة الصبح، وليستمر فيها.
والحديث الذي أشار إليه الترمذي خرجه الإمام أحمد: حدثنا بهز، قال: ثنا همام: ثنا قتادة، عن النضر بن أنس، عن(5/11)
بشير بن نهيك، عن أبي هريرة - قال همام: وجدت في كتأبي: عن بشير بن نهيك، ولا أظنه إلا عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هرية عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من صلى – يعني: ركعتي الصبح -، ثم طلعت الشمس، فليتم صلاته) .
ورواه – أيضا – عن عبد الصمد، عن همام: ثنا قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (من صلى من الصبح ركعة ثم طلعت الشمس فليصل اليها أخرى) .
هكذا روى همام، عن قتادة هذا الحديث، وقد تقدم أن سعيد بن أبي عروبة وهشأماالدستوائي رويا أصل الحديث عن قتادة، واختلفا في إسناده.
قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن اختلافهم على قتادة؟ فقال أبي:(5/12)
أحسب الثلاثة كلها صحاحاً، وقتادة كان واسع الحديث، وأحفظهم سعيد قبل أن يختلط، ثم هشام، ثم همام.(5/13)
29 - باب
من أدرك من الصلاة ركعة(5/14)
580 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) .
روى بعضهم هذا الحديث عن مالك، وقال فيه: (من أدرك ركعة من العصر) ، وهو وهم على مالك، وإنما حديث مالك: (من أدرك ركعة من الصلاة) .
وخرجه مسلم، عن عبد بن حميد: ثنا عبد الرزاق، قال: ثنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمثل حديث مالك، عن زيد بن أسلم.
يعني: الحديث الذي خرجه البخاري في الباب الماضي.(5/14)
وذكر الدارقطني في (العلل) أنه ليس بمحفوظ عنه – يعني: عن معمر.
وذكر أنه عبد الرزاق رواه بخلاف ذلك.
قال: وروي – أيضا - عن محمد بن أبي حفصة وسفيان بن حسين، عن الزهري – يعني: بذكر العصر والفجر.
والمحفوظ: عن الزهري في حديث: (من أدرك ركعة من الصلاة) .
وقد اختلف في معنى ذلك:
فقالت طائفة: معناه: إدراك وقت الصلاة، كما في حديث عطاء بن يسار وبسر بن سعيد والأعرج، عن أبي هريرة الذي سبق في الباب الماضي.
وقد روى هذا الحديث المذكور في هذا الباب عمار بن مطر، عن مالك، وقال فيه: (فقد أدرك الصلاة ووقتها) .
قال ابن عبد البر: لم يقله عن مالك غير عمار، وهو مجهول لا يحتج به.(5/15)
وقالت طائفة معناه: إدراك الجماعة.
ويشهد له. ما خرجه مسلم من رواية يونس، عن ابن شهاب، ولفظه: (من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة) .
وهؤلاء لهم في تفسير إدراك الجماعة قولان:
أحدهما:
أن المراد إدراك فضل الجماعة وتضعيفها.
وروى نوح بن أبي مريم هذا الحديث، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (من أدرك الإمام جالساً قبل أن يسلم فقد أدرك الجماعة وفضلها) .
خرجه الدارقطني.
وقال: نوح متروك.
وقد وهم في لفظه، وخالف جميع أصحاب الزهري، ووهم –أيضا - في إسناده، فإنه عن أبي سلمة لا عن سعيد بن المسيب.
مع أنه قد روي عن مالك والأوزاعي، عن الزهري، عن سعيد، وليس بمحفوظ.
وروى أبو الحسن ابن جوصا في (مسند الأوزاعي) : حدثنا أحمد بن(5/16)
محمد بن يحيى بن حمزة: ثنا أبي: عن أبيه يحيى بن حمزة: حدثني الأوزاعي، أنه سأل الزهري عن رجل أدرك من صلاة الجمعة ركعة؟ فقال: حدثني أبو سلمة، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من أدرك من صلاة ركعة فقد أدرك فضيلة الجماعة) .
وهذا اللفظ –أيضا - غير محفوظ.
وأحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة، ضعفوه؛ ذكره الحاكم أبو أحمد في (كتاب الكنى) .
وروى أبو علي الحنفي – وأسمه: عبيد الله بن عبد المجيد - هذا الحديث، عن مالك، وقال في حديثه: (فقد أدرك الفضل) .
قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً من الرواة قاله عن مالك غيره.
قال: ورواه نافع بن يزيد، عن يزيد بن الهاد، عن عبد الوهاب بن أبي بكر، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من ادرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة وفضلها) .
قال: وهذا اللفظ – أيضا - لم يقله أحد عن ابن شهاب غير عبد الوهاب هذا، وليس ممن يحتج به على أصحاب ابن شهاب.
قال: وقد روى هذا الحديث الليث بن سعد، عن ابن الهادي، عن ابن شهاب، فلم يذكر في الإسناد: (عبد الوهاب) ، ولا جاء بهذه اللفظة.
وقد اختلف العلماء في ما يدرك به فضل الجماعة مع الإمام:
فقالت طائفة: لا يدرك بدون إدرك ركعة تامة؛ لظاهر الحديث.(5/17)
وقد رواه قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وزاد فيه: (قبل أن يقيم الإمام صلبه) .
خرج حديثه ابن خزيمة في (صحيحه) والدارقطني.
وليس هذا اللفظ بمحفوظ عن الزهري –أيضا -، وقرة هذا مختلف في أمره، وتفرد بهذا الحديث عنه يحيى بن حميد بهذه الزيادة، وقد أنكرها عليه البخاري والعقيلي وابن عدي والدارقطني وغيرهم.
وحكي هذا القول عن مالك: أنه لا يدرك الجماعة بدون ركعة.
وذكره ابن أبي موسى من أصحابنا مذهباً لأحمد، ولم يحك فيه خلافاً.
وهو قول عطاء، حتى قال: إذا سلم إمامه، فإن شاء تكلم، فلم يكن في صلاة، قد فاتته الركعة.
خرجه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عنه.
وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (من(5/18)
أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة) .
وخرجه الحاكم وصححه.
وفي إسناده من ضعف.
وخرجه الطبراني وغيره من رواية عبد الحميد بن عبد الرحمن بن الأزهر، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإسناده جيد.
قال الحافظ محمد بن عبد الواحد المقدسي: لا أعلم له علة.
وقالت طائفة: تدرك فضيلة الجماعة بإدراك تكبيرة الإحرام قبل سلام الإمام، وهو قول أبي وائل.
وقال قتادة: إن ابن مسعود أدرك قوماً جلوساً في آخر صلاتهم، فقال: قد أدركتم إن شاء الله.
وهو مذهب الشافعي، والمشهور عن أحمد عند القاضي أبي يعلي وأتباعه، حتى قال بعض أصحابنا: هو إجماع من العلماء، لا نعلم فيه خلافاً؛ ولكن ليس بإجماع كما تقدم.
وروى ابن عدي من طريق محمد بن جابر، عن أبان بن طارق،(5/19)
عن كثير بن شنظير، عن عطاء، عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك فضل الجماعة، ومن أدرك الإمام قبل أن يسلم فقد أدرك فضل الجماعة) . قال: وكنا نتحدث أن من أدرك قبل أن يتفرقوا فقد أدرك فضل الجماعة.
وليس هذا بمحفوظ، وأبان بن طارق ومحمد بن جابر ضعيفان.
وقد رواه ابن علية، عن كثير بن شنظير، عن عطاء، عن أبي هريرة، قال: إذا انتهى إلى القوم وهم قعود في آخر صلاتهم فقد دخل في التضعيف، وإذا انتهى اليهم وقد سلم الإمام، ولم يتفرقوا فقد دخل في التضعيف.
قال عطاء: وكان يقال: إذا خرج من بيته وهو ينويهم، فأدركهم أو لم يدركهم فقد دخل في التضعيف.
وهذا الموقوف أصح.
وكذا قال أبو سلمة: من خرج من بيته قبل أن يسلم الإمام فقد أدرك.
ومعنى هذا كله: أنه يكتب له ثواب الجماعة؛ لما نواها وسعى إليها، وإن كانت قد فاتته، كمن نوى قيام الليل ثم نام عنه، ومن كان له عمل فعجز عنه بمرض أو سفر، فإنه يكتب له أجره.
ويشهد لهذا: ما خرجه أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (من توضأ فأحسن الوضوء، ثم راح فوجد الناس قد صلوا، أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها، لا(5/20)
ينقص ذلك من أجرهم شيئاً) .
وخرج أبو داود من حديث سعيد بن المسيب، عن رجل من الأنصار، سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له، فإن أتي المسجد وقد صلوا بعضاً وبقي بعض فصلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك، فإن أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة كان كذلك) .
وخرج النسائي في هذا الباب من حديث عثمان: سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (من توضأ للصلاة فاسبغ الوضوء، ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة، فصلاها مع الناس، أو مع الجماعة، أو في المسجد غفر له ذنبه) .
ولا خلاف عن الشافعي وأحمد أن الجمعة لا تدرك بدون إدراك ركعة تامة؛ لأن الجماعة شرط لها، وهذا مما يقوي بأن الجماعة لا تدرك بدون إدراك ركعة.
والقول الثاني:
أن المراد بإدراك الركعة في الجماعة إدراك جميع أحكام الجماعة، من الفضل، وسجود السهو، وحكم الإتمام، وهذا مذهب مالك.
فعلى هذا؛ إذا أدرك المسافر المقيم في التشهد الآخر لم يلزمه الإتمام، وإن أدرك معه ركعة تامة فأكثر لزمه الإتمام، وإذا خرج من بلده مسافراً وقد بقي عليه من وقت الصلاة قدر ركعة قصر الصلاة، وإن كان أقل من قدر ركعة أتمها، وإذا أدرك المسبوق مع الإمام ركعة لزمه أن يسجد معه(5/21)
لسهوه، سواء أدركه في ذلك السهو أو لم يدركه، وإن لم يدرك معه ركعة لم يلزمه السجود له.
هذا كله مذهب مالك.
ووافقه الليث والأوزاعي في مسألة سجود السهو.
ووافقه أحمد – في رواية عنه – في المسافر إذا أدرك من صلاة المقيم أقل من ركعة فدخل معه أن له أن يقصر.
والمشهور عنه أنه يلزمه الإتمام كقول الشافعي وأبي حنيفة.
وكذا قال طائفة من أصحابنا في ائتمام المفترض بالمتنفل، ومن يصلي فرضاً خلف من يصلي فرضاً آخر، أنه إن أدرك معه دون ركعة جاز ائتمامه به؛ لأنه لم يدرك معه ما يعتد به من صلاة، وإن أدرك معه ركعة فصاعداً لم يجز إئتمامة به.
وقالت طائفة اخرى: قوله: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) يدخل في عمومه إدراك الوقت بالنسبة إلى أداء الصلاة، وإدراك الجماعة كما تقدم.
ويدخل فيه – أيضا - إدرك قدر ركعة من وقت الوجوب إذا زال عذر المعذور في آخر وقت الصلاة.
فلو طهرت من حيضها في آخر الوقت وقد بقي منه قدر ركعة لزمها القضاء، وإن لم يبق منه قدر ركعة فلا قضاء عليها.
وهذا قول مالك والليث، وأحد قولي الشافعي، ورواية عن أحمد، حكاها أبو الفتح الحلواني وغيره.
والمشهور عن الشافعي وأحمد: أنه يعتبر إدراك قدر تكبيرة الإحرام من الوقت إذا زال العذر.
وهو قول أبي حنيفة، وحكي عن الأوزاعي(5/22)
والثوري.
وكذا المشهور عند أصحاب أحمد من مذهب أحمد فيما إذا طرأ العذر بعد دخول الوقت في أوله.
وقالت طائفة من أصحابنا كابن بطة وابن أبي موسى: يعتبر في أول الوقت ذهاب وقت يمكن فيه أداء الصلاة كلها، وهو قول الشافعي وإسحاق.
والقولان للشافعي في اعتبار ركعة وقدر تكبيرة فيما إذا زال العذر في آخر الوقت كالحائض تطهر.
فإن طرأ العذر في أوله كالطاهر تحيض، فلأصحابنا طريقان: أحدهما: أنه على الخلاف في زواله في آخر الوقت. والثاني – وهو الصحيح المشهور عندهم -: يعتبر ذهاب قدر الصلاة بكمالها.
فإن طرأ العذر قبل ذلك فلا قضاء، كما قاله ابن بطة وابن أبي موسى من أصحابنا.
وفرقوا بين أول الوقت وآخره، فإن أول الوقت إذا لم يمض قدر التمكن من الفعل كان الإلزام بالفعل تكليفاً بما لا يطاق، وأمافي آخر الوقت فيمكن فعل ما أدركه في الوقت، ويكمله بعد الوقت، ويكون كله أداء على ما سبق تقريره.
وأمامن سوى بين الصورتين في الوجوب – وهو المشهور عند أصحابنا -، فقالوا: ليس ذلك تكليفاً لما لا يطاق، فإنا لا نكلف من طرأ عليه العذر بالفعل في الوقت الذي لا يتمكن فيه، بل يلزمه في ذمته ويجب عليه القضاء.(5/23)
وخرج ابن سريج قولاً آخر: انه لا يجب القضاء حتى يدرك جميع الوقت خالياً من العذر من نص الشافعي على المسافر إذا سافر في أثناء الوقت فله القصر.
وفرق أكثر أصحابه بينهما، بأن المسافر والمقيم كلاهما تجب عليه الصلاة، لكن المسافر له القصر إذا صلى في السفر، وإن لزمته الصلاة قبل ذلك في الحضر اعتباراً في صفة الصلاة بحال أدائها في وقتها، كما لو كان في أول الوقت قادراً على القيام أو الطهارة بالماء ثم عجز عن ذلك في آخره، فإنه يصلي قاعداً وبالتيمم.
ومذهب الحسن وابن سيرين وحماد، والأوزاعي، وأبي حنيفة في المشهور عنه، أنه لا قضاء، وإن وجد المانع في آخر الوقت.
ورواه ابن وهب، عن مالك -: نقله ابن عبد البر، ولم يذكر عنه خلافه.
وفي (تهذيب المدونة) : أن مذهب مالك: لا قضاء إلا أن يتضايق الوقت عن الفعل، ويبقى منه قدر ركعة، ثم يوجد بعد ذلك، لأن تركها قبل ذلك جائز.
وهو رواية زفر، عن أبي حنيفة.
وهذا الاختلاف عنهم فيما إذا تجدد المانع من الصلاة في أثناء الوقت مبني على أصلين:(5/24)
أحدهما: أن الصلاة: هل تجب بأول الوقت وجوباً موسعاً، أم لا؟
فقال الأكثرون: تجب بأوله، وهو المحكي عن مالك، والشافعي، وأحمد، وبعض أصحاب أبي حنيفة.
وقال أكثر أصحابه: تجب بآخره إذا بقي من الوقت قدر ما يتسع لتلك الصلاة، لأن ما قبله يجوز تركها فيه، فلا يوصف فيه بالوجوب.
ومنهم من قال: لا تجب حتى يبقى من الوقت قدر تكبيرة واحدة.
ومن الناس من يحكي هذه الأقوال الثلاثة ثلاث روايات عن أبي حنيفة.
ومن أصحابنا من قال: تجب في جزء منه غير معين، وهو ما يقع فيه فعل الصلاة، فتكون أجزاء الوقت كخصال الكفارة.
والثاني: هي يستقر الوجوب في الذمة بما يجب به الصلاة، وهو أول جزء من الوقت عند من يرى ذلك، أم لا يستقر الوجوب حتى يمضي من الوقت مقدار ما يفعل فيه، أم لا يستقر حتى يبقى من الوقت مقدار ما يتسع لفعل الصلاة، أم لا يستقر حتى يخرج آخر الوقت سالماً من الموانع؟ فهذه أربعة أقوال.
والأول: هو المشهور عند أصحابنا، وذكروا أنه المنصوص عن أحمد، وقد نص أحمد على أن المرأة إذا حاضت بعد دخول الوقت قليلاً فعليها القضاء، وهو – أيضا - قول بعض الشافعية، وحكي عن الثوري وطائفة من السلف.
والثاني: قول الشافعي وإسحاق وابن بطة وابن أبي(5/25)
موسى.
والثالث: قول مالك، ورواية زفر عن أبي حنيفة.
والرابع: قول أبي حنيفة ومن وافقه كالأوزاعي وابن سريج من الشافعية.
وأماإذا زال العذر في آخر الوقت، فالأكثرون على أنه لو زال قبل خروج الوقت ولو بقدر تكبيرة وجبت تلك الصلاة به، وهو قول الثوري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، والشافعي في أشهر قوليه، وأحمد في ظاهر مذهبه.
وقال طائفة: يعتبر أن يدرك من الوقت قدر ركعة، وهو قول مالك، والليث، والشافعي في قوله الآخر، وحكي رواية عن أحمد؛ لمفهوم الحديث المخرج في هذا الباب.
وحكي عن بعضهم، انه اعتبرها هنا للوجوب إدراك قدر الصلاة بكمالها من الوقت.
وهذه طريقة ضعيفة في مذهب الشافعي وأحمد، وحكي عن زفر.
والمروي عن الصحابة يدل على القول الأول؛ فإنه روي عن عبد الرحمن ابن عوف وابن عباس وأبي هريرة، في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر: تصلي المغرب والعشاء. زاد عبد الرحمن وابن عباس: وإذا طهرت قبل غروب الشمس صلت الظهر والعصر.
ولم يفرقوا بين قليل من الوقت وكثير.(5/26)
30 - باب
الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس
فيه حديث عن عمر، وابن عمر، وأبي هريرة: فحديث عمر:
قال فيه:(5/27)
581 - حدثنا حفص بن عمر: ثنا هشام، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس، قال: شهد عندي رجال مرضيون – وأرضاهم عندي عمر -، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب.
حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن شعبة، عن قتادة: سمعت أبا العالية، عن ابن عباس، قال: حدثني ناس بهذا.
إنما أعاده من طريق شعبة لتصريح قتادة فيه بالسماع من أبي العالية.
وقد قال شعبة: لم يسمع قتادة من أبي العالية إلا ثلاثة أشياء: هذا الحديث، وحديث ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متي) ، وحديث علي: (القضاة ثلاثة) .
ذكره أبو داود والترمذي في (كتأبيهما) عن شعبة – تعليقاً.(5/27)
وقد خرج في (الصحيحين) لقتادة عن أبي العالية، حديث ابن عباس في (دعاء الكرب) ، وحديثه: في رؤية النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الإسراء الأنبياء.
وقد روي هذا الحديث من حديث الحسن، عن أبي العالية، وليس بمحفوظ -: ذكره العقيلي.
وقول ابن عباس: شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر، معناه: أخبرني بذلك وحدثني به، ولم يرد أنهم أخبروه به بلفظ الشهادة عنده.
وهذا ما استدل به من يسوي بين لفظ الإخبار والشهادة،(5/28)
وقد نص عليه أحمد في الشهادة بالجنة للصحابة الذين روي أنهم في الجنة؛ فإن من الناس من قال: يقال: إنهم في الجنة، ولا نشهد، فقال أحمد: إذا قال فقد شهد.
وسوى بين القول والشهادة في ذلك.
وأمافي أداء الشهادة عند الحاكم، فاعتبر أكثر أصحابنا لفظ الشهادة، وذكر القاضي أبو يعلي في موضع احتمالاً آخر، بأنه لا يشترط ذلك.
وكان ابن عباس يروي – أحياناً -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما شهده وسمعه منه، ويقول: أشهد على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما قال ذلك في روايته لخطبة العيد، وقد سبق حديثه بهذا في (كتاب العلم) في (باب: عظة الإمام النساء وتعليمهن) .
وقوله: (نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس) ، أول هذا الوقت المنهي عن الصلاة فيه إذا طلع الفجر، وهو المراد بقوله في هذه الرواية: (بعد الصبح) ؛ فإن الصبح هو الفجر، كما قال تعالى: {وَالصُّبْحِ إذا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] ، وقال: {إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81] .
وفي رواية لمسلم في هذا الحديث: نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس
وهذا قول جمهور العلماء: أن أول وقت النهي عن الصلاة إذا طلع الفجر.
وروي معنى ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة.
وقال النخعي: كانوا يكرهون ذلك.
وكرهه سعيد(5/29)
بن المسيب، قال: هو خلاف السنة.
وعطاء والحسن – [قال] : وما سمعت فيه بشيء -، والعلاء بن زياد وحميد ابن عبد الرحمن.
وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه.
وذكر أبو نصر بن الصباغ من الشافعية: أنه ظاهر مذهب الشافعي.
وحكى الترمذي في (جامعه) أن أهل العلم أجمعوا عليه، وكرهوا أن يصلي الرجل بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين) .
وله طرق متعددة عن ابن عمر.
وخرج الطبراني والدارقطني والبزار نحوه من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرج الطبراني نحوه من حديث ابن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وله عنه طرق.
وروي عن ابن المسيب مرسلاً، وهو أصح.
ومراسيل ابن المسيب أصح المراسيل.(5/30)
وفي (صحيح مسلم) ، عن حفصة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين.
وخرج الإمام أحمد من حديث شهر بن حوشب، عن عمرو بن عبسة، قال: قلت: يا رسول الله، أي الساعات أفضل؟ قال: (جوف الليل الآخر، ثم الصلاة مكتوبة مشهودة حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر فلا صلاة، إلا الركعتين حتى تصلي الفجر) .
وخرجه ابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن البيلماني، عن عمرو بن عبسة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعناه، وقال فيه: (فصل ما بدا لك حتى يطلع الصبح، ثم انته حتى تطلع الشمس) .
وخرجه النسائي، وعنده: (حتى تصلي الصبح) .
فقد تعارضت الروايتان في حديث عمرو بن عبسة.
ومما يدل على أن وقت النهي يدخل بطلوع الفجر: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن بلالاً يؤذن بليل حتى يرجع قائمكم ويوقظ نائمكم) .
وقد خرجاه في (الصحيحين) من حديث ابن مسعود.
فإن معنى: (يرجع قائمكم) : أن المصلي بالليل يمسك عن الصلاة ويكف عنها.
وقد رخص طائفة من العلماء في بعض الصلوات بعد طلوع الفجر، قبل صلاة الفجر، كالوتر وصلاة الليل.(5/31)
روي عن عمر وعائشة في صلاة الليل.
وإلى ذلك ذهب مالك في الوتر وقضاء صلاة الليل.
وروي عن عطاء.
ونص أحمد عليه في الوتر، وحكى ابن أبي موسى مذهب أحمد جواز قضاء صلاة الليل فيه بغير خلاف حكاه في المذهب، وحكى الخلاف في بقية ذوات الأسباب، كتحية المسجد وغيرها.
وقال آخرون: لا يدخل وقت النهي حتى يصلي الفجر.
ورويت الرخصة في الصلاة قبل صلاة الفجر عن الحسن وطاوس.
والمشهور عند عامة أصحاب الشافعي من مذهبه: الرخصة في ذلك، حتى يصلي الفجر.
وحكي رواية عن أحمد.
وفي (صحيح مسلم) عن عمرو بن عبسة، أنه قال للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا رسول الله، أخبرني عن الصلاة؟ فقال: (صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، حتى ترتفع؛ فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحيئذ يسجد لها الكفار) – وذكر الحديث.
وهذا إنما يدل بمفهومه، وقد عارض مفهومه منطوق الروايات الأولى، فيقدم المنطوق عليه.
وقوله: (حتى تشرق الشمس) هكذا الرواية: (تشرق) بضم التاء وكسر الراء، من قولهم: أشرقت الشمس.
وزعم بعضهم: أن الصواب:(5/32)
(تشرق) بفتح التاء، وضم الراء، من قولهم: شرقت الشمس، إذا طلعت.
قال: ومعنى أشرقت: أضاءت وصفت.
قال: والمناسب هنا ذكر طلوعها، لا ذكر إضاءتها وصفائها.
وهذا ليس بشيء، والصواب: (تشرق) ، والمعنى: حتى ترتفع الشمس، كما بوب عليه البخاري.
والنهي يمتد إلى أن ترتفع وتضيء ويصفو لونها، كما في حديث أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس) . وسيأتي – إن شاء الله.
مع أن كلا الحديثين قد روي فيه: (حتى تطلع الشمس) ، وهو من رواية بعض رواته بالمعنى الذي فهمه منه. والله أعلم.
وحديث ابن عمر:
قال البخاري:(5/33)
582 - حدثنا مسدد: ثنا يحيى بن سعيد، عن هشام، قال: أخبرني أبي، قال: أخبرني ابن عمر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها) .(5/33)
583 - قال: وحدثني ابن عمر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصالة حتى ترتفع، وإذا غاب حاجب الشمس فاخروا الصلاة، حتى تغيب) .
تابعه: عبدة.
وحديث عبدة الذي أشار إلى متابعته: قد خرجه في (كتاب بدء(5/33)
الخلق) : أخبرنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تبرز، وإذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب، لا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان) – أو (الشيطان) ، لا أدري أي ذلك قال هشام؟
وخرجه مسلم من رواية وكيع وابن نمير ومحمد بن بشر، كلهم عن هشام – بنحوه.
وفي رواية له: (فإنها تطلع بقرني الشيطان) .
وإنما احتاج البخاري إلى ذكر المتابعة في هذا الإسناد؛ لأن عروة قد اختلف عليه فيه:
وهما حديثان: حديث: (لا تحروا بصلاتكم) ، وحديث: (إذا طلع حاجب الشمس) .
وقد روى ابن إسحاق، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: حديث: (إذا طلع حاجب الشمس) - الحديث، ووهم في قوله: (عن عائشة) .
ورواهما عن مالك وعروة، عن هشام، عن أبيه – مرسلاً.
وروى مسلمة بن قعنب، عن هشام، عن أبيه، عن ابن عمر – أو:(5/34)
ابن عمرو -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حديث: (لا تحروا) .
والصحيح: قول القطان ومن تابعه -: [رواه] الدارقطني.
وذكر ابن عبد البر أن أيوب بن صالح رواه، عن مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة.
قال: وأيوب هذا ليس ممن يحتج به، وليس بالمشهور بحمل العلم.
وروى ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حديث: النهي عن الصلاة عند الطلوع والغروب.
خرجه الإمام أحمد.
وروى ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة – موقوفاً -: إذا طلع حاجب الشمس.
والصواب: حديث عروة، عن ابن عمر.
ومن قال: (عن عائشة) فقد وهم: ذكره الدارقطني وغيره.
فإن عروة عن عائشة سلسلة معروفة يسبق إليها لسان من لا يضبط ووهمه، بخلاف: عروة،(5/35)
عن ابن عمر، فإنه غريب، لا يقوله إلا حافظ متقن.
ورواه الدراوردي، عن هشام، عن أبيه، عن سالم، عن أبيه.
ووهم في قوله: (عن سالم) ، ولم يتابع عليه -: قاله الدارقطني – أيضا.
واختلف في معنى قوله: (تطلع بين قرني الشيطان) على قولين:
أحدهما: أنه على ظاهره وحقيقته.
وفي حديث الصنابحي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا كانت في وسط السماء قارنها فإذا دلكت) – أو قال: (زالت – فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها، فلا تصلوا هذه الساعات الثلاث) .
خرجه مالك وأحمد والنسائي وابن ماجه.
وروى أبو بكر الهذلي، عن عكرمة، عن ابن عباس: إن الشمس إذا طلعت أتاها ملك عن الله يأمرها بالطلوع، فيأتيها شيطان يريد أن يصدها(5/36)
عن الطلوع، فتطلع بين قرنيه، فيحرقه الله فيها، وما غربت الشمس قط إلا خرت لله ساجدة، فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن الغروب، فتغرب بين قرنيه، فيحرقه الله تحتها، وذلك قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ما طلعت إلا بين قرني شيطان، ولا غربت إلا بين قرني شيطان) .
خرجه ابن عبد البر.
والهذلي، متروك الحديث.
وأهل هذا القول، منهم من حمل القرن على ظاهره، وقال: يمكن أن يكون للشيطان قرن يظهره عند طلوع الشمس وغروبها.
ومنهم من قال: المراد بقرنيه جانبي رأسه، وإليه ميل ابن قتيبة.
والقول الثاني: أن المراد بطلوعها وغروبها بين قرني الشيطان: من يسجد لها من المشركين، كما في حديث عمرو بن عبسة المتقدم، (إنها تطلع بين قرني الشيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار) .
والقرن: الأمة. ونسبه إلى الشيطان؛ لطاعتهم إياه، كما قال: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 19] .
ومنه: قول خباب في القصاص للإنكار عليهم: هذا قرن [قد] طلع.
ورجح هذا القول كثير من المتأخرين أو أكثرهم، وفيه نظر؛ فإن حديث عمرو بن عبسة يدل على أن طلوعها بين قرني الشيطان غير سجود الكفار لها؛ ولأن الساجدين للشمس لا ينحصرون في أمتين فقط.(5/37)
وقالت طائفة: معنى: (بين قرني الشيطان) : أن الشيطان يتحرك عند طلوعها ويتسلط -: قاله إبراهيم الحربي، ورجحه بعضهم بأنه يقال: أنا مقرن لهذا الأمر، أي: مطيق له.
وهذا بعيد جداً. والله أعلم.
وحديث أبي هريرة:
قال البخاري:(5/38)
584 - حدثنا عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن عبيد الله، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيعتين، وعن لبستين، وعن صلاتين: نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن اشتمال الصماء، وعن الاحتباء في ثوب واحد، يفضي فرجه إلى السماء، وعن المنابذة والملامسة.
النهي عن اشتمال الصماء والاحتباء سبق الكلام عليه.
والنهي عن المنابذة والملامسة موضعه البيع.
وأماالنهي عن الصلاتين، فهو موافق لحديث عمر المتقدم.(5/38)
31 - باب
لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس
فيه أربعة أحاديث:
الأول(5/39)
585 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس، ولا عند غروبها) .
هكذا في رواية البخاري: (لا يتحرى) ، على أنه خبر أريد به النهي. وفي رواية لمسلم: (لا يتحر) ، على أنه نهي.
وهذا الحديث موافق لرواية عروة، عن ابن عمر، كما تقدم.
وقد روى هذا الحديث – أيضا - عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يصلى مع طلوع الشمس، أو مع غروبها.
خرجه النسائي من طريق خالد، عنه.
ورواه يحيى بن سليم وعبد الرحيم بن سليمان، عن عبيد الله، عن نافع، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع(5/39)
الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس.
وهو حديث منكر -: قاله أبو حاتم الرازي وغيره.
وذكر الدارقطني أنهما وهما في إسناده على عبيد الله بن عمر؛ فإن عبيد الله إنما روى هذا المتن عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة كما سبق.
وروى – أيضا – ابن أبي ذئب، عن مسلم الخياط، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا بعد الصبح حتى ترتفع الشمس وتضحى) .
مسلم، وثقه ابن معين وغيره.
وهذا غريب عن ابن عمر، بل منكر؛ فإنه لا يصح عنه رواية في النهي عن الصلاة بعد الفجر والعصر؛ فقد صح عنه أنه رخص في ذلك، كما خرجه البخاري، وسيأتي – إن شاء الله تعالى.
الحديث الثاني:(5/40)
586 - حدثنا عبد العزيز بن عبد الله: ثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: حدثني عطاء بن يزيد الجندعي، أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغيب الشمس) .
وقد روي هذا عن أبي سعيد من وجوه متعددة:
وخرجه البخاري في (الصيام) من طريق عبد الملك بن عمير، عن قزعة، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (لا صلاة بعد(5/40)
الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس) .
ومن حديث عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه نهى عن صلاة بعد الصبح والعصر.
الحديث الثالث:
قال:(5/41)
587 - حدثنا محمد بن أبان: ثنا غندر: ثنا شعبة، عن أبي التياح، قال: سمعت حمران بن أبان يحدث، عن معاوية، قال: إنكم لتصلون صلاة، لقد صحبنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فما رأيناه يصليها، ولقد نهى عنها – يعني: الركعتين بعد العصر.
قال الإسماعيلي: قد رواه عثمان بن عمر، عن شعبة، عن أبي التياح، عن معبد الجهني، عن معاوية –جعل بدل حمران: معبدا.
قلت: غندر مقدم في أصحاب شعبة على عثمان بن عمر وغيره.
قال أحمد: ما في أصحاب شعبة أقل خطأ من غندر.(5/41)
وقد توبع عليه؛ فخرجه الإمام أحمد في (مسنده) عن غندر وحجاج، عن شعبة، عن أبي التياح، عن حمران.
وكذا رواه شبابة بن سوار وقراد أبو نوح، عن شعبة.
ورواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة، قال: أخبرني أبو التياح، عن معبد الجهني، قال: خطب معاوية، فقال: ألا ما بال أقوام يصلون صلاة، قد صحبت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فما رأيناه يصليها، وقد سمعناه نهى عنها – يعني: الركعتين بعد العصر.
وهذه متابعة لعثمان بن عمر.
قال البيهقي: كأن أبا التياح سمعه منهما. والله أعلم.
الحديث الرابع:
قال:(5/42)
588 - حدثنا محمد بن سلام: ثنا عبدة، عن عبيد الله، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاتين: بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب.
وهذا الحديث سبق في الباب الماضي بأتم من هذا السياق.
ومقصود البخاري بهذا: ذكر الوقتين الضيقين المنهي عن الصلاة فيهما، وهما: عند غروب الشمس، وعند طلوعها.
ومقصوده بالباب الذي قبله: ذكر الوقتين المتسعين، وهما: بعد الفجر، وبعد العصر.(5/42)
فهذه أربعة أوقات:
الوقت الأول: أوله: طلوع الفجر عند جمهور العلماء، ومنهم من قال: الانصراف من صلاة الفجر.
وقد سبق ذكر هذا الاختلاف في الباب الماضي.
وآخره: اخذ الشمس في الطلوع.
والوقت الثاني: أوله: أخذ الشمس في الطلوع، وهو بدو حاجبها، كما في حديث ابن عمر.
وآخره: أن ترتفع الشمس، كما في حديث ابن عمر وأبي سعيد وغيرهما.
وجاء من حديث ابن مسعود – مرفوعاً -: (حتى ترتفع وتبيض) .
خرجه الهيثم بن كليب بإسناد فيه انقطاع.
وجاء في حديث كعب بن مرة – أو مرة بن كعب -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (حتى ترتفع قيد رمح أو رمحين) .
خرجه الإمام أحمد.
وفي إسناده اختلاف.
وخرجه الإسماعيلي من حديث عمر بن الخطاب، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بإسناد حديثه الذي خرجه البخاري هاهنا، ولكن متنه بهذا الإسناد منكر غير معروف.
وفي (مسند الإمام أحمد) عن سعيد بن نافع، قال: رآني أبو بشير الأنصاري صاحب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أصلي صلاة الضحى حين طلعت الشمس، فعاب ذلك علي، ونهاني، وقال: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا تصلوا حتى ترتفع الشمس؛ فإنها تطلع في قرني الشيطان) .
وسعيد بن نافع، روى عن جماعة من الصحابة، وذكره ابن حبان في (ثقاته) .(5/43)
وخرج النسائي من حديث عبد الرحمن بن البيلماني، عن عمرو بن عبسة، أنه سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل من ساعة أقرب من الله؟ قال: (نعم؛ جوف الليل الآخر، فصل ما بدا لك حتى تصلي الصبح، ثم انته حتى تطلع الشمس، فما دامت كأنها جحفة حتى تنتشر، ثم صل ما بدا لك) – وذكر الحديث.
وخرجه – أيضا – من حديث أبي أمامة الباهلي، عن عمرو بن عبسة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه: قال: (فدع الصلاة حتى ترتفع قيد رمح، ويذهب شعاعها) .
وخرجه أبو داود، وعنده: (ثم أقصر حتى تطلع الشمس قيد رمح – أو رمحين) .
وقال سفيان، عن هشام، عن ابن سيرين: تحرم الصلاة إذا طلعت الشمس حتى تكون قيد نخلة، وتحرم إذا تغيرت حتى تغرب.
والوقت الثالث: أوله: إذا فرغ المصلي من صلاة العصر.
وآخره: دخول الوقت الرابع.
والوقت الرابع: آخره: تكامل غروب الشمس بغير خلاف.
ولم يرد ما يخالف هذا إلا حديث: (لا صلاة بعدها – يعني: العصر – حتى(5/44)
يطلع الشاهد) ، وهو النجم.
وقد سبق ذكره، وأن من الفقهاء من تعلق به في قوله بكراهة التنفل قبل صلاة المغرب، وهو قول أبي حنيفة وغيره.
وقال إسحاق: صلاة الركعتين قبل المغرب رخصة، فلا يزاد حينئذ على ركعتين وليست بسنة، نقله عنه ابن منصور.
ويكون عنده ما بعد غروب الشمس وقبل صلاة المغرب، كما بين طلوع الفجر وصلاة الصبح، لا يزاد فيه على ركعتين.
وأماأوله: ففيه قولان:
أحدهما: أنه اخذ الشمس في الغروب حتى تتكامل؛ لحديث ابن عمر: (إذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب) .
وهذا قول الحنفية، وأكثر أصحابنا وغيرهم.
والثاني: أوله: إذا اصفرت الشمس، وقد تقدم عن ابن سيرين، وحكي عن مالك والشافعي وإسحاق، وحكاه ابن المنذر عن أهل الرأي، ورجحه بعض أصحابنا، ومنهم من حكاهما روايتين عن أحمد.
ورأى شريح رجلاً يصلي حين أصفارت الشمس، فقال: أنهوه أن يصلي؛ فإن هذه ساعة لا تحل فيها الصلاة.
وتبويب البخاري هاهنا يشهد لهذا القول، ولكنه لم يستشهد له إلا(5/45)
بالنهي عن الصلاة بعد العصر، وفيه نظر؛ فإنه يجعل الوقتين وقتاً واحداً.
وإنما يستدل له بحديث عقبة بن عامر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه نهى عن الصلاة حين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب.
خرجه مسلم.
ومعنى: تضيف للغروب: تميل إليه.
وفي رواية للإمام أحمد من حديث كعب بن مرة – أو مرة بن كعب -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال بعد زوال الشمس: (ثم الصلاة مقبولة حتى تكون الشمس قيد رمح – أو رمحين -، ولا صلاة حتى تغرب الشمس) .
وخرج – أيضا - من حديث عمرو بن عبسة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (إذا تدلت الشمس للغروب فأقصر عن الصلاة حتى تغيب الشمس) .
وسنذكره بتمامه فيما بعد – إن شاء الله تعالى.
فأماالوقتان الضيقان عند طلوع الشمس وغروبها، فجمهور العلماء على النهي عن التنفل بالصلاة فيهما، وقد حكاه غير واحد إجماعاً، ولكن روي عن ابن الزبير، أنه كان يصلي عند غروب الشمس.
فخرج النسائي من طريق عمران بن حدير،(5/46)
قال: سألت أبا مجلز عن الركعتين عند غروب الشمس؟ فقال: كان عبد الله بن الزبير يصليهما، فأرسل إليه معاوية: ما هاتان الركعتان عند غروب الشمس، فاضطر الحديث إلى أم سلمة، فقالت أم سلمة: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي ركعتين قبل العصر، فشغل عنهما فركعهما حين غابت الشمس، ولم أره يصليهما قبل ولا بعد.
وروى محمد بن حيي بن يعلي بن أمية، عن أبيه، قال: رأيت يعلي بن أمية صلى قبل أن تطلع الشمس، فقيل له: أنت رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، تصلي قبل أن تطلع الشمس؟ قال يعلي: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، فلأن تطلع وأنت في أمر الله خير من أن تطلع وأنت لاه) .
خرجه الإمام أحمد.
ومحمد بن حيي بن يعلي بن أمية، قال ابن المديني: هو مجهول. قال: وأبوه معروف، قد روي عنه.
مع أن يعلي إنما كانت صلاته قبل طلوع الشمس، لكن تعليله يقتضي عدم كراهة الصلاة عند طلوعها.
وأماالوقتان المتسعان، وهما: بعد الفجر، وبعد العصر، فاختلف العلماء: فمنهم من قال: لا بأس بالصلاة فيهما، وهذا مروي عن جماعة من الصحابة:
منهم: ابن عمر.
وقد خرج البخاري قوله في الباب الاتي.
ومنهم: عائشة.
ففي (صحيح مسلم) عن طاوس، قال: قالت عائشة: وهم عمر، إنما نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتحرى طلوع(5/47)
الشمس وغروبها.
ومعنى قولها: وهم عمر – أي: فيما روى من النهي عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر.
وفي (صحيح ابن حبان) من رواية شعبة، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، قال: سألت عائشة عن الصلاة بعد العصر، فقالت: صل؛ إنما نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة إذا طلعت الشمس، وإذا غربت الشمس.
ومنهم: بلال.
روى قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن بلال، قال: لم يكن ينهى عن الصلاة إلا عند طلوع الشمس، فإنها تطلع بين قرني الشيطان.
وخرجه الإمام أحمد.
وخرجه ابن أبي شيبة، وعنده: (عند غروب الشمس) .
والظاهر: استواء الطلوع والغروب، ولا يعلم عن أحد التفريق بينهما.
واختار ابن المنذر أن أوقات النهي ثلاثة: وقت الطلوع، ووقت الغروب، ووقت الزوال خاصة.
وممن رخص في الصلاة بعد العصر والشمس مرتفعة: علي بن أبي طالب، والزبير، وتميم الداري، وأبو أيوب، وأبو موسى، وزيد بن خالد الجهني، وابن الزبير، والنعمان بن بشير، وأم سلمة – رضي الله عنهم.
ومن التابعين: الأسود، ومسروق، وشريح، وعمرو بن ميمون، وعبد الرحمن بن الأسود، وعبيدة، والأحنف بن قيس، وطاوس.
وحكاه ابن عبد البر، عن عطاء، وابن جريج، وعمرو بن دينار.
قال:(5/48)
وروي عن ابن مسعود نحوه.
ولم يعلم عن أحد منهم الرخصة بعد صلاة الصبح.
وهو قول داود، فيما حكاه ابن عبد البر.
وحكي رواية عن أحمد:
قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألت أحمد: هل ترى بأساً أن يصلي الرجل تطوعاً بعد العصر والشمس بيضاء مرتفعة؟ قال: لا نفعله، ولا نعيب فاعله.
قال: وبه قال أبو حنيفة.
وهذا لا يدل على أن أحمد رأى جوازه، بل رأى أن من فعله متأولاً، أو مقلداً لمن تأوله لا ينكر عليه، ولا يعاب قوله؛ لأن ذلك من موارد الاجتهاد السائغ.
ومما استدل به من ذهب إلى ذلك: ما رواه هلال بن يساف، عن وهب بن الأجدع، عن علي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (لا تصلوا بعد العصر، إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود.
والنسائي، وعنده: (إلا أن تكون الشمس بيضاء نقية مرتفعة) .
وابن خزيمة وابن حبان في (صحيحهما) .
وثبته ابن المنذر.
ووهب بن الأجدع، قال محمد بن يحيى الذهلي: ليس بمجهول؛(5/49)
قد روى عنه الشعبي – أيضا.
واحتجوا - أيضا - بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ركعتين بعد العصر.
وقد خرجه البخاري فيما بعد.
وخرج النسائي من حديث أبي أمامة، عن عمرو بن عبسة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: (إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة) – يعني: جوف الليل – (فكن؛ فإن الصلاة مشهودة محضورة إلى طلوع الشمس؛ فإنها تطلع بين قرني الشيطان) – وذكر الحديث، وقال فيه: (ثم الصلاة مشهودة) – يعني: بعد أن يفئ الشيطان) – وذكر الحديث، وقال فيه: (ثم تغيب بين قرني شيطان) .
وخرجه الإمام أحمد – بنحوه من حديث سليم بن عامر، عن عمرو بن عبسة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال فيه – في ذكر جوف الليل -: (فصل حتى تطلع الشمس) ، وقال فيه: (فإذا فاء الفيء فصل، فإن الصلاة محضورة مشهودة حتى تدلى الشمس للغروب، فإذا تدلت فأقصر عن الصلاة حتى تغيب الشمس) .
وهذا كله تصريح بجواز الصلاة بعد العصر وبعد الفجر؛ ولكن في هذه الروايات؛ فإن مسلماً خرج حديث عمرو بن عبسة من طريق أبي أمامة عنه، وذكر فيه: أنه أمره أن يقصر عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر حتى تغرب.
وكذا في أكثر الروايات.(5/50)
وهذه زيادة صحيحة، سقطت في تلك الروايات.
وذهب أكثر العلماء إلى النهي عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، وهذا هو الثابت عن عمر بن الخطاب، وكان يضرب من صلى بعد العصر، وكذلك روي عن خالد بن الوليد – أيضا -، وهو قول ابن عباس ومعاوية، وروي عن ابن عمر وجماعة من الصحابة.
وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم، وهو قول مالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور.
وفي (صحيح مسلم) عن المختار بن فلفل، قال: سألت أنس بن مالك عن التطوع بعد العصر، فقال: كان عمر يضرب الأيدي على صلاة بعد العصر.
وروى الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: كره عمر الصلاة بعد العصر، وأنا أكره ما كره عمر.
وقد صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النهي عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب كما سبق ذلك من حديث عمر وغيره من الصحابة، الذي رواه عنهم ابن عباس، ومن حديث أبي هريرة، وأبي(5/51)
سعيد، ومعاوية.
وخرج مسلم من حديث عمرو بن عبسة، ومن حديث أبي بصرة في الصلاة بعد العصر كحديث معاوية.
وأكثر من جعل ما بعد الفجر والعصر وقت نهي حرم الصلاة فيه إلى طلوع الشمس وغروبها في الجملة، وإن أجاز بعضهم في الوقتين الطويلين للتنزيه، روي ذلك صريحاً عن ابن سيرين.
وسبب هذا: أن المقصود بالنهي بالأصالة هو وقت الطلوع والغروب؛ لما في السجود حينئذ من مشابهة سجود الكفار في الصورة، وإنما نهى عن الصلاة قبل ذلك سداً للذريعة؛ لئلا يتدرج بالصلاة فيه إلى الصلاة في وقت الطلوع والغروب. وقد جاء ذلك صريحاً عن غير واحد من الصحابة والتابعين.
وروى ابن جريج: سمعت أبا سعد الأعمى يخبر، عن رجل، يقال(5/52)
له: السائب مولى الفارسيين، عن زيد بن خالد، أن عمر رآه يركع بعد العصر ركعتين، فمشى إليه فضربه بالدرة وهو يصلي، فلما انصرف قال: دعها يا أمير المؤمنين، فوالله لا أدعها أبداً بعد إذ رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليهما، فجلس إليه عمر، فقال: يا زيد، لولا أني أخشى أن يتخذها الناس سلماً إلى الصلاة حتى الليل، لم أضرب فيهما.
وخرجه الإمام أحمد.
وفي إسناده رجلان غير معروفين.
وروى الليث بن سعد، عن أبي الأسود، عن عروة، أنه قال: أخبرني تميم الداري – أو أخبرت - أن تميماً الداري ركع ركعتين بعد نهي عمر بن الخطاب عن الصلاة بعد العصر، فأتاه عمر، فضربه بالدرة، فأشار إليه تميم أن اجلس، وهو في صلاته، فجلس عمر حتى فرغ تميم من صلاته، فقال لعم: لم ضربتني؟ قال: لأنك ركعت هاتين الركعتين، وقد نهيت عنهما. قال: فإني قد صليتهما مع من هو خير منك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال عمر: إنه ليس بي أيها الرهط، ولكني اخاف أن يأتي بعدكم قوم يصلون ما بين العصر إلى المغرب حتى يمروا بالساعة التي نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصلوا فيها، كما وصلوا ما بين الظهر والعصر.
خرجه الطبراني.
وخرجه الإمام أحمد – مختصراً -، عن أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: خرج عمر على الناس يضربهم على السجدتين بعد العصر، حتى مر بتميم الداري، فقال: لا أدعهما؛(5/53)
صليتهما مع خير منك، رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال عمر: لو أن الناس كانو كهيئتك لم أبال.
ورواية عروة عن عمر مرسلة.
وخرج الحاكم من رواية هشام بن حجير، قال: كان طاوس يصلي ركعتين بعد العصر، فقال له ابن عباس: اتركهما، فقال: إنما نهي عنهما أن تتخذ سلماً أن يوصل ذلك إلى غروب الشمس.
قال ابن عباس: فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نهى عن صلاة بعد العصر، وما ندري أتعذب عليه أم تؤجر؛ لأن الله يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب: 36] .
وقول من قال: إن النهي عنها كان سداً لذريعة الصلاة في وقت الكراهة الأصلي، فلا يكون محرماً – غير صحيح؛ فإنه إذا ثبت نهي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها كان نهيه للتحريم، وإن كان معللاً بسد الذريعة، كما نهى عن ربا الفضل معللاً بسد الذريعة لربا النسيئة، وكل منهما محرم، وكما نهى عن شرب قليل ما أسكر كثيرة، لأنه ذريعة إلى السكر، وكلاهما محرم، ونظائر ذلك.
والذين حرموا الصلاة بعد الفجر والعصر اتفقوا على تحريم التنفل الذي لا سبب له، وأماما له سبب كتحية المسجد ونحوها فلهم فيه قولان مشهوران: أجازه الشافعي، ومنعه أبو حنيفة ومالك، وعن أحمد فيه روايتان.
ولذلك اختلفت الرواية عن مالك فيمن صلى ركعتي الفجر في(5/54)
بيته، ثم دخل المسجد: هل يصلي ركعتين، أم لا؟ وأجاز سجود التلاوة في هذا الوقت، وأمابعد صلاة الفجر فلا يفعل عنده شيء من ذلك في المشهور عنه.
وعنه رواية أخرى: يفعل سجود التلاوة، وصلاة الكسوف خاصة.
وفي (سنن أبي داود) بإسناد فيه نظر، عن ابن عمر، أنه نهى عن سجود التلاوة بعد الصبح، وقال: صليت خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومع أبي بكر وعمر وعثمان، فلم يسجدوا حتى تطلع الشمس.
وأماقضاء الفرائض الفائتة، فأجازه الأكثرون، منهم: مالك والشافعي وأحمد استدلالاً بامر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صلى ركعة من الصبح ثم طلعت عليه الشمس أن يتم صلاته. ومنع ذلك أبو حنيفة، وقد سبق ذكره، ويأتي فيما بعد – إن شاء الله.
فأمافروض الكفاية كصلاة الجنازة، فيجوز فعلها في الوقتين المتسعين عند الجمهور، ومنهم من حكاه إجماعاً كابن المنذر وغيره.
وفي فعلها في الوقتين الضيقين قولان، هما روايتان عن مالك وأحمد، ومنع أحمد – في رواية عنه – من فعلها بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وترتفع، اتباعاً لما روي في ذلك عن ابن عمر.
وكذا روى ابن القاسم عن مالك، أنه لا يصلي على الجنائز إذا اصفرت الشمس حتى تغرب، وإذا أسفر الضوء حتى ترتفع الشمس.(5/55)
وهذا يرجع إلى أن وقت الاختيار يخرج بالإسفار ويدخل وقت الكراهة. وعلى مثل هذا ينبغي حمل المروي عن أحمد – أيضا.
وينبغي على هذا القول أن يكون أول وقت النهي عن الصلاة إسفار الوقت جداً.
وعن الليث، قال: لا يصلي على الجنازة في الساعة التي تكره فيها الصلاة.
ومنع الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة من الصلاة على الجنازة في الوقتين الضيقين دون الواسعين.
وأجازه الشافعي في جميع الأوقات؛ لأنه يرى أن النهي يختص بالتطوع المطلق الذي ليس له سبب.(5/56)
32 - باب
من لم يكره الصلاة إلا بعد العصر والفجر
رواه عمر، وابن عمر، وأبو سعيد، وأبو هريرة.
معنى هذا الباب أنه لا تكره الصلاة إلا بعد العصر والفجر، فلا تكره في وقت قيام الشمس في وسط النهار قبل الزوال.
وقوله: رواه عمر وابن عمر وأبو سعيد وأبو هريرة - يعني: أنهم رووا النهي عن الصلاة بعد الفجر والعصر، سوى ابن عمر؛ فإنه لم تصح عنه الرواية إلا في النهي عن الصلاة في وقت الطلوع والغروب خاصة.
ومراده: أن أحداً منهم لم يرو النهي عن الصلاة في وقت آخر غير هذه الأوقات.
ثم قال:(5/57)
589 - حدثنا أبو النعمان: ثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: أصلي كما رأيت أصحابي يصلون، لا أنهى أحداً يصلي بليل أو نهار ما شاء، غير أن لا تتحروا طلوع الشمس ولا غروبها.
ووجه استدلاله بهذا على مراده: أن ابن عمر أخبر أنه لا ينهى أحداً(5/57)
يصلي في ساعة من ليل أو نهار، غير أنه لا يتحرى طلوع الشمس ولا غروبها، وأنه يصلي كما رأى أصحابه يصلون، وهذا يشعر بأنه رأى أصحابه، وهم أصحاب محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلون في كل وقت من ليل أو نهار، سوى وقت الطلوع والغروب.
وهذا عجيب من ابن عمر – رضي الله عنه -؛ فإنه يعلم أن أباه كان ينهى عن الصلاة بعد العصر ويضرب على ذلك.
وقد روي عن عمر من وجوه، أنه نهى عن سجود التلاوة وصلاة الجنازة بعد الصبح قبل طلوع الشمس.
وقد روي مثل قول ابن عمر مرفوعاً:
رويناه في كتاب (وصايا العلماء) لابن زبر من طريق مروان بن جعفر، عن محمد بن إبراهيم بن خبيب، عن جعفر بن سعد، عن خبيب بن سليمان، عن أبيه سليمان بن سمرة، عن سمرة، قال: هذه وصية سمرة إلى بنيه، فذكر فيها: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمرنا أن نصلي أي ساعة شئنا من الليل أو النهار، غير أنه أمرنا أن نجتنب طلوع الشمس وغروبها، وقال: (إن الشيطان يغيب معها حين تغيب، ويطلع معها حين تطلع) .
وهذه نسخة، خرج منها أبو داود في (سننه) أحاديث.
وخرجه البزار في (مسنده) عن خالد بن يوسف السمتي، عن أبيه، عن جعفر بن سعد.
ويوسف بن خالد السمتي، ضعيف جداً.(5/58)
وقد اختلف العلماء في وقت قيام الشمس في نصف النهار قبل زوالها: هل هو وقت نهي عن الصلاة، أم لا؟
فقالت طائفة: ليس هو وقت نهي، كما أشار إليه البخاري، وهو قول مالك، وذكر أنه لا يعرف النهي عنه، قال: وما أدركت أهل الفضل إلا وهم يجتهدون ويصلون نصف النهار.
وروي عنه، أنه قال: لا أكرهه ولا أحبه.
هذا مع أنه روى في (الموطأ) حديث الصنابحي في النهي عنه، ولكنه تركه لما رآه من عمل أهل المدينة.
وممن رخص في الصلاة فيه: الحسن، وطاوس، والأوزاعي في رواية عنه، وهو ظاهر كلام الخرقي من أصحابنا.
وقال آخرون: هو وقت نهي لا يصلي فيه، وهو قول أبي حنيفة، والثوري، والحسن بن حي، وابن المبارك، وأحمد، وابن المنذر.
وقال: ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عنه.
ونهى عنه عمر بن الخطاب.
وقال ابن مسعود: كنا ننهى عنه.
وقال سعيد المقبري: أدركت الناس وهم يتقون ذلك.
وقد خرج مسلم في (صحيحة) حديثين في النهي عن الصلاة في هذا الوقت:
أحدهما: حديث أبي أمامة، عن عمرو بن عبسة، قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الصلاة؟ قال: (صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، حتى ترتفع؛ فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل؛ فإن الصلاة مشهودة(5/59)
محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة؛ فإن حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل؛ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني الشيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار) .
والثاني: حديث موسى بن علي بن رباح، عن أبيه: سمعت عقبة بن عامر يقول: ثلاث ساعات كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازعة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب.
وفي المعنى أحاديث أخر:
منها: حديث الصنابحي، وقد ذكرناه فيما تقدم.
ومنها: حديث كعب بن مرة - أو مرة بن كعب -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر الحديث، وفيه: (ثم الصلاة مقبولة حتى يقوم الظل قيام الرمح، ثم لا صلاة حتى تزول الشمس) .
خرجه الإمام أحمد.
وخرج – أيضا - من حديث ليث، عن ابن سابط، عن أبي أمامة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (لا تصلوا عند طلوع الشمس؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان، ويسجد لها كل كافر، ولا نصف النهار، فإنها عند سجر جهنم) .(5/60)
وليث، هو: ابن أبي سليم. وعبد الرحمن بن سابط، لم يسمع من أبي أمامة -: قاله ابن معين وغيره.
والصحيح: أن أبا أمامة إنما سمعه من عمرو بن عبسة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما تقدم.
وقد روي، عن ليث، عن ابن سابط، عن أخي أبي أمامة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروى ابن وهب، أخبرني عياض بن عبد الله، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، أن رجلاً سال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أمن ساعات الليل والنهار ساعة تأمرني أن لا أصلي فيها؟ – فذكر الحديث بطوله، وفيه: (فإذا انتصف النهار فأقصر عن الصلاة حتى تميل الشمس؛ فإنه حينئذ تسعر جهنم، وشدة الحر من فيح جهنم. فإذا مالت الشمس فالصلاة محضورة مشهودة متقبلة حتى تصلي العصر) – وذكر الحديث.
خرجه ابن خزيمة في (صحيحه) .
وخرجه ابن ماجه وابن حبان في (صحيحه) من طريق ابن أبي فديك، عن الضحاك بن عثمان، عن المقبري، عن أبي هريرة، أن صفوان بن المعطل سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره بنحوه.
وخرجه عبد الله بن الإمام أحمد والحاكم من رواية حميد بن(5/61)
الأسود، عن الضحاك، عن المقبري، عن صفوان بن المعطل – لم يذكر في إسناده: أبا هريرة.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
ورواه الليث بن سعد، عن سعيد المقبري، عن عون بن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود، أن عمرو بن عبسة سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره.
خرجه الهيثم بن كليب في (مسنده) .
وهو منقطع؛ عون لم يسمع من ابن مسعود.
قال الدارقطني: قول الليث أصح – يعني: من قول الضحاك ويزيد بن عياض.
قال: وروي عن الليث، عن ابن عجلان، عن المقبري، عن ابن المسيب، عن عمرو بن عبسة، وهو وهم على الليث؛ إنما روى الليث في آخر الحديث ألفاظاً عن ابن عجلان عن سعيد المقبري – مرسلاً.
قلت: ورواه ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن المقبري، عن عون ابن عبد الله، عن أبي هريرة، قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(5/62)
عن الصلاة نصف النهار.
خرجه الطبراني.
وابن لهيعة، سيء الحفظ.
وروى الطبراني – أيضا -: أخبرنا أبو زرعة الدمشقي: ثنا يحيى بن صالح الوحاظي: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن يونس بن عبيد، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه نهى عن الصلاة في ثلاث ساعات: عند طلوع الشمس حتى تطلع، ونصف النهار، وعند غروب الشمس.
وهذا غريب جداً، وكأنه غير محفوظ.
وروى عاصم عن زر، عن ابن مسعود، قال: إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، فما ترتفع قصمة في السماء إلا فتح لها باب من أبواب النار، فإذا كانت الظهيرة فتحت أبواب النار كلها، فكنا ننهى عن الصلاة عن طلوع الشمس، وعند غروبها، وعند نصف النهار.
خرجه يعقوب بن شيبة السدوسي في (مسنده) .
وخرجه البزار، ولفظه: عن ابن مسعود، قال: نهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الفجر – أو قال: بعد صلاة الصبح – حتى تطلع الشمس، ونصف النهار. قال: في شدة الحر.
القصمة – بالفتح -: الدرجة، سميت لأنها كسرة من القصم:(5/63)
الكسر.
وروى الإسماعيلي من حديث أيوب بن جابر، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (لا تصلوا قبل طلوع الشمس حتى تطلع، ولا عند غروبها حتى تغرب، ولا نصف النهار حتى تزول) .
أيوب بن جابر، ضعيف الحديث.
وقالت طائفة: تكره الصلاة وسط النهار، إلا يوم الجمعة، وهو قول مكحول والأوزاعي في رواية، وسعيد بن عبد العزيز وأبي يوسف والشافعي وإسحاق.
وروى الشافعي فيه حديثاً بإسناد ضعيف، عن أبي هريرة.
وروى مالك، عن ابن شهاب، عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي، أنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب يصلون حتى يخرج، فإذا خرج عمر جلس على المنبر وأذن المؤذنون جلسوا.
وخرج أبو داود من حديث ليث، عن مجاهد، عن أبي الخليل،(5/64)
عن أبي قتادة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال: (إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة) .
وقال: هو مرسل؛ أبو الخليل لم يسمع من أبي قتادة.
وقال الأثرم: له علل، ومنها: أنه من حديث ليث، ومنها: أن أبا الخليل لم يلق أبا قتادة. انتهى.
وأبو الخليل، هو: صالح بن أبي مريم، ومن زعم أنه عبد الله بن الخليل صاحب علي فقد وهم.
وقال طاوس: يوم الجمعة صلاة كله.
وذكر قوله للإمام أحمد، فأنكره، وقال: فيصلي بعد العصر حتى تغرب الشمس؟!.
وقالت طائفة اخرى: يكره ذلك في الصيف لشدة الحر فيه، دون الشتاء، وحكي عن عطاء.
وفي بعض روايات حديث ابن مسعود المتقدم ما يشهد له.
وقال ابن سيرين: يكره نصف النهار في شدة الحر، ولا يحرم.
والمعنى في كراهة الصلاة وقت استواء الشمس: أن جهنم تسعر فيها،(5/65)
فيكون ساعة غضب الرب سبحانه، فهي كساعة سجود الكفار للشمس، والصلاة صلة بين العبد وربه؛ لأن المصلي يناجي ربه، فتجتنب مناجاته في حال غضبه حتى يزول المقتضي لذلك. والله أعلم.(5/66)
33 - باب
ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها
وقال كريب، عن أم سلمة: صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد العصر ركعتين، وقال: (شغلني ناس من عبد القيس عن الركعتين بعد الظهر) .
هذا الحديث اسنده في أواخر (كتاب الصلاة) في (الإشارة باليد في الصلاة) ، وفي (المغازي) في (باب: وفد عبد القيس) من طريق عمرو بن الحارث، عن بكير، أن كريباً مولى ابن عباس حدثه، أن ابن عباس وعبد الرحمن ابن أزهر والمسور بن مخرمة أرسلوا إلى عائشة، فقالوا: أقرأ عليها السلام منا جميعاً، وسلها عن الركعتين بعد العصر؛ فإنا أخبرنا أنك تصليها، وقد بلغنا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عنها. قال ابن عباس: وكنت أضرب مع عمر الناس عنهما. قال كريب: فدخلت عليها، وبلغتها ما أرسلوني، [فقالت: سل أم سلمة، فأخبرتهم، فردوني إلى أم سلمة بمثل ما أرسلوني إلى عائشة] ، فقالت أم سلمة: سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عنهما، وإنه صلى العصر ثم دخل علي، وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار، فصلاهما، فأرسلت إليه الخادم، فقلت: قومي إلى جنبه، فقولي: تقول أم سلمة: يار سول الله، ألم أسمعك تنهى عن هاتين الركعتين؟ فأراك تصليها، فإن أشار بيده فاستأخري، ففعلت الخادم، فأشار بيده فاستأخرت عنه، فلما أنصرف قال: (يا بنت أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد(5/67)
العصر، إنه أتاني أناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان) .
وخرجه مسلم – أيضا.
قال الدارقطني في (العلل) : هو أثبت هذه الأحاديث وأصحها.
يشير إلى الأحاديث التي فيها ذكر عائشة وأم سلمة.
وقد روي عن أم سلمة من وجه آخر، أنها لم تر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاها غير تلك المرة.
خرجه الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق: أنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت: لم أر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بعد العصر قط إلا مرة، جاءه ناس بعد الظهر، فشغلوه في شيء، فلم يصل بعد الظهر شيئاً حتى صلى العصر. قالت: فلما صلى العصر دخل بيتي فصلى ركعتين.
وخرجه النسائي – بمعناه.
وهذا – أيضا - إسناد صحيح.
وخرجه بقي بن مخلد في (مسنده) من رواية ابن أبي لبيد، عن أبي سلمة، قال: قدم معاوية المدينة، فأرسل إلى عائشة. فسألها عن صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين بعد العصر؟ فقالت: ما أدري، سلوا أم سلمة، فسألوا أم سلمة – فذكرت الحديث.
وهذه الرواية تدل على أن عائشة لم يكن عندها عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في(5/68)
ذلك شيء.
ورواه الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن أبي لبيد، به، وفي حديثه: أن عائشة قالت: لا علم لي، ولكن أذهب إلى أم سلمة.
وكذا رواه الشافعي – أيضا – عن سفيان.
وخرجه النسائي – أيضا - من حديث أبي مجلز، عن أم سلمة، وفيه: قالت: فركعهما حتى غابت الشمس، ولم أره يصليهما قبل ولا بعد.
وقد سبق بتمامه.
وهذا يدل على أنه صلاهما بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، وحينئذ فلا يبقى إشكال في ذلك.
وخرج الإمام أحمد من طريق عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب: حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أنه كان عند مروان، فأرسل إلى عائشة: ما ركعتان يذكرهما ابن الزبير عنك، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصليهما بعد العصر؟ فأرسلت إليه: أخبرتني أم سلمة، فأرسل إلى أم سلمة، فقالت: يغفر الله لعائشة، لقد وضعت أمري على غير موضعه، ثم ذكرت قصة صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهما، وقالت أم سلمة: وما رأيته صلاهما قبلها ولا بعدها.
وقد روى عن أم [سلمة] ، أنها سألت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أفنقضيهما إذا فاتتا؟(5/69)
قال: (لا) . وسيأتي فيما بعد – إن شاء الله تعالى.
وقد روي عن أم سلمة ما يخالف هذا، إلا أن إسناده لا يصح: من رواية محمد بن حميد الرازي، عن هارون بن المغيرة، عن ابن سعيد، عن عمار الدهني، عن عبد الملك بن عبيدة بن ربيعة، عن جدته أم سلمة، أنها أمرت بالركعتين بعد العصر، وإن كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصليهما إذا صلى مع الناس هو جالس، مخافة شهرتها، وإذا صلاها في بيته صلاها قائماً.
قال محمد بن حميد: كتب عني أحمد بن حنبل هذا الحديث.
محمد بن حميد، كثير المناكير، وقد اتهم بالكذب، فلا يلتفت إلى تفرده بما يخالف الثقات.
ثم أسند حديث عائشة في هذا الباب من أربعة أوجه:
الأول:
قال:(5/70)
590 - حدثنا أبو نعيم: ثنا عبد الواحد بن أيمن: حدثني أبي، أنه سمع عائشة قالت: والذي ذهب به، ما تركهما حتى لقي الله، وما لقي الله حتى ثقل عن الصلاة، وكان يصلي كثيراً من صلاته قاعداً - تعني: الركعتين بعد العصر -، وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليهما، ولا يصليهما في المسجد، مخافة أن يثقل على أمته، وكان يحب ما يخفف عنهم.(5/70)
هذا انفرد به البخاري عن مسلم.
وخرجه الإسماعيلي في (صحيحه) : (المستخرج على صحيح البخاري) ، وزاد في روايته: فقال لها أيمن: وإن عمر كان ينهى عنها، يضرب فيها؟ قالت: صدقت، ولكن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصليها، وكان لا يصليهسا في المسجد مخافة أن يشق على أمته، وكان يخفف ما خفف عنهم.
وهذا يشبه اعتذارها عن ترك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصلاة الضحى؛ فإنها قالت: ما رأيت رسول الله يسبح سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها، وإن كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم.
خرجه مسلم.
وخرج البخاري أوله.
الوجه الثاني:
قال:(5/71)
591 - حدثنا مسدد: ثنا يحيى: ثنا هشام: أخبرني أبي، قال: قالت عائشة: ابن أختي، ما ترك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجدتين بعد العصر عندي قط.
وخرجه مسلم من طريق جرير وابن نمير، كلاهما عن هشام بن عروة، به.(5/71)
الوجه الثالث:
قال:(5/72)
592 - حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا عبد الواحد: ثنا الشيباني: ثنا عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة، قالت: ركعتان لم يكن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعهما سراً ولا علانية: ركعتان قبل صلاة الصبح، وركعتان بعد العصر.
وخرجه مسلم من طريق علي بن مسهر، عن الشيباني، به، ولفظه: قالت: صلاتان ما تركهما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيتي قط سراً ولا علانية: ركعتين قبل الفجر، وركعتين بعد العصر.
وذكر البيت مع قولها: (سراً وعلانية) فيه إشكال؛ فإن لم يكن ذكر البيت محفوظاً كان المعنى: أنه لم يكن يتركهما في المسجد وفي البيت، وهذا يخالف حديث أنس عنها.
الوجه الرابع:
قال:(5/72)
593 - حدثنا محمد بن عرعرة: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: رأيت الأسود ومسروقاً شهداً على عائشة، قالت: ما كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأتيني في يوم بعد العصر إلا صلى ركعتين.
وخرجه مسلم من طريق غندر، عن شعبة، عن أبي إسحاق – وهو: السبيعي، به بمعناه.
وخرجه البخاري في موضع آخر من حديث ابن الزبير، عن عائشة.(5/72)
وخرجه مسلم من طريق آخر، من رواية محمد بن أبي حرملة: أخبرني أبو سلمة، أنه سأل عائشة عن السجدتين اللتين كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليهما بعد العصر؟ فقالت: كان يصليهما قبل العصر، ثم إنه شغل عنهما – أو نسيهما -، فصلاهما بعد العصر، ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها.
قال إسماعيل: تعني: داوم عليها.
وخرجه من وجه آخر، من طريق طاوس، عن عائشة، قالت: لم يدع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الركعتين بعد العصر. فقالت عائشة: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فتصلوا عند ذلك) .
ففي هذه الرواية: إشارة من عائشة إلى أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يصلي في وقت نهى عن الصلاة فيه؛ لأنه إنما نهى عن تحري الطلوع والغروب، وكان يصلي قبل ذلك.
وعلى هذا؛ فلا إشكال في جواز المداومة عليها لمحبته المداومة على أعماله، كما في الرواية التي قبلها؛ لأن ذلك الوقت ليس بوقت نهي عن الصلاة بالكلية.
وقد روي عن عائشة، أنه لم يداوم عليها.(5/73)
خرجه الطبراني من رواية كامل أبي العلاء، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن عائشة، قالت: فاتت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان قبل العصر، فلما انصرف صلاهما، ثم لم يصلهما بعد.
وروى بقي بن مخلد في (مسنده) : حدثنا محمد بن مصفى: ثنا بقية: حدثني محمد بن زياد: سمعت عبد الله بن أبي قيس يقول: سألت عائشة عن الركعتين بعد العصر؟ فقالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يركعهما قبل الهاجرة، فنهى عنهما، فركعهما بعد العصر، فلم يركعهما قبلها ولا بعدها.
وهذا إسناد جيد
وخرجه الإمام أحمد عن غندر: حدثنا شعبة، عن يزيد بن خمير، قال: سمعت عبد الله بن [أبي] موسى، قال: دخلت على عائشة، فسألتها عن الوصال في الصوم، وسألتها عن الركعتين بعد العصر؟ فقالت: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث رجلاً على الصدقة، فجاءته عند الظهر، فصلى الظهر، وشغل في قسمته حتى صلى العصر، ثم صلاها، وقالت: عليكم بقيام الليل؛ فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يدعه.
قال أحمد: يزيد بن خمير صالح الحديث. قال: وعبد الله بن أبي موسى هذا خطأ، أخطأ فيه شعبة، هو: عبد الله بن أبي قيس. انتهى.(5/74)
والأمر كما قاله.
وقد روي عن عبد الله بن أبي قيس، عن عائشة من وجه آخر، وهو شامي حمصي، خرج له مسلم.
وإنما سئلت عائشة عن الوصال والركعتين بعد العصر، لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينهى عنهما ويفعلهما، وحديث عائشة هذا يدل على أنه إنما فعلهما في هذه المرة؛ ولذلك لم تأمر السائل بفعهلما، وإنما عدلت إلى أمره بقيام الليل، مع أنه [لم] يسأل عنه، وأخبرت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يدعه، وهذا يشعر بأن الصلاة بعد العصر بخلاف ذلك.
وخرج الإمام أحمد – أيضا – من رواية معاوية بن صالح، عن عبد الله بن أبي قيس، قال: سألت عائشة عن الركعتين بعد العصر؟ فقالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي ركعتين بعد الظهر، فشغل عنهما حتى صلى العصر، فلما فرغ ركعهما في بيتي، فما تركهما حتى مات.
قال عبد الله بن أبي قيس: فسألت أبا هريره عنه؟ فقال: قد كنا نفعله، ثم تركناه.
فخالف معاوية بن صالح محمد بن زياد ويزيد بن خيمر، وقولهما أولى.
وقد روي عن عائشة، أنها ردت الأمر إلى أم سلمة في ذلك، وقد سبق حديث كريب عنها – وهو أصح روايات الباب كما ذكره الدارقطني -،(5/75)
وحديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن عائشة قالت: اخبرتني أم سلمة، وحديث أبي سلمة، عن عائشة وأم سلمة.
وخرج الإمام أحمد من رواية يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، قال: دخلت أنا وابن عباس على معاوية، فذكر الركعتين بعد العصر، فجاء ابن الزبير، فقال: حدثتني عائشة، عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فأرسل إلى عائشة، فقالت: ذاك ما أخبرته أم سلمة، فدخلنا على أم سلمة، فاخبرناها ما قالت عائشة، فقالت: يرحمها الله، أو لم أخبرها أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نهى عنهما؟
وفي رواية بهذا الإسناد: أن عائشة قالت: لم أسمعه من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لكن حدثتني أم سلمة، فسألناها، فذكرت القصة، ثم قالت: ولقد حدثتها أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عنهما.
ورواه حنظلة السدوسي، عن عبد الله بن الحارث، قال: صلى بنا معاوية العصر، فأرسل إلى ميمونة رجلاً، ثم أتبعه رجلاً آخر، فقالت: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجهز بعثاً، ولم يكن عنده ظهر، فجاءه ظهر من ظهر الصدقة، فجعل يقسمه بينهم، فحبسوه حتى أرهق العصر، وكان يصلي قبل العصر ركعتين، أو ما شاء الله، فصلى العصر ثم رجع، فصلى ما كان يصلي قبلها، وكان إذا صلى صلاة، أو فعل شيئاً يحب أن يداوم عليه.
خرجه الإمام(5/76)
أحمد.
وفي رواية له بهذا الإسناد: أن معاوية أرسل إلى عائشة، فأجابته بذلك.
وكلاهما وهم. والله أعلم.
ورواية يزيد بن أبي زياد له، عن عبد الله بن الحارث، عن [ام] سلمة أصح.
وحنظلة هذا، قال الإمام أحمد: منكر الحديث. وضعفه ابن معين والنسائي.
وقد روي عن عائشة ما يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يصلي بعد العصر شيئاً.
ففي (صحيح مسلم) عن عبد الله بن شقيق، قال: سألت عائشة عن صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تطوعه؟ فقالت: كان يصلي في بيتي قبل الظهر اربعاً، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين، ويصلي بالناس العشاء، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالليث تسع ركعات فيهن الوتر، وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين.
فهذا يدل على أنه لم يكن يصلي بعد العصر شيئاً في بيتها؛ لأنه لو كان ذلك لذكرته كما ذكرت صلاته في بيتها بعد الظهر والمغرب والعشاء.(5/77)
وقد خرجه الإمام أحمد، وزاد فيه: (وركعتين قبل العصر) . ولم يذكر بعدها شيئاً.
وروى سعد بن أوس: حدثني مصدع أبو يحيى، قال: حدثتني عائشة – وبيني وبينها ستر -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل صلاة إلا اتبعها ركعتين، غير الغداة وصلاة العصر؛ فإنه كان يجعل الركعتين قبلهما.
خرجه بقي بن مخلد.
فقد تبين بهذا كله أن حديث عائشة كثير الاختلاف والاضطراب، وقد رده بذلك جماعة، منهم: الترمذي والأثرم وغيرهما.
ومع اضطرابه واختلافه فتقدم الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا اختلاف فيها ولا اضطراب في النهي عن الصلاة بعد العصر عليه.
وعلى تقدير معارضته لتلك الأحاديث، فللعلماء في الجمع بينهما مسالك:
المسلك الأول:
أن حديث عائشة يدل على التطوع المداوم عليه قبل الفريضة وبعدها، إذا فات شيء منه فإنه يجوز قضاؤه بعد العصر.
وقد روي هذا المعنى عن زيد بن ثابت وابن عباس، وإليه ذهب الشافعي والبخاري والترمذي وغيرهم.
ورجح أكثرهم: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يداوم على ذلك، كما في حديث أم سلمة، وقد تبين أن عائشة رجعت إليها في ذلك.
وعلى تقدير أن يكون داوم عليها فقد كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(5/78)
يحافظ على نوافله كما يحافظ على فرائضه، ويقضي ما فاته منها، كما روي عنه أنه كان يقضي ما فاته من الصيام في الأشهر في شعبان – كما كانت عائشة تقضي ما فاتها من رمضان – حتى لا يأتي رمضان آخر وقد فاته شيء من نوافله في العام الماضي فلما صلى يوماً ركعتين بعد العصر قضاءً لما فاته من النوافل كان ذلك سبباً مجوزاً لمداومته على مثل ذلك.
وفي هذا نظر؛ فإنه لما فاته صلاة الصبح بالنوم، وقضاها نهاراً لم يداوم على مثل تلك الصلاة كل يوم، وكذلك لما قضى صلاة العصر يوم الخندق.
واختلف الشافعية فيمن قضى شيئاً من التطور في وقت النهي: هل له المداومة؟ على وجهين لهم، أصحهما: أنه لا يجوز المداومة.
ورجح الأكثرون: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يداوم على هذه الصلاة.
كما روى ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، قال: سمعت قبيصة بن ذؤيب، أن عائشة اخبرت آل الزبير، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عندها ركعتين بعد العصر، فكانوا يصلونها.
قال قبيصة: فقال زيد بن ثابت: يغفر الله لعائشة، نحن أعلم برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عائشة، إنما كان كذلك لأن أناساً من الأعراب أتوا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهجير، فقعدوا يسألونه ويفتيهم حتى صلى الظهر، ولم يصل ركعتين، ثم قعد يفتيهم حتى صلى العصر، فانصرف إلى بيته، فذكر أنه لم يصل بعد الظهر شيئاً، فصلاهما بعد العصر، يغفر الله لعائشة، نحن أعلم برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عائشة، نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة بعد(5/79)
العصر.
وروى عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إنما صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الركعتين بعد العصر؛ لأنه أتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر، فصلاهما بعد العصر، ثم لم يعد لهما.
خرجه الترمذي، وقال: حديث حسن، وابن حبان في (صحيحه) .
والمسلك الثاني:
أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مخصوصاً بإباحة الصلاة بعد العصر، أو في أوقات النهي مطلقاً، وهذا قول طائفة من الفقهاء من أصحابنا كابن بطة، ومن الشافعية وغيرهم.
وروى إسحاق بن راهويه في (مسنده) عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، قال: رأيت عبد الله بن الزبير يصلي ركعتين بعد العصر، فقلت: ما هذ؟ قال: أخبرتني عائشة عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يصلي ركعتين بعد العصر في بيتي، قال: فأتيت عائشة، فسألتها، فقالت: صدق، فقلت لها: فأشهد لسمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس) ، فرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل ما أمر، ونحن نفعل ما أمرنا.
أبو هارون، ضعيف الحديث.(5/80)
ولهذا المعنى قال طائفة من العلماء: إنه إذا تعارض نهي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفعله أخذنا بنهيه؛ لاحتمال أن يكون فعله خاصاً به، كما في نهيه عن نكاح المحرم مع أنه نكح وهو محرم، إن ثبت ذلك، وكما كان يواصل في صيامه، ونهى عن الوصال.
ويعضد هذا: ماروي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه سئل: أنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: (لا) .
فروى حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن ذكوان، عن أم سلمة، قالت: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر، ثم دخل بيتي فصلى ركعتين، فقلت: يا رسول الله، صليت صلاة لم تكن تصليها؟ فقال: (قدم علي مال فشغلني عن ركعتين كنت أركعهما بعد الظهر، فصليتهما الآن) . فقلت: يا رسول الله، أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال (لا) .
خرجه الإمام أحمد وابن حبان في (صحيحه) .
وإسناده جيد.
قال الدارقطني: وروي عن ذكوان، عن عائشة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وعن ذكوان، عن عائشة، عن أم سلمة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد ضعفه البيهقي بغير حجة في (كتاب المعرفة) .
وخرجه في(5/81)
(كتاب السنن) من رواية ذكوان، عن عائشة، قالت: حدثتني أم سلمة - فذكرت الحديث.
ورجح الأثرم والبيهقي: من رواه عن حماد، عن الأزرق، عن ذكوان، عن عائشة، عن أم سلمة.
وهذا مما يستدل به على أن عائشة إنما تلقت هذا الحديث عن أم سلمة.
وخرج أبو داود من رواية ابن إسحاق، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن ذكوان مولى عائشة، أنها حدثته أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بعد العصر، وينهى عنها.
وهذا يدل على أن عائشة روت اختصاص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذه الصلاة.
وروي عنها من وجه آخر، من رواية عبيدة بن معتب، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل عليها بعد العصر فصلى ركعتين. فقلت: يا رسول الله، أحدث الناس؟ قال: " لا، إن بلالا عجل الإقامة فلم نصل الركعتين قبل العصر، فأنا أقضيهما الآن ". قلت: يا رسول الله، أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: " لا ".
قال الدارقطني في " العلل ": لا أعلم أتى بهذا اللفظ غير عبيدة بن معتب، وهو ضعيف.
قلت: رواية ذكوان تعضده وتشهد له.(5/82)
وقد روي عن أم سلمة من وجه آخر: خرجه ابن بطة في مصنف له في مسألة الصلاة أوقات النهي، من حديث ابن فضيل، عن أبيه: حدثنا ابن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن أم سلمة، أنه سمعها ذكرت صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ركعتين، بينهما ركعتين بعد العصر، لم تره صلى قبلها ولا بعدها مثلها، وأنه أعلمها أنها ركعتان كان يصليهما قبل العصر، فصلاهما بعد العصر. قال: فقلت له: أفنصليهما إذا فاتتا؟ قال: " لا "
المسلك الثالث:
النسخ، وأهل هذا المسلك فرقتان:
منهم: من يدعي أن أحاديث النهي ناسخة للرخصة؛ لأن النهي إنما يكون عن شيء تقدم فعله، ولا يكون عن شيء لم يفعل بعد، وهذا سلكه ابن بطة من أصحابنا وغيره، وفيه بعد.
ومنهم: من يدعي أن أحاديث الرخصة ناسخة للنهي، وهذا محكي عن داود.
وفي حديث أم سلمة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بعد العصر بعد نهيه عن ذلك [. . .] .
ومن الناس من يحكي عن داود أن النهي عن الصلاة في جميع الأوقات انتسخ بالصلاة بعد العصر.
وهذا بعيد على أصول داود.
ومنهم من حكي عنه أنه خص النسخ بالنهي عن الصلاة بعد العصر.
وهذا أشبه،(5/83)
وقد حكي مثله رواية عن أحمد.
وأكثر العلماء على أنه ليس في ذلك ناسخ ولا منسوخ، وهو الصحيح.
وقد روى جماعة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه لم يكن يصلي بعد العصر شيئا.
فروى أبو إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي على إثر كل صلاة مكتوبة ركعتين، إلا الفجر والعصر.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن خزيمة في " صحيحه ".
وعاصم، وثقه جماعة من الأئمة.
وروى زهير بن محمد، عن يزيد بن خصيفة، عن سلمة بن الأكوع، قال: كنت أسافر مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فما رأيته صلى بعد العصر ولا بعد الصبح قط.
خرجه الإمام أحمد.
وذكره الترمذي في (علله) ، وقال: سألت عنه محمداً – يعني: البخاري -، فقال: لا أعرف ليزيد بن خصيفة سماعاً من سلمة بن الأكوع. قال: ولم نعرف هذا الحديث إلا من هذا الوجه.
كذا قال.
وقد خرجه من طريق سعيد بن أبي الربيع: حدثنا سعيد بن سلمة: ثنا يزيد ابن خصيفة، عن ابن سلمة بن الأكوع، عن أبيه سلمة – فذكره - فأدخل بينهما: (ابن سلمة) ، لكنه لم يسمه.(5/84)
وقد خرج البخاري فيما سبق حديث معاوية، أنه قال: إنكم لتصلون صلاة، لقد صحبنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فما رأيناه يصليها، ولقد نهى عنها – يعني: الركعتين بعد العصر.
وقد ذكرنا فيما سبق عن عائشة حديثاً في هذا المعنى – أيضا -، وأنها قالت: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل صلاة إلا أتبعها ركعتين، غير الغداة وصلاة العصر؛ فإنه كان يجعل الركعتين قبلهما.
يستأنس لدعوى النسخ: بقول أبي هريرة: قد كنا نفعله – يعني: الصلاة بعد العصر -، ثم تركناه.
خرجه الإمام أحمد من طريق معاوية بن صالح، عن عبد الله بن أبي قيس، أنه سأل عائشة عن الركعتين بعد العصر – فذكر حديثها.
قال عبد الله بن أبي قيس: وسألت أبا هريرة عنه؟ فقال: قد كنا نفعله، ثم تركناه.
ويحتمل عندي: أن يجمع بين أحاديث عائشة المختلفة في هذا الباب بوجه آخر غير ما تقدم، وهو:
مسلك رابع:
لم نجد أحداً سبق إليه، وهو محتمل:
فنقول: يمكن أن تكون عائشة – رضي الله عنها - لما بلغها عن عمر وغيره من الصحابة النهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ظنت أنهم ينهون عن الصلاة بمجرد دخول وقت العصر، كما قال ذلك كثير من العلماء أو أكثرهم في النهي عن الصلاة بعد الفجر، أن النهي يدخل بطلوع الفجر كما سبق ذكره.
وكانت عائشة عندها علم من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه يصلي قبل صلاة العصر ركعتين في بيتها، وكان عندها رواية عن(5/85)
أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في بيتها مرة ركعتين بعد العصر، فكانت ترد بذلك كله قول من نهى عن الصلاة بعد العصر.
فإذا وقع التحقيق معها في الصلاة بعد صلاة العصر كما أرسل إليها معاوية يسألها عن ذلك تقول: لا أدري، وتحيل على أم سلمة؛ لأن صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد صلاة العصر لم تره عائشة، إنما أخبرتها به أم سلمة، وإنما رأت عائشة صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيتها؛ وذلك بعد دخول وقت العصر وقبل صلاة العصر، مع أنها كانت –احياناً – تروي حديث أم سلمة وترسله، ولا تسمي من حدثها به.
وهذا وجه حسن يجمع بين عامة اختلاف الأحاديث في هذا الباب، إلا أنه يشكل عليه أحاديث:
منها: رواية يحيى بن قيس: اخبرني عطاء: أخبرتني عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يدخل عليها بعد صلاة العصر إلا صلى ركعتين.
خرجه الإمام أحمد عن محمد بن بكر البرساني، عن يحيى، به.
ورواه أحمد بن المقدام وغيره، عن محمد بن بكر، ولم يذكروا لفظة: (صلاة) .
ولعل هذه اللفظة رواها محمد بن بكر بما فهمه من المعنى، فكان تارةً يذكرها، وتارةً لا يذكرها، فإن المتبادر عند إطلاق الصلاة بعد العصر الصلاة بعد صلاة العصر، لا بعد وقت العصر، مع احتمال إرادة المعنى الثاني.
وقد روي عن عائشة – أيضا -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يدع ركعتين بعد(5/86)
الصبح.
وقد خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ.
والمراد: بعد وقت الصبح، لا بعد صلاته، بغير إشكال.
ومنها: ما روى خلاد بن يحيى: ثنا عبد الواحد بن أيمن: حدثني أبي، قال: دخلت على عائشة، فسألتها عن ركعتين بعد العصر؟ فقالت: والذي ذهب بنفسه، ما تركهما حتى لقي الله. فقال: يا أم المؤمنين، فإن عمر كان ينهى عنها ويشدد فيها؟ قالت: صدقت، كان نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس العصر، فإذا فرغ دخل بيوت نسائه فصلاهما؛ لئلا يروه فيجعلوها سنة، وكان يحب ما خف على أمته.
وهذا تصريح بأنه كان يصليهما بعد صلاة العصر.
ويعضده –أيضا -: رواية الأسود ومسروق، عن عائشة، قالت: ما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأتيني في يوم بعد العصر إلا صلى ركعتين.
وقد خرجه البخاري فيما سبق.
وقد روي –أيضا - بنحو هذا اللفظ، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: ما دخل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد العصر إلا صلى ركعتين عندي.
وإنما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخل على عائشة بعد صلاة العصر، كما في حديث هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا انصرف من العصر ودخل على نسائه فيدنو من إحداهن – وذكرت قصة(5/87)
حفصة والعسل.
وقد خرجه البخاري في (النكاح) .
ويجاب عن ذلك كله: بأن رواية خلاد بن يحيى قد خالفه فيها أبو نعيم، لم يذكر ما ذكره خلاد.
وقد خرج البخاري حديث أبي نعيم كما سبق دون حديث خلاد.
وقد دل على أنه غير محفوظ: أن فيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدخل بيوت نسائه فيصليها.
وقد صح عن أم سلمة كما تقدم أنها قالت: لم أره صلاها إلا يوماً واحداً، وذكرت سبب ذلك.
وأمادخوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على نسائه بعد العصر، فذاك كان يفعله دائماً أو غالباً، وعائشة إنما أخبرت عما رأته يفعله في يومها المختص بها.
يدل على ذلك: ما خرجه مسلم في (صحيحه) من حديث شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود ومسروق، قالا: نشهد على عائشة أنها قالت: ما كان يومه الذي كان يكون عندي إلا صلاهما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيتي – تعني: الركعتين بعد العصر.
فتبين بهذا أنها أرادت يومها المختص بها الذي كان يكون مكثه عندها في بيتها، فكان يتوضأ عندها للعصر ويصلي ركعتين، ثم يخرج للصلاة، وربما كان يدخل بيتها في وقت العصر كذلك.
فدل هذا: على أن مرادها: انه كان يصلي ركعتين بعد دخول وقت العصر، ولكن كان ذلك قبل صلاة العصر، وكانت تظن أن هذا يرد قول عمر ومن وافقه بالنهي عن الصلاة بعد العصر، وإنما كان مراد عمر(5/88)
وغيره من الصحابة: النهي عن الصلاة بعد صلاة العصر.
ولاشتباه الأمر في هذا على كثير من الناس كان كثير من الرواة يروي حديث عائشة بالمعنى الذي يفهمه منه، ولا يفرق بين وقت العصر وفعل العصر، فوقع في ذلك اضطراب في الفاظ الروايات.
وقد ظهر بهذا أنه لم يصح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه صلى ركعتين بعد صلاة العصر، إلا يوم صلاهما في بيت أم سلمة، وكانت عائشة ترويه عنها – أحياناً -، كما في حديث ذكوان عنها، وأحياناً ترسله، كما في حديث أم سلمة عنها.
وفي رواية ابن أبي لبيد، عن أبي سلمة، أن عائشة لما أرسل اليها معاوية يسألها عن ذلك، قالت: (لا علم لي) – تشير إلى أنها ليس عندها عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك شيء سمعته منه أو راته يفعله – (ولكن سلوا أم سلمة) – تشير إلى أنها هي التي أخبرت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنها رأته يفعل ذلك.
وفي رواية محمد بن أبي حرملة، عن عائشة، أنها حدثت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمثل حديث أم سلمة، فإن كان هذا محفوظاً فقد أرسلت الحديثين عنها، ويحتمل أن تكون أخبرت عما رأته، وأن يكون مرادها: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي ركعتين قبل وقت العصر – تعني: بعد الظهر -، فشغل عنهما أو نسيهما، ثم صلاهما بعد العصر - تعني: بعد وقت العصر، قبل صلاة العصر -، ثم أثبتهما من حينئذ، فداوم عليهما قبل صلاة العصر وبعد دخول وقت صلاة العصر.(5/89)
ورواية ابن أبي لبيد أشبه من رواية ابن أبي حرملة، وكل منهما ثقة مخرج له في (الصحيحين) .
وقال البيهقي في حديث ابن أبي لبيد: إنه حديث صحيح.
وإنما رجح أبن عبد البر رواية ابن أبي حرملة على رواية ابن أبي لبيد لموافقته في الظاهر لما فهمه من سائر الرواة عن عائشة في الصلاة بعد العصر، وقد بينا الفرق بينهما
فإن قيل: فقد فرقت عائشة بين ركعتي الفجر والعصر، فقالت: (لم يكن يدع ركعتين قبل الفجر، وركعتين بعد العصر) ، كما في حديث الأسود وغيره، عنها كما سبق، ولو أرادت الوقت دون الفعل لسوت بينهما، وقالت: بعد الفجر وبعد العصر.
فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أنه روي عنها أنها قالت: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يدع ركعتين بعد الصبح. وقد خرجه الإمام أحمد من رواية ابن المنتشر، عنها.
فهذا كقولنا: لا يدع ركعتين بعد العصر سواء.
والثاني: أن ركعتي الفجر لم يكن فيها اختلاف بين الصحابة أنها قبل الصلاة، ولم يكن أحد منهم يصلي بعد الصبح تطوعاً، ولا نقله عن(5/90)
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلذلك كانت أحياناً تقول: كان يصلي قبل الفجر، وأحياناً تقول: بعد الصبح؛ لأن المعنى مفهوم.
وأماالركعتان بعد العصر، فهما اللتان وقع فيهما الاختلاف بين الصحابة، وكان كثير منهم يصليهما وكان ابن الزبير قد أشاعهما بعد موت عمر، وكان عمر في خلافته ينهى عنهما، ويعاقب عليهما، وكانت عائشة تخالفه في ذلك، وكانت تروي أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عندها بعد العصر؛ لترد على من قال: لا يصلى بعد العصر.
ولكن ليس في روايتها ما يرد عليهم؛ لأنهم إنما نهوا عن الصلاة بعد صالة العصر، وهي كان عندها علم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ركعتين بعد دخول وقت العصر. ولعل عمر كان ينهى عن الصلاة بعد دخول وقت العصر، كما نهى ابنه وغيره عن الصلاة بعد طلوع الفجر سوى ركعتي الفجر، وكانت عائشة تنكر ذلك لكنها كانت تسوى بين حكم ما قبل الصلاة وبعدها في الرخصة في الصلاة.
فتبين بهذا كله: أنه لم يصح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه صلى ركعتين بعد صلاة العصر، سوى ما روته عنه أم سلمة وحدها.
فإن قيل: فقد سبق عن زيد بن خالد وتميم الداري، أنهما رويا عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
[أنه] صلاهما.
قيل: ليس إسناد واحد منهما مما يحتج به؛ لأن حديث تميم منقطع الإسناد، وحديث زيد بن خالد فيه مجهولان، ولعل مرادهما:(5/91)
الصلاة بعد وقت العصر، قبل صلاة العصر – أيضا.
ولعل كثيراً ممن نقل عنه من الصحابة الصلاة بعد العصر أرادوا ذلك – أيضا -، ومع هذا فلا يقطع عليهم أنهم أرادوا الصلاة بعد صلاة العصر.
وقد رويت الصلاة بعد العصر عن أبي موسى، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من رواية أبي دارس النصري: حدثنا أبو بكر بن أبي موسى، عن أبيه، أنه كان يصلي بعد العصر ركعتين، ويحدث أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ركعتين بعد العصر في منزل عائشة.
خرجه بقي بن مخلد.
وخرجه الإمام أحمد مختصراً، ولفظه: عن أبي موسى، أنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي ركعتين بعد العصر.
وهذا – أيضا - يحتمل أنه رآه يصلي بعد دخول وقت العصر.
وأبو دارس، اسمه: إسماعيل بن دارس، قال ابن المديني: هو مجهول لا أعرفه.
وقال ابن معين: ضعيف الحديث. وقال مرة: ما به بأس إنما روى حديثاً واحداً. وقال أبو حاتم: ليس بالمعروف.
ويقال فيه – أيضا -: أبو دراس، وقد فرق بينهما ابن أبي حاتم، وهو واحد.
وله طريق آخر من رواية يحيى بن عاصم صاحب أبي عاصم: حدثنا محمد ابن حمران بن عبد الله: حدثني شعيب بن سالم، عن(5/92)
جعفر بن أبي موسى، عن أبيه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بعد العصر ركعتين، وكان أبو موسى يصليهما.
خرجه الطبراني في (الأوسط) .
وهذا الإسناد مجهول لا يعرف.
وروى محمد بن عبيد الله الكوفي، عن [أبي] إسحاق، عن البراء، قال: غزوت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثماني عشرة غزوة، فما رأيته تاركاً ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد العصر.
غريب منكر، والكوفي، لعله: العرزمي، وهو متروك، وإلا فهو مجهول.
فهذه أحاديث الصلاة بعد العصر وما فيها.
ويمكن أن نسلك في حديث عائشة مسلكاً آخر، وهو: أن صلاة الركعتين للداخل إلى منزله حسن مندوب إليه، وقد ورد في فضله أحاديث في أسانيدها نظر.
فخرج البزار في الأمر به، وأنه يمنع مدخل السوء: حديثاً عن أبي هريرة – مرفوعاً، في إسناده ضعف.
وروى الأوزاعي، عن عثمان بن أبي سودة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (صلاة الأوأبين) – أو قال: (صلاة الأبرار – ركعتان إذا دخلت بيتك،(5/93)
وركعتان إذا خرجت منه) .
وهذا مرسل.
ويروى عن هشام بن عروة، عن عائشة، قالت: ما دخل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيتي قط إلا صلى ركعتين.
قال أبو بكر الأثرم: هو خطأ.
كأنه يشير إلى أنه مختصر من حديث الصلاة بعد العصر.
وممن روي عنه أنه كان يصلي إذا دخل بيته وإذا خرج منه: عبد الله بن رواحة، وثابت البناني.
وإذا كانت هذه صلاة مستحبة فلا يبعد أن تلتحق بذوات الأسباب فيها، كتحية المسجد ونحوها، وفي هذا نظر. والله أعلم.
ومقصود البخاري بهذا الباب: أنه يجوز قضاء الفوائت من النوافل الراتبة فيما بعد العصر، كما يقوله الشافعي.
وقد احتج الشافعي – أيضا – لذلك: بما روى سعد بن سعيد الأنصاري، قال: حدثني محمد بن إبراهيم التيمي، عن قيس بن عمرو، قال: رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صلاة الصبح ركعتان) ، فقال: إني لم [أكن] صليت الركعتين اللتين قبلها، فصليتهما الآن، فسكت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم.
وقال(5/94)
الترمذي: إسناده ليس بمتصل؛ محمد بن إبراهيم التيمي لم يسمع من قيس. ورواه بعضهم عن سعد، عن محمد، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج فرأى قيساً.
وذكر أبو داود أن يحيى بن سعيد وأخاه عبد ربه روياه – مرسلاً -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج فرأى قيساً يصلي.
وقيس جدهما – هو أخوهما.
وقد روى الليث، عن يحيى بن سعيد، عن أبيه، عن جده، أنه جاء والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي – فذكره.
خرجه ابن حبان في (صحيحه) والدارقطني والحاكم.
وزعم أنه صحيح، وليس كذلك.
قال ابن أبي خيثمة: ذكر عن أبيه، أنه قال: يقال: إن سعيداً لم يسمع من أبيه قيس شيئاً.
فهو – أيضا – مرسل.
وقد ضعف أحمد هذا الحديث، وقال: ليس بصحيح.
وقد رواه عبد الملك بن أبي سليمان، عن قيس بن سعد، عن عطاء،(5/95)
عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسل.
وذكر أبو داود والترمذي: أن ابن عيينة قال: سمع هذا الحديث عطاءً من سعد بن سعيد.
فعاد الحديث إلى حديث سعيد المتقدم.
وقد رواه الضعفاء، فأسندوه عن عطاء، وإسناده ووصله وهم:
فرواه أيوب بن سويد، عن ابن جريح، عن عطاءٍ، عن قيس.
وأيوب ضعيف، وهم في إسناده له عن قيس.
ورواه سعيد بن راشد السماك، عن عطاء، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وسعيد هذا، ضعيف.
ورواه محمد بن سليمان بن أبي داود الحراني، عن أبيه، عن عطاء، عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومحمد بن سليمان، يقال له: البومة، ضعيف.
والصحيح عن عطاء: المرسل -: قاله أبو حاتم والدارقطني وغيرهما.
وممن ذهب إلى هذا الحديث ورخص في صلاة ركعتي الفجر بعد صلاة الفجر وقبل طلوع الشمس: عطاء وطاوس وابن جريج،(5/96)
والشافعي – فيما نقله عنه المزني.
وهو رواية عن أحمد، واختارها صاحب (المغني) ، وقصر الجواز على قضاء ركعتي الفجر بعدها، وقضاء السنن الراتبة بعد العصر، وقضاء الوتر بعد طلوع الفجر، لورود النص بذلك.
وقد نص أحمد في رواية ابن منصور على جواز قضاء السنن الفائتة بعد العصر، كما فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي رواية المروذي على قضاء الوتر بعد طلوع الفجر.
واختلفت الرواية عنه في قضاء سنة الفجر بعد الصلاة. والمشهور عند أكثر أصحابنا: أن الحكم يتعدى إلى قضاء جميع السنن والرواتب في جميع أوقات النهي، وفعل جميع ذوات الأسباب فيها، كصلاة الكسوف وتحية المسجد، وحكوا في جواز ذلك كله روايتين عن أحمد في جميع أوقات النهي.
ولو قيل: إن الخلاف مختص بالوقتين الطويلين دون الأوقات الثلاثة الضيقة لكان أقرب.
ولا يعرف لأحمد نص بجواز شيء من ذلك في الأوقات الضيقة.
هذا، والتفريق هو قول إسحاق بين راهويه، وهو متوجه.
والمشهور عن أحمد: أن ذلك لا يفعل في أوقات النهي، وأن سنة(5/97)
الفجر إنما تقضى بعد طلوع الشمس.
حتى نقل عبد الله بن أحمد، أنه سأل أباه، فقال له: حكي عنك أنك تقول: يصليهما إذا فرغ من الصلاة؟ فقال: ما قلت هذا قط.
ولابن بطة في ذلك مصنف مفرد في منع ذلك، وهو اختيار الخرقي وأبي الحسن التميمي والقاضي أبي يعلي.
وحكي جوازه عن أبي بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا، ورجحه طائفة من المتأخرين منهم.
وقال ابن أبي موسى: الأظهر عنه أنه لا يفعل شيئاً من ذلك في وقت النهي، لكنه استثنى من ذلك قضاء قيام الليل والوتر بعد طلوع الفجر.
وروى نافع، عن ابن عمر، أنه كان إذا فاتته ركعتا الفجر قضاهما من الضحى.
وروى عنه عطية، أنه قضاها بعد الصلاة.
ورواية نافع أصح عن أحمد وغيره.
وممن قال: يقضيها بعد طلوع الشمس: القاسم بن محمد والأوزاعي وأبو حنيفة ومالك وإسحاق وأبو ثور، ونقله البويطي عن الشافعي.
وروى عمرو بن عاصم، عن همام، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما إذا طلعت الشمس) .(5/98)
خرجه الترمذي وابن حبان في (صحيحه) والحاكم.
وقال: صحيح على شرطهما.
وروى مروان بن معاوية، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ركعتي الفجر حتى طلعت الشمس.
قال أبو حاتم الرازي: هذا اللفظ اختصره من حديث نوم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة الفجر، وأنه استيقظ بعد أن طلعت الشمس، فصلى ركعتي الفجر، ثم صلى الفجر، فقد قضى السنة والفريضة معها بعد طلوع الشمس.
ويدل على ذلك: أن ابن ماجه خرج الحديث، ولفظه: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نام عن ركعتي الفجر، فقضاهما بعد ما طلعت [الشمس] .
وخرج ابن بطة من رواية أبي عامر الخزاز، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، قال: صليت الفجر مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقمت أصلي الركعتين، فجذبني النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: (أتصلي الفجر أربعاً؟) .
واستدل به على منع القضاء بعد الصلاة.
وقد خرجه الإمام أحمد وابن حبان في (صحيحه) والحاكم،(5/99)
وعندهم: أنه قام ليصلي الركعتين بعد إقامة الصلاة.
وهو الصحيح.
ومما يدل على منع قضاء السنن بعد صلاة الفجر والعصر: أن هاتين الصلاتين يعقبهما وقت نهي عن الصلاة، فلذلك لم تشرع بعدهما صلاة لهما كالظهر والمغرب والعشاء، فإذا منع من الصلاة بعدهما في وقتهما لأجلهما، ولم يكن لهما سنة راتبة بعدهما كذلك، فلأن يمنع من صلاة سنة غيرهما بعدهما في وقت النهي مع فوات وقت الصلاة أولى وأحرى.
وهذا بخلاف قضاء الفرائض في هذه الأوقات، فإنه لمّا جاز فعل الفرض الحاضر فيهما ولو في وقت الكراهة جاز قضاء غيرهما من الفرائض – أيضا.
فتبين بهذا: أن القضاء تابع للأداء، فحيث جاز أداء الفرض جاز قضاؤه، وحيث منع أداء النفل منع من قضائه، بل القضاء أولى بالمنع من الأداء.
ولهذا كان ما بعد طلوع الفجر إلى صلاة الوقت وقتاً لأداء سنتها الراتبة، وليس وقتاً لقضاء شيء من النوافل كما عند كثير من العلماء.
ومنهم من رخص في قضاء الوتر وقيام الليل فيه – كما سبق – إلحاقاً للقضاء بالأداء.(5/100)
34 - باب
التبكير بالصلاة في يوم غيم(5/101)
594 - حدثنا معاذ بن فضالة: ثنا هشام، عن يحيى - هو: ابن أبي كثير -، عن أبي قلابة، أن أبا المليح حدثه، قال: كنا مع بريدة في يوم ذي غيم، فقال: بكروا بالصلاة؛ فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) .
قد سبق هذا الحديث في (باب: ترك صلاة العصر) ، وذكرنا فيه: مناقشة الإسماعيلي للبخاري في تبويبه عليه: (التبكير بالصلاة في يوم غيم) ، وحكم التبكير في الغيم بما فيه كفاية.(5/101)
35 - باب
الأذان بعد ذهاب الوقت
ذكر البخاري أربعة أبواب - هذا أولها - في قضاء الصلوات الفوائت، وأول الأبواب: ذكر الأذان للصلاة الفائتة إذا قضاها بعد ذهب وقتها.
وقال:(5/102)
595 - حدثنا عمران بن ميسرة: ثنا محمد بن فضيل: ثنا حصين، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: سرنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة، فقال بعض القوم: لو عرست بنا يا رسول الله. قال: (أخاف أن تناوموا عن الصلاة) . قال بلال: [إني] اوقظكم، فاضطجعوا، وأسند بلال ظهره إلى راحلته، فغلبته عيناه، فنام، فاستيقظ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد طلع حاجب الشمس، فقال: (يا بلال، أين ما قلت؟) قال: ما ألقيت علي نومة مثلها قط. قال: (إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء، يا بلال، قم فأذن بالناس بالصلاة) ، فتوضأ، فلما ارتفعت الشمس وأبياضت قام فصلى.(5/102)
(التعريس) : النزول للنوم.
وقيل: يختص بآخر الليل، وحكى ابن عبد البر الاتفاق عليه.
وفي الحديث: دليل على أن من نام قرب وقت الصلاة وخشي من أن يستغرق نومه الوقت حتى تفوته الصلاة، فوكل من يوقظه، أنه يجوز له أن ينام حينئذ، وقد ذكرنا ذلك في (باب: النوم قبل العشاء) .
وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا نام قرب طلوع الفجر ينام على حالة لا يستثقل معها في نومه، لتكون أقرب إلى استيقاظه.
وقد روى الإمام أحمد حديث أبي قتادة هذا بسياق مطول، وفيه: وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا عرس وعليه ليل توسد يمينه، وإذا عرس الصبح وضع رأسه على كفه اليمنى، وأقام ساعده.
وقد خرجه مسلم من طريق الإمام أحمد بدون هذه الزيادة.
وظن جماعة، أنها في سياق حديث مسلم، فعزوها إليه، ومنهم: الحميدي وأبو مسعود الدمشقي، حتى إنه عزاها بانفرادها إلى مسلم، ولعلهم وجدوها في بعض نسخ (الصحيح) . والله أعلم.
وقوله: (إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء) يدل على أن النائم تقبض روحه.
وهذا مطابق لقول الله عز وجل? {اللَّهُ(5/103)
يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إلى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42] .
فدلت الآية على أن النوم وفاة، ودل الحديث على أن النوم قبض، ودلاً على أن النفس المتوفاة هي الروح المقبوضة.
وفي حديث أبي جحيفة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نومهم عن الصلاة، أنه قال لهم: (إنكم كنتم أمواتاً، فرد الله إليكم أرواحكم) .
خرجه أبو يعلي الموصلي والأثرم وغيرهما.
ويشهد لهذا: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند استيقاظه من منامه: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا) .
وفي حديث أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في قصة نومهم عن الصلاة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إن هذه الأرواح جارية في أجساد العباد، فيقبضها إذا شاء، ويرسلها إذا شاء) .
خرجه البزار.
وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال لما استيقظوا: (أي بلال) ، فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ – بأبي [أنت] وأمي يا رسول الله – بنفسك.
وفيه: دليل لمن لا يفرق بين الروح والنفس؛ فإنه أقر بلالاً على قوله: إن الله أخذ بأنفسهم، مع قوله: (إن الله قبض أرواحنا) .(5/104)
وقد قيل: إن ذاتهما واحدة وصفاتهما مختلفة، فإذا اتصفت النفس بمحبة الطاعة والانقياد لها نهى روح، وإن اتصفت بالميل إلى الهوى المضر والانقياد لها فهي نفس.
وقد تسمى في الحالة الأولى نفساً – أيضا -، أمامع قيد، كقوله تعالى: ? {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27] ، وقوله {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2] ، وأمامع الاطلاق، كقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يمينه: (والذي نفسي بيده) .
وفي الآية والحديث: دليل على أن قبض الأرواح من الأبدان لا يشترط له مفارقتها للبدن بالكلية، بل قد تقبض ويبقى لها به منه نوع اتصال كالنائم.
ويستدل بذلك على أن اتصال الأرواح بالأجساد بعد الموت لإدراك البدن النعيم والعذاب، أو للسؤال عند نزول القبر لا يسمى حياة تامة، ولا مفارقتها للجسد بعد ذلك موتاً تاماً، وإلا لكان الميت يحيى ويموت في البرزخ مراراً كثيرة.
وهذا يرد قول من أنكر إعادة الروح إلى الجسد عند السؤال والنعيم أو العذاب.
وبسط القول في هذا يتسع، وقد ذكر في موضع آخر.
وقد بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم الله في قضائه عليهم بالنوم عن الصلاة:
وفي حديث ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قصة نومهم عن الصلاة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إن الله عز وجل لو شاء أن لا تناموا عنها لم تناموا، [ولكن] أراد أن يكون لمن بعدكم، فهذا لمن نام أو نسي) .
خرجه الإمام أحمد.(5/105)
وخرج – أيضا - بإسناده، عن ابن عباس، أنه قال عقب روايته لهذا الحديث: ما يسرني به الدنيا وما فيها – يعني: للرخصة.
وفي إسناده مقال.
وقد روي عن مسروق مرسلاً، وأن هذا الكلام في آخره من قول مسروق، وهو أصح -: قاله أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان.
ويشبه هذا الحديث: [ما] ذكره مالك في (الموطأ) ، أنه بلغه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إنما أنسى لأسن) .
وقد قيل: إن هذا لم يعرف له إسناد بالكلية.
ولكن في (تاريخ المفضل بن غسان الغلأبي) : حدثنا سعيد بن عامر، قال: سمعت عبد الله بن المبارك قال: قالت عائشة: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إنما أنسى – أو أسهو – لأسن) .
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يا بلال، قم فأذن للناس بالصلاة) دليل على أن الصلاة الفائتة يؤذن لها بعد وقتها عند فعلها، وهو مقصود البخاري بهذا.
وقد خرج البخاري في (أبواب التميم) حديث النوم عن الصلاة من حديث عمران بن حصين، بسياق مطول، وفيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم، فقال: (لا ضير – أو لا يضير -، ارتحلوا) ، فارتحلوا، فسار غير بعيد، ثم نزل فدعا بالوضوء، فتوضأ، ونودي بالصلاة فصلى بالناس.(5/106)
وقد خرج مسلم من حديث سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الله ابن رباح، عن أبي قتادة، بسياق مطول، وفيه: فكان أول من استيقظ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والشمس في ظهره. قال: فقمنا فزعين، ثم قال: (اركبوا) ، فركبنا، فسرنا حتى إذا ارتفعت الشمس نزل، ثم دعا بميضأة، فتوضأ وضوءاً دون وضوء، ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين، ثم صلى الغداة، فصنع كما كان يصنع كل يوم – وذكر بقية الحديث – وفي آخره -: أن عمران بن حصين صدق عبد الله بن رباح، لما سمعه يحدث به عن أبي قتادة.
وخرجه الإمام أحمد من حديث قتادة، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، وقال في حديثه: وأمر بلالاً فأذن، فصلى ركعتين، ثم تحول من مكانه، فأمره فأقام الصلاة، فصلى صلاة الصبح.
وخرج مسلم – أيضا – من رواية الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - فذكر هذه القصة، وقال في آخر الحديث: فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اقتادوا) ، فاقتادوا رواحلهم شيئاً، ثم توضأ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأمر بلالاً فأقام الصلاة، فصلى بهم الصبح.(5/107)
وقد اختلف علي الزهري في وصله بذكر أبي هريرة، وإرساله عن سعيد بن المسيب.
وصحح أبو زرعة ومسلم وصله، وصحح الترمذي والدارقطني إرساله.
وذكر الاختلاف في ذلك أبو داود، وخرجه من طريق معمر موصولاً، وذكر في حديثه، قال: فأمر بلالاً فأذن، وأقام وصلى.
وذكر أبو داود: أن مالكاً وابن عيينة والأوزاعي وغيرهم لم يذكروا في حديثهم: الأذان.
وخرجه مسلم من حديث أبي حازم، عن أبي هريرة، وفيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ ثم صلى سجدتين، وأقيمت الصلاة فصلى الغداة.
وقد خرجه النسائي من حديث عطاء بن السائب، عن بريد بن أبي مريم، عن أبيه، قال: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر – فذكر الحديث، وقال في آخره: فأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المؤذن فأذن، ثم صلى الركعتين قبل الفجر، ثم أمره فأقام، فصلى بالناس.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود ذكر الأذان والإقامة وصلاة ركعتي الفجر بينهما في هذه القصة، من حديث الحسن، عن عمران بن حصين، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والحسن، لم يسمع من عمران عند الأكثرين.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود – أيضا - كذلك من حديث(5/108)
عمرو بن أمية الضمري. ومن حديث ذي مخبر الحبشي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرج الإمام أحمد ذكر الأذان والإقامة من حديث إبن مسعود – أيضا – في هذه القصة.
وقد اختلف العلماء فيمن فاتته صلاة وقضاها بعد وقتها: هل يشرع له أن يؤذن لها ويقيم، أم يقيم ولا يؤذن؟ وفي ذلك أقوال:
أحدها: أنه يؤذن ويقيم، وهو قول أبي حنيفة والشافعي في أحد أقواله، وأحمد في ظاهر مذهبه، وأبي ثور وداود.
والثاني: يقيم ولا يؤذن، وهو قول الحسن والأوزاعي ومالك، والشافعي في قول له، وحكي رواية عن أحمد.
لأن الأذان للإعلام بالوقت وقد فات، والإقامة للدخول في الصلاة وهو موجود.
والثالث: إن أمل اجتماع الناس بالأذان، وإلا فلا، وهو قول للشافعي.
لأن الأذان إنما يشرع لجمع الناس.
والرابع: إن كانوا جماعة أذن وأقام، كما فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن فاته وحده أقام ولم يؤذن، وهو قول إسحاق.
والخامس: إن كان في سفر أذن وأقام، وإن كان في حضر أجزأته(5/109)
الإقامة -: نقله حرب، عن أحمد.
ومأخذ الاختلاف بين العلماء: هل الأذان حق للوقت، أو حق لأقامة الصلاة المفروضة، أم حق للجماعة – وعلى هذا؛ فهو يشرع للجماعة بكل حال -، أم إذا كانوا متفرقين وكان الأذان يجمعهم؟
وعلى رواية حرب عن أحمد، فيكتفي بأذان أهل المصر عن الأذان للفائتة.
قال أصحابنا والشافعية: ويشرع للفائتة رفع الصوت بالأذان، إلا أن يكون في مصر ويخشى التلبيس على الناس، فيسر به، وإنما كان أذان بلال في فلاة، ولم يكن معهم غيرهم.
وقوله في حديث أبي قتادة الذي خرجه البخاري: (فاستيقظ وقد طلع حاجب الشمس) – إلى قوله -: (فلما ارتفعت الشمس وأبياضت قام فصلى) .
وهذا قد يوهم أنه أخر الصلاة قصدا حتى زال وقت النهي.
وقد خرجه البخاري في آخر (صحيحه) بلفظ آخر، وهو: (فقضوا حوائجهم وتوضئوا إلى أن طلعت الشمس وأبيضت، فقام فصلى) .
وهذا يشعر بأنه لم يكن التأخير قصداً، بل وقع اتفاقاً حتى كمل الناس قضاء حوائجهم – وهو كناية عن التخلي – ووضوئهم.
وفي رواية مسلم لحديث أبي قتادة، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سار حتى ارتفعت الشمس، ثم نزل فصلى.
وخرج النسائي من حديث حبيب بن أبي حبيب، عن عمرو(5/110)
بن هرم، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، قال: أدلج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم عرس، فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس – أو بعضها -، فلم يصل حتى ارتفعت الشمس، فصلى، وهي صلاة الوسطى.
حبيب هذا، خرج له مسلم. وقال أحمد: لا أعلم به بأساً. وقال يحيى القطان: لم يكن في الحديث بذاك.
وقد اختلف الناس في قضاء الفوائت في أوقات النهي عن الصلاة الضيقة والمتسعة:
فقالت طائفة: لا يقضي الصلاة في وقت نهي ضيق خاصة، وهو وقت الطلوع والغروب والاستواء.
هذا قول أبي حنيفة وأصحابه، ورواية عن سفيان الثوري.
وتعلقوا بظاهر حديث أبي قتادة وابن عباس.
ولذلك قالوا: إن من طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الصبح فسدت صلاته، كما سبق كذلك.
وروي عن ابن عباس وكعب بن عجرة وأبي بكرة ما يدل على مثل ذلك.
وحكي عن بعض المتأخرين من أصحابنا، ورواية عن أحمد، أنه لا يقضي الفائتة في وقت نهي.
وهذا لا يصح عن أحمد.
وجمهور العلماء: على أن الفوائت تقضى في كل وقت، سواء كان وقت نهي أو غيره.(5/111)
وروي عن علي وابن عمر وابن عباس وأبي ذر.
وهو مذهب النخعي والثوري والأوزاعي والثوري في رواية، ومالك والشافعي وأحمد.
وكل هؤلاء رأوا أن النهي عن الصلاة في الأوقات المخصوصة إنما توجه إلى النفل دون الفرض، بدليل أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك من صلى ركعة من الفجر ثم طلعت عليه الشمس أن يصلي معها أخرى، وقد تمت صلاته، وقد سبق ذكره.
واستدلوا – أيضا - بعموم قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا أدركها) .
وهذا يعم كل وقت ذكر فيه، سواء كان في أوقات النهي أو غيرها.
فإن قيل: فقد عارض ذلك عموم النهي عن الصلاة في أوقات النهي، فإنه لم يخص مفروضة من نافلة.
قيل: تحمله على النافلة ونخص الفرض من عمومه؛ بدليل فرض الوقت؛ فإنه يجوز فعله في وقت النهي، كما يصلى العصر في وقت غروب الشمس، وهذا مجمع عليه، وليس فيه خلاف، إلا عن سمرة، وبدليل لمن طلعت عليه الشمس وهو يصلي الفجر أن يتمها؛ ولأن العمومين إذا تعارضا وكان أحدهما موجباً ملزماً، والآخر مانعاً حاظراً، فإنه يقدم الواجب الملزم، فإنه أحوط.
ويدل عليه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دعا أبا سعيد بن المعلى وهو يصلي، فلم يجبه حتى سلم، أنكر عليه تأخره للإجابة، وقال(5/112)
له: (ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُمْ} ؟ [الأنفال: 24] .
وهذا يدل على أن عموم النص الموجب الملزم مقدم على عموم النص الحاظر المانع، وهو النهي عن الكلام في الصلاة.
وهذا بخلاف النصوص العامة المبيحة، أو النادبة، فإنها لا تقدم على المانعة الحاظرة؛ ولهذا كان المرجح أنه لا يصلي في أوقات النهي.
فأماصلاة الركعتين والإمام يخطب، كما دلت عليه السنة، فإنه لم يعارض نص الأمر للداخل إلى المسجد بالصلاة نص آخر يمنع الصلاة والإمام يخطب.
وفي حديث أبي قتادة الذي خرجه مسلم، أنه صنع كما يصنع كل يوم.
وهذا يدل على أنه صلى الصبح كما كان يصليها كل يوم من غير زيادة ولا نقص.
وفي حديث ذي مخبر الحبشي، أنه قال: فصلى غير عجل.
وهذا يرد الحديث المروي عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم الصبح ذلك اليوم، فقرأ بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:(5/113)
1] ، ثم قال: (صليت بكم بثلث القرآن، وربع القرآن) ، وقال: (إذا نسيت صلاة الفجر إلى صلاة العشاء فذكرتها، [فابدأ] ، فإنها كفارتها) .(5/113)
خرجه ابن عدي من رواية جعفر بن أبي جعفر الأشجعي، عن أبيه، عن أبن عمر.
وجعفر هذا، قال البخاري فيه: منكر الحديث.
وروى أبو داود في (المراسيل) : ثنا يوسف بن موسى: ثنا جرير، عن علي بن عمرو الثقفي، قال: لما نام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة الغداة استيقظ، فقال (لنغيظن الشيطان كما أغاظنا) ، فقرأ يومئذ بسورة المائدة في صلاة الفجر.
وهذا غريب جداً.
وظاهر الأحاديث يدل على أنه جهر في صلاته تلك بالقراءة؛ فإنه صلى كما كان يصلي كل يوم، وقد تقدم في كثير من الروايات أنه صلى ركعتي الفجر، ولم يذكر ذلك في بعض الروايات.
وقد اختلف العلماء في قضاء ركعتي الفجر لمن نام عنها حتى تطلع الشمس:
فذهب الأكثرون إلى أنها تقضى قبل الصلاة المفروضة، منهم: أبو حنيفة والثوري والحسن بن حي والشافعي وأحمد وأبو ثور وداود، وهو قول أشهب وغيره من أصحاب مالك.
وسئل أحمد: هل قال أحد: لا يصلي ركعتي الفجر؟ قال: لا.
وقال مالك: لا يركع ركعتي الفجر، ويبدأ بالمفروضة. قال: ولم(5/114)
يبلغنا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعهما.
ومالك إنما قال بحسب ما بلغه من الروايات في هذا الباب، وقد صح عند غيره أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعهما.
وقد روي في بعض طرق حديث أبي قتادة في هذا الباب زيادة أخرى، وهي: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ بالوتر فقضاه.
قال أبو بكر الأثرم: ثنا عبد الحميد بن أبان الواسطي: ثنا خالد بن عمرو، عن شعبة، عن ثابت البناني، عن أنس – وعن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نام، فلم يستيقظ حتى ارتفعت الشمس، ثم استيقظ فقام، فأوتر، فصلى الركعتين، ثم صلى بأصحابه.
وذكر: (أنس) في إسناده ليس بمحفوظ.
وخالد بن عمرو، هو: القرشي الأموي الكوفي، ضعيف الحديث جداً.
وذكر محمد بن يحيى الهمداني في (صحيحه) ، قال:: روى قتيبة، عن عبد الله بن الحارث، عن ثابت، عن بكر، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أيقظهم حر الشمس أمرهم أن يوتروا.
كذا ذكره تعليقاً، ولم يسنده.(5/115)
وقد قال الإمام أحمد: لم يبلغنا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى شيئاً من التطوع، إلا ركعتي الفجر والركعتين بعد العصر.
وهذا يدل على انه لم يثبت عنده قضاء الوتر؛ ولهذا نص في رواية غير واحد من أصحابه على أنه تقضى السنن الرواتب دون الوتر.
وروي عنه رواية أخرى، أنه يقضي الوتر.
وعلى قوله بقضاء الوتر، فهل يقضى ركعة واحدة، أو ثلاث ركعات؟ على روايتين عنه.
مأخذهما: أن الوتر، هل هو الثلاث، أو الركعة الواحدة، وما قبلها تطوع مطلق؟
وفي الأمر بقضاء الوتر بعد طلوع الفجر أحاديث متعددة يطول ذكرها.
وممن أمر بقضاء الوتر من النهار: علي وابن عمر، وهو قول الأوزاعي ومالك وأبي ثور.
وعن الأوزاعي، قال: يقضيه نهاراً، ولا يقضيه ليلاً بعد العشاء إذا دخل وقت وتر الليل؛ لئلا يجتمع وتران في ليلة.
وعن سعيد بن جبير، قال: يقضيه في الليلة التالية.
وقالت طائفة: من فاته الوتر وحده لم يقضه، ومن فاته الوتر مع صلاة الفجر قضاه قبلها.
وهذا قول إسحاق -: نقله عنه حرب.
ويتخرج رواية عن أحمد مثله؛ لأنه يرى الوتر بعد طلوع الفجر قبل صلاة الغداة.
وهل هو قضاء، أو أداء؟ حكي عنه فيه روايتان.
والقول بأنه أداء يحكى عن مالك وإسحاق، وهو قول كثير من(5/116)
السلف؛ فإنه قد روي في وقت الوتر أنه من بعد صلاة الصبح، فمن لم يصل الصبح فوقت الوتر باقٍ في حقه، ولو طلع الفجر فكذا إذا لم يصل الغداة حتى تطلع الشمس.
وروي من حديث ابن مسعود، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الصبح يومئذ وصلى بعدها الضحى.
خرجه الهيثم بن كليب في (مسنده) .
وقد خرج مسلم من حديث سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهم بعدما صلى بهم: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها) .
ومن حديث خالد بن سمير، [عن عبد الله بن أبي قتادة] ، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهم: (فمن أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحاً فليقض معها مثلها) .
وقد ذهب إلى هذا سعد بن أبي وقاص وسمرة بن جندب، وأن من نام عن صلاة صلاها إذا ذكرها، وصلاها لمثلها من الغد.
وأنكر ذلك(5/117)
عمران بن حصين، وأخذ بقوله جمهور العلماء.
وقد قيل: إن هذه اللفظة في هذا الحديث وهم -: قاله البخاري والبيهقي وغيرهما.
وقيل: معنى قوله: (فليصلها من الغد عند وقتها) ، أنه يصلي صلاة الغد الحاضرة في وقتها لئلا يظن أن وقتها تغير بصلاتها في غير وقتها.
ولكن [ ... ] خالد بن سمير فهم منه غير هذا، فرواه بما فهمه.
وروى الحسن، عن عمران بن حصين، أنهم قالوا: يا رسول الله، ألا نعيدها في وقتها من الغد؟ قال: (أينهاكم ربكم عن الربا ويقبله منكم؟) .
خرجه الإمام أحمد.
وأماما روي من ارتحال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مكان نومه، وأمره بالارتحال، فقد روي التعليل بذلك بأنه منزل حضرهم فيه الشيطان.
ففي (صحيح مسلم) من حديث أبي حازم، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهم: (ليأخذ كل رجل برأس راحلته؛ فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان) قال: ففعلنا.
وخرج أبو داود من رواية معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب،(5/118)
عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهم: (تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة) .
وقد استحب الانتقال لمن نام في موضع حتى فاته الوقت عن موضعه ذلك جماعة من العلماء، منهم: الشافعي وأحمد؛ لهذه الأحاديث.
وحكى ابن عبد البر عن قوم أنهم أوجبوا ذلك، وعن قوم أنهم أوجبوه في ذلك الوادي الذي نام فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاصة.
وقال قوم: لا يستحب ذلك؛ لأنه لا يطلع على حضور الشيطان في مكان إلا بوحي.
وهذا قول محمد بن مسلمة ومطرف، وابن الماجشون من المالكية، وأبي بكر الأثرم.
وهو ضعيف؛ فإن كل نوم استغرق وقت الصلاة حتى فات به الوقت فهو من الشيطان؛ فإنه هو الذي ينوم عن قيام الليل، ويقول للنائم: ارقد، عليك نوم طويل، كما أخبر بذلك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال في الذي نام حتى أصبح: (بال الشيطان في أذنه) .
وأماكم الشياطين ينبغي تجنب الصلاة فيها، كالحمام والحش وأعطان الإبل.
وأيضا؛ فقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة) يدل على أن كل مكان غفل العبد فيه عن الصلاة حتى فات وقتها ينبغي أن لا يصلي فيه، سواء كان بنوم أو غيره. والله أعلم.(5/119)
وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ وركع ركعتين في معرسه، ثم سار ساعة، ثم صلى الصبح.
قال ابن جريج: قلت لعطاء: أي سفر هو؟ قال: لا أدري.
وهذا المرسل مما يستدل به على صحة الصلاة في موضع النوم، وأن التباعد عنه على طريق الندب.
وروى وكيع، عن سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عطاء بن يسار، وقال: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الركعتين بعدما جاوز الوادي، ثم أمر بلالاً فأذن وأقام، ثم صلى الفريضة.
وروي، عن عطاء بن يسار، أنها كانت في غزوة تبوك، وأن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بلالاً فإذن في مضجعه ذلك، ثم مشوا قليلاً، ثم أقام فصلوا.
وكذا قال يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة: اخبرت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بتبوك أمر بلالاً أن يحرسهم لصلاة الصبح، فرقدوا حتى طلعت الشمس، فتنحى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مكانه ذلك، ثم صلى الصبح.
وضعف ابن عبد البر هذا القول؛ فإن في (صحيح مسلم) من حديث ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قفل من غزوة خيبر، سار ليلاً حتى أدركه الكرى عرس – وذكر الحديث بطوله.
كذا في رواية مسلم.(5/120)
وخرجه ابن حبان في (صحيحه) بلفظين: هذا أحدهما. والآخر: فيه: غزوة حنين.
ثم قال: إن صح ذكر (خيبر) في الخبر، فقد سمعه أبو هريرة عن صحابي آخر فأرسله، وإن كان (حنين) ، فقد شهدها أبو هريرة. قال: والنفس إلى أنها حنين أميل
قلت: الصحيح: أن أبا هريرة قدم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيبر بعد فتحها.
وقد خرج البخاري ذلك في (صحيحه) في (المغازي) من حديث أبي هريرة.
وخرجه الإمام أحمد بإسناد آخر عن أبي هريرة.
وفي (الصحيحين) عن سالم مولى ابن مطيع، قال: سمعت أبا هريرة يقول: افتتحنا خيبر ولم نغنم ذهباً ولا فضة – الحديث.
ومن زعم: أن ذكر خيبر وهم، وإنما هو حنين فقد وهم، وسيأتي بسط ذلك في موضعه - إن شاء الله تعالى.
وفي (المسند) و (سنن أبي داود) ، عن ابن مسعود، قال: أقبلنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زمن الحديبية، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من (يكلؤنا؟) فقال بلال: أنا – فذكر الحديث بطوله في نومهم وصلاتهم.
وعن ذي مخبر الحبشي، أنه هو الذي كلأهم تلك الليلة.
وهذا(5/121)
يدل على أنها ليلة أخرى غير ليلة بلال.
وفي (مسند البزار) ، عن أنس، أنه هو الذي كلأهم تلك الليلة، ولكن إسناد ضعيف.
وروي من حديث ابن مسعود، أنه قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فقال القوم: عرس بنا. فقال: (من يوقظنا؟) قلت: أنا أحرسكم فأوقظكم، فنمت وناموا – وذكر الحديث. والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/122)
36 - باب
من صلى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت.(5/123)
596 - ثنا معاذ بن فضالة: ثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن جابر، أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس، فجعل يسب كفار قريش، فقال: يا رسول الله، ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب. قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (والله ما صليتها) ، فقمنا إلى بطحان، فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها [فصلى العصر] بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب.
تأخير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر حتى غربت الشمس يوم الخندق لم يكن عن نوم بغير خلاف، وإنما اختلف.
وقد أشار البخاري في (أبواب الخوف) إلى أنه كان اشتغالاً بالعدو.
ويعضده: حديث علي، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس) – الحديث.
وسيأتي ذلك مبسوطاً في موضعه – إن شاء الله.
وفي حديث جابر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى العصر بعدما غربت الشمس(5/123)
ثم صلى بعدها المغرب.
ولم يصرح فيه بأنه صلى بهم جماعة، لكن قوله: (فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها) مما يدل على أنه صلاها جماعة.
وقد خرجه الإسماعيلي في (صحيحه) ، ولفظه: (فصلى بنا العصر) – وذكر باقيه.
وهذا تصريح بالجماعة.
[و] في حديث نومهم عن صلاة الفجر، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الفجر بأصحابه جماعة.
وأكثر العلماء على مشروعية الجماعة للفوائت.
فمن قال: إن صلاة الجماعة سنة، فهي عنده سنة للحاضرة والفائتة.
ومن قال: صلاة الجماعة فرض – كما هو ظاهر مذهب الإمام أحمد -، فاختلف أصحابنا: هل الجماعة واجبة، أو لا؟ على وجهين.
وممن قال بأن الجماعة مشروعة للفوائت: مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم.
وحكي عن الليث بن سعد: أن قضاء الفائتة فرادى أفضل.
وترده هذه الأحاديث الصحيحة.
وفي الحديث: دليل على اتساع وقت المغرب؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه قاموا بعد غروب الشمس، فنزلوا إلى بطحان، فتوضئوا، ثم صلوا العصر قبل المغرب، ثم صلوا المغرب، فلو كان وقت المغرب مضيقاً لكان قد وقعت صلاة العصر في وقت المغرب، ولم يكن فرغوا منها حتى فات وقت المغرب، فتكون صلاة المغرب حينئذ مقضية بعد وقتها.
ويرجع الكلام في ذلك إلى من كان عليه صلاة فائتة، وقد ضاق وقت الصلاة الحاضرة عن فعل الصلاتين، فأكثر العلماء على أنه يبدأ بالحاضرة فيما بقي من وقتها، ثم يقضي الفائتة بعدها؛ لئلا تصير الصلاتان فائتتين،(5/124)
وهو قول الحسن وابن المسيب وربيعة والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة، وأحمد في ظاهر مذهبه، وإسحاق وطائفة من أصحاب مالك.
وهؤلاء أوجبوا الترتيب، ثم أسقطوه بخشية فوات الحاضرة.
وكذلك قال الشافعي، فإنه لا يوجب الترتيب، إنما يستحبه، فأسقط هاهنا استحبابه وجوازه، وقال: يلزمه أن يبدأ بالحاضرة، ويأثم بتركه.
وقالت طائفة: بل يبدأ بالفائتة، ولا يسقط الترتيب بذلك، وهو قول عطاء والنخعي والزهري ومالك والليث والحسن بن حي.
وهو رواية عن أحمد، اختارها الخلال وصاحبه أبو بكر.
وأنكر ثبوتها القاضي أبو يعلى، وذكر أن أحمد رجع عنها.(5/125)
37 - باب
من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها
ولا يعيد إلا تلك الصلاة
وقال إبراهيم: من ترك صلاة واحدة عشرين سنة لم يعد إلا تلك الصلاة الواحدة.
يدخل تحت تبويب البخاري - رحمه الله - هاهنا مسألتان:
إحداهما.
أن من نسي صلاة، ثم ذكرها، فإنه يعيدها مرة واحدة، ولا يعيدها مرة ثانية.
وهذا قول جمهور أهل العلم.
وروي عن سمرة بن جندب، أنه يعيدها إذا ذكرها، ثم يعيدها من الغد لوقتها.
وق سبق عنه في النوم كذلك.
وروي مرفوعاً:
فخرج أبو داود من حديث أبي قتادة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهم لما قضى الصلاة التي نام عنها: (إذا سها أحدكم عن الصلاة فليصلها حين يذكرها، ومن الغد للوقت) .
وخرج الإمام أحمد من طريق حماد، عن بشر بن حرب، قال: سمعت سمرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من نسي صلاة فليصلها حين(5/126)
يذكرها، ومن الغد للوقت) .
خرجه الإمام أحمد.
وخرجه - أيضا - من طريق همام، عن بشر، عن سمرة، قال: أحسبه مرفوعاً - فذكره.
قال أحمد في رواية أبي طالب: هو موقوف.
يعني: أن رفعه وهم.
وبشر بن حرب، ضعفه غير واحد.
وخرجه البزار في (مسنده) من طريق أولاد سمرة، به، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمرنا إذا نام أحدنا عن الصلاة أو نسيها حتى يذهب حينها التي تصلى فيه أن نصليها مع التي تليها من الصلاة المكتوبة.
وفي إسناده يوسف السمتي، وهو ضعيف جداً.
وفيه: دليل على أنه لا يجب قضاؤها على الفور.
المسألة الثانية:
إذا نسي صلاةً، ثم ذكرها بعد أن صلى صلوات في مواقيتهن، فإنه يعيد تلك الصلاة المنسية وحدها.
وهذا هو معنى ما حكاه عن النخعي.
وهذا يبنى على أصل، وهو: أن ترتيب القضاء، هل هو واجب، أم لا؟ وفيه اختلاف، سيذكر في الباب الآتي - إن شاء الله تعالى.
ومذهب الشافعي: أنه مستحب غير واجب، وحكي رواية عن أحمد،(5/127)
وجزم بها بعض الأصحاب.
ومذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد - في المشهور عنه -: أنه واجب.
ثم اختلفوا:
فقال أبو حنيفة ومالك: يجب الترتيب فيما دون ست صلوات، ولا يجب في ست صلوات فصاعداً.
وقال أحمد: يجب بكل حال.
وحكى ابن عبد البر الإجماع على خلافه.
فمن قال: إنه غير واجب، قال: لا يجب الترتيب بين الصلوات الفوائت في القضاء، ولا بين الفائت والحاضر.
ومن قال: إنه واجب، فهل يسقط الترتيب عندهم بنسيان الثانية حتى يصلي صلوات حاضرة، أم لا يسقط بالنسيان؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه يسقط بالنسيان، وهو قول النخعي، كما ذكره البخاري عنه، وقول الحسن وحماد والحكم وأبي حنيفة والحسن بن حي، وأحمد في ظاهر مذهبه، وإسحاق.
والثاني: لا يسقط بالنسيان - أيضا -، فيعيد الفائتة وما صلى بعدها.
وحكي رواية عن أحمد، حكاها بعض المتأخرين عنه، والله أعلم بصحتها عنه.
وأماملك، فعنده: إن ذكر قبل أن يذهب وقت الحاضرة، وقد بقي منه قدر ركعة فصاعداً أعادهما، وإن بقي دون ذلك، أو كان الوقت قد(5/128)
ذهب بالكلية أجزأه.
وأماإن صلى الحاضرة، وعليه فائتة، وهو ذاكر لها:
فمن اشترط الترتيب أوجب قضاء ما صلاه وهو ذاكر للفائتة.
ومن لم يوجب الترتيب، لم يوجب سوى قضاء الفائتة.
ويحتمله كلام النخعي الذي حكاه عنه البخاري، ولكن روي عنه صريحاً خلافه.
فروى مغيرة، عن إبراهيم، قال: إذا ترك صلاة متعمداً عاد، وعاد كل صلاة صلاها بعدها.
فيكون الذي حكاه البخاري عنه محمولاً على حال النسيان، أو يكون عن النخعي روايتان.
وكان الإمام أحمد لشدة ورعه واحتياطه في الدين يأخذ في مثل هذه المسائل المختلف فيها بالاحتياط، وإلا فإيجاب سنين عديدة فيها صلاة واحدة فائتة في الذمة لا يكاد يقوم عليه دليل قوي.
والذي صح عن ابن عمر في ذلك، إنما هو في صلاة واحدة فائتة ذكرت مع اتساع وقت الحاضرة لهما، فلا يلزم ذلك أن يكون حكم الصلوات إذا كثرت أو تأخر قضاؤها حتى صلى صلوات كثيرة في أوقاتها كذلك.
وبهذا فرق أكثر العلماء بين أن تكثر الفوائت أو تقل.
ولم ير مالك إلا إعادة الصلاة التي وقتها باق خاصة، فإن إيجاب إعادة صلوات سنين عديدة لأجل صلاة واحدة فيه عسر عظيم، تأباه قواعد الحنيفية السمحة.
وقد أخبرني بعض أعيان علماء شيوخنا الحنبليين، أنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في منامه، وسأله عما يقوله الشافعي وأحمد في هذه المسائل: أيهما أرجح؟ قال: ففهمت منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه أشار إلى رجحان ما يقوله الشافعي - رحمه الله.(5/129)
ومما يدل على صحة ذلك: حديث عمران بن حصين، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: (لا ينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم) .
فهذا يدل على أن من عليه صلاة واحدة لم يأمره الله بأن يصلي زيادة عليها.
قال البخاري - رحمه الله -:(5/130)
597 - ثنا أبو نعيم وموسى بن إسماعيل، قالا: ثنا همام، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (من نسي صلاة فليصل إذا ذكر، [لا كفارة] لها إلا ذلك؛
{وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ) .
قال موسى: قال همام: سمعته يقول بعد: {?وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} .
وقال حبان: ثنا همام: ثنا قتادة: ثنا أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه.
هذا الحديث قد رواه جماعة عن همام، وجماعة عن قتادة.
وقد خرجه مسلم من طريق همام وأبي عوانة وسعيد والمثني، كلهم عن قتادة، عن أنس، وليس في رواية أحد منهم: التصريح بقول قتادة: (ثنا أنس) ، كما ذكر البخاري أن حباناً رواه عن همام.
وإنما احتاج إلى ذلك؛ لما عرف من تدليس قتادة.
ولفظ رواية سعيد، عن قتادة التي خرجها مسلم: (من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها(5/130)
إذا ذكرها) .
ولفظ حديث المثني، عن قتادة، عنده: (إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها) .
وقد دل الحديث على وجوب القضاء على النائم إذا استيقظ، والناسي إذا ذكر، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد.
وذكر ابن عبد البر أن محمد بن رستم روى عن محمد بن الحسن، أن النائم إذا فاته في نومه أكثر من خمس صلوات لا قضاء عليه، إلحاقاً للنوم الطويل إذا زاد على يوم وليلة بالإغماء، والمغمى عليه لا قضاء عليه عنده، ويكون الأمر عنده بالقضاء في النوم المعتاد، وهو ما تفوت فيه صلاة أو صلاتان أو دون خمس أو أكثر.
وأخذ الجمهور بعموم الحديث.
وقوله: (فليصل إذا ذكر) استدل به من يقول بوجوب قضاء الصلوات على الفور؛ وهو قول أبي حنيفة ومالك.
وأحمد يوجبه بكل حال، قلت الصلوات أو كثرت.
واستدلوا - أيضا -: بقوله: (لا كفارة لها إلا ذلك) .
وذهب الشافعي إلى أن القضاء على التراخي، كقضاء صيام رمضان، وليس الصوم كالصلاة عندهم، فإن الصيام لا يجوز تأخيره حتى يدخل نظيره من العام القابل والصلاة عندهم بخلاف ذلك.
واستدلوا - أيضا -: بتأخير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة حتى خرج من الوادي.
وفيه نظر؛ فإن ذلك تأخير يسير لمصلحة تتعلق بالصلاة، وهو التباعد عن موضع يكره الصلاة فيه.
وقد روي عن سمرة بن جندب، فيمن عليه(5/131)
صلوات فائتة، أنه يصلي مع كل صلاة صلاة.
وقد روي عنه - مرفوعاً.
خرجه البزار بإسناد ضعيف.
ولأصحاب الشافعي فيما إذا كان الفوائت بغير عذر في وجوب القضاء على الفور وجهان.
وحمل الخطأبي قوله: (لا كفارة لها إلا ذلك) على وجهين:
أحدهما: أن المعنى أنه لا يجوز له تركها إلى بدل، ولا يكفرها غير قضائها.
والثاني: أن المعنى أنه لا يلزمه في نسيانها كفارة ولا غرامة. قال: إنما عليه أن يصلي ما فاته.
وقد روي عن أبي هريرة - مرفوعاً -: (من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها) .
خرجه الطبراني والدارقطني والبيهقي من رواية حفص بن أبي العطاف.
واختلف عليه في إسناده إلى أبي هريرة.
وحفص هذا، قال البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث. وقال يحيى بن يحيى: كذاب.
فلا يلتفت إلى ما تفرد به.
وأماتلاوته قوله تعالى: {?وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}
وقد رواه(5/132)
قتادة - مرة -، فقال: {للذِكْرِى} ومرة، قال: {لِذِكْرِي} ، كما هي القراءة المتواترة.
وكان الزهري - أيضا - يقرؤها: {للذِكْرِى} .
وهذه القراءة أظهر في الدلالة على الفور؟ لأن المعنى: أدَّ الصلاة حين الذكرى، والمعنى: أنه يصلي الصلاة إذا ذكرها.
وبذلك فسرها أبو العالية والشعبي والنخعي.
وقال مجاهد: {?َأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} : أي تذكرني. قال: فإذا صلى عبد ذكر ربه.
ومعنى قوله: أن قوله: {?َأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} - أي: لأجل ذكري بها.
والصلاة إنما فرضت ليذكر الله بها، كما في حديث عائشة المرفوع: (إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله) .
خرجه الترمذي وأبو داود.
فأوجب الله على خلقه كل يوم وليلة أن يذكروه خمس مرار بالصلاة المكتوبة، فمن ترك شيئاً من ذكر الله الواجب عليه سهواً فليعد إليه إذا ذكره، كما قال تعالى:
{واذكر ربك إذا نسيت} [الكهف: 24] ، فقد أمره إذا نسي ربه أن يذكره بعد ذلك، فمن نسي الصلاة فقد نسي ذكر ربه، فإذا ذكر أنه نسي فليعد إلى ذكر ربه بعد نسيانه.
وأماترك الصلاة متعمداً، فذهب أكثر العلماء إلى لزوم القضاء له، ومنهم من يحكيه إجماعاً.
واستدل بعضهم بعموم قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اقضوا الله الذي له، فالله أحق بالقضاء) .(5/133)
واستدل بعضهم: بأنه إذا أمر المعذور بالنوم والنسيان بالقضاء، فغير المعذور أولى.
وفي هذا الاستدلال نظر؛ فإن المعذور إنما أمره بالقضاء لأنه جعل قضاءه كفارة له، والعامد ليس القضاء كفارة له؛ فإنه عاص تلزمه التوبة من ذنبه بالاتفاق.
ولهذا قال الأكثرون: لا كفارة على قاتل العمد، ولا على من حلف يميناً متعمداً فيها الكذب؛ لأن الكفارة لا تمحو ذنب هذا.
وأيضا؛ فإذا قيل: إن القضاء إنما يجب بأمر جديد، وهو ألزم لكل من يقول بالمفهوم، فلا دليل على إلزام بالقضاء؛ فإنه ليس لنا أمر جديد يقتضي أمره بالقضاء، كالنائم والناسي.
واستدل بعضهم للزوم العامد القضاء: بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر المجامع في رمضان عمداً بالقضاء.
كما خرجه أبو داود.
وهو حديث في إسناده مقال؛ تفرد به من لا يوثق بحفظه وإتقانه.
وأيضا؛ فيفرق بين من ترك الصلاة والصيام، ومن دخل فيهما ثم أفسدهما.
فالثاني عليه القضاء، كمن أفسد حجه، والأول كمن وجب عليه الحج ولم يحج، وإنما أمره أن يحج بعد ذلك؛ لأن الحج فريضة العمر.
ومذهب الظاهرية - أو أكثرهم: أنه لا قضاء على المتعمد.
وحكي عن عبد الرحمن صاحب الشافعي بالعراق، وعن ابن بنت الشافعي. وهو قول أبي بكر الحميدي في الصوم والصلاة إذا تركهما عمداً، أنه لا يجزئه(5/134)
قضاؤهما.
ذكره في عقيدته في آخر (مسنده) .
ووقع مثله في كلام طائفة من أصحابنا المتقدمين، منهم: الجوزجاني وأبو محمد البربهاري وابن بطة.
قال ابن بطة: أعلم أن للصلاة أوقاتاً، فمن قدمها على وقتها فلا فرض له من عذر وغيره، ومن اخرها عن وقتها مختاراً لذلك من غير عذر، فلا فرض له.
فجعل الصلاة بعد الوقت لغير عذر، كالصلاة قبل الوقت، وقال في كل منهما: (إنه ليس بفرض) - يريد: أنها تقع نفلاً في الحالين.
وقال البربهاري: الصلوات لا يقبل الله منها شيئاً إلا أن تكون لوقتها، إلا أن يكون نسياناً؛ فإنه معذور، يأتي بها إذا ذكرها، فيجمع بين الصلاتين إن شاء.
وقد نص الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: على أن المصلي لغير الوقت كالتارك للصلاة في استتابته وقتله، فكيف يؤمر بفعل صلاة حكمها حكم ترك الصلاة.
وروي عن طائفة من السلف، منهم: الحسن.
وحكى الخلاف في ذلك: إسحاق بن راهويه ومحمد بن نصر المروزي.
قال محمد بن نصر في (كتاب الصلاة) : إذا ترك الرجل صلاة(5/135)
مكتوبة متعمداً حتى ذهب وقتها فعليه قضاؤها، لا نعلم في ذلك خلافاً، إلا ما روي عن الحسن، فمن أكفره بتركها استتابه، وجعل توبته وقضاءها رجوعاً منه إلى الإسلام، ومن لم يكفر تاركها ألزمه المعصية، وأوجب عليه قضاءها.
وكان إسحاق يكفر بترك الصلاة، ويرى عليه القضاء إذا تاب، وقال: أخبرني عبد العزيز بن أبي رزمة، عن ابن المبارك، أنه سأله رجل عن رجل ترك صلاة أياماً، ثم ندم؟ قال: ليقض ما ترك من الصلاة. قال: ثم أقبل ابن المبارك علي، فقال: هذا لا يستقيم على الحديث.
قال إسحاق: يقول: القياس على الأصل أن لا يقضي، وريما بنى على الأصل، ثم يوجد في ذلك الشيء بعينه خلاف البناء، فمن هاهنا خاف ابن المبارك أن يقيس تارك الصلاة في الإعادة على ما جاء أنه قد كفر، فيجعله كالمشرك، ورأى أحكام المرتدين على غير أحكام الكفار، رأى قوم أن يورثوا المسلمين من ميرات المرتد، فأخذنا بالاحتياط، فرأى القضاء على تارك الصلاة عمداً، وكان يكفره إذا تركها عمداً حتى يذهب وقتها.
قال إسحاق: وأكثر اهل العلم على إعادة الصلاة إذا تاب من تركها، والاحتياط في ذلك، فأمامن مال إلى ما قال الحسن: إذا ترك(5/136)
صلاة متعمداً لا يقضيها، فهو كما قال ابن المبارك: الإعادة لا تستقيم على الحديث، ثم ترك القياس في ذلك، فاحتاط في القضاء.
قال إسحاق: ولقد قال بعض أهل العلم: إذا ارتد عن الإسلام، ثم أسلم أعاد كل صلاة تركها في ردته، وحجته: أن ارتداده معصية، ومن كان في معصية لم يجعل له من الرخصة شيء كالباغي وقاطع الطريق.
قلت: قد اعترف ابن المبارك وإسحاق بأن القياس أن تارك الصلاة إذا حكمنا بكفره أنه يكون مرتداً، ولا قضاء عليه، وإنما أوجبنا القضاء على المرتد احتياطاً.
وفي وجوب القضاء على المرتد لما فاته في مدة الردة قولان مشهوران للعلماء، هما روايتان عن أحمد.
ومذهب الشافعي وغيره: الوجوب.
وهذا الكلام من ابن المبارك وإسحاق يدل على أن من كفر تارك الصلاة عمداً كفره بذلك بمجرد خروج وقت الصلاة عليه، ولم يعتبر أن يستتاب، ولا أن يدعى إليها، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد وغيره من الأئمة - أيضا -، وعليه يدل كلام المتقدمين من أصحابنا كالخرقي، وأبي بكر، وابن أبي موسى.
ثم قال محمد بن نصر: فأماالمروي عن الحسن، فإن إسحاق ثنا، قال: ثنا النضر، عن الاشعث، عن الحسن، قال: إذا ترك الرجل صلاة(5/137)
واحدة متعمداً، فإنه لا يقضيها.
قال محمد بن نصر: قول الحسن هذا يحتمل معنيين:
أحدهما: أنه كان يكفره بترك الصلاة متعمداً، فلذلك لم ير عليه القضاء؛ لأن الكافر لا يؤمر بقضاء ما ترك من الفرائض في كفره.
والمعنى الثاني: أنه إن لم يكن يكفره بتركها، فإنه ذهب إلى أن الله عز وجل إنما افترض عليه أن يأتي بالصلاة في وقت معلوم، فإذا تركها حتى يذهب وقتها فقد لزمته المعصية؛ لتركه الفرض في الوقت المأمور بإتيانه به فيه، فإذا أتى به بعد ذلك، فقد أتى به في وقت لم يؤمر بإتيانه به فيه، فلا ينفعه أن يأتي بغير المأمور به، عن المأمور به.
قال: وهذا قول غير مستنكر في النظر، لولا أن العلماء قد اجتمعت على خلافه.
قال: ومن ذهب إلى هذا، قال في الناسي للصلاة حتى يذهب وقتها، وفي النائم - أيضا -: إنه لو لم يأتي الخبر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) ، لما وجب عليه في النظر قضاؤها - أيضا.
انتهى ما ذكره ملخصاً.
وقد اعترف بأن القياس يقتضي أنه لا يجب القضاء على من تركها متعمداً، فإنه إن كان كافراً بالترك متعمداً، فالقياس أن لا قضاء على الكافر، وإن كان مرتداً.
وإن لم يكن كافراً بالترك، فالقياس أنه لا قضاء بعد الوقت؛ لأن القضاء يحتاج إلى أمر جديد، وليس فيه أمر جديد، وإنما(5/138)
أمر بالقضاء من يكون القضاء كفارة له، وهو المعذور، والعامد لم يأت نص بأن القضاء كفارة له، بل ولا يدل عليه النظر؛ لأنه عاص آثم يحتاج إلى توبة، كقاتل العمد، وحالف اليمني الغموس.
وكيف ينعقد الإجماع مع مخالفة الحسن، مع عظمته وجلالته، وفضله وسعة علمه، وزهده وورعه؟
ولا يعرف عن أحد من الصحابة في وجوب القضاء على العامد شيء، بل ولم أجد صريحاً عن التابعين - أيضا - فيه شيئاً، إلا عن النخعي.
وقد وردت آثار كثيرة عن السلف في تارك الصلاة عمداً، أنه لا تقبل منه صلاة، كما روي عن الصديق - رضي الله عنه -، أنه قال لعمر في وصيته له: إن لله حقاً بالليل لا يقبله بالنهار، وحقاً بالنهار لا يقبله بالليل.
يشير إلى صلوات الليل والنهار.
وفي حديث مرفوع: (ثلاثة لا يقبل لهم صلاة) ، ذكر منهم: (الذي لا يأتي الصلاة إلا دباراً) - يعني: [بعد] فوات الوقت.
خرجه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو - مرفوعاً.
وفي إسناده ضعف.
ولكن مجرد نفي القبول لا يستلزم عدم وجوب الفعل، كصلاة(5/139)
السكران في مدة الأربعين، وصلاة الآبق والمرأة التي زوجها عليها ساخط.
فإن قيل: فقد قال تعالى: {فويل للمصلين ... . ساهون} [الماعون: 4، 5] ، وفسره الصحابة بإضاعة مواقيتها.
وكذا قال ابن مسعود في المحافظة على الصلاة: أي المحافظة على مواقيتها، وأن تركها كفر.
ففرقوا بين تركها وبين صلاتها بعد وقتها.
وقد أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصلاة خلف من أخبر أنه يضيع الصلاة ويصليها لغير وقتها، وهذا يدل على أن صلاتهم صحيحة.
وقد سئل عن الأمراء وقتالهم؟ قال: (لا، ما صلوا، وكانت على هذا الوجه) ، فدل على إجزائها.
قيل: السهو عن مواقيت الصلاة لا يستلزم تعمد التأخير عن الوقت الحاضر؛ فإنه قد يقع على وجه التهاون بتأخير الصلاة حتى يفوت الوقت - أحياناً - عن غير تعمد لذلك، وقد يكون تأخيرها إلى وقت الكراهة، أو إلى الوقت المشترك الذي يجمع فيه أهل الأعذار عند جمهور العلماء، وغيرهم على رأي طائفة من المدنيين.
وهذه الصلاة كلها مجزئة، ولا يكون المصلي لها كالتارك بالإتفاق.
وقد سئل سعيد بن جبير، عن قوله: {فويل للمصلين ... . ساهون} ؟ فدخل المسجد، فرأى قوماً قد أخروا الصلاة، لا يتمون ركوعاً ولا سجوداً، فقال: الذي سألتني عنهم هم هؤلاء.
وهذه الصلاة مثل الصلاة التي سماها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صلاة المنافقين) .(5/140)
وهكذا كانت صلاة الأمراء الذين أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصلاة خلفهم نافلة، فإنهم كانوا يؤخرون العصر إلى اصفرار الشمس، وربما أخروا الصلاتين إلى ذلك الوقت، وهو تأخير إلى الوقت المشترك لأهل الأعذار، وكغيرهم عند طائفة من العلماء.
فليس حكمهم حكم من ترك الصلاة؛ فإن التارك هو المؤخر عمداً إلى وقت مجمع على أنه غير جائز، كتأخير صلاة الليل إلى النهار، وصلاة النهار إلى الليل عمداً، وتأخير الصبح إلى بعد طلوع الشمس عمداً.
وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على أن نقص الفرائض يجبر من النوافل يوم القيامة.
فروى أبو هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، وإن انتقص من فريضته شيئاً قال الرب تبارك وتعالى: انظروا، هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة؟ ثم يكون سائر عمله على ذلك) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي - وهذا لفظه، وقال: حسن غريب - وابن ماجه.
وله طرق عن أبي هريرة، أشهرها: رواية الحسن، وقد اختلفوا عليه في إسناده إلى أبي هريرة:
فقيل: عن الحسن، عن(5/141)
أنس بن حكيم، عن أبي هريرة.
وقيل: عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة.
وقيل غير ذلك.
ورواه حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن يحيى بن يعمر، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه النسائي.
وقيل - بهذا الإسناد -: عن يحيى بن يعمر، عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه الإمام أحمد.
وهذا إسناد جيد.
وروي عن أبي هريرة من وجه آخر.
وروى حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن زرارة بن أوفى، عن تميم الداري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعنى حديث أبي هريرة.
خرجه أبو داود وابن ماجه.
وزرارة، قال الإمام أحمد: ما أحسبه لقي تميماً.(5/142)
وقد روي حديث أبي هريرة وتميم موقوفاً عليهما.
وقد خرج الإمام أحمد هذا المعنى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طريق الأشعث بن سليم، عن أبيه، عن رجل من بني يربوع، سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول ذلك.
وخرج - أيضا - من طريق ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج: سمعت رجلاً من كندة يقول: حدثني رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأنصار، أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (لا ينتقص أحدكم من صلاته شيئاً إلا أتمها الله من سبحته) .
وخرجه أبو القاسم البغوي بنحو هذا اللفظ من حديث عائذ بن قرط، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد روي هذا المعنى - أيضا -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حديث ابن عمر وابن عباس، وفي إسنادهما ضعف.(5/143)
واختلف الناس في معنى تكميل الفرائض من النوافل يوم القيامة:
فقالت طائفة: معنى ذلك أن من سها في صلاته عن شيء من فرائضها أو مندوباتها كمل ذلك من نوافله يوم القيامة، وأمامن ترك شيئاً من فرائضها أو سننها عمداً، فإنه لا يكمل له من النوافل؛ لأن نية النفل لا تنوب عن نية الفرض.
هذا قول عبد الملك بن حبيب المالكي وغيره.
وقالت طائفة: بل الحديث على ظاهره في ترك الفرائض والسنن عمداً وغير عمد.
واليه ذهب الحارث المحاسبي وغيره.
وهو قول طائفة من أصحابنا وابن عبد البر، إلا أنهم خصوه بغير العامد.
وحمله آخرون على العامد وغيره، وهو الأظهر - إن شاء الله تعالى.
وقولهم: (نية الفرض لا ينوب عنها نية النفل) إنما هو بالنسبة إلى أحكام تكليف العباد في الدنيا، فأمابالنسبة إلى فضل الله في الآخرة فلا؛ لأن فضله واسع لا حجر عليه، بل هو تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
مع أن في تأدية الفرائض بنية التطوع اختلافاً مشهوراً بين العلماء في الحج والصيام والزكاة، وكذا في الصلاة.
وأيضا؛ فقد حكينا فيما سبق في (كتاب الإيمان) عن سفيان، أن من نسي صلاة فدخل مع قوم يصلونها، وهو ينوي أنها تطوع، أنها تقع عن الفرض الذي عليه.
وقال أحمد بن أبي الحواري: قال لي الفريأبي: صل ركعتي الفجر في البيت، فإن مت قبل الفريضة أجزأتك من الفريضة.(5/144)
وروي عن بعض الصحابة، أنه دخل المسجد ولم يكن صلى الظهر، وإن الإمام يصلي العصر، فصلى معه وهو يظن أنها الظهر، فاعتد بها عن العصر، ثم صلى الظهر.
خرجه الجوزجاني.
واستدل الأولون بالأحاديث التي فيها: أن من ضيع بعض حدود الصلاة، أنه لا عهد له عند الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له.
ولا حجة في ذلك؛ لأن الله إذا شاء أن يغفر لعبد أكمل فرائضه من نوافله، وذلك فضل من عنده يفعله مع من يشاء أن يرحمه ولا يعذبه.
واستدلوا - أيضا - بما روى موسى بن عبيدة، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن علي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (مثل المصلي مثل التاجر، لا يخلص له ربحه حتى يأخذ رأس ماله، فكذلك المصلي لا يقبل له صلاة نافلة حتى يؤدي الفريضة) .
خرجه البزار والهيثم بن كليب في (مسنديهما) والإسماعيلي.
وموسى بن عبيدة، ضعيف جداً من قبل حفظه، وقد تفرد بهذا.
وخرج أبو الشيخ الأصبهاني من طريق أبي أمية، عن الحسن، عن(5/145)
أبي هريرة - مرفوعاً -: (من صلى المتكوبة فلم يتم ركوعها ولا سجودها، ثم يكثر من التطوع، فمثله كمثل من لا شف له حتى يؤدي رأس ماله) .
وأبو أمية، هو: عبد الكريم، متروك الحديث.
و (الشف) : من أسماء الأضداد، يكون بمعنى الزيادة، وبمعنى النقص.
وخرجه إسحاق بن راهويه في (مسنده) ، عن كلثوم بن محمد بن أبي سدرة، عن عطاء الخراساني، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (إذا صلى الرجل الصلاة المكتوبة، فلم يتم ركوعها ولا سجودها وتكبيرها والتضرع فيها، كان كمثل التاجر لا شف له، حتى يفي رأس ماله) .
وكلثوم، ضعفه ابن عدي وغيره. وعطاء، لم يسمع من أبي هريرة.
ومعنى هذه الأحاديث - إن صح منها شيء -: أن النوافل يكمل بها نقص الفرائض، فلا يسلم له شيء من النوافل حتى يكمل نقص الفرائض؛ ولهذا شبهه بالتاجر الذي [لا] يخلص له ربح حتى يستوفي رأس ماله، ويظهر هذا في المضارب بمال غيره، ولهذا يقول الفقهاء: إن ربحه وقاية لرأس المال.
ومن هنا؛ قال طائفة من السلف - منهم: ابن عباس وأبو أمامة -: إنما النافلة للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاصة.
يعنون: أن غيره تكمل فرائضه بنوافله، فلا يخلص له نافلة، فنوافله جبرانات لفرائضه.
وروى إسحاق بن راهويه في (مسنده) : ثنا عبد الل بن واقد: ثنا حيوة بن شريح، عن أبي الأسود، عن ابن رافع، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (من كان عليه من رمضان شيء، فأدركه رمضان ولم يقضه لم يتقبل منه، ومن صلى تطوعاً وعليه مكتوبة، لم يتقبل منه) .
عبد الله بن واقد، هو: أبو قتادة الحراني، تكلموا فيه.
وهذا غريب من حديث حيوة، وإنما هو مشهور من حديث أبن لهيعة.
وقد خرجه الإمام أحمد عن حسن الأشيب، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة،(5/146)
عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (من صام تطوعاً وعليه من رمضان شيء لم يقضه، فإنه لا يتقبل منه) .
ولم يذكر في حديثه: (الصلاة) .
وقد روي مرفوعاً.
وقال أبو زرعة: الصحيح المرفوع.
ونفي القبول لا يستلزم [نفي] الصحة بالكلية، وقد سبق ذكر ذلك غير مرة.
ويدل على ذلك: أن في تمام الحديث الذي خرجه الإمام أحمد: (من أدرك رمضان، وعليه من رمضان شيء لم يقضه لم يتقبل منه) ، ومعلوم أنه يلزمه قضاؤه بعد رمضان مع الإطعام.
ولا يعلم في لزوم القضاء خلاف، إلا عن ابن عمر من وجه فيه ضعف، والخلاف مشهور في وجوب الإطعام مع القضاء.
وقد نقل إبراهيم الحربي، عن أحمد، انه سئل عن حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا صلاة لمن عليه صلاة) ؟ قال: لا أعرف هذا اللفظ.
قال الحربي: ولا سمعت بهذا عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وهذا يدل على أن الحديث الذي خرجه إسحاق لا أصل له.(5/147)
وقد اختلف العلماء فيمن عليه قضاء رمضان: هل يجوز له أن يتنفل بالصيام قبل القضاء، أم لا؟ فيه قولان معروفان، هما روايتان عن أحمد.
وأكثر العلماء على جوازه، وروي عن طائفة من السلف المنع منه.
وقال هشام بن عروة، عن أبيه: مثل الذي يتطوع بالصوم وعليه قضاء رمضان، كمثل الذي يسبح وهو يخاف أن تفوته المكتوبة.
وكذلك لو كان عليه صلاة فائتة، فتطوع قبل قضائها، فإن كان التطوع بسنتها الراتبة، فهو جائز، بل يستحب عند جمهور العلماء، خلافاً لمالك، وقد سبق ذلك، وإن كان تطوعاً مطلقاً، فقال أصحابنا: لا يجوز؛ لأن القضاء عندهم على الفور، بخلاف قضاء رمضان؛ فإنه على التراخي حتى يتضايق وقته في شعبان.
وفي انعقاده - لو فعل - وجهان، وحكي روايتان.
ورجح بعضهم عدم الانعقاد، وحمل حديث تكميل الفرائض بالنوافل على السنن الرواتب، أو على من تطوع ونسي أن عليه فائتة.
والذين لا يرون على العامد القضاء بالكلية، لا يتصور هذه المسألة عندهم، لأنهم يقولون: ليس يلزمه قضاء بالكلية.(5/148)
38 - باب
قضاء الصلوات الأولى فالأولى(5/149)
598 - حدثنا مسدد: ثنا يحيى: ثنا هشام: ثنا يحيى - هو: ابن أبي كثير -، عن أبي سلمة، عن جابر، قال: جعل عمر [يوم الخندق] يسب كفارهم، فقال: ما كدت أصلي العصر حتى غربت الشمس. قال: فنزلنا بطحان، فصلى بعدما غربت الشمس، ثم صلى المغرب.
إنما في هذا الحديث ترتيب الفائتة مع الحاضرة، وأنه يقدم الفائتة على الحاضرة، ثم يصلي الحاضرة، وقد سبق هذا الحديث والكلام عليه.
وفي الباب: أحاديث في قضاء الفوائت وترتيبها، ليست على شرط البخاري، وكأنه أشار بالتبويب إليها، ولكنه اقتصر على حديث جابر؛ لما لم يكن في الباب على شرطه غيره.
وقد روي عن جابر من وجه ضعيف، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فوائت ورتبها.
فروى حماد بن سلمة، عن عبد الكريم أبي أمية، عن مجاهد، عن جابر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شغل يوم الخندق عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأمر بلالاً فأذن وأقام وصلى الظهر، ثم أمره فأذن وأقام وصلى العصر، ثم أمره فأذن وأقام فصلى المغرب، ثم أمره [فإذن] وأقام وصلى العشاء، وقال:(5/149)
(ما [على] وجه الأرض قوم يذكرون الله في هذه الساعة غيركم) .
خرجه البزار في (مسنده) .
وقال: لا نعلم رواه بهذا الإسناد، إلا مؤمل – يعني: عن حماد -، وقد رواه بعضهم، عن عبد الكريم، عن مجاهد، عن أبي عبيدة، عن عبد الله.
انتهى.
وعبد الكريم أبو أمية، متروك الحديث، مع أن البخاري حسن الرأي فيه.
وقد روى أبو الزبير، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، قال: قال عبد الله: إن المشركين شغلوا رسول الل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالاً، فأذن وأقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء.
خرجه الإمام أحمد من طريق هشيم، عن أبي الزبير.
وقال الترمذي: ليس بإسناده بأس، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله.
وخرجه النسائي من طريق هشام الدستوائي، عن أبي الزبير – ولم(5/150)
يذكر فيه: الأذان، وإنما ذكر الإقامة لكل صلاة، وزاد في آخره: قال: ثم طاف علينا، فقال: (ما على الأرض عصابة يذكرون الله غيركم) .
وكذا رواه الأوزاعي عن أبي الزبير، وفي حديث: حتى إذا كان قريباً من نصف الليل فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبدأ بالظهر فصلاها، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء بإقامة إقامة.
وخرجه أبو يعلي الموصلي من طريق يحيى بن أبي أنيسة – وهو ضعيف جداً -، عن زبيد الأيامي، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر في حديثه: الأذان والإقامة لكل صلاة.
وروى سعيد المقبري، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، قال: حبسنا يوم الخندق عن الصلاة، حتى كان بعد المغرب بهوي من الليل، حتى كفينا، وذلك قول الله عز وجل: {وكفى الله ... . عزيزاً} [الأحزاب: 25] . قال: فدعا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلالاً، فاقام صلاة الظهر، فصلاها وأحسن صلاتها، كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام العصر، فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام المغرب، فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء، فصلاها كذلك. قال: وذلك قبل أن ينزل الله في صلاة الخوف: {فرجالاً أو ركباناً} [البقرة: 239] .
خرجه الإمام أحمد – وهذا لفظه – والنسائي وابن خزيمة وابن(5/151)
حبان في (صحيحهما) .
وقد دلت هذه الأحاديث على أن من فاتته صلوات، فإنه يبدأ بالأولى فالأولى، هذا هو المشروع في قضائها بالاتفاق.
واختلف في الأذان والإقامة، ففي بعضها: أنه صلى كل صلاة بإقامة إقامة، من غير ذكر أذان. وفي بعضها: أنه أذن للأولى، وأقام لكل صلاة. وفي بعضها: أنه أذن وأقام لكل صلاة.
واختلف العلماء في ذلك، وقد سبق ذكر الاختلاف في الأذان للفائتة إذا كانت واحدة.
وأمامع تعدد الفوائت:
فمنهم من قال: يقيم لكل صلاة، ولا يؤذن، وهو قول الحسن والأوزاعي ومالك والشافعي في قول، وحكي رواية عن أحمد.
ومنهم من قال: يؤذن للأولى، ويقيم لكل صلاة، وهو قول أحمد وأبي ثور وداود وأحد أقوال الشافعي.
وله قول ثالث: إن أمل اجتماع الناس بالأذان أذن، وإلا اقتصر على الإقامة لكل صلاة.
وقال الثوري: ليس عليه في الفوائت أذان ولا إقامة.
وأماالترتيب، فقد ذكرنا أنه مستحب بالاتفاق.
واختلفوا: هل هو شرط لصحة الصلاة، أم لا؟(5/152)
فمذهب أحمد: أنه شرط، قلت الفوائت أو كثرت، وهو قول زفر.
ومذهب مالك وأبي حنيفة: يجب الترتيب فيها إن كانت خمساً فما دون، ولا يجب فيما زاد.
ومذهب الشافعي: أنه لا يجب الترتيب بحالٍ، وهو قول أبي ثور وداود، ورواية عن الأوزاعي.
وروي عن سمرة بن جندب ما يدل عليه.
وهؤلاء جعلوا ترتيب الصلوات في الأداء من ضرورة الوقت، فإذا فاتت فلا يجب فيها الترتيب، كمن عليه ديون منجمة، إذا أخرت إلى آخرها نجماً فلا يبالي بما قضى منها قبل الآخر، حتى لو قضى آخرها نجماً قبل الكل لجاز، وكصوم رمضان إذا فات، فإنه لا يشترط لقضائه ترتيب ولا موالاة، بل يجوز تفريقه وتتابعه.
واستدل بعض من أوجب الترتيب بما روى ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن يزيد، أن عبد الله بن عوف حدثه، عن أبي جمعة حبيب بن سباع – وكان قد أدرك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الأحزاب صلى المغرب، فلما فرغ قال: (هل علم أحد منكم أني صليت العصر؟) فقالوا: يا رسول الله، ما صليتها، فأمر المؤذن فأقام، وصلى العصر، ثم أعاد المغرب.
خرجه الإمام أحمد.
واستدل به بعض من يقول: لا يسقط الترتيب بالنسيان.
وحمله بعض من خالفه على أنه كان تذكر العصر في صلاة المغرب قبل أن يفرغ منها.(5/153)
وهذا حديث ضعيف الإسناد، وابن لهيعة لا يحتج بما ينفرد به.
قال ابن عبد البر: هذا حديث لا يعرف إلا عن ابن لهيعة، عن مجهولين، لا تقوم به حجة.
قلت: أماعبد الله بن عوف، فإنه الكناني، عامل عمر بن عبد العزيز على فلسطين، مشهور، روى عنه الزهري وجماعة.
وأمامحمد بن يزيد، فالظاهر أنه ابن أبي زياد الفلسطيني، صاحب حديث الصور الطويل، وقد ضعفوه.
وروى مالك في (الموطأ) ، عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يقول: من نسي [صلاة] فلم يذكرها إلا وراء الإمام، فإذا سلم الإمام فليصل الصلاة التي نسي، ثم يصلي بعدها الأخرى.
وقد روى عثمان بن سعيد الحمصي، عن مالك مرفوعاً.
ورفعه باطل -: ذكره ابن عدي.(5/154)
كذا روي عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر – مرفوعاً.
خرجه أبو يعلي الموصلي والطبراني والدارقطني.
وذكر عن موسى بن هارون الحافظ، أن رفعه وهم، وإنما هو موقوف.
وكذا قال أبو زرعة الرازي.
وأنكر يحيى بن معين المرفوع إنكاراً شديداً -: ذكره ابن أبي حاتم.
وقد اختلف من اشترط الترتيب للقضاء فيمن ذكر فائتة وهو يصلي حاضرة.
فقيل: يسقط عنه الترتيب في هذه الحال؛ لأن الحاضرة قد تعين إتمامها بالشروع فيها؛ لتضايق وقت الحاضرة.
وحكي عن الحسن وطاوس، وهو قول أبي يوسف، واختاره بعض أصحابنا؛ لأن الجماعة عندنا فرض.
وقيل: لا يسقط، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد.
وعلى هذا؛ فهل يبطل الحاضرة، أم يقطعها؟ على قولين.
أحدهما: أنه يقطعها – وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد -، إلا أن يكون مأموماً فيتمها كما قاله ابن عمر.
والثاني: يتمها نفلاً، وهو قول الليث والثوري وأحمد في رواية.(5/155)
فعلى هذا؛ إن قلنا: يصح ائتمام المفترض بالمتنفل صح ائتمام المأمومين به، وإلا فلا.
وذكر ابن عبد البر: أن مذهب مالك: أن المأموم يتم صلاته، ثم يصلي الفائتة، ثم يعيد الحاضرة، كما قاله ابن عمر.
قال: وعند مالك وأصحابه: لا يجب الترتيب في الفوائت بعد صلاة الوقت، إلا بالذكر، وجوب استحسان، بدليل إجماعهم على أن من ذكر فائتة في وقت حاضرة، أو صلوات يسيرة، أنه إن قدم العصر على الفائتة، أنه لا إعادة عليه للعصر التي صلاها، وهو ذاكر فيها للفائتة، إلا أن يبقى من وقتها ما يعيدها فيها قبل غروب الشمس.
قال: وهذا يدل على أن قولهم: من ذكر صلاة في صلاة فإنها تنهدم أو تفسد عليه، ليس على ظاهره، ولو كان على ظاهره لوجبت الإعادة عليه للعصر بعد غروب الشمس؛ لأن ما يفسد ويهدم حقيقة يعاد أبداً، وما يعاد في الوقت فإنه استحباب، فقضت على هذا الأصل.
قال: وقال أبو حنيفة: من ذكر فائتة، وهو في صلاة أخرى من الصلوات الخمس، فإن كان بينهما أكثر من خمس صلوات مضى فيما هو فيه، ثم صلى التي عليه، وإن كان أقل من ذلك، قطع ما هو فيه، وصلى التي ذكر، إلا أن يضيق وقتها، فيتمها، ثم يصلي الفائتة. انتهى.(5/156)
39 - باب
ما يكره من السمر بعد العشاء
(السامر) : من السمر، والجمع: السمار، والسامر هاهنا في موضع الجمع.
(السمر) : هو التحدث بالليل، وقوله تعالى: {مستكبرين به سامراً} [المؤمنون: 67] هو من السمر، ومعناه هنا: الجمع - أي: سماراً.
فسمار جمع، وسامر يكون مفرداً، وقد يراد به الجمع كما في الآية.(5/157)
599 - حدثنا مسدد: ثنا يحيى: ثنا عوف: ثنا أبو المنهال، قال: انطلقت مع أبي إلى أبي برزة الأسلمي، فقال له: حدثنا، كيف كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي المكتوبة؟ قال: كان يصلي الهجير – وهي التي تدعونها الأولى – حين تدحض الشمس، ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى أهله في أقصى المدينة والشمس حية، ونسيت ما قال في المغرب. قال: وكان يستحب أن يؤخر العشاء. قال: وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف أحدنا جليسه، ويقرأ من الستين إلى المائة.
قد سبق هذا في مواضع، وشرح ما فيه من مواقيت الصلاة، وذكر النوم قبل العشاء، ولم يبق من أحكامه غير ذكر الحديث بعد العشاء، وهو السمر.
وفي هذا الحديث: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكرهه، وقد ذكرنا فيما سبق حديث عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما نام قبل(5/157)
العشاء ولا سمر بعدها.
وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث عطاء بن السائب، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: جدب لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السمر بعد العشاء.
ومعنى (جدبه) : عابه وذمه -: قاله أبو عبيد وغيره.
ووهم من قال: أباحه لهم، كالطحاوي، وهو مخالف لما قاله أهل اللغة.
وهذا الحديث وهم عطاء بن السائب في إسناده؛ فقد رواه الأعمش ومنصور وابو حصين، عن أبي وائل، عن سلمان بن ربيعة، قال: جدب لنا عمر السمر.
وخالفهم عطاء بن السائب وعاصم، فقالا: عن أبي وائل، عن ابن مسعود، ثم اختلفا، فرفعه عطاء، ووقفه عاصم، ووهما في ذلك.
والصحيح: قول منصور والأعمش -: قاله أبو بكر الأثرم.
وذكر مسلم نحوه في (كتاب التمييز) ، وزاد: أن المغيرة رواه عن أبي وائل، عن حذيفة – من قوله.
قال: ولم يرفعه إلا عطاء بن السائب.
وأشار إلى أن رواية الأعمش وحبيب بن أبي ثابت وأبي حصين، عن أبي وائل، عن سلمان، عن عمر هي الصحيحة؛ لأنهم أحفظ وأولى بحسن الضبط للحديث.
وقد رويت كراهة السمر بعد العشاء عن عمر وحذيفة وعائشة وغيرهم.
ثم منهم من علل بخشية الامتناع من قيام الليل، روي ذلك عن(5/158)
عمر.
ومنهم من علل بأن الصلاة ينبغي أن تكون خاتمة الأعمال، فيستحب النوم عقيبها، حتى ينام على ذكر، ولا ينام على لغو.
وروي عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يسمر ما لم يوتر، فجعل الختم بالوتر يقوم مقام الختم بالصلاة المكتوبة.
وكانت عائشة تقول لمن يسمر: أريحوا كتابكم.
تعني: الملائكة الكاتبين.
ومتى كان السمر بلغو ورفث وهجاء فإنه مكروه بغير شك.
وفي (مسند الإمام أحمد) من حديث شداد بن أوس – مرفوعاً -: (من قرض بيت شعر بعد عشاء الآخرة لم يقبل له صلاة تلك الليلة) .(5/159)
40 - باب
السمر في الفقه والخير بعد العشاء
فيه حديثان:
الأول:
قال:(5/160)
600 - نا عبد الله بن صباح: نا أبو علي الحنفي: نا قرة بن خالد: أنتظرنا الحسن وراث علينا حتى قربنا من وقت قيامه، فجاء، قال: دعانا جيراننا هؤلاء، ثم قال: قال أنس: نظرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة، حتى كان شطر الليل يبلغه، فجاء فصلى لنا، ثم خطبنا، فقال: (ألا إن الناس قد صلوا، ثم رقدوا، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة) .
قال الحسن: وإن القوم لن يزالوا في خير ما انتظروا الخير.
قال قرة: وهو من حديث أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
معنى (راث) : أبطأ.
الثاني:(5/160)
601 - ثنا أبو اليمان: أبنا شعيب، عن الزهري، قال: حدثني سالم بن عبد الله بن عمر وأبو بكر بن أبي حثمة، أن عبد الله بن عمر قال: صلى(5/160)
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: (أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على وجه الأرض أحد) .
فوهل الناس في مقالة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة، وإنما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض) – يريد بذلك: أنها تخرم ذلك القرن.
(وهل) - بفتح الهاء -، قال الخطأبي: معناه: غلطوا وتوهموا، والوهل: الوهم، يقال: وهل إذا ذهب وهله إلى الشيء. انتهى.
وضبطه بعضهم (وهل) بكسر الهاء، وقال: معناه فزع ونسي، والوهل – بالفتح -: الفزع.
وقيل: معناه: وقع في وهله.
والأول أصوب: والله اعلم.
ومراد ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن من كان موجوداً في وقت قوله ذلك لا يبقى منهم أحد على رأس مائة سنة، فينخرم ذلك القرن، فظن بعضهم: أن مراده: أن الساعة تقوم بدون مائة سنة، وهو وهم ممن ظن ذلك، ولذلك أنكره علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – على من توهمه.
ومقصود البخاري بهذين الحديثين: الاستدلال على جواز الموعظة وذكر العلم بعد العشاء، وانه ليس من السمر المنهي عنه.
وقد كان ابن شبرمة وغيره من فقهاء الكوفة يسمرون في الفقه إلى أذان [الفجر] .
ونص الإمام أحمد على أنه لا يكره السمر في العلم.(5/161)
وروى قتادة، عن أبي حسان، عن عبد الله بن عمرو، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحدثنا عن بني إسرائيل حتى يصبح، ما يقوم إلا إلى عظم صلاة.
خرجه أبو داود.
وكذا رواه هشام الدستوائي وعمرو بن الحارث وسعيد بن بشير.
وخالفهم: أبو هلال، فرواه عن قتادة، عن أبي حسان، عن عمران بن حصين.
والقول: قول هشام ومن تابعه -: قاله الإمام أحمد وأبو حاتم وأبو بكر الأثرم.
وخرج الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن خزيمة في (صحيحه) من حديث علقمة، عن عمر بن الخطاب، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسمر مع أبي بكر في الأمر من أمر المسلمين، وأنا معهم.
قال الترمذي: حسن.
وقد قيل: إن علقمة لم يسمعه من عمر، وبينهما رجل -: قاله البخاري والأثرم.
ورجح الدارقطني: أنه ليس بينهما أحد.(5/162)
وفيه دليل على جواز السمر في مصالح المسلمين، وما يعود بنفعهم.
وقد روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أنه كان يسمر مع علي بن أبي طالب حتى يذهب ليل طويل.(5/163)
وكان ابن عباس يسمر عند معاوية.
وخرج ابن مسعود وأبو موسى من عند الوليد، وقد تحدثوا ليلاً طويلاً، فجاءوا إلى سدة المسجد، فتحدثوا حتى طلع الفجر.
وقد ذكر البخاري في أواخر (كتاب العلم) : (باب: السمر بالعلم) ، وقد سبق في موضعه، وذكرنا فيه زيادة هاهنا. والله أعلم.(5/164)
41 - باب
السمر مع الأهل والضيف(5/165)
602 - ثنا أبو النعمان: ثنا المعتمر بن سليمان: ثنا أبي: ثنا أبو عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: إن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقراء، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، وإن أربعة فخامس أو سادس) وإن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعشرة. قال: فهو أنا وأبي وأمي – ولا أدري هل قال: وامرأتي – وخادم بين بيتنا وبيت أبي بكر، وإن أبا بكر تعشى عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم لبث حتى صليت العشاء، ثم رجع فلبث حتى تعشى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجاء بعدما مضى من الليل ما شاء الله. قالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك – أو قال: ضيفك -؟ قال: أو ما عشيتيهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء، قد عرضوا فأبوا. قال: فذهبت أنا فاختبأت، قال: يا غنثر، فجدع وسب، وقال: كلوا لا هنيئاً. فقال: والله، لا أطعمه أبداً، وايم الله، ما كنا ناخذ من لقمة(5/165)
إلا ربا من أسفلها أكثر منها، حتى شبعوا، وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك، فنظر إليها أبو بكر فإذا هي كما هي أو أكثر. قال لامرأته: يا أخت بني فراس، ما هذا؟ قالت: لا وقرة عيني، لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات، فأكل منها أبو بكر، وقال: إنما كان ذلك من الشيطان – يعني: يمينه -، ثم أكل منها لقمة، ثم حملها إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأصبحت عنده، وكان بيننا وبين قوم عقد، فمضى الأجل، فعرفنا اثني عشر رجلاً، مع كل رجل منهم أناس، الله أعلم كم مع كل رجل، فأكلوا منها أجمعون – أو كما قال.
في هذا الحديث فوائد كثيرة:
منها: استحباب إيثار الفقراء بالشبع من الطعام ومواساتهم فيه، فلهذا أمر من كان عنده طعام اثنين أن يذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة أن يذهب بخامس – أو سادس -، وهذا شك من الراوي.
ولفظ مسلم في هذا الحديث: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثلاثة، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس – بسادس) - أو كما قال.
وهذا يدل على أن الراوي شك.
وفي (الصحيحين) ، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة) .(5/166)
وفي (صحيح مسلم) ، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية) .
وفي هذا إشارة إلى أن البركة تتضاعف مع الكثرة والاجتماع على الطعام.
وفي (سنن ابن ماجه) بإسناد ضعيف، عن عمر – مرفوعاً -: (كلوا جميعاً ولا تفرقوا؛ فإن البركة مع الجماعة) .
وخرج أبو داود وابن ماجه من حديث وحشي، أن أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: يا رسول الله، إنا نأكل ولا نشبع؟ قال: (فلعلكم تتفرقون؟) قالوا: نعم. قال: (فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه) .
ومعنى: (يكفي) : أنه يكتفي به، وإن لم يشبعه.
وكان عمر في عام الرمادة يدخل على أهل البيت من المسلمين مثلهم، ويقول: لن يهلك امرؤ وعنده نصف قوته.
فهذا مأخوذ من هذا الحديث. والله أعلم.
ومجئ أبي بكر بثلاثة، إن كان هو وامرأته وابنه فقط، فقد أتى بنظير(5/167)
عدتهم، وإن كانوا خمسة – على رواية الشك -، فقد صاروا ثمانية، وطعام الأربعة يكفي الثمانية.
وأخذ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشرة على قدر قوته على الإيثار، وما خصه الله به من الجود والكرم في اليسر والإعسار.
ومنها: أنه إذ أتى الأنسان بضيوف إلى منزله، فإنه يجوز له أن يكلهم إلى أهله وولده، ولا يحضر معهم في الأكل؛ فإن في ذلك كفاية إذا وثق من اهله وولده بالقيام بحقهم.
ومنها: اختصاص أبي بكر بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عشائه عنده، واحتباسه إلى أن يمضي ما شاء الله من الليل.
وقد سبق حديث عمر في سمر أبي بكر وعمر عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الباب الماضي.
وأماسب أبي بكر ولده؛ فظنه أنه قصر في حق ضيفه، ولم يقم به كما ينبغي.
ومعنى (جدع) – أي: قطعه بالقول الغليظ.
وأماقوله: (يا غنثر) ، فروي بوجهين – ذكرهما الخطأبي -:
أحدهما: (عنتر) بالعين المهملة، والتاء المثناة من فوق، وهما مفتوحتان.
قال الخطأبي: إن كانت هذه محفوظة، فالعنتر: الذباب -: قاله ثعلب.
سمي به لصوته؛ وكأنه حين حقره وصغره شبهه بالذباب.
والثاني: (غنثر) بالغين المعجمة المضمومة وبالثاء المثلثة -، فهو مأخوذ من الغثارة، وهي: الجهل، يقال: رجل أغثر وغنثر. والنون زائدة.(5/168)
ومنها: إثبات كرامات الأولياء وخرق العوائد لهم.
وهو قول عامة أهل السنة، ووافق على ذلك المعتزلة في زمن الأنبياء خاصة، كما جرى لأبي بكر في هذه القضية، وجعلوها من جملة معجزاتهم حينئذ.
والتحقيق: أنها من جملة معجزات الأنبياء على كل حال، وفي كل زمان؛ لأن ما يكرم الله بذلك أولياءه، فإنما هو من بركة اتباعهم للأنبياء، وحسن اقتدائهم بهم، فدوام ذلك لأتباعهم وخواصهم من جملة معجزاتهم وآياتهم.
ومنها: جواز الإهداء إلى الأخوان الطعام بالليل، مع العلم بأنهم قد تعشوا واكتفوا، وإن أدى ذلك إلى أن يبيت الطعام عندهم.
واستمرت هذه الآية في ذلك الطعام حتى أكل منه الجمع الكثير من الغد.
ومعنى: (عرفنا اثني عشر رجلاً) – أي: جعلناهم عرفاً.
وروي: (ففرقنا) .
ومنها: من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها، فإنه يأتي الذي هو خير، ولا تحرم عليه يمينه فعل ما حلف على الامتناع منه، وهذا قول جمهور العلماء.
وقد ثبت، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بأن يأتي الذي هو خير ويكفر، وكان في نفسه يفعل ذلك.
وقد قيل: إن اليمين تحرم المحلوف عليه تحريماً ترفعه الكفارة.
والصحيح: خلافه؛ لأنه يجوز الإقدام على فعل المحلوف قبل التكفير بالاتفاق، ولو كان محرماً لوجب تحليله بالكفارة قبله، كالظهار.
وفي (سنن أبي داود) هذا الحديث، قال: (ولم يبلغني كفارة) وهذا(5/169)
من قول بعض الرواة.
وهذا بمجرده لا ينفي أن يكون أبو بكر كفر عن يمينه، بل الظاهر – أو المجزوم به – انه كفرها.
وقد ثبت من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان أبو بكر إذا حلف على يمين لا يحنث، حتى نزلت آية الكفارة، فقال: لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير، وكفرت يميني.
كذا رواه يحيى القطان والليث والثوري وابن المبارك وغيرهم، عن هشام.
وخرجه البخاري في (صحيحه هذا) من رواية النضر بن شميل، عن هشام.
وخالفهم الطفاوي، فرواه عن هشام، عن أبيه، عن عائشة.
ورفعه وهم منه،(5/170)
والصحيح: كان أبو بكر -: كذا قاله البخاري والدارقطني.
وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة، قال: أعتم رجل عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم رجع إلى أهله، فوجد الصبية قد ناموا، فاتاه أهله بطعام، فحلف لا يأكل؛ من أجل صبيته، ثم بدا له فأكل، فأتي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[فذكر] ذلك [له] ، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأتها، وليكفر [عن] يمينه) .
ولعل هذا الرجل هو أبو بكر الصديق، وتكون الإشارة إلى هذا القصة، إلا أن حديث عبد الرحمن يدل على أنه لم يكن لأبي بكر صبية.
وقد ذهب قوم إلى أن من حلف على شيء فرأى غيره خيراً منه أنه يأتي الذي هو خير، ويكون ذلك كفارة يمينه، ولا يحتاج إلى كفارة بمال أو صوم.
وهذا معروف عن ابن المسيب والشعبي وسعيد بن جبير وسالم وعكرمة، وزاد عليه، فجعل من حلف بطلاق على معصية، أنه لا يفعل ما حلف عليه، ولا طلاق عليه.
وهذا شذوذ.
وروي أصل هذا عن ابن عباس.
وروي عنه مرفوعاً.(5/171)
خرجه ابن حبان في (صحيحه) .
ولا يصح رفعه.
وروى مالك بن يحيى بن عمرو بن مالك النكري، عن أبيه، عن جده، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها، فليأتها؛ فإنها كفارتها، إلا طلاقاً أو عتاقاً) .
خرجه ابن عدي.
وقال: هو غير محفوظ؛ تفرد به يحيى، عن أبيه.
ويحيى هذا، ضعفه ابن معين وغيره.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه متعددة، أنها كفارتها أن يأتي الذي هو خير، وفي أسانيدها كلها مقال.
والأحاديث الصحاح كلها تدل على أنه يكفر يمينه، قال ذلك أبو داود ومسلم في (كتاب التمييز) وغيرهما.
وكانت يمين أبي بكر ألا يأكل هذا الطعام في غضب، ولهذا قال: إنما ذلك من الشيطان –يعني: يمينه.
وفيه: دليل على انعقاد يمين الغضبان، كما حلف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غضبه ألا يحمل النفر من الأشعريين، ثم حملهم، وقال: (لا احلف على يمين، فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير) .(5/172)
وفي الحديث: جواز الحلف بقرة العين؛ فإن امرأة أبي بكر حلفت بذلك، ولم ينكره عليها.
وقرة عين المؤمن: هو ربه وكلامه وذكره وطاعته.
ومقصود البخاري من هذا الحديث: جواز السمر عند الأهل والضيف؛ فإن أبا بكر سمر عند أهله وضيفه لما رجع من عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بعد أن ذهب من الليل ما ذهب منه. والظاهر – أيضا -: أنه سمر عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي السمر عند الأهل: حديث ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى العشاء، ثم دخل بيته، فتحدث مع أهله ساعة.
وقد خرجه [البخاري] في موضع آخر.
وقد روي عن عائشة، أنها رأت قوماً يسمرون، فقالت: انصرفوا إلى أهليكم، فإن لهم فيكم نصيباً.
وهذا يلد على انها استحبت السمر عند الأهل لما فيه من المؤأنسة لهم، وهو من حسن العشرة.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يسمر مع بعض الوفود الذين يفدون عليه المدينة، وهو من نوع السمر مع الضيف.
فخرج أبو داود وابن ماجه من رواية عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلي الطائفي، عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن جده أوس بن حذيفة، قال: كنت في وفد(5/173)
ثقيف، فكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأتينا كل ليلة بعد العشاء، فيحدثنا قائماً على رجليه، حتى يتراوح بين رجليه، وأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه من قريش – وذكر الحديث.
وسئل أبو حاتم عن هذا الحديث، فقال: حديث أبي برزة أصح منه.
يعني: حديثه: كان يكره الحديث بعدها.
وروي الرخصة في السمر للمصلي والمسافر [..] خاصة.
خرجه الإمام أحمد من رواية خيثمة، عن رجل من قومه من قريش، عن عبد الله، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا سمر بعد الصلاة) – يعني: العشاء الآخرة - (إلا لمصل أو مسافر) .
قال ابن المديني: في إسناده انقطاع؛ لأن الرجل الذي لم يسمه خيثمة لا أدري هو من أصحاب عبد الله، أو لا؟ وقد روى خيثمة عن غير واحد من أصحاب عبد الله، منهم: سويد بن غفلة، وأرجو أن يكون هذا الرجل منهم.(5/174)
وقال الأثرم: هو حديث غير قوي؛ لأن في إسناده رجلاً لم يسم.
وقد أخذ به الإمام أحمد، فكره السمر في حديث الدنيا، ورخص فيه للمسافر.
وروي من وجه آخر بزيادة، من رواية ابن وهب، عن معاوية، عن أبي عبد الله الأنصاري، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا سمر إلا لثلاثة: مصل، أو مسافر، أو عروس) .
خرجه سمويه الأصبهاني الحافظ: نا عبد الله بن الزبير: نا ابن وهب – فذكره.
وخرجه بقي بن مخلد في (مسنده) : ثنا ابن مقلاص: ثنا ابن وهب: أخبرني معاوية، عن أبي حمزة، عن عائشة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت: ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نائماً قبل العشاء، ولا لاغياً بعدها، أماذاكراً فيغنم، أو نائماً فيسلم.
قال معاوية: وحدثني أبو عبد الله الأنصاري، عن زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت: السمر لثلاثة: لعروس، أو لمسافر، أو لمتهجد بالليل.(5/175)
وهذا موقوف على عائشة.
وأبو عبد الله وأبو حمزة، مجهولان.
وروى الحسين بن إسحاق التستري، عن أحمد، أنه سئل عن السمر بعد العشاء الآخر؟ قل: لا، إلا لمسافر أو مصل، فأماالفقه فأرجو أن لا يكون به بأس.
ونقل عبد الله بن أحمد، عن أبيه، أنه سئل عن الحديث [الذي] نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن النوم قبل العشاء، والحديث بعدها، والرجل يقعد مع عياله بعدما يصلي يتحدث ثم ينام: هل يحرج؟ قال: ينبغي أن يجتنب الحديث والسمر بعدها.
وهذا يدل على كراهة السمر مع الأهل - أيضا.
وقال سفيان الثوري: كان يقال: لا سمر بعد العشاء، إلا لمصل، أو مسافر. قال: ولا بأس أن يكتب الشيء، أو يعمل بعد العشاء.
وهذا يدل على أن سهر الأنسان في عمل يعمله وحده، من غير مسامرة لغيره، أنه لا كراهة فيه، بخلاف المسامرة والمحادثة. والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/176)
10 - كتاب الآذان
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - باب
بدء الأذان
وقول الله عز وجل: {وَإذا نَادَيْتُمْ إلى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 58] . وقول تعالى: {إذا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] .
يشير إلى أن الأذان مذكور في القرآن في هاتين الآيتين:
الأولى منهما: تشتمل النداء إلى جميع الصلوات؛ فإن الأفعال نكرات، والنكرة في سياق الشرط تعم كل صلاة.
والثانية منهما: تختص بالنداء إلى صلاة الجمعة.
وقد روى عبد العزيز بن عمران، عن إبراهيم بن أبي حبيبة، عن(5/177)
داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الأذان نزل على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع فرض الصلاة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ} .
هذا إسناد ساقط لا يصح.
وهذه الآية مدنية، والصلاة فرضت بمكة، ولم يصح أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بمكة جمعة. وقوله: {وَإذا نَادَيْتُمْ إلى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا} [المائدة: 58] مدنية - أيضا -، ولم يؤذن للصلاة بمكة.
والحديث الذي روي أن جبريل لما أم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أول ما فرضت الصلاة أمره أن يؤذن بالصلاة، قد جاء مفسراً في رواية أخرى، أنه يؤذن: الصلاة جامعة.
وقد سبق ذكره في أول " كتاب الصلاة".
وقد روي أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة أسري خرج ملك من وراء الحجاب فأذن، فحدثه ربه عز وجل والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسمع ذلك، ثم أخذ الملك بيد محمد فقدمه فأم أهل السماء، منهم آدم ونوح.
قال أبو جعفر محمد بن علي: فيومئذ أكمل الله لمحمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشرف على أهل السماء وأهل الأرض.
وقد خرجه البزار والهيثم بن كليب في " مسنديهما" بسياق مطول من طريق زياد بن المنذر أبي الجارود، عن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، عن علي.(5/178)
وهو حديث لا يصح.
وزياد بن المنذر أبو الجارود الكوفي، قال فيه الإمام أحمد: متروك. وقال ابن معين: كذاب عدو الله، لا يساوي فلساً. وقال ابن حبان: كان رافضياً يضع الحديث.
وروى طلحة بن زيد الرقي، عن يونس، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أسري به إلى السماء أوحى الله إليه الأذان، فنزل به، فعلمه جبريل.
خرجه الطبراني.
وهو موضوع بهذا الإسناد بغير شك.
وطلحة هذا، كذاب مشهور.
ونبهنا على ذلك لئلا يغتر بشيء منه.
وإنما شرع الأذان بعد هجرة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة، والأحاديث الصحيحة كلها تدل على ذلك.
والأذان له فوائد:
منها: أنه إعلام بوقت الصلاة أو فعلها.
ومن هذا الوجه هو إخبار بالوقت أو الفعل. ولهذا كان المؤذن مؤتمنا.
ومنها: أنه إعلام للغائبين عن المسجد؛ فلهذا شرع فيه رفع الصوت، وسمي نداءً؛ فإن النداء هو الصوت الرفيع.
ولهذا المعنى قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الله بن زيد: " قم فألقه على بلال؛ فإنه أندي صوتاً منك".(5/179)
ومنها: أنه دعاء إلى الصلاة؛ فإنه معنى قوله: " حي على الصلاة، حي على الفلاح".
وقد قيل: إن قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت: 33] الآية: نزلت في المؤذنين، روي عن طائفة من الصحابة.
وقيل في قوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43] : إنها الصلوات الخمس حين ينادي بها.
ومنها: أنه إعلان بشرائع الإسلام من التوحيد والتكبير والتهليل والشهادة بالوحدانية والرسالة.
خرج البخاري في هذا الباب حديثين:
الحديث [الأول] :
قال:(5/180)
603 - ثنا عمران بن ميسرة: ثنا عبد الوارث: ثنا خالد، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: ذكروا النار والناقوس، فذكروا اليهود والنصارى، فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة.
وخرجه البخاري في الباب الآتي، بلفظ آخر، وهو: " قال: لما كثر(5/180)
الناس وانتشروا في المدينة. قال: ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه، فذكروا أن يوروا ناراً أو يضربوا ناقوساً، فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة".
وخرجه مسلم - أيضا.
وهذا يدل على أن الأذان تأخر عن أول قدوم النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة حتى كثر الناس وانتشروا في المدينة ومن حولها، واحتاجوا حينئذ إلى تعليم وقت الصلاة بشيء يعرفونه معرفة تامة.
وقوله في هذه الرواية: " فذكروا اليهود والنصارى" - يعني: أنهم كرهوا النار والناقوس؛ لمشابهة اليهود والنصارى في أفعالهم.
ولا يعرف ذكر " النار" إلا في هذه الرواية، وإنما في أكثر الأحاديث ذكر الناقوس والبوق، وفي بعضها ذكر راية تنصب ليراها الناس.
وقد روي من حديث خالد، عن أبي قلابة ذكر الناقوس والبوق - أيضا.
خرجها ابن خزيمة في " صحيحه" والطبراني من رواية روح بن عطاء بن أبي ميمونة، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: كانت الصلاة إذا حضرت على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعى رجل إلى(5/181)
الطريق، فنادى: الصلاة الصلاة، فاشتد ذلك على الناس، فقالوا: لو اتخذنا ناقوساً يا رسول الله؟ قال: " ذلك للنصارى". قالوا: فلو اتخذنا بوقاً؟ قال: " ذلك لليهود". فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة.
وقال الطبراني: لم يروه - بهذا التمام - عن خالد إلا روح. انتهى.
وروح، متكلم فيه.
وفي حديث عبد الله بن زيد، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة.
خرجه أبو داود وغيره.
ويعضده: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء.
وفي رواية إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق لحديث عبد الله بن زيد، قال: لما أجمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يضرب بالناقوس لجمع الناس للصلاة، وهو كاره لموافقة النصارى.
وهذا يدل على أن الناس قد اجتمعوا على ذلك، ووافقهم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع كراهته له.(5/182)
وقوله: " فأمر بلال" لا يشك أن الآمر له هو رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما صرح به ابن عمر في حديثه الآتي.
قال الخطأبي: الأذان شريعة من الشرائع، والأمر المضاف إلى الشريعة في زمان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يضاف إلى غيره. قال: ومن زعم ان الآمر لبلال به أبو بكر فقد غلط؛ لأن بلالاً لم يقم بالمدينة بعد موت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما لحق بالشام أيام أبي بكر. أنتهى.
ولقد أبطل من زعم أن أمر بلال بالأذان تأخر إلى زمن أبي بكر، وأن مدة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلت عن أذان، وهذا لا يقوله من يعقل ما يقول.
ولعل هذا الزاعم إنما زعم أن أبا بكر أمر بابتار الإقامة بعد أن كانت على غير ذلك في زمن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وهذا في غاية البطلان - أيضا -، وإنما يحمل عليه الهوى والتعصب، وكيف يغير أبو بكر بعد موت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شريعته في إقامة الصلاة ويقره الناس على ذلك؟
والحديث صريح في أن أمر بلال بذلك كان في أول أمر الأذان، حيث كانوا يترددون فيما يحصل به إعلام الناس بوقت الصلاة، فيحنئذ أمر بلال بأن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، لا يحتمل الكلام غير هذا المعنى. والله اعلم.(5/183)
وقد خرج النسائي هذا الحديث من رواية عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بلالاً أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة.
ونقل عباس الدوري، عن ابن معين، قال: لم يرفعه إلا الثقفي.
وقد خرجه الدارقطني من طرق أخرى مصرحاً برفعه - أيضا - كما رواه الثقفي.(5/184)
الحديث الثاني:(5/185)
604 - ثنا محمود بن غيلان: ثنا عبد الرزاق: ثنا ابن جريج: أخبرني نافع أن ابن عمر كان يقول: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة، ليس ينادى لها، فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى. وقال بعضهم: بل بوقاً مثل قرن اليهود. فقال عمر: أولا تبعثون رجلاً منكم ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا بلال، قم فناد بالصلاة".
وخرجه مسلم من طريق عبد الرزاق وحجاج، كلاهما عن ابن جريج به، بنحوه.
والحديث صريح في أن المسلمين اول ما قدموا المدينة ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معهم لم يكونوا ينادون للصلاة، وإنما كانوا أولاً يتحينون الصلاة - يعني: يقدرون احيانها لياتوا إليها - والحين: الوقت والزمان -، ثم إنهم تشاوروا في ذلك وتكلموا فيه لما شق عليهم التحين، فربما كان منهم من يتقدم قبل الوقت، فيفوته ما كان يعمل، ومنهم من كان يتأخر فتفوته الصلاة.
وقد روى فليح، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى، عن معاذ، أن الناس كانوا يتحينون وقت الصلاة، فيصلون(5/185)
بغير أذان، فإذا حضرت الصلاة فمنهم من يدرك، وأكثرهم لا يدرك، فهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك - وذكر حديث عبد الله بن زيد بطوله -، فلما أهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه ذلك اجتمعوا فتشاوروا في امر يعلمون به وقت الصلاة ويجتمعون عليه في المسجد.
وفي هذا: دليل على استحباب التشاور في مصالح الدين والاهتمام بها، فلما تشاوروا أشار بعضهم بالناقوس كفعل النصارى، وأشار بعضهم بالبوق كفعل اليهود، فقال عمر: أولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة.
وهذا من إلهام عمر للحق ونطقه به، وقد كان كثيراً ما ينطق بالشيء فينزل الوحي بموافقته، وهذا مما نزل القرآن بتصويب قوله.
وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا بلال، قم فناد بالصلاة" يدل على ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل ما أشار به عمر دون غيره.
وأمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالنداء بالصلاة، يحتمل انه أمره أن ينادي في الطرقات: " الصلاة، الصلاة" كما تقدم في الحديث الذي خرجه ابن خزيمة، ويكون(5/186)
ذلك قبل ان يشرع الأذان. ويحتمل أنه أمره بالأذان، وهو اظهر.
ويحتمل أن عمر إنما أشار بذلك بعد أن رآه في منامه، ويدل عليه ما روي عن عمر، وعن ابن عمر –أيضا -:
أماالمروي عن عمر، فمن طريق سفيان بن وكيع: ابنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عمر، قال: ائتمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه حين قدموا المدينة: كيف يجعلون الأذان بالصلاة يجتمعون لها؟ فائتمروا بالناقوس. قال عمر: فرايت في المنام: لم تجعلون الناقوس بل أذنوا. فذهب عمر إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليخبره بالذي رأى، وقد جاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوحي بذلك، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "سبقك الوحي بذلك يا عمر". قال: فذهبت إلى الصلاة، فإذا بلال يهتف بالأذان.
خرجه الإسماعيلي في " مسند عمر".
وسفيان بن وكيع، فيه ضعف.
وهو مرسل.
وخرجه ابو داود في " المراسيل": ثنا أحمد بن إبراهيم: ثنا حجاج، عن ابن جريج: أخبرني عطاء، أنه سمع عبيد بن عمير يقول: ائتمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو وأصحابه، كيف يجعلون شيئاً إذا أرادوا جمع الصلاة اجتمعوا لها [به] ، فائتمروا بالناقوس، فبينما عمر يريد أن يبتاع خشبتين لناقوس إذ رأى عمر في المنام أن لا تجعلوا الناقوس، بل أذنوا بالصلاة، فذهب عمر إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليخبره بالذي رأى، وقد جاء الوحي بذلك، فما راع عمر إلا بلال يؤذن، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " سبقك بذلك الوحي"، حين(5/187)
أخبره عمر بذلك.
وقد روى مالك في " الموطا" عن يحيى بن سعيد، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أراد أن يتخذ خشبتين يضربهما ليجمع الناس للصلاة، فأري عبد الله بن زيد خشبتين في النوم، فقال: إن هاتين الخشبتين لنحو مما يريده رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقيل: ألا تؤذنون للصلاة، فأتى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين استيقظ، فذكر ذلك له، فأمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[بالآذان] .
وأماالمروي عن ابن عمر، فمن طريق عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استشار الناس لما يهمهم للصلاة، فذكروا البوق، فكرهه من أجل اليهود. ثم ذكروا الناقوس، فكرهه من أجل النصارى، فأري النداء تلك الليلة رجل من الأنصار - يقال له: عبد الله ابن زيد - وعمر بن الخطاب، فطرق الانصاري رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[ليلاً، فأمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] بلالاً فاذن به.
قال الزهري: وزاد بلال في نداء الغداة: " الصلاة خير من النوم" - مرتين -، فأقرها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال عمر: يا رسول الله؛ قد رأيت مثل الذي رأى، ولكنه سبقني.
خرجه ابن ماجه.(5/188)
وخرجه ابن سعد من طريق مسلم بن خالد: حدثني عبد الرحيم بن عمر، عن ابن شهاب - بإسناده، ومعناه.
وفي كون هذا الحديث محفوظاً عن الزهري بهذا الإسناد نظر؛ فإن المعروف: رواية الزهري، عن ابن المسيب - مرسلاً.
وروي عن الزهري، عن ابن المسيب، عن عبد الله بن زيد.
وحديث عبد الله بن زيد، قد روي من وجوه:
أحدها: رواية ابن إسحاق: حدثني محمد بن إبراهيم التيمي، عن محمد بن عبد الله بن زيد، عن أبيه - بسياق مطول -، وفيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما امر بعمل الناقوس طاف بعبد الله وهو نائم رجل يحمل ناقوساً، فقال له: يا عبد الله، أتبيع الناقوس؟ قال: فما تصنع به؟ قال: ندعوا به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قال: بلى، قال: تقول:
" الله أكبر"، فعلمه الأذان مثنى مثنى، والإقامة مرة مرة. فما اصبح اتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره، فقال له: " الرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت؛ فإنه أندى صوتاً منك". قال: فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه، وبلال يؤذن به. قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج يجر رداءه، ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله، لقد رأيت مثل ما رأى. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فلله الحمد".
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي، وصححه، وابن خريمة وابن حبان في " صحيحهما".
وحكى البيهقي أن الترمذي حكى في " علله" عن البخاري، أنه قال: هو عندي صحيح.(5/189)
وبه استدل الإمام أحمد، وعليه اعتمد.
وقال الخطأبي: قد روي هذا الحديث والقصة باسانيد مختلفة، وهذا الإسناد أصحها.
وحكى ابن خزيمة عن محمد بن يحيى الذهلي، أنه قال: ليس في أخبار عبد الله بن زيد في قصة الأذان خبر اصح من هذا؛ لأن محمد بن عبد الله سمعه من أبيه.
قال ابن خزيمة: خبر ابن إسحاق ثابت صحيح؛ لأن محمد بن عبد الله بن زيد سمعه من أبيه، وابن إسحاق سمعه من التيمي.(5/190)
كذا قال؛ وقد توقف البخاري في " تاريخه" في سماع محمد بن عبد الله ابن زيد من أبيه، فقال: عبد الله بن محمد بن عبد الله بن زيد، عن أبيه، عن جده، لم يذكر سماع بعضهم من بعض.
قال الحاكم: إنما ترك الشيخان حديث عبد الله بن زيد بهذا الإسناد؛ لتقدم موت عبد الله بن زيد، فقد قيل: إنه [استشهد بأحد] . وقيل: بعد ذلك بيسير. انتهى.
وعلى هذا؛ فجميع الروايات عنه مرسلة.
وخرج أبو داود من حديث أبي عمير بن أنس، عن عمومة له من الأنصار، قالوا: اهتم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للصلاة كيف يجمع لها الناس؟ فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رأوها أخبر بعضهم بعضاً، فلم يعجبه - وذكر الحديث بطوله، ورؤيا عبد الله بن زيد الأذان في منامه - قال: وكان عمر ابن الخطاب قد رآه قبل ذلك، فكتمه عشرين يوماً - وذكر بقية الحديث.
وخرج – أيضا - من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت(5/191)
ابن أبي ليلى يقول: ثنا أصحابنا، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لقد أعجبني ان تكون صلاة المسلمين واحدة، حتى لقد هممت أن أبث رجالاً في الدور، ينادون الناس بحين الصلاة، وحتى هممت أن آمر رجالاً يقومون على الآكام، ينادون المسلمين بحين الصلاة. قال: فجاء رجل من الانصار، فقال: يا رسول الله، إني لما رجعت لما رأيت من اهتمامك رأيت رجلا كان عليه ثوبان أخضران، فقام على المسجد فأذن، ثم قعد قعدةً، ثم قام فقال مثلها، إلا أنه يقول: " قد قامت الصلاة"، ولولا أن يقولوا لقلت إني كنت يقظاناً غير نائم. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لقد أراد الله خيراً، فمر بلالاً فيؤذن". قال: فقال عمر: إني قد رأيت مثل ما رأى، ولكني لما سبقت استحييت.
وخرجه - أيضا - من طريق المسعودي، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى، عن معاذ - فذكره.
ورواه حصين وغيره، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله ابن زيد.
وابن أبي ليلى، لم يسمع من معاذ، ولا من عبد الله بن زيد، فروايته عنهما منقطعة.
ورواية شعبة أصح.
وتابعه الأعمش، فرواه عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: ثنا أصحاب محمد، أن عبد الله بن زيد رأى الأذان في المنام - فذكره.
وهذا إسناد جيد متصل، وعدم تسمية الصحابة لا(5/192)
يضر؛ فإنهم كلهم عدول - رضي الله عنهم.
لكن اختلف على الأعمش، وروي عنه، عن عمرو، عن ابن أبي ليلى - مرسلاً.
وقال العقيلي: الرواية في هذا الباب فيها لين، وبعضها أفضل من بعض.
يشير إلى حديث عبد الله بن زيد ورؤية الأذان في منامه.
وعبد الله بن زيد هذا، هو: ابن عبد ربه الأنصاري، من الخزوج.
قال الترمذي: لا يصح له غير حديث الأذان.
وزعم ابن عيينة أنه صاحب " حديث الوضوء" عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، أنصاري من بني النجار، وهو عم عباد بن تميم.
وله أحاديث متعددة مرسلة، منها: عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، قالوا:(5/193)
كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يؤمر بالأذان ينادي منادي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الصلاة جامعة، فيجتمع الناس، فلما صرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالأذان، وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أهمه أمر الأذان، وأنهم ذكروا أشياء يجمعون بها الناس للصلاة - وذكر بقية الحديث، ورؤيا عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب -، ثم قال: قالوا: [وأذن بالأذان وبقي مناد في الناس: " الصلاة جامعة"، للأمر بحديث] ، وإن كان في غير وقت صلاة.
ففي هذه الرواية: أن الأذان كان بعد صرف القبلة إلى الكعبة، وكان صرف القبلة إلى الكعبة في السنة الثانية.
وقد روي ما يستدل به على أن الأذان إنما شرع بعد غزوة بدر بعد صرف القبلة بيسير.
ففي " المسند" وغيره عن حارثة بن مضرب، عن علي، قال: لما كان ليلة بدر وطلع الفجر نادى: " الصلاة عباد الله "، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد روى وكيع في " كتابه" عن هشام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: كان بدء الأذان إذا حضرت الصلاة نودي: " الصلاة الجامعة"، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لو اتخذتم ناقوساً أو كبراً" - الكبر - بفتحتين -: الطبل ذو الرأسين. وقيل: الطبل الذي له وجه واحد - فرأى ابن زيد في المنام رجلاً في يده عود، قال: ما تصنع به؟ قال: نتخذه ناقوساً،(5/194)
قال: أولا أدلك على ما هو خير من ذلك، إذا حضرت الصلاة قام أحدكم فيشهد أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وقد روي أنه زيد في الأذان كلمات، كما سبق عن الزهري، ان بلالاً زاد في أذان الفجر: "الصلاة خير من النوم" - مرتين -، فأقرها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد خرجه الإمام أحمد من طريق ابن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد ابن المسيب، عن عبد الله بن زيد - في سياق حديثه الطويل -، وقال في آخره: قال سعيد بن المسيب: فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر.
وخرجه ابن أبي شيبة، عن عبدة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن ابن المسيب، ولم يذكر فيه: " عبد الله بن زيد"، وجعله كله من رواية ابن المسيب.
والأشبه: أن ذكر زيادة بلال في آخر الحديث مدرجة من قول الزهري؛ كما سبق. ورواها معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن بلال.
خرجه من طريقه ابن ماجه.
وابن المسيب، لم يسمع من بلال - أيضا.
ورواها النعمان بن المنذر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.
ورواها صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.(5/195)
خرجه الطبراني من الطريقين.
ورواها يونس، عن الزهري، عن حفص بن عمر بن سعد المؤذن، قال: حدثني اهلي، أن بلالاً أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره.
ورواها شعيب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب - مرسلاً.
خرجه من الطريقين البيهقي.
والمرسل أشبه.
وخرج أبو داود في " مراسيله" من طريق يونس، عن ابن شهاب: أخبرني حفص بن عمر بن سعد المؤذن، أن بلالاً أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره.
وفي رواية له: عن حفص بن عمر بن سعد: حدثني اهلي، عن بلال.
وروى الحديث بطوله، بدون هذه الزيادة: أبو صالح، عن الليث، عن يونس، عن ابن شهاب: أخبرني سعيد بن المسيب - فذكره كله مرسلاً.
وكذا رواه معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب - مرسلاً.
وروي: أن عمر أمر بلالاً بزيادة الشهادة بالرسالة في الأذان.
خرجه ابن خزيمة في " صحيحه" والإسماعيلي، من رواية عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، أن بلالاً كان يقول إذا أذن: " أشهد ان لا إله الله، حي على الصلاة"، فقال عمر: قل في إثرها: " أشهد أن محمداً رسول الله"، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قل ما أمرك عمر".
عبد الله بن نافع، ضعيف جداً.(5/196)
2 - باب
الأذان مثنى مثنى(5/197)
605 - ثنا سليمان بن حرب: ثنا حماد بن زيد، عن سماك بن عطية، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: أمر بلال ان يشفع الأذان، ويوتر الإقامة، إلا الإقامة.(5/197)
606 - حدثني محمد - هو: ابن سلام -، قال: حدثني عبد الوهاب الثقفي: ثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك، قال: لما كثر الناس، قال: ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه، فذكروا أن يوروا ناراً، أو يضربوا ناقوساً، فأمر بلال ان يشفع الأذان، وأن يوتر الإقامة.
سماك بن عطية، قال: حماد: كان من جلساء أيوب، ومات قبل أيوب.
وقد تقدم أن عبد الوهاب الثقفي روى عنه هذا الحديث بالتصريح برفعه، وذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وكذا روي، عن ابن إسحاق، عن أيوب.
وكذا رواه خارجة بن مصعب، عن أيوب.
وروي مثله، عن الثوري، عن أيوب. وعن الثوري عن خالد الحذاء.(5/197)
والصحيح عن الثوري - كقول الجماعة -: " أمر بلال".
وقد تقدم أنه لا يشك في أن الآمر له هو النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومعنى قوله: " يشفع الأذان" أن يجعله شفعاً: مثنى مثنى.
ومعنى: "يوتر الإقامة" أن يجعلها وتراً، أي: فرداً فرداً.
والشفع ضد الوتر: فالوتر: الفرد، والشفع الزوج.
ولهذا فسر " الشفع" في الآية بالخلق؛ لأن الخلق كله زوج؛ قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات:49] ، وقال: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس: 36] .
وفسر" الوتر" بالله عز وجل؛ لأنه وتر يحب الوتر.
والمقصود بهذا الباب: أن كلمات الأذان شفع.
لكن اختلف في التكبير في اوله: هل هو تكبيرتان، أو أربع؟
وقد اختلفت في ذلك روايات عبد الله بن زيد في قصة المنام، وحديث أبي محذورة حيث علمه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأذان مرجعه من حنين، وأمره أن يؤذن لأهل مكة.
وقد خرج مسلم في " صحيحه" حديث أبي محذورة، وفي اوله: التكبير مرتين.
وخرج أبو داود وغيره حديث عبد الله بن زيد بالوجهين.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث أبي(5/198)
محذورة: ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة.
وإنما يكون الأذان تسع عشرة كلمة إلا إذا كان التكبير في أوله اربعاً.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود حديث عبد الله بن زيد، وفي أوله: أربع تكبيرات.
وأشار أبو داود إلى الاختلاف في ذلك، وخرج من حديث ابن أبي ليلى، عن معاذ التكبير في أوله مرتين.
وكذلك الشهادتان، ففي حديث عبد الله بن زيد: ان الشهادتين في الأذان أربع، وفي حديث أبي محذورة: أن الشهادتين ثمان مرات، يعيدها مرتين، وسمي الترجيع، وقد خرجه مسلم كذلك.
ولا اختلاف فيما بقي من الأذان بين أذان أبي محذورة وعبد الله بن زيد الذي ألقاه على بلال في الروايات المشهورة في " السنن" و" المسانيد"، وليس في الأذان كلمة إلا شفع غير كلمة التهليل في آخر [الأذان] .
وقد روي أن أبا محذورة كان يقدم التهليل على التكبير في آخر أذانه من وجه منقطع.
قال أبو نعيم في " كتاب الصلاة": ثنا عيسى بن المسيب، عن إبراهيم، قال: كان أبو محذورة يقول: " لا إله إلا الله، والله وأكبر"، وكان بلال يقول: " الله أكبر، الله اكبر، لا إله إلا الله"، بلال في السفر وأبو محذورة في الحضر.(5/199)
وهذا غريب، وعيسى فيه ضعف.
وقد ثبت عن أبي محذورة من وجهة عكس هذا، وأنه كان يختم أذانه بقوله: " الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله ".
وقد خرجه مسلم في " صحيحه".
وروي - أيضا - تأخير التكبير عن بلال من وجه فيه ضعف.
قال أبو نعيم في " كتاب الصلاة": ثنا زهير، عن عمران بن مسلم، قال: أرسلني سويد بن غفلة إلى مؤذنا، فقال: قل له يختم أذانه بـ " لا إله إلا الله والله أكبر"؛ فإنه أذان بلال.
وروى أبو نعيم بإسناد ضعيف مثل ذلك عن ابن عمر، وعن مؤذن علي بن أبي طالب، وعن أبي جعفر محمد بن علي.
وروي عن أبي يوسف، أن الأذان على أذان بلال المعروف، وأنه يزاد في آخره
: " والله أكبر"، يختم بذلك.
والأحاديث الصحيحة تدل على أن آخر الأذان: " الله أكبر، لا إله إلا الله"، وبه يقول جمهور العلماء من المتقدمين والمتأخرين.
وخرج النسائي من رواية الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن بلال، قال: آخر الأذان: " الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".
وفي رواية: " كان آخر أذان بلال" –مثل ذلك.
وكذا رواه منصور وغيره، عن إبراهيم.(5/200)
ورواه حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، أن بلالاً كان يبدأ بالتكبير ويختم بالتكبير.
وهذا وهم.
وروى محارب بن دثار، قال: حدثني الأسود بن يزيد، عن أبي محذورة، حدثه أن آخر الأذان: " لا إله إلا الله".
خرجه النسائي.
واختلفوا في عدد التكبير في أوله:
فقالت طائفة: أربع، وهو قول أبي حنيفة والثوري والحسن بن صالح وعبيد الله بن الحسن والشافعي وأحمد وإسحاق.
وقالت طائفة: التكبير في أوله تكبيرتان، وهو قول مالك والليث من سعد، ورواية عن أبي يوسف. وقيل: إنه رجع عنها.
واختلفوا في الترجيع - وهو تكرير الشهاداتين -:
فذهب إليه مالك والشافعي وأصحابهما.
واختلف أصحاب الشافعي: هل هو ركن في الأذان فلا يصح بدونه،(5/201)
أو سنة فيصح؟ والصحيح عندهم انه سنة. ونقل عن نص الشافعي خلافه.
وذهب الكوفيون إلى ترك الترجيع، وهو قول الأوزاعي.
وقال أحمد وإسحاق وأبو بكر بن أبي شيبة وداود وابن خزيمة وغيرهم: يجوز الأمران؛ لصحة الأحاديث بهما.
والأفضل عندهم ترك الترجيع؛ لأنه أذان بلال.
قيل لأحمد: أليس أذان أبي محذورة بعده؟ قال: بلى، ولكن لما رجع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة أقر بلالاً على أذانه.
ووافقه إسحاق على ذلك.
وقال الجوزجاني: الترجيع افضل؛ لأنه آخر الأمرين:
وروي عن أهل البصرة في صفة الأذان غير ما تقدم.
روى حجاج بن منهال: ثنا يزيد بن إبراهيم، أنه سمع الحسن وابن سيرين يصفان الأذان: " الله اكبر الله اكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد ان لا إلا إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح"، يسمع بذلك من حوله، ثم يرجع فيمد صوته، ويجعل إصبعيه في أذنيه، فيقول: " اشهد أن لا إله إلا الله - مرتين - أشهد أن محمداً رسول الله – مرتين - حي على الصلاة - مرتين - حي على الفلاح - مرتين - الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".
خرجه ابن عبد البر.
روي عنهما على وجه آخر:
خرجه ابن أبي شيبة في " كتابه"، فقال:(5/202)
ثنا إبن عليه، عن يونس، قال: كان الحسن يقول: " الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح" ثم يرجع فيقول: " الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الفلاح - مرتين - الله اكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".
قال: وحدثنا ابن عليه، عن ابن عون، عن محمد - يعني: ابن سيرين -، قال: كان الأذان أن يقول: الله أكبر الله أكبر، اشهد ان لا إله إلا الله، أشهد أن لا اله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، اشهد ان محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر".
قال: وحدثنا ابن عليه: ثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان أذان ابن عمر: " الله أكبر الله أكبر، شهدت أن لا إله إلا الله، شهدت أن لا إله إلا الله
– ثلاثاً - شهدت أن محمداً رسول الله، شهدت أن محمداً رسول الله، شهدت أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة - ثلاثاً -، حي على الفلاح - ثلاثاً - الله اكبر - أحسبه قال: لا إله إلا الله.
قال: وثنا عبدة: ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يجعل آخر أذانه: " الله اكبر الله اكبر، لا إله إلا الله ".(5/203)
قال: وثنا يزيد بن هارون: أبنا سليمان التيمي، عن حبيب بن قيس، عن ابن أبي محذورة، عن أبيه، أنه كان يؤذن فيخفض صوته بالأذان - مرة مرة -، حتى إذا انتهى إلى قوله: " أشهد أن محمداً رسول الله " رجع إلى قوله: " أشهد أن لا إله إلا الله "، فرفع بها صوته - مرتين مرتين - حتى إذا انتهى إلى: " حي على الصلاة"قال: " الصلاة خير من النوم"، في الأذان الأول من الفجر.
وهذه الصفة تخالف [ما رواه] الحجازيون من أذان أبي محذورة، ورواياتهم عنه أولى.
وعلى هذا – والذي قبله -؛ فيكون الأذان وتراً لا شفعاً.
وروى وكيع في " كتابه" عن أبي المعتمر، عن ابن سيرين، عن ابن عمر، أنه مر على مؤذن، فقال له: أوتر أذانك.
وعن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: لا بأس إذا بلغ " حي على الصلاة، حي على الفلاح" أن يقولها مرة.
ولعل هذا في الاقامة. وكذلك خرجها وكيع في " باب: من افرد الإقامة".
قال ابن أبي شيبة: وثنا أبو أسامة: ثنا عبيد الله، عن نافع، قال: كان ابن عمر ربما زاد في اذانه: " حي على خير العمل".(5/204)
وثنا أبو خالد، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، انه كان يقول في أذانه: " الصلاة خير من النوم". وربما قال: " حي على خير العمل".
ثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه ومسلم بن أبي مريم، أن علي ابن حسين كان يؤذن، فإذا بلغ " حي على الفلاح" قال: " حي على خير العمل"، ويقول: هو الأذان الأول.
وقال البيهقي: روي ذلك عن أبي أمامة.
ثم خرج بإسناده من حديث أولاد سعد القرظ، عن آبائهم، عن بلال، أنه كان ينادي بالصبح، فيقول: " حي على خير العمل"، فأمره النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجعل مكانها: " الصلاة خير من النوم"، ويترك" حي على خير العمل".
ثم قال: هذه اللفظة لم تثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيا علم بلالا وابا محذورة، ونحن نكره الزيادة فيه. وبالله التوفيق.(5/205)
3 - باب
الإقامة واحدة، إلا قوله: " قد قامت الصلاة"(5/206)
607 - ثنا علي بن عبد الله: ثنا إسماعيل بن إبراهيم: ثنا خالد، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: أمر بلال أن يشفع الأذان، وأن يوتر الإقامة.
قال إسماعيل: فذكرت لأيوب فقال: إلا الإقامة.
قد تقدم هذا الحديث من حديث خالد وأيوب، عن أبي قلابة.
وقول أيوب: " إلا الإقامة"، مراده: أن الحديث فيه هذه اللفظة، ولكن لم يذكر سندها، وقد ذكر سندها عنه سماك بن عطية - على ما تقدم في الباب الذي قبله -، وأن أيوب رواها عن أبي قلابة، عن أنس.
وقد تابعه - أيضا - معمر، عن أيوب.
خرج حديثه الإسماعيلي في " صحيحه" من حديث عبد الرزاق: أبنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: كان بلال يثني الأذان ويوتر الإقامة، ويقول: " قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة" - مرتين.
وفي رواية له - أيضا قوله: " قد قامت الصلاة".
وفي الباب: عن ابن عمر من رواية شعبة، عن أبي جعفر مؤذن مسجد العريان، قال: سمعت أبا المثنى مؤذن مسجد الأكبر يقول: سمعت ابن عمر قال: إنما كان الأذان على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرتين مرتين، والإقامة(5/206)
مرة مرة، غير أنه يقول: "قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة" فإذا سمعنا الإقامة توضأنا، ثم خرجنا إلى الصلاة.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في " صحيحهما" والحاكم، وصححه.
وقال: أبو جعفر، هو: عمير بن يزيد الخطمي.
ووهم في ذلك، إنما هو: أبو جعفر محمد بن إبراهيم مسلم بن أبي المثنى، وقد ينسب إلى جده مسلم أبي المثنى، وثقه ابن معين وابن حبان. وقال: ابن معين - مرة -: لا بأس به.
كذا ذكره ابن حبان وأبو أحمد الحاكم وابن عقدة والدارقطني وغيرهم.
وفرق بينهما غير واحد، منهم: مسلم في " كتاب الكنى"، وذكر أبا جعفر هذا ممن لا يعرف اسمه. وأن محمد بن إبراهيم يكنى أبا إبراهيم.
وكذا ذكر ابن أبي حاتم أن أبا جعفر هذا ليس هو محمد بن إبراهيم بن مسلم، بل قال في ذلك: " يكنى أبا إبراهيم"، وقال في أبي(5/207)
جعفر هذا: " سئل أبو زرعة عنه فقال: هو كوفي لا أعرفه إلا في هذا الحديث".
قال: " وقلت لأبي: روى عيس بن يونس عن شعبة، فقال: عن أبي جعفر القاري؟ فقال: أخطأ عيس بن يونس، ليس هذا أبو جعفر القاري، هذا كوفي، والقاري مديني". انتهى.
ورواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن أبي جعفر - وليس بالفراء.
وكذا قال أبو حاتم الرازي: ليس بالفراء.
وخرجه البيهقي من طريق أبي النضر، عن شعبة، عن أبي جعفر - يعني: الفراء.
كذا قال، وهو من ظن بعض الرواة، وليس هذا بالفراء، الفراء اسمه: كيسان أو سلمان، وهو غير هذا.
قال البيهقي: ورواه غندر وعثمان بن جبلة، عن شعبة، عن أبي جعفر المديني.
قلت: هذا يوافق قول الحاكم: أنه أبو جعفر الخطمي الأنصاري.
وقال الحافظ أبو نعيم: أبو جعفر، اسمه: مسلم.
كذا رأيته ذكره في " الحلية"، وليس بشيء، إنما مسلم هو شيخه أبو المثنى.
وخرجه الإمام أحمد، عن حجاج: حدثنا شعبة، قال: سمعت أبا جعفر مؤذن مسجد بني العريان في مسجد بني بلال يحدث، عن مسلم أبي المثني مؤذن مسجد الجامع - فذكر هذا الحديث.
وأماأبو المثنى فاسمه: " مسلم"، ويقال: " مهران" -: ذكره مسلم بن الحجاج(5/208)
في "كتاب الكنى"، وفي تسميته اختلاف وهو مؤذن مسجد الكوفة.
وهو عند ابن معين وابن عقدة: والد أبي جعفر -: نقله عنه عباس الدوري.
وهو عند الدارقطني وابن حبان: ابن ابنه.
وعند أبي زرعة ومسلم وابن أبي حاتم: أنه ليس بينهما نسب.
وثقه أبو رزعة وابن حبان. وقال الدارقطني: لا بأس به.
وقد روى هذا الحديث إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي المثنى، فخالف شعبة في رفعه ووقفه.
ذكره البخاري في " تاريخه"، وقال: قال وكيع، عن ابن أبي خالد، عن المثنى - أو أبي المثنى -، عن ابن عمر، قال: إذا قمت فاجعلها واحدة.
وقال عارم: ثنا عبد العزيز بن مسلم، عن إسماعيل، عن المثنى، عن أبيه، عن ابن عمر - مثله. انتهى ما ذكره.
وفي رواية عبد العزيز، عن إسماعيل: زيادة رجل، وهو المثنى.
وقال ابن معين: إسماعيل بن أبي خالد يروي عن أبي المثنى الكوفي، وهو هذا – يعني: الذي روى عنه شعبة.
وخرج ابن أبي شيبة في " كتابه": ثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن أبي المثنى، عن ابن عمر، قال: كان بلال يشفع الأذان ويوتر الإقامة.
وهذا في معنى رفع الحديث، كما رواه شعبة.(5/209)
قال: وثنا عبدة، عن إسماعيل، عن أبي المثنى، أن ابن عمر كان يأمر المؤذن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، ليعلم المار الأذان من الإقامة.
وقد رواه الإمام أحمد - فيما رواه عنه ابنه عبد الله في " كتاب العلل" -، عن وكيع كما ذكره البخاري.
ورواه أحمد - أيضا -، عن محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن المثنى، عن ابن عمر - مثله.
وعن محمد بن يزيد، عن حجاج، عن أبي المثنى، عن ابن عمر - نحوه.
وذكر - أيضا – حديث شعبة، عن أبي جعفر المتقدم.
وروى أحمد - أيضا -، عن وكيع، [عن الثوري] ، عن أبي جعفر المؤذن، عن [أبي] سلمان، عن أبي محذورة.(5/210)
وعن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان - أيضا.
قال عبد الرحمن: ليس هو الفراء - يعني: أبا جعفر.
وهذا إشارة إلى اختلاف آخر على أبي جعفر، عن أبي محذورة، أنه كان إذا بلغ: " حي على الفلاح" في الفجر، قال: " الصلاة خير من النوم" - مرتين.
وخرجه أبو نعيم في " كتاب الصلاة" عن سفيان، عن أبي جعفر الفراء - فذكره بمعناه.
وقد تقدم ان أبا جعفر ليس بالفراء، بل هو المؤذن.
وخرجه النسائي من طرق عن سفيان، ولفظ حديثه: عن أبي محذورة، قال: كنت أؤذن للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكنت أقول في أذنان الفجر الأول: " حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".
وقال: أبو جعفر ليس بالفراء.
وقد روي عن أبي محذورة: الأذان مثنى مثنى، والإقامة مرة مرة من طرق غير قوية.
وروي عنه، ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمه الإقامة مثنى مثنى.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث(5/211)
همام، عن عامر الأحول، عن مكحول، عن ابن محيريز، عن أبي محذورة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة.
وصححه الترمذي.
وخرجه مسلم من رواية هشام الدستوائي، عن عامر، ولم يذكر فيه الإقامة، ولا عدد كلمات الأذان، بل ذكره مفصلاً، والتكبير في أوله مرتين.
وفي رواية: تمام التكبير في أوله أربعاً.
واختلف العلماء في صفة الإقامة على أقوال:
أحدها: انها فرادى سوى التكبير فإنه مرتين في أولها وآخرها، وهذا قول مالك والليث والشافعي في القديم.
وممن روي عنه الأمر بإفراد الإقامة: ابن عمر وسلمة بن الأكوع وعطاء والحسن وعمر بن عبد العزيز وعروة، ومكحول والزهري، وقالا: مضت السنة بذلك.
وقال بكير بن الأشج: أدركت أهل المدينة على ذلك.
والقول الثاني: أنه تفرد الإقامة سوى التكبير، وكلمة الإقامة فإنها تثنى، وهو المشهور من مذهب الشافعي وقول أحمد وإسحاق. وروي عن الحسن ومكحول والزهري والأوزاعي.
وللشافعية وجه - ومنهم من حكاه قولاً -: أنه يفرد التكبير - أيضا - في أول الإقامة وآخرها، مع إفراد لفظ الإقامة.
ولهم قول آخر: انه يفرد التكبير في آخرها خاصة، مع لفظ الإقامة.
والثالث: أن الإقامة كالأذان مثنى مثنى؛ لحديث أبي محذورة.(5/212)
وروي - أيضا - من حديث ابن أبي ليلى، عن معاذ وعن بلال وعن أصحاب محمد، كما سبق ذكر الاختلاف عنه.
وهو قول الكوفيين: النخعي والثوري والحسن بن صالح وأبي حنيفة وأصحابه وأبي بكر بن أبي شيبة، وهو قول مجاهد وابن المبارك.
وروي عن علي، وذكره حجاج بن أرطاة، عن أبي إسحاق، عن أصحاب علي وابن مسعود.
وروي - أيضا - عن سلمة بن الأكوع.
وقال النخعي: لا بأس إذا بلغ " حي على الصلاة"، حي على الفلاح" أن يقولها مرة مرة.
ولو أن الأذان يؤذن فأقام، فقال النخعي والشعبي: يعيد الأذان.
وقال الثوري: يجعل إقامته إذا قام [000] .
ومذهب مالك: أنه يعيد الأذان؛ لكنه يرى الإقامة فرادى.
والرابع: أنه يجوز تثنية الإقامة وإفرادها، والإفراد أفضل، وهو قول أحمد وإسحاق وداود الظاهري وجماعة من فقهاء أهل الحديث؛ لورود الحديث بذلك كله.
وكذا قال ابن خزيمة؛ لكنه قال: يجوز الترجيع في الأذان مع تثنية الإقامة، وتثنية الأذان بغير ترجيع مع إفراد الإقامة.
فأماتثنية الأذان من غير ترجيع وتثنية الإقامة، فلم يصح ذلك عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والخامس: إن أذان وأقام أفرد الإقامة، وإن صلى وحده، وإن اقتصر على الإقامة ثناها لتكون له تأذينا، روي ذلك عن أبي العالية وسليمان بن موسى، ونقله حرب عن إسحاق.(5/213)
4 - باب
فضل التاذين(5/214)
608 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى".
النداء بالصلاة، المراد به: الأذان للصلاة.
والتثويب، المراد به: الإقامة؛ فإنه رجوع إلى النداء، يقال: ثاب الرجل، إذا رجع.
ومنه: قوله تعالى:: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} [البقرة:125] ، أي: يترددون ويرجعون إليه.
ومنه: حديث أبي هريرة: " إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون" - الحديث.
وقيل: سميت الإقامة تثويباً؛ لترديد قوله: " قد قامت الصلاة" مرتين.(5/214)
وهو بعيد حكاه الخطأبي، ورجح أنها تسمى " تثويباً" لرفع الصوت بها.
قال: والتثويب: الاستغاثة، واصله أن يلوح الرجل بثوبه عند الفزع، يعلم أصحابه.
وهذا الذي قاله ضعيف، ولو كان صحيحاً لكان تسمية الأذان تثويباً أحق من الإقامة.
وفي الحديث: دليل على فضل الأذان، وانه يطرد الشيطان حتى يدبر عنده وله ضراط، بحيث لا يسمع التأذين.
والأذان والإقامة في هذا سواء.
وضراط الشيطان، محمول على ظاهره عند كثير من العلماء، ومنهم من تأوله، ولا حاجة إلى ذلك.
وفي " صحيح مسلم" عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة ذهب حتى يكون مكان الروحاء".
قال الأعمش: سألته عن الروحاء، فقال: هو من المدينة ستة وثلاثون ميلاً.(5/215)
وروى النيسابوري، عن بشير بن عمرو، عن عمر بن الخطاب، قال: إذا رأيتم الغيلان فأذنوا بالصلاة.
وروى الحسن، عن سعد بن أبي وقاص، قال: أمرنا إذا رأينا الغول أن ينادي بالصلاة.
خرجهما ابن أبي الدنيا.
وقال مالك: استعمل زيد بن أسلم على معدن بني سليم، وكان معدنا لا يزال الناس يصابون فيه من قبل الجن، فذكروا ذلك لزيد بن أسلم، فأمرهم بالأذان، وأن يرفعوا أصواتهم به، ففعلوا فارتفع ذلك عنهم، وهم عليه حتى اليوم.
قال مالك: وأعجبني ذلك من رأي زيد بن أسلم.
وفي " صحيح مسلم"، عن سهيل بن أبي صالح، قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة، قال: ومعي غلام لنا - أو صاحب لنا -، فناداه مناد من حائط باسمه. قال: وأشرف الذي معي على الحائط فلم ير شيئاً، فذكرت ذلك لأبي، فقال: لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك؛ ولكن إذا سمعت صوتاً فنادي بالصلاة؛ فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " إن الشيطان إذا نودي بالصلاة ولى وله حصاص".
وقد قيل في سر ذلك: إن المؤذن لا يسمعه جن ولا أنس إلا شهد له يوم القيامة، كما سيأتي في الحديث بعد هذا، فيهرب الشيطان من سماع الأذان ويضرط؛ حتى يمنعه ضراطه من استماعه، حتى لا يكلف الشهادة به يوم القيامة.(5/216)
وقيل: إن إعلان التكبير له سر في إذابة الشيطان، وقد جاء في حديث ضعيف: " إذا رأيتم الحريق فكبروا؛ فإنه يطفئه"، والشيطان خلق من النار، فهو يذوب من سماع التكبير وإعلانه.
وكذلك الإعلان بالتهليل:
قال ابو الجوزاء: ما للشيطان طرد عن القلب غير " لا إلا إلا الله"، ثم تلا: {وَإذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 46] .
ويكره لمن كان جالس أن يبادر إلى القيام، ولو إلى الصلاة؛ لأن فيه مشابهة بالشيطان في إدباره عند سماع الأذان.
قال الإمام أحمد في رواية الأثرم، وسئل عن الرجل يقوم حين يسمع المؤذن، يبادر يركع؟ قال: يستحب ركوعه بعدما يفرغ المؤذن أو يقرب من الفراغ؛ لأنه يقال: إن الشيطان ينفر حين يسمع الأذان.(5/217)
5 - باب
رفع الصوت بالنداء
وقال عمر بن عبد العزيز: أذن أذانا سمحاً، وإلا فاعتزلنا.
قال وكيع: ثنا سفيان، عن عمر بن سعيد بن أبي حسين المكي، أن مؤذنا أذن فطرب في أذانه، فقال له عمر بن عبد العزيز: أذن أذاناً سمحاً، وإلا فاعتزلنا.
وخرج الدارقطني هذا مرفوعاً من حديث ابن عباس، وإسناده لا يصح.
وروي عن ابن عمر، أنه قال لمؤذن: إني أبغضك في الله؛ إنك تبغي في أذانك.
يشير إلى أنه يتجاوز الحد المشروع بتمطيطه والتطريب فيه.
وفي رواية: أنه قال: إنك تختال في أذانك.
كأنه يشير إلى التفخيم في صوته والتشادق والتكبر.(5/218)
وقال أحمد في التطريب في الأذان: هو محدث.
يعني: انه لم يكن على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والقول في الأذان بالتطريب كالقول في قراءة القرآن بالتلحين. وكرهه مالك والشافعي - أيضا.
وقال إسحاق: هو بدعة -: نقله عنه إسحاق بن منصور.
ونقل عنه حرب، قال: التسميح احب إلي، فإن كان يؤذن باجر فإني أكرهه - يعني: التطريب -، وإن من كان بغير أجر، وكان أنشط للعامة فلا بأس.
وقد يستدل لذلك بقول ابن عمر: إني أبغضك في الله؛ إنك تحسن صوتك - يعني: في الأذان -؛ لأجل الدارهم.
وسنذكره فيما بعد – إن شاء الله.
قال البخاري - رحمه الله -:(5/219)
609 - ثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة الأنصاري ثم المازني، عن أبيه، أنه أخبره، أن أبا سعيد الخدري قال له: إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك وباديتك فإذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه " لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا أنس [ولا شيء] إلا شهد له يوم القيامة".
قال ابو سعيد: سمعته من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
كذا روى مالك هذا الحديث.
ورواه ابن عيينة، عن شيخه، فقال: عن(5/219)
عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة.
قال الشافعي: أصاب مالك في اسم الرجل، وأخطأ ابن عيينة فيما أرى.
وذكر الإمام أحمد هذا المعنى - أيضا.
وقد تقدم بهذا الإسناد في أوائل " كتاب الإيمان" حديث: " يوشك [أن يكون] خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال" - الحديث، وذكرنا الاختلاف في إسناده على مالك، وأنه سماه بعضهم عنه كما سماه ابن عيينة، والصحيح خلافه.
وروى هذا الحديث عبد العزيز بن الماجشون، عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، كما رواه مالك، إلا أنه لم يرفعه.
وما تضمنه حديث أبي سعيد من سكنى البادية بالغنم فقد سبق القول فيه مستوفى في " كتاب الإيمان" عند الكلام على حديثه المشار اليه.
وما تضمنه من الأذان للصلاة بالبادية، فيأتي بسط القول فيه عند تبويب البخاري على " الأذان في السفر" - إن شاء الله.
أماالأمر برفع الصوت في الأذان، فإنما هو من قول أبي سعيد، واستدل له بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يسمع صوت المؤذن" –الحديث.
كذا رواه ابن عيينة صريحاً، وكذا ما قبله كله من قول أبي سعيد.
وقد روي نحوه عن أبي هريرة.
روى وكيع وأبو نعيم في " كتأبيهما": ثنا أبو العنيس سعيد بن كثير، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: ارفع(5/220)
صوتك بالأذان؛ فإنه يشهد لك كل شيء سمعك.
لفظ وكيع، وخرجه عنه ابن شيبة.
ولفظ أبي نعيم، قال: من أذن فليسمع؛ فإنه يشهد له يوم القيامة ما انتهى إليه صوته من سمعه.
وخرجه ابن أبي شيبة بإسناده، عن الزبير بن عدي، عن رجل، عن ابن عمر، انه قال لرجل: ما عملك؟ قال: الأذان. قال: نعم العمل عملك؛ يشهد لك كل شيء سمعك.
ورى وكيع، عن الأعمش، عن مجاهد، قال: المؤذن يشهد له كل رطب ويابس سمعه.
ورواه غيره عن الأعمش، عن مجاهد - مرسلاً0، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال الدارقطني: هو أشبه.
قال: ورواه عمار بن رزيق، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر - مرفوعاً.
قال: ورواه محمد بن عبيد الطنافسي وعمرو بن عبد الغفار، عن الأعمش، عن مجاهد، عن أبي هريرة – مرفوعاً.
وقد خرجه الإمام أحمد من رواية عمار بن رزيق كما تقدم، ومن رواية زائدة عن الأعمش، عن رجل، عن ابن عمر - مرفوعاً.
ورواه عبد الله بن بشر، عن الأعمش كرواية عمار بن رزيق.(5/221)
وروي عن إسماعيل بن زكريا، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس - مرفوعاً.
قال الدارقطني في موضع من " علله": الصحيح: الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر - مرفوعاً.
وهذا يخالف قوله في مسند أبي هريرة: إن إرساله أصح.
ورواه إبراهيم بن طهمان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر - موقوفاً.
ورواه حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - مرفوعاً.
وروي مرفوعاً من وجه آخر: من رواية شعبة، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبي يحيى، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " المؤذن يغفر له مد صوته، ويشهد له كل رطب ويابس".
خرجه أبو داود والنسائي.
وخرجه ابن ماجه، وعنده: " ويسغفر له كل رطب ويابس".
وخرجه ابن خزيمة وابن حبان في " صحيحيهما".
وقال ابن حبان: ابو يحيى هو(5/222)
سمعان مولى أسلم، [حدثني] أبي يحيى.
وموسى بن أبي عثمان كوفي، أثنى عليه سفيان، ووصفه بالخير. وقال أبو حاتم: شيخ.
وله طريق آخر: من رواية منصور بن المعتمر؛ واختلف عليه:
فرواه وهيب، عن منصور، عن يحيى بن عباد أبي هبيرة، عن عطاء، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وسأل وهيب منصوراً، عن عطاء هذا، فقال: هو رجل. قال: وليس ابن أبي رباح ولا ابن يسار.
وكذا رواه زائدة وفضيل بن عياض، عن منصور، عن ابن عباد،(5/223)
عن عطاء - رجل من أهل المدينة -، عن أبي هريرة - موقوفاً غير موفوعٍ.
وكذا رواه جرير، عن منصور، عن يحيى بن عباد، عن رجل من أهل المدينة، عن أبي هريرة - موقوفاً.
ورواه بعد الرزاق، عن معمر، عن منصور، عن عباد بن أنس، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(5/224)
وخرجه عنه الإمامان: أحمد وإسحاق في " مسنديهما".
قال أبو زرعة الرازي والدارقطني: حديث معمر وهم، والصحيح: حديث منصور.
قلت: ويشهد لقول منصور: أن أبا أسامة رواه عن الحسن بن الحكم، عن أبي هبيرة يحيى بن عباد، عن شيخ من الأنصار، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرجه عنه ابن أبي شيبة في " كتابه".
قال الدارقطني: الصحيح: قول زائدة وفضيل بن عياض وجرير، عن منصور.
يعين: الموقوف. والله اعلم.
وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث قتادة، عن أبي إسحاق الكوفي، عن البراء بن عازب، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " المؤذن يغفر له مد صوته، ويصدقه من سمعه من رطب ويابس، وله مثل أجر من صلى معه".(5/225)
وأبو إسحاق هذا، قال أحمد: ما أظنه السبيعي.
وذكر الترمذي في " العلل" أنه لا يعرف لقتادة سماعاً من أبي إسحاق الكوفي.
وقوله: " لا يسمع مدى صوت المؤذن": المدى: الغاية حيث ينتهي الصوت.(5/226)
وقوله: " كل رطب ويابس" يدل على أن الجمادات سواء كانت رطبة أو يابسة فإن لها سماعاً في الدنيا وشهادة في الآخرة.
فدل ذلك على صحة أشياء مختلف في بعضها:
منها: إدراك الجمادات ونطقها.
وقد أثبت ذلك جمهور السلف، سواء كانت رطبة أو يابسة، كما دل عليه قوله: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10] ، وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} ? [الإسراء: 44] .
وخص الحسن التسبيح بما كان رطباً قبل ان ييبس.
والجمهور على خلافه.
وأمامن قال: تسبيحها: دلالاتها على صانعها بلسان الحال، فقول ضعيف جداً، والأدلة الكثيرة تبطله.
ومنها: أن الجمادات [000] يوم القيامة.
وقد دل على ذلك حديث عبد الله بن أنيس في سؤال الحجر والعود.
والحديث الصحيح: أن الغال يأتي بما غل من بقر وغنم وصامت ورقاع تخفق. وأن مانع الزكاة يجعل له ماله صفائح يكوى به.
كما دل عليه قوله: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 35] .
وأماقوله في الحديث الآخر: " يغفر له مدى صوته".(5/227)
فقيل: معناه: لو كانت ذنوبه أجسأمالغفر له منها قدر ما يملأ المسافة التي بينه وبين منتهى صوته.
وقيل: معناه: تمد له الرحمة بقدر مد الأذان.
وقال الخطأبي: معناه أنه يستكمل مغفرة الله تعالى إذا استوفى وسعه في رفع الصوت، فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت.
ورفع الصوت بالأذان مستحب؛ ولهذا قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الله بن زيد لما رأى الأذان في منامه: " ألقه على بلال؛ فإنه اندى صوتاً منك".
خرجه أبو داود وغيره.
والمؤذن، أماأن يؤذن لنفسه، أو يؤذن للجماعة؛ فإن أذن للجماعة فلا يحصل الإتيان بالأذان المشروع في حقهم حتى يسمعهم.
قال الإمام أحمد في رواية حنبل، في رجل ضعيف الصوت، لا يرفع صوته ولا يخرج من المسجد، فإذا كان يسمع اهل المسجد والجيران فلا بأس.
قال القاضي أبو يعلى: ظاهر هذا، أنه إذا لم يسمع الجيران لم يصب سنة الأذان؛ لأن القصد ومن الأذان الإعلام، فإذا لم يسمع الجيران لم(5/228)
يوجد المقصود.
فأماكمال السنة فهو: أن يرفع صوته نهاية جهده، ولا يزيد على ذلك حتى يخشى على نفسه ضرراً.
قال أحمد في رواية حنبل: يرفع صوته ما استطاع.
وقال الميموني: رأيت أحمد وهو يؤذن، صوتا بين الصوتين، وكان إلى خفض الصوت أقرب.
قال القاضي: ظاهر هذا، أنه لا يرفع صوته رفعاً يخرجه عن طبعه.
ومن الأصحاب من جعل هذه رواية ثانية؛ بأن التوسط في رفع الصوت أفضل.
وفي " المراسيل" لأبي داود، عن ابن سيرين، أن بلالاً جعل اصبعيه في أذنيه في بعض أذانه، أو في إقامته، بصوت ليس بالرفيع ولا بالوضيع.
ومتى خافت ببعضه فهو كمخافتته بكله عند أصحابنا.
وإن كان يؤذن لنفسه فله أن يسر به؛ لأنه لا يعلم غيره.
وقال أصحاب الشافعي: يستحب له أن يرفع صوته ما أمكنه، بحيث لا يلحقه ضرر، فإن أسر به لم يصح على الصحيح عندهم.
ولهم وجه: أنه يصح، كما لو أسر بالقراءة في صلاة الجهر.(5/229)
ووجه ثالث: يصح إن سر بعضه خاصة، ونص عليه الشافعي في [مكان] .
قال الماوردي منهم: لو سمع واحداً من الجماعة أجزأه؛ لأن الجماعة تحصل بهما.
وأمامن يؤذن لنفسه، فيجزئه أن يسمع نفسه على الصحيح عندهم. وقيل: يشترط إسماع من عنده. والمذهب: الأول.
ومتى رفع صوته رفعاً يخشى على نفسه الضرر منه كره.
وقد قال عمر لأبي محذورة لما سمعه يؤذن بمكة: أماخشيت أن ينشق مريطاؤك؟
ذكره أبو عبيد وغيره.
والمريطاء: بالمد والقصر.
قال أبو عبيد: والمحفوظ: المد. قال: وهو قول الأصمعي. قال: وقال الأحمر: هي مقصورة. قال: وقال أبو عمرو: تمد وتقصر.
وهي ما بين السرة والعانة -: قاله أبو عبيد والأكثرون.
وقيل: ما بين الصدر والعانة.(5/230)
6 - باب
ما يحقن بالأذان من الدماء(5/231)
610 - حدثني قتيبة: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان إذا غزا بنا قوماً لم يغز بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذانا كف عنهم، وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم. قال: فخرجنا إلى خيبر، فانتهينا إليهم ليلاً، فلما أصبح ولم يسمع أذانا ركب، وركبت خلف أبي طلحة، وإن قدمي لتمس قدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم، فلما رأوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: محمد والله، محمد والخميس. قال: فلما رآهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " الله أكبر، الله أكبر. خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين".
في هذا الحديث فوائد كثيرة:
منها: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يغير على العدو.
والإغارة: تبيت العدو ليلاً.
وقد جاءت نصوص أخر بإباحة(5/231)
الإغارة، وموضع ذكر ذلك " كتاب الجهاد" - إن شاء الله.
ومنها: التفاؤل؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما رآهم خرجوا بالمكاتل - وهي: الزبيل والقفاف -، والمساحي - وهي: المجرفة -، وهذه آلات الحراث، ووقع الأمر كذلك.
ومنها: التكبير على العدو عند مشاهدته.
ويحتمل أن يكون سر ذلك أن التكبير طارد لشيطان الجن تقارنهم، فإذا انهزمت شياطينهم المقترنة بهم انهزموا، كما جرى للمشركين يوم بدر، فإن إبليس كان معهم يعدهم ويمنيهم، فلما انهزم انهزموا.
وقولهم: " محمد والخميس"، فيه روايتان: الخميس، والجيش، وهما بمعنى واحد.
وسمي الجيش خميساً؛ لأنه ينقسم خمس أجزاء: مقدمة، وساقة، وميمنة، وميسرة، وقلب.
ومنها - وهو المقصود بهذا الباب -: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجعل [الأذان] فرق ما بين دار الكفر ودار الإسلام، فإن سمع مؤذناً [للدار] كحكم ديار الإسلام، فيكف عن دمائهم وأموالهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم بعد ما يصبح.
وفي هذا: دليل على أن إقامة الصلاة توجب الحكم بالإسلام؛ فإن الأذان إنما هو دعاء إلى الصلاة، فإذا كان موجباً للحكم(5/232)
بالإسلام، فالصلاة التي هو المقصود الأعظم أولى.
ولا يقال: إنما حكم بإسلامهم بالأذان لما فيه من ذكر الشهادتين؛ لأن الصلاة تتضمن ذلك - أيضا -، فإذا رأينا من ظاهره يصلي - ولا سيما في دار الحرب أو دار لم يعلم أنها دار إسلام - حكمنا بإسلامه لذلك. وهو قول كثير من العلماء، وهو ظاهر مذهب أحمد.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يأمر بالكف عن دار يسمع فيها الأذان، أو يرى فيها مسجد، من رواية ابن عصام المزني، عن أبيه - وكانت له صحبة -، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا بعث جيشاً أو سرية يقول لهم: " إذا رأيتم مسجداً، أو سمعتم مؤذناً فلا تقتلوا [أحداً] ".
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي.
وقال: حسن غريب.
وقال ابن المديني: إسناد مجهول، وابن عصام لا يعرف، ولا ينسب أبوه.(5/233)
وروى الهرماس بن حبيب العنبري، عن أبيه، عن جده، قال: بعث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عيينة بن حصن حين أسلم الناس ودجا الإسلام على الناس، فهجم على بني عدي بن جندب فوق النباح بذات الشقوق، فلم يسمعوا أذانا عند الصبح، فأغاروا عليهم، فأخذوا أموالهم حتى أحضروها المدينة عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت وفود بني العنبر: أخذنا يا رسول الله مسلمين غير مشركين. فرد عليهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذراريهم وعقار بيوتهم، وعمل الجيش أنصاف الأموال.
خرجه إبراهيم الحربي في " كتاب غريب الحديث" وأبو القاسم البغوي في " معجم الصحابة".(5/234)
وقال الحربي: إنما رد عليهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذراريهم؛ لأنه لم ير أن يسبيهم إلا على أمر صحيح لا شك فيه، وهؤلاء مقرون بالإسلام، وليس حجة من سباهم، إلا أنهم قالوا: لم نسمع أذاناً. وكذلك فعل في عقار بيوتهم - يريد: أرضهم -، وعمل الجيش جعالة عمالة لهم أنصاف الأموال؛ وذلك لأن أصحاب الجيش ادعوا أن ذلك فيئاً لهم؛ لأنهم لم يسمعوا أذاناً، والمأخوذ منهم ادعوا أنه لهم؛ أسلموا عليه.
ثم روى الحربي من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: بعث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أناس من خثعم، فاستعصموا(5/235)
بالسجود، فقتل منهم رجل، فأعطاهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصف الدية.
قال الحربي: لا، لم يقروا بالإسلام، وإنما سجدوا، وقد يسجد ولم يسلم، فلذلك أعطاهم نصف الدية.
قلت: هذا حديث مرسل.
والذين يقولون: إن الكافر يصير مسلماً بالصلاة، فصلاته عندهم كإقراره بالإسلام.
وذكر - أيضا - حديث الزبيب العنبري، وقد خرجه أبو داود في " سننه"، وفيه: أنهم سبوا، ثم شهد لهم شاهد بالإسلام، وحلف الزبيب، فأعطاهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذراري ونصف الأموال.
قال الحربي: لأنه لم تكمل البينة.
قلت: في سياق حديث أبي داود: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهم: " لولا أن الله لا يحب ضلالة العمل ما رزيناكم عقالاً".(5/236)
وهذا تعليل بغير ما ذكره الحربي.
وحاصل الأمر: أن الدار إن سمع فيها أذان لم يجز الإقدام على قتلهم ابتداءً، بل يصيرون في عصمة دمائهم وأموالهم كالمسلمين؛ فإن الأذان وإن كان لم يسمع من بعضهم، إلا أن ظهوره في دار قوم دليل على إقرارهم بذلك ورضاهم. فأماالمؤذن نفسه فإنه يصير مسلماً بذلك، ولا سيما إذا كان في دار كفر وموضع لا يخاف فيه من المسلمين ولا يتقيهم.
وعند أصحابنا: أنه يصير الكافر بالأذان مسلماً.
وبه قال الليث بن سعد، وسعيد بن عبد العزيز. وقالا: لو ادعى أنه فعله تقية وخيفة على نفسه أنه لا يقبل منه، ويصير مرتداً.
وحكى الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي ومالك، أنه يقبل منه ذلك ولا يقتل.
ذكره محمد بن نصر المروزي في " كتاب الصلاة".
وينبغي أن يقبل هذا بموضع يحتمل فيه ذلك كدار الإسلام، أو دار يخشى أن يغار عليها المسلمون؛ فإن الكافر إذا أتى بالشهادتين على وجه الإسلام كالذي يجيء ليسلم، فتعرض عليه الشهادتان فيقولهما، فإنه يصير مسلماً بغير خلاف.
وإن قالهما على غير هذا الوجه، ثم ادعى أنه لم يرد بهما الإسلام، فالمشهور عن أحمد، أنه لا يقبل منه ويصير مرتداً.
وعنه رواية، أنه يقبل منه ولا يقتل. وهو قول إسحاق.
وضعف هذه الرواية أبو بكر الخلال.(5/237)
وعن أحمد، أنه يجبر على الإسلام، ولا يقتل إن أباه.
وللشافعية - أيضا - وجهان فيما [إذا] أتى بالشهادتين على غير وجه الاستدعاء ولا الحكاية: هل يصير مسلماً، أم لا؟ وأصحهما: أنه يصير مسلماً -: حكاهما صاحب " شرح المهذب".
وإن لم يسمع في الدار أذان:
فإن كانت معروفة قبل ذلك بأنها دار حرب جاز ابتداؤهم بالقتل والسبي والنهب، هذا هو الذي دل عليه حديث أنس المخرج في هذا الباب.
وإن كانت معروفة بأنها دار إسلام، ولم يسمع فيها أذان، فهذا مسألة قتال أهل البلدة المسلمين إذا اتفقوا على ترك الأذان.
وهي مبنية على أن الأذان على أهل الأمصار والقرى: هل هو فرض كفاية، أو سنة مؤكدة؟
وفيه قولان:
أحدهما: أنه فرض كفاية، وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد، وقول داود، ووافقهم جماعات من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي.
وكذا قال عطاء ومجاهد وابن أبي ليلى والأوزاعي وأهل الظاهر: إن الأذان فرض.
وحكي عن هؤلاء كلهم أن الإقامة شرط لصحة الصلاة، فمن ترك الإقامة وصلى أعاد الصلاة.
وعن الأوزاعي: أنه يعيد في الوقت.
وقال عثمان بن كنانة من المالكية: يعيد إذا تركها عمداً.
وذهب الجمهور إلى أنه لا إعادة على من صلى بغير أذان ولا(5/238)
إقامة.
واستدلوا لوجوب الأذان بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم".
وقد خرجه البخاري من حديث مالك بن الحويرث وعمرو بن سلمة الجرمي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروى ابن جرير الطبري، عن يونس بن عبد الأعلى، عن أشهب، عن مالك، قال: إذا ترك الأذان مسافر عمداً أعاد الصلاة.
وهذا غريب جداً.
وحكى ابن عبد البر نحوه عن داود.
ونقل ابن منصور، عن إسحاق، قال: إذا نسي الأذان والإقامة وصلى أجزأه، وإن كان في السفر فلا بد له من الإقامة.
والقول الثاني: أن الأذان سنة مؤكدة، وهو ظاهر مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي، ورواية عن أحمد.
فمن قال: الأذان فرض كفاية، قال: إذا اجتمع أهل بلد على تركه قوتلوا عليه حتى يفعلوه.
ومن قال: هو سنة، اختلفوا على قولين:
أحدهما: أنهم يقاتلون عليه - أيضا -، لأنه من أعلام الدين وشرائعه الظاهرة،(5/239)
وهو قول محمد بن الحسن وطائفة من الشافعية.
والثاني: لا يقاتلون عليه كسائر النوافل، وهو قول أبي حنيفة وطائفة من الشافعية.
وقال أبو يوسف: آمرهم وأضربهم، ولا أقاتلهم؛ لأنه دون الفرائض وفوق النوافل.
واستدل بعض من قال: يقاتلون على تركه بحديث أنس هذا؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل الأذان مانعاً من القتال، وتركه مبيحاً له، فدل على استباحة القتال بمجرد تركه، وإن جاز ان يكونوا قد أسلموا.(5/240)
7 - باب
ما يقول إذا سمع المنادي
فيه حديثان:
الحديث الأول:(5/241)
611 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن".
هكذا روى هذا الحديث مالك في " الموطإ"، وكذا رواه الثقات من أصحابه عنه.
ورواه المغيرة بن سقلاب، عن مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد.
وزيادة: " سعيد بن المسيب" لا تصح.
والمغيرة متروك.(5/241)
وروي عن عمرو بن مرزوق، عن مالك، عن الزهري، عن أنس.
وهو وهم. وقيل: إنه ممن رواه عن عمرو، وهو محمد بن عبد الرحيم الشماخي.
ورواه عبد المنعم بن بشير - وهو ضعيف جداً -، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر. ولا يصح.
وتابع مالكا على روايته، عن الزهري، عن عطاء، عن أبي سعيد: معمر ويونس.
وقيل: وسفيان وإبراهيم بن سعد.(5/242)
وخالفهم عبد الرحمن بن إسحاق، فرواه عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة.
وخرجه ابن ماجة من طريقه.
وقيل: عنه، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة.
والصحيح: قول مالك ومن تابعه -: قاله أبو حاتم الرازي والترمذي وابن عدي والدارقطني.(5/243)
ورواه حجاج بن نصير، عن عباد بن كثير، عن عقيل، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن [أبي] أيوب الأنصاري.
وهو وهم من حجاج أو عباد -: قاله الدارقطني.
الحديث الثاني:
قال:(5/244)
612 - ثنا معاذ بن فضالة: ثنا هشام، عن يحيى، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، قال: حدثني عيسى بن طلحة، أنه سمع معاوية يوماً،(5/244)
فقال مثله، إلى قوله: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) .(5/245)
613 - ثنا إسحاق: ثنا وهب بن جرير: ثنا هشام، عن يحيى - مثله.
قال يحيى: وحدثني بعض إخواننا، أنه لما قال: (حي على الصلاة) ، قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، وقال: هكذا سمعنا نبيكم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول.
هكذا خرجه مختصراً.
وخرجه الإمام أحمد بتمامه، عن إسماعيل بن ابراهيم - هو: ابن علية - وأبي عامر العقدي، قالا: ثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة - قال أبو عامر في حديثه: ثنا عيسى بن طلحة -، قال: دخلنا على معاوية، فنادى المنادي بالصلاة، فقال: (الله أكبر، الله اكبر) . فقال معاوية: (الله أكبر، الله أكبر) ، فقال: (أشهد أن لا إله إلا الله) ، فقال معاوية: (وأنا أشهد) - قال أبو عامر في حديثه: (أن لا إله إلا الله) -، فقال: (أشهد أن محمداً رسول الله) ، فقال معاوية: (وأنا اشهد) - قال أبو عامر: (أن محمداً رسول الله) .
قال يحيى: ثنا رجل، أنه لما قال: (حي على الصلاة) قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، قال معاوية: هكذا سمعت نبيكم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول.(5/245)
وخرجه الإسماعيلي بنحوه من طريق ابن علية.
وله طريق آخر عن معاوية:
خرجه البخاري في "الجمعة" في " كتابه" هذا من طريق ابن المبارك: أبنا أبو بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف، [عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف] ، قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان وهو جالس على المنبر أذن المؤذن، فقال: (الله أكبر، الله أكبر) ، فقال معاوية: (الله أكبر، الله أكبر) . فقال: (أشهد ان لا إله إلا الله) ، فقال معاوية: (وأنا) ، فقال: (أشهد أن محمداً رسول الله) ، فقال معاوية: (وأنا) ، فلما قضى التاذين، قال: يأيها الناس، إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذه المجلس حين أذن المؤذن يقول كما سمعتم مقالتي.
وقد روي عن معاوية من طريق أخرى، وفي بعضها: انه قال عند: (حي على الصلاة) ، (وحي على الفلاح) : (لا حول ولا قوة إلا بالله) موافقة للرواية التي أرسلها يحيى بن أبي كثير.
فخرج الإمام أحمد والنسائي من رواية ابن جريج: أخبرني عمرو بن يحيى، أن عيسى بن عمر أخبره، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص، عن علقمة بن وقاص، قال: إني عند معاوية إذ أذن مؤذنه، فقال معاوية كما قال المؤذن، حتى إذا قال: (حي على الصلاة) قال: (لا حول ولا قوة إلا(5/246)
بالله) ، فلما قال: (حي على الفلاح) قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله) . وقال بعد ذلك ما قال المؤذن، ثم قال: سمعت رسول لاله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول ذلك.
وخرجه الإمام أحمد بمعناه من رواية محمد عمرو بن علقمة، عن أبيه، عن جده، قال: كنا عند معاوية – فذكره بمعناه.
وروى عبد الوهاب بن الضحاك: ثنا إسماعيل بن عياش، عن مجمع بن جارية، عن أبي امامة بن سهل، قال: سمعت معاوية يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول - إذا أذن المؤذن - مثل قوله، وإذا قال: (حي على الصلاة) قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله) .
عبد الوهاب، متروك الحديث. وإسماعيل، لا يحفظ حديث الحجازيين.
وقد رواه الإمام أحمد عن يعلى بن عبيد ويزيد بن هارون،(5/247)
كلاهما عن مجمع - بنحو سياق حديث أبي بكر بن عثمان الذي خرجه البخاري.
وخرجه - أيضا - عن وكيع، عن مجمع - مختصراً.
ورواه أبو نعيم في " كتاب الصلاة" عن مجمع – بنحو رواية يعلى ويزيد.
وليس في حديث أحد منهم: ذكر الحيعلة.
وفي رواية يعلى ويزيد وأبي نعيم: انه لما كبر المؤذن - اثنين - كبر - اثنين - ولما شهد انه لا اله الا الله – اثنين - شهد - اثنين -، ولما شهد ان محمد رسول الله - اثنين - شهد - اثنين.
وهذا يشعر بأن التكبير في اول الاذان مرتان.
وروي هذا المعنى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير حديث معاوية:
فخرج مسلم في "صحيحه" من حديث عمارة بن غزية، عن خبيب بن عبد الرحمن بن يساف، عن حفص بن عاصم بن عمر، عن أبيه، عن جده عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((إذا قال المؤذن: الله اكبر، الله اكبر، فقال احدكم، الله اكبر. ثم قال: اشهد ان لا اله الا الله، فقال اشهد ان لا اله الا الله. ثم قال: اشهد ان محمد رسول الله، قال: اشهد(5/248)
ان محمد رسول الله - ثم قال: حي الصلاة، قال: لاحول ولا قوة الا بالله. ثم قال: حي عل الفلاح، قال: لا حول ولا قوة الا بالله. ثم قال: الله اكبر الله اكبر، قال: الله اكبر الله اكبر. ثم قال: لا الله الا الله، قال: لا اله الا الله من قلبه؛ دخل الجنة)) .
وعمارة بن غزية، ثقة ولم يخرج له البخاري.(5/249)
وقد روي نحوه من حديث عاصم بن عبيد الله العمري، عن علي بن حسين، عن أبي رافع، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان إذا سمع [المؤذن] قال مثل ما يقول حتى إذا بلغ: ((حي على الصلاة، حي على الفلاح)) قال: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) .
خرجه الإمام أحمد والنسائي في "اليوم والليلة".
وعاصم هذا، ضعفوه، وقد اختلف عليه في إسناده.
وروي نحوه من حديث أنس بن مالك، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه ابن عدي، وقال: هو منكر، وإسناده لا يصح.
واجابه المؤذن مستحبة عند الجمهور العلماء، وليست واجبة.
وكان الحسن كثيراً يسمع المؤذن وهو يتحدث فلا يقطع حديثه ولا يجيبه،(5/250)
وكذلك إسحاق بن راهويه.
ونص أحمد على ان الاجابة غير واجبة.
وحكى الطحاوي عن وقم انهم واجبوا اجابته. والظاهر: انه قول بعض الظاهرية. وحكي عن بعض الحنفية - أيضا.
وروي عن ابن مسعود، انه قال: من الجفاء ان لا يقول مثل ما يقول المؤذن.
وقد روي مرفوعاً من وجوه ضعيفة.
واختلف العلماء: هل يجيب المؤذن، فيقول كقوله في جميع ما يقول، ام لا؟
فقالت طائفة: يقول مثل ما يقول سواء في جميع اذانه؛ لظاهر حديث أبي سعيد.
وفي "صحيح مسلم" من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول)) .
وقد روي عن طائفة من السلف، انهم قالوا: يقول مثل قول المؤذن، ولم يستثنوا، منهم: النخعي:
وروي عن أبي عمر، انه كان يقول مثل ما(5/251)
يقول المؤذن.
وهو ظاهر قول الخرقي من أصحابنا.
وقالت طائفة: يقول كقوله، الا في قوله: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) ، فانه يقول: (لا حول ولا قوة الا بالله) .
وهذا مروي عن الحسن، وهو منصوص عن أحمد، والشافعي، وهو قول طائفة من الحنفية والمالكية.
وهؤلاء؛ جعلوا حديث أبي سعيد وما في معناه عاماً، وحديث عمر ومعاوية وما في معناهما خاصة، فتقضي على النصوص العامة.
ومن الحنفية من قال: يقول عند قوله: (حي على الصلاة) : (لا حول ولا قوة الا بالله) . وعند: (حي على الفلاح) : (ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن) .
وقالت طائفة: هو مخير بين ان يقول مثل قول المؤذن في الحيعلة، وبين ان يقول: "لا حول ولا قوة الا بالله"، وجمعوا بين الاحاديث بذلك، وهذا قول أبي بكر الاثرم ومحمد بن جرير الطبري.
وقالت طائفة: بل يجمع بين ان يقول مثل قول المؤذن، وبين قوله: "لا حول ولا قوة الا بالله".
وهذا قول بعض أصحابنا، وهو ضعيف؛ لان الجمع لم يرد.
وكان بعض شيوخنا يقول: يجمع بين الاحاديث في هذا بأن من سمع المؤذن وهو في المسجد قال مثل قوله، فإن سمعه خارج المسجد قال: "لا حول ولا قوة بالا بالله"؛ لانه يحتاج إلى سعي(5/252)
فيستعين بالله عليه.
وقالت طائفة: يجيب المؤذن إلى اخر الشهادتين، ولا يجيبه فيما زاد على ذلك، وهو رواية عن مالك.
وفي "تهذيب المدونة": انه يجيبه إلى قوله: "اشهد ان محمداً رسول الله"، وان اتم الاذان معه فلا بأس.
وظاهره: انه يتمه معه بلفظ الاذان.
وهؤلاء؛ قد يحتجون ببعض روايات حديث معاوية التي فيها الاجابة إلى الشهادتين، ولكن قد روي عنه عن وجوه: اجابته في تمام الاذان.
وروي من حديث الحكم بن ظهير، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجاب المؤذن إلى الشهادتين، ثم سكت.
ذكره ابو بكر الاثرم، وقال: هو حديث واه.
يشير إلى ان الحكم بن ظهير ضعيف جداً.
وروى ابو نعيم في "كتاب الصلاة": ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن أبي جعفر، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سمع المنادي يقول (اشهد ان لا اله الا الله) قال: (وانا) . وإذا قال: (اشهد ان محمد رسول الله) قال: (وانا) ، ثم سكت.
وهذا مرسل.(5/253)
وحكى ابن عبد البر عن قوم، انهم راوا اجابة المؤذن الحيعلتين خاصة.
وعن قوم. انهم راوا اجابته في الشهادتين خاصة، دون ما قبلهما وبعدهما.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده، عن قتادة، ان عثمان كان إذا سمع المؤذن يؤذن يقول كما يقول، في الشتهد والتكبير كله، فإذا قال: "حي على الصلاة" قال: ما شاء الله، لا حول ولا قوة الا بالله. فإذا قال: ((قد قامت الصلاة)) قال: مرحبا بالقائلين عدلاً، وبالصلاة مرحباً واهلاً. ثم ينهض إلى الصلاة.
وبإسناده عن مجاهد، انه كان إذا قال المؤذن: (حي على الصلاة) قال: المستعان الله. [فاذا] قال: (حي على الفلاح) قال: لا حول ولا قوة الا بالله.
وفي "مسند الامام أحمد" عن علي بن أبي طالب، انه كان إذا سمع المؤذن يؤذن قال كما يقول، فإذا قال: "اشهد ان لا الله الا الله، واشهد ان محمداً رسول الله" قال علي: اشهد ان لا اله الا الله، واشهد ان محمداً رسول الله.
وخرج ابن السني بإسناد لايصح، عن معاوية، قال: كان(5/254)
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سمع المؤذن قال: (حي على الفلاح) قال: (اللهم اجعلنا مفلحين) .
وذكر ابن جرير بإسناده، عن سعيد بن جبير، انه كان إذا سمع المؤذن يقول: "حي على الصلاة" يقول: سمعنا واطعنا.
ولا فرق في استحباب اجابة المؤذن بين النساء والرجال، هذا ظاهر اطلاق العلماء، وظواهر الاحاديث؛ فان خطاب الذكور يدخل في الاناث تبعاً في كثير من العمومات، وهو قول أصحاب الامام أحمد وغيرهم ممن تكلم في اصول الفقه.
وقد روي التصريح باجابة النساء المؤذن من حديث عائشة وميمونة، وإسنادهما لا يصح.
وقد خرج ابن جرير الطبري حديث ميمونة، وفيه ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " وللرجال الضعفان من الاجر" – يعني: في الاجابة.
وذكر ابن جرير، عن بعض اهل الحديث، انه قال: لا يحتاج بهذا الحديث ذو علم بالاثار ومعرفة الرجال.
والامر كما قال؛ فإن إسناده ضعيف جداً.
وقد خرج ابو الشيخ الاصبهاني في "كتاب ثواب الاعمال" معناه – أيضا - من حديث ابن المنكدر - مرسلاً.
وهذا قد يشعر بأن النساء في ثواب الاعمال نصف اجر الرجال.(5/255)
ويشهد له: ما خرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" من حديث الاشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن أبي عباس، في قوله: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32] الاية، قال: اتت امرأة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا نبي الله، للذكر مثل حظ الانثيين، وشهادة امراتين بشهادة الرجل، أفنحن في العمل هكذا، ان عملت امراة حسنة كتب لها نصف حسنة، فانزل الله هذه الاية {وَلا تَتَمَنَّوْا} ، فانه عدل مني، وانا صنعته.
وبإسناده عن السدي في هذه الاية، قال: قال الرجال: نريد ان يكون لنا من الاجر الضعف على اجر النساء كما لنا في السهام سهمان ونريد ان يكون من الأجر اجران. وقالت النساء: نريد ان يكون لنا اجر مثل اجر الرجال الشهداء، فانا لا نستطيع ان نقاتل، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا. فأبي الله ذلك، ولكن قال لهن: "سلوا الله من فضله يرزقكم الاعمال، وهو خير لكم".
وروي قتادة هذا المعنى - أيضا.
وهذا كله يشعر بان النساء لهن نصف اجر الرجال في الاعمال كلها.
وقد يخص ذلك بما لا يشرع مشاركة النساء للرجال في الاعمال، او ما(5/256)
يجوز لهن مشاركتهم فيها، [والاوصى] ترك المشاركة، كصلاة الجماعة.
واجاب المؤذن؛ فانه داع إلى الصلاة في الجماعة.
وقد روي في حديث غريب، خرجه ابو نعيم في "تاريخ اصبهان": ان صلاة المرأة وحدها تضاعف على صلاتها في الجماعة ببضع وعشرون درجة.
وفي إسناده مقال.
وربما يأتي ذكره بلفظه في موضع اخر - ان شاء الله.
وهل يشرع للمؤذن نفسه ان يجيب نفسه بين كلمات الاذان؟
ذكر أصحابنا ان يشرع له ذلك.
وروي عن الامام أحمد انه كان إذا اذن يفعل ذلك.
واستدلوا بعموم قوله: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا كما يقول". والمؤذن يسمع نفسه، فيكون مأمور بالاجابة.
وقاسوه على تأمين الامام على قراءة الفاتحة مع المأمومين.
وفي هذا نظر؛ فان تامين الامام وردت به نصوص.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا سمعتم المؤذن)) ، ظاهره: يدل على التفريق بين السامع والمؤذن، فلا يدخل المؤذن، كما قال أصحابنا في النهي عن الكلام لمن يسمع الامام وهو يخطب، انه لا يشمل الامام، بل له(5/257)
الكلام.
وكذا قال في الايمان ونحوها، لو قال: من دخل داري. او خاطب غيره، فقال: من دخل دارك، وعلق على ذلك طلاقاً او غيره: لم يدخل هو في عموم اليمين في الصورة [الاولى] ، ولا المخاطب في الصورة الثانية.
وللمسألة نظائر كثيرة، في بعضها اختلاف، قد ذكرناها في كتاب "القواعد في الفقه".
واستحب أحمد للمؤذن ان يبسط يديه ويدعو عنه قوله: "حي على الصلاة". قال: اريت يزيد بن هارون يفعله، وهو حسن.
يعني: لما ورد من استحبابه للدعاء عن الاذان، وفيه احاديث كثيرة مرفوعة، وموقوفة.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن" يدخل فيه الاذان والاقامة؛ لان كلا منهما نداء إلى الصلاة، صدر من المؤذن.
وقد اختلف العلماء: هل يشرع الاجابة في الاقامة؟ على قولين:
احدهما: انه يشرع ذلك، وهو قول القاضي أبي يعلى واكثر أصحابنا، وهو ظاهر مذهب الشافعي.
وفي "سنن أبي داود" من رواية محمد بن ثابت العبدي: ثنا رجل من اهل الشام، عن شهر بن حوشب، عن أبي امامة - او عن بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ان بلالا اخذ في الاقامة، فلما ان قال: "قد قامت الصلاة" قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اقامها الله وادامها"، وقال في سائر الاقامة كنحو حديث عمر في الاذان.(5/258)
وفي هذا [الإسناد] ضعف.
والقول الثاني: انه لايسرع الاجابة فيها، الا في كلمة الاقامة خاصة، وهو وجه للشافعية.
وقد نقل المروذي عن الامام أحمد، انه كان إذا اخذ المؤذن في الاقامة رفع يديه ودعا.
وروي عنه، انه كان يدعو، فإذا قال المؤذن: "لا اله الا الله" قال: لا اله الا الله الحق المبين.
وظاهر هذا: ان الدعاء حينئذ افضل من الاجابة.
وتأوله القاضي على انه انما كان يدعو إذا فرغ من الاقامة.
وهذا مخالف لقوله: ((إذا اخذ المؤذن في الاقامة)) .
ولو سمع المؤذن وهو يصلي، فهل يجيبه، ام لا؟
هذا قد ينبني على اصل، وهو: ان العام في الاشخاص: هل هو عام في الاحوال، ام لا؟ وفيه اختلاف، قد اشرنا اليه في غير موضع.
ويدل على عمومه في الاحوال: انكار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على من دعاه فلم يجبه حتى حتى سلم، وقوله لم: ((الم يقل الله)) : {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُمْ} )) [الانفال:24] ".
وقد اختلف العلماء في اجابة المؤذن في الصلاة على ثلاثة اقوال:
احدها: انه لا يستحب اجابته في الصلاة بحال؛ لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ان في الصلاة لشغلا)) .
وهذا ظاهر مذهب الشافعي.
وهو قول(5/259)
أصحابنا، قالوا: وقد نص أحمد على ان من دخل المسجد فأذن المؤذن، فانه لا يصلي تحية المسجد حتى يجيب المؤذن.
وهذا يدل على انه لا يجيبه في الصلاة.
وهو - أيضا - قول الحنفية وسحنون من المالكية.
الثاني: أنه يستحب انه يجيبه في الفريضة والنافلة، وهو قول ابن وهب من أصحاب مالك.
والثالث: يستحب ان يجيبه في النفل دون الفرض، وهو المنصوص عن مالك.
نقله عنه ابن القاسم، وقال: يقع في نفسي انه اريد بالحديث: وقال: "يقول مثل ما يقول": التكبير والتشهد.
وكذا قال الليث، الا انه قال: ويقول: "لا حول ولا قوة الا بالله" إذا قال "حي على الصلاة، حي على الفلاح".
وفي "تهذيب المدونة" للبرداعي المالكي: ومن سمع المؤذن فليقل كقوله، وان كان في نافلة، إلى قوله: "اشهد ان لا اله الا الله، واشهد ان محمداً رسول الله"، وان اتم الاذان معه فلا باس.
ولعل اتمامه مختص بغير المصلي، او بما إذا اجابه في الحيعلة بالحوقلة، كما قال الليث. انه إذا اجابه بذلك لم تبطل صلاته. فريضة كانت او نافلة عند جمهور العلماء.
وهو قول مالك والشافعي وأصحابنا.
ويخرج من قول أحمد في العاطس في الصلاة: يحمد الله في(5/260)
نفسه -: نقله عنه جماعة.
ونقل صالح بن أحمد، عن أبيه، قال: إذا رفع صوته به يعيد الصلاة؛ لانه ليس من شأن الصلاة، الا ان لا يجهر به، وان قال في نفسه فلا شيء عليه.
وهذا يحتمل انه اراد إذا تلفظ به بطلت صلاته.
وحكى الطحاوي عن أبي يوسف، انه لاتبطل صلاته إذا اجاب المؤذن في الصلاة بالتكبير والتشهد عنه أبي يوسف، وتبطل عند أبي حنيفة ومحمد إذا اراد به الاذان، كما لو خاطب أنسانا في صلاته بلا اله الا الله، فان صلاته عنده تفسد.
وهو احدى الروايتين عن أحمد.
وقد فرق بينهما أصحابنا، بأن هذا قصد خطاب ادمي، بخلاف المجيب للاذان، فانه انما قصد ذكر الله عز وجل.
وقد نقل مهنا، عن أحمد [فيمن] ذكر في صلاته كيسا ذهب له، فقال: انا لله وانا اليه راجعون، فقال أحمد: يعيد صلاته.
وهذا يدل على انه إذا اتى في صلاته بذكر غير مشروع فيها انها تبطل.
وكذلك روي جعفر بن محمد، عن أحمد، في الرجل يقول قبل ان يتم الصلاة: اللهم انت السلام ومنك السلام؛ فليس هذا من شأن الصلاة [ ... ] الصلاة.
وروي عنه ابو طالب، انه قال: لا باس بذلك قبل السلام وبعده.
وان اجاب المؤذن في قوله "حي على الصلاة، حي على الفلاح"، بمثل(5/261)
قوله بطلت صلاته عند جمهور العلماء.
وقالت طائفة: لا تبطل صلاته بذلك – أيضا.
وحكاه ابن خويز منداد، عن مالك، وانه يكون بذلك مسيئاً، وصلاته تامة. وكره ان يقول في الفريضة - مثل ما يقول المؤذن، فان قال ذلك في الفريضة لم تبطل – أيضا -، ولكن الكراهة في الفريضة اشد.
وكلام صاحب "تهذيب المدونة" ظاهرة موافقة ذلك، الا انه قال: لاباس وهذا يدل على انه يكره، الا ان يختص ذلك بغير المصلي.
وقد ورد حديث يستدل به على ان الاذان والاقامة لا [يبطلان] الصلاة.
فروي الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، ان سويد بن قيس اخبره، عن معاوية بن حديج، انه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى يوماً، فسلم وقد بقيت من الصلاة ركعة، فأدركه رجل، فقال: نسيت من الصلاة ركعة، فرجع فدخل المسجد، وامر بلالا فأقام، فصلى للناس ركعة، فأخبرت بذلك الناس، فقالوا لي: تعرف الرجل؟ فقلت: لا، الا ان اراه. فمر بي، فقلت: هو هذا.
فقالوا: هذا طلحة بن عبيد الله.(5/262)
خرجه الامام أحمد وابو داود والنسائي.
وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحهما"، وعندهما: انه سلم في ركعتين من صلاة المغرب.
والحاكم، وقال: صحيح الإسناد.
وسويد هذا، وثقة النسائي وابن حبان. ومعاوية بن حديج، اثبت البخاري وغيره له صحبة، وانكر هـ الامام أحمد في رواية الاثرم، فيكون حديثه هذا مرسلاً عنده.
فهذا يدل على [أنَّ] اقامة الصلاة لا يبطلها، وفيها الحيعلتان، ويزيد على الاذان بقوله: "قد قامت الصلاة" – أيضا -؛ ولهذا بني على ما مضى من صلاته هو ومن صلى معه.
وهذا قد يبنى على اصول مالك وأحمد – في رواية عنه - على قوليهما: ان كلام العامد في الصلاة لمصلحة الصلاة لا يبطل الصلاة. ويأتي ذكر هذا في موضع اخر - ان شاء الله.
وإذا قلنا: لا يجيب المؤذن في الصلاة: فهل يتابع إذا فرغ منها؟
قال طائفة من الشافعية: يجيبه إذا سلم، فان طال الفصل، فهو كترك سجود السهو.
وكذلك قال طائفة منهم في المتخلي والمجامع إذا سمع الاذان: انه إذا(5/263)
فرغ تابعه.
وقال بعضهم: وإذا لم يتابعه حتى فرغ عمداً، فالظاهر انه يتدارك على القرب، ولا يتدارك بعد طول الفصل.
والافضل ان يتابعه على كل جملة عقب فراغ المؤذن منها من غير تأخير، كما دل عليه حديث معاوية.
ومن زعم من المتاخرين: انه يجوز الاجابة حتى يفرغ ثم يجيبه، وزعم انه لا يسمى مؤذناً حتى يفرغ من اذانه -: فقد ابطل، وقال ما خالف به الاولين والاخرين. وفي تسميته مؤذناً بعد فراغ اذانه - حقيقة اختلاف – أيضا - فأنه ينقضي الفعل الذي اشتق منه الاسم، ولو سابق المؤذن في بعض الكلمات.
ففي "تهذيب المدونة" للمالكية: إذا عجل قبل المؤذن بالقول فلا بأس والله اعلم.(5/264)
8 - باب
الدعاء عند النداء(5/265)
614 - حدثني ابن عياش: ثنا شعيب بي أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، ان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من قال حين يسمع النداء: اللهم، رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، ات محمد الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقأمامحموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة)) .
هذا مما وتفرد [به] البخاري دون مسلم.
وخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب من حديث ابن المنكدر، لا نعلم احد رواه غير شعيب بن أبي حمزة.
وذكر ابن أبي حاتم، عن أبيه، قال: قد طعن في هذا الحديث، وكان(5/265)
عرض شعيب بن أبي حمزة على ابن المنكدر كتاباً، فامر بقراءته عليه، فعرف بعضاً وانكر بعضاً، وقال لابنه - او لابن اخيه -: اكتب هذه الاحاديث، فدون شعيب ذلك الكتاب ولم تثبت رواية شعيب تلك الاحاديث على الناس، وعرض علي بعض تلك الكتب [فرأيتها مشابهة] لحديث إسحاق بن أبي فروة، وهذا الحديث من تلك الاحاديث. انتهى.(5/266)
وقد روى الاثرم، عن أحمد، قال: نظرت في كتب شعيب، اخرجها الي ابنه، فإذا فيها من الصحة والحسن والمشكل نحو هذا.
وقد روي، عن جابر من وجه اخر بلفظ فيه بعض مخالفة، وهو يدل على ان لحديث جابر اصلاً.
خرجه الامام أحمد من رواية ابن لهيعة: ثنا ابو الزبير، عن جابر، عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: "من قال حين ينادي المنادي: اللهم، رب هذه الدعوة التامة والصلاة النافعة، صل على محمد وارض عنه رضا لا(5/267)
سخط بعده؛ استجاب الله دعوته".
وقد روي في هذا المعنى وسؤال الوسيلة عند سماع الاذان من حديث أبي الدرداء، وابن مسعود – مرفوعا -، وفي إسنادهما ضعف.
ومما يشهد له – أيضا -: حديث خرجه مسلم من طريق كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، انه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي؛ فانه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فانها منزلة في الجنة لا تنبغي الا لعبد من عباد الله، وارجو ان اكون انا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة) .
وعبد الرحمن بن جبير هذا: مولى نافع بن عمرو القرشي المصري، وظن بعضهم، انه: ابن جبير بن نفير، فوهم، وقد فرق بينهما البخاري والترمذي وابو حاتم الرازي وابنه.(5/268)
وقد روي عن الحسن، ان هذا الدعاء يشرع عند سماع اخر الاقامة.
روي ابن أبي شيبة: ثنا ابو الاحوص، عن أبي حمزة، عن الحسن، قال: إذا قال المؤذن: (قد قامت الصلاة) ، فقل: اللهم، رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، اعط محمداً سؤله يوم القيامة. فلا يقولها رجل حين يقيم المؤذن الا ادخله الله في شفاعة محمد يوم القيامة.
وروي ابن السني في كتاب "عمل اليوم والليلة" من رواية عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن عطاء بن قرة، عن عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة، انه كان يقول إذا سمع المؤذن يقيم: اللهم، رب هذه الدعوة التامة وهذه الصلاة القائمة، صل على محمد واته سؤله يوم القيامة.
وهذه الاثار تشهد للمنصوص عند أحمد، انه يدعو عند الاقامة، كما سبق عنه.
وقوله: (من قال حين يسمع النداء) : ظاهره انه يقول ذلك في حال سماع النداء، قبل فراغه. ويحتمل انه يريد به حين يفرغ من سماعه.
وحديث عبد الله بن عمرو صريح في انه يسأل الوسيلة بعد اجابة المؤذن والصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وهذا هو الاظهر؛ فانه يشرع قبل جميع(5/269)
الدعاء تقديم الثناء على الله والصلاة على رسوله، ثم يدعو بعد ذلك.
وقوله: (اللهم رب هذه الدعوة التامة) .
والمراد بالدعوة التامة: دعوة الاذان؛ فانها دعاء إلى اشرف العبادات، والقيام في مقام القرب والمناجاة؛ فلذلك كانت دعوة تامة - أي: كاملة لا نقص فيها، بخلاف ما كانت دعوات اهل الجاهلية: أمافي استنصار على عدو، او إلى نعي ميت، او إلى طعام، ونحو ذلك مما هو ظاهره النقص والعيب.
وروى ابو عيسى الاسواري، قال: كان ابن عمر إذا سمع الاذان قال: اللهم رب هذه الدعوة المستجابة المستجاب لها، دعوة الحق وكلمة التقوى، فتوفني عليها، واحيني عليها، واجعلني من صالح اهلها عملاً يوم القيامة.
وقد روي عن ابن عمر - موقوفا - من وجوه اخر.
وروي عنه مرفوعا من وجه ضعيف.
قال الدارقطني: الصحيح: موقوف.
وخرج بقي بن مخلد والحاكم من حديث عفير بن معدان، عن [سليم بن عامر، عن] أبي امامة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا نادى المنادي فتحت ابواب السماء واستجيب الدعاء، فمن نزل به كرب او شدة فليتحين المنادي إذا نادى، فليقل مثل مقاله، ثم ليقل: اللهم، رب هذه الدعوة التامة الصادقة الحق المستجابة،(5/270)
والمستجاب لها، دعوة الحق وكلمة التقوى، أحينا عليها، وامتنا عليها، وابعثنا عليها، واجعلنا من خيار اهلها محياُ ومماتاً. ثم يسأل حاجته) .
وعفير، ضعيف جداً.
وقوله: (والصلاة القائمة) – أي: التي ستقوم وتحضر.
وقد خرج البيهقي حديث جابر، ولفظه: (اللهم اني اسالك بحق هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة) .
وهذا اللفظ لا اشكال فيه؛ فان الله سبحانه جعل لهذه الدعوة وللصلاة حقا كتبه على نفسه، لا يخلفه لمن قام بهما من عباده، فرجع الامر إلى السؤال بصفات الله وكلماته.
ولهذا استدل الامام أحمد على ان القران ليس بمخلوق باستعاذة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكلمات الله التامة، وقال: انما يستعاذ بالخالق لا بالمخلوق.
وأمارواية من روي: (اللهم، رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة) ، كما هي رواية البخاري والترمذي وغيرهما، فيقال: كيف جعل هذه الدعوة مربوبة، مع ان فيها كلمة التوحيد، وهي من القرآن، والقرآن غير مربوب ولا مخلوق؟
وبهذا فرق من فرق من اهل السنة بين افعال الايمان واقواله، فقال: اقواله غير مخلوقة، وافعاله مخلوقة؛ لان اقواله كلها ترجع إلى القران؟(5/271)
واجيب عن هذا بوجوه:
منها: ان المربوب هو الدعوة إلى الصلاة خاصة، وهو قوله: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) ، وليس ذلك في القرآن، ولم يرد به التكبير والتهليل. وفيه بعد.
ومنها: ان المربوب هو ثوابها. وفيه ضعف.
ومنها: ان هذه الكلمات من التهليل والتكبير هي من القرآن بوجه، وليست منه بوجهه، كما قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((افضل الكلام من القران اربع، وهن من القرآن: سبحانه الله، والحمد الله، ولا اله الا الله، والله اكبر)) .
فهي من القرآن إذا وقعت في اثناء القرآن، وليست منه إذا وقعت من كلام خارج عنه، فيصح ان تكون الكلمات الواقعة من ذلك في ضمن ذلك مربوبة.
وقد كره الامام أحمد ان يؤذن الجنب، وعلل بأن في الاذان كلمات من القرآن.
والظاهر: ان هذا على كراهة التنزيه دون التحريم.
ومن الأصحاب من حملة على التحريم، وفيه نظر؛ فان الجنب لا يمنع من قول: "سبحان الله، والحمد الله، ولا قوة الا بالله، والله اكبر" على وجه الذكر، دون التلاوة.
وسئل إسحاق عن الجنب يجيب المؤذن؟ قال: نعم؛ لانه ليس(5/272)
بقران.
ومنها: ان الرب ما يضاف اليه الشيء، وان لم يكن خلقا لم، كرب الدار ونحوه، فالكلام يضاف إلى الله؛ لانه هو المتكلم به، ومنه بدأ، واليه يعود، فهذا بمعنى اضافته إلى [ربوبية] الله.
وقد صرح بهذا المعنى الاوزاعي، وقال فيمن قال: (برب القران) : ان لم يرد ما يريد الجهمية فلا بأس.
يعني: إذا لم يرد بربوبيته خلقه كما يريده الجهمية، بل اراد اضافة الكلام إلى المتكلم به.
وقوله: (ات محمداً الوسيلة) ، قد تقدم حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، انه قال: ((ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فانها منزلة في الجنة لا تنبغي الا لعبد من عباد الله، وارجو ان اكون انا هو)) .
وخرج الامام أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال ((سلوا الله لي الوسيلة)) . قالوا: يارسول الله، وما الوسيلة؟ قال: ((اعلى درجة من الجنة، لاينالها الا رجل واحد ارجو ان اكون انا)) .
ولفظ الامام أحمد: ((إذا صليتم علي فسلوا الله لي الوسيلة)) - وذكر باقيه.
وخرج الامام أحمد من حديث أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((الوسيلة درجة عند الله عز وجل ليس فوقها درجة، فسلوا الله ان يؤتيني الوسيلة)) .(5/273)
وأما ((الفضيلة)) ، فالمراد – والله اعلم -: اظهار فضيلته على الخلق اجمعين يوم القيامة وبعده، واشهاد تفضيله عليهم في ذلك الموقف، كما قال: ((انا سيد ولد ادم يوم القيامة)) ، ثم ذكر حديث الشفاعة.
وقوله: ((وابعثه مقأمامحمودا)) ، هكذا في رواية البخاري وأبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم.
وعزا بعضهم إلى النسائي، انه رواه بلفظ: ((المقام المحمود)) بالتعريف، وليس كذلك.
[وكذلك] وقعت هذه اللفظة بالالف واللام في بعض طرق روايات الاسماعيلي في ((صحيحه)) .
ووجه الرواية المشهورة: ان ذلك متابعة للفظ القرآن، فهو اولى، وعلى هذا فلا يكون ((الذي وعدته)) صفة؛ لانه النكرة لا توصف بالمعرفة وان تخصصت، وانما تكون بدلاً، لان البدل لا يشترط ان يطابق في التعريف والتنكير، او يكون منصوباً بعفل محذوف تقديره: ((اعني: الذي وعدته)) ، او يكون مرفوعاً – خبر مبتدأ محذوف - أي ((هو الذي وعدته)) .(5/274)
و ((المقام المحمود)) :
فسر بالشفاعة.
وقد روي ذلك عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وغيرهم.
وفسر: بأنه يدعى يوم القيامة ليكسى حلة خضراء، فيقوم عن يمين العرش مقأمالا يقدمه احد، فيغبطه به الاولون والاخرون.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حديث ابن مسعود، ونحوه من حديث كعب بن مالك – أيضا - وكذا روي عن حذيفة - موقوفاً، ومرفوعاً.
وهذا يكون قبل الشفاعة.
وفسره مجاهد وغيره بغير ذلك.
وقوله: ((حلت له شفاعتي)) .
قيل: معناه نالته وحصلت له ووجبت.
وليس المراد بهذ الشفاعة الشفاعة في فصل القضاء؛ فان تلك عامة لكل احد. ولا الشفاعة في الخروج من النار، ولا بد؛ فانه قد يقول ذلك من لا يدخل النار.
وانما المراد – ولله اعلم -: انه يصير في عناية رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بحيث تتحتم له شفاعته؛ فان كان ممن يدخل النار بذنوبه شفع له [في] اخراجه منها، او في منعه من دخولها. وان لم يكن من اهل النار فيشفع له في دخوله الجنة بغير حساب، او في رفع درجته في الجنة.
وقد سبقت الاشارة إلى انواع شفاعة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ((كتاب التيمم)) .(5/275)
9 - باب
الاستهام في الاذان
ويذكر ان قوما اختلفوا في الاذان، فأقرع بينهم سعد.
قال عبد الله ابن الامام أحمد: ثنا أبي: ثنا هشيم، قال: ابن شبرمة اخبرنا، قال: تشاح الناس بالقادسية على الاذان، فارتفعوا إلى سعد، فأقرع بينهم.
وهذا إسناد منقطع.
قال عبد الله ابن الامام أحمد: سألت أبي عن مسجد فيه رجلان يدعيان انهما احق بالمسجد، هذا يؤذن فيه وهذا يؤذن فيه؟ فقال: إذا استووا في الصلاح والورع اقرع بينهما. وكذلك فعل سعد، فان كان احدهما اصلح [في دينه] فينبغي لهم الا يختصموا.
فقلت: وان كان احدهما اسن واقدم في هذا المسجد، ينفق عليه ويحوطه ويتعاهده؟ قال: هذا احق به.
ومعنى هذا: انه إذا تشاح في الاذان اثنان، فان امتاز احدهما بمزيد فضل في نفسه فانه يقدم، وهو مراد أحمد بقوله: ((ان كان احدهما اصلح [في دينه] فينبغي لهم الا يختصموا)) - يعني: أن الأصلح أحق(5/276)
فلا ينازع -، فإن استووا في الفضل في أنفسهم وامتاز أحدهم بخدمة المسجد وعمارته قدم بذلك وقال أصحابنا: إنه يقدم أحد المتنازعين باختصاصه بصفات الأذان المستحبة فيه، مثل أن يكون أحدهما اندى صوتا وأعلم بالمواقيت ونحو ذلك؛ فإن استووا في الفضائل كلها أقرع بينهم حينئذ، كما فعل سعد.
والظاهر: أن مراد أحمد: التنازع في [طلب] الأذان ابتداء، فأمامن ثبت له حق في المسجد، وهو مؤذن راتب فيه، فليس لأحد منازعته، ويقدم على كل من نازعه.
وقد نقل الشالنجي عن أحمد ما يبين هذا المعنى:
قال اسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألت أحمد عن القوم إذا اختلفوا في الأذان فطلبوه جميعاً؟ فقال: القرعة في ذلك حسن.
وقال: ثنا هشيم، عن ابن شبرمة، أن الناس تشاحوا يوم القادسية في الأذان، فأقرع بينهم سعد في ذلك.
قال الشالنجي: قال ابو أيوب - يعني: سليمان بن داود الهاشمي -: إن مات المؤذن وله ولد صالح فهو أحق بالأذان، وإن لم يطلبه، وإن لم يكن بأهل لذلك، وطلبه صلحاء المسجد يقرع بينهم في ذلك.
وبه(5/277)
قال أبو خيثمة - يعني: زهير بن حرب.
وقال ابن أبي شيبة في الأذان: على ما جاء: ((يؤم القوم اقرؤهم لكتاب الله)) ، وكذلك الأذان.
قال الجوزجاني بعد أن ذكر هذا عن الشالجني - ما معناه -: إن اختلاف الناس يرد إلى السنة.
ثم روى حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((المؤذن مؤتمن)) من طرق.
وروى حديث حسين بن عيسى، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ليؤذن لكم خياركم)) .
وقد خرجه ابو داود وابن ماجه.
وتكلم فيه من جهة الحسين، والحكم – أيضا.
وفي مراسيل صفوان بن سليم، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبني خطمة من الانصار: ((يابني خطمة، اجعلوا مؤذنكم أفضلكم في انفسكم)) .
ثم قال الجوزجاني: لا بد ان يكون المؤذن خياراً، وبأن يكون مؤتمناً متبعاً للسنة، فالمبتدع غير مؤتمن. فإن اجتمع هذه الخلال في عدة من اهل المسجد، فإن أحقهم بالأذان أنداهم صوتا.
ثم ذكر حديث عبد الله بن زيد، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: ((القه على بلال؛ فإنه أندى صوتا منك)) . قال: وإنما أظنهما كانا متقاربين في الفضل والامانة، وفضله بلال(5/278)
بالصوت، فلذلك رآه أحق.
فإذا اجتمع رجال في المسجد وعلاهم رجل ببعض هذه الخصال كان أحق بالاذان، وإذا استوت فيها حالاتهم فالقرعة عند ذلك حسن.
واشار إلى فعل سعد وعضده بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لو يعلم الناس ما في النداء، ثم لم يجدوا الا ان يستهموا عليه لا ستهموا)) .
ثم قال: فأماالاباء والابناء والعصبة في الاذان والامامة، فانا لا نعلم فيه سنة ماضية. والله اعلم. انتهى ما ذكره ملخصاً.
وخرج ابو داود من رواية غالب القطان، عن رجل، عن أبيه، عن جده، ان رجلا منهم اتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ان أبي شيخ كبير، وهو عريف الماء، وانه سألك ان تجعل الي العرافة بعده؟ فقال: ((ان العرافة حق، ولابد للناس من العرفاء، والعرفاء في النار)) .
وهذا إسناد مجهول.
ولم يذكر انه جعل العرافة له بمجرد كون أبيه عريفاً، والامامة العظمى لا تستحق بالنسب، ولهذا انكر الصحابة على من بايع لولده.
وقال عبد الرحمن بن أبي بكر. جئتم بها هرقلية، تبايعون لابنائكم!
وسمع ذلك عائشة والصحابة، ولم ينكروه عليه، فدل على ان البيعة للابناء سنة الروم وفارس، وأماسنة المسلمين فهي البيعة لمن هو افضل واصلح للامة.
وما تزعمة الرافضة في ذلك فهو نزعة من نزعات(5/279)
المشركين في تقديم الاولاد والعصبات.
وسائر الولايات الدينية سبيلها سبيل الامامة العظمى في ذلك. والله اعلم.
وقد روي ما يستدل به من جعل الاذان للابناء بعد ابائهم.
قال الامام أحمد: ثنا خلف بن الوليد: ثنا الهذيل بن بلال، عن ابن أبي محذورة، عن أبيه - او جده -، قال: جعل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الاذان لنا ولموالينا، والسقاية لبني هاشم، والحجابة لبني عبد الدار.
الهذيل بن بلال، ضعفه ابن معين. وقواه الامام أحمد، وابو حاتم.
وإسناده مشكوك فيه، ولم يسم ابن أبي محذورة هذا.
وخرج الامام أحمد والترمذي من رواية أبي مريم، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((الملك في قريش، والقضاء في الانصار، والاذان في الحبشة)) .
وخرجه الترمذي موقوفاً على أبي هريرة، وقال: هو اصح.
وابو مريم هذا، ليس بالمشهور.
والمراد بهذا: ان سيد المؤذنين كان من الحبشة، لا انه يتوارثونه بعد بلال، فانه لا يعرف بعده من الحبشة مؤذن.(5/280)
وقد يستدل – أيضا - بان ولد أبي محذورة كانوا يتوارثون الاذان بمكة مدة طويلة، وكذلك اولاد سعد القرظ بالمدينة.
وروى الدارقطني بإسناده عن سعد القرظ، ان عمر دعاه، فقال له: الاذان اليك وإلى عقبك من بعدك.
وفي الإسناد ضعف.
قال الشافعي – رحمه الله - وأصحابه: يستحب ان يكون المؤذن مولد بعض من جعل بعض الصحابة الاذان فيهم، ثم الاقرب اليهم فالاقرب.
وقال الشافعي - أيضا -: إذا تنازع جماعة في الاذان، ولم يكن للمسجد مؤذن راتب اقرع بينهم، وكذا إذا كان له مؤذنون، وتنازعوا في الابتداء، او كان المسجد صغيراً، وادى اختلاف اصواتهم إلى تهويش، فيقرع، ويؤذن من خرجت له القرعة، أماإذا كان هناك راتب، ونازعه غيره، قدم الراتب، وان كان جماعة مرتبون، وامكن اذان كل واحد في موضع من المسجد؛ ولكبره، اذن كل واحد وحده، وان كان صغيراً، ولم يؤد اختلاف اصواتهم إلى تهويش اذنوا جملة واحدة.
وهذا كله إذا كان التشاح رغبة في فضله وثوابه، فان كان رغبة في الرياسة والتقدم فينبغي ان يؤخر من قصد ذلك ولا يمكن منه، كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((انا لا نولي عملنا هذا من طلبه او حرص عليه)) .
قال سيفان الثوري: إذا رايت الرجل حريصاً على الامامة فأخره.(5/281)
وكذلك إذا كان غرضه اخذ العوض الذي يعطاه اهل الاذان في هذه الازمان، أماممن بيت المال - وقد عدم ذلك -، او من الوقف.
فان تشاح اثنان: احدهما غرضه ثواب الاذان، والاخر غرضه غرض الدنيا، فلا شك في ان الاول احق.
وقد قال عثمان بن أبي العاص: ان من اخر ما عهد إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ان اتخذ مؤذناً لا يأخذ على اذانه اجراً.
اخرجه الامام أحمد وابو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي.
وقال: حسن، والعمل عليه عند اهل العلم، كرهوا ان يأخذوا على الاذان اجراً، واستحبوا للمؤذن ان يحتسب في اذانه.
وروى ابو نعيم: ثنا عمارة بن زاذان، عن يحيى البكاء، قال: كنت اطوف مع سعيد بن جبير، فمر ابن عمر، فاستقبله رجل من مؤذني الكعبة، فقال ابن عمر: والله، اني لابغضك في الله؛ لاخذ الدارهم.
قال: وثنا المسعودي، عن القاسم - هو: ابن عبد الرحمن -، قال: كان يقال: اربع لا يؤخذ عليهن رزق: قراءة القرآن، والاذان، والقضاء، والمقاسم.(5/282)
وروى وكيع في ((كتابه)) عن عمارة بن زاذان، عن يحيى البكاء، ان ابن عمر قال له رجل في الطواف من مؤذني الكعبة: اني لاحبك في الله. قال: واني لابغضك في الله؛ لتحسينك صوتك لاجل الدراهم.
قال: معاوية بن قرة: لا يؤذن الا محتسب.
وروى ابن أبي شيبة: ثنا ابن نمير، عن حلام بن صالح، عن فائد بن بكير، قال: خرجت مع حذيفة إلى المسجد صلاة الفجر، وابن النباح مؤذن الوليد بن عقبة يؤذن، وهو يقول: الله اكبر الله اكبر، اشهد ان لا اله الا الله، اشهد ان لا اله الا الله، يهوي بأذانه يمينا وشمالاً. فقال حذيفة: من يرد الله ان يجعل رزقه في صوته فعل.
وهذا انما قاله حذيفة على وجه الذم له؛ لانه راه يتمايل في اذانه، كأنه يعجب بحسن صوته، فجعل حذيفة يناكل ذلك، وهذا مثل قول ابن عمر.
ونص الشافعي - في الحديث -: ان الامام ليس له أن يرزق المؤذنين وهو يجد من يؤذن له طوعا ممن له امانة.
وكذلك قال أصحابنا.(5/283)
وقال الشافعي - في القديم -: قد رزقهم امام هدى: عثمان بن عفان.
وسئل الضحاك عن مؤذن يؤذن بغي اجر فيعطى: هل يأخذ؟ قال: ان عطى من غير مسألة، وكان فقيراً، فلا باس ان يأخذ.
وظاهر مذهب الامام أحمد: انه لايأخذ على شيء من الاذان اجراً، ونص عليه في الاذان بخصوصه.
وروي عنه: ان الامام يرزقهم من الفيء، وهو محمول على انه لم يجد من يتطوع بذلك.
ونقل عنه ابن منصور في الذي يقوم للناس في رمضان: أيعطى؟ قال: ما يعجبي ان يأخذ على شيء من الخير اجراً.
قال: وقال إسحاق بن راهويه: لايسعه ان يؤم على نية اخذ، وان ام ولم ينو شيئا من ذلك، فأعطي او اكرم جاز.
ونقل حرب وغيره عن أحمد: انه يقدم عند [النسا] من رضيه اهل المسجد.
فحكى القاضي وأصحابه هذه الرواية ثانية عن أحمد؛ لان الحق لهم في ذلك؛ لانهم اعرف بمن يبلغهم صوته، ومن هو اعف عن النظر عند علوة عليهم للاذان.
وجعل صاحب ((المغني)) رضا الجيران مقدما على القرعة، وانه انما يقرع بعد ذلك.(5/284)
والصحيح: طريقة الاكثرين؛ لان ابا داود نقل عن أحمد: انه لا يعتبر رضا الجيران بالكلية، وانما يعتبر القرعة، فعلم ان رواية ومن وافقه تخالف ذلك.
ولا يعتبر رضا من بني المسجد واختياره -: نص عليه أحمد؛ معللا بأن المسجد لله، ليس للذي بناه.
يشير إلى انه خرج من ملكه، وصار لله عز وجل.
وهذا يدل على انه لا [تصرف] له على المسجد الذي بناه.
وهو المشهور – أيضا - عن الشافعية: ان باني المسجد ليس احق بامامته واذانه من غيره.
وقال ابو حنيفة وطائفة من الشافعية – كالروياني -: ان من بني المسجد فهو احق بأذانه وامامته، كما ان من اعتق عبداً فله ولاؤه.
وهذا التشبيه لا يصح؛ لان ثبوت الولاء على العبد المعتق لا يستفيد به الولاية عليه في حياته، والحجر عليه، والانتفاع بماله، وانما يستفيد به رجوع ماله اليه بعد موته؛ لانه لا بد من انتقال مال عنه حينئذ، فالمولى المعتق احق به من غيره من المسلمين؛ لاختصاصه بإنعامه عليه.
وأماالمسجد، فالمقصود من بنائه انتفاع المسلمين به في صلواتهم واعتكافهم وعباداتهم، والباني له [كبقية] المسلمين في ذلك من غير زيادة.
فإن شرط باني المسجد عند وقفه له قبل مصيره مسجداً بالفعل انه وولده احق بإمامته واذانه صح شرطه واتبع، وان كان غيرهم اقرأ منهم واندى صوتاً، إذا كان فيهم من يصلح لذلك، وان كان غيره اولى منه -: نص على ذلك: عبيد الله بن الحسن العنبري.
وهو قياس قول أحمد في صحة الواقف(5/285)
لنفسه ما شاء من غلة الوقف ومنافعه.
قال البخاري –رحمه الله -:(5/286)
615 - ثنا عبد الله بن يوسف: ابنا مالك، عن سمي مولى أبي بكر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، ان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الاول، ثم لا يجدون الا ان يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا اليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لاتوهما ولو حبوا)) .
فقوله: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الاول)) – يعني: لو يعلمون ما فيهما من الفضل والثواب، ثم لم يجدوا الوصول اليهما الا بالاستهام عليهما - ومعناه: الاقراع - لاستهموا عليهما تنافساً فيهما ومشاحة في تحصيل فضلهما واجرهما.
وهذا مما استدل به من يرى الترجيح عند التنافس في الاذان بالقرعة، كما سبق.
وقد قيل: ان الضمير في قوله: ((لا ستهموا عليه)) يعود إلى الصف الاول؛ لانه اقرب المذكورين، ولم يقل: ((عليهما)) .
والاظهر: انه يعود إلى(5/286)
النداء والصف الاول، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة:62] .
وقد دل الحديث على القرعة في التنافس في الصف الاول إذا استبق اليه اثنان وضاق عنهما وتشاحا فيه، فانه يقرع بينهما.
وهذا مع تساويهما في الصفات، فإن كان احدهما افضل من الاخر توجه ان يقدم الافضل بغير قرعة، عملا بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ليليني منكم اولوا الاحلام والنهي، ثم الذين يلونهم)) .
خرجه مسلم من حديث ابن مسعود، ومن حديث أبي مسعود الانصاري، كلاهما عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد ذكر أصحابنا: انه لو قدم بميتين إلى مكان مسبل من مقبرة(5/287)
مسبلة في ان واحد، فإن كان لاحدهما هناك ميزة من اهل مدفونين عنده او نحو ذلك قدم، وان استويا اقرع بينهما، ولو دفن اثنان في قبر، واستويا في الصفات اقرع بينهما، فقدم إلى القبلة من خرجت له القرعة.
وفعله معاذ بن جبل - رضي الله عنه - بامرأتين له، دفنهما في قبر.
وأماان كان ثبت لاحدهما حق التقدم في الصف، فليس لاحد ان يدفعه عنه، ولو كان افضل منه؛ لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا يقيم الرجل [الرجل] من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تفسحوا توسعوا)) .
فأن كان السابق إلى الصف غلأمالم يبلغ الحلم جاز تأخيره.
فعله أبي بن كعب بقيس بن عبادة، وصرح به أصحابنا، وهو ظاهر كلام الامام أحمد، وقول سفيان.
وكذلك ان قدم رجل عبداً له إلى الصف ثم جاء، فله ان يؤخره ويجلس مكانه.
وأماان تأخر السابق باختياره، فهل يكره، ام لا؟ فيه قولان، مبنيان على جواز الايثار بالقرب.
وظاهر كلام الامام أحمد كراهته، حتى في حق الابن مع أبيه، وحكى عنه جوازه - أيضا.
وعلى القول بالجواز، فلو قام من مكانه ايثاراً لرجل، فسبق اليه غير المؤثر، فهل يستحقه؟ فيه وجهان:
احدهما: يستحقه؛ لان المؤثر سقط حقه بزواله عنه.
والثاني: لا – وهو اصح -؛ لان من كان احق بمكانه، فله ان يجلس به بنفسه، ويؤثر به غيره.
وبهذا فسره الامام أحمد، واستحسن ابو عبيد(5/288)
ذلك منه.
وانما يسقط حقه إذا قام معرضاً عنه؛ ولهذا لو قام لحاجة ثم عاد فهو احق بمجلسه، فكذا إذا قام لايثار غيره.
وفي قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لو يعلمون ما في النداء والصف الاول، ولم يجدوا الا ان يستهموا عليه لاستهموا عليه)) : دليل على ان الاذان لا يشرع اعادته مرة بعد مرة، الا في اذان الفجر، كما جاءت السنة به، والا فلو شرعت اعادته لما استهموا، ولاذن واحد بعد واحد.
وقد صرح بمثل ذلك بعض أصحابنا، وقال: مع التزاحم يؤذن واحد بعد واحد. وهو مخالف للسنة.
وروي عن عمر، انه اختصم اليه ثلاثة في الاذان، فقضى لاحدهم بالفجر، للثاني بالظهر والعصر، وللثالث بالمغرب والعشاء.
وقد قيل: ان ابا بكر الخلال خرجه بإسناده، ولم اقف إلى الان عليه.
ولو قيل: انه يؤذن المتشاحون جملة لم يبعد.
وقد نص أحمد على انه لو اذن على المنارة عدة فلا بأس.
وقال القاضي ابو يعلى وأصحابه – متابعة للشافعي وأصحابه -: يستحب ان يقتصر على مؤذنين، ولا يستحب ان يزيد على اربعة.
ثم قالوا: ان كان المسجد صغيرا اذن واحد منهم بعد واحد، وان كان كبيراً اذنوا جملة؛ لانه ابلغ في التبليغ والاعلام.
وقال أصحاب(5/289)
الشافعي: إذا ضاق الوقت والمسجد كبير اذنوا في اقطاره، وان كان صغيرا اذنوا معاً، الا ان تختلف اصواتهم فيؤذن واحد.
واستدلوا بإذان بلال وابن ام مكتوم، وذاك انما كان في الفجر خاصة، ولا يعرف في غير الفجر، الا في الجمعة من حين زاد عثمان النداء الثالث على الزوراء.
وحمل ابن حبيب المالكي الاستهام على الاذان على الوقت المضيق كالجمعة والمغرب.
يشير إلى انه في الاوقات المتسعة ان يؤذن واحد بعد واحد.
وقال حرب: قلت لأحمد: فالأذان يوم الجمعة؟ [قال] : إذا اذن على المنارة عدة فلا باس بذلك؛ قد كان يؤذن للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلال وابن ام مكتوم، وجاء ابو محذورة وقد اذن رجل قبله فأذن ابو محذورة - أيضا.
وهذا النص يشعر بأنه يجوز ان يؤذن واحد بعد واحد في غير الفجر، وهذا محمول على جوازه إذا وقع احيانا، لا انه يستحب المداومة عليه، وأمااذان بلال وابن [ام] مكتوم فكان في الفجر، ولم يؤذنا جملة، فلا يدل على الاجتماع على الاذان بحال.
وقد علل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اذان بلال، فقال: ((ليرجع قائمكم، ويوقظ نائمكم)) .
وهذا المعنى لا يوجد في غير صلاة الصبح، ولا روي في غير الصبح انه اذن علي عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرتين.(5/290)
وفي ((الصحيحين)) عن ابن عمر: كان للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجد واحد مؤذنان: بلال وابن ام مكتوم.
وهذا يستدل به على انه يستحب نصب مؤذنين للمسجد خشية ان يغيب احدهما فيؤذن الاخر؛ لئلا يتعطل الاذان مع غيبته.
والذي ذكر الامام أحمد، خرجه ابن أبي شيبة: ثنا حفص، عن الشيباني، عن عبد العزيز بن رفيع، قال: رأيت ابا محذورة جاء وقد اذن أنسان، فأذن هو واقام.
وهذا فعله ابو محذورة مرة؛ لافتئات غيره عليه بأذانه قبله، ولم يكن مع أبي محذورة مؤذن راتب غيره بمكة.
قال ابن أبي شيبة: ثنا يزيد من هارون، عن حجاج، عن شيخ من المدينة، عن بعض بني مؤذني النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: كان ابن ام مكتوم يؤذن ويقيم بلال، وربما اذن بلال واقام ابن ام مكتوم.
إسناد ضعيف.
ولو صح لكان دليلاً على انهما لم يكونا يجتمعان في اذان واحد في غير صلاة الفجر.(5/291)
وروى وكيع في ((كتابه)) ، عن اسرائيل، عن جابر، عن عامر: كان لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة مؤذنين: بلال وابو محذورة وابن ام مكتوم، فإذا غاب واحد اذن الاخر. وقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لقد هممت ان اجعل المؤذنين ستة)) . قال: فإذا اقيمت الصلاة اشتدوا في الطرق، فاذنوا الناس بالصلاة.
هذا مرسل ضعيف؛ فان جابراً هو الجعفي.
وابو محذورة لم يكن يؤذن للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة.
وقد خرجه البيهقي، عن الحاكم، عن أبي بكر ابن إسحاق، عن العباس ابن الفضل الاسفاطي، عن أبي بكر بن أبي شيبة: ثنا يحيى، عن اسرائيل عن أبي إسحاق، عن الاسود، عن عائشة، قالت: كان للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة مؤذنين: بلال، وابو محذورة، وابن ام مكتوم.
وقال: قال ابو بكر - يعني: ابن إسحاق -: هو صحيح.
وليس كما قال ابن إسحاق.
هذا في كتاب ابن أبي شيبة ((المصنف)) .(5/292)
والصحيح: حديث وكيع، عن اسرائيل، عن جابر الجعفي، عن الشعبي - مرسلاً.
وروى الامام أحمد: ثنا اسماعيل: ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن الاسود، عن عائشة، قالت: كان للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤذنان: بلال وعمرو بن ام مكتوم.
وهذه الرواية اصح.
وخرج الدارقطني من رواية اولاد سعد القرظ، عن ابائهم، عن جدهم سعد، ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: ((يا سعد، إذا لم تر بلالا معي فأذن)) .
وفي إسناده ضعف.
وفي الحديث: دليل على شرف الاذان وفضله، واستحباب المنافسة فيه لاكابر الناس واعيانهم، وانه لا يوكل إلى اسقاط الناس وسفلتهم، وقد كان الاكابر ينافسون فيه.
قال: قيس بن أبي حازم: قال عمر: لو كنت اطيق الاذان مع الخليفى لاذنت.
وقال عبد الله بن الحسن: قال ابن أبي طالب: ما اسى على شيء، الا اني كنت وددت اني كنت سألت للحسن والحسين الاذان.
وعن سعد بن أبي وقاص، قال: لان اقوى على الاذان احب الي من(5/293)
ان احج واعتمر واجاهد.
وعن عمر وابن مسعود - معناه.
وعن ابن الزبير، قال: وددت ان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعطانا النداء.
وقال النخعي: كانوا يستحبون ان يكون مؤذنيهم فقهاؤهم؛ لانهم ولوا امر دينهم.
وقال الحسن: قال عمر: لا يستحي رجل ان يكون مؤذنا.
وقال زاذان: لو يعلم الناس ما في فضل الاذان لاضطربوا عليه بالسيوف.
وقال شبيل بن عوف، قال عمر: من مؤذنوكم؟ قلنا: عبيدنا وموالينا. قال: ان ذلك لنقص بكم كبير.
وروى قيس بن أبي حازم، عن عمر - مثله -، قال: وقال: لو اطقت الاذان مع الخليفى لاذنت.
وقال يحيى ابن أبي كثير: حدثت ان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لو علم الناس ما في الاذان لتحاوره)) . قال: وكان يقال: ابتدروا الاذان، ولاتبدروا الامامة.(5/294)
وقال حماد بن سلمة: ابنا ابو غالب، قال: سمعت ابا امامة يقول: المؤذنون امناء للمسلمين، والائمة ضمناء. قال: والاذان احب الي من الامامة.
خرجه البيهقي.
وممن راى الاذان افضل من الامامة: الشافعي في اصح قوليه، نص عليه في ((الام)) ، وعلى كراهة الامامة؛ لما فيها من الضمان.
وهو – أيضا - اصح الروايتين عن أحمد.
وروى ابو حمزة السكري، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((الامام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم ارشد الائمة واغفر للمؤذنيين)) . قالوا: يا رسول الله، تركتنا نتنافس في الاذان، فقال: ((ان من بعدكم زمانا سفلتهم مؤذنوهم)) .
خرجه البراز.
وقال: لم يتابع عليه ابو حمزة.
يعني: على الزيادة التي آخره؛ فإن أول الحديث معروف بهذا الإسناد، خرجه أبو داود والترمذي وغيرهما.
وقال(5/295)
الدارقطني: هذه الالفاظ ليست محظوظة.
قلت: وقد رويت بإسناد ضعيف، عن يحيى بن عيسى الرملي، عن الأعمش – أيضا.
ذكره ابن عدي.
وفي إسناد الحديث اختلاف كثير، وقد روي موقوفا على أبي هريرة.
قال الشافعي في ((الام)) : احب الاذان؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اللهم اغفر للمؤذنين)) ، واكره الامامة للضمان، وما على الامام فيها.
واستدل من رجح الامامة - وهو احد قولي الشافعي، وحكي رواية عن أحمد -: بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا يتولون الامامة دون الاذان.
واجيب عن ذلك بانهم كانوا مشتغلين عن الاذان بمصالح المسلمين التي لا يقوم غيرها فيها مقامهم، فلم يتفرغوا للاذان ومراعاة اوقاته؛ ولهذا قال عمر: لو كنت اطيق الاذان مع الخليفي لاذنت.
والخليفي: الخلافة.(5/296)
وأماالامامة، فلم يكن لهم بد من صلاة وهم ائمة الناس في امور دينهم وديناهم، فلذلك تقلدوا الامامة، ومن قدر على الجمع بين المرتبتين لم يكره له ذلك، بل هو افضل، وكلام عمر يدل عليه، وكان ابن عمر يفعل ذلك.
وقال مصعب بن سعد: هو من السنة.
وللشافعية وجه بكراهة الجمع.
وفي النهي عن الجمع حديث مرفوع: خرجه البيهقي وغيره، وهو غير صحيح.
وقال الماوردي منهم: للأنسان في الاذان والامامة اربعة احوال: حال يمكنه القيام بهما والفراغ لهما، فالاصل ان يجمع بينهما. وحال يعجز عن الامامة لقلة علمه وضعف قراءته، ويقدر على الاذان لعلو صوته ومعرفته بالاوقات، فالأنفراد له بالاذان افضل. وحال يعجز فيه عن الاذان لضعف صوته وقلة ابلاغه، ويكون قيما بالامامة لمعرفته بأحكام الصلاة وحسن قراءته، فالإمامة له افضل. وحال يقدر على كل واحد منهما ويصلح له، ولا يمكنه الجمع بينهما، فأيهما افضل؟ فيه وجهان.(5/297)
10 - باب
الكلام في الاذان
وتكلم سليمان بن صرد في اذانه.
وقال الحسن: لا بأس ان يضحك وهو يؤذن ويقيم.
روى وكيع في ((كتابه)) عن محمد بن طلحة، عن جامع بن شداد، عن موسى بن عبد الله بن يزيد الخطمي، عن سليمان بن صرد - وكانت له صحبة -، انه كان يؤذن في العسكر، وكان يأمر غلامه في أذانه بالحاجة.
وعن الربيع بن صبيح، عن الحسن، قال: لا بأس أن يتكلم في أذانه بالحاجة.
وروى ابن أبي شيبة من طرق [عن] الحسن، أنه لا بأس أن يتكلم في أذانه(5/298)
بالحاجة، وإقامته.
وأختلف العلماء في الكلام في الأذان والاقامة على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا بأس به فيهما، وهو قول الحسن والاوزاعي.
والثاني: يكره فيهما، وهو قول ابن سيرين والشعبي والنخعي وأبي حنيفة ومالك والثوري والشافعي، ورواية عن أحمد.
وكلهم جعل كراهة الكلام في الاقامة اشد.
وعلى هذا، فلو تكلم لمصلحة، كرد السلام وتشميت العاطس، فقال الثوري وبعض أصحابنا: لا يكره.
والمنصوص عن أحمد في رواية على بن سعد أنه يكره، وهو قول مالك وأبي حنيفة.
وقال أصحاب الشافعي: لا يكره، وتركه أولى.
وكذلك الكلام لمصلحة، فإن كان لغير مصلحة كره.
وقال إسحاق: إن كان لمصلحة غير دنيوية كرد السلام والامر بالمعروف فلا يكره، والا كره، وعليه حمل ما فعله سليمان بن صرد.
ووافق ابن بطة من أصحابنا قول إسحاق، إن كان لمصلحة.
ورخص في الكلام في الأذان عطاء وعروة.(5/299)
والقول الثالث: يكره في الاقامة دون الاذان، وهو المشهور عن أحمد، والذي نقله عنه عامة أصحابه، واستدل بفعل سليمان بن صرد.
وقال الاوزاعي: يرد السلام في الاذان، ولم يرده في الاقامة.
وقال الزهري: إذا تكلم في اقامته يعيد.
الفرق بينهما: ان مبنى الاقامة على الحدر والاسراع، فالكلام ينافي ذلك. ومتى كان الكلام يسيرا بنى عليه ما مضى من الاذان والاقامة عند جمهور العلماء، الا ماسبق عن الزهري في الاقامة. وروي عنه مثله في الاذان - أيضا.
ووافقه بعض أصحابنا في الكلام المحرم خاصة، الاذان والاقامة.
وان طال الكلام بطل ما مضى، ووجب عليه الاستئناف عند الاكثرين؛ لانه يخل بالمولاة في الاذان، ولا يحصل به الاعلام؛ لانه يظن متلاعباً.
وللشافعي قولان في ذلك.
وحاصل الامر: ان الكلام في الاذان شبيه بكلام الخاطب في خطبته.
والمشهور عن الامام أحمد، انه لا يكره الكلام للخاطب، وانما الكراهة للسامع.
وذهب كثير من العلماء إلى التسوية بينهما.
وأماما حكاه البخاري عن الحسن من الضحك في الاذان والاقامة، فمراره: ان الضحك في الاذان والاقامة لا يبطلهما، كما يبطل الصلاة، ولا(5/300)
باس بالاذان والاقامة وان وقع في اثنائها ضحك، غلب عليه صاحبه، ولم يرد انه لاباس ان يتعمد المؤذن الضحك في اذانه واقامته؛ فان ذلك غفلة عظيمة منه عن تدبر ما هو فيه من ذكر الله، وقد كان حال الحسن على غير ذلك من شدة تعظيم ذكر الله في الاذان وغيره والخشوع عند سماعه.
وقد روى ابن أبي الدنيا في "كتاب الرقة والبكاء" بإسناده، عن يحيى البكاء، عن الحسن، قال: إذا اذن المؤذن لم تبق دابة بر ولا بحر الا اصغت واستعمت. قال: ثم بكى الحسن بكاء شديداً.
وبإسناده، عن أبي عمران الجوني، انه كان إذا سمع الاذان تغير لونه، وفاضت عيناه.
وعن أبي بكر النهشلي نحو – أيضا -، وانه سئل عن ذلك، فقال: اشبهه بالصريخ يوم العرض، ثم غشى عليه.
وحكى مثل ذلك من غيره من الصالحين - أيضا.
وعن الفضيل بن عياض، أنه كان في المسجد، فأذن المؤذن، فبكى حتى بل الحصى، ثم قال: شبهته بالنداء، ثم بكى.
ولكن إذا غلب الضحك على المؤذن في اذانه بسبب عرض له لم يلم على ذلك، ولم يبطل اذانه.
وقد روى عن علي، انه كان يوماً على المنبر، فضحك ضحكاً ما رئي ضحك اكثر منه، حتى بدت نواجذه، ثم قال: ذكرت قول أبي طالب لما ظهر علينا، وانا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نصلي(5/301)
معه ببطن نخلة، فقال: مإذا تصنعان يا بن اخي؟ فدعاه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الاسلام، فقال: ما بالذي تصنعان بأس، ولكن والله لا تعلوني استي ابداً، فضحك تعجباً لقول أبيه.
خرجه الامام أحمد بإسناد فيه ضعيف.
قال البخاري – رحمه الله -:(5/302)
616 - حدثنا مسدد: ثنا حماد، عن ايوب وعبد الحميد صاحب الزيادي وعاصم الاحول، عن عبد الله بن الحارث، قال: خطبنا ابن عباس في يوم رزغ، فلما بلغ المؤذن: ((حي على الصلاة)) فأمره ان ينادي ((الصلاة في الرحال)) ، فنظر القوم بعضهم إلى بعض، فقال: فعل هذا من هو خير منه، وانها عزمة.
((الرزغ)) : بالزاي والغين المعجمة، هو: الرحل. يقال: ارزغت السما إذا بلت الارض. ويقال له – أيضا -: ((الردغ)) بالدال المهملة.
وقيل: ان الرزغ - بالزاي - اشد من الردغ. وقيل: هما سواء.
قال الخطأبي: الرزغة: وحل شديد، وكذلك الردغة. ورزغ الرجل [إذا ارتكم] في الوحل، فهو رزغ.
وقد خرجه البخاري – أيضا - في ((باب: هي يصلي الامام بمن(5/302)
حضر، وهل يخطب يوم الجمعة في المطر؟)) عن عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي، عن حماد، عن عبد الحميد وعاصم خاصة، وفصل حديث احدهما من حديث الاخر.
وفي حديث عبد الحميد عنده: قال: كأنكم انكرتم هذا، ان هذا فعله من هو خير مني - يعني: النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرجه - أيضا - في ((كتاب الجمعة)) من طريق ابن علية، عن عبد الحميد، قال: انا عبد الله بن الحارث ابن عم محمد بن سيرين: قال ابن عباس كمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت: ((اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله)) ، فلا تقل: ((حي على الصلاة)) . قل: ((صلوا في بيوتكم)) ، فكأن الناس استنكروا، فقال: قد فعله من هو خير مني.
وفي هذه الرواية: زيادة على ما قبلها من وجهين:
احدهما: انه نسب فيها عبد الله بن الحارث هذا: هو الانصاري البصري نسيب ابن سيرين وختنه على اخته.
وكذا وقع في ((سنن أبي داود)) – أيضا.
وفي ((سنن ابن ماجه)) من رواية عباد المهلبي، عن عاصم الاحول، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل.
وابن نوفل هذا، هو: الهاشمي، ويلقب ((ببه)) ، وكلاهما ثقة، مخرج له في ((الصحيحين)) . فالله اعلم.
والثاني: ان في هذه الرواية: ان ابن عباس نهى المؤذن ان يقول: ((حي على الصلاة)) ، وامره ان يبدلها في قوله: ((صلوا في بيوتكم)) .
وقد خرجهما(5/303)
مسلم – أيضا - كذلك.
وعلى هذه الرواية، فلا يدخل هذا الحديث في هذا الباب، بل هو دليل على ان المؤذن يوم المطر مخير بين ان يقول: ((حي على الصلاة حي على الفلاح)) ، وبين ان يبدل ذلك بقوله: ((صلوا في رحالكم او بيوتكم)) ، ويكون ذلك من جملة كلمات الاذان الاصلية في وقت المطر.
وهذا غريب جداً، اللهم الا ان يحمل على انه امره بتقديم هذه الكلمات على الحيعلتين، وهو بعيد مخالف لقوله: لا تقل: ((حي على الصلاة)) ، بل ((صلوا في بيوتكم)) .
والذي فهمه البخاري: ان هذه الكلمة قالها بعد الحيعلتين او قبلهما، فتكون زيادة كلام في الاذان لمصلحة، وذلك غير مكروه كما سبق ذكره؛ فإن من كره الكلام في اثناء الاذان انما كره ما هو اجنبي منه، ولا مصلحة للاذان فيه.
وكذا فهمه الشافعي؛ فإنه قال في كتابه: إذا كانت ليلة مطيرة، او ذات ريح وظلمة يستحب ان يقول المؤذن إذا فرغ من اذانه: ((الا صلوا في رحالكم)) فإن قاله في اثناء الاذان بعد الحيعلة فلا بأس.
وكذ قال عامة أصحابه، سوى أبي المعالي؛ فإنه استبعد ذلك اثناء الاذان.
وأماابدال الحيعلتين بقوله: ((الا صلوا في الرحال)) ، فانه اغرب واغرب.(5/304)
وفي الباب – أيضا - عن نعيم بن النهام.
خرجه الامام أحمد: ثنا عبد الرزاق: أبنا معمر، عن عبيد الله بن عمر، عن شيخ قد سماه، عن نعيم بن النحام، قال: سمعت مؤذن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ليلة باردة، وانا في لحافي، فتمنيت ان يقول: ((صلوا في رحالكم) ، فلما بلغ حي على الفلاح، قال: ((صلوا في رحالكم)) ، ثم سألت عنها، فإذا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امره بذلك.
في إسناده مجهول.
وله طريق اخر: خرجه الامام أحمد – أيضا -: ثنا علي بن عياش: ثنا اسماعيل بن عياش: ثنا يحيى بن سعيد: اخبرني محمد بن يحيى بن حبان، عن نعيم بن النحام، قال: نودي بالصبح في يوم بارد، وانا في مرط امراتي، فقلت: ليت المنادي قال: ((ومن قعد فلا حرج عليه)) ، فإذا منادي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اخر اذانه قال: ((ومن قعد فلا حرج عليه)) .
وخرجه ابو القاسم البغوي في ((معجم الصحابة)) من رواية سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن نعيم، به - بنحوه، ولم يقل: ((في اخر اذانه)) .
وقال: هو مرسل.(5/305)
يشير إلى ان محمد بن ابراهيم التيمي لم يسمع من نعيم.
ورواية سليمان بن بلال عن يحيى اصح من رواية اسماعيل بن عياش؛ فان اسماعيل لا يضبط حديث الحجازيين، فحديثه عنهم فيه ضعف.
وخرجه البيهقي من رواية عبد الحميد بن أبي العشرين، عن الاوزاعي عن يحيى بن سعيد، ان محمد بن ابراهيم بن الحارث التيمي حدثه، عن نعيم ابن النحام - فذكر الحديث بنحوه، وقال فيه: فلما بلغ: ((الصلاة خير من النوم)) ، قال: ((ومن قعد فلا حرج)) .
وروى سفيان بن عيينة، [عن عمرو بن دينار] ، عن عمرو بن أوس: انبأنا رجل من ثقيف، انه سمع منادي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول – في ليلة مطيرة في السفر -، يقول: ((حي على الصلاة، حي على الفلاح، صلوا في رحالكم)) .
خرجه النسائي.
وقد روى عبيد الله والليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر، انه كان ربما زاد في اذانه: ((حي على خير العمل)) .(5/306)
11 - باب
اذان الاعمى إذا كان له من يخبره(5/307)
617 - حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، ان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((ان بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن ام مكتوم)) ، وكان رجلاً اعمى، لاينادي حتى يقال له: اصبحت، اصبحت.
كذا روى القعنبي هذا الحديث عن مالك، ووافقه ابن أبي اويس وابن مهدي وعبد الرزاق وجماعة.
وهو في ((الموطا)) عن ابن شهاب، عن سالم - مرسلاً، وكذا رواه الشافعي والاكثرون عن مالك.
ورواه سائر أصحاب الزهري، عنه، عن سالم، عن أبيه - مسنداً.(5/307)
وقد خرجه مسلم من رواية الليث ويونس، عن ابن شهاب كذلك، ولم يخرجه من طريق مالك.
ورواه معمر وابن إسحاق، عن الزهري، عن ابن المسيب مرسلاً - أيضا.
وقوله في اخر الحديث: ((وكان رجلا اعمى)) قد ادرجه القعنبي في روايته عن مالك في حديثه الذي خرجه عنه البخاري، وكذا رواه ابو مسلم الكجي عن القعنبي.
وكذا رواه عبد العزيز بن [أبي] سلمة بن الماجشون، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، وادرجه في الحديث.
وخرج الباري حديثه في موضع اخر.
والحديث في ((الموطا)) ، كله، عن ابن شهاب، عن سالم - مرسلاً، فالذي في اخره يكون من قول سالم حينئذ.
وقد بين جماعة من رواة ((الموطا)) انه من قول ابن شهاب، منهم: يحيى ابن يحيى الاندلسي.
وقد رواه الجماعةمن القعنبي، عن مالك، فأسندوا الحديث، وجعلوا قوله: ((وكان رجلا اعمى)) - إلى اخره من قول الزهري، منهم: عثمان بن سعيد الدارمي والقاضي اسماعيل وابو خليفة الفضل بن الحباب وإسحاق بن الحسن.
وروى هذا الحديث ابن وهب، عن الليث ويونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه - فذكر الحديث، وزاد: قال يونس في(5/308)
الحديث: وكان ابن ام مكتوم هو الاعمى الذي انزل الله فيه ... {عبس وتولى} [عبس:1] ، كان يؤذن مع بلال. قال سالم: وكان رجلاً ضرير البصر، ولم يكن يؤذن حتى يقول له الناس حين ينظرون إلى بزوغ الفجر: اذن.
خرجه البيهقي وغيره.
وخرج مسلم في ((صحيحه)) من حديث عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤذنان: بلال وابن ام مكتوم الاعمى.
وعن عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة – مثله.
ومن طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان ابن ام مكتوم يؤذن لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو اعمى.
كذا خرجه من رواية محمد بن جعفر، عن هشام.
ورواه وكيع وابو اسامة، عن هشام، عن أبيه – مرسلاً.
ومقصود البخاري: الاستدلال بحديث ابن عمر على ان اذان الاعمى غير مكروه، إذا كان له من يخبره بالوقت، وسواء كان البصير المخبر له مؤذنا معه، كما كان بلال وابن ام مكتوم، أو كان موكلا باخباره بالوقت من غير تأذين.
وهذا هو قول اكثر العلماء، منهم:(5/309)
النخعي والثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وابو ثور.
وان لم يكن معه بصير يخبره بالوقت كره اذانه، ولو كان عارفا بالوقت بنفسهِ.
قال القاضي من أصحابنا: لان معرفته بنفسه يعمل بها في حق نفسه دون غيره.
وقال ابن أبي موسى من أصحابنا: لا يؤذن الاعمى الا في قرية فيها مؤذنون، فيؤذن بعدهم، وان كان في قرية واحدة لم يؤذن حتى يتحقق دخول الوقت.
وقالت طائفة: يكره اذان الاعمى، روى عن أبي مسعود وابن الزبير.
وعن ابن عباس، انه كره اقامته.
وحكى الامام أحمد عن الحسن، انه كره اذان الاعمى.
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
وحكاه القاضي ابو يعلى رواية عن أحمد، وتأولها على انه لم يكن معه ما يهتدي به.
قال ابن عبد البر: وفي الحديث دليل على جواز شهادة الاعمى على ما استيقنه من الاصوات، الا تري انه كان إذا قيل له - يعنى: ابن ام مكتوم -: اصبحت قبل ذلك، وشهد عليه، وعمل به. انتهى.(5/310)