شرح حديث أبي برزة في كفارة المجلس
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن حاتم الجرجرائي وعثمان بن أبي شيبة المعنى أن عبدة بن سليمان أخبرهم عن الحجاج بن دينار عن أبي هاشم عن أبي العالية عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
فقال رجل: يا رسول الله! إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى؟ فقال: كفارة لما يكون في المجلس)].
أورد أبو داود حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه في كفارة المجلس، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في آخر أمره، ويدل هذا على أن ذلك إنما حصل من الرسول صلى الله عليه وسلم في أواخر أيامه، أو آخر أمره عليه الصلاة والسلام، وأن على الإنسان أن يحرص على اتباع هذا الأمر، وعلى الإتيان بهذا الذكر ليكون كفارة لما يحصل، ويكون زيادة خير فيما إذا كان ليس هناك شيء مكفر وإنما المجالس مجالس خير مثل مجالس ذكر العلم، فيكون ذلك زيادة خير على خير، ونور على نور.(552/15)
تراجم رجال إسناد حديث أبي برزة في كفارة المجلس
قوله: [حدثنا محمد بن حاتم الجرجرائي].
محمد بن حاتم الجرجرائي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[وعثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[أن عبدة بن سليمان].
عبدة بن سليمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرهم عن الحجاج بن دينار].
الحجاج بن دينار لا بأس به، وهي بمعنى صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبي هاشم].
هو أبو هاشم الرماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي العالية].
هو أبو العالية رفيع الرياحي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي برزة الأسلمي].
أبو برزة الأسلمي اسمه نضلة بن عبيد رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(552/16)
حكم الإتيان بكفارة المجلس
ذكر كفارة المجلس من الآداب ومن الأمور المستحبة، ولو لم يأت بها الإنسان فلا يقال: إنه يأثم أو إنه ترك أمراً واجباً.(552/17)
الإتيان بقول (سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت) بعد الوضوء
يقول الحافظ في تلخيص الحبير: روى النسائي في عمل اليوم والليلة والحاكم في المستدرك من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: (من توضأ فقال: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رق ثم طبع بطابع فلم يكسر إلى يوم القيامة)، واختلف في وقفه ورفعه، وصحح النسائي الموقوف وضعف الحازمي الرواية المرفوعة.
ا.
هـ كلام الحافظ، وقال الألباني في إرواء الغليل (1/ 135): فائدة: يستحب أن يقول عقب الوضوء أيضاً: (سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك) وصححه في صحيح الجامع الصغير (6170 - 2059) وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة (5/ 438 - 440) رقم الحديث (2333).
وسواء كان مرفوعاً أو موقوفاً فإنه يؤتى به، وما دام بهذا الوصف فله حكم الرفع؛ لأن مثل ذلك هذا لا يقال من قبل الرأي، فإذا كان الإسناد صحيحاً وأنه انتهى إلى الصحابي فسواء كان موقوفاً أو مرفوعاً فيؤُتى به؛ لأن هذا الموقوف له حكم الرفع، وعلى هذا يؤتى بهذا الذكر مع الذكر الآخر الذي ورد وهو الشهادة وقول: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين).(552/18)
رفع الحديث من المجلس(552/19)
شرح حديث (لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب رفع الحديث من المجلس.
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا الفريابي عن إسرائيل عن الوليد قال أبو داود: ونسبه لنا زهير بن حرب عن حسين بن محمد عن إسرائيل في هذا الحديث قال الوليد بن أبي هشام عن زيد بن زائد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئاً؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب رفع الحديث من المجلس، والمقصود من ذلك رفع الحديث عن الغير، وأن تكون المجالس خالية من الكلام في الغير بنميمة أو بغيبة أو ما إلى ذلك، هذا هو المقصود من رفع الحديث من المجلس.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئاً)، بمعنى: أنه يتكلم فيه بشيء يسيء إليه، ويسيء رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الإبلاغ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يحب أن يخرج وقلبه ليس فيه شيء على أحد من أصحابه رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، لكن الحديث ضعيف؛ لأن في إسناده من هو متكلم فيه، وهو الوليد بن أبي هشام.(552/20)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئاً)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
محمد بن يحيى بن فارس ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا الفريابي].
هو محمد بن يوسف الفريابي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسرائيل].
هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الوليد قال أبو داود ونسبه لنا زهير بن حرب عن حسين بن محمد عن إسرائيل في هذا الحديث، قال الوليد بن أبي هشام].
أي: أنه جاء في إسناد شيخه الأول بدون نسبة، أي: الوليد فقط، ولكن زهير بن حرب الذي هو أحد شيوخ أبي داود هو الذي نسبه، ثم ذكر الإسناد إلى إسرائيل وقال: إنه الوليد بن أبي هشام، والوليد بن أبي هشام مستور، والمستور بمعنى مجهول الحال، أخرج له أبو داود والترمذي.
وزهير بن حرب أبو خيثمة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن حسين بن محمد].
هو حسين بن محمد بن بهرام التميمي المروذي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن زائد].
زيد بن زائد مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي.
[عن عبد الله بن مسعود].
هو عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث فيه مقبول، والمقبول هو الذي يقبل حديثه إذا توبع وحصل له ما يعضده، وفيه أيضاً ذلك المستور الذي هو مجهول الحال؛ لأن المستور بمعنى مجهول الحال، وعلى هذا فالحديث ضعيف، ولكن كون المجالس تسلم من الكلام في الناس والاشتغال في أعراض الناس هذا أمر مطلوب.
ونقل الحديث على وجه يكون فيه الإفساد هذا هو النميمة، وأما الغيبة فهي ذكر الإنسان في غيبته بما يكره، وكل منهما مذموم، النميمة والغيبة.(552/21)
شرح سنن أبي داود [553]
لقد جاءت الشريعة الإسلامية بالتعاليم الربانية التي ترفع مكانة هذا الإنسان وتجعله كيساً فطناً، ذا عقلٍ ومروءة، فمن هذه التعاليم أنها علمته الحذر من شرور بعض الناس، وألا يكون غافلاً فيقع في نفس الخطأ أكثر من مرة، وأن يكون نشيطاً حركاً، لا خاملاً كسولاً، وأن يكون متأدباً محتشماً، سواء في مشيه أو جلوسه.(553/1)
الحذر من الناس(553/2)
شرح حديث (إذا هبطت بلاد قومه فاحذره)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الحذر من الناس.
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا نوح بن يزيد بن سيار المؤدب حدثنا إبراهيم بن سعد قال: حدثنيه ابن إسحاق عن عيسى بن معمر عن عبد الله بن عمرو بن الفغواء الخزاعي عن أبيه رضي الله عنه قال: (دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أراد أن يبعثني بمال إلى أبي سفيان رضي الله عنه يقسمه في قريش بمكة بعد الفتح، فقال: التمس صاحباً، قال: فجاءني عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه، فقال: بلغني أنك تريد الخروج وتلتمس صاحباً؟ قال: قلت: أجل، قال: فأنا لك صاحب، قال: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: قد وجدت صاحباً، قال: فقال: من؟ قلت: عمرو بن أمية الضمري، قال: إذا هبطت بلاد قومه فاحذره، فإنه قد قال القائل: أخوك البكري ولا تأمنه، فخرجنا حتى إذا كنت بالأبواء قال: إني أريد حاجة إلى قومي بودان فتلبث لي، قلت: راشداً، فلما ولى ذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم، فشددت على بعيري حتى خرجت أوضعه، حتى إذا كنت بالأصافر إذ هو يعارضني في رهط، قال: وأوضعت فسبقته، فلما رآني قد فته انصرفوا، وجاءني فقال: كانت لي إلى قومي حاجة، قال: قلت: أجل، ومضينا حتى قدمنا مكة فدفعت المال إلى أبي سفيان)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في الحذر من الناس، أي: أن الإنسان يكون على حذر من الناس، ولا يحسن الظن بكل أحد وإن كان لا يعرفه، بل مع إحسان الظن يكون على حذر من الناس؛ لأن من الناس من يكون فيه سوء وغش وخداع أو ما إلى ذلك، فيكون الإنسان عنده شيء من النباهة والحذر.
وقد أورد أبو داود حديثاً طويلاً فيه أمور مشكلة فيما يتعلق ببعض الصحابة، ولكن الحديث ضعيف فلا يؤثر؛ للضعف الذي في إسناده، ومن جهة أن الرسول حذر من ذلك الرجل وأن ذلك الرجل ذهب وأخبر قومه بهذا الذاهب إلى مكة، وقد يكون علم بالشيء الذي معه، وأنه فاتهم، ورجعوا إلخ، لكن كما تقدم الحديث ضعيف غير ثابت؛ لأن في إسناده من هو مستور، وفي إسناده أيضاً من هو مدلس، ولكن التدليس وجد التصريح فيه في موضع آخر، ولكن بقي أن فيه من هو لين الحديث وفيه من هو مستور، إذاً: هو غير صحيح وغير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: [عن عمرو بن الفغواء الخزاعي قال: (دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أراد أن يبعثني بمال إلى أبي سفيان رضي الله عنه يقسمه في قريش بمكة بعد الفتح)].
أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعاه ليرسله إلى مكة بنقود إلى أبي سفيان يقسمها على جماعة من قريش وذلك بعد الفتح، وقيل: إن هذا من التأليف لأولئك الذين هم حديثو عهد بالإسلام، وقال: التمس صاحباً، أي: صاحباً يكون معك ويرافقك في الطريق، حتى يكون عوناً له على حاجاته ويؤنسه ويتعاون معه على ما يحصل من أذى، فيما لو لقيهم شيء من الأذى.
وقوله: [(فجاءني عمرو بن أمية الضمري، فقال: بلغني أنك تريد الخروج وتلتمس صاحباً؟ قلت: أجل، قال: فأنا لك صاحب، قال: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: قد وجدت صاحباً، قال: فقال: من؟ قلت: عمرو بن أمية الضمري، قال: إذا هبطت بلاد قومه فاحذره، فإنه قد قال القائل: أخوك البكري ولا تأمنه)].
أي: أن عمرو بن الفغواء لم يسافر حتى حصل على رفيق، ولما جاءه ذلك الرفيق وقال: إني صاحبك، جاء إلى الرسول وقال: لقد وجدت صاحباً، وأخبره به، فقال: (إذا مررت ببلاد قومه فاحذره) حذره من ذلك الذي هو صاحبه ورفيقه في السفر، ثم ذكر المثل المشهور فقال: (أخوك البكري فلا تأمنه)، فإذا كان الإنسان لا يأمن أخاه الذي هو بكر أمه وبكر أبيه، فغيره من باب أولى.
وقوله: [(فخرجنا حتى إذا كنت بالأبواء قال: إني أريد حاجة إلى قومي بودان فتلبث لي، قلت: راشداً)].
أي: أنهما لما وصلا إلى ذلك المكان، قال: إني أريد أن أذهب إلى قومي في حاجة لي، فقال: راشداً، أي: اذهب راشداً، وتنبه لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا صرت بقومه فاحذره)، قال: فأسرعت ومضيت ولم أتلبث، أي: لم يجلس ينتظره؛ لأنه تذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم وتذكر تحذيره منه، فأسرع وأوضع بعيره، أي: أسرع عليه.
وقوله: [(فلما ولى ذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم فشددت على بعيري حتى خرجت أوضعه، حتى إذا كنت بالأصافر إذ هو يعارضني في رهط)].
أي: أنه جاء ومعه جماعة من قومه، فأسرع حتى تجاوزهم ولم يلحقوا به فتراجعوا.
ثم قال: (وأوضعت فسبقته، فلما رآني قد فته انصرفوا، وجاءني فقال: كانت لي إلى قومي حاجة، قلت: أجل، ومضينا حتى قدمنا مكة فدفعت المال إلى أبي سفيان).
وهذا الحديث فيه إشكال، ولكن الذي يريح من هذا الأشكال الذي في هذا المتن هو أن الحديث ضعيف، وإلا فإن فيه الكلام في ذلك الصحابي وأن الإنسان يحذره، وأن ذلك الصحابي جاء في قومه وكأنهم يريدون أن يأخذوا ذلك المال، ولكنه فاتهم إلخ، ولكن ما دام أن الحديث ضعيف فالحمد لله على السلامة.(553/3)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا هبطت بلاد قومه فاحذره)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
محمد بن يحيى بن فارس مر ذكره.
[حدثنا نوح بن يزيد بن سيار المؤدب].
نوح بن يزيد بن سيار المؤدب ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا إبراهيم بن سعد].
إبراهيم بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثنيه ابن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن، وهو مدلس وقد عنعن، ولكنه قد صرح بالتحديث في بعض الطرق كما ذكر ذلك الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة.
[عن عيسى بن معمر].
عيسى بن معمر لين الحديث، أخرج له أبو داود.
[عن عبد الله بن عمرو بن الفغواء].
عبد الله بن عمرو بن الفغواء مستور، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
أبوه صحابي، أخرج له أبو داود.
والمتن فيه نكارة، والإسناد فيه ضعف، فهو منكر نقلاً وضعيف إسناداً، والمنكر في المصطلح: هو ما يرويه الضعيف مخالفاً للثقة، فالمتن لا شك أن فيه نكارة من حيث عدم سلامة المعنى، والإسناد فيه ضعف؛ لأن فيه لين الحديث وفيه المستور، وكل منهما يضعف به الحديث.(553/4)
شرح حديث (لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن عقيل عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين)، وهذا يدل على الترجمة من جهة الحذر، فإنه إذا حصل اللدغ ثم بعد ذلك حصلت الغفلة ثم لدغ مرتين، فمعنى ذلك: أن هذا شيء مذموم، فالذي ينبغي هو الحذر، وأن الإنسان إذا حصل له شيء أول مرة يتنبه للمرة الثانية حتى لا تتكرر، فهذا الحديث يدل على الحذر من الناس، وألا يكون الإنسان غافلاً بحيث تتكرر الإساءة إليه، فيكون شأنه كشأن الإنسان الذي يلدغ من جحر ولا يتنبه حتى تخرج منه عقرب مرة أخرى وتلدغه.(553/5)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث].
قتيبة بن سعيد والليث مر ذكرهما.
[عن عقيل].
هو عقيل بن خالد بن عقيل المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة فقيه أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة قد مر ذكره.(553/6)
سبب ورود حديث (لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين)
يقول العظيم آبادي: والحديث ورد حين أسر النبي صلى الله عليه وسلم أبا غرة الشاعر يوم بدر، فمن عليه وعاهده ألا يحرض عليه ولا يهجوه، وأطلقه، فلحق بقومه، ثم رجع إلى التحريض والهجاء، ثم أسره يوم أحد، فسأله المن، فقاله.
يعني: فقال: (لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين)، لكن ما أدري عن ثبوت هذا السبب.(553/7)
هدي الرجل(553/8)
شرح حديث (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنه يتوكأ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في هدي الرجل.
حدثنا وهب بن بقية أخبرنا خالد عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنه يتوكأ)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في هدي الرجل، والرجْل: جمع راجل وهو الذي يمشي على رجليه؛ لأنه يوجد راجل وراكب، والرجل بسكون الجيم المقصود به الجمع، مثل: ركْب، وراكب، فراكب مفرد وركب جمع، وراجل مفرد والجمع رجْل، والمقصود من هذا بيان الهيئة التي يكون عليها الإنسان في مشيه، وهي أنه لا يكون عنده تماوت وتباطؤ، ولا يسرع الإسراع الشديد الذي يتعب نفسه، وإنما يمشي كما كان النبي عليه السلام يمشي، فإنه كان يمشي كأنما ينحدر من صبب، أي: أنه كان عنده نشاط وحركة وقوة، ولم يكن عنده كسل وخمول، ولم يكن معه جري وعدو فيؤثر ذلك عليه، ويكون غير لائق، وإنما كان على هذه الحالة التي هي وسط.
وقوله: [(كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنه يتوكأ)].
أي: كأنه يتوكأ على عصا، وهذا معناه: أن الذي يتوكأ على عصا يتحرك، وهذا الحديث يبينه الذي بعده وهو أنه كان كأنما ينحدر من صبب.(553/9)
تراجم رجال إسناد حديث (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنه يتوكأ)
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
هو وهب بن بقية الواسطي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[أخبرنا خالد].
هو ابن عبد الله الواسطي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد].
هو حميد بن أبي حميد الطويل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس رضي الله عنه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا الإسناد رباعي من أعالي الأسانيد عند أبي داود.(553/10)
شرح حديث (كان أبيض مليحاً إذا مشى كأنما يهوي في صبوب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حسين بن معاذ بن خليف حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد الجريري عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: كيف رأيته؟ قال: كان أبيض مليحاً إذا مشى كأنما يهوي في صبوب)].
أورد أبو داود حديث أبي الطفيل رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من صغار الصحابة وقد عمر، وقيل: إنه آخر الصحابة موتاً، وفيه أن سعيداً الجريري سأله عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رآه فقال: (كان أبيض مليحاً إذا مشى كأنما يهوي في صبوب)، وهذا مثلما جاء في الحديث الآخر: (كأنما ينحدر من صبب)، أي: مثل الماء إذا انحدر من صبب، فالماء إذا انحدر من علو إلى سفل يكون فيه إسراع.(553/11)
تراجم رجال إسناد حديث (كان أبيض مليحاً إذا مشى كأنما يهوي في صبوب)
قوله: [حدثنا حسين بن معاذ بن خليف].
حسين بن معاذ بن خليف ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الأعلى].
هو عبد الأعلى بن عبد الأعلى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سعيد الجريري].
هو سعيد بن إياس الجريري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الطفيل].
هو عامر بن واثلة رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وهذا الإسناد رباعي.(553/12)
صفة مشي المؤمن
يقول تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63] أي: ليس عندهم تكبر، بل هدوء وسكينة، وهذا لا ينافي الإسراع الذي من هذا النوع ولا ينافي السمت والوقار، والعجلة الزائدة في المشي هي مثل التباطؤ، وإنما الوسط الذي هو صفة مشي رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحق.(553/13)
ما جاء في الرجل يضع إحدى رجليه على الأخرى(553/14)
شرح حديث (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يضع إحدى رجليه على الأخرى.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث ح وحدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع، وقال قتيبة: يرفع الرجل إحدى رجليه على الأخرى.
زاد قتيبة: وهو مستلقٍ على ظهره)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في الرجل يضع إحدى رجليه على الأخرى، أي: أن يستلقي ويضع إحدى رجليه على الأخرى.
وأورد أبو داود في هذا حديثاً فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يضع أو يرفع إحدى رجليه على الأخرى، وقد جاء عن بعض الصحابة أنهم كانوا يضعون أرجلهم على أرجلهم وهم مستلقون، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء عنه أنه كان يفعل ذلك وهو مستلقٍ، وأيضاً جاء عن عمر وعثمان أنهم كانوا يفعلون ذلك.
إذاً: يحمل هذا النهي في الحديث على ما إذا كان يترتب على ذلك انكشاف العورة، فإنه إذا كان على الإنسان إزار ورفع إحدى رجليه على الأخرى ربما يترتب عليه انكشاف العورة، وهذا منهي عنه، وذلك مثل أن إحدى ركبتيه ويضع الرجل الثانية عليها؛ فإذا كان عليه إزار فإن عورته تنكشف، وأما إذا كان عليه سراويل فإنه لا تنكشف عورته بذلك، فيكون النهي فيما يترتب عليه انكشاف عورة، وأما إذا كان لا يترتب عليه انكشاف عورة، بأن يكون عليه إزار ولكنه مد رجليه ووضع إحداهما على الأخرى وهما ممدودتان، فإن هذا كما لو كانت الواحدة بجوار الأخرى، ولا يترتب عليه انكشاف عورة، وهذا لا محذور فيه، وعلى ذلك يحمل ما جاء من الأحاديث في ذلك أنه كان صلى الله عليه وسلم مستلقياً واضعاً إحدى رجليه على الأخرى، أي: أنه كان قد مدهما أو وضع أحداهما على الأخرى وهما ممدودتان، ومثل هذا لا يترتب عليه انكشاف العورة حتى ولو كان عليه إزار؛ لأن وضع واحدة على الأخرى وهما ممدودتان وهو مثل وضعها بجوارها، ولا يترتب عليه شيء من الانكشاف، وإنما الانكشاف يترتب لو كانت الرجل على الركبة، والإنسان عليه إزار، فإن هذا يترتب عليه انكشاف العورة، وهذا هو الذي لا يجوز، وأما إذا كان لا يترتب عليه ذلك وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله، فإنه يحمل على مثل هذه الصورة التي لا يترتب عليها انكشاف عورة.
وفيه دليل على أن الإنسان ينام مستلقياً ويضع إحدى رجليه على الأخرى إذا كان عليه إزار حتى يكون على وجه لا تنكشف معه العورة.(553/15)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث ح وحدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد].
موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وحماد بن سلمة بن دينار ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي الزبير].
هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه الصحابي الجليل، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(553/16)
شرح حديث عبد الله بن زيد أنه رأى رسول الله مستلقياً في المسجد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي حدثنا مالك ح وحدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عباد بن تميم عن عمه رضي الله عنه: (أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقياً، قال القعنبي: في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن زيد بن عاصم المازني رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مستلقياً وواضعاً إحدى رجليه على الأخرى.
وهذا يحمل على أنه كان على الطريقة التي لا يحصل معها انكشاف عورة، والذي تقدم من النهي يحمل على ما إذا كان هناك انكشاف عورة، وكل منهما ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(553/17)
تراجم رجال إسناد حديث عبد الله بن زيد أنه رأى رسول الله مستلقياً في المسجد
قوله: [حدثنا النفيلي].
هو عبد الله بن محمد النفيلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك عن ابن شهاب عن عباد بن تميم].
عباد بن تميم المازني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمه].
هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(553/18)
شرح أثر سعيد بن المسيب أن عمر وعثمان كانا يستلقيان ويضعان إحدى رجليهما على الأخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعثمان بن عفان رضي الله عنه كانا يفعلان ذلك].
أورد أبو داود هذا الأثر عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما كانا يفعلان ذلك، أي: يحصل منهما الاستلقاء ووضع إحدى الرجلين على الأخرى، كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الأثر جاء من طريق سعيد بن المسيب وهو لم يدرك عمر بن الخطاب وليس له رواية متصلة عنه، وأما عثمان فقد أدركه، فهو صحيح بالنسبة لـ عثمان وأما بالنسبة لـ عمر ففيه انقطاع.
قوله: [حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب].
كل هؤلاء مر ذكرهم.(553/19)
الأسئلة(553/20)
الجمع بين نهي النبي عن وضع إحدى الرجلين على الأخرى وبين فعله لذلك
السؤال
ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن وضع إحدى الرجلين على الأخرى، وفعله لذلك، ألا يقال فيها: إن القول مقدم على الفعل؟
الجواب
القضية ليست قضية ترجيح، وإنما قضية جمع، والجمع مقدم على الترجيح ومقدم على غيره؛ لأن الجمع بين النصوص هو الذي يؤتى به أولاً، وما دام أنه أمكن الجمع بينهما بأن النهي فيما إذا كان فيه انكشاف عورة، والفعل مبني على ما إذا لم يحصل انكشاف عورة؛ فإنه بذلك يحصل التوفيق بين النصوص.(553/21)
حال رواية سعيد بن المسيب عن عمر
السؤال
رواية سعيد بن المسيب عن عمر يصححها كثير من أهل العلم؛ لأن سعيداً كان يتتبع أخبار عمر، والإمام أحمد يقول: إذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن الذي يقبل؟ فما تعليقكم؟
الجواب
المراسيل كما هو معلوم حكمها معروف عند العلماء، وليس الشأن في كون عمر يفعل ذلك وقد فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الشأن ثبوته من حيث الإسناد.(553/22)
الأصل في المسلم العدالة أم الجهالة؟
السؤال
قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، هل يقبل الخبر إذا جاء به غير الفاسق، علماً أن الأصل في المسلم العدالة؟
الجواب
الأصل في المسلم الجهالة حتى تثبت العدالة أو يثبت ضدها، ولو كان الأصل في المسلم العدالة لما احتيج إلى أن يقال: ثقة، أو يقال: إنه عدل أو إنه كذا؛ لأن هذا هو الأصل، ولكن الناس يتكلمون في التعديل وفي التجريح، ويقولون لهذا: ثقة ويقولون لهذا: ضعيف، فلا يعني أنه إذا لم يوجد به جرح فالأصل هو العدالة، ولا يقال: إن فلاناً ثقة، بناءً على أنه لم يوجد فيه جرح، فالتوثيق وصف يكون مبنياً على علم بالشخص ومعرفة حاله.(553/23)
حكم تدريس الرجال للنساء بدون حجاب
السؤال
ما حكم من يقول: إنه يجوز تدريس الرجال للنساء بدون حجاب، مستدلاً بفعله صلى الله عليه وسلم عندما ذهب مع بلال بعد صلاة العيد وذكر النساء ووعظهن؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم لما خطب الناس وكانت النساء بعيدات ذهب إليهن ووعظهن وذكرهن، وهن كما هو معلوم في غاية الصيانة، فلا يقال: إنه يجوز للرجال أن يدرسوا النساء وأن يختلط الرجال بالنساء، فالرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في هذه المناسبة التي كانت خطبة وهن متسترات، فالنساء يدرسهن النساء والرجال يدرسهم رجال، ولا يدرس الرجال النساء، والنساء لا تدرس الرجال، بل كل يكتفي بجنسه.(553/24)
حكم التصدق بلقطة الحرم المدني عن صاحبها
السؤال
وجدت ثلاثة ريالات أمام البيت والبيت داخل الحرم المدني، فعرفتها ولم أجد صاحبها، فتصدقت بها عن صاحبها، فهل فعلي هذا صحيح؟
الجواب
فعلك صحيح، والثلاثة الريالات لا تعرف؛ لأنها ليس لها شأن، ولكن إذا كان يعرفها في المكان الذي وجدها فيه وحوله فيمكن أن يتعرف على صاحبها، لكن كونها تعرف سنة وينادى عليها: من ضاع عليه كذا، من ضاع عليه شيء، فلا تعرف هذا التعريف، ولكن إذا كان في مكان قريب والناس حوله، ويتكلم في الحاضرين، فيمكن التعريف من هذا الوجه، لكن لا تعرف التعريف الشرعي، الذي هو أن يعرف الضالة سنة، فمثل هذه الثلاثة الريالات من الأشياء التي يأخذها الإنسان حتى لو استنفقها لنفسه؛ لأنها من الأشياء التافهة، مثل السكين والحبل والمسمار والأشياء البسيطة التي ليس لها قيمة، فإن هذه الأشياء للإنسان أن يأخذها ولا محذور في ذلك، وما دام أنه قد أخذها وتصدق بها عن صاحبها فهذا شيء طيب.(553/25)
حكم العدة على المطلقة قبل الدخول بها
السؤال
عقدت على امرأة ثم طلقتها ولم أدخل بها، فهل يلزمها عدة؟ وهل يلزمني دفع المهر؟ نريد التفصيل.
الجواب
إذا كان قد سمي لها مهر فلها النصف، وإن لم يسم مهر فلها المتاع، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:49].
فلها التمتيع، وإذا كان قد فرض لها شيئاً فلها نصف المفروض، كما جاء ذلك في القرآن.
وأما العدة فليس عليها عدة، بل تكون قد بانت بمجرد الطلاق، هذا إذا لم يدخل عليها، ولم يخل بها؛ لأن بعض الناس يعقد ويخلو بها ويغلق الباب معها، فمثل هذا يقال له: خلوة، ويكون عليها عدة بذلك؛ لأنه حصل الاستمتاع أو التمكن من الاستمتاع، ولكن إذا عقد عليها مجرد عقد وما خلا بها فإنه ليس عليها عدة كما جاء في القرآن، ولها التمتيع إذا كان لم يسم لها مهر، ولو سمي لها مهر فلها نصف المسمى؛ لقوله عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237].
لكن عليها عدة وفاة لو مات عنها قبل الدخول، ولها الميراث، وأما في الطلاق فليس عليها عدة.
ولا يفرق بين الدخول والخلوة؛ لأنه ما دام أنه خلا بها وتمكن من الاستمتاع بها فقد يكون اطلع على شيء منها، فلو لم يحصل الدخول فإن الخلوة تكون كافية.(553/26)
الحجاب الشرعي
السؤال
هل يجب على المرأة أن تلبس تحت الحجاب ثوباً آخر أو خماراً أم لا يجب عليها إلا الحجاب وحده؟
الجواب
إذا كان الحجاب خفيفاً لا يستر فتلبس شيئاً آخر، وإذا كان خمارها كثيفاً كافياً فلا يحتاج إلى أن يضاف إليه شيء.(553/27)
حكم المشاركة في المسابقات التي تذاع في الفضائيات
السؤال
ما رأي الإسلام في اشتراك شخص مؤمن بالله في أحد البرامج التي تذاع على القنوات الفضائية والتي تختبر معلوماتك، ويمكن منها الحصول على مبلغ من المال، مثل: من سيربح المليون؟
الجواب
لا ينبغي لك أن تتعامل مع هذه الفضائيات، بل كن على حذر منها، واشتغل بما ينفعك وابتعد عما يضرك.(553/28)
مكان المؤذن عند الأذان
السؤال
في بلدنا يقف المؤذن على الأرض بجوار المنبر ورأيت المؤذن في المسجد النبوي يقف على مكان عالٍ خلف الإمام، فأين يقف المؤذن؟
الجواب
الأمر في ذلك واسع، فكونه يجلس على مكان عالٍ أو في الأرض كل ذلك يحصل به المقصود.(553/29)
بيان ما تصنع من لا يعدل زوجها بينها وبين ضرتها؟
السؤال
امرأة تقول: أنا امرأة تزوجني رجل قبل خمس سنوات وهو متزوج بامرأة من قبلي، ولم يخبرني بهذا إلا بعد مرور الخمس السنوات، وعندي الآن بنات، وأما الزوجة الأخرى فهي أجنبية كلمتها وقالت: إنها استخدمت معه السحر لكي لا يفارقها، وبعد معرفتي بهذا كلمته بهذا الخصوص، وأيضاً أهله غير راضين عنه، وبعد مرور الأيام تزيد المشاكل، وهو لا يعدل بيننا، بل يذهب عند زوجته الأولى بكثرة مع أني لم أعص له أمراً، وأنا ملتزمة والأولى غير ملتزمة، فماذا أفعل؟ هل أطلب الطلاق أم أصبر على هذه الحال؟
الجواب
إذا كانت السائلة يمكنها الصبر وترى أن المصلحة أن تصبر، فتصبر، وإن كانت ترى أنها لا تستطيع أن تصبر على هذا الذي يحصل منه من عدم العدل -كما تقول- فتطلب منه الطلاق، أو ترفع الأمر إلى المحكمة.(553/30)
شرح سنن أبي داود [554]
لقد جاءت الشريعة بحفظ أعراض الناس وحقوقهم، وحرمت الطعن في أعراضهم أو النيل من حقوقهم، ولذلك فقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم إفشاء الأسرار، ونقل الحديث، والغيبة والنميمة، وكل ما يحصل به فساد أو إفساد بين الناس، وذلك من أجل أن تبقى الأمة الإسلامية أمة متحابة مترابطة، وعند ذلك تتوفر فيهم صفات الاستخلاف في الأرض، ودخول الجنة في الآخرة.(554/1)
ما جاء في نقل الحديث(554/2)
شرح حديث (إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في نقل الحديث.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن عطاء عن عبد الملك بن جابر بن عتيك عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: باب في نقل الحديث، أي: نقل الكلام الذي يسمعه من شخص إلى شخص، ومعنى ذلك: أن الكلام إذا كان سراً فإنه لا يفشى، وأما إذا كان غير سر وأنه مما يسمح في إفشائه أو أن المطلوب هو إفشاؤه فإن هذا لا يدخل في المحذور، وإنما الذي يمنع من إفشائه ونقله هو الذي يكون صاحبه يريد كتمانه وعدم إفشائه، هذا هو المقصود بنقل الحديث الذي ترجم له أبو داود.
وقد أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة)، أي: إذا حدث رجل رجلاً بحديث، والمقصود بالحديث: خبر من الأخبار أو شيء من الأشياء التي هي سر أفشاه إليه، فإنه أمانة، وقوله: (ثم التفت)، أي: ذلك المتحدث، وهذه علامة تقوم مقام قوله: لا تفش هذا السر، أو اكتم هذا الكلام، فإن هذا فعل يقوم مقام القول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه أمانة، فكونه التفت معناه: أنه يخشى أن يسمعه أحد، أو أنه لا يريد أن يسمعه أحد غير الذي يحدثه، فهذه علامة على أنه لا يريد إفشاءه، وعلى هذا فما كان من هذا القبيل فإنه أمانة عند هذا الذي حدث بهذا الحديث؛ لأن كونه يفعل هذا الفعل دليل على رغبته في عدم إفشائه، ومعلوم أن الشيء الذي وصف بأنه أمانة معناه أنه يحافظ عليه، ولا يعديه الإنسان الذي حُدث به إلى غيره.
والمقصود بالحديث كما عرفنا: خبر من الأخبار أو شيء أفشاه إنسان لإنسان، وليس المقصود من ذلك شيء آخر مثل كونه يحدث بحديث أو يخبره بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا ليس هو المقصود، وإنما المقصود حديث خاص، أو كلام خاص يجري بينه وبين من يحدثه، فإذا التفت فيكفي لأن يلتزم الذي حُدث بهذا الحديث أن يخفيه، وألا يفشيه، وإن لم يقل له: لا تفش هذا الخبر، أو اكتم هذا الخبر؛ لأن هذا فعل يقوم مقام القول، ويغني عن القول، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث أن ذلك من جملة الأمانات، وأنه مثل ما لو قال له: اكتم هذا الخبر.
ونقل كلام أهل العلم بعضهم في بعض للوقيعة بينهم هذا يعتبر من النميمة التي يكون فيها الإفساد بين الناس.(554/3)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
أبو بكر بن أبي شيبة هو عبد الله بن محمد الكوفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وهو من شيوخ مسلم الذين أكثر عنهم ولم يرو الإمام مسلم عن أحد من شيوخه مثلما روى عن أبي بكر بن أبي شيبة؛ لأن أحاديثه التي رواها عنه بلغت أكثر من ألف وخمسمائة حديث، وهذا أكبر رقم عند الإمام مسلم في حديثه عن شيوخه، ويليه أبو خيثمة زهير بن حرب فإنه روى عنه أكثر من ألف ومائتي حديث.
[حدثنا يحيى بن آدم].
هو يحيى بن آدم الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن أبي ذئب].
هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن عطاء].
عبد الرحمن بن عطاء صدوق فيه لين، أخرج حديثه أبو داود والترمذي.
[عن عبد الملك بن جابر بن عتيك].
عبد الملك بن جابر بن عتيك ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما صحابي جليل، أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد وأنس وجابر وأم المؤمنين عائشة، ستة رجال وامرأة واحدة، وهم الذين قال عنهم السيوطي في الألفية: والمكثرون في رواية الأثر أبو هريرة يليه ابن عمر وأنس والبحر ك الخدري وجابر وزوجة النبي والمقصود بالبحر: ابن عباس.(554/4)
شرح حديث (المجالس بالأمانة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح قال: قرأت على عبد الله بن نافع قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن ابن أخي جابر بن عبد الله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق)].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المجالس بالأمانة)، أي: أن المجالس التي يكون فيها الحديث بين الناس على الإنسان أن يحافظ على تلك الأحاديث، وألا يفشيها ولا يظهرها، لاسيما إذا كانت المجالس المطلوب فيها الإخفاء، كالمجالس الخاصة بأمور معينة، كتلك التي يختص ما يدور فيها بأعضائها ومن يكون داخلاً تحت من يشملهم ذلك المجلس ومن هم مختصون بذلك المجلس، فإن المجالس بالأمانة، لا يجوز لأحد من أعضاء هذه المجالس أن يفشي تلك الأسرار التي تكون في هذه المجالس؛ لأن مثل ذلك يؤدي إلى أن ينتشر كل خبر وكل أمر يكون في هذه المجالس، وقد يكون المطلوب فيها السرية، وقد تكون من الأمور الرسمية التي تتعلق بالدولة أو تتعلق ببعض الناس وما إلى ذلك، فإن الواجب هو الإمساك عن إظهار تلك الأسرار التي تكون في تلك المجالس، إلا ما كان يمكن أن يفشى وأن يعلن وأن المطلوب إعلانه وإفشاؤه، فإن هذا لا يدخل فيما نهي عن إفشائه، وقد كان شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله إذا اجتمعنا في مجلس الجامعة وكان هناك دراسة بعض الأمور التي من شأنها الإخفاء وأنها لا تظهر، كان يكرر هذا الحديث ويقول: (المجالس بالأمانة)، أي: أن ما يجري في المجلس من أمور من شأنها الكتمان وليس من شأنها أن تعلن، فإن المطلوب فيها أن تكون مخفاة، وأن كل عضو أو كل شخص مشارك في ذلك المجلس لا يتحدث بهذا الحديث الذي جرى في ذلك المجلس، والذي من شأنه أن يكون من الأمور التي تخفى وليس من الأمور التي تعلن.
وقد أورد أبو داود حديث جابر: (المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق) أي إذا كان قد حصل في المجالس أن شخصاً تكلم بأنه سيفعل فعلاً من الأفعال القبيحة، وأنه يهم بفعل من هذه الأفعال، فإن مثل ذلك يمكن أن يفشى؛ حتى يحال بينه وبين ما يقصده ويريده، كما لو كان يريد أن يقتل إنساناً أو يريد أن يزني بفلانة، أو ما إلى ذلك من الأمور المحرمة، فإن مثل هذا يفشى، وأيضاً قبل ذلك كله ينصح ويحذر، ولكن مع ذلك يفشى مثل هذا الخبر عند من يهمه الأمر وعند من يكون له علاقة مثلاً بالشخص الذي هدده أو المرأة التي فكر بها أو قصدها، حتى يكون كل منهم على حذر، وتنبه لما يجري.
فالحاصل: أن المجالس بالأمانة، ولكن يستثنى منها ما إذا كان ذلك الذي حصل أمراً خطيراً سيئاً، فإنه لا يمكن السكوت عليه، ولا ينبغي أن يسكت عليه؛ لأنه يترتب على ذلك ضرر كبير، فعند ذلك لا يكتم مثل هذا الخبر؛ لأن صاحبه أعلن السوء وأعلن عزمه بالسوء، فلا بأس أن ينبه من يهمه الأمر ممن له علاقة بالموضوع، سواء كان فيما يتعلق بسفك الدم أو بالزنا أو غير ذلك، فينبه على ما يريده هذا الشخص، حتى لا يحصل منه الإقدام على ما لا تحمد عقباه.
والحديث ضعفه الألباني في سنن أبي داود، ولكنه في الجامع الصغير أورده وحسنه، ولكن بدون هذه الزيادة، والتضعيف هو من أجل هذا الرجل المبهم الذي هو ابن أخي جابر، ولكنه حسنه لأنه جاء من طريق أخرى مرسلة عن علي رضي الله تعالى عنه، فيكون المرسل شاهداً لهذا الحديث.(554/5)
تراجم رجال إسناد حديث (المجالس بالأمانة)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[قال: قرأت على عبد الله بن نافع].
عبد الله بن نافع ثقة صحيح الكتاب في حفظه لين، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن ابن أخي جابر بن عبد الله عن جابر بن عبد الله].
ابن أبي ذئب مر ذكره، وابن أخي جابر بن عبد الله غير معروف، فهو مبهم، وجابر بن عبد الله مر ذكره.(554/6)
شرح حديث (إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء وإبراهيم بن موسى الرازي قالا: أخبرنا أبو أسامة عن عمر قال إبراهيم: هو عمر بن حمزة بن عبد الله العمري عن عبد الرحمن بن سعد قال: سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها) والمقصود بقوله: (ثم ينشر سرها): أن هذا من الأمور التي يجب أن تخفى وألا تنشر، أي: أن ما يجري بين الرجل وأهله لا يليق بالإنسان العاقل أن يتحدث به، وإنما هو سر يكون بينه وبين أهله لا يجوز له إفشاؤه ولا يجوز إظهاره.
وأورد أبو داود هذا الحديث للاستدلال به على أن هذا من الأمور التي لا ينقل الحديث فيها، وإنما هذا من شأنه الإخفاء وليس من شأنه الإعلام والإظهار، فلا يليق بالمسلم العاقل أن يتحدث بما يجري بينه وبين أهله من أمور تخص حالتهما إذا انفردا واجتمعا ببعضهما؛ لأن هذا ليس من اللائق، وهذا شيء تأباه النفوس وتعافه ولا يليق بأهل العقل وأهل الفهم والمروءة.
والحديث في إسناده عمرو بن حمزة وهو من رجال مسلم، وقد أخرج هذا الحديث مسلم، وضعفه الألباني من أجل هذا الرجل الذي هو عمرو بن حمزة، لكن هناك حديثاً آخر أورده الألباني في آداب الزفاف، وهو مثله في المعنى، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً للرجل يخبر بما يجري بينه وبين المرأة والمرأة تخبر بما يجري بينها وبين الرجل بقوله: (إنما مثل ذلك مثل شيطانة لقيت شيطاناً في السكة فقضى منها حاجته والناس ينظرون)، أي: أن هذا إعلان لأمور لا يصلح أن تعلن، وأن من يفعل ذلك مثل الذي يفعل هذا أمام الناس، وهذا شيء قبيح، وشيء تنفر منه النفوس وتعافه.(554/7)
تراجم رجال إسناد حديث (إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وإبراهيم بن موسى الرازي].
إبراهيم بن موسى الرازي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قالا: أخبرنا أبو أسامة].
هو أبو أسامة حماد بن أسامة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر قال إبراهيم: هو عمر بن حمزة بن عبد الله العمري].
أي: أن الشيخ الثاني هو الذي نسبه، وأما الشيخ الأول فإنه أهمله، وذكره بدون نسبه؛ لأن قوله: قال إبراهيم، أي: شيخه الثاني، فنسبه وقال: هو عمر بن حمزة بن عبد الله العمري، وأما الأول الذي هو أبو العلاء محمد بن كريب فإنه قال: عن عمر ولم يزد على ذلك، وعمر هذا قال عنه الحافظ في التقريب: ضعيف، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
ومن جملة ما قيل ما فيه: أن الإمام أحمد قال: له أحاديث مناكير، لكن ينبغي أن يعلم أن بعض المتقدمين مثل الإمام أحمد إذا قال عن شخص: له أحاديث مناكير، فالمقصود من ذلك: الأفراد المطلقة، أي: أنه يقول عن الحديث المفرد الذي انفرد به شخص: إنه منكر.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر هذا الذي جاء عن الإمام أحمد وغيره في ترجمة بريد بن عبد الله بن أبي بردة في مقدمة فتح الباري؛ لأن بريد بن عبد الله بن أبي بردة من رجال الجماعة، وتكلم فيه، حيث جاء عن الإمام أحمد أنه قال: أحاديثه مناكير، فالحافظ ابن حجر أجاب عن هذا الكلام الذي قيل فيه فقال: إن طريقة الإمام أحمد وبعض المتقدمين أنهم يطلقون المناكير على الأفراد المطلقة، فلا يكون مثل ذلك عيباً، أي: إذا قيل: عنده أحاديث مناكير فلا يكون عيباً في الرجل، ولا يكون قدحاً في الرجل دائماً؛ فإن من العلماء من يطلق مثل هذه العبارة على من عنده أفراد مطلقة، أي: من حصل منه التفرد عن غيره، وبريد بن عبد الله ممن خرج له الجماعة: البخاري ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن سعد].
عبد الرحمن بن سعد ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود وابن ماجة.
[قال: سمعت أبا سعيد الخدري].
هو أبو سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(554/8)
حكم إفشاء المرأة سر زوجها
والمرأة إذا أفشت السر الذي بينها وبين زوجها تدخل في هذا الحديث، فكلهم سواء الرجل أو المرأة، والحديث الثاني الذي أشرت إليه الذي قال فيه: (مثل شيطان ركب شيطانة)، يتعلق بالمرأة تتحدث والرجل يتحدث بما يكون بينهما، والذي جاء عنه النهي هو أن المرأة تخبر بما يجري بينها وبين زوجها، والرجل يخبر بما يجري بينه وبين زوجته.(554/9)
حكم إفشاء الرجل ما يحصل بينه وبين إحدى زوجاته إلى زوجته الأخرى
ولا يصلح أن يخبر الزوج بما حصل مع زوجته إلى زوجته الأخرى؛ لأنه قد يكون بينهما شيء من الفرق، فيحصل عندها شيء من الغيرة، فكتمان ذلك مطلقاً عن الجميع هو المطلوب، إلا أن يكون إخباره بشيء من حسن المعاملة من أجل أنه يريد أن يحرضها وأن يجعلها تقتدي بها وتأتسي بها من غير أن يحدد لها أموراً خاصة تجري بينه وبين زوجته الثانية.(554/10)
ما جاء في القتات(554/11)
شرح حديث (لا يدخل الجنة قتات)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في القتات.
حدثنا مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن همام عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قتات)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في القتات، والقتات: هو النمام، وقد جاء في بعض الروايات: (نمام) بدل (قتات)، وكلاهما في الصحيح، إما عند البخاري أو عند مسلم.
وقوله: (لا يدخل الجنة قتات) ليس المقصود من ذلك أنه لا يدخل الجنة أبداً، وأنه يكون خالداً مخلداً في النار؛ لأن مثل هذا هو الذي يعول عليه الخوارج والمعتزلة الذين يغلبون جانب أحاديث الوعيد، ويهملون جانب أحاديث الوعد، فيكفرون مرتكب الكبيرة، ويقولون بتخليده في النار بمثل هذا الحديث: (لا يدخل الجنة قتات).
فأهل السنة يوفقون بين أحاديث الوعد وأحاديث الوعيد، ولا يهملون شيئاً منها، فلا يأخذون بأحاديث الوعد ويغفلون أحاديث الوعيد، ولا يأخذون بأحاديث الوعيد ويغفلون أحاديث الوعد، بل يأخذونها جميعاً، ومن وفقه الله عز وجل وتجاوز عنه فإنه يسلم من العقوبة, والله تعالى يغفر كل ذنب إلا الشرك فإنه لا يغفر، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فمن شاء الله تعالى أن يغفر له فإنه يغفر له ذنبه ويدخل الجنة من أول وهلة، لكن من لم يحصل له مغفرة ولا تجاوز وعفو فإنه يدخل النار، ولكنه إذا دخلها لا يخلد كما يخلد الكفار، بل لا بد أن يخرج من النار ويدخل الجنة، كما جاءت بذلك أحاديث الشفاعة المتواترة التي فيها إخراج أصحاب الكبائر من النار بشفاعة الشافعين وبعفو أرحم الراحمين سبحانه وتعالى، وعلى هذا فبعض أهل العلم فسر ذلك بأنه قد لا يدخلها من أول وهلة.
فقوله: (لا يدخل الجنة قتات) ليس معناه: لا يدخلها أبداً، بمعنى أنه محروم من الجنة لا يدخلها بحال من الأحوال كما جاء في حق الكفار أنهم لا يدخلون الجنة أبداً، وأنهم مخلدون في النار، فليس معناه كذلك؛ لأن من مات على التوحيد ومن مات غير كافر وغير مشرك، فإن مآله إلى الجنة ولا بد، وإن بقي في النار ما بقي.
إذاً: يحمل قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة قتات) على أنه لا يدخلها من أول وهلة كما يدخلها الذين سلموا من مثل هذا العيب، أو ممن تجاوز الله عنهم ممن عندهم مثل هذا العيب، فإنهم يدخلون الجنة من أول وهلة من غير عذاب، ومن الناس من يشاء الله تعذيبه فيعذب، ولكنه إذا عذب لا يستمر في النار أبد الآباد ولا يدخل الجنة أبداً؛ بل يعذب ثم يدخل الجنة، وبهذا يكون التوفيق بين أحاديث الوعد والوعيد.(554/12)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يدخل الجنة قتات)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حدثنا أبو معاوية].
هو أبو معاوية محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم عن همام].
إبراهيم هو ابن يزيد بن قيس النخعي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهمام هو ابن الحارث، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حذيفة].
هو حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(554/13)
التوفيق بين أحاديث الوعد والوعيد
وهذه الأحاديث التي ليست على ظاهرها كحديث الباب يجمع بينهما وبين النصوص الأخرى ويوفق بينها، ولا يؤخذ بشيء ويهمل شيء؛ لأن الخوارج يأخذون بأحاديث الوعيد ويهملون جانب الوعد، والمرجئة يأخذون بجانب الوعد ويهملون جانب الوعيد، وأهل السنة يأخذون بأحاديث الوعد والوعيد ويوفقون بينها.(554/14)
تفسير آخر لقوله: (لا يدخل الجنة)
ذُكر في توجيه هذا الحديث: (لا يدخل الجنة) أي: لا يدخلون جنة عالية، ولكن هذا الحديث مطلق، ومعلوم أن من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، وأدنى أهل الجنة منزلة يرى أنه في منزلة ليس فوقها منزلة؛ لكمال النعيم الذي يحصله في الجنة، فمن دخل الجنة فقد ظفر بالنعيم وبالسعادة، ويرى أنه ليس هناك أحسن منه، وهكذا مثل من يعذب بالنار -والعياذ بالله- ويكون أخف الناس عذاباً يرى أنه ما هناك أحد أشد منه عذاباً.(554/15)
حكم إبلاغ كلام العمال إلى المسئول عليهم
نقل الكلام عن تقصير العمال إلى المدير أو المشرف إذا كان لشيء يتعلق بالعمل وبمصلحة العمل وحتى لا يكون هناك إخلال بالعمل؛ فلا بأس به، ولكن قبل أن يبلغه عليه أن ينصح، فإن نفعت النصيحة فذلك المطلوب، وإن لم تنفع فإنه يبلغ المسئول.(554/16)
ذم ذي الوجهين(554/17)
شرح حديث (من شر الناس ذو الوجهين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ذي الوجهين.
حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شر الناس ذو الوجهين: الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في ذي الوجهين، وذو الوجهين: هو كما جاء في الحديث: (الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه)، أي: يأتي إلى أناس فيتحدث معهم وكأنه واحد منهم، ثم يأتي إلى أناس آخرين هم مخالفون لهم وبضدهم فيتحدث معهم وكأنه واحد منهم، فهذا هو ذو الوجهين، يأتي إلى أناس متقابلين ليسوا على طريقة واحدة وليسوا على منهج واحد، ثم يأتي هؤلاء فيتحدث معهم على أنه واحد منهم، ويأتي إلى الآخرين ويتحدث معهم على أنه واحد منهم، وقد يكون ذلك لمصالح شخصية, ومصالح مادية ودنيوية، فيأتي إلى هؤلاء فيتكلم معهم ويمدحهم ويحصل ما عندهم، ثم يأتي إلى الآخرين الذين هم ضدهم ويمدحهم ويحصل ما عندهم.(554/18)
تراجم رجال إسناد حديث (من شر الناس ذو الوجهين)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا سفيان].
سفيان هو ابن عيينة المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزناد].
أبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان المدني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأبو الزناد هذا لقب وليس بكنية، وكنيته أبو عبد الرحمن، ولقبه أبو الزناد، وهو لقب على صيغة الكنية.
[عن الأعرج].
الأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، والأعرج لقب، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق فرضي الله عنه وأرضاه.(554/19)
شرح حديث (من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا شريك عن الركين بن الربيع عن نعيم بن حنظلة عن عمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار)].
أورد أبو داود حديث عمار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار) وقال: (لسانان) لأنه يلقى هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، والمقصود بذلك: الكلام الذي يتحدث به بلسانه، فهو يتكلم مع هؤلاء بلسانه بشيء يناسبهم، ويتكلم مع هؤلاء بشيء يناسبهم من أجل أن يحظى عند هؤلاء وهؤلاء، فمن أجل ذلك كانت العقوبة أنه يكون له لسانان من نار يوم القيامة؛ لأنه كان يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه.
إذاً: المقصود بالوجه هو اللسان؛ لأنه كان يتحدث مع هؤلاء ويتحدث مع هؤلاء، وليس المقصود الوجه الذي هو حقيقة الوجه، وإنما يأتي هؤلاء بطريقة معينة فيتكلم معهم بكلام يناسبهم، ثم يأتي إلى جماعة أخرى ويتكلم بكلام يناسبهم حتى يحظى عند هؤلاء وعند هؤلاء، ولذلك فإنه يكون له لسانان من نار يوم القيامة، ولم يقل: وجهان من نار؛ لأن المقصود هو اللسان.(554/20)
تراجم رجال إسناد حديث (من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا شريك].
أبو بكر بن أبي شيبة مر ذكره، وشريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الركين بن الربيع].
الركين بن الربيع ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن نعيم بن حنظلة].
نعيم بن حنظلة مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود.
[عن عمار].
عمار بن ياسر رضي الله عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث صحيح، فقد صححه الألباني.(554/21)
شرح سنن أبي داود [555]
لقد جاءت الشريعة الإسلامية والتعاليم الربانية -على لسان سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم- بكل ما هو خير للناس، وبما يحفظ لهم أموالهم وأعراضهم، ومن ذلك أنها نهت عن الغيبة، هذا الداء العضال الذي يفتك بالأمم والجماعات إذا فشا وانتشر، ولهذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أمته وحذرهم هذا الداء أيما تحذير، فيجب على المسلم الحذر من الغيبة، والابتعاد عن المجالس التي تذكر فيها.(555/1)
التحذير من الغيبة(555/2)
شرح حديث أبي هريرة في التحذير من الغيبة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الغيبة.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي حدثنا عبد العزيز -يعني ابن محمد - عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أنه قيل: يا رسول الله! ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في الغيبة، والغيبة كما جاءت في الحديث: ذكرك أخاك بما يكره، وقيل لها: غيبة لأنه يذكره في غيبته بما يكره.
وأورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أنه قيل: ما الغيبة يا رسول الله؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، يعني: كونك تذكره بشيء هو فيه وهو يسوءه فإن هذا غيبة، ولكنك إن كذبت عليه، وأضفت إليه شيئاً ليس فيه فإن هذا يكون بهتاً له؛ لأنه كذب وبهتان، فإضافة شيء إليه وهو بريء منه هذا بهتان، وإن كان فيه فهو غيبة، وكله كلام فيه في غيبته، فإن كان الذي تُكلم فيه في غيبته هو فيه فهو غيبة؛ لأن ذلك يسوءه، وإن لم يكن فيه وإنما هو مفترىً عليه وكذب فإنه يكون بهتاناً وهو أشد وأعظم.
وإن كان فيه وهو حاضر والمقصود من ذلك التظلم، كأن يقول: إنك ظلمتني أو إنك خنتني أو إنك كذا في أمور هي واقعة فيه فهذا لا بأس به، أما إذا كان ذلك كذباً عليه أو ما إلى ذلك فإن هذا لا يجوز، وكذلك إذا كان ليس هناك مناسبة أو ليس هناك أمر يقتضيه.
والغيبة استثني منها أمور ذكرها العلماء تصل إلى سبعة، وذكرت في المصطلح وفي الجرح والتعديل، وذكرها النووي في رياض الصالحين عند ذكر الغيبة، ومنها كون الإنسان يتظلم، كأن يذهب إلى القاضي ويقول: ظلمني فلان، ولهذا جاء في الحديث (مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته) أي: يحل عرضه بأن يتكلم فيه، لكونه ظلمه، فالمظلوم يتكلم في ظالمه في حدود ما ظلمه ولا يتجاوز ذلك، هذا سائغ.
وكذلك في المشورة، فعندما يستشار الإنسان في إنسان من أجل مصاهرة أو من أجل مشاركة في تجارة، أو ما إلى ذلك، فإن المستشار يذكر ما فيه, والرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءت المرأة وقالت: إن معاوية وأبا جهم خطباها، فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: (أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه).(555/3)
تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة في التحذير من الغيبة
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
حدثنا [عبد العزيز يعني ابن محمد].
هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن العلاء عن أبيه].
هو العلاء بن عبد الرحمن الحرقي، وهو صدوق ربما وهم، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
وأبوه ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة قد مر ذكره.(555/4)
شرح حديث عائشة (حسبك من صفية كذا وكذا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان قال: حدثني علي بن الأقمر عن أبي حذيفة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا -قال غير مسدد: تعني قصيرة- قال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته.
قالت: وحكيت له إنساناً فقال: ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم في صفية: (حسبك من صفية كذا وكذا) أي: يكفيك منها أنها قصيرة، وهذا كما جاء في الحديث: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) أي: يكفيه من الشر أن يحقر أخاه المسلم وإن لم يضف إليه شر آخر.
وقوله: (قال غير مسدد: تعني قصيرة) هذا هو الذي كني عنه في بعض الروايات بقوله: كذا وكذا، يعني: أنها قالت: قصيرة.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) أي: لو خلطت به لشدتها وخطورتها لغيرت ماءه، وهذا فيه إشارة إلى خطورة مثل هذا الكلام الذي هو الغيبة.
وقوله: [قالت: (وحكيت له إنساناً، فقال: ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا)].
أي: أنها فعلت مثل فعله، أو قلدت هيئته، فقال: (ما أحب أني حكيت إنساناً ولي كذا وكذا) أي: أن هذا العمل غير سائغ، وهذا الحديث يدل على تحريم التمثيل، الذي هو مبني على الحكاية، ومبني على التقليد، وعلى -كما يقولون- تقمص شخصية شخص آخر، وأنه يأتي بحركات وأفعال تضاف إليه، فهو من جملة الأحاديث التي تدل على أن التمثيل الذي ابتلي به كثير من الناس في هذا الزمان غير جائز، ومما يدل على تحريمه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل لمن يكذب ليضحك القوم، ويل له ثم ويل له)، ومعلوم أن التمثيل مبني على الكذب.(555/5)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة (حسبك من صفية كذا وكذا)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثني علي بن الأقمر].
علي بن الأقمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي حذيفة].
أبو حذيفة هو سلمة بن صهيب الأرحبي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(555/6)
حكم تقليد الأصوات وحكاية الآخرين
وتقليد الأصوات هو من التمثيل أو الحكاية، وإذا كان ذلك الذي يفعل معه يكرهه فإنه يكون من الغيبة.
يقول المنذري: الحكاية حرام إذا كانت على سبيل السخرية والاستهزاء والاحتقار؛ لما فيها من العجب بالنفس والاحتقار للخلق والأذية لهم، وهذا فيما لا كسب فيه من خلق الله عز وجل، فإذا كان مما يكسبون، فإن كان في معصية جازت حكايتهم على طريق الزجر فيما لا يذهب بالوقار والحشمة، وإن كانت في الطاعة جازت الحكاية فيه، إلا أن يتوب العاصي فلا يجوز ذكر المعصية له.
ولعله ليس المقصود هنا أنه يمثله، وإنما يقول: إنه قال كذا، أو إنه فعل كذا.(555/7)
شرح حديث (من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عوف حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب حدثنا عبد الله بن أبي حسين حدثنا نوفل بن مساحق عن سعيد بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق)].
أورد أبو داود حديث سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم بغير حق) أي: أن يتكلم في عرضه، وهذا هو الغيبة.
وقوله: (بغير حق) أي: أنه إذا كان بحق فإن ذلك سائغ، كما جاء في الحديث: (لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته) فإن هذا بحق، أي: كونه يتكلم في عرضه، والمقصود بالعرض أنه يسبه، ويقول: إنه ظلمني، ويغتابه؛ لأن هذا من الغيبة المباحة المستثناة من المنع، وهذا يدل على خطورة الغيبة وأكل لحوم الناس، والولوغ في أعراضهم؛ لأن هذا من أخطر الأمور، ومن أشد الأمور على الناس، والإنسان لا يعجبه أن يعامل هو نفس هذه المعاملة، وإذا كان لا يحب أن يعامل هذه المعاملة فعليه أن يعامل الناس نفس المعاملة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح عن عبد الله بن عمرو: (فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله وباليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه) أي: يعامل الناس كما يحب أن يعاملوه به، وإذا كان هو لا يرضى ولا يحب أن يغتاب، فأيضاً عليه ألا يغتاب الناس.(555/8)
تراجم رجال إسناد حديث (من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق)
قوله: [حدثنا محمد بن عوف].
هو محمد بن عوف الطائي، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة وفي مسند علي.
[حدثنا أبو اليمان].
أبو اليمان هو الحكم بن نافع، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعيب].
هو شعيب بن أبي حمزة الحمصي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن أبي حسين].
عبد الله بن أبي حسين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا نوفل بن مساحق].
نوفل بن مساحق ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن سعيد بن زيد].
سعيد بن زيد رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(555/9)
شرح حديث (إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا عمرو بن أبي سلمة حدثنا زهير عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق، ومن الكبائر السبتان بالسبة)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من أكبر الكبائر استطالة الرجل المسلم في عرض أخيه بغير حق)، وهذا مثل الذي قبله الذي قال فيه: (إن من أربى الربا)، وهنا قال: (من أكبر الكبائر)، وكل هذا يدل على خطورتها، والربا هو من أكبر الكبائر، وإذا كان هذا من أربى الربا فمعناه أنه من أشده وأقبحه، وأنه متناهٍ في القبح والخبث.
وقوله: (استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق) ذكر الرجل في الحديثين وفي غيرهما ليس له مفهوم؛ فهو يشمل المرأة كذلك، فاستطالة المرأة في عرض المرأة واستطالة الرجل في عرض المرأة، والمرأة في عرض الرجل، كله سواء، وإنما جاء ذكر الرجل لأن الغالب أن الخطاب للرجال، وإلا فليس له مفهوم بمعنى أن النساء تختلف عن الرجال في ذلك، بل النساء والرجال في ذلك سواء، والأحكام التي تكون للرجال هي للنساء، ولا يفرق بين الرجال والنساء إلا فيما جاءت السنة فيه بالتفريق، بأن يقال: النساء لهن كذا، والرجال لهم كذا، مثل حديث: (ينضح من بول الغلام ويغسل من بول الجارية)، ومثلما يتعلق بالأمور الخمسة التي فيها المرأة على النصف من الرجل، وهي: الدية، والعتق، والعقيقة، والميراث، والشهادة.
فهذه الأمور تختلف النساء فيها عن الرجال، وإلا فإن الأصل هو التساوي بين الرجل والنساء في الأحكام، فإذا جاء ذكر الرجل في حديث وليس ذلك من خصائص الرجل أو يختص بالرجال، فإن المرأة مثله، وهذا مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لا تتقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) وكذلك المرأة، وكذلك حديث: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من الغرماء) وكذلك لو وجده عند امرأة قد أفلست أو العكس.
وقوله: (ومن الكبائر السبتان بالسبة) أي: كون الإنسان عندما يعاقب يزيد في العقوبة، فإذا سب بسبة واحدة يأتي بسبتين، فيأتي بالكلمة التي قالها وزيادة، أو يأتي بسبتين بدل الواحدة، وعلى الإنسان إذا عاقب أن يعاقب بمثل ما عوقب به ولا يزيد، وإن ترك العقوبة فهو خير له، وهو أولى؛ لقوله عز وجل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126] أما أن يزيد في العقوبة، ويزيد في السب، فإن هذا غير سائغ.(555/10)
تراجم رجال إسناد حديث (إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق)
قوله: [حدثنا جعفر بن مسافر].
جعفر بن مسافر صدوق ربما أخطأ، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا عمرو بن أبي سلمة].
عمرو بن أبي سلمة صدوق له أوهام، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
زهير هو ابن محمد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة].
العلاء بن عبد الرحمن وأبوه وأبو هريرة مر ذكرهم.
والألباني ضعف هذا الحديث، ولا أدري وجه تضعيفه، مع أنه مثل الذي قبله ومشابه له، وفيه زيادة السبتين بالسبة، ومعلوم أن هذا من الظلم، أي: أن يظلم الإنسان ثم يتحول من كونه مظلوماً إلى كونه ظالماً، بأن يزيد في العقوبة ويزيد في السب.(555/11)
شرح حديث (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن المصفى حدثنا بقية وأبو المغيرة قالا: حدثنا صفوان قال: حدثني راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما عرج به مر بأناس لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم).
قوله: (لهم أظفار من نحاس) أي: أن فيها قوة تؤثر ما لا تؤثره الأظفار العادية؛ لأنها من نحاس صلبة قوية.
وقوله: (يخمشون بها وجوههم) أي: يخمشونها ويقطعونها، وقوله: (فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الذي يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) أي: أن الجزاء من جنس العمل، فلما كان بغيبته وبكلامه على الناس مثل الذي يأكل لحومهم، صارت عقوبته بأن يمزق جلده ولحمه بنفسه بتلك الأظفار، كما أكل لحوم الناس بولوغه في أعراضهم، فإنه هو نفسه بتلك الأظفار من النحاس يمزق لحمه ويقطع جلده بفعله، والجزاء من جنس العمل، فكما أكل لحوم الناس فإنه يأكل لحمه بتلك الأظفار.(555/12)
تراجم رجال إسناد حديث (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس)
قوله: [حدثنا ابن المصفى].
هو محمد بن المصفى، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا بقية].
هو بقية بن الوليد، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[وأبو المغيرة].
هو عبد القدوس بن الحجاج، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا صفوان].
هو صفوان بن عمرو، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني راشد بن سعد].
راشد بن سعد ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[وعبد الرحمن بن جبير].
هو عبد الرحمن بن جبير بن نفير، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(555/13)
طرق أخرى لحديث (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس)
[قال أبو داود: حدثناه يحيى بن عثمان عن بقية ليس فيه أنس].
ذكر المصنف طريقاً أخرى للحديث، وأنه حدثه به شيخ آخر له وهو يحيى بن عثمان عن بقية بالإسناد نفسه ولم يذكر أنساً، أي: أنه مرسل.
وقوله: [وحدثناه يحيى بن عثمان].
يحيى بن عثمان هو ابن سعيد بن كثير بن دينار، وهو صدوق أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا عيسى بن أبي عيسى السيلحيني عن أبي المغيرة كما قال ابن المصفى].
أورد إسناداً آخر، وهو كما قال ابن المصفى، أي: أنه متصل كالأول الذي ذكره ابن المصفى.
وقوله: [حدثنا عيسى بن أبي عيسى السيلحيني].
عيسى بن أبي عيسى السيلحيني صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبي المغيرة].
أبو المغيرة قد مر ذكره.(555/14)
شرح حديث (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا الأسود بن عامر حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن سعيد بن عبد الله بن جريج عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)].
أورد حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قبله! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من اتبع عورتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع عورته يفضحه في بيته).
قوله: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه) هذا يدل على أن من يفعل مثل هذه الأفعال عنده نقص في الإيمان أو نفاق؛ لأن قول الله عز وجل في الآية: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] فسرت بتفسيرين: فمنهم من قال: إن المقصود بها أناس منافقون، وهذا هو الذي مشى عليه البخاري رحمه الله، ومنهم من قال: إن المقصود بهم ليسوا منافقين، وإنما هم مؤمنون ناقصو الإيمان، فعندهم ضعف في الإيمان وليسوا من المنافقين، أي: أنهم لم يتمكن الإيمان في قلوبهم.
وعلى أي حال فإن هذا الخطاب وذكر مثل هذا الكلام معناه أن من اتصف بمثل هذه الصفة فيه ضعف في الإيمان، أو نفاق.
ثم ذكر أن الجزاء من جنس العمل فقال: (فإن من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته) أي: أنه تحصل له الفضيحة ولو كان في بيته، وإن لم يكن بين الناس تصل إليه العقوبة وتصل إليه الفضيحة ويصل إليه جزاؤه في الدنيا بأن يفضحه الله عز وجل.(555/15)
تراجم رجال إسناد حديث (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا الأسود بن عامر].
الأسود بن عامر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو بكر بن عياش].
أبو بكر بن عياش ثقة، أخرج له البخاري ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن الأعمش].
الأعمش مر ذكره.
[عن سعيد بن عبد الله بن جريج].
سعيد بن عبد الله بن جريج صدوق ربما وهم، أخرج له أبو داود والترمذي.
[عن أبي برزة الأسلمي].
أبو برزة الأسلمي هو نضلة بن عبيد رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(555/16)
شرح حديث (من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها من جهنم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حيوة بن شريح المصري حدثنا بقية عن ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن وقاص بن ربيعة عن المستورد رضي الله عنه أنه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها من جهنم، ومن كسي ثوباً برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله من جهنم، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة)].
أورد أبو داود حديث المستورد بن شداد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها في نار جهنم) أي: من أكل برجل مسلم بالنيل منه عند شخص يعجبه النيل منه، ويريد النيل منه، فأطعمه طعاماً من أجل أنه تكلم في هذا الشخص الذي يريد الكلام فيه؛ فإن الله تعالى يعاقبه بأن يطعمه مثله في نار جهنم، أي: أن هذا الطعام الذي حصله من أجل أنه نال من عرض إنسان عند إنسان يرغب في النيل من عرضه فأطعمه، ومعناه: أنه توصل بهذا النيل من عرض إنسان إلى دنيا، فإن الله تعالى يعاقبه بأن تكون تلك الأكلة التي أكلها يعطى مثلها في نار جهنم، أو يأكل مثلها في جهنم.
قوله: (ومن كسي ثوباً برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله في نار جهنم) أي: أنه كسي من أجل نيله من رجل مسلم فكساه ذلك الذي نال عنده والذي يعجبه الكلام فيه والذي يريد الكلام فيه، فإنه يعاقب بذلك بأن يكسى في نار جهنم، فكما كسي في الدنيا تلك الكسوة بطريق محرم، فإنه يعاقب على ذلك بكسوة مماثلة، ولكن في نار جهنم والعياذ بالله! وقوله: (ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة) يعني: من قام برجل أو نال منه من أجل السمعة والرياء، فإن الله تعالى يعاقبه يوم القيامة على ذلك بأن يقوم مقام سمعة ورياء.(555/17)
تراجم رجال إسناد حديث (من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها من جهنم)
قوله: [حدثنا حيوة بن شريح المصري].
الصواب أنه حيوة بن شريح الحمصي وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة، وهناك حيوة بن شريح المصري ولكنه متقدم، فهما متفقان في الاسم واسم الأب، إلا أن أحدهما متأخر وهو من شيوخ أبي داود وهو هذا، والثاني متقدم وقد أخرج له الجماعة، وهذا هو الحمصي، وقوله في هذه النسخة: (المصري) غلط؛ لأن حيوة بن شريح المصري في الطبقة السابعة، أي: أن بينه وبين أبي داود مسافة، فكلمة (المصري) هذه تعدل، وتكتب: الحمصي وليس المصري.
[حدثنا بقية].
بقية بن الوليد الحمصي مر ذكره.
[عن ابن ثوبان].
هو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن مكحول].
هو مكحول الشامي وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن وقاص بن ربيعة].
وقاص بن ربيعة مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود.
[عن المستورد].
المستورد بن شداد رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.(555/18)
شرح حديث (كل المسلم على المسلم حرام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا واصل بن عبد الأعلى حدثنا أسباط بن محمد عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام: ماله وعرضه ودمه، حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو حديث طويل، وهو من الأحاديث التي أوردها النووي في الأربعين النووية؛ لأنه من الأحاديث الجامعة, وفيه هاتان الجملتان: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله، حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم).
قوله: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) المقصود بقوله: (وعرضه) أنه لا يتكلم في عرضه ولا يغتابه.
ثم قال: (حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) أي: كونه يتكلم فيه أيضاً هذا من الغيبة، وكذلك من غمط الناس واحتقارهم.(555/19)
تراجم رجال إسناد حديث (كل المسلم على المسلم حرام)
قوله: [حدثنا واصل بن عبد الأعلى].
واصل بن عبد الأعلى ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا أسباط بن محمد].
أسباط بن محمد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن سعد].
هشام بن سعد صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن زيد بن أسلم].
زيد بن أسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح عن أبي هريرة].
أبو صالح وأبو هريرة قد مر ذكرهما.(555/20)
الأسئلة(555/21)
كيفية التحلل من الغيبة
السؤال
قد يقع الإنسان في الغيبة ثم يندم، إلا أنه لا يقدر على مقابلة الشخص الذي وقع في عرضه، فما العمل؟
الجواب
إذا كان يخشى أن يترتب على ذلك مضرة فإنه يثني عليه في ذلك المجلس الذي اغتابه فيه، أو يثني عليه عند الناس الذين اغتابه عندهم، وكذلك يدعو له ويستغفر له، ولعل الله تعالى أن يتجاوز عنه.(555/22)
حكم غيبة الفاسق والمجهول
السؤال
ما حكم غيبة الفاسق أو الكافر أو المجهول؟
الجواب
الفاسق إذا كان المقصود من ذلك بيان شره والتحذير منه فإن ذلك سائغ.
وأما المجهول الذي لا يعلم فإنه مثل الحكاية عن شخص لا يتوصل إلى معرفته، أما إذا كان الكلام فيه من غير تسميته فيه شيء يدل على معرفته فإن ذلك غير سائغ، وأما إذا كان غير ذلك فإنه سائغ، كما جاء في قصة حديث أم زرع الطويل الذي فيه أن نسوة كن يتحدثن عن أزوجهن وكل واحدة تقول: كذا وكذا، وهن غير مسميات.(555/23)
حكم البحث عن أخطاء الدعاة وطلاب العلم ونشرها بين الناس
السؤال
هل يفهم من هذه الأحاديث النهي عن البحث عن أخطاء الدعاة وطلاب العلم واستخراجها والاشتغال بنشرها وإذاعتها بين الناس؟
الجواب
نعم، لا شك أن هذا الأمر تدل عليه هذه الأحاديث، والذين يقعون في أعراض الناس هم لا يحبون أن يقع الناس في أعراضهم.(555/24)
حكم ذكر الرجل في غيبته بخير
السؤال
ما حكم ذكر الأخ بخير في غيبته إذا كان يكره ذلك؟
الجواب
لا بأس بذلك؛ لأن المقصود هو النهي عن ذكره بشيء يسوءه، وأما أن يذكره بخير لأمر يقتضي ذلك مع أنه يكره ذلك لو سمعه فلا بأس، وقد يكون إذا مدح في وجهه قد لا يعجبه، ولكن أن يذكر بخير عند أناس للتشجيع أو للتأسي به، وأن يكون غيره على حالة حسنة، حتى وإن كان لا يرغب في ذلك من أجل التواضع، ومن أجل أنه لا يحب أن يتكلم فيه، وإنما يحب أن يكون مغموراً، ولا يحب أن يذكر وأن يشتهر، فذلك لا بأس به، من أجل المصلحة التي هي أن غيره قد يأتسي به.(555/25)
حكم الجمع بين صيامين أو أكثر بنية واحدة
السؤال
هل يجوز أن أنوي صوم الأيام البيض: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وأصوم الإثنين والخميس، وأن أنوي كذلك صيام ست من شوال، بنية واحدة؟
الجواب
الذي ينبغي للإنسان الذي يصوم ثلاثة أيام من كل شهر أن يجعلها غير الأيام الستة التي هي ست من شوال، فيصوم الستة ويصوم الثلاثة، يصوم الستة لأنها تابعة لرمضان، ويصوم الثلاثة لأنها كل يوم عن عشرة أيام، وذلك كصيام الدهر كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون بذلك كأنه يصوم الدهر مرتين، ويعطى ثواب صيام الدهر مرتين، مرة لكونه صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال، ومرة لكونه صام ثلاثة أيام من كل شهر، فالذي ينبغي للإنسان ألا يجمع بين الثلاثة الأيام من كل شهر وبين الست من شوال، وإنما يفرد هذه عن هذه.(555/26)
شرح سنن أبي داود [556]
من محاسن الشريعة الإسلامية أنها جاءت بحفظ الأخوة وترابطها، فأمرت بكل ما يكون سبباً في تماسك الأخوة، ونهت عن كل ما يكون سبباً في زعزعتها وفك روابطها، ومن ذلك أنها نهت عن الغيبة وحذرت منها أيما تحذير، بل وبينت أن المسلم يجب عليه أن يدافع عن أخيه المسلم إذا سمع من يذكره بسوء، وألا يرضى بهذا، ولحاجة بعض الناس للغيبة في بعض الأحيان فقد بينت الشريعة الإسلامية الحالات التي تجوز فيها الغيبة للحاجة.(556/1)
ما جاء فيمن رد عن مسلم غيبة(556/2)
شرح حديث (من حمى مؤمناً من منافق بعث الله ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من رد عن مسلم غيبة.
حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء بن عبيد حدثنا ابن المبارك عن يحيى بن أيوب عن عبد الله بن سليمان عن إسماعيل بن يحيى المعافري عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حمى مؤمناً من منافق -أراه قال-: بعث الله ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مسلماً بشيء يريد شينه به حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب من رد عن مسلم غيبة، أي: أنه عندما يحصل من أحد اغتياب لمسلم فإنه يرد على ذلك المغتاب، بمعنى: أنه يذكره وينصحه ويبين له أن هذا غير سائغ، أو أن هذا الرجل الذي يغتابه فيه خير كثير، أو أن كلامك فيه غير صحيح، أو أنك ظالم لنفسك في نيلك منه، فيذب عنه عندما يسمع أحداً يغتابه، ويدافع عنه، وذلك ببيان خطأ هذا الذي تكلم فيه، وبيان أن الغيبة هي كما جاء في الحديث (ذكرك أخاك بما يكره) وذلك في غيبته، وأن هذا مما جاءت السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحذير منه والمنع منه، فهذا هو المقصود برد الغيبة أو الكلام عن المؤمن.
ومن أمثلة ذلك: ما حصل في غزوة تبوك، لما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن كعب بن مالك أين هو؟ فقال أحد الناس: منعه النظر في عطفيه، وهذا ذم له، فقال أحد الصحابة: إنه ليس كذلك وإنما هو كذا وكذا، وأثنى عليه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الذب عن الشخص الذي اغتيب ممن اغتابه.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث معاذ بن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حمى مؤمناً من منافق -وأراه قال-: بعث الله ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم)، أي: أنه دافع عن هذا الشخص الذي تكلم فيه، فجازاه الله تعالى بأن يبعث له ملكاً يحميه من نار جهنم، ومن العذاب في نار جهنم، وهذا يدل على فضل الذب عن عرض المسلم، وأن الشخص إذا تكلم فيه بما لا ينبغي فإن من يسمع ذلك ينبه الإنسان الذي يحصل منه الكلام؛ لأنه إذا نبهه قد يترك، ولكنه إذا سكت عن كلامه وبقي يقول ما يقول ولم يُنبه، فإن ذلك يهون عليه أمر الكلام في الناس، ولكنه إذا نُبه فقد يكون ذلك سبباً في تنبهه وعدم استمراره في الوقوع في أعراض الناس، فيكون بذلك أحسن إلى من ذب عنه، وأحسن إلى نفس الذي تكلم فيه، وذلك بأن يعدل عما كان قد وقع فيه من الكلام في الناس بما لا ينبغي أن يتكلم فيه.
وقوله: (من منافق) هذا يدل على أن الكلام في الناس وذم الناس والوقع في أعراضهم، قد يكون الذي يحصل منه هذا هو من المنافقين.
وقوله: (ومن رمى مسلماً بشيء يريد شينه به حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال) أي: أنه رماه بشيء اختلقه وافتراه عليه، أو أنه قال ذلك من أجل ذمه ومن أجل النكاية به، وإن كان فيه ذلك العيب الذي قاله، فهناك غيبة وهناك بهتان، وهو الكذب، وكل منهما مذموم، والبهتان أشد من الغيبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، والبهتان أشد جرماً وأعظم إثماً.
وقوله: (حبسه الله على جسر جهنم) أي: على الصراط المنصوب على متن جهنم؛ لأن الصراط هو جسر ممدود على متن جهنم، يمر الناس عليه، ويجوزون منه إلى الجنة، ومن كان معذباً فإنه يقع ويلقى في النار، والناس يمرون عليه على قدر أعمالهم، فالصراط هو الجسر المنصوب على متن جهنم في الطريق إلى الجنة؛ لأنه لا يوصل إلى الجنة إلا من فوق الجسر، فمن تجاوز الجسر وصل إلى الجنة، ومن وقع في النار ولم يتجاوز الجسر فإنه يعذب في النار، وإذا كان من أهل الإيمان فإنه يعذب على مقدار جرمه، وعلى مقدار كبيرته، ثم يخرج من النار ويدخل الجنة، ولا يستمر بقاؤه في النار، وإنما الذين يستمر بقاؤهم في النار هم الكفار الذين لا يخرجون منها بحال من الأحوال، بل يبقون فيه أبد الآباد والعياذ بالله! وقوله: (حتى يخرج مما قال) معناه -والله أعلم-: أنه يعاقب على ما قال وأنه يخرج منه بتحصيل العقوبة عليه بذلك الذنب الذي اقترفه.
والحديث حسنه الألباني، ولكن في إسناده المعافري وهو مجهول، ولا أدري ما وجه تصحيح الألباني له في هذا الموضع، وهل له شواهد تدل عليه؟ وإن كان الألباني قد ضعفه في مشكاة المصابيح وضعيف الجامع.
وأما بالنسبة لهذا الإسناد فإن فيه المعافري وهو مجهول.(556/3)
تراجم رجال إسناد حديث (من حمى مؤمناً من منافق بعث الله ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء بن عبيد].
هو عبد الله بن محمد بن أسماء بن عبيد الربعي، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا ابن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك المروزي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، والحافظ في التقريب لما ذكره قال: ثقة إمام مجاهد جواد، وذكر جملة من صفاته ثم قال: جمعت فيه خصال الخير.
[عن يحيى بن أيوب].
يحيى بن أيوب صدوق ربما أخطأ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن سليمان].
عبد الله بن سليمان صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن إسماعيل بن يحيى المعافري].
إسماعيل بن يحيى المعافري مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني].
سهل بن معاذ بن أنس لا بأس به، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبيه].
أبوه معاذ بن أنس رضي الله عنه صحابي، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
والعقاب والإثم في الغيبة يحصل للمنافق وغير المنافق، والذب عن عرض الأخ ليس مقصوراً على المنافق، بل لو لم يكن المغتاب منافقاً فإن الذاب عنه يؤجر؛ لأنه يدخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قال: أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تمنعه من الظلم).(556/4)
شرح حديث (ما من امرئ يخذل امرأً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسحاق بن الصباح حدثنا ابن أبي مريم أخبرنا الليث قال: حدثني يحيى بن سليم أنه سمع إسماعيل بن بشير يقول: سمعت جابر بن عبد الله وأبا طلحة بن سهل الأنصاري رضي الله عنهم يقولان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئ يخذل امرأً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته)].
أورد أبو داود حديث أبي طلحة زيد بن سهل وجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من امرئ يخذل امرأً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته)، وهذه عقوبة للذي لا يذب عن المسلم في حال إيذائه وفي حال النيل من عرضه، وكذلك في حال التعدي عليه، بل عليه أن ينصره كما جاء في الحديث: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) أي: إن كان ظالماً يمنعه من الظلم، وإن كان مظلوماً يعينه على الظالم، ويكون معه على الظالم.
وقوله: (وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته) وهذا في مقابل ما مضى؛ لأن الأول خذل أخاه، فإنه يخذل في موطن يحتاج فيه إلى النصرة، وإذا حصلت منه النصرة فإنه ينصر في مكان يحتاج فيه إلى النصرة.
والحديث كما هو واضح في حق من لا يذب عن مسلم، ولا يكون عوناً لمسلم عندما تنتهك حرمته وينال من عرضه.
ولكن الحديث في إسناده ضعف، وقد ضعفه والألباني.(556/5)
تراجم رجال إسناد حديث (ما من امرئ يخذل امرأً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته)
قوله: [حدثنا إسحاق بن الصباح].
إسحاق بن الصباح مقبول، أخرج له أبو داود.
[حدثنا ابن أبي مريم].
ابن أبي مريم هو سعيد بن الحكم بن أبي مريم المصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثني يحيى بن سليم].
يحيى بن سليم مجهول، أخرج له أبو داود.
[أنه سمع إسماعيل بن بشير].
إسماعيل بن بشير مجهول، أخرج له أبو داود.
[يقول: سمعت جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
[وأبا طلحة بن سهل الأنصاري].
أبو طلحة هو زيد بن سهل الأنصاري رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وقوله: [قال يحيى: وحدثنيه عبيد الله بن عبد الله بن عمر وعقبة بن شداد].
يحيى هو الذي مر في الإسناد الأول، وهو مجهول، وقد علق عنه أبو داود في هذا الإسناد.
[حدثنيه عبيد الله بن عبد الله بن عمر].
هو عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعقبة بن شداد].
عقبة بن شداد ويقال: عتبة بن شداد ضعيف، أخرج له أبو داود.
وقوله: [قال أبو داود: يحيى بن سليم هذا هو ابن زيد مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وإسماعيل بن بشير مولى بني مغالة، وقد قيل: عتبة بن شداد موضع عقبة].
هذا تعريف من المصنف بنسبه حيث قال: ابن زيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: زيد بن حارثه.
وقوله: [وقد قيل: عتبة بن شداد موضع عقبة].
أي: أنه جاء عقبة وجاء عتبة في الطريق الثانية المعلقة.
والإسناد مداره على يحيى بن سليم وهو مجهول.(556/6)
من ليست له غيبة(556/7)
شرح حديث الأعرابي الذي قال فيه: (اللهم ارحمني ومحمداً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من ليست له غيبة.
حدثنا علي بن نصر أخبرنا عبد الصمد بن عبد الوارث من كتابه قال: حدثني أبي حدثنا الجريري عن أبي عبد الله الجشمي قال: حدثنا جندب رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي فأناخ راحلته، ثم عقلها، ثم دخل المسجد، فصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى راحلته فأطلقها، ثم ركب، ثم نادى: اللهم ارحمني ومحمداً ولا تشرك في رحمتنا أحداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتقولون: هو أضل أم بعيره؟! ألم تسمعوا إلى ما قال؟! قالوا: بلى)].
أورد أبو داود باب من ليس له غيبة، أي: من تجوز غيبته، والأصل أن المسلم لا يُتكلم في عرضه، ولكن هناك أمور تستثنى فيمن يتكلم في عرضه، وقد ذكرها العلماء، وأوصلها بعضهم إلى سبعة، وهي موجودة في كتب المصطلح، وموجودة في رياض الصالحين في باب الغيبة، ومنها أن يتكلم الإنسان في باب الجرح والتعديل، وبيان معرفة حال الأحاديث وصحتها؛ لأنها تنبني على الكلام في الرجال، وهذا لا يعتبر من الغيبة وإنما هو من النصيحة.
وكذلك المستشار عندما يستشار فعليه أن يبين ما عنده في الرجل، حتى يبني المستشير أمره على كلام المستشار، سواء كان في مصاهرة أو مشاركة في تجارة أو غير ذلك؛ لأن هذه أمور يحتاج الناس إلى معرفتها، فمن سئل فعليه أن يجيب بالذي يعلمه، ولا يعتبر ذلك من الغيبة.
وكذلك فيما إذا كان الكلام في قصص وفي أناس مجهولين، ولا تعرف أشخاصهم، وليس هناك شيء يدل على معرفتهم؛ لأنه إذا وجد شيء يدل على معرفة الشخص فكأنه مسمى، لكن إذا لم يكن هناك شيء يدل على معرفته، فإن ذلك سائغ، ومن أمثلته حديث أم زرع الطويل الذي فيه قصة النساء اللاتي كن يتكلمن عن أزوجهن، وكل واحدة منهن تقول: زوجي كذا وزوجي كذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع) إلخ الحديث الطويل المشهور وهو في الصحيح.
فالحاصل: أن هناك مواضع يجوز الكلام فيها ولا يعتبر ذلك من الغيبة.
وقد أورد أبو داود رحمه الله هذا الحديث من أجل الجملة التي فيه وهي: (هو أضل أم بعيره؟)؛ لأن هذا كلام في غيبته، وهو كلام يسوءه وهو كلام ذم، ولكن هذه الزيادة لم تأت من طريق صحيح، وإنما جاءت من هذا الطريق وفيه ضعف، ولكن أصل الحديث ثابت؛ لأن هذا الأعرابي هو الذي بال في المسجد، وهو الذي أجابه الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: (اللهم ارحمني ومحمداً، فقال: لقد تحجرت واسعاً)، فهذا ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما هذه الجملة فقد جاءت من هذه الطريق، وهي غير صحيحة؛ لأن فيها ضعفاً، وأما ما عداه من ألفاظ أخرى فإنها ثابتة في الصحيحين وفي غيرهما، وأما هذه الجملة فليست صحيحة، لأنها جاءت بهذا الإسناد الذي هو غير صحيح.(556/8)
تراجم رجال إسناد حديث الأعرابي الذي قال: (اللهم ارحمني ومحمداً)
قوله: [حدثنا علي بن نصر].
هو علي بن نصر بن علي بن نصر، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[أخبرنا عبد الصمد بن عبد الوارث].
هو عبد الصمد بن عبد الوارث العنبري، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثني أبي].
أبوه ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الجريري].
هو سعيد بن إياس الجريري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عبد الله الجشمي].
أبو عبد الله الجشمي مقبول، أخرج له أصحاب السنن، وهو علة الحديث.
[قال: حدثنا جندب].
هو جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(556/9)
سعة رحمة الله عز وجل
وفي قوله: (أتقولون: هو أضل أم بعيره؟) ذم له، لكونه قال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، والله تعالى يقول: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] فكونه يقول مثل هذه العبارة هذا خطأ، وقد جاء في الطرق الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لقد تحجرت واسعاً) يعني: أن رحمة الله وسعت كل شيء، وهو قال هذه الكلمة التي قالها.(556/10)
ما جاء في الرجل يحل الرجل قد اغتابه(556/11)
شرح أثر قتادة (أيعَجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضيغم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الرجل يحل الرجل قد اغتابه.
حدثنا محمد بن عبيد حدثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة قال: أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضيغم أو ضمضم؟ -شك ابن عبيد - كان إذا أصبح قال: اللهم إني قد تصدقت بعرضي على عبادك؟].
أورد أبو داود باب ما جاء في الرجل يحل الرجل قد اغتابه، أي: يجعله في حل من غيبته، سواء طلب هو، أو أنه قال ذلك مطلقاً، ويسمح عن غيره ممن أخطأ عليه.
وقد أورد أبو داود هذا الأثر المقطوع عن قتادة أنه قال: (أيعجز أحدكم أن يكون كـ أبي ضيغم أو ضمضم؟ -شك ابن عبيد - كان إذا أصبح قال: اللهم أني قد تصدقت بعرضي على عبادك).
أي: أنه مسامح للذين يتكلمون في عرضه.(556/12)
تراجم رجال إسناد أثر قتادة (أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضيغم)
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد].
هو محمد بن عبيد بن حساب، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا ابن ثور].
ابن ثور هو محمد بن ثور، وهو ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن معمر].
هو معمر بن راشد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(556/13)
شرح حديث (أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن عبد الرحمن بن عجلان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم؟ قالوا: ومن أبو ضمضم؟ قال: رجل فيمن كان قبلكم) بمعناه، قال: (عرضي لمن شتمني)].
أورد أبو داود هذا الحديث هنا مسنداً، ولكنه مرسل؛ لأن الذي نسبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بصحابي، وإنما هو من التابعين فهو منقطع، وهو مثل الذي قبله في المعنى.(556/14)
تراجم رجال إسناد حديث (أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم؟)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد بن سلمة بن دينار البصري ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن عجلان].
عبد الرحمن بن عجلان مجهول الحال، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود.
ومع كونه أرسله فهو مجهول الحال، وعلى هذا فالحديث فيه الإرسال وفيه جهالة حال هذا المرسل.(556/15)
طريق أخرى لحديث (أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم؟) وتراجم رجال إسنادها
[قال أبو داود: رواه هاشم بن القاسم قال: عن محمد بن عبد الله العمي عن ثابت قال: حدثنا أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه.
قال أبو داود: وحديث حماد أصح].
أورد أبو داود رحمه الله طريقاً أخرى معلقة، وأشار إلى أن الطريق المرسلة التي فيها المجهول الذي أرسل الحديث وأضافه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أصح من هذه الطريق الثانية.
قوله: [رواه هاشم بن القاسم].
هاشم بن القاسم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عبد الله العمي].
محمد بن عبد الله العمي لين الحديث، أخرج له أبو داود.
[عن ثابت قال: حدثنا أنس].
أنس هو ابن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد اختلف رواة سنن أبي داود في هذا الحديث، فمنهم من ذكره متصلاً عن أنس بهذا الإسناد الذي ذكره هنا، ومنهم من ذكره معلقاً، والأشخاص الذين يأتون في المعلقات أحياناً لا يترجم لهم.
والإنسان إذا جعل الناس في حل من غيبته فلا يعد هذا من الذلة وعدم عزة النفس، بل هذا من التسامح، والإنسان كما هو معلوم يثاب على تسامحه وعلى عفوه، لكن كونه يقول هذا الكلام لا أعلم شيئاً يدل عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(556/16)
شرح سنن أبي داود [557]
إن الشريعة الإسلامية قد جاءت بكل ما فيه حفظ المودة والترابط والأخوة بين أفرادها، ومن ذلك أنها نهت عن التجسس واتباع عورات الناس، بل وأمرت من رأى عورة أخيه بالستر وعدم فضحه أو كشف سره، ثم أمرت المسلم بالتواضع وعدم الكبر والخيلاء، كل ذلك حتى تسود المحبة والألفة بين أفراد المجتمع المسلم.(557/1)
النهي عن التجسس(557/2)
شرح حديث (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النهي عن التجسس.
حدثنا عيسى بن محمد الرملي وابن عوف وهذا لفظه قالا: حدثنا الفريابي عن سفيان عن ثور عن راشد بن سعد عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم) فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها].
أورد أبو داود باب النهي عن التجسس، والتجسس: هو البحث والتنقيب عن العورات، أو عن معايب الناس وعيوبهم.
وقد أورد أبو داود حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم)؛ لأن ذلك يحصل بسوء الظن، وكل ما حصل بسوء الظن فإنه يحصل منهم أيضاً إساءة الظن، وقد يحصل منهم أشياء يكونون قد أفسدوا فيها وقد يكون السبب في ذلك هو ظن السوء بهم.
وقوله: [قال أبو الدرداء: سمع معاوية رضي الله عنه كلمة من الرسول صلى الله عليه وسلم نفعه الله بها]، أي: أنه طبقها، ولم يحصل منه سوء الظن بالناس، فهذا الذي رواه نفعه الله به، وهذا يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يروون السنن ويطبقونها وينفذونها، وكانوا أسبق الناس إلى تطبيق ما يتلقونه من رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
والتجسس معناه: التفتيش عن بواطن الأمور في الشر غالباً، وقيل: هو البحث عن العورات، وقوله: (إن اتبعت) إلى آخره، قال في فتح الودود: أي: إذا بحثت عن معايبهم وجاهرتهم بذلك فإنه يؤدي إلى قلة حيائهم عنك، فيجترئون على ارتكاب أمثالها مجاهرة.(557/3)
تراجم رجال إسناد حديث (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم)
قوله: [حدثنا عيسى بن محمد الرملي].
عيسى بن محمد الرملي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وابن عوف].
هو محمد بن عوف، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي في مسند علي.
[قالا: حدثنا الفريابي].
هو محمد بن يوسف الفريابي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثور].
هو ثور بن يزيد، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن راشد بن سعد].
راشد بن سعد ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن معاوية].
هو معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو الدرداء].
أبو الدرداء اسمه عويمر رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(557/4)
شرح حديث (إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سعيد بن عمرو الحضرمي حدثنا إسماعيل بن عياش حدثنا ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن جبير بن نفير وكثير بن مرة وعمرو بن الأسود والمقدام بن معد يكرب رضي الله عنه وأبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم)].
أورد أبو داود حديث أبي أمامة والمقدام بن معد يكرب رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم) وهو مثل حديث معاوية الذي تقدم.
وجاء التخصيص بالأمير لأنه هو المرجع وهو المسئول، فإذا ابتغى الريبة فيهم فإنه يترتب على ذلك فسادهم، كما مر في الحديث السابق، ويقل حياؤهم أو أنهم يتجرءون، أو أنه قد يحصل منهم الإقدام على تلك الأشياء التي كانت تظن فيهم.(557/5)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم)
قوله: [حدثنا سعيد بن عمرو الحضرمي].
سعيد بن عمرو الحضرمي مقبول، أخرج له أبو داود.
[حدثنا إسماعيل بن عياش].
إسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن أهل بلده، أخرج له البخاري في رفع اليدين وأصحاب السنن.
[حدثنا ضمضم بن زرعة].
هو ضمضم بن زرعة الحمصي، وهو صدوق يهم، أخرج له أبو داود وابن ماجة في التفسير.
[عن شريح بن عبيد].
هو شريح بن عبيد الحمصي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن جبير بن نفير].
جبير بن نفير تابعي ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[وكثير بن مرة].
كثير بن مرة أيضاً تابعي ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[وعمرو بن الأسود].
عمرو بن الأسود أيضاً تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[والمقدام بن معد يكرب].
المقدام بن معد يكرب صحابي، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[وأبي أمامة].
هو أبو أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث يروى عن ثلاثة من التابعين واثنين من الصحابة، وهو بالنسبة لروية الثلاثة الأولين الذين هم من التابعين مرسل، ومتصل بالنسبة لرواية الصحابيين.
والحديث أيضاً فيه المقبول الذي مر، ولكن الحديث الأول شاهد له.(557/6)
شرح حديث (إنا قد نهينا عن التجسس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن زيد بن وهب قال: أتى ابن مسعود رضي الله عنه فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمراً، فقال عبد الله: (إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه وهو أنه قيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمراً، فقال: (إنا نهينا عن التجسس)، والصحابي إذا قال: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، فله حكم الرفع؛ لأنه مضاف إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وأما رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا قال: أمرت بكذا أو نهيت عن كذا، فالآمر له والناهي هو الله عز وجل.
وهنا قول ابن مسعود: (نهينا)، يعني: أن الذي نهاهم هو رسول الله، فهو مرفوع بهذا الاعتبار؛ لأن هذا له حكم الرفع.
وقوله: (إن يظهر لنا شيء نأخذ به)، أي: أنه إذا ظهر شيء وتبين وثبت فإنه يؤخذ به.(557/7)
تراجم رجال إسناد حديث (إنا قد نهينا عن التجسس)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
أبو بكر بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا أبو معاوية].
هو أبو معاوية محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن وهب].
زيد بن وهب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن مسعود].
عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه صحابي جليل، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(557/8)
الستر على المسلم(557/9)
شرح حديث (من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الستر على المسلم.
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن المبارك عن إبراهيم بن نشيط عن كعب بن علقمة عن أبي الهيثم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة)].
أورد أبو داود باباً في الستر على المسلم، أي: الستر على المسلمين وعلى عورات المسلمين، والستر ينقسم الناس فيه إلى قسمين: القسم الأول: من كان لا يعرف بريبة ولا يعرف بشر، وإنما حصل منه الشيء لأول مرة فإنه يستر عليه.
القسم الثاني: من كان معروفاً بالسوء معروفاً بالشر، فإنه يرفع أمره إلى الوالي من أجل أن يعاقبه؛ لأنه تجرأ واستمر في الوقوع في المحرمات.
إذاً: هناك فرق بين من حصل منه زلة أو حصل منه خطأ، وبين إنسان قد اعتاد هذا الأمر المحرم والوقوع فيه.
وقد أورد أبو داود حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة) والموءودة: هي التي تدفن حية، والمقصود من ذلك: أنه رأى أهلها ذهبوا ليدفنوها فحال بينهم وبين ذلك، فكان سبباً في إحيائها؛ لأن فعلهم الذي أقدموا عليه يؤدي إلى إماتتها ودفنها حية، فعمل على تخليصها من ذلك، فكان في ذلك إحياؤها، هذا هو المقصود بالإحياء، أي: أنه سعى في بقاء حياتها، وليس معنى ذلك إحياءها بعد الموت، وإنما المعنى أنه حصل دفنها وأنه عمل على استخراجها قبل أن تخرج منها الروح.
فالمقصود من ذلك: أنه عمل على بقاء حياتها قبل الموت، وليس المقصود أنها ماتت وأنه أحياها، وإنما عمل على إبقاء حياتها وذلك بالمبادرة إلى تخليصها قبل أن تخرج منها الروح وقبل أن يحصل الموت.
والحديث يدل على فضل الستر على عورات الناس، ولكن هذا الحديث ضعيف، ولكن الأمر بالستر والحث على الستر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى، كما جاء في حديث أبي هريرة مرفوعاً: (من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة).(557/10)
تراجم رجال إسناد حديث (من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن المبارك عن إبراهيم بن نشيط].
ابن المبارك مر ذكره، وإبراهيم بن نشيط ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن كعب بن علقمة].
كعب بن علقمة صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبي الهيثم].
أبو الهيثم مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي، وهذا هو علة الحديث.
[عن عقبة بن عامر].
هو عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(557/11)
طريق أخرى لحديث (من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة) وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى حدثنا ابن أبي مريم أخبرنا الليث قال: حدثني إبراهيم بن نشيط عن كعب بن علقمة أنه سمع أبا الهيثم يذكر أنه سمع دخيناً كاتب عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: كان لنا جيران يشربون الخمر، فنهيتهم فلم ينتهوا، فقلت لـ عقبة بن عامر رضي الله عنه: إن جيراننا هؤلاء يشربون الخمر، وإني نهيتهم فلم ينتهوا، فأنا داعٍ لهم الشرط، فقال: دعهم، ثم رجعت إلى عقبة مرة أخرى فقلت: إن جيراننا قد أبوا أن ينتهوا عن شرب الخمر، وأنا داعٍ لهم الشرط، قال: ويحك! دعهم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر معنى حديث مسلم].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي تقدم، فهناك أبو الهيثم يروي عن عقبة، وهنا أبو الهيثم يروي عن دخين عن عقبة، أي: أن في هذا الإسناد واسطة بينه وبين عقبة بن عامر، فمدار الحديث على أبي الهيثم في الإسنادين، فالعلة التي في الأول هي العلة التي في الثاني.
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا ابن أبي مريم].
ابن أبي مريم مر ذكره.
[أخبرنا الليث قال: حدثني إبراهيم بن نشيط].
الليث وإبراهيم بن نشيط قد مر ذكرهما.
[عن كعب بن علقمة أنه سمع أبا الهيثم يذكر أنه سمع دخيناً].
دخين ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[كاتب عقبة بن عامر].
عقبة بن عامر هو الصحابي الذي مر في الإسناد الأول.
[قال أبو داود: قال هاشم بن القاسم عن ليث في هذا الحديث قال: (لا تفعل، ولكن عظهم وتهددهم)].
هذه طريق أخرى، وهو نفس الإسناد.
وهاشم بن القاسم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(557/12)
حكم ستر أهل المعاصي
وكما قلنا: المسألة فيها تفصيل: فالناس الذين عرفوا بالفساد وبتكرار الفساد لا يسكت عنهم، ومن حصل منه زلة فهذا هو الذي يستر، قال الإمام النووي في قوله: (ومن ستر مسلماً) أي: بدنه أو عيبه بعدم الغيبة له، والذب عن معايبه، وهذا بالنسبة إلى من ليس معروفاً بالفساد، وإلا فيستحب أن ترفع قصته إلى الوالي، فإذا رآه في معصية فينكرها بحسب القدرة، وإن عجز يرفعها إلى الحاكم إذا لم يترتب عليه مفسدة.
ا.
هـ.
وإذا كان هناك جماعة في بلد ليس فيه النهي عن المنكر فليس لهم أن يهجموا على بيوت أصحاب الخمور المجاهرين؛ لأنهم لا يستطيعون هذا، وقد يكونون بذلك سعوا إلى القضاء على أنفسهم.(557/13)
المؤاخاة(557/14)
شرح حديث (المسلم أخو المسلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب المؤاخاة.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن عقيل عن الزهري عن سالم عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه فإن الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)].
أورد أبو داود باب المؤاخاة، والمؤاخاة: هي التآخي بين المسلمين، والأخوة بين المسلمين تقتضي أن ينصح بعضهم لبعض، وألا يسيء بعضهم إلى بعض.
وأورد أبو داود حديث ابن عمر مرفوعاً: (المسلم أخو المسلم) وإذا كان المسلم أخا المسلم فإن هذا يقتضي ألا يظلمه، ولا يلصق الظلم به، وكذلك لا يسلمه، أي: لا يتركه عندما يظلم وهو يقدر على تخليصه من الظلم، وذلك بأن يسلمه، وألا يساعده ولا يعينه، بل عليه أن يساعده ويعينه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال: أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تمنعه من الظلم).
قوله: (من كان في حاجة أخيه فإن الله في حاجته)، أي: من سعى في حاجة أخيه فإن الله تعالى يحقق له حاجته، ويوفقه بأن تحصل حاجته أو ييسر ويسخر من يسعى في حاجته جزاءً وفاقاً.
وقوله: (من فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة)، والجزاء من جنس العمل، فالعمل تفريج كربة في الدنيا، والجزاء تفريج كربة في الآخرة.
وقوله: (ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)، هذا شاهد للباب الذي قبله وهو الستر على المسلم.(557/15)
تراجم رجال إسناد حديث (المسلم أخو المسلم)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث عن عقيل].
الليث مر ذكره، وعقيل بن خالد بن عقيل المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم].
هو سالم بن عبد الله بن عمر، وهو تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم.
[عن أبيه].
هو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، أحد العبادلة الأربعة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(557/16)
ما جاء في المتسابين(557/17)
شرح حديث (المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب المستبان.
حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد العزيز -يعني ابن محمد - عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب المستبان، يعني: اللذين يتسابان، وكل منهما يسب الآخر، هذا يسب هذا، وهذا يسب هذا.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة: (المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم) ومعنى ذلك: أن من حصل منه البدء بالسب، فإن كان الذي أجابه لم يزد ولم يتجاوز، فإن الإثم على الأول منهما، والثاني ليس عليه إثم؛ لأنه عاقب بمثل ما عوقب به، وقد أُذن له بذلك، كما قال الله عز وجل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126] ثم قال: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126]، أي: أن الصبر أفضل من المعاقبة، لكن إذا زاد الثاني الذي حصل له السب، فإنه يكون له نصيب من الإثم من أجل زيادته في السب؛ لأن كونه يجازي بمثل ما حصل له ليس عليه إثم، وإنما عليه إثم إذا زاد.
إذاً: إثم السب على البادئ منهما؛ لأنه هو السبب، والثاني ليس عليه إثم إذا كان لم يزد، ولكنه إذا زاد فإنه يكون له نصيب من الإثم بالزيادة، وهذا الذي في الحديث قريب من الحديث الذي سبق أن مر وفيه: (والسبتان بالسبة) أي: كون الإنسان يحصل له سبة ثم يأتي بسبتين.(557/18)
تراجم رجال إسناد حديث (المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد].
هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن العلاء].
هو العلاء بن عبد الرحمن الحرقي، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، وقد مر ذكره.(557/19)
التواضع(557/20)
شرح حديث (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التواضع.
حدثنا أحمد بن حفص قال: حدثني أبي حدثني إبراهيم بن طهمان عن الحجاج عن قتادة عن يزيد بن عبد الله عن عياض بن حمار رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة بعنوان: باب في التواضع، والتواضع: هو ضد التكبر، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد)، وذلك أن التواضع فيه سلامة من البغي، والتعدي على الغير، وكذلك التفاخر، وبعكس ذلك التكبر، فإنه يؤدي إلى البغي، ويؤدي إلى الفخر، والتواضع يحصل منه السلامة من ذلك، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي -أي: بسبب التواضع - أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد)، وبعكس ذلك يحصل البغي، ويحصل التكبر، ويحصل الفخر.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أوحى إلي)، هذا يدلنا على أن السنة وحي من الله، وأن ما يأتي به الرسول صلى الله عليه وسلم من السنة هو وحي من الله، كما أن ما في الكتاب وحي من الله، فالكتاب وحي والسنة وحي، إلا أن الكتاب متعبد بتلاوته والعمل به، وأما السنة فإنه يتعبد بالعمل بها كما يتعبد بالكتاب، ولهذا أطلق عليها أنها وحي، والله عز وجل يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، وجاء في عدة أحاديث ما يدل على ذلك، ومنها الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشهيد يغفر له كل شيء) ثم قال: (إلا الدين، سارني به جبريل آنفاً)، أي: أن هذا العموم حصل فيه استثناء بالوحي من جبريل، ولذا قال: (سارني به) أي: بهذا الاستثناء الذي هو الدين، فهذا يدل على أن السنة وحي، وأنها من الله عز وجل، فالقرآن وحي والسنة وحي، والكل يجب العمل به، والعمل بالسنة كما هو معلوم عمل بالقرآن؛ لأن الله يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
وبعض العوام يقولون: (الكبر على المتكبر صدقة)، وهذا غير صحيح، فالإنسان لا يتكبر لا على المتكبر ولا على غيره، والإنسان لا يعود نفسه التكبر؛ لأن الإنسان إذا عود نفسه التكبر ألف التكبر، ولذا لا يتكبر على المتكبر ولا على غيره.(557/21)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا)
قوله: [حدثنا أحمد بن حفص].
أحمد بن حفص صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود وابن ماجة.
[قال: حدثني أبي].
أبوه هو حفص بن عبد الله، وهو صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثني إبراهيم بن طهمان].
إبراهيم بن طهمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحجاج].
هو الحجاج بن الحجاج وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن قتادة عن يزيد بن عبد الله].
قتادة بن دعامة مر ذكره، ويزيد بن عبد الله هو ابن الشخير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عياض بن حمار].
عياض بن حمار رضي الله عنه صحابي، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.(557/22)
الأسئلة(557/23)
حكم استعمال الفوائد الربوية في شراء كتب لطلبة العلم
السؤال
هل يجوز استعمال الفوائد الربوية في شراء كتب لطلبة العلم؟
الجواب
لا يجوز أن يأخذ الإنسان الربا، ولا يجوز تعاطيه، بل يجب على الإنسان أن يسلم منه، وأن يبتعد عنه، وإذا وقع في حوزته وبحث عن الخلاص منه فإنه لا يصرفه في الكتب، وإنما يصرفه في أمور ممتهنة، مثل تعبيد طرق، أو بناء حمامات، أو ما إلى ذلك من الأمور الممتهنة.(557/24)
رد المظالم أو استحلالها شرط من شروط التوبة
السؤال
إذا اغتاب رجل رجلاً آخر وتاب، فهل تكفيه التوبة أو يجب أن يعتذر إلى من اغتابه؟
الجواب
هذا حق للغير لا بد من التخلص منه، ولهذا جاء في الحديث: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس من لا درهم له ولا متاع)، لكن ذلك مفلس في الدنيا، والرسول صلى الله عليه وسلم أراد مفلس الآخرة، فقال: (المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وحج، ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من سيئاتهم وطرح عليه، ثم طرح في النار).(557/25)
حم غيبة أهل البدع والاستهزاء بهم
السؤال
هل تجوز غيبة أهل البدع والاستهزاء بهم؟
الجواب
إذا كان المراد بيان بدعهم والتحذير منهم، فهذا أمر مطلوب وواجب، وأما الاستهزاء فالمسلم لا يستهزئ.(557/26)
حكم الكلام في أهل بلد معين
السؤال
هل الكلام على أقوام أو أهل بلد معين بما يكرهونه يعتبر غيبة؟
الجواب
هو غيبة ولا شك؛ لأن الإنسان نفسه لا يحب أن يتكلم أحد في أهل بلده، أو يذم أهل بلده؛ لأنه واحد منهم.(557/27)
حكم من نصح أخاه ونقل ذلك إلى غيره
السؤال
من نصح أخاه، ثم نقل إلى غيره أنه نصحه، هل يعتبر هذا غيبة؟
الجواب
كونه يخبر بأنه نصحه من غير أمر يقتضيه هذا لا يسوغ، وأما إذا جاء كلام وقيل له: لو نصحت فلاناً أو فلاناً فإن فيه كذا وكذا، فقال: قد نصحته وقلت له كذا وكذا، وأراد أن يبين أنه قد فعل، فلا بأس بذلك.(557/28)
حكم الكلام عن الغير إذا كان لا يكره ذلك
السؤال
قد يذكر البعض قصة حصلت لبعض أصحابه المقربين فيها غيبة له، ولكنه يقول: إن صاحبي لا يكره ذلك، ولا يغضب مني خاصة، والأمر كذلك، فما الحكم؟
الجواب
معنى هذا: أن الإنسان ليس لنفسه عنده قيمة، وما دام أنه لا يهمه ذلك فهذا وصف ذميم في الإنسان، وهذا كما قيل: ما لجرح بميت إيلام، فالإنسان ليس له أن يتكلم حتى على من كان بهذا الوصف الذميم.(557/29)
حكم استئجار النساء في الأعراس لضرب الدف
السؤال
هل يجوز استئجار النساء اللاتي يضربن بالدف في الأعراس لإعلان النكاح؟ وهل يجوز للمرأة أن تمتهن هذه المهنة؟ وما حكم إعطاء الأجرة على مثل هذا العمل؟
الجواب
هذا من التكلف، والنساء اللاتي يستأجرن ألا يستطعن أن يضربن بالدف؟ فيضربن بالدف، ولا حاجة للاستئجار، ولا حاجة إلى إضاعة المال، ولا حاجة إلى المباهاة وإلى صرف الأموال في غير طائل، فالنساء يعرفن ضرب الدف، ولا حاجة إلى مثل هذه الأمور التي فيها تكلف، وفيها تبذير وإضاعة الأموال في غير طائل.(557/30)
حكم بذل الإنسان عرضه للناس
السؤال
حديث الرجل الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (يدخل عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنة) ألا يدل على ما ذكر عن أبي ضمضم حيث إنه قال: إني أبيت وليس في قلبي غش أو غل لأحد من الناس؟
الجواب
هو لم يقل: إني بذلت عرضي أو وضعت عرضي، فهذا أكثر من هذا، فكأنه قال للناس: تكلموا فيَّ وأنتم مسامحون، والإنسان لا يصلح أن يقول: تكلموا فيَّ، ولكن كونه يسامح في شيء قد حصل فهذا أمر سهل، لكن كونه يقول: عرضي مباح، فمعناه: أن لكل أحد أن يتكلم فيه، وهذا ليس بجيد، وفرق بين إنسان ليس في نفسه غلٌ على أحد، وبين إنسان يقول مثل هذه المقالة: عرضي حلال.(557/31)
جواز تنازل الإنسان عن حقه
السؤال
كيف يجعل الإنسان من اغتابه في حل وقد حرم الله الغيبة؟
الجواب
حرم الله الغيبة، ولكن لم يحرم المسامحة والتجاوز، فالإنسان إذا كان له حق يجوز له أن يتنازل عن حقه، وأولياء المقتول لهم أن يسامحوا القاتل، فالناس لهم أن يأخذوا حقهم ولهم أن يسامحوا فيه، فالنهي إنما هو عن الغيبة، وأما التجاوز والمسامحة فهذا أمر طيب، ولهذا جاء أن الإنسان عليه أن يتخلص من حقوق الناس، إما بأداء الحقوق عليه إن كانت مالية، وإما بطلب المسامحة منهم إن كانت غير مالية.(557/32)
شرح سنن أبي داود [558]
حرص الإسلام على كل ما يقرب بين القلوب ويجمع شملها؛ ولهذا حرم كل ما يكون سبباً في فرقتها، فحرم الغيبة والنميمة، والحسد والبغي، والسب والشتم واللعن، إلى غير ذلك من أسباب الفرقة وتشتت المجتمع، لذا يجب على كل مسلم الحرص على الألفة مع إخوانه، والدفاع عنهم وعن أعراضهم.(558/1)
ما جاء في الانتصار للنفس(558/2)
شرح حديث (بينما رسول الله جالس ومعه أصحابه وقع رجل بأبي بكر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الانتصار.
حدثنا عيسى بن حماد أخبرنا الليث عن سعيد المقبري عن بشير بن المحرر عن سعيد بن المسيب أنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أصحابه وقع رجل بـ أبي بكر رضي الله عنه فآذاه، فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثانية، فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثالثة فانتصر منه أبو بكر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتصر أبو بكر، فقال أبو بكر: أوجدت علي يا رسول الله؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نزل ملك من السماء يكذبه بما قال لك، فلما انتصرت وقع الشيطان، فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: باب في الانتصار، أي: الانتصار للنفس، والانتقام لها، هذا هو المقصود من الانتصار في هذه الترجمة.
وأما الانتصار للحق فهذا أمر محمود؛ لأنه ليس للنفس وإنما هو لله، والترجمة إنما هي في الانتصار للنفس الذي هو الانتقام، ومن المعلوم أن الإنسان عندما يحصل له أذى أو أي شيء، فله أن يجازي بمثل ما جوزي به، ولا يزيد، ولكن صبره هو المطلوب، وهو الأولى والأفضل، وهو المرغب فيه، كما قال الله عز وجل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126]، فقوله: ((وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ)) أي: عقوبة ليس فيها زيادة، ولكن هناك شيء أحسن من المعاقبة بالمثل والانتصار للنفس، وهو الصفح والتجاوز، ولهذا قال: ((وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)).
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: أنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فسبه شخص، وتكلم عليه، فسكت ولم يرد عليه، ثم تكلم ولم يرد عليه، ثم تكلم الثالثة فأجابه أبو بكر وانتصر لنفسه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجلسه، فقال أبو بكر: أوجدت علي؟! يعني: أغضبت علي؟ فقال: (نزل ملك من السماء يكذبه بما قال لك، فلما انتصرت وقع الشيطان)؛ لأن الشيطان يريد أن يحصل الخصام والمنازعة، وكل واحد يتكلم على الآخر، ومن المعلوم أن السكوت فيه السلامة، وإذا حصل الرد فقد يكون بأكثر، وقد يكون بالمثل، ولكنه يترتب على ذلك أن يزيد ذلك الذي تكلم أولاً؛ لأنه يريد أن يفتح له الباب في أن يتكلم عليه، ومعلوم أن ذلك سائغ، ولكن تركه في حق من هو من أهل الكمال مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه أولى، فهذا الذي جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم معناه: أنه كان أولى به أن يصفح، وأن يبقى على سكوته، وعلى عدم انتصاره لنفسه، وذلك أكمل له؛ لأنه إذا اقتص حصل له أن أخذ حقه، ولكنه إذا سكت فإنه يحصل الأجر والثواب، ولهذا قال تعالى: ((وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)).
والحاصل: أن الإنسان يجوز أن يرد بالمثل، ولكن الترك والصفح والتجاوز أولى وأفضل، لأنه يحصل به الأجر، ويكون ذلك دافعاً وحافزاً للذي تكلم أن يندم، وأن يحصل منه تغير الحال إلى ما هو أحسن، كما قال الله عز وجل: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35].(558/3)
تراجم رجال إسناد حديث (بينما رسول الله جالس ومعه أصحابه وقع رجل بأبي بكر)
قوله: [حدثنا عيسى بن حماد].
عيسى بن حماد هو الملقب بـ زغبة، وهو مصري ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أخبرنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد المقبري].
سعيد المقبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بشير بن المحرر].
بشير بن المحرر مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث مرسل؛ لأنه يتحدث عن شيء حصل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبحضرته، وهو لم يدرك ذلك العصر، فهو مرسل.(558/4)
شرح حديث (أن رجلاً كان يسب أبا بكر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الأعلى بن حماد حدثنا سفيان عن ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً كان يسب أبا بكر) وساق نحوه].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى متصلة، وذكر الصحابي الذي روي عنه هذا الحديث وهو أبو هريرة، ويضيف ذلك إلى حكاية ما جرى بين يدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وقال: (نحوه)، أي: نحو ذلك الكلام المتقدم، وبهذا تكون هذه الطريق المتصلة متفقة مع الطريق المرسلة، فيكون الحديث مقبولاً بذلك.(558/5)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رجلاً كان يسب أبا بكر)
قوله: [حدثنا عبد الأعلى بن حماد] عبد الأعلى بن حماد لا بأس به، وهي بمعنى: صدوق، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا سفيان].
سفيان هو ابن عيينة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عجلان].
هو محمد بن عجلان المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سعيد بن أبي سعيد].
سعيد بن أبي سعيد المقبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق، فرضي الله عنه وأرضاه.
[قال أبو داود: وكذلك رواه صفوان بن عيسى عن ابن عجلان كما قال سفيان].
أورد أبو داود للحديث طريقاً أخرى معلقة، وهي مثل الطريق الثانية التي فيها رواية ابن عجلان.
وقوله: [رواه صفوان بن عيسى].
صفوان بن عيسى ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.(558/6)
حكم الانتصار للنفس
أبو بكر رضي الله عنه لم يحصل منه الانتصار من أول وهلة، مع أنه سائغ له وجائز، والقرآن جاء بجواز ذلك، ولكن الإنسان إذا تكلم عليه شخص وكان ساكتاً فهل يجيب الملك عنه؟ وهل يكون ذلك لكل أحد كما كان لـ أبي بكر؛ أم أنه لـ أبي بكر فقط؟ الله تعالى أعلم.(558/7)
شرح حديث عائشة (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندنا زينب بنت جحش)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي ح وحدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا معاذ بن معاذ المعنى واحد قال: حدثنا ابن عون قال: كنت أسأل عن الانتصار: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:41] فحدثني علي بن زيد بن جدعان عن أم محمد امرأة أبيه قال ابن عون: وزعموا أنها كانت تدخل على أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قالت أم المؤمنين: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندنا زينب بنت جحش رضي الله عنها، فجعل يصنع شيئاً بيده، فقلت بيده حتى فطنته لها، فأمسك، وأقبلت زينب تقحم لـ عائشة رضي الله عنهما، فنهاها، فأبت أن تنتهي، فقال لـ عائشة: سبيها؛ فسبتها، فغلبتها، فانطلقت زينب إلى علي رضي الله عنه فقالت: إن عائشة رضي الله عنها وقعت بكم، وفعلت، فجاءت فاطمة رضي الله عنها فقال لها: إنها حبة أبيك ورب الكعبة! فانصرفت، فقالت لهم: إني قلت له كذا وكذا، فقال لي كذا وكذا، قال: وجاء علي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه في ذلك).
] أورد أبو داود حديثاً ضعيفاً في هذا الموضوع، وهو موضوع الانتصار للنفس، وذلك أن عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم صنع بيده شيئاً، فصنعت عائشة بيده تنبهه أو تذكره، فكف، وكانت زينب رضي الله عنها تقحم، أي: تعرض لشتمها؛ لأنه كان في نفسها شيء على عائشة، فسبتها أو تكلمت فيها، فقال: سبيها، فتكلمت عليها وسبتها، فذهبت زينب إلى فاطمة رضي الله تعالى عنها، وقالت: إن عائشة تكلمت فيكم، أي: أهل البيت.
قيل: إن المقصود من ذلك: أن زينب أمها أميمة بنت عبد المطلب، وهي هاشمية عمة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولما تكلمت فيها معناه: أنها تكلمت في امرأة تنتمي إلى بني هاشم من جهة أمها، هذا هو المقصود من قولها: (تكلمت فيكم)، فجاءت فاطمة فقال لها: (إنها حبة أبيك)، الحب بمعنى: المحبوب، والحبة بمعنى: المحبوبة، فـ زيد بن حارثة وابنه أسامة كل منهما حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعائشة حبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أنها محبوبته، ثم إنها رجعت وجاء علي رضي الله عنه.
والمقصود من ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشدها في هذا الحديث إلى أن تنتصر لنفسها، ولكن الحديث غير ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ وذلك لأن فيه رجلاً ضعيفاً وهو علي بن زيد بن جدعان، وأيضاً في الحديث امرأة أبيه، وهي لا تعرف مجهولة، فالحديث فيه علتان: هذا الضعيف، وهذه المجهولة، وعلى هذا فهو غير ثابت عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(558/8)
النهي عن سب الموتى(558/9)
شرح حديث (إذا مات صاحبكم فدعوه ولا تقعوا فيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النهي عن سب الموتى.
حدثنا زهير بن حرب حدثنا وكيع حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات صاحبكم فدعوه ولا تقعوا فيه)].
أورد أبو داود باب النهي عن سب الموتى، والإنسان إذا مات فإنه لا يسب؛ إلا إذا كان عنده أمور منكرة، وعنده بدع، وقد خلف وراءه شيئاً غير محمود، فكونه يذكر بما فيه ويحذر منه هذا من النصيحة، وهذا فيه الفائدة للناس، وهي ألا يقعوا في الأمور التي لا تنبغي، وأما إذا لم يكن كذلك فإنه لا يسب، وقد جاءت السنة بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وفي غيره.
وقد أورد أبو داود حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات صاحبكم فدعوه ولا تقعوا فيه).
قوله: (إذا مات صاحبكم) أي: الذي بينكم وبينه مصاحبة وصلة، فدعوه ولا تقعوا فيه، ولكن إذا كان عنده أمور محذورة، ويراد التحذير منها، وألا يغتر بها، ولا يفتتن أحد بما عنده من ضلالات إذا كان عنده ضلالات، فإن التحذير منه أمر مطلوب.(558/10)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا مات صاحبكم فدعوه ولا تقعوا فيه)
قوله: [حدثنا زهير بن حرب] هو زهير بن حرب أبو خيثمة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وهو ممن أكثر عنهم الإمام مسلم، إذ روى عنه في صحيحه أكثر من ألف ومائتي حديث.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين خالته، رضي الله تعالى عنها، وقد مر ذكرها.(558/11)
حكم الوقوع في المسلم
لا يفهم من الحديث أنه إذا كان حياً يجوز الوقوع فيه، إلا إذا كان عنده أمور منكرة، وأمور لا تنبغي، فيوقع فيه من أجلها، أو استشير في مصاحبته، أو في مشاركته، أو في مصاهرته، أو غير ذلك من الأمور، فإنه يجوز.(558/12)
حكم سب موتى الكفار
والنهي عن سب الموتى الذي يظهر أنه خاص بموتى المسلمين.(558/13)
شرح حديث (اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء أخبرنا معاوية بن هشام عن عمران بن أنس المكي عن عطاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساويهم)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساويهم)، وهذا مثل ما تقدم؛ أي: أنهم يدعونهم ولا يسبونهم، وفي الحديث الآخر الصحيح: (لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)، وأما ذكر المحاسن إذا كان فيه فائدة، وهو كلام حق، وليس فيه كذب، وليس فيه كلام يخالف الواقع، وفي ذلك مصلحة وهي بيان ما فيه ليعلم، وليؤتسى به، وليقتدى به، وليذكر ويشكر على ذلك، فإنه لا بأس به؛ ولكن الحديث في إسناده رجل فيه ضعف، وأما عدم ذكر المساوي فهذا موجود في أحاديث كثيرة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(558/14)
تراجم رجال إسناد حديث (اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معاوية بن هشام].
معاوية بن هشام صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمران بن أنس المكي].
عمران بن أنس المكي ضعيف، أخرج له أبو داود والترمذي.
[عن عطاء].
هو عطاء بن أبي رباح المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث علته هذا الرجل الضعيف الذي هو عمران بن أنس.(558/15)
النهي عن البغي(558/16)
شرح حديث (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النهي عن البغي.
حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان أخبرنا علي بن ثابت عن عكرمة بن عمار قال: حدثني ضمضم بن جوس قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يوماً على ذنب، فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيباً؟! فقال: والله! لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً؟ أو كنت على ما في يدي قادراً؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار) قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده! لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في النهي عن البغي، والبغي: هو الاعتداء والظلم، وقد مر قريباً قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد)؛ لأن البغي هو الاعتداء والظلم.
وأورد المصنف هنا حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلين من بني إسرائيل كانا متآخيين، أي: كان بينهما رفقة وصداقة، وكان أحدهما يجتهد في العبادة، والثاني يحصل منه ذنوب، وكان المجتهد ينصحه، وينهاه، ومرة من المرات نهاه، فتكلم بكلام أثاره، وقال: أبعثت علي رقيباً؟! خلني وشأني! فغضب ذلك المجتهد وقال: والله! لا يغفر الله لك، أو والله! لا يغفر الله لفلان، أي: أنه تألى على الله، وحلف أن الله لن يغفر له، وهذا هو الاعتداء، وهذا هو الظلم؛ لأنه أقسم على الله أنه لن يغفر لفلان، ومعلوم أن الله عز وجل يغفر الذنوب جميعاً إلا ما كان شركاً، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، ثم إن الله قبض أرواحهما وقال لهذا الذي تكلم: أكنت بي عالماً؟ أو على ما في يدي قادراً؟ ثم قال للذي كان يذنب: اذهب وادخل الجنة برحمتي، فقد تجاوز عنه ورحمه، وقال للذي قال هذه الكلمة: اذهبوا به إلى النار، وذلك من أجل هذه الكلمة.
وهذا الحديث لا يفهم منه أنه خالد في النار.
فقال أبو هريرة: (والذي نفسي بيده! لتكلم -يعني: هذا المجتهد في العبادة مع ذلك الذي يقترف العصيان- بكلمة أوبقت دنياه وآخرته) أي: أهلكت دنياه وآخرته، وهذا معناه: أنه أمر به إلى النار، وصار من أهل النار، ولكن كما هو معلوم من دخل النار وهو من أهل الإيمان، ومن أهل التوحيد، لا بد أن يخرج منها ويدخل الجنة، ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين هم أهلها والذين لا سبيل لهم إلى الخروج منها، وإنما هم باقون فيها إلى غير نهاية.
وقوله: (كلمة) المقصود بذلك هذه الجملة، وهذا الكلام؛ لأن الكلمة تطلق على الكلام، كما أنها تطلق على الكلمة المفردة، وقد جاء ذلك في أحاديث كثيرة كقوله عليه الصلاة والسلام: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، وهي ليست كلمة واحدة، ولذلك يقول ابن مالك في الألفية: واحده كلمة والقول عم وكلمة بها كلام قد يؤم أي: قد يقصد بالكلمة الكلام، وهذا من أمثلته؛ لأنه أريد بالكلمة هنا الكلام، ولم يرد الكلمة المفردة، ومثل هذا يأتي كثيراً في الكتاب والسنة.(558/17)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين)
قوله: [حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان].
محمد بن الصباح بن سفيان صدوق، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[أخبرنا علي بن ثابت].
علي بن ثابت صدوق ربما أخطأ، أخرج له أبو داود والترمذي.
[عن عكرمة بن عمار].
عكرمة بن عمار صدوق يغلط، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[قال: حدثني ضمضم بن جوس].
ضمضم بن جوس ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[قال: قال أبو هريرة].
أبو هريرة رضي الله عنه قد مر ذكره.(558/18)
وقوع النعيم والعذاب للإنسان بعد موته
الإنسان إذا مات قامت قيامته، ووصل إليه نعيم الجنة، وعذاب النار، كما جاء في حديث البراء بن عازب: أن الميت إذا مات وأدخل قبره، وسئل ووفق في الجواب، وثبت في الجواب، يفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها ونعيمها، وإذا كان بخلاف ذلك، يفتح له باب إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، وكما قال الله عز وجل في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].(558/19)
شرح حديث (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن علية عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم)].
أورد أبو داود حديث أبي بكرة رضي الله عنه: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله له العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم)، يعني: أنه تحصل له عقوبة في الدنيا والآخرة، فيجمع له بين العقوبة الدنيوية والأخروية، حيث يجعل له الله العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة، فيجمع له بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، والضرر الذي يحصل في الدنيا، والضرر الذي يحصل في الآخرة، وهذا يدل على عظم وخطورة شأن البغي وقطيعة الرحم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن صاحبهما جدير بأن يحصل له هذا وهذا، وأن يجمع له بين هذا وهذا، وهذا يدل على خطورة أمر البغي وقطيعة الرحم.(558/20)
تراجم رجال إسناد حديث (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا ابن علية].
هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم بن علية نسبة إلى أمه، وهو مشهور بالنسبة إليها، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عيينة بن عبد الرحمن].
عيينة بن عبد الرحمن صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن أبي بكرة].
هو أبو بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(558/21)
ما جاء في الحسد(558/22)
شرح حديث (إياكم والحسد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الحسد.
حدثنا عثمان بن صالح البغدادي حدثنا أبو عامر -يعني عبد الملك بن عمرو - حدثنا سليمان بن بلال عن إبراهيم بن أبي أسيد عن جده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والحسد! فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أو قال: العشب).
] أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في الحسد، والحسد حسدان: أحدهما: بمعنى الغبطة، وهو محمود؛ لأن صاحبه لم يتمن زوال النعمة عن الغير، وإنما تمنى أن يكون له مثلها، مع بقائها عند صاحبها، فهذا هو الذي يقال له: غبطة.
ثانيهما: الحسد المذموم، وهو تمني زوال النعمة عن الغير، أي: أن الحاسد لا يعجبه ولا يحب أن يبقى الخير عند هذا الغير الذي أعطاه الله إياه، فيحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ويتمنى زوالها عنهم، سواء جاءت إليه أو لا وهذا هو المذموم، وأما ذاك فهو ممدوح، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين) يعني: لا غبطة، وأما الحسد بمعنى تمني زوال النعمة فهذا هو المذموم، وسواء أراد أن تزول وتكون له وتذهب عن صاحبها، أو أن تذهب عن صاحبها ولم يحصل له شيء، وكل ذلك مذموم، والمحمود أن يتمنى أن يكون له مثلها مع بقائها عند صاحبها.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والحسد! فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، أو كما تأكل النار العشب).
والحسد لا شك أنه وصف ذميم، ومحرم، وقد جاءت أحاديث كثيرة تدل على تحريمه، وعلى سوء من اتصف به، وجاء القرآن بالتعوذ من حسد الحاسد، وأما هذا الحديث فهو غير ثابت؛ لأن في إسناده من هو متكلم فيه.(558/23)
تراجم رجال إسناد حديث (إياكم والحسد)
قوله: [حدثنا عثمان بن صالح البغدادي].
عثمان بن صالح البغدادي ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا أبو عامر يعني عبد الملك عمرو].
هو أبو عامر العقدي عبد الملك بن عمرو، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سليمان بن بلال].
سليمان بن بلال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم بن أبي أسيد].
إبراهيم بن أبي أسيد صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود.
[عن جده].
جده لا يعرف، أي: أنه مجهول، وهو هنا مبهم غير مسمى، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة رضي الله عنه قد مر ذكره.(558/24)
شرح حديث (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أبي أمامة حدثه: (أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك رضي الله عنه بالمدينة في زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة، فإذا هو يصلي صلاة خفيفةً دقيقة، كأنها صلاة مسافر أو قريباً منها، فلما سلم قال أبي: يرحمك الله! أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أو شيء تنفلته؟ قال: إنها المكتوبة، وإنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أخطأت إلا شيئاً سهوت عنه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار، {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27]، ثم غدا من الغد فقال: ألا تركب لتنظر ولتعتبر؟ قال: نعم، فركبوا جميعاً فإذا هم بديار باد أهلها، وانقضوا وفنوا، {خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة:259] فقال: أتعرف هذه الديار؟ فقلت: ما أعرفني بها وبأهلها! هذه ديار قوم أهلكهم البغي والحسد، إن الحسد يطفئ نور الحسنات، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه، والعين تزني، والكف والقدم والجسد واللسان، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)].
أورد أبو داود حديث: (أن سهل بن أبي أمامة دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة في زمن عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة، فإذا هو يصلي صلاة خفيفة دقيقة، كأنها صلاة مسافر أو قريباً منها، فلما سلم قال أبي: يرحمك الله! أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أو شيء تنفلته؟ قال: إنها المكتوبة، وإنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أخطأت إلا شيئاً سهوت عنه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم)].
أي: أنه ظن أنها نافلة فسأله، فأخبره أنها المكتوبة، وأنه خففها، وعند ذلك ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشددوا فيشدد الله عليكم، فإن قوماً كانوا كذلك فشدد الله عليهم)، وذكر أن بقاياهم في البيع والصوامع والأديرة، وأن الله تعالى أهلكم بسبب التشديد الذي حصل منهم على أنفسهم.
والحديث في إسناده ابن أبي العمياء، وابن القيم أشار إلى أن الذي جاء عن أنس بن مالك خلاف ذلك فقال: وأما حديث سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء، ودخول سهل بن أبي أمامة على أنس بن مالك؛ فإذا هو يصلي صلاة خفيفة، كأنها صلاة مسافر؛ فقال: إنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا مما تفرد به ابن أبي العمياء، وهو شبه المجهول، والأحاديث الصحيحة عن أنس كلها تخالفه، فكيف يقول أنس هذا وهو القائل: إن أشبه من رأى صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن عبد العزيز؟ وكان يسبح عشراً عشراً، وهو الذي كان يرفع رأسه من الركوع حتى يقال: قد نسي، وكذلك من بين السجدتين، ويقول: ما آلو أن أصلي لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يبكي على إضاعتهم الصلاة، ويكفي في رد حديث ابن أبي العمياء ما تقدم من الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا مطعن في سندها ولا شبهة في دلالتها، فلو صح حديث ابن أبي العمياء -وهو بعيد عن الصحة- لوجب حمله على أن تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم للسنة الراتبة، كسنة الفجر والمغرب والعشاء، وتحية المسجد ونحوها، لا أن تلك صلاته التي كان يصليها بأصحابه دائماً، وهذا مما يقطع ببطلانه، وترده سائر الأحاديث الصريحة الصحيحة، ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخفف بعض الصلاة، كما كان يخفف سنة الفجر، حتى تقول عائشة أم المؤمنين: هل قرأ فيها بأم القرآن؟ وكان يخفف الصلاة في السفر حتى كان ربما قرأ في الفجر بالمعوذتين، وكان يخفف إذا سمع بكاء الصبي، فالسنة التخفيف حيث خفف، والتطويل حيث أطال، والتوسط غالباً.
فالذي أنكره أنس هو التشديد الذي لا يخفف صاحبه على نفسه مع حاجته إلى التخفيف، ولا ريب أن هذا خلاف سنته وهديه.
انتهى كلام ابن القيم.
وهذا يبين أن المتن فيه نكارة، والسند فيه ضعف، بسبب ابن أبي العمياء، فإنه قال عنه ابن القيم: إنه شبه المجهول، ثم أيضاً هذه الأحاديث الكثيرة التي جاءت عن أنس نفسه من فعله وقوله، وإسناده ذلك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتشبيه صلاة عمر بن عبد العزيز بصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا يعدون له وهو ساجد: سبحان ربي الأعلى مقدار عشر مرات، كل هذا ينافي هذا الكلام الذي جاء في حديث ابن أبي العمياء.
وقوله: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27]، ثم غدا من الغد فقال: ألا تركب لتنظر ولتعتبر؟!) أي: خرج أبو أمامة غدوة، فقال -أي: أنس -: ألا تخرج لتعتبر؟ وقوله: (قال: نعم، فركبوا جميعاً فإذا هم بديار باد أهلها وانقضوا وفنوا، خاوية على عروشها، فقال: أتعرف هذه الديار؟ فقلت: ما أعرفني بها وبأهلها! هذه ديار قوم أهلكهم البغي والحسد، إن الحسد يطفئ نور الحسنات، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه) هذا محل الشاهد على باب الحسد، قوله: (الحسد يطفئ نور الحسنات، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه) أي: أن البغي يأتي نتيجة للحسد، والحسد يكون سبباً للبغي؛ لأن الإنسان الذي يبغي لا يأتي إلا بشيء في نفسه، فكون قلبه يتأجج من الحقد والغيظ يجعله يمد يده ويحصل منه البغي.
وقوله: (والعين تزني، والكف والقدم والجسد واللسان، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) هذا أمر ثابت في الأحاديث، كقوله عليه الصلاة والسلام: (العين تزني وزناها النظر) وآخر ذلك: (والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)، أي: إذا وصل إلى هذه الغاية وجد الزنا الذي يعتبر الغاية وما قبله وسيلة إليه.(558/25)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عبد الله بن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء].
سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء مقبول، أخرج له أبو داود.
[أن سهل بن أبي أمامة حدثه].
سهل بن أبي أمامة ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(558/26)
بيان أن أنس بن مالك لم يتأمر على المدينة
أمير المدينة كان هو عمر بن عبد العزيز، وقد ذكر الشارح أن أمير المدينة أنس، وهذا غلط، فلم يكن أنس أمير المدينة، بل كان من أهل البصرة، وكان في البصرة، وإنما أمير المدينة هو عمر بن عبد العزيز، وكان ذلك في ولاية الوليد بن عبد الملك، فقد كان أميره على المدينة قبل أن يأتي زمن خلافته، وأنس لم يدرك خلافة عمر؛ لأنه مات قبل خلافته، ولم يدركها، فالذي ذكره الشارح في عون المعبود هو وهم.(558/27)
حكم زيارة الأماكن الأثرية
هذا الحديث لا يدل على زيارة الأماكن الأثرية للاعتبار والتذكر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يزرها، بل أسرع لما مر بها في طريقه إلى تبوك، ووادي محسر لما كان يمر به كان يسرع؛ لأنه موطن العذاب.(558/28)
باب في اللعن(558/29)
شرح حديث (إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في اللعن.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا يحيى بن حسان حدثنا الوليد بن رباح قال: سمعت نمران يذكر عن أم الدرداء أنها قالت: سمعت أبا الدرداء رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض، فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً، فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لعن، فإن كان لذلك أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها)].
أورد أبو داود باباً في اللعن، واللعن: هو إطلاق اللعن على أحد، ومن المعلوم أن اللعن إنما يكون في حدود ما وردت به الشريعة، واللعن يكون لمن يستحقه، وقد جاء في نصوص الكتاب والسنة اللعن بالأوصاف؛ كقوله تعالى: {لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال)، وقوله: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده)، وقوله: (لعن الله النامصة والمتنمصة)، وغيرها من الأحاديث الكثيرة في اللعن بالوصف، وليس بالعين.
وأما اللعن بالعين فكثير من العلماء يقولون: لا يلعن المعين؛ لأنه لا يدرى ما هي نهايته، وأي شيء ينتهي إليه، ولهذا كان بعض العلماء يتحرزون من اللعن، حتى من لعن الكفار، إذا كانوا على قيد الحياة، أو كانوا لا يعرفون النهاية التي كانوا عليها، ولهذا ذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية قصة نصراني أنشأ قصيدة يذم فيها الإسلام، ويذم فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر أن ابن حزم أنشأ قصيدة طويلة رداً عليها، وقد أثبت القصيدتين، ولما ذكر قصيدة النصراني عقبها بقوله: فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين إن كان مات كافراً.
وذكر ابن كثير في ترجمة أبي نصر الفارابي أنه كان يقال عنه: إنه لا يقول بمعاد الأجساد، وإنما يقول بمعاد الأرواح فقط، ثم قال ابن كثير: فعليه إن كان مات على ذلك لعنة رب العالمين، ثم قال: وإن الحافظ ابن عساكر كتب تاريخاً واسعاً في دمشق، ولم يذكر الفارابي في تاريخه، مع أنه من أهل دمشق، قال: ولعله إنما تركه لقبحه ونتانته.
أي: لأنه يقول بعدم معاد الأجساد، وأنما تعاد الأرواح فقط.
ولهذا فالأصل عند أهل السنة أن المعين لا يلعن؛ لأن الإنسان قد يكون على شر، ثم يختم له بخير، وتكون نهايته على خير، ومن المعلوم أن الناس بالنسبة للنهايات والبدايات أربعة أقسام: منهم من تكون بدايته ونهايته طيبة، ومنهم من تكون بدايته ونهايته سيئة، ومنهم من تكون بدايته حسنة ونهايته سيئة، ومنهم من تكون بدايته سيئة ونهايته حسنة، فهذه أربعة أقسام للناس بالنسبة للبداية والنهاية، وهذا مثلما حصل لسحرة فرعون، فإن حياتهم كلها كانت مملوءة بالسحر والكفر والشر، ثم بعد ذلك آمنوا برب موسى وهارون، وقتلوا وانتهوا على خير، وختم لهم بخير.
وكذلك الذي يكون على حالٍ حسنة ثم يدركه الخذلان في آخر الأمر فيرتد عن الإسلام، ويموت على ذلك، فتكون نهايته سيئة، والعياذ بالله! وقد أورد أبو داود رحمه الله هذا الحديث، وفيه أن اللعنة التي تصدر من الإنسان تذهب إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها، ثم ترجع إلى الأرض فتغلق أبواب الأرض دونها، ثم تذهب يميناً وشمالاً حتى تذهب إلى الذي قيلت فيه، فإن لم يكن كذلك وإلا رجعت إلى صاحبها.(558/30)
تراجم رجال إسناد حديث (إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا يحيى بن حسان].
أحمد بن صالح مر ذكره، ويحيى بن حسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا الوليد بن رباح].
الوليد بن رباح صدوق، أخرج له أبو داود.
[قال: سمعت نمران].
نمران مقبول، أخرج له أبو داود.
[يذكر عن أم الدرداء].
أم الدرداء هي هجيمة التابعية، وهي الصغرى من زوجتي أبي الدرداء؛ لأن هناك أم الدرداء الكبرى، وهي ليس لها رواية، واسمها خيرة، وأما هذه فهي هجيمة، وهي تابعية ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[أنها قالت: سمعت أبا الدرداء].
أبو الدرداء هو عويمر رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث في إسناده هذا المقبول، والألباني حسنه من أجل طريق أخرى مرسلة.
[قال أبو داود: قال مروان بن محمد: هو رباح بن الوليد سمع منه، وذكر أن يحيى بن حسان وهم فيه].
يعني: وهم في القلب.
ومروان بن محمد ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.(558/31)
شرح حديث (لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضب الله ولا بالنار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلاعنوا بلعنة الله، ولا بغضب الله، ولا بالنار)].
أورد أبو داود حديث سمرة بن جندب: (لا تلاعنوا بلعنة الله، ولا بغضب الله ولا بالنار)، هذا نهي عن أن يلعن الرجل أخاه أو يدعو عليه بالنار، أو يدعو عليه بالغضب، أو غير ذلك، وهذا فيه النهي عن هذه الأعمال التي هي التكلم باللعن، أو بالدعوة بالغضب، أو بالنار، أو أن يكون من أهل النار، أو أن يجعل من أهل النار.(558/32)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضب الله ولا بالنار)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عن هشام].
هو هشام الدستوائي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
هو الحسن بن أبي الحسن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سمرة بن جندب].
سمرة بن جندب صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث جاء من طريق الحسن عن سمرة، ولكن الألباني حسنه أو صححه من أجل شواهد أخرى.(558/33)
شرح حديث (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي قال: حدثنا هشام بن سعد عن أبي حازم وزيد بن أسلم أن أم الدرداء قالت: سمعت أبا الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء)].
أورد أبو داود حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء)، وهذا بيان لذنبهم، ووصفهم بأنهم لا يكونون ممن يشفعون، ولا ممن يشهد يوم القيامة، وهذا يدل على خطورة هذا العمل الذي هو الاتصاف باللعن.(558/34)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء)
قوله: [حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء].
هارون بن زيد بن أبي الزرقاء صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
أبوه ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[قال: حدثنا هشام بن سعد].
هشام بن سعد صدوق له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي حازم].
أبو حازم هو سلمة بن دينار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وزيد بن أسلم].
زيد بن أسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن أم الدرداء قالت: سمعت أبا الدرداء].
أم الدرداء وأبو الدرداء قد مر ذكرهما.(558/35)
شرح حديث ابن عباس في النهي عن لعن الريح
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان ح وحدثنا زيد بن أخزم الطائي حدثنا بشر بن عمر حدثنا أبان بن يزيد العطار حدثنا قتادة عن أبي العالية قال زيد: عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً لعن الريح، وقال مسلم: إن رجلاً نازعته الريح رداءه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلعنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنها فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئاً ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رجلاً لعن الريح، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لا تلعنها فإنها مأمورة، من لعن شيئاً وليس له بأهل رجعت اللعنة عليه)، أي: رجعت اللعنة على صاحبها، ومغبتها وضررها على الذي حصلت منه، وهو متكلم بها.(558/36)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في النهي عن لعن الريح
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان].
هو أبان بن يزيد العطار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[ح وحدثنا زيد بن أخزم الطائي].
زيد بن أخزم الطائي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا بشر بن عمر].
بشر بن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والإسناد الأول عالٍ، والثاني نازل؛ لأن بين المصنف وبين أبان واسطة واحدة في الإسناد الأول وواسطتين في الإسناد الثاني.
[حدثنا أبان بن يزيد العطار حدثنا قتادة عن أبي العالية].
قتادة مر ذكره، وأبو العالية هو رفيع بن مهران، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(558/37)
الأسئلة(558/38)
حكم قول: (عليه من الله ما يستحق)
السؤال
ما حكم قول: (عليه من الله ما يستحق)؟
الجواب
يبدو أنها لا بأس بها؛ لأن هذه عبارة سهلة، والإنسان الذي يوغل في الضلال، ويحصل منه ضرر كبير، فإذا قيل فيه مثل هذا فلا بأس بذلك؛ لأن هذه تقال، ويأتي ذكرها.(558/39)
حكم لعن من مات على الكفر
السؤال
إذا مات الإنسان على الكفر قطعاً فهل يلعن ويبشر بالنار، مثل مسيلمة الكذاب؟
الجواب
لا شك أن من مات على الكفر ليس له إلا النار، ويكون خالداً مخلداً فيها أبد الآباد؛ لأن العبرة هو الموت على الكفر، والعبرة بالخواتيم، فمن مات على الكفر ولم يؤمن بالله فهو من أهل النار، وهو مطرود من رحمة الله، ولا يغفر الله له، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].(558/40)
الفرق بين ابن علية الثقة وابن علية الجهمي
السؤال
ما الفرق بين ابن علية الثقة، وبين الذي قال عنه الذهبي: جهمي هالك؟
الجواب
الجهمي هو إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم، هذا هو الجهمي الهالك، وهو الذي ذكره الذهبي في الميزان، وأما الثقة الإمام الذي يأتي ذكره في أسانيد الحديث كثيراً فهو أبوه: إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، وابنه إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم هو الذي يأتي في كتب الفقه في المسائل الشاذة، فعندما يأتي ذكر مسألة شاذة وفيها ابن علية فالمراد به الابن.
وهكذا إذا جاء ذكر الأصم في مسائل الشذوذ، فهناك الأصم شيخ للحاكم، وهو ثقة، وهو أبو العباس الأصم، وأما الذي يأتي ذكره في مسائل الشذوذ فهو أبو بكر بن كيسان الأصم.(558/41)
حكم قول: فلان هالك
السؤال
هل يجوز قول القائل: فلان هالك؟
الجواب
إذا كان المقصود ذمه، بمعنى: أنه متصف بصفة ذميمة، وقيل فيه هذا مبالغة في ذمه، مثل ما يقال: جهمي هالك، فمثل هذا لا بأس به، ومثل هذا يقال في الرواة، ومن العبارات التي تقال في الرواة قولهم في إبراهيم بن إسماعيل بن علية الذي يأتي ذكره في كتب الفقه عند المسائل الشاذة: جهمي هالك، ومن أقواله: إن الإجارة لا تجوز؛ لأنها بمثابة بيع شيء غير موجود، فهي غير جائزة، وهذا قول شاذ، وقد قال عنه الذهبي في الميزان: جهمي هالك.(558/42)
حكم الإقسام على الله عز وجل
السؤال
هل يجوز الإقسام على الله؛ كأن يقول الرجل: والله! ليعطيني الله كذا من الخير، أو والله لينصرني الله على عدوي؟
الجواب
ليس من المناسب أن يقول الإنسان: والله! ليعطيني الله كذا وكذا، وقد جاء في قصة الربيع في قصة السن الذي كسر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (كتاب الله القصاص)، فقال ولي أمرها: (والله! لا تكسر سن الربيع) وكان أولياء البنت التي كسر سنها قد طالبوا بالقصاص، وامتنعوا عن العفو، ولكن بعد ذلك جاءوا وعفوا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم عند ذلك: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)، فإن هذا أقسم ولكن الله تعالى سخر هؤلاء.
أما أن يقول الإنسان: والله! ليعطيني الله كذا، فقد يكون في هذا شيء من الاعتداء في الدعاء.(558/43)
شرح سنن أبي داود [559]
من محاسن دين الإسلام أنه أمر بالألفة والأخوة والترابط، وأمر بكل ما يؤدي إلى الأخوة وتماسكها وترابطها، ونهى عن كل ما يفلك أواصرها، ومن ذلك الهجر، فقد نهى الشرع عن الهجر فوق ثلاثة أيام لغير سبب شرعي، بل وجاء الوعيد الشديد فيمن يفعل ذلك.
ثم رخص في الكذب في ثلاث حالات فقط، بعد أن حرم تحريماً لا مرية فيه، وإنما كانت هذه الإباحة لمصلحة شرعية محققة، وهذا من مقاصد الشريعة، كما أمرت الشريعة بالنصيحة، وحذرت من الغش والخيانة، حتى يبقى المجتمع المسلم متماسكاً مترابطاً قوياً.(559/1)
باب فيمن دعا على من ظلمه(559/2)
شرح حديث عائشة أنه سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن دعا على من ظلمه.
حدثنا ابن معاذ حدثنا أبي حدثنا سفيان عن حبيب عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبخي عنه)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله هذه الترجمة بعنوان: باب فيمن دعا على من ظلمه، أي: أنه يجوز للمظلوم أن يدعو على من ظلمه، وإذا تجاوز ولم يدع عليه فذلك هو الأولى، كما جاء في القرآن في قوله عز وجل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126].
وقد أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: أنه سرق لها شيء فدعت على من سرقه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبخي عنه)، قيل: إن معنى ذلك: لا تخففي عنه العقوبة في دعائك عليه، أي: فلو تركتيه دون أن تخففي عليه العقوبة حتى يحصل عقوبة كاملة فهو الذي ينبغي، لكن هذا المعنى فيه نكارة؛ لأن كون الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرها ألا تدعو عليه حتى يحصل عقوبة كاملة ليس بواضح، وهو خلاف منهج الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو رءوف رحيم، كما وصفه الله عز وجل بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
والحديث من جهة الإسناد فيه حبيب بن أبي ثابت، وهو كثير التدليس والإرسال، وقد روى هنا بالعنعنة، وعلى هذا فالحديث فيه ضعف من جهة الإسناد، وفيه أيضاً نكارة من جهة المعنى، والله تعالى أعلم.(559/3)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة أنه سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه
قوله: [حدثنا ابن معاذ].
هو عبيد الله بن معاذ، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
أبوه معاذ بن معاذ العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حبيب].
هو حبيب بن أبي ثابت، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو كثير التدليس والإرسال.
[عن عطاء].
يحتمل أن يكون ابن أبي رباح وأن يكون عطاء بن يسار، وقد روى عنهما حبيب بن أبي ثابت جميعاً، وكل منهما ثقة، أخرج لهما أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(559/4)
حكم الدعاء على الظالم
الدعاء على الظالم جاء فيه حديث معاذ المشهور عندما بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فإنه أمره أن يدعو إلى التوحيد أولاً، فإذا أجابوه إلى التوحيد ينتقل إلى الأمر بالصلوات الخمس، وإذا جابوه إلى الصلوات الخمس ينتقل إلى الدعوة إلى إخراج الزكاة من الأغنياء وإعطائها الفقراء، ثم قال في آخره: (فإن هم أجابوك إلى ذلك فإياك وكرائم أموالهم) أي: إياك أن تأخذ النفائس من الأموال، ثم قال: (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، أي: أنه لو أخذ كرائم الأموال فإنه يكون قد ظلم أصحاب الأموال، فلا يأخذ من الجيد الذي هو نفائس الأموال، ولا من رديء المال، وإنما يأخذ من أوساطه، ولهذا قال: (وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، ومعنى ذلك: أن من أخذ منه شيء لا يجب عليه وأخذ منه قهراً، وبدون رضاه، فإن ذلك يكون ظلماً عليه من العامل، فإذا دعا عليه فليس بين دعوته وبين الله حجاب.(559/5)
حكم الدعاء على الحكام
والحاكم الظالم يدعى له بالهداية والتوفيق، وأن يوفقه الله تعالى لنصرة الدين، هذا هو الذي ينبغي؛ فإن طريقة أهل السنة والجماعة: الدعاء للولاة، وعدم الدعاء عليهم؛ لأنهم إذا صلحوا حصل بصلاحهم الخير الكثير، فطريقة أهل السنة والجماعة الدعاء للولاة، وطريقة أهل البدع الدعاء عليهم.(559/6)
ما جاء فيمن يهجر أخاه المسلم(559/7)
شرح حديث (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن يهجر أخاه المسلم.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب فيمن يهجر أخاه المسلم، وهجر المسلم إما أن يكون لأمور دنيوية، وأمور شخصية، وأمور تجري بين الناس، فهذا لا يسوغ الهجر فيه أكثر من ثلاث ليال، فإنه قد يحصل شيء فتتباعد النفوس فيما بينها في هذه المدة، لكن لا يجوز أن يتجاوز هذا المقدار الذي هو ثلاث ليالٍ.
وأما إذا كان الهجر لله عز وجل، مثل هجران أهل البدع، وأهل المعاصي، فإذا كان الهجر مفيداً لهم، ومؤثراً عليهم، لاسيما إذا كان من شخص يؤثر هجره كأن يكون والداً، أو أن يكون شخصاً مسئولاً، وإذا هجر يؤثر هجره على المهجور، فإن هذا أمر مطلوب، وإذا كان الهجر لا يترتب عليه مصلحة، أو كان الهجر في أمور غير واضحة، أو لم يكن التهاجر لمن عصى، أو حصل منه شيء، فإن هذا من الفتن التي يبتلى بها بعض الناس، ولهذا الواجب هو الحذر، وأن يكون الإنسان في مثل هذه الأمور على حيطة في دينه، فلا يسعى إلى إفساد قلوب الناس.
فالهجر إذا كان لله فإنه سائغ، ولكن ممن يفيد هجره وينفع، وإذا كان لحظ النفس، فإنه يجوز في حدود ثلاثة أيام، ولا يجوز أن يتجاوز ثلاثة أيام، وقد جاءت الأحاديث في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها حديث أبي هريرة هذا، الذي أورده المصنف أولاً، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تباغضوا) أي: لا تأتوا بالأسباب التي تجلب البغضاء بينكم، ولا تفعلوا الأسباب التي تسبب البغضاء، وإنما اعملوا على وجود الأسباب التي تسبب الألفة والمودة والصفاء والتقارب والتآلف، وابتعدوا عن الأسباب التي يترتب عليها تنافر النفوس والقلوب، وتدابر وتباغض وافتراق، بل احرصوا على الألفة وعلى المودة.
وقوله: (ولا تحاسدوا) أي: لا يحسد بعضكم بعضاً، فمن حصلت له نعمة من الله عز وجل فلا يحسده أخوه على هذه النعمة ويتمنى زوالها عنه سواء حصلت له أم لم تحصل له.
والحسد الذي بمعنى الغبطة لا بأس به، وهو أن يتمنى الإنسان إذا رأى غيره على خير وعلى استقامة أن يكون مثله، وأن يكون له مثل ما له دون أن يتمنى زوال ما معه، بل يبقى ذلك الفضل له ويحب أن يكون له فضل مثل ذلك الفضل، فهذا حسد بمعنى الغبطة وهو محمود، وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك.
وأما إذا كان الحسد المذموم الذي ينتج عن نفس خبيثة بأن يكره حصول الخير للغير وبقاء النعمة عنده ويتمنى زوالها عنه، فإن هذا من الحسد المذموم الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (ولا تدابروا) أي: لا يحصل منكم التقاطع بحيث إن الشخصين إذا التقيا يعرض كل منهما عن الآخر فيوليه دبره ولا يوليه وجهه، فلأجل التقاطع الذي يكون بينهم ينتج عن ذلك أن كل واحد منهما يولي الآخر دبره بدلاً من وجهه، فيحصل بذلك التدابر، والتدابر معناه: أن كل واحد يولي الآخر دبره؛ لأنه لا يريد أن يلقاه ولا يريد أن يسلم عليه ولا يريد أن يتكلم معه.
قوله: (وكونوا عباد الله إخواناً) أي: هذه الأخوة التي منحكم الله إياها وهي أخوة الإسلام كونوا عليها بأن يحب كل واحد لأخيه ما يحبه لنفسه، ويحرص على ألا يكون هناك تباغض وتحاسد وتدابر بينه وبين أخيه المسلم.
ثم لما ذكر التدابر الذي هو أن يولي كل واحد الآخر دبره قال: (ولا يحل لأحد أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍِ) أي: إذا كان هناك في النفوس شيء لأمور دنيوية أو لأمور شخصية أو خاصة فيما بينه وبين غيره من التعامل ولم يكن ذلك لله عز وجل، فلا يحل له أن يهجره أكثر من ثلاث، وإنما عليه أن يحرص على أن يلتقي به وأن يزيل ما بينه وبينه، وأن يسلم أحدهما على الآخر، وألا يستمرا على هذه الهيئة الرديئة، وأما إذا كان الهجر لله عز وجل وكان يترتب عليه مصلحة، فإنه لا مانع من الزيادة على ذلك؛ لأن الهجر الذي هو محدد بهذا المقدار هو الهجر الذي هو لمصلحة النفس وللحظوظ الدنيوية وللأشياء التي تجري بين الناس عادة وليست من أجل الله، أما إذا كان من أجل الله فإن الزيادة سائغة، والرسول صلى الله عليه وسلم هجر كعب بن مالك وصاحبيه ومنع الناس من كلامهم خمسين ليلة حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ثم بعد ذلك تاب الله عز وجل عليهم ونزل القرآن بتوبتهم، فالزيادة على ثلاث ليالٍ فيما يتعلق بحق الله، وفيما يترتب عليه مصلحة ذلك سائغ، وقد جاءت به الشريعة.(559/8)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد اللهَ بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنس رضي الله عنه من صغار الصحابة، والزهري من صغار التابعين، وصغار التابعين يروون عن صغار الصحابة وهذا مثال على ذلك.
وهذا الإسناد رباعي، وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود؛ لأن أعلى شيء عنده الرباعيات وهذا منها.(559/9)
سبب تحديد الهجر بثلاث ليالٍ
والحديث يدل على أن الهجر الذي يجري بين النفوس يحدد بثلاث ليالٍ بحيث لا يتجاوزها، والعدد ثلاثة هو أقل الجمع، أي: بعد الواحد والمثنى؛ لأن الأعداد: مفرد ومثنى وجمع، والثلاثة هي أقل جمع عند النحاة، وإلا فإن أقل الجمع عند الفقهاء وفي الفرائض اثنان، وأقل الجماعة اثنان: إمام ومأموم، والجماعة التي يتقدم فيها الإمام تكون من ثلاثة إلا في حق المرأة مع الرجل، فالمرأة صف والرجل صف، وأما حصول الجماعة فتحصل باثنين، ويكون المأموم بجوار الإمام، ولكن إذا صاروا ثلاثة فيتقدم الإمام ويكون الاثنان وراءه، وكذلك عند الفرضيين الجمع أقله اثنان؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11] وإذا وجد اثنان من الإخوة فإنهما يحجبان الأم من الثلث إلى السدس، فالحجب لا يتوقف على وجود ثلاثة، بل الحجب يحصل بوجود اثنين؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال فيما يتعلق بالنسبة للإخوة لأم: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] أي: إذا كانوا أكثر من الواحد صاروا شركاء في الثلث.
فأقل الجمع في الفرائض وفي الفقه اثنان، وأقل الجمع فيما يتعلق بالمفرد والمثنى والجمع ثلاثة.
وقد جاء في الحديث أنه إذا خرج ثلاثة فعليهم أن يؤمروا واحداً منهم، وكذلك أيضاً ورد: (الراكب شيطان، والراكبان شيطان، والثلاثة ركب).
وكذلك لم يأت نص يدل على أقل عدد في الجمعة والتجميع، ولكن الذي تدل عليه النصوص ويفهم من النصوص أن الثلاثة يمكن أن يجمعوا، فإمام واثنان مأمومان يمكن أن تحصل بهم الجمعة، ولكن الواحد مع الثاني لا يحصل بهما جمعة، وإنما يحصل بهما جماعة.
قال العظيم آبادي: وإنما جاز الهجر في ثلاث وما دونه لما جبل عليه الآدمي من الغضب، فسمح بذلك القدر ليرجع فيها ويزول ذلك العرض ولا يجوز فوقها، وهذا فيما يكون بين المسلمين من عتب وموجدة، أو تقصير يقع في حقوق العشرة والصحبة دون ما كان من ذلك في جانب الدين.
وهذا الكلام صحيح، لكن ليس فيه جواب عن سبب تحديده بثلاث، ولكن لعل السبب -والله وأعلم- أن الثلاثة أقل الجمع أو أقل عدد يكون فيه الجمع، فالثلاثة هو العدد الذي يترتب عليه جمعة، ويترتب عليه التأمير في السفر، ويترتب عليه كمال الأخوة في السفر، ولا شك أن النفوس جبلت على حصول الغضب، والغضب يمكن أن يشتد في البداية، ثم يتلاشى شيئاً فشيئاً، ولكن تحديد هذا المقدار بثلاثة أيام يحتاج إلى دليل.(559/10)
شرح حديث (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)].
أورد أبو داود حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)، أي: أن كل واحد يعرض عن الآخر أو يعرض أحدهما عن الآخر والثاني لم يعرض، وهذا غير سائغ، وقد بين عليه السلام أن خيرهما هو الذي يبدأ بالسلام؛ لأنه يدل على سلامته وعلى حرصه على الألفة وعلى بغضه وكراهيته للفرقة، ولذا كان هو الذي يبادر بالسلام، ويبادر إلى إزالة الكدر الذي حصل للنفوس، وذلك بأن يتكلم مع صاحبه، ويعتذر له، أو يأتي بأسلوب يهون ما في نفس صاحبه بحيث تعود المياه إلى مجاريها، ويعود الصفاء إلى ما كان عليه من قبل.
وهذا من المواضع التي يقولون فيها: إن النافلة أفضل من الواجب؛ فإن ابتداء السلام سنة ورده واجب، والسنة هنا خير وأفضل من الواجب؛ لأن الذي فعل السنة هو الذي حصلت له الخيرية، لقوله: (وخيرهما الذي يبدأ بالسلام).(559/11)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي].
عبد الله بن مسلمة ومالك وابن شهاب مر ذكرهم.
وعطاء بن يزيد الليثي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي أيوب الأنصاري].
أبو أيوب الأنصاري هو خالد بن زيد رضي الله تعالى عنه صاحب رسول صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وهو الذي نزل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وصار ضيفاً عليه في داره.(559/12)
من فوائد السلام
والتدابر الذي هو نتيجة الهجر ينقطع معه، ولا شك أن وجود السلام دليل على السلامة وسبب للسلامة وللألفة والصفاء؛ لأن ما بعده يتبعه، بخلاف ما إذا انقطع السلام فمعنى ذلك أن التدابر والتقاطع بلغ أشده.
فإذا رد أحدهما على الآخر السلام فإن الذي ينبغي مع هذا أن يعمل مع السلام على إزالة ما في النفوس؛ وذلك بأن يحصل بينهما التواد والكلام الحسن الجميل بحيث يزول ما في النفوس.(559/13)
شرح حديث (لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة وأحمد بن سعيد السرخسي أن أبا عامر أخبرهم قال: حدثنا محمد بن هلال قال: حدثني أبي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمناً فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث فليلقه فليسلم عليه، فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم.
زاد أحمد: وخرج المسلم من الهجرة)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو مثل الذي قبله.
وقوله: (لا يحل لأحد أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فإن مرت ثلاث فليلقه فليسلم عليه)، أي: أنه لا يستمر على هذا الطريقة، وإنما يحرص على أن يلقاه ويسلم عليه، وإذا سلم عليه فمعناه: أنه أخذ بأسباب الألفة وابتعد عن أسباب الفرقة، وذاك إن رد عليه السلام اشترك معه في الأجر، وإن امتنع من رد السلام عليه فإنه يبوء بالإثم، فالذي امتنع من رد السلام هو الذي يبوء بالإثم، والآخر يسلم من الإثم، وأيضاً يكون قد خرج من الهجر؛ لأنه مادام أنه سلم ووجد منه السلام فمعناه أنه أخذ بأسباب السلامة التي مفتاحها السلام وبدايتها السلام، ولكن الكمال في أن يزول ما في النفوس، وأن يحصل الصفاء والوئام والمودة.
والحديث ضعفه الألباني من أجل هلال بن أبي هلال، ولكن معناه مثل ما تقدم في الأحاديث.(559/14)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة].
هو عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[وأحمد بن سعيد السرخسي].
أحمد بن سعيد السرخسي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[أن أبا عامر أخبرهم].
أبو عامر هو عبد الملك بن عمرو العقدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثنا محمد بن هلال].
محمد بن هلال صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثني أبي].
أبوه هلال بن أبي هلال مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.(559/15)
شرح حديث (لا يكون لمسلم أن يهجر مسلماً فوق ثلاثة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن خالد بن عثمة حدثنا عبد الله بن المنيب -يعني المدني - قال: أخبرني هشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يكون لمسلم أن يهجر مسلماً فوق ثلاثة أيام، فإذا لقيه سلم عليه ثلاث مرار كل ذلك لا يرد عليه فقد باء بإثمه)].
أورد أبو داود حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهو مثل الحديث الذي قبله، وفيه أنه يسلم عليه ثلاثاً، وذلك حتى يتحقق أنه سمع؛ لأنه قد يكون في المرة الأولى أو الثانية لم يسمع، فلا يبني على مجرد كونه ألقى السلام؛ لوجود احتمال أنه لم يسمع، بل يتأكد ويتحقق أنه سمع؛ وذلك بأن يكرر السلام ثلاثاً، هذا هو المقصود والمراد من التكرار.(559/16)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يكون لمسلم أن يهجر مسلماً فوق ثلاثة)
قوله: [حدثنا محمد بن مثنى].
هو محمد بن المثنى أبو موسى الزمن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن خالد بن عثمة].
محمد بن خالد بن عثمة صدوق يخطئ، أخرج له أصحاب السنن.
[حدثنا عبد الله بن المنيب يعني المدني].
عبد الله بن المنيب المدني لا بأس به، وعبارة (لا بأس به) هي بمعنى صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قد مر ذكرها.(559/17)
شرح حديث (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا سفيان الثوري عن منصور عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وهو مثل الذي قبله، وفيه: أن من هجر فوق ثلاث -أي: لحظ الدنيا- فمات دخل النار، أي: إذا مات من غير توبة، ومعلوم أن دخول النار إذا حصل لصاحب المعصية ليس دخولاً يترتب عليه خلود، وإنما هو دخول مؤقت يخرج منه بعدما يعاقب على ما اقترفه من الذنب، وهذا إن لم يشأ الله عز وجل العفو عنه، وإن عفا عنه فإنه لا يدخل النار، ولكن من استحق النار لذنب اقترفه ولم يتجاوز الله عنه فإنه إذا دخلها لابد وأن يخرج منها، ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين هم أهلها، والذين لا سبيل لهم إلى الخروج منها.(559/18)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار)
قوله: [حدثنا محمد بن الصباح البزاز].
محمد بن الصباح البزاز ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يزيد بن هارون].
هو يزيد بن هارون الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان الثوري عن منصور].
سفيان الثوري مر ذكره، ومنصور بن المعتمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي حازم].
أبو حازم هو سلمان الأشجعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة قد مر ذكره.(559/19)
شرح حديث (من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن السرح حدثنا ابن وهب عن حيوة عن أبي عثمان الوليد بن أبي الوليد عن عمران بن أبي أنس عن أبي خراش السلمي رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه)].
أورد أبو داود حديث أبي خراش حدرد بن أبي حدرد السلمي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه)، وهذا يدل على أنه ذنب كبير ألحقه بأخيه وأضافه إلى أخيه وأنه بمثابة سفك دمه, ومعلوم أن سفك الدم من أخطر وأشنع الأمور التي تحصل بين الناس، وهذا يدل على خطورة الهجر الكثير، وقد جاءت النصوص الكثيرة التي مرت بأن الهجر للمصالح الشخصية إنما يكون في حدود ثلاثة أيام، وأن الإنسان لا يزيد عليها، فإذا زاد فإنه يستحق النار كما مر في الحديث السابق، وإذا وصل إلى هذا المقدار الذي هو سنة فإنه يكون كسفك الدم.(559/20)
تراجم رجال إسناد حديث (من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه)
قوله: [حدثنا ابن السرح].
ابن السرح هو أحمد بن عمرو بن السرح، وهو ثقة أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حيوة].
هو حيوة بن شريح المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عثمان الوليد بن أبي الوليد].
أبو عثمان الوليد بن أبي الوليد قال عنه الحافظ ابن حجر: لين الحديث، والشيخ الألباني صحح هذا الحديث، وقال: إنه قال فيما مضى: إن في إسناده ليناً، وهو هذا الرجل اللين، وأنه لم ينقل توثيقه إلا عن ابن حبان، ولكنه وجد بعد ذلك أن أبا زرعة الرازي أو أبا حاتم الرازي وثقه، فعند ذلك صحح حديثه وأورده في السلسلة الصحيحة.
وأبو عثمان هذا أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمران بن أبي أنس].
عمران بن أبي أنس ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي خراش].
أبو خراش هو حدرد بن أبي حدرد، وهو صحابي، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود.(559/21)
شرح حديث (تفتح أبواب الجنة كل يوم إثنين وخميس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تفتح أبواب الجنة كل يوم إثنين وخميس، فيغفر في ذلك اليومين لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا من بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى عليه وسلم قال: (تفتح أبواب الجنة كل يوم إثنين وخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً)، أي: أنه يغفر لأصحاب الذنوب الأخرى إلا من كان بينهما بغضاء، فإنه يقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أي: أمهلوهما حتى يصطلحا، وهذا فيه دليل على خطورة التباغض والتدابر والتنافر بين الناس، وأن اصطلاحهما خير، وأن إنهاء ما بينهما من الوحشة بحصول الوئام والمودة هو المطلوب، وكونه يرجى أمر هذين الاثنين ويحصل إنظارهما حتى يصطلحا يدل على خطورة الذنب الذي اقترفاه.(559/22)
تراجم رجال إسناد حديث (تفتح أبواب الجنة كل يوم إثنين وخميس)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو عوانة].
هو أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهيل بن أبي صالح].
سهيل بن أبي صالح صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وروايته في البخاري مقرونة.
[عن أبيه].
أبوه هو أبو صالح واسمه ذكوان ولقبه السمان أو الزيات، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة قد مر ذكره.(559/23)
حكم الهجر
[قال أبو داود: النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هجر بعض نسائه أربعين يوماً، وابن عمر رضي الله عنهما هجر ابناً له إلى أن مات.
قال أبو داود: إذا كانت الهجرة لله فليس من هذا بشيء، وإن عمر بن عبد العزيز غطى وجهه عن رجل].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم هجر نساءه أربعين يوماً، وهذا في القصة المشهورة وهي قصة هجره واعتزاله نسائه، حتى ظُن أنه طلقهن، فجاء عمر رضي الله عنه إليه، وسأله: هل طلق نساءه؟ فقال: لا، فقال: الله أكبر.
وهذا يعني أنه قد حصل الهجر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وابن عمر هجر ابنه حتى مات، قيل: لعله إنما هجره في آخر حياته وإنه لم يحصل هجره مدة طويلة، وهجره ليس لأمور شخصية، وإنما هو لله عز وجل؛ وذلك لكونه توقف في تنفيذ حديث أو ما يتعلق بحديث.
ثم قال أبو داود رحمه الله: الهجر إذا كان لله ليس من هذا القبيل، أي: ليس مما تقدم في الأحاديث التي فيها أنه لا يهجر أخاه فوق ثلاث؛ وذلك إذا كان من أجل حظوظ النفوس، وأما إذا كان من أجل الله فإنه لا بأس في الزيادة ولا مانع منها، كما حصل لـ كعب بن مالك رضي الله عنه وصاحبيه، وقصتهم مشهورة.
ثم قال: وعمر بن عبد العزيز رحمه الله غطى وجهه عن رجل.
أي: أنه أعرض عنه، ويمكن أن يكون هذا من قبيل الهجر لله، وأما إذا كان ليس من قبيل الهجر لله فإنه قد مر في الحديث أن إعراض كل واحد منهما عن الآخر لا يسوغ، وأن خيرهما الذي يبدأ بالسلام.
والمشهور والمعروف أنه صلى الله عليه وسلم هجر نساءه شهراً، لكن ما ذكره من كونه هجرهن أربعين يوماً لا أدري ما وجهه؛ بل قد جاء في الحديث أنه رفع عنهن الهجر في يوم التاسع والعشرين، فأتوه وقالوا: إن الشهر ما خرج، فقال: (إن الشهر يكون تسعة وعشرين) وهذا يوضح أنه هجرهن شهراً؛ لأنه خرج إليهن بعد أن أكمل التاسع والعشرين.(559/24)
ما جاء في التحذير من سوء الظن(559/25)
شرح حديث (إياكم والظن! فإن الظن أكذب الحديث)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الظن.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والظن! فأن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب في الظن، والظن: هو أن يظن الإنسان بأخيه سوءاً أو يتهمه بشيء ولم يكن متحققاً منه، فإن كونه ينقدح في ذهنه هذا الشيء ويصر عليه أو يتابعه في نفسه، فإن هذا لا شك مضرة كبيرة، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بأنه أكذب الحديث، أي: حديث النفس؛ لأن الظن إنما يحصل في النفس، وما يجري في النفس هو أحاديث، لكن أسوأ ما يكون في حديث النفس هو ظن السوء، ولهذا جاء عن بكر بن عبد الله المزني كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في ترجمته في تهذيب التهذيب أنه قال: إياك من الكلام الذي إن أصبت فيه لم تؤجر وإن أخطأت فيه أثمت، وهو سوء ظنك بأخيك.
لأنك إن أصبت فيه لا تحصل أجراً؛ لأنك ظننت به سوءاً، فإن كنت على صواب وكان ظنك مطابقاً لما فيه فلن تحصل أجراً، وإن كنت مخطئاً فأنت آثم، فالإثم محقق وحاصل، والفائدة غير متحققة.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (إياكم والظن! فإن الظن أكذب الحديث) قوله: (إياكم) أي: أحذركم من الظن.
ثم قال: (ولا تحسسوا ولا تجسسوا) , قيل: التجسس والتحسس بمعنى واحد، وهذا مثل الكذب والمين والبهتان، فالكذب والبهتان والمين ألفاظ مترادفة مثل: قام ووقف وجلس وقعد، كل هذه من الألفاظ المترادفة التي يختلف اللفظ فيها ويتحد المعنى، ومنهم من قال: إن بينهما فرقاً، لكن لا أعرف فرقاً دقيقاً في ذلك، قال في عون المعبود في الفرق بينهما: قال المناوي: أي: لا تطلبوا الشيء بالحاسة، كاستراق السمع وإبصار الشيء خفية، (ولا تجسسوا) أي: لا تتعرفوا خبر الناس بلطف كما يفعل الجاسوس.
والنتيجة واحدة؛ لأن هذا بالحاسة وهذا أيضاً يكون بالحاسة.(559/26)
تراجم رجال إسناد حديث (إياكم والظن! فإن الظن أكذب الحديث)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي الزناد].
أبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان المدني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعرج].
هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة قد مر ذكره.(559/27)
ما جاء في النصيحة والحياطة(559/28)
شرح حديث (المؤمن مرآة المؤمن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النصيحة والحياطة.
حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن حدثنا ابن وهب عن سليمان -يعني ابن بلال - عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب في النصيحة والحياطة، أي: ينصح الإنسان لأخيه ويكون ناصحاً له، وهذا من مقتضى الأخوة، وقد جاءت أحاديث كثيرة في النصيحة، منها الحديث المشهور الذي رواه مسلم في صحيحه: (الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)، ومنها قول جرير رضي الله عنه: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم)، وكذلك الحديث الذي فيه: (ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم، ومنها النصيحة)، وغير ذلك من الأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة: (المؤمن مرآة أخيه) ومعلوم أن كونه مرآة أخيه يعني أنه ينصح له، وأن يكون له مثل المرآة، فإن الإنسان إذا وقف أمام المرآة عرف ما فيه من خلل ومن عيب ومن شيء يحب إزالته؛ لأنه رآه بنفسه، ومعلوم أن الإنسان لا يرى ما فيه مما هو ظاهر إلا إذا وقف أمام المرآة، لكن غيره إذا رآه يراه في كل وقت وفي كل حين، فهو ينبهه على ما فيه من خلل وعلى ما فيه من نقص، وينصحه، ويكون عوناً له على ما يعود عليه بالخير؛ وذلك بأن يكون عوناً له على طاعة الله عز وجل وعلى طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحذره من معصية الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويأمره أن يكون على استقامة وعلى هدى، فيسعى جاهداً إلى أن يكون مع أخيه على هذه الهيئة التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (المؤمن مرآة أخيه)، فكما أن الإنسان يرى ما يحتاج إلى تداركه بنفسه إذا وقف أمام المرآة، فإن غيره إذا رآه وفيه شيء فينبغي أن يزيله عنه، وهو قد لا يدري عنه فعليه أن ينبهه عليه، وإذا كان يرى فيه خللاً فيما يتعلق بدينه وعبادته ورأى نقصاً في دينه، فإنه ينبهه على ذلك، وهذا يدخل تحت هذا التشبيه من رسول الله عليه الصلاة والسلام في قوله: (المؤمن مرآة أخيه).
وقوله: (والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته) أي: يكون عوناً له على المحافظة على كل ما من شأنه المحافظة عليه.
وقوله: (ويحوطه من ورائه) المقصود من حياطته التي جاءت في الترجمة بعد كلمة النصيحة: أنه ينصح له في حضوره وفي غيابه، وإذا كان وراءه فإنه يذب عنه ويكف عن عرضه ولا يلحقه ضرر منه، وإذا حصل من غيره ضرر له فإنه يعمل على نصح ذلك الذي حصل منه تلك الغيبة أو النميمة أو غير ذلك من الأشياء، فيدافع عنه سواء كان ذلك في حضوره أو في غيابه.(559/29)
تراجم رجال إسناد حديث (المؤمن مرآة المؤمن)
قوله: [حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن].
الربيع بن سليمان المؤذن هو المرادي صاحب الشافعي، وهو ثقة أخرج حديثه أصحاب السنن.
[حدثنا ابن وهب عن سليمان يعني ابن بلال].
ابن وهب مر ذكره، وسليمان بن بلال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن كثير بن زيد].
كثير بن زيد صدوق يخطئ، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن الوليد بن رباح].
الوليد بن رباح صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة قد مر ذكره.(559/30)
إصلاح ذات البين(559/31)
شرح حديث (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في إصلاح ذات البين.
حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سالم عن أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في إصلاح ذات البين، والمقصود بذلك: الإصلاح بين الناس إذا حصل منهم تباين وافتراق، والبين المقصود به: الفرقة، يقال: بان كذا من كذا، أي: تميز عنه وفارقه، وبانوا أي: ذهبوا وبعدوا.
فالمقصود بإصلاح ذات البين: إصلاح ما يحصل من فرقة ووحشة ومن تباغض وتدابر بين الناس، فيسعى المصلح للإصلاح بينهم، ويقرب بينهم بحيث يزول ما في النفوس، ويحل الإخاء والمودة بدل الوحشة والفرقة.
وقد أورد أبو داود حديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأفضل من درجه الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة) أي: أنها تحلق الدين, فليس المقصود حلق الشعر وإنما حلق الدين، وهذا يبين خطورة ما يحصل من الفرقة بين الناس، وأنه سبب الأضرار الكبيرة التي تجري بينهم، وما يترتب على ذلك من اعتداء بعضهم على بعض وكلام بعضهم في بعض، ولكنه إذا أصلح بينهم وأزيلت الفرقة فإن النفوس تتقارب وتتآلف وتسلم من الأخطار التي تترتب على ذلك.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث عظم شأن الإصلاح بين الناس، وما يترتب على التقارب والتآلف وصفاء النفوس من الخير الكثير، وما يحصل بخلاف ذلك من ضرر كبير، وقد ذكر الصلاة والصيام لأن هذه عبادات مقصورة غير متعدية لا تتجاوز صاحبها، والصدقة متعدية النفع، ولكنها تتعلق بالنفع الدنيوي وحصول الفائدة في المعاش، ولكن إصلاح ذات البين يترتب عليه الخير الكثير؛ لما فيه من زوال الوحشة وزوال الفرقة وحصول الخير الكثير في ذلك، واندفاع الأضرار الكبيرة التي وصف ضدها وهو فساد ذات البين بأنها الحالقة، وليس المراد أنها تحلق الشعر، وإنما المراد: أنها تحلق الدين، وهذا يدل على الخطورة، ويوضح ذلك تفضيل الإصلاح على درجة الصوم والصلاة والصدقة.(559/32)
تراجم رجال إسناد حديث (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو معاوية].
هو أبو معاوية محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن مرة].
عمرو بن مرة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم].
هو سالم بن أبي الجعد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أم الدرداء].
أم الدرداء هي هجيمة التابعية وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الدرداء].
أبو الدرداء هو عويمر، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(559/33)
شرح حديث (لم يكذب من نمى بين اثنين ليصلح)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا نصر بن علي أخبرنا سفيان عن الزهري ح وحدثنا مسدد حدثنا إسماعيل ح وحدثنا أحمد بن محمد بن شبويه المروزي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أمه رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم يكذب من نمى بين اثنين ليصلح)، وقال أحمد بن محمد ومسدد: (ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال خيراً أو نمى خيراً)].
بعد أن بين أبو داود رحمه الله في الحديث السابق عظم إصلاح ذات البين، وما فيه من الفائدة الكبيرة وخطورة بقاء ذات البين على ما هي عليه من الفرقة، وأنها تحلق الدين؛ أتى بهذا الحديث الذي فيه ترخيص الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يكذب الإنسان من أجل أن يصلح بين الناس؛ لأن الكذب وإن كان فيه ضرر إلا أن ضرره في هذا الباب مغمور في جانب المصلحة التي تترتب عليه، ولكنه إذا حصل ذلك بالتعريض فإن هذا أولى من التصريح حيث أمكن.
والكذب قد أبيح في الإصلاح بين الناس، ولكنه إذا حصل بالتلويح وبالتعرض دون التصريح لا شك أنه أولى، ولكن هذه المفسدة التي تترتب على الكذب إذا كانت لمصلحة كبيرة فإنها تكون مغمورة في جانب الفوائد الكبيرة التي ترتبت على إصلاح ذات البين وزوال الفرقة، ولكن -كما قلت- إذا حصل المقصود عن طريق التعريض بأن يأتي بكلام يريد به شيئاً وذاك يفهم منه شيئاً آخر فهو أولى، وذلك بأن يأتي إليه مثلاً ويقول: علمت من فلان أنه يحبك ويدعو لك، ويقصد أنه واحد من المسلمين، وهو يحب المسلمين ويدعو للمسلمين، فهو داخل في هذا العموم، وكونه يقول مثل هذا الكلام هو صادق فيه؛ لأن المسلم يحب المسلمين ويدعو لهم، فيأتي بهذا التعريض على اعتبار أنه داخل في هذا العموم، ومثل هذا لا بأس به.
وقد أورد أبو داود حديث أم كلثوم بنت عقبة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يكذب من نمى بين اثنين ليصلح) أي: لم يكذب كذباً يترتب عليه إثم، بل هذا كذب لمصلحة وكذب هو مأجور عليه، ولكنه -كما قلت- إذا حصل بالتعريض فهو أولى.(559/34)
تراجم رجال إسناد حديث (لم يكذب من نمى بين اثنين ليصلح)
قوله: [حدثنا نصر بن علي].
هو نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري ح وحدثنا مسدد حدثنا إسماعيل].
هو إسماعيل بن علية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا أحمد بن محمد بن شبويه المروزي].
أحمد بن محمد بن شبويه المروزي ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر عن الزهري].
هو معمر بن راشد البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن].
حميد بن عبد الرحمن بن عوف ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أمه].
أمه صحابية، أخرج لها أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.(559/35)
شرح حديث أم كلثوم بنت عقبة (ما سمعت رسول الله يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الربيع بن سليمان الجيزي حدثنا أبو الأسود عن نافع -يعني ابن يزيد _ عن ابن الهاد أن عبد الوهاب بن أبي بكر حدثه عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أمه أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها قالت: (ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لا أعده كاذباً: الرجل يصلح بين الناس يقول القول ولا يريد به إلا الإصلاح، والرجل يقول في الحرب، والرجل يحدث امرأته، والمرأة تحدث زوجها)].
أورد أبو داود حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (ما سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث)، ومعنى ذلك: أن الكذب الأصل فيه التحريم، ولكنه رخص في هذه الأمور الثلاثة؛ وذلك لأن الكذب فيها يترتب عليه مصلحة كبيرة ومصلحة عظيمة، وتغتفر مفسدة الكذب بجانب المصالح العظيمة المترتبة على ذلك، ومنها الإصلاح بين الناس، وهذا محل الشاهد.
وقوله: (والرجل يقول في الحرب) أي: يقول القول الذي فيه تشجيع للمسلمين وتقوية لنفوسهم، وكذلك فيه إخافة العدو، والعمل الذي يكون فيه ضرر وحصول رعب بين الأعداء يكون فعله سائغاً، وإذا حصل ذلك بالتورية فإن هذا هو الذي ينبغي، وإن حصل أنه يكذب لمصلحة كبيرة تترتب على نصرة المسلمين وعلى خذلان الكفار فلا بأس؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص في ذلك، ولكن إن حصل المقصود بدون التصريح بل بتورية فإنه هذا هو الذي ينبغي، فيقول مثلاً: إن المدد آتٍ، وإن المدد كثير، ويقصد أن المدد آتٍ من الله، وأن الله تعالى يأتي بالمدد، والناس يفهمون أن المدد جيوش جاءت، وهو وإن لم يكن هناك جيوش جاءت بالإمداد، ولكن كونه يقول: إنه سيأتي مدد وإن المدد كثير، فإنه يقصد أنه سيكون لكم عون من الله، وما إلى ذلك من العبارات، وقد جاء في الحديث: (الحرب خدعة).
ومن ذلك أن يخفي ويكتم الأخبار عن الأعداء حتى لا تصل إليهم، والرسول صلى الله عليه وسلم كان من عادته أنه إذا أراد أن يغزو إلى جهة معينة ورى عنها، فكان إذا عزم أنه يذهب إلى جهة الجنوب يجعل الناس يستعدون ولكن لا يدرون إلى أي اتجاه سيذهبون، ويسأل عن الطرق في جهة الشمال، فالذي يسمع السؤال يظن أنه سيذهب شمالاً، فمادام أن الجيش الآن يهيأ وهو يسأل عن الطريق من جهة الشمال وهو عازم على أن يذهب جنوباً، فإن هذا من التورية، وكذلك أيضاً ما حصل في عمرة القضاء، فإنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه مقالة الكفار: (إنه يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب) فأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا في الأشواط الثلاثة الأول، وإذا كانوا بين الحجر الأسود والركن اليماني حيث تكون الكعبة حاجبة بينهم وبين الكفار الذين هم في الجهة الشمالية في جهة الحجر يمشون ويأخذون نفسهم بدلاً من الحركة التي كانت تحصل في المواطن التي يراها الكفار، وهذا كله من إظهار قوة المسلمين وإن كان عندهم شيء من الضعف، لكن يظهرون بالقوة، ولكنه صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع رمل من الحجر إلى الحجر، فبقيت هذه السنة، وكان أصلها هو هذا الذي حصل للمسلمين في عمرة القضاء.
والحاصل: أن الحرب خدعة، كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمير الجيش يأتي بكل ما يشجع قومه وجماعته الذين معه ويعمل كل ما يخيف أعداءهم.
وقوله: (والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها) أي: فيما يجلب المودة بينهما، وما يكون سبباً في الألفة بينهما؛ بحيث إنه يقول لها ما يجعلها تألفه، وهي تقول له ما يكون سبباً في إلفه لها.(559/36)
تراجم رجال إسناد حديث أم كلثوم بنت عقبة (ما سمعت رسول الله يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث)
قوله: [حدثنا الربيع بن سليمان الجيزي].
الربيع بن سليمان الجيزي ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي الأسود].
أبو الأسود هو النضر بن عبد الجبار، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن نافع يعني ابن يزيد].
نافع بن يزيد ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن ابن الهاد].
ابن الهاد هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، وهو ثقة مكثر، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن عبد الوهاب بن أبي بكر حدثه].
عبد الوهاب بن أبي بكر ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أمه أم كلثوم بنت عقبة].
ابن شهاب مر ذكره، وحميد بن عبد الرحمن بن عوف ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأمه صحابية، أخرج لها أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.(559/37)
الأسئلة(559/38)
حكم الحلف على الكذب المرخص فيه
السؤال
هل يمكن أن يحلف الإنسان إذا كذب في المواطن التي يجوز فيها الكذب؟
الجواب
لا ينبغي أن يحلف، وإنما يأتي بكلام بدون حلف.(559/39)
حكم الكذب للإصلاح بين الزوجين
السؤال
أبي يأمرني بالكذب لأصلح بينه وبين زوجته، فهل يجوز لي الكذب تبعاً لأبي؟
الجواب
لا تكذب؛ لأن الحديث جاء في الترخيص بالكذب بين الزوجين، ولكن إذا احتاج الأمر إلى أن يدخل بينهما ليصلح فيمكن أن يكذب على اعتبار أنه من قبيل إصلاح ذات البين، فإذا كان هناك فرقة فيمكن أن يكذب، ولكن كونه يوري هو أحسن.(559/40)
تفضيل الصلح على غيره
السؤال
هل للقاضي أن يبدأ دائماً بالإصلاح، فقد يكون في ذلك ظلم لأحد المتخاصمين؟
الجواب
إذا أمكن الإصلاح بينهم وكل من الطرفين رضي، فكما يقول العوام: إذا اصطلح الناس استراح القاضي، فإذا حصل التراضي بينهم فلا إشكال، لكنه لا يلزمهم، فإذا أصر أحدهم وقال: أنا لا أريد أن أصطلح معه ولا أريد أن أسامحه في شيء وإنما أريد حقي الذي أعطيته إياه، والذي ليس لي لا أريده، فله ذلك، ولكن كونه يصلح بين الناس هو أولى؛ لأن الصلح بين الناس يجعلهم يخرجون متآلفين، بخلاف الحكم، فإن الحكم يكون فيه أحدهم راضياً والآخر في نفسه شيء.(559/41)
حكم السلام على المعشوق
السؤال
هل للعاشق أن يترك السلام على المعشوق لأنه يتأثر بذلك، وهل يدخل هذا في الهجر الوقائي؟
الجواب
عليه أن يتوب إلى الله عز وجل من هذا الشر ومن هذا البلاء الذي هو فيه، وأن يتقي الله عز وجل، ولا يعشق هذا العشق المحرم الذي سببه ضعف الإيمان وضعف اليقين، فعليه أن يتقي الله عز جل، ولا يحرص على الاتصال بهذا الشخص، ولكنه عندما يلقاه يسلم عليه، وأما إذا كانت نفسه فيها شر، ثم بعد ذلك يتابعه أو يحرص على الاتصال به فلا يجوز، بل عليه أن يحرص على الابتعاد عنه.(559/42)
حكم الهجر لحظوظ النفس
السؤال
اتهمني بعض الإخوة بالكذب وسبني، وقال ذلك لبعض الإخوة، فهجرته، فهل هذا من أمور الدنيا؟
الجواب
كل هذا لا شك أنه من حظوظ النفس؛ لأنه وصفك بوصف أو قال فيك وصفاً شانك وأنت هجرته لمصلحة نفسك، فهو أولاً يجب عليه -إذا كان الأمر كما ذكرت- أن يعتذر منك، وإذا لم يعتذر منك ولقيته فسلم عليه.(559/43)
حكم من مات وهو هاجر لأخيه
السؤال
إذا هجر شخص أخاه فوق ثلاثة أيام لحظوظ النفس، ثم مات، فهل يلقى الله عز وجل ولم يرفع له عمل؟
الجواب
كما هو معلوم كل من كان ذنبه دون الشرك فأمره إلى الله عز وجل، وإذا كان قتل النفس دون الشرك فإن ما يشبهه يكون دونه.(559/44)
أهمية النصيحة
السؤال
عندي صديق لي وهو كثير الكذب وسيء الأخلاق، ولم أنصحه لأنني لا أستطيع نصحه بسبب حيائي منه، فهل أهجره ولا أكلمه؟
الجواب
انصحه ولا تستح منه، فإنك حين تستحي منه ثم تتركه يتمادى في ضلاله لا تنفعه؛ بل انفعه، وأنقذه مما هو فيه.(559/45)
شرح سنن أبي داود [560]
الغناء ينبت النفاق في القلب، وهو من أسباب الوقوع في الفواحش، فهو رقية الزنا، وهو اللهو الذي يصد عن دين الله تعالى، ولا يجتمع هو والقرآن في قلب أبداً، لذا يجب على كل مسلم ومسلمة الابتعاد عنه والتحذير منه.
وهو الخطوة الأولى للوقوع في حبائل الشيطان ومكائدة.(560/1)
النهي عن الغناء(560/2)
شرح حديث الربيع بنت معوذ (جاء رسول الله فدخل علي صبيحة بُني بي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النهي عن الغناء.
حدثنا مسدد حدثنا بشر عن خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوذ بن عفراء رضي الله عنها قالت: (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل علي صبيحة بُني بي، فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلت جويريات يضربن بدف لهن، ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، إلى أن قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في الغد، فقال: دعي هذه وقولي الذي كنت تقولين)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: باب في النهي عن الغناء، والأحاديث التي أوردها ليس فيها نهي، وإنما فيها ذكر الغناء فقط، وليس فيها ذكر تحريمه أو النهي عنه، وسيأتي في الباب الذي بعده ما يدل على كراهية الغناء كما تدل عليه هذه الترجمة، وعلى هذا فإن ذكر النهي هنا غير مستقيم، ولعل الترجمة ليس فيها ذكر النهي؛ لأن الحديثين اللذين أوردهما لا نهي فيهما، وإنما فيهما إخبار فقط عن حصول الغناء.
وقد أورد أبو داود حديث الربيع بنت معوذ رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها صبيحة بُني بها وعندها جوارٍ يضربن بالدف ويغنين ويندبن ما حصل لآبائها يوم بدر، وفيه قولهن: وفينا نبي يعلم ما في غد، فالرسول صلى الله عليه وسلم أنكر عليهن هذه الكلمة، وأقرهن على ما حصل منهن، وهذا يدل على أن الضرب بالدف في الأعراس من النساء سائغ ومشروع، وقد جاء ذلك في أحاديث عديدة ومنها هذا الحديث.
وفي هذا الحديث أنه إذا حصل غناء فيه مثل هذا الكلام الذي ليس فيه محذور وهو خاص بالنساء ولا يتعداهن إلى الرجال؛ فإنه لا بأس به، لكن لا يكون على طريقة الإطراب، وإنما على طريقة ذكر شيء من النشيد الذي فيه معانٍ جميلة، ولكن يكون خاصاً بالنساء، والنبي صلى الله عليه وسلم أنكر المنكر وأقر ما سوى ذلك، والمنكر هو قولهن أو قول إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد؛ لأن هذا مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان:34].
وهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب على الإطلاق؛ لأن الغيب على الإطلاق لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أمره الله عز وجل أن يقول: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50]، وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188]، فهذا يبين أن علم الغيب على الإطلاق من خصائص الله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، وقد أطلعه على كثير من الغيوب، ولكنه لم يطلعه على كل غيب.(560/3)
تراجم رجال إسناد حديث الربيع بنت معوذ (جاء رسول الله فدخل علي صبيحة بُني بي)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا بشر].
بشر بن مفضل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد بن ذكوان].
خالد بن ذكوان صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الربيع بنت معوذ بن عفراء].
الربيع بنت معوذ رضي الله عنها صحابية، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
وهذا الإسناد رباعي من أعلى الأسانيد عند أبي داود رحمه الله.(560/4)
حكم ضرب الرجال للدف وسماعه
ولا يجوز سماع هذا الغناء من قبل الرجال، والرجال لا يضربون بالدفوف، وإنما يضرب بالدفوف النساء، وأيضاً لا يجوز أن تسمع النساء الرجال؛ لأن ذلك يؤدي إلى الفتنة، وإنما يكون بينهن وخاصاً بهن فلا يتعداهن إلى غيرهن من الرجال.(560/5)
حكم ضرب المرأة الدف لزوجها
ولا يجوز للزوجة أن تضرب الدف لزوجها في غير العرس.(560/6)
حكم ضرب النساء للدف عند الرجال
والجواري اللاتي كن موجودات عنده صلى الله عليه وسلم كن جواري صغيرات، ومعلوم أن النساء لا يحضرن عند الرجال ولا يضربن الدف بين الرجال، وإنما يكون النساء وحدهن ويضربن وحدهن، فلعلهن كن صغيرات.(560/7)
حكم القول بأن الرسول يعلم الغيب
وقولهن: (وفينا نبي يعلم ما في غد) قول لا يجوز، ولا شك أن الكفر الذي فيه خفاء والذي يكون فيه اشتباه لابد فيه من إقامة الحجة، ولكن ليس كل كفر فيه اشتباه؛ لأن من الكفر ما لا يكون فيه اشتباه مثل سب الله عز وجل، فهذا لا يقال: فيه اشتباه، ولا يقال: يحتاج إلى أن تقام على من فعله الحجة، وأما الأمور التي فيها خفاء فتقام على صاحبها الحجة.
ثم أيضاً الرسول صلى الله عليه وسلم حصل له في الجملة اطلاع على أمور مستقبلة، وقد جاءت أحاديث كثيرة عن الرسول فيها ذكر أمور علمها بتعليم الله عز وجل إياه، لكن إطلاق القول بأن كل ما يكون في المستقبل يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم هو الخطأ والغلط، وإلا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم علم كثيراً من الغيوب في المستقبل، ومن ذلك ما أخبر به الرسول عن أشراط الساعة، وعما يجري في المستقبل من الفتن، وكذلك ما كان قريباً من زمانه عليه الصلاة والسلام من الأمور التي أخبر بها مثل قوله: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، وكذلك قوله عن الحسن: (ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) فكل هذا إخبار عن أمر مستقبل أطلعه الله تعالى عليه، لكن المنكر هو القول بأنه يعلم الغيب في المستقبل على الإطلاق.(560/8)
دخول الرسول صلى الله عليه وسلم على غير محارمه
والرسول صلى الله عليه وسلم جاء في هذا الحديث أنه دخل على الربيع بنت معوذ، ولكن لا يعني ذلك أنه كان وحده معها، بل يجوز أن يكون زوجها موجوداً، ولكن حتى لو لم يحصل وجود زوجها فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ثبت عنه شيء لا يلحق به غيره ولا يقاس غيره عليه.(560/9)
حكم تلحين ما يسمى بالأناشيد الإسلامية
اشتغل كثير من الشباب المسلم اليوم بما يسمى بالأناشيد الإسلامية، ويدعي بعضهم أنها وسيلة من وسائل الدعوة، وغالباً ما يكون هذا من أجل محبة الأصوات ومحبة النشيد أو الطريقة التي يكون بها النشيد، وهذا غير لائق، وإنما الشعر وإلقاؤه يكون بالطريقة التي كانت معروفة في زمنه صلى الله عليه وسلم، مثلما كان حسان يلقي، أما أن يجتمع أناس ويأتون بأصوات يتغنون بها، أو تكون عند بعض الناس هي المقصودة وليس المقصود المعنى فهذا مما لا ينبغي، ولهذا فإن هذه الأناشيد أو هذه الطريقة لم تكسب الدعوة الإسلامية شيئاً، بل كانت نتيجتها أن افتتن بمثل سماع هذه الأصوات التي قد تطرب أو قد تعجب بعض الناس، وأما كون الناس يستفيدون منها ويترتب عليها فائدة فهذا ما لم يكن.(560/10)
شرح حديث (لما قدم رسول الله المدينة لعبت الحبشة لقدومه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لعبت الحبشة لقدومه فرحاً بذلك، لعبوا بحرابهم)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن أنس رضي الله عنه وفيه: (أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لعبت الحبشة فرحاً بقدومه، لعبوا بحرابهم) وهذا ليس فيه ذكر غناء، إلا أن يكون جاء في بعض طرقه شيء من ذلك، وإلا فإن الغناء لا ذكر له في هذا الحديث.(560/11)
تراجم رجال إسناد حديث (لما قدم رسول الله المدينة لعبت الحبشة لقدومه)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(560/12)
كراهية الغناء والزمر(560/13)
شرح حديث (سمع ابن عمر مزماراً فوضع أصبعيه في أذنيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كراهية الغناء والزمر.
حدثنا أحمد بن عبيد الله الغداني حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن نافع أنه قال: (سمع ابن عمر رضي الله عنهما مزماراً, قال: فوضع أصبعيه على أذنيه، ونأى عن الطريق، وقال لي: يا نافع! هل تسمع شيئاً؟ قال: فقلت: لا، قال: فرفع أصبعيه من أذنيه، وقال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا).
قال أبو علي اللؤلؤي: سمعت أبا داود يقول: هذا حديث منكر].
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب كراهية الغناء والزمر، والغناء: هو الأصوات التي تكون من المغني، وأما الزمر فهو الصوت الذي يكون بآلة أو استخدام آلة لتحسن الصوت، أو يكون فيها شيء يطرب مضموماً إلى الصوت، فكل منهما غير سائغ إلا فيما يتعلق بالغناء، وفيما يتعلق بالذي مر في ذكر ضرب النساء بالدف، وأنهن كن يغنين بأشعار سليمة ليس فيها غرام وليس فيها فتنة، وإنما كن يغنين بكلام جميل، فلا بأس به إذا كان خاصاً بالنساء لا يتعداهن إلى غيرهن.
وقد أخرج أبو داود عن نافع قال: (سمع ابن عمر مزماراً فوضع أصبعيه في أذنيه، ونأى عن الطريق) أي: الذي سمع فيه هذا الصوت، ثم قال لـ نافع: أتسمع؟ قال: لا، فأخرج أصبعيه من أذنيه، ثم قال: (إني كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع مزماراً ففعل مثلما فعلت) أي: أنه وضع أصبعيه في أذنيه، وهذا يدل على أن استعمال المزامير غير سائغ، وقد جاء ما يدل على ذلك في أحاديث أخرى منها الحديث الذي في البخاري: (يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)؛ لأن المعازف هي آلات الطرب وآلات اللهو.
وقد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع مثل هذا الذي سمعه ابن عمر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وضع أصبعيه في أذنيه كما وضع ابن عمر، أي: أن ابن عمر فعل ذلك اقتداء برسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(560/14)
تراجم رجال إسناد حديث (سمع ابن عمر مزماراً فوضع أصبعيه في أذنيه)
قوله: [حدثنا أحمد بن عبيد الله الغداني].
أحمد بن عبيد الله الغداني صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود.
[حدثنا الوليد بن مسلم].
الوليد بن مسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سعيد بن عبد العزيز].
سعيد بن عبد العزيز ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود.
[عن سليمان بن موسى].
سليمان بن موسى صدوق، أخرج له مسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمع ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: [قال أبو علي اللؤلؤي: سمعت أبا داود يقول: هذا حديث منكر].
أبو علي اللؤلؤي هو أحد رواة سنن أبي داود، وقد روى هنا عن أبي داود أنه قال: إن هذا حديث منكر، والإسناد كما هو أمامنا صحيح، ولا يظهر وجه لنكارته.
وبعض العلماء -أظنه الخطابي - قال: إن هذا كأنه شيء خفيف، وإلا فإن مقتضى ذلك الإنكار والمبالغة في الإنكار.
والمنكر عند العلماء هو: ما يخالف الضعيف فيه الثقة، وهنا لا يوجد ضعيف في الإسناد، بل كل من فيه إما ثقة وإما صدوق.(560/15)
الإنكار على أصحاب المزامير والملاهي الماجنة
قال الخطابي: المزمار الذي سمعه ابن عمر هو صفارة الرعاء، وقد جاء ذلك مذكوراً في هذا الحديث من غير هذه الرواية، وهذا وإن كان مكروهاً فقد دل هذا الصنع على أنه ليس في غلظ الحرمة كسائر الزمور والمزاهر والملاهي التي يستعملها أهل الخلاعة والمجون، ولو كان كذلك لأشبه ألا يقتصر في ذلك على سد المسامع فقط دون أن يبلغ فيه من النكر مبلغ الردع والتنكيل.
انتهى.
يعني: كأنه شيء خفيف ليس كفعل أهل المجون والخلاعة والاستهتار.
فقضية الإنكار مطلوبة، والإنسان إذا سمع أمراً منكراً وإن لم يكن مستمعاً له فإنه ينبه عليه، لكن لعل الأمر كما قال الخطابي، وكون ابن عمر فعل هذا حينما سمع المزمار معنى ذلك أن ما كان أعظم وأشد فهو من باب أولى أن يفعل معه هكذا.
ولعل مولاه فعل مثلما فعل، ولكنه أراد هو ألا يسمع ذلك ولو عن طريق التحقق من كونه انتهى أو ما انتهى، فسأل مولاه، ولعل نافعاً فعل مثلما فعل ابن عمر، فإذا رآه يفعل فإنه سيفعل مثلما فعل، لكن كأنه ثقل عليه أن يفتح أذنيه ويسمع، فأراد أن يتحقق أن الصوت انتهى بأن يفتح مولاه أذنيه ويسمع، ثم يخبره بأن الصوت قد انقطع، حتى يرجع ابن عمر إلى ما كان عليه قبل سماعه، واللائق بـ نافع أنه سيفعل مثلما فعل ابن عمر.(560/16)
شرح حديث (سمع ابن عمر مزماراً فوضع أصبعيه في أذنيه) من طريق أخرى وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمود بن خالد حدثنا أبي حدثنا مطعم بن المقدام حدثنا نافع قال: كنت ردف ابن عمر رضي الله عنهما إذ مر براعٍ يزمر، فذكر نحوه].
الإشارة في قوله: (راعٍ يزمر) تفيد أنه كان راعياً لإبل أو لغنم، وكان يزمر حتى يحصل شيء يفيد الغنم أو يفيد الإبل.
قوله: [حدثنا محمود بن خالد].
هو محمود بن خالد الدمشقي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا أبي].
أبوه مقبول، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثنا مطعم بن المقدام].
مطعم بن المقدام صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[قال: حدثنا نافع قال: كنت ردف ابن عمر].
نافع وابن عمر قد مر ذكرهما.
[قال أبو داود: أدخل بين مطعم ونافع سليمان بن موسى].
أي: أن الإسناد الأول فيه سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن نافع، والثاني فيه مطعم بن المقدام عن نافع.
فكأن هذا في رواية أخرى لهذا الحديث، وهي غير هاتين الروايتين المذكورتين هنا، فهذا معناه: أن هناك رواية أخرى غير موجودة وغير مذكورة هنا، ولكن هذا لا يؤثر؛ لأنه -كما هو معلوم- قد يكون الراوي سمعه بطريق نازلة، ثم سمعه بطريق عالية فرواه على الوجهين.(560/17)
شرح حديث (سمع ابن عمر مزماراً فوضع أصبعيه في أذنيه) من طريق ثالثة وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي حدثنا أبو المليح عن ميمون عن نافع قال: كنا مع ابن عمر رضي الله عنه فسمع صوت زامر فذكر نحوه.
قال أبو داود: وهذا أنكرها].
ذكر المصنف الحديث من طريق أخرى، وقال: وهذا أنكرها، وهذا أيضاً مثل الذي قبله، والحديث صحيح بهذه الطرق، وكل طريق منها سليمة، وذكر النكارة هي مثل الأول غير واضحة.
قوله: [حدثنا أحمد بن إبراهيم].
هو أحمد بن إبراهيم الدورقي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي].
عبد الله بن جعفر الرقي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثنا أبو المليح].
هو الحسن بن عمرو الرقي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن ميمون].
هو ميمون بن مهران، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن نافع قال: كنا مع ابن عمر].
نافع وابن عمر قد مر ذكرهما.(560/18)
شرح حديث (إن الغناء ينبت النفاق في القلب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا سلام بن مسكين عن شيخ شهد أبا وائل في وليمة فجعلوا يلعبون يتلعبون يغنون، فحلَّ أبو وائل حبوته وقال: سمعت عبد الله رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الغناء ينبت النفاق في القلب)].
أورد أبو داود حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الغناء ينبت النفاق في القلب) , وهذا يدل على أن ضرره كبير على الإنسان، وأنه يترتب عليه إنبات النفاق في القلب؛ وذلك أن الغناء هو من اللهو، ومعلوم أن المنافقين بعيدون عن الصدق وعن الإيمان بالله عز وجل، وأنهم يعجبهم الأمور المنكرة كاللهو وغيره، ولهذا قال: (إنه ينبت النفاق في القلب)؛ أي: أنه سبب لإنباته.
والحديث فيه هذا الشيخ المجهول الذي هو مبهم، ولكنه ثابت عن ابن مسعود موقوفاً عليه.(560/19)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الغناء ينبت النفاق في القلب)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثنا سلام بن مسكين].
سلام بن مسكين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن شيخ شهد أبا وائل].
هذا الشيخ مبهم، وأبو وائل هو شقيق بن سلمة، وهو ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت عبد الله].
هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهو صحابي جليل، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(560/20)
الحكم في المخنثين(560/21)
شرح حديث (أن النبي أتي بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الحكم في المخنثين.
حدثنا هارون بن عبد الله ومحمد بن العلاء أن أبا أسامة أخبرهم عن مفضل بن يونس عن الأوزاعي عن أبي يسار القرشي عن أبي هاشم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بمخنث قد خضب يده ورجليه بالحناء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال هذا؟! فقيل: يا رسول الله! يتشبه بالنساء، فأمر به فنفي إلى النقيع، فقالوا: يا رسول الله! ألا نقتله؟ فقال: إني نهيت عن قتل المصلين).
قال أبو أسامة: والنقيع ناحية عن المدينة وليس بالبقيع].
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب في الحكم في المخنثين، والمخنثون: هم الذين يتشبهون بالنساء، وإذا كان ذلك خلقة في الإنسان فلا دخل له فيه، وإذا كان تصنعاً وتشبهاً وليس خلقة فيه فهذا هو المحرم الذي يؤاخذ عليه الإنسان، أما إذا كان إنسان جبله الله على أن يكون صوته مثل صوت النساء وحركاته مثل حركات النساء فهذا شيء لا دخل له فيه، وهذا ليس من كسبه، ولكنه صفة له، ولكن الممنوع والمحرم هو الذي يكون من كسبه وفعله وتصرفه، وهذا من جنس حركات المختار وحركات المرتعش، فحركات المرتعش ليست من كسبه، وهذا شيء ليس إليه بل الله تعالى جعله كذلك، وأما الفاعل المختار ففعله واختياره من كسبه وفعله، فيؤاخذ الإنسان على ما يحصل من فعله وكسبه، ولا يؤاخذ على ما جبل عليه ولم يكن من فعله وكسبه.
فالمخنث هو من يكون مشابهاً للنساء أو فيه صفة من صفات النساء، ولكنه إما أن يكون من كسبه أو من غير كسبه، فالذي من كسبه هو الذي يؤاخذ عليه.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء، فقال: ما بال هذا؟! قالوا: إنه يتشبه بالنساء) وهذا كما هو معلوم من فعله؛ لأنه فعل هذه الأفعال تشبهاً بالنساء، وحصل منه شيء من فعله يشابه النساء، وهذا هو الذي يؤاخذ عليه الإنسان.
قوله: (فأمر به فنفي إلى النقيع) النقيع هو مكان وليس هو البقيع، وإنما هو مكان آخر.
قوله: (قالوا: ألا نقتله؟ قال: إني نهيت عن قتل المصلين)، أي: أن كونه يتشبه بالنساء لا يقتضي أن يقتل، وقد نفي إلى مكان آخر حتى لا يفتتن به، وهذا لا يقتضي أن يعاقب بمثل هذه العقوبة، وإنما يكفيه أنه نفي؛ حتى يسلم الناس من ضرره, وقوله: (إني نهيت عن قتل المصلين)، فيه أنه من جملة المسلمين المصلين، والنبي صلى الله عليه وسلم نهي عن قتل المصلين، وهذا يدلنا على عظم شأن الصلاة، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (إني نهيت عن قتل المصلين)، وجاء كذلك في أحاديث في مواقف أخرى أنه قال: (نهيت عن قتل المصلين).(560/22)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي أتي بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء)
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هو هارون بن عبد الله الحمال البغدادي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[ومحمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء أبو كريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن أبا أسامة أخبرهم].
هو أبو أسامة حماد بن أسامة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مفضل بن يونس].
مفضل بن يونس ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن الأوزاعي].
هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي فقيه الشام ومحدثها، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي يسار القرشي].
أبو يسار القرشي مجهول الحال، أخرج له أبو داود.
[عن أبي هاشم].
أبو هاشم مجهول الحال، أخرج له أبو داود.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.
وهذا الحديث صححه أو حسنه الألباني مع أن فيه هذين المجهولين، ولعله للشواهد؛ لأن قوله: (نهيت عن قتل المصلين) جاء ما يدل عليه، وكذلك الخضاب بالحناء للرجال أيضاً جاء ما يدل عليه.(560/23)
تعريف المخنث
المخنث ليس بلازم أن تكون جميع صفات النساء فيه، وإنما يكون فيه شيء من صفاتهن، إما صوته كصوت النساء، أو حركاته كحركات النساء أو يجمع بينها، لكن ليس بلازم أن تكون كل صفات النساء موجودة فيه.(560/24)
حكم اختضاب الرجل بالحناء
وفي بعض البلدان يخضب الرجل رجليه ويديه بالحناء في العرس، وهذه عادة سيئة؛ لأن الخضاب للنساء وليس للرجال، والحناء يجوز الرجال إذا كان في علاج، فإذا كان يعالج بالحناء فلا بأس.
ولا يدخل في ذلك خضاب اللحية بالحناء، وإنما المقصود خضاب اليدين والرجلين الخضاب الذي هو للتجمل، وأما بالنسبة للحية إذا كانت بيضاء وغيرت بغير السواد فهذا مشروع.(560/25)
شرح حديث أم سلمة (أن النبي دخل عليها وعندها مخنث)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن هشام -يعني: ابن عروة - عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها مخنث وهو يقول لـ عبد الله أخيها: إن يفتح الله الطائف غداً دللتك على امرأة تقبل بأربع وتدبر بثمانٍ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخرجوهم من بيوتكم).
قال أبو داود: المرأة كانت لها أربع عكن في بطنها].
أورد أبو داود حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها مخنث، وهو يقول لـ عبد الله أخيها: إن يفتح الله الطائف غداً أدلك على امرأة تقبل بأربع وتدبر بثمانٍ، فقال الرسول: أخرجوهم من بيوتكم)، كأن المخنثين الذين هذه صفتهم يظهر أنهم لا يشتهون النساء، أو أنه ليس لهم شهوة للنساء، ولهذا كان يتسامح في دخولهم على اعتبار أنهم ليسوا من أولي الإربة من الرجال، لكن لما كان يصف المرأة بهذا الوصف الدقيق دل على أنه ليس من جملة من لا يشتهي، وأنه ممن يعرف.
وقول أبي داود: (المرأة كانت لها أربع عكن في بطنها) معناه: أنها لسمنها كان لها من الأمام أربع عكن، ولكنها عندما تذهب إلى الخلف فإن كل واحدة تنقسم إلى قسمين، فتكون ثمان، أي: أن عكنها من جهة الأمام أربع، ومن جهة الخلف ثمان، وهذا وصف دقيق من أوصاف النساء، وهو يدل على أنه قد اطلع عليها وعلى ما تحت ثيابها.
والمرأة هي ابنة غيلان الثقفي الذي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اختر أربعاً وفارق سائرهن).(560/26)
تراجم رجال إسناد حديث أم سلمة (أن النبي دخل عليها وعندها مخنث)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
أبو بكر بن أبي شيبة ثقة، واسمه عبد الله بن محمد، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام يعني ابن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو عروة بن الزبير، وهو ثقة فقيه أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زينب بنت أم سلمة].
زينب بنت أم سلمة ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم صحابية، أخرج حديثها أصحاب الكتب الستة.
[عن أم سلمة].
هي أم سلمة بنت أبي أمية رضي الله عنها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(560/27)
شرح حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المخنثين من الرجال)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن يحيى عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء، وقال: أخرجوهم من بيوتكم، وأخرجوا فلاناً وفلاناً) يعني: المخنثين].
أورد أبو داود حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء)، المخنث من الرجال هو الذي يتشبه بالنساء؛ لأن هذا من كسبه وفعله، وأما إذا كان ليس من كسبه فهذا لا يلعن؛ لأنه غير مؤاخذ على ما جبل عليه وعلى ما طبع عليه، والإنسان إنما يلعن على فعله وعلى اختياره، ويؤاخذ على ما يحصل منه، فما كان من صفاته وليس من أفعاله فهذا لا يلعن؛ لأن تشبهه بالنساء أو اتصافه بصفات النساء هذا ليس من كسبه ولا اختياره، وإنما المحذور ما فيه كسب واختيار.
واللعن يدل على أن تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال من الكبائر؛ لأن الكبيرة هي ما كان له حد في الدنيا، أو توعد عليه بلعنة أو غضب أو نار أو كان فيه إحباط عمل وما إلى ذلك، هذا هو حد الكبيرة المشهور عند العلماء.
وقوله: (المترجلات) أي: اللاتي يتشبهن بالرجال في هيئتهم ولباسهم وحركاتهم، وهذا عكس تشبه الإنسان بالنساء، فالنساء كونهن يتشبهن بالرجال معناه: أنهن يحاكين الرجال ويتخلقن بأخلاق الرجال، سواء كان التشبه في الحركة أو في اللبس أو ما إلى ذلك.
وكان العرب يقولون فيمن يتشبه من النساء بالرجال ومن يتشبه من الرجال بالنساء: استنوق الجمل واستديكت الدجاجة، أي: أن الجمل صار مثل الناقة والدجاجة صارت مثل الديك!(560/28)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المخنثين من الرجال)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام].
هو هشام الدستوائي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى].
هو يحيى بن أبي كثير اليمامي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(560/29)
حكم النظر إلى النساء والمردان
والنظر إلى النساء أو إلى المردان من أجل التلذذ لا يجوز؛ لأنه حرام، فلا يجوز للإنسان أن يستمتع بالنظر إلى أحد سواء كان رجلاً أو امرأة.(560/30)
ما جاء في اللعب بالبنات(560/31)
شرح حديث عائشة (كنت ألعب بالبنات)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في اللعب بالبنات.
حدثنا مسدد حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت ألعب بالبنات، فربما دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي الجواري، فإذا دخل خرجن، وإذا خرج دخلن)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب في اللعب بالبنات، والمقصود من ذلك: لعب الجواري الصغيرات باللعب التي يقال لها: بنات، أي: أنهن يطلقن عليهن أنهن بنات لهن، وكأنهن يقلدن الكبيرات ويتدربن على ذلك، ويستأنسن بذلك مشابهة لأمهاتهن، هذا هو المقصود من اللعب بالبنات، فالبنت الصغيرة تعمل لها شيئاً من الخرق وتجعل له رجلين، وتجعل له رأساً، وتجعل له يدين، وتقول: إنها بنت لها، فتلعب بها وتستأنس بها وتتشبه بأمها فيما إذا كانت تقوم ببنتها الصغيرة أو ابنها الصغير بأن تحمله أو تنزله وما إلى ذلك مما تحاكي فيه البنات الصغيرات النساء الكبيرات.
وهذا سائغ كما هو معلوم، وكما جاءت به الأحاديث؛ لأنه ليس فيه تصاوير، بخلاف اللعب التي تأتي مصورة على شكل إنسان، اليدان على شكل اليدين، والرجلان على شكل الرجلين، والوجه على شكل الوجه، وهكذا الأعين والأنف والفم وكل الصفات موجودة؛ لأن هذه صور، واستعمال الصور لا يجوز، ولكن الذي يجوز هو ما كان يستعمل في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم من كون المرأة تأخذ أعواداً وتلف عليها شيئاً من الخرق على شكل يدين ورجلين، أو تجعل شيئاً من الصوف في قماش فيكون على شكل رجلين، وكذلك يكون على شكل يدين ورأس، فمثل هذا سائغ، وهذا هو الذي كان يفعل في زمانه صلى الله عليه وسلم، وأما ما يجري في هذا الزمان من وضع صور مجسمة على هيئة إنسان فإن ذلك غير سائغ.
وقد أخبرت عائشة رضي الله عنها أنها كانت تلعب باللعب التي تسميها بنات، وأن جواري كن يلعبن معها فإذا دخل الرسول صلى الله عليه وسلم خرجن، وإذا خرج دخلن إليها ليلعبن معها ويستأنسن بها ومعها رضي الله تعالى عن الجميع.(560/32)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة (كنت ألعب بالبنات)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد مر ذكره.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة].
هشام بن عروة وأبوه وعائشة قد مر ذكرهم.
وهذه العرائس المصنوعة من القماش المحشى بالقطن ويكون الوجه مطموساً ليس فيه أي ملامح، لا عين ولا فم، هذه جائزة؛ لأنه ليس فيها صور، وإنما هي على هيئة إنسان؛ حيث إن أعلاها قطعة من القماش مجتمعة ملمومة كأنها رأس، ومن تحت الرأس قصعتان من القماش محشوة بقطن، وكذلك في الأسفل قطعتان محشوتان بقطن على شكل الرجلين، هذه هي البنات، وهذه لا يقال لها: صور؛ لأن الصور هي ما يكون بالنحت، والتجسيد، مثل الصور الموجودة في هذا الزمان التي تصنع من البلاستيك وغيره، فهذه لا يجوز استعمالها.(560/33)
شرح حديث عائشة (قدم رسول الله من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عوف حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا يحيى بن أيوب قال: حدثني عمارة بن غزية أن محمد بن إبراهيم حدثه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر، فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لـ عائشة لعب، فقال: ما هذا يا عائشة؟! قالت: بناتي، ورأى بينهن فرساً له جناحان من رقاع، فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن؟ قالت: فرس، قال: وما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان، قال: فرس له جناحان؟! قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة؟ قالت: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم من سفر إما من تبوك وإما من خيبر، وكان لها سهوة، والسهوة إما مكان عند الغرفة، أو أنه طاق في الجدار، أو رف من ورائه ستر توضع فيه الأغراض والحاجات، ومنها اللعب، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قدم هبت ريح فانكشف الستر، وإذا وراءه هذه اللعب التي لـ عائشة والتي تسميها بنات لها، فقال: (ما هذا يا عائشة؟! قالت: بناتي)، قال: ما هذا الذي بينهن وكان بينهن قطع من القماش على صورة فرس، وكان له جوانب مثل الجناحين، قالت: فرس، قال: (وما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان، قال: فرس له جناحان؟!) يعني: أن الخيل ليس لها أجنحة، قالت: (أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم).
والحاصل: أن مثل هذه الأشياء التي تستعملها النساء بأن تكون على شكل بنات، أو يستعملها الصبيان بأن تكون مثلاً على شكل ناقة أو على شكل فرس، وهي من القماش الذي يكون على شكل الهيأة التي يريد؛ لأن النساء غالباً يعملن شيئاً على شكل بنات، والصبيان يعملون شيئاً إما على شكل فرس وإما على شكل جمل ونحوه، فيعملون من القماش شيئاً يشبه بعض الحيوانات، فمثل ذلك سائغ، ولا بأس به، وإنما الممنوع هو الصور المجسمة أو الصور غير المجسمة المنقوشة، أو غير ذلك مما يقال له: صور.(560/34)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة (قدم رسول الله من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر)
قوله: [حدثنا محمد بن عوف].
محمد بن عوف ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي في مسند علي.
[حدثنا سعيد بن أبي مريم].
سعيد بن أبي مريم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا يحيى بن أيوب].
يحيى بن أيوب صدوق ربما أخطأ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثني عمارة بن غزية].
عمارة بن غزية لا بأس به، وهي بمعنى صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أن محمد بن إبراهيم حدثه].
هو محمد بن إبراهيم التيمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة بن عبد الرحمن].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة رضي الله عنها قد مر ذكرها.(560/35)
الأسئلة(560/36)
معنى العكن
السؤال
ما معنى العكن؟
الجواب
العكن ذكروا في تفسيرها: أن المرأة كانت سمينة، وأن ثنايا بطنها من جهة الأمام فيها أربع زوايا بارزة، وكل زاوية يطلع منها خطان يذهبان إلى جهة الوراء فيكون المجموع ثمانياً، أي: أن بطنها من الأمام فيها أربع عكن والجهة التي خلف فيها ثمانٍ، وهذه العكن التي هي تجاعيد البطن وتقاسيمها تكون بسبب السمن.(560/37)
حكم منع الدف في الأعراس
السؤال
هل يصح لنا أن نمنع من ضرب الدف والغناء في الأعراس وغيرها من المناسبات وننكر ذلك نهائياً حتى لا يكون هناك مجال وفتح باب للغناء واللهو والطرب؟
الجواب
الممنوع ممنوع والجائز جائز، فيمنع ما يمنع، ويجوز ما يجوز، والواجب هو اتباع السنة والأخذ بها، ولا يمنع شيء جاءت به السنة، ولكنه يجوز في حق من يجوز له وهو النساء فقط.(560/38)
حكم الإتيان بمطربات في الأعراس
السؤال
في الأعراس الآن يأتون بمطربات يضربن بالدف ويغنين بأغاني المغنين المشهورة فما حكم ذلك؟
الجواب
هذا فيه محذوران: أولاً: هذا الغناء المحرم الذي يكون فيه طرب وغزل وحب للشر.
ثانياً: فيه تبذير للأموال وصرفها في غير حق؛ لأن هؤلاء النساء قد يستأجر بأثمان باهظة، مع أنه يمكن أن تضرب النساء بالدف وأن يحصل منهن التغني بما هو سائغ، دون أن يحتجن إلى استئجار مغنيات يأتين بالغناء المحرم ويضربن بالدف وتصرف لهن أموال لا حاجة إلى صرفها، وإنما ينبغي أن تبقى للزوج ويكون ذلك من تخفيف التكاليف التي تكون على كاهل الزوج بحيث يسلم من مثل هذه الأموال التي تصرف في غير طائل، بل في مضرة.(560/39)
حكم تصفيق النساء في الأعراس وسماع الرجال لهن
السؤال
عندنا في البلد بمناسبة الزواج تجتمع النساء في بيت العروس ويصفقن والرجال يسمعون أصواتهن، فهل هذا جائز؟
الجواب
كونهن يستعملن التصفيق لا نعلم شيئاً يدل عليه، وإنما الذي ورد هو أنهن يضربن بالدف ويغنين الغناء الذي لا محذور فيه والذي لا يسمعه الرجال، وأما إذا سمعه الرجال فإنه لا يسوغ.(560/40)
حكم استعمال الموسيقى في الجوال
السؤال
هل من نصيحة للذين يستعملون في الجوال رنة الموسيقى مع العلم أن باستطاعتهم تغيير هذه الرنة؟
الجواب
الواجب على الإنسان أن يتقي الله عز وجل، وإذا استعمل مثل هذا الجهاز وهذه الآلة للاستفادة منها فليحذر أن يضع فيها أو يجعلها على هيئة محرمة، كأن تكون رنة الهاتف موسيقى، فإن هذا غير سائغ للإنسان، ويزداد الأمر خطورة إذا حصل ذلك في المسجد، بل الذي ينبغي أن الناس في المساجد يحرصون على أن يغلقوا جوالاتهم، فإذا كان فيها موسيقى فإن ذلك حرام في جميع الأحوال، ولكنه يزداد خطورة ويزداد حرمة إذا كان يسمع ذلك الصوت الخبيث في المسجد؛ فإن ذلك شر على شر وبلاء على بلاء.(560/41)
حكم سماع أصوات الجواري والمغنيات
السؤال
ما هو الدليل على عدم جواز انتقال صوت الجواري أو المغنيات إلى الرجال مع أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صوت الجواري؟
الجواب
هذا أولاً حصل عند المرأة المتزوجة، والجواري الغالب أنهن كن صغيرات، وأنه حصل منهن ذلك، ولكن كون النساء تجتمع مع الرجال وتختلط بهم هذا غير سائغ، وكون النساء تظهر للرجال في هذا فتنة لهم، وهذا غير سائغ، ومن المعلوم أن أصواتهن وغناءهن والناس يسمعون لا شك أن هذا ضرر، والضرر إزالته مطلوبة، والسلامة منه مطلوبة.(560/42)
حكم غناء الأطفال المسجل على الأشرطة
السؤال
ما تقولون في الأشرطة التي تباع في الأسواق وفيها غناء الأطفال لكنه مصاحب للدف؟
الجواب
لا ينبغي أن ينشأ الأطفال على ضرب الدفوف وعلى الأغاني، بل الذي ينبغي أن ينشئوا على الجد.
ثم أيضاً تسجيل مثل ذلك وفيه ضرب الدفوف لا ينبغي، وكذلك ما يتعلق بالنساء إذا حصل منهن شيء خاص بهن في مناسبة العرس من ضربن الدفوف لا يسجل ولا ينشر؛ لأن هذا يؤدي إلى الفتنة، ويصبح المحذور الذي حصل به أشد من أن يسمع منهن مباشرة؛ لأن ذلك طارئ ويزول، وأما مثل هذا فشيء ثابت يسمع في كل وقت وفي كل حين.(560/43)
حكم تحسين الصوت بالشعر
السؤال
هل تدل أحاديث الحداء على جواز تحسين الصوت بالشعر؟
الجواب
ذاك للحداء، والحداء يكون للإبل من أجل أن الإبل تعرف صوت الحادي وتألف طريقته فتتبعه.(560/44)
حكم وضع الحلق في الدف
السؤال
عندنا الدفوف في داخلها بعض الحلق الصغيرة المعدنية لتحسين الصوت فما حكمها؟
الجواب
هذا غلط؛ لأنه لا يضاف إلى الدف شيء آخر يحسن الصوت، وإنما يكون الدف مكشوفاً من جهة ومغطى من جهة، ولو غطي من الجهات كلها فإنه يصبح طبلاً، وكونه توضع فيه حلقات من أجل أنه يطلع معها صوت هذا زيادة على ما ورد وعلى المشروع.(560/45)
حكم سماع المديح الديني المصاحب للدف
السؤال
هل يجوز سماع المديح الديني الذي يقوم به مجموعة من الرجال أو الأطفال وقد يستعمل فيه الدف وهكذا مديح النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
الدفوف لا يصلح استعمالها إلا في الأعراس، والرسول صلى الله عليه وسلم لا شك أنه أفضل من يمدح من الخلق عليه الصلاة والسلام، ولكن المدح الذي يليق به صلى الله عليه وسلم هو المدح من غير غلو ومن غير إطراء تحقيقاً لرغبته صلى الله عليه وسلم، وامتثالاً لأمره في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) فصلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
فوجود أناس يجتمعون ويأتون بمدائح، سواء كانت مدائح للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره، وفيها تطريب وتلحين لا ينبغي هذا، وإنما الشعر السليم الذي لا محذور فيه ولا ممنوع منه يؤتى به على الطريقة التي كان ينشدها العرب، كما كان حسان بن ثابت ينشد الشعر بين يدي رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(560/46)
حكم ضرب الدف في غير الأعراس
السؤال
هل يجوز ضرب الدف في غير الأعراس مثل السوابع أو في مناسبة النجاح أو غير ذلك؟
الجواب
لا يجوز ولا يضرب إلا في الأعراس وللنساء خاصة.(560/47)
كيفية العمل مع من يؤذي جاره برفع صوت الغناء
السؤال
لي جار يرفع صوت الغناء من المسجل وقد نصحته لكنه لم ينته، وبعدها كنت أرفع صوت القرآن من المسجل، فهل عملي صحيح؟
الجواب
إذا كان هذا سيؤدبه فيفعل، وأما إذا كان لم يترتب على ذلك شيء وإنما سيبقى على ما هو عليه ولن تستفيد من هذا العمل شيئاً فلا تفعل، ولكن حاول معه، وإن لم يفعل وأصر على ذلك فافعل الأسباب التي تمنعه من ذلك، وذلك بأن ترفع أمره إلى المسئولين.(560/48)
الفرق بين الحداء والغناء
السؤال
ما الفرق بين الحداء والغناء؟
الجواب
الحداء: هو أن يأتي الراعي بأصوات تعودت عليها الإبل فتلتف حوله، وإذا كانت بعيدة وسمعت الصوت أقبلت عليه واجتمعت عنده، هذا هو الحداء للإبل، والحادي الذي يحدو للإبل يأتي بأصوات أو بصوت يتغنى به حتى تعرفه الإبل وتألفه الإبل فتأتي إليه، وأما الغناء فهو هذا التغني الممنوع.(560/49)
حكم تلحين القصائد والمنظومات العلمية
السؤال
ما حكم تلحين القصائد والمنظومات العلمية؟
الجواب
التكلف ليس جيداً، والحفظ لا يسهل بالتلحين، الحفظ يكون بأن يجتهد الإنسان في الحفظ ويتقنه ولو لم يلحنه، فهؤلاء الحفاظ الذين حفظوا الأحاديث الكثيرة والأشعار وغير ذلك ما حصلوه إلا بالجد وليس بالتلحين.(560/50)
حكم المساهمة في شركة الاتصالات
السؤال
ما حكم المساهمة في شركة الاتصالات؟
الجواب
أنا لا أعرف الحقيقة التي تشتمل عليها شركة الاتصالات من الأمور المحذورة والممنوعة التي لا تسوغ، أنا لا أعرف التفاصيل التي فيها، وقد سئلت كثيراً عن ذلك وأجبت بأنه ينبغي أن يوجه السؤال إلى الإفتاء في الرياض من أجل أن تحصر المحاذير التي في هذه الشركة، ويصدر الحكم فيها بناءً عليها، والتفاصيل كما قلت: أنا لا أعرفها، لكني سمعت عن وجود مضار تأتي عن طريق التلفونات ولكن لا دخل للشركة فيها، مثلما يجري من أفراد لأفراد وإيذاء أفراد لأفراد، وهذا لا يدخل تحت قدرة الشركة ولا تحت تصرفها؛ لأن هذا يكون من الناس بعضهم مع بعض، ولكن الذي لا يجوز هو ما يحصل من الشركة نفسها.
وقد بلغني أن فيها شيئاً من المسابقات، وتكون المساهمة في هذه المسابقات عن طريق الاتصال بالهاتف، وأنه يترتب على ذلك صرف مبلغ، وهذا يشبه القمار الذي هو: أن يدفع الإنسان شيئاً من أجل أن يكسب، فإنه إذا كان هناك شيء من العوض أو شيء يدفعه الإنسان من أجل أن يكسب شيئاً فإن هذا هو القمار الممنوع، وإذا حصل مثل هذا من الشركة وعُرف أن هذا من مكاسب الشركة فهو عمل غير طيب.
وكذلك إذا كانت الشركة تعمل على إدخال الأغاني في التلفونات فإن ذلك غير جائز.
وخلاصة ذلك أقول: لا شك أن الأولى هو عدم المساهمة في الشركة من أجل هذه المحاذير التي فيها، لكن إذا كان هناك أمور أخرى سيئة تقبل التحريم فأنا لا أعرفها، ولم أحط علماً بالمحاذير والأضرار التي تحصل عن طريق شركة الاتصالات؛ ولهذا أقول: المناسب أن يرفع ذلك إلى الإفتاء وهم يقفون على حصر ما فيها من محاذير، وعند ذلك يصدرون فتوى مبنية على معلومات يكون الحكم مبنياً عليها.(560/51)
شرح سنن أبي داود [561]
لقد نهى الإسلام عن كل ما يلهى ويشغل ويصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، ومن ذلك الألعاب المشتملة على محرم كالقمار والنرد والشطرنج وغيرها من الألعاب الأخرى، وأما ما كان خالياً من ذلك فلا شيء فيه، كألعاب الأطفال الخالية من المحاذير الشرعية.(561/1)
ما جاء في الأرجوحة(561/2)
شرح حديث عائشة في قصة زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الأرجوحة.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد ح وحدثنا بشر بن خالد حدثنا أبو أسامة قالا: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجني وأنا بنت سبع أو ست، فلما قدمنا المدينة أتين نسوة، وقال بشر: فأتتني أم رومان رضي الله عنها وأنا على أرجوحة، فذهبن بي وهيأنني وصنعنني، فأُتي بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبنى بي وأنا ابنة تسع، فوقفت بي على الباب فقلت: هيه هيه -قال أبو داود: أي: تنفست- فأدخلت بيتاً فإذا فيه نسوة من الأنصار فقلن: على الخير والبركة) دخل حديث أحدهما في الآخر].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة: باب في الأرجوحة، وهي التي يلعب بها الصبيان من البنين والبنات، والأرجوحة: أن توضع خشبة على مكان مرتفع كصخرة ونحوها ولها طرفان، ويركب على طرفيها صبيان أو صبيتان ثم يحركانها فتنزل بالأول وترتفع بالثاني، ثم تنزل بالثاني وترتفع بالأول الذي قد نزل.
وأيضاً تكون في مكان عالٍ معلقة ويركب فيها صبي ويحركها إلى الأمام وإلى الخلف، وقد يكون معه شخص آخر في هذه الأرجوحة المعلقة، ولكنها تتحقق وتحصل من شخص واحد بحيث يحركها، وأما الخشبة التي تعرض على شيء فهذه لا يحصل استعمالها إلا من صبيين، ينخفض أحدهما ثم يرتفع الآخر.
وقد أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو في مكة ثم قدم المدينة، ولما أريد إدخالها عليه كانت تلعب في أرجوحة، فجاءتها نسوة وأمها أم رومان، فذهبن بها وأصلحنها وهيأنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أدخلتها أمها عليه ضحىً، وذكرت أنها لما كانت عند الباب كان نفسها ثائراً فقالت: هيه هيه، أي: أن صوتها كان كصوت المبهوت الذي يتنفس فيحصل منه مثل هذا الصوت، ثم انتظرت حتى هدأ نفسها ثم أدخلت عليه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه فبنى بها.
وقوله: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجني وأنا بنت سبع أو ست، فلما قدمنا المدينة أتين نسوة، وقال بشر: فأتتني أم رومان)].
أم رومان هي أمها.
قوله: [(وأنا على أرجوحة، فذهبن بي وهيأنني وصنعنني، فأتي بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبنى بي وأنا ابنة تسع، فوقفت بي على الباب فقلت: هيه هيه) قال أبو داود: أي: تنفست].
أي: أنها قالت هذا لأجل ثوران النفس، فلثوران نفسها ظهر بهذه الصورة، وحصل لها هذا الأمر، فالقول هو بناء على الفعل، وليس معنى ذلك أنها كانت تتكلم بهذا الكلام، وإنما حصل منها هذا الصوت الذي يحصل بسبب ثوران النفس.
قوله: [(فأدخلت بيتاً فإذا فيه نسوة من الأنصار فقلن: على الخير والبركة)، دخل حديث أحدهما في الآخر].
أي: أن هؤلاء اللاتي أصلحنها وهيأنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم قلن لها: على الخير والبركة، أي: أنكِ تزوجتِ زواجاً مباركاً، وتدخلين على زوجك وفي ذلك الخير والبركة، ولا شك أن هذا من أعظم الخير والبركة لها أن تحظى بأن تكون حليلة رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه ورضي الله تعالى عنها وأرضاها.
والحديث فيه دليل على تزويج الصغيرة، ومن المعلوم أن المرأة تستأذن سواء كانت صغيرة أو كبيرة، ولكن إذا كان الكفء له منزلة عالية من حيث الإيمان والتقى، وأراد الأب ألا يفرط فيه وأن يظفر به ولو كانت الابنة صغيرة فإن ذلك سائغ، كما حصل من أبي بكر في تزويجه رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه بـ عائشة.
ومن المعلوم أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم كلهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـ أبو بكر وعمر تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم من بناتهما، وأما عثمان وعلي فتزوجا من بنات رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وقوله: (دخل حديث أحدهما في الآخر) يقصد بذلك شيخي أبي داود، ومعنى ذلك: أنه لم يميز حديث كل واحد منهما ويبين لفظه، وإنما قال: دخل حديث أحدهما في حديث الآخر.(561/3)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة في قصة زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة بن دينار البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ح وحدثنا بشر بن خالد].
هو بشر بن خالد العسكري، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبو أسامة].
هو أبو أسامة حماد بن أسامة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قالا: حدثنا هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عروة بن الزبير بن العوام وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(561/4)
ثمرة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها
وقد ترتب على هذا الزواج المبارك الخير الكثير لهذه الأمة، فإنها روت الحديث الكثير عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحفظت السنن ولا سيما في الأمور التي تتعلق بالبيوت، وفي الأمور التي تجري بين الرجل وأهله، مما كان يجري بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين نسائه، فإنها رضي الله تعالى عنها وأرضاها روت الشيء الكثير وحفظت الشيء الكثير، فهي من أوعية السنة وحفظتها، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد وأنس وجابر وأم المؤمنين عائشة، ستة رجال وامرأة واحدة رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين.(561/5)
حكم تزويج الصغيرة
وتزويج الصغيرة إنما يكون لاكتساب الكفء الذي لا يفرط فيه، من جهة الدين والخلق، وليس لأمور أخرى دنيوية، أو ليست مهمة، بل المهم هو الدين والخلق.
وأما الدخول بها فإن كانت تتضرر ويلحقها ضرر فليس لأهلها أن يمكنوا منها، وليس لزوجها أن يسيء إليها وأن يلحق بها ضرراً لا تطيقه ولا تقدر عليه.
والصغيرة التي لم تبلغ إنما تزوج من أجل اكتساب الكفء الذي لا يفرط فيه، ولن يعوض إذا ذهب، أي: أنه يندر ويقل أن يوجد مثله، فهذا هو الذي يحرص عليه، وأما غيره فإنه لا بد من استئذانها، ومعلوم أن الاستئذان إنما يكون للمدركة المميزة التي تعرف مصلحة نفسها وتعقل.
ولو كبرت بعد البلوغ وكرهت هذا الزوج فإن كان صاحب دين وخلق فإنه إذا كرهته لن يحتفظ بها حتى تبلغ وحتى تعترض عليه، بل من كان هذا وصفه ومن كانت هذه منزلته فإنه عندما يجد منها كراهة سيتركها، ولن يحتفظ بها حتى تبلغ وتخاصم.
وكان شيخنا الشيخ عبد الله الخليفي رحمة الله عليه لا يرى تزويج الصغيرة، ولما قيل له في ذلك قال كلمة مستحيلة: إذا جاءك نبي يخطب بنتك فزوجها إياه، وهذا شيء مستحيل لا يقع، ولن يحصل مثلما حصل لـ أبي بكر.(561/6)
شرح حديث عائشة في قصة زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن سعيد حدثنا أبو أسامة مثله قال: (على خير طائر فسلمتني إليهن، فغسلن رأسي وأصلحنني، فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحىً فأسلمنني إليه)].
أورد أبو داود حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها من طريق أخرى في قصة زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن النساء دعين بالخير والبركة، وقلن: (على خير طائر) ومعنى ذلك: الحض والنصيب، ولا شك أن هذا حظ عظيم ظفرت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو ظفرها بأن أصبحت زوجة رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي كانت به إحدى أمهات المؤمنين، بل هي أحب أمهات المؤمنين إلى رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ورضي الله تعالى عنها وأرضاها.
ثم قالت: (فسلمتني إليهن) أي: النسوة التي يصلحنها ويهيئنها.
ثم قالت: (فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحىً) أي: أنها حصلت لها مفاجأة، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل عليها ضحىً بعدما زفت إليه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه ورضي الله تعالى عنها وأرضاها.
ثم قالت: (فأسلمنني إليه) أي: أنهن قدمنها إليه، ولكن الذي تولت ذلك هي أمها كما مر في الرواية السابقة أنها وقفت على الباب وأمها معها، وأنها تنفست ذلك التنفس الذي حكته بقولها: (هيه هيه).(561/7)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة في قصة زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم من طريق ثانية
قوله: [حدثنا إبراهيم بن سعيد].
إبراهيم بن سعيد ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو أسامة مثله].
أبو أسامة مر ذكره، وقوله: (مثله) أي: مثل ما تقدم في الإسناد الأول.(561/8)
الدعاء للمتزوجين
وفي الحديث الأول أنهن قلن: (على الخير والبركة) وفي الثاني قلن: (على خير طائر) فيمكن أنهن كن مجموعتين: مجموعة قالت كذا، ومجموعة قالت كذا.
والمعنى واحد؛ إذ لا شك أنه خير وبركة، وأكبر حظ ونصيب، وهو أنها أصبحت حليلة خير البشر صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وهذا من باب التفاؤل، بل هو مجزوم بأنه أعظم خير وأعظم حظ ونصيب لامرأة تتزوج من هو خير الناس.
وأما الآن فينبغي أن يقال للمتزوجين: بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير، هذا هو الذي ينبغي أن يقال في حال الزواج، أو يقال: زواج مبارك، أو جعله الله زواجاً مباركاً، لكن لا يقال: على خير طائر؛ لأن هذا لا يقال لكل أحد، وإنما قيل هذا لمن تزوجها رسول الله عليه الصلاة والسلام، وليس غيرها كذلك.(561/9)
شرح حديث عائشة في قصة زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم من طريق ثالثة وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا هشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (فلما قدمنا المدينة جاءني نسوة وأنا ألعب على أرجوحة، وأنا مجممة، فذهبن بي فهيأنني وصنعنني، ثم أتين بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبنى بي وأنا ابنة تسع سنين)].
أورد أبو داود حديث عائشة من طريق أخرى وفيه ألفاظ أخرى، منها: أنها كانت مجممة، أي: أنها كانت ذات جمة، والجمة: هي الشعر، وكانت قد حصل لها مرض فتساقط شعرها، ثم نبت، فكان الذي وصل إليه شعرها في ذلك الوقت أنه كان جمة.
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة].
هؤلاء كلهم مر ذكرهم في الإسناد السابق.(561/10)
شرح حديث عائشة في قصة زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم من طريق رابعة وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا بشر بن خالد أخبرنا أبو أسامة حدثنا هشام بن عروة بإسناده في هذا الحديث قالت: (وأنا على الأرجوحة ومعي صواحباتي، فأدخلنني بيتاً فإذا نسوة من الأنصار، فقلن: على الخير والبركة)].
وهذا مثل الذي قبله، والإسناد مر ذكره.(561/11)
شرح حديث عائشة في قصة زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم من طريق خامسة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا محمد -يعني ابن عمرو - عن يحيى -يعني ابن عبد الرحمن بن حاطب - قال: قالت عائشة رضي الله عنها: (فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج، قالت: فوالله! إني لعلى أرجوحة بين عذقين فجاءتني أمي فأنزلتني ولي جميمة) وساق الحديث].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه أنهم بعدما قدموا المدينة نزلوا في بني الحارث بن الخزرج، وأنها كانت على أرجوحة بين عذقين، والمراد بالعذق: النخلة، أي: أنها كانت على أرجوحة بين نخلتين، والعذق بفتح العين: النخلة، والعذق بكسرها: القنو الذي هو يكون فيه الثمر.(561/12)
تراجم رجال إسناد الطريق الخامسة لحديث عائشة في قصة زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم
قوله: [حدثنا عبيد الله بن معاذ].
هو عبيد الله بن معاذ العنبري وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
أبوه معاذ بن معاذ العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد يعني ابن عمرو].
هو محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى يعني ابن عبد الرحمن بن حاطب].
يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[قال: قالت عائشة].
عائشة رضي الله عنها قد مر ذكرها.
والمؤلف ساق الأحاديث هذه في هذه الترجمة لبيان معنى الأرجوحة التي يلعب بها الصبيان، وإلا فقد سبق أن أورده في كتاب النكاح فيما يتعلق بالزواج.(561/13)
النهي عن اللعب بالنرد(561/14)
شرح حديث (من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النهي عن اللعب بالنرد.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن موسى بن ميسرة عن سعيد بن أبي هند عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله)].
أورد أبو داود رحمه الله باب اللعب بالنرد، والنرد: هو نوع من اللعب، وأصله أعجمي، وقد جاء أنه النردشير، وهو لفظ أعجمي معرب، وقد جاءت الشريعة بالنهي عنه وتحريمه.
وقد أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله) وهذا يدل على تحريمه؛ لأن فيه معصية لله ولرسوله، والشيء الذي يوصف بأنه معصية لله ورسوله لا شك أنه حرام؛ لأن الواجب هو اتباع وفعل ما شرع والانتهاء عما نهي عنه، وهذا مما نهي عنه، بل وصف بأنه معصية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.(561/15)
تراجم رجال إسناد حديث (من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن موسى بن ميسرة].
موسى بن ميسرة ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي في مسند مالك.
[عن سعيد بن أبي هند].
سعيد بن أبي هند ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي موسى الأشعري].
أبو موسى الأشعري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه عبد الله بن قيس، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وسعيد بن أبي هند لم يسمع من أبي موسى، ولكن الشيخ الألباني ذكر لهذا الحديث شواهد يكون بها معتبراً.(561/16)
سبب تحريم النرد
والتحريم لا يكون إلا لشيء فيه ضرر، ولا شك أن النرد يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ويلهي ويشغل.(561/17)
حكم اللعب بالشطرنج
الشطرنج ليس هو النرد، ولكنه جاء عن الصحابة وعن التابعين ما يدل على تحريمه، ولا نعلم فيه حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن المحاذير التي في النرد هي موجودة فيه؛ ولهذا قال النووي: والحديث حجة للشافعي والجمهور في تحريم اللعب بالنرد، وأما الشطرنج فمذهبنا أنه مكروه ليس بحرام، وهو مروي عن جماعة من التابعين، وقال مالك وأحمد: حرام، قال مالك: هو شر من النرد، وألهى عن الخير.(561/18)
شرح حديث (من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه)].
أورد أبو داود حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه)، وهذا يدل على بشاعة هذا العمل، وذلك أن غمس اليد في الدم هو في حد ذاته غير مستحسن، وغير مستساغ، ولكنه إذا كان مع ذلك في دم خنزير فيكون الأمر أعظم وأعظم، ويكون كما يقال في المثل: حشف وسوء كيلة، فهو دم ومع ذلك دم خنزير، فيكون أشد في الشناعة والخبث، وهذا يدل على تحريمه وعلى التنفير منه، وهذا التمثيل هو للتنفير، وبيان بشاعته وخبثه.(561/19)
تراجم رجال إسناد حديث (من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علقمة بن مرثد].
علقمة بن مرثد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن بريدة].
هو سليمان بن بريدة بن الحصيب وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه صحابي جليل، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(561/20)
حكم اللعب بالورق والدومنة والبلياردو وغيرها من الألعاب
والألعاب الموجودة في العصر الحاضر كالورق والدومنة والبلياردو وغيرها من الألعاب الموجودة الآن كلها مما يلهي عن ذكر الله وعن الصلاة.(561/21)
اللعب بالحمام(561/22)
شرح حديث (أن رسول الله رأى رجلاً يتبع حمامة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في اللعب بالحمام.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتبع حمامة، فقال: شيطان يتبع شيطانة)].
أورد أبو داود باب اللعب بالحمام، أي: أنه لا يسوغ اتخاذ الحمام للعب به، لكن أن يتخذ للاستفادة منه، والانتفاع به، فلا بأس بذلك وهو سائغ، ولكن أن يتخذ للعب هذا هو الذي ترجم له المصنف وأورد فيه هذا الحديث عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وفيه أنه رأى رجلاً يتبع حمامة يلعب بها، فقال: (شيطان يتبع شيطانة) فوصفه بأنه شيطان، وأن عمله من عمل الشياطين.
وقال للحمامة: إنها شيطانة، على اعتبار أنه ابتلي بها وافتتن بها، وإن كانت هي لا علاقة لها وإنما البلاء كله ممن لعب بها، ولكنه وصفها بهذا الوصف لأنها تشغله أو أنها سبب انشغاله بها.(561/23)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله رأى رجلاً يتبع حمامة)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة].
مر ذكر الثلاثة، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف المدني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق فرضي الله عنه وأرضاه.(561/24)
حكم تربية الحمام
تربية الحمام للاستمتاع به والاستئناس به وأكله لا بأس بها، وأما أن يلعب به أو يتخذه للعب فهذا هو الذي ورد فيه النهي.(561/25)
حكم وصف الإنسان بأنه شيطان
وفي هذا الحديث تسمية الإنسان بشيطان، والشيء الذي ورد يقال فيه، والشيء الذي لم يرد لا يقال؛ لأنه قد يقال في شيء لا يناسب أن يقال فيه، والناس يتفاوتون، والذي قال هذا هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلا يصلح أن كل شيء يقال لفاعله: إنه شيطان.(561/26)
حكم اتخاذ الحمام للتجارة والزينة
واتخاذ الحمام من أجل التجارة به أو للزينة ليس فيه بأس؛ فكونه يبيع ويشتري في الحمام ليس في ذلك بأس، وكذلك الزينة والاستئناس لا بأس بذلك، لكن لا يلعب به ولا يؤذيه، وإنما يحسن إليه ويعطيه ما يستحق من الطعام، فإذا احتفظ به وأبقاه عنده وحبسه عنده فإنه لا بد أن يقوم له بما يجب؛ لأن ملك اليمين يحسن إليه مطلقاً سواء كان الرقيق أو ما تملكه يمين الإنسان من الحيوانات والدواب، كل ذلك يجب عليه أن يحسن إليه.(561/27)
شرح سنن أبي داود [562]
إن الرحمة صفة من صفات الله تعالى، فمن تحلى بها من عباده في حدود قدرته شملته رحمة الله الواسعة، فالله يرحم الرحماء من عباده؛ ولرحمته سبحانه بخلقه لم يقنط المسرفين من عفوه ومغفرته، وكذا من خدوا الأخاديد للمؤمنين ورموهم فيها، هددهم بعذاب جهنم إن لم يتوبوا وهذه كلها من دلائل رحمته بخلقه، ثم ندب عباده إلى التحلي بهذه الصفة، التي تقتضي النصيحة، وستر العورات، وعدم هتك الحرمات.(562/1)
ما جاء في الرحمة(562/2)
شرح حديث (الراحمون يرحمهم الرحمن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرحمة.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومسدد المعنى قالا: حدثنا سفيان عن عمرو عن أبي قابوس مولى لـ عبد الله بن عمرو عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء) لم يقل مسدد: مولى عبد الله بن عمرو، وقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: باب في الرحمة، والمقصود بذلك أن يرحم الإنسان الخلق ويرحم الناس ويرحم الدواب والبهائم، أي: ما ينتفع به ولا يؤذي، أما ما يؤذي ولا يستحق الرحمة بل بإيذائه يستحق أن يتخلص منه مثل الحيات والعقارب وما إلى ذلك، فهذا يعمل على التخلص منه، وعلى إتلافه وقتله حتى يسلم الناس من شره، ولكن ذلك فيمن يستحق الرحمة، فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن) وهذا لأن الجزاء من جنس العمل، فكما أنهم يَرحمون يُرحمون، فحينما حصلت منهم رحمة للخلق الذين يستحقون الرحمة فجزاؤهم أن يرحمهم الله تعالى.
وقوله: (من في السماء) أي: الله، والمقصود بالسماء: العلو، والله تعالى في العلو فوق العرش، وهذا هو معنى السماء التي يقال: إن الله تعالى فيها، أي: في العلو، وكل ما علا فهو سماء، والله تعالى عالٍ على خلقه فوق عرشه، لا أنه في داخل المخلوقات، فإن المخلوقات لا تحويه سبحانه وتعالى، بل هو أعظم وأجل.
والله عز وجل لما خلق الخلق كان هو وحده وليس معه غيره، ثم خلق الخلق، وهو عز وجل مغاير لخلقه ليس حالاً فيهم وليسوا حالين فيه، وإنما هم مباينون له، والله عز وجل فوق العرش وهو في السماء، أي: في العلو، وهذا هو المقصود بقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16].
ولا يتصور أو يفهم أن المقصود بذلك السماء التي بناها الله عز وجل وخلقها وأوجدها، فالله تعالى فوقها وفوق كل شيء، وهو عالٍ على خلقه وفوق خلقه، لا يحل في المخلوقات والمخلوقات لا تحل فيه سبحانه وتعالى، هذا هو معنى السماء هنا.
ومن العلماء من قال: إن المقصود بالسماء: السماء المبنية، ولكن (في) بمعنى (على)، ويكون معنى (في السماء) أي: فوقها، ويكون نظير قول الله عز وجل: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] أي: على جذوع النخل؛ لأنه لن يصلبهم في وسط الجذوع بأن يحفر لهم ويدخلهم فيها، وإنما يصلبهم على الجذوع، فـ (في) بمعنى (على)، فإذا أريد بالسماء السماء المبنية فالله تعالى عليها، أي: فوقها وفوق كل شيء، وإن أريد بالسماء العلو فهو على بابه، والله تعالى في السماء فوق العرش بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، ليس حالاً فيهم، وليسوا حالين فيه سبحانه وتعالى.(562/3)
تراجم رجال إسناد حديث (الراحمون يرحمهم الرحمن)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
أبو بكر بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[ومسدد قالا: حدثنا سفيان].
مسدد مر ذكره، وسفيان هو ابن عيينة المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو].
هو عمرو بن دينار وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قابوس مولى لـ عبد الله بن عمرو].
أبو قابوس مولى عبد الله بن عمرو مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي.
وأبو قابوس هذا مقبول، ولكن له متابع، وللحديث شواهد من غير رواية عبد الله بن عمرو، فالحديث صحيح بشواهده وللمتابع الذي تابع أبا قابوس.
[عن عبد الله بن عمرو].
عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما صحابي جليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وهم: عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(562/4)
عناية المحدثين ودقتهم في ضبط الرواية
قوله: [لم يقل مسدد: مولى عبد الله بن عمرو].
يعني: أن الذي قال: مولى عبد الله بن عمرو هو أبو بكر بن أبي شيبة، فهو الذي انفرد بقوله: مولى عبد الله بن عمرو، وأما مسدد فقال: أبو قابوس، فقط ولم يزد عليها.
ثم أيضاً هناك فرق آخر بين مسدد وبين أبي بكر، وهو أن مسدداً في روايته عندما أوصل الحديث إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما اللفظ الذي ساقه المصنف فهو على رواية أبي بكر بن أبي شيبة، حيث قال فيه: يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل مثل هذه العبارة يأتي بها الراوي إذا لم يتحقق الصيغة التي قالها الصحابي، هل قال: سمعت، أو قال: قال رسول الله، أو قال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإذا شك فإنه يعبر بهذه العبارة ويقول: يبلغ به النبي، ومعنى ذلك: أنه مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـ أبو بكر بن أبي شيبة جاء من طريقه أن أحد الرواة لم يجزم بالصيغة التي قالها بل أتى بقوله: يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، وأما مسدد فإنه أتى بصيغة واضحة، وهي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدلنا على دقة المحدثين وعنايتهم بالألفاظ والصيغ، ومن ذلك أنهم يميزون بين من يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين من يقول: يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم.
أو يقال عنه: يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، بل أدق من هذا وأكثر احتياطاً أنهم يفرقون بين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين: قال النبي صلى الله عليه وسلم، فيقولون: فلان قال: قال النبي، وفلان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من كمال العناية، وإلا فإنه من ناحية إطلاق النبي والرسول المعنى واحد، فقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، أو قال الرسول صلى الله عليه وسلم كل ذلك واحد، ولا فرق من حيث الإطلاق، ولكن هذا للدقة، فإنهم أحياناً يميزون ويقولون: قال فلان: قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقال فلان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث مسلسل بالأولية، حيث إن كل واحد من رواته كان يقول: حدثني فلان وهو أول ما حدثني، حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه.(562/5)
شرح حديث (لا تنزع الرحمة إلا من شقي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر قال: حدثنا ح وحدثنا ابن كثير قال: أخبرنا شعبة قال: كتب إليَّ منصور، قال ابن كثير في حديثه: وقرأته عليه، وقلت: أقول: حدثني منصور؟ فقال: إذا قرأته علي فقد حدثتك به، ثم اتفقا عن أبي عثمان مولى المغيرة بن شعبة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت أبا القاسم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم صاحب هذه الحجرة يقول (لا تنزع الرحمة إلا من شقي)].
أورد أبو داود حديث أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي) والمقصود بالشقي: الكافر أو من يكون عاصياً، وهذه الشقاوة شقاوة جزئية أو شقاوة نسبية.
وهذا يدل على عظم شأن الرحمة والحث عليها والتحذير من عدم الاتصاف بها، وأن من نزعت منه الرحمة يوصف بهذا الوصف الذي جاء في هذا الحديث عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(562/6)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تنزع الرحمة إلا من شقي)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
هو حفص بن عمر النمري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[قال: حدثنا ح وحدثنا ابن كثير قال: أخبرنا شعبة].
أتى بالتحويل قبل أن يذكر من في الطبقة الثانية، وذلك للفرق بين حدثنا وأخبرنا؛ لأن الأول عبر بحدثنا، والثاني عبر بأخبرنا، ومن أجل ذلك جاء بالتحويل، أي: من أجل الصيغة فقط، وإلا فإن الاثنين شيخا أبي داود، ولكنه أتى بالتحويل من أجل أن الأول عبر بحدثنا، والثاني عبر بأخبرنا، والتفريق بين التعبير بحدثنا والتعبير بأخبرنا يدل على عناية المحدثين ومحافظتهم على الألفاظ والصيغ؛ لأن أبا داود رحمه الله أتى بالتحويل من أجل أن يقول: إن هذا قال: حدثنا، وهذا قال: أخبرنا، مع أن حدثنا وأخبرنا أحياناً يكون معناهما واحداً، وفي نفس الإسناد هذا ما يدل عليه، وذلك في الكلام الذي سيأتي بين شعبة ومنصور؛ لأنه قرأه على منصور ثم قال: أحدث عنك؟ قال: ما قرأته عليَّ إلا وأنا أريد أن تحدث به عني، ومعنى ذلك أن حدثنا تستعمل بمعنى أخبرنا؛ لأن المشهور أن ما قرئ على الشيخ يقال فيه: أخبرنا، والمشهور أن ما سمع من لفظ الشيخ يقال فيه: حدثنا، فيعبر بالمقروء على الشيخ بأخبرنا، ويعبر بالمسموع من الشيخ بحدثنا، لكن قد تستعمل حدثنا مكان أخبرنا وأخبرنا مكان حدثنا، كما هنا؛ فإن حدثنا استعملت مكان أخبرنا، كما في المحاورة التي جرت بين شعبة وبين شيخه منصور بن المعتمر.
[حدثنا ابن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: كتب إلي منصور].
هو منصور بن المعتمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال ابن كثير في حديثه: وقرأته عليه].
يعني: قرأ عليه الحديث.
[وقلت: أقول: حدثني منصور؟ فقال: إذا قرأته علي فقد حدثتك به].
يعني: أنه أقره أن يقول: حدثني، مع أن القراءة على الشيخ تسمى عرضاً، والتعبير عنها يكون بأخبرنا، ومع ذلك أجابه بأن يقول: حدثنا فيما قرأ عليه، وكما سبق أن حدثنا تأتي مكان أخبرنا، وأخبرنا مكان حدثنا، والغالب هو عدم التفريق بينهما.
[ثم اتفقا عن أبي عثمان مولى المغيرة بن شعبة].
أبو عثمان مولى المغيرة بن شعبة هو سعيد التبان وهو مقبول، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه وقد مر ذكره.
وقوله: [قال أبو هريرة: سمعت أبا القاسم الصادق المصدوق صاحب هذه الحجرة].
يعني: أنه كان يحدث وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكره بكنيته ووصفه بأنه صادق مصدوق عليه الصلاة والسلام، وذكر أنه صاحب هذه الحجرة، وهذا لتأكيد الخبر وكونه يجمع إلى وصف الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى كنيته الإشارة إلى حجرته، وأبو القاسم كنيته صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر: إن وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بالكنية حسن، وبوصف الرسالة أحسن، فكون الإنسان يقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن من أن يقول: أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وإن كان هذا حسن؛ لأن ذكره بكنيته حسن، ولكن ذكره بوصف الرسالة أحسن.(562/7)
شرح حديث (من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن السرح قالا: حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن ابن عامر عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يرويه قال ابن السرح: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبرينا فليس منا)، وهذا يدل على حصول الرحمة للصغار وعلى التوقير للكبار، ومعرفة حقهم، وإنزالهم منازلهم، وهذا فيه تحذير وترهيب من مثل هذا العمل الذي وصف بأن فاعله (ليس منا)، وهذا يدل على خطورة ذلك وعلى أنه فعل شنيع وشديد الخطورة.(562/8)
تراجم رجال إسناد حديث (من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح].
ابن أبي نجيح هو عبد الله بن يسار وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عامر].
ابن عامر قيل: اسمه عبد الرحمن وقيل: عبيد الله، وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن عبد الله بن عمرو] وقد مر ذكره.(562/9)
ما جاء في النصيحة(562/10)
شرح حديث (إن الدين النصيحة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النصيحة.
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا سهيل بن أبي صالح عن عطاء بن يزيد عن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله وكتابه ورسوله وأئمة المؤمنين وعامتهم، أو أئمة المسلمين وعامتهم)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب النصيحة، والنصيحة كلمة جامعة فيها إيصال الخير ودفع الشر، وهي من أجمع الكلمات التي يندرج تحتها كل خير مطلوب والتخلص من كل شر؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) وكأن الدين هو النصيحة؛ وذلك لعظم شأن النصيحة، وهذا مثل قوله: (الحج عرفة) ففيه تعظيم شأن عرفة، فكذلك هذا الحديث فيه تعظيم شأن النصيحة.
وقد أورد أبو داود حديث تميم بن أوس الداري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المؤمنين وعامتهم، أو قال: لأئمة المسلمين وعامتهم) وهذا شك من الراوي، وهذا الحديث من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام.
وقد أورده النووي في الأربعين النووية التي اختار فيها أربعين حديثاً من جوامع الكلم، وقد ألف كثير من العلماء مؤلفات في الأربعين، وقد ورد حديث ضعيف فيه ذكر الأربعين وهو: (من حفظ على أمتي أربعين حديثاً) ولكن الذي اشتهر هو تأليف النووي، فتأليفه هو الذي اشتهر من بين المؤلفات الكثيرة في الأربعين؛ وذلك لأن الأحاديث التي جمعها كلها من جوامع الكلم؛ لأن من العلماء من كان يجمع أربعين حديثاً في موضوع واحد، وأما النووي فقد جمعها واختارها من جوامع الكلم، وذكر اثنين وأربعين حديثاً، وزاد ابن رجب الحنبلي رحمه الله عليها ثمانية، وألف في شرحها كتابه الذي سماه: "جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم"، وهو من أحسن الكتب ومن أوضحها وأجمعها وأكثرها فوائد؛ لأنه شرح تلك الأحاديث الخمسين في مجلد كبير، وهو شرح نفيس، مشتمل على الآثار عن السلف، وعلى التحقيق في بعض المسائل؛ لأنه رحمه الله على منهج السلف وعلى طريقتهم، فشرحه نفيس جداً، لا سيما وهو مظنة لذكر الآثار.
وهذا الحديث من جملة الأحاديث التي أوردها النووي في الأربعين، ولكن النووي عزاه إلى مسلم، وفيه أنه قال: (قالها ثلاثاً) وقد وهم رحمه الله، فإن مسلماً لم يكررها، وليس فيه: (قالها ثلاثاً) وإنما الذي في صحيح مسلم أنه قال: (الدين النصيحة) مرة واحدة ولم يكررها، ولكنها مكررة عند أبي داود، ومكررة أيضاً في مستخرج أبي عوانة على صحيح مسلم، وأما صحيح مسلم فليس فيه ذكر التكرار، فقول النووي رحمه الله في الأربعين: (قالها ثلاثاً) وعزاه إلى مسلم وحده، هذا وهم من النووي رحمه الله.
وقوله: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة) كررها ثلاثاً هذا يدل على الاهتمام بها، والاهتمام بها من جهتين: من جهة أن الدين هو النصيحة، وأن هذا يدل على عظم شأن النصيحة، ثم من جهة أنه كررها ثلاثاً، فكان الاهتمام من رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة قصر المبتدأ على الخبر وهو قصر الدين على النصيحة، وهذا يدل على عظم شأن النصيحة في الدين، وهو مثل قوله: (الحج عرفة)؛ لأن أهم أعمال الحج هي عرفة، وهي التي لها وقت محدد، وإذا فات الوقوف بعرفة فات الحج، بخلاف الأركان الأخرى كالطواف والسعي فإنها ليس لها وقت محدد، فيمكن للحاج تداركها لو فاتت أو أخطأ فيها، لكن من فاته الوقوف فقد فاته الحج، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة).
إذاً: الاهتمام من جهتين: من جهة قصر المبتدأ على الخبر، ومن جهة التكرار وكونها قالها ثلاثاً.
ثم إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم سألوه: فقالوا: لمن يا رسول الله! تكون النصيحة؟ أي: ما دام هذا شأن النصيحة وهذه أهميتها فلمن تكون؟ فقال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم).
فالنصيحة لله هي: أن يعبد العبد ربه ولا يشرك به شيئاً، ويوحده في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، فيؤمن بربوبية الله وأنه رب كل شيء، ومليك كل شيء، وخالق كل شيء، وأنه المألوه الذي يعبد وتصرف له العبادة وحده، ولا يشرك معه أحداً فيها؛ لأن توحيد الربوبية هو توحيد الله في أفعاله، ككونه خالقاً رازقاً محيياً مميتاً، فهو سبحانه وتعالى واحد لا شريك له فيها، فيجب توحيد الله تعالى في أفعاله وأنه لا شريك له في أفعاله التي هي الخلق والرزق والإحياء والإماتة ونحوها.
وتوحيد الألوهية: هو توحيد الله في أفعال العباد، فتكون أفعال العباد التي يتعبد بها ويتقرب بها خالصة لله عز وجل، كالدعاء والخوف والرجاء والذبح والنذر والاستغاثة والاستعانة والتوكل وغير ذلك من أنواع العبادة، فكلها لابد أن تكون خالصة لله سبحانه وتعالى.
وتوحيد الأسماء والصفات: أن يثبت لله عز وجل كل ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام من الأسماء والصفات، ولكن هذا الإثبات يكون على ما يليق بالله سبحانه وتعالى إثباتاً ليس معه تشبيه، وتنزيهاً ليس معه تعطيل؛ لأن الذين انحرفوا عن عقيدة أهل السنة والجماعة في الصفات منهم من أثبت وشبه، فلم يحصل منه التنزيه، ومنهم من نزه فلم يثبت خوفاً من التشبيه فعطل، وأهل السنة والجماعة أثبتوا ونزهوا كما قال الله عز وجل عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فأثبت السمع والبصر في قوله: (وهو السميع البصير)، ونفى المشابهة بقوله: (ليس كمثله شيء)، فله سمع لا كالأسماع، وبصر لا كالأبصار، وهكذا يقال في جميع الصفات، فما يضاف إلى الله عز وجل من الصفات يختص به، فلا يشبه الخلق في صفاتهم، ولا الخلق يشبهون الله عز وجل في صفاته، بل صفات الباري تليق بكماله وجلاله، وصفات المخلوقين تليق بضعفهم وافتقارهم إلى الله سبحانه وتعالى.
فالنصيحة لله هي عبادته وعدم الإشراك به وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وتوحيده في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، وكلها تندرج تحت قوله صلى الله عليه وسلم في وصيته لـ ابن عباس: (احفظ الله يحفظك) أي: قم بما يجب عليك نحو ربك من كل ما هو مطلوب منك وجزاؤك على ذلك أن يحفظك الله.
قوله: (ولكتابه)، وهو هذا الكتاب المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بأن يقرأه المسلم، ويتعبد الله بتلاوته، ويعمل بأوامره ويجتنب نواهيه، ويعلم أنه كلام الله، وأنه منزل من عنده، وأنه مشتمل على ما فيه الخير والسعاد لهذه الأمة مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (ولرسوله) رسوله هو محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك بالإيمان به وتصديقه، وأنه جاء بالحق من عند الله، وأنه دل الناس على كل خير، وبلغ البلاغ المبين، وما ترك أمراً يقرب إلى الله إلا ودل الأمة عليه، وما ترك أمراً يباعد من الله إلا وحذر منه، وقد بلغ البلاغ المبين، قال الزهري رحمة الله عليه كما ذكره البخاري عنه في الصحيح: من الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم.
فالذي من الله قد حصل؛ لأنه قد أرسل، وعلى الرسول البلاغ وقد بلغ البلاغ المبين، وعلينا التسليم، وهنا ينقسم الناس إلى موفق وغير موفق: موفق يسلم ويستسلم وينقاد، وغير موفق يحصل منه الانحراف وعدم الانقياد والاستسلام، فالموفق يشهد بأنه رسول الله حقاً، وأنه أفضل الرسل، وأنه جاء بالحق والهدى، وأن من أخذ بما جاء به فقد ظفر بسعادة الدنيا والآخرة، ومن أعرض عما جاء به فإنه يخسر الدنيا والآخرة، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).
قوله: (ولأئمة المسلمين) وهم ولاة أمر المسلمين، والنصح لهم يكون بدلالتهم على الخير، والدعاء لهم، وترك الخروج عليهم ولو كانوا جائرين، وبذل النصح لهم، وغير ذلك مما هو مطلوب في حق الرعية للراعي والوالي؛ ولهذا جاء عن جماعة من السلف بيان ما يدل على عظم شأن الدعاء للولاة والنصح لهم، وذلك أنه يحصل بصلاحهم إذا صلحوا الخير الكثير؛ فقد جاء عن الإمام أحمد وعن الفضيل بن عياض أن كل واحد منهما قال: لو كان لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان.
لأنه حينئذ سوف ينفع الناس ويصلحهم، ومعلوم أن الراعي إذا صلح فإن الأمور تصلح بصلاحه.
وكذلك من طريقة أهل السنة والجماعة الدعاء للولاة وعدم الدعاء عليهم، وعلامة أهل السنة أنهم يدعون للولاة، وعلامة أهل البدع أنهم يدعون على الولاة.
قوله: (وعامتهم) أي: عامة المسلمين، وذلك بالنصح لهم ودلالتهم على الخير وإعانتهم عليه، وإرادة الخير لهم، ودفع الشر عنهم، وغير ذلك من الأمور التي يشملها النصح لعامة المسلمين، وهذا حديث عظيم من جوامع كلم الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(562/11)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الدين النصيحة)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وهذا هو الذي وصفه الإمام أحمد بأنه شيخ الإسلام.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سهيل بن أبي صالح].
سهيل بن أبي صالح صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة، ورواية البخاري له مقرونة؛ ولهذا لم يرو البخاري عنه هذا الحديث؛ لأن فيه سهيلاً وليس على شرطه، ولكنه أورد تحته حديث جرير بن عبد الله البجلي المتفق على صحته (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم)، فإنه قال: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟! قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) وذكره إياه في ترجمة باب يدل على صحته عنده، لكنه لم يورده في الصحيح مسنداً؛ لأنه ليس على شرطه؛ لأن سهيل بن أبي صالح ليس ممن خرج لهم استقلالاً، بل خرج له متابعة.
[عن عطاء بن يزيد].
هو عطاء بن يزيد الليثي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن تميم الداري].
هو تميم بن أوس الداري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.(562/12)
شرح حديث جرير (بايعت رسول الله على السمع والطاعة وأن أنصح لكل مسلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن عون حدثنا خالد عن يونس عن عمرو بن سعيد عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن جرير رضي الله عنه قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة وأن أنصح لكل مسلم، قال: وكان إذا باع الشيء أو اشتراه قال: أما إن الذي أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناك فاختر)].
أورد أبو داود حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة والنصح لكل مسلم) والرواية التي في الصحيحين: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم).
والسمع والطاعة تكون لولاة الأمر وذلك بالمعروف، كما جاء ذلك في الأحاديث التي ذكرت أن السمع والطاعة إنما يكون في المعروف.
قوله: (والنصح لكل مسلم) هذا هو محل الشاهد وهو ذكر النصيحة، وفيه بيان عمومها وشمولها، وأنها تكون لكل مسلم سواء كان راعياً أو مرعياً.
وكان من إتمام التزامه رضي الله عنه بمبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم أنه كان إذا اشترى شيئاً يقول لصاحبه: إن الذي اشترينا منك أحب إلينا مما دفعنا إليك فاختر، أي: إذا كنت تريد أن ترجع فارجع؛ وهذا كله تنفيذاً لقوله: (والنصح لكل مسلم)، وهذا يدل على كمال انقياد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لما يتلقونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم كانوا يستسلمون وينقادون وينفذون ويقومون بتطبيق السنن التي يروونها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا اشترى شيئاً يقول للبائع: إن ما أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناك فاختر، فإن شئت أن ترجع فارجع.(562/13)
تراجم رجال إسناد حديث جرير (بايعت رسول الله على السمع والطاعة وأن أنصح لكل مسلم)
قوله: [حدثنا عمرو بن عون].
عمرو بن عون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا خالد].
هو خالد بن عبد الله الطحان الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يونس].
هو يونس بن عبيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن سعيد].
عمرو بن سعيد ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن جرير].
أبو زرعة بن عمرو بن جرير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو يروي عن جده جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، وهو صحابي جليل أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قال الحافظ في ترجمته: وروى الطبراني في ترجمته -يعني جريراً - أن غلامه اشترى له فرساً بثلاثمائة، فلما رآه جاء إلى صاحبه فقال: إن فرسك خير من ثلاثمائة، فلم يزل يزيده حتى أعطاه ثمانمائة!!(562/14)
ما جاء في المعونة للمسلم(562/15)
شرح حديث (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المعونة للمسلم.
حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة المعنى قالا: حدثنا أبو معاوية قال عثمان: وجرير الرازي ح وحدثنا واصل بن عبد الأعلى حدثنا أسباط عن الأعمش عن أبي صالح وقال واصل: قال: حُدثت عن أبي صالح ثم اتفقوا: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).
قال أبو داود: لم يذكر عثمان عن أبي معاوية: (ومن يسر على معسر)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى باباً في المعونة للمسلم، أي: في فضل ذلك، وعظم الأجر في ذلك من الله عز وجل، والمعونة هي أن يعينه، سواء كانت الإعانة بدنية بأن يحمل له شيئاً يحسن إليه، ويعينه في مهمة هو مكلف بها، أو غير ذلك مما يدخل في العون، وهو لفظ عام.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة).
والكربة: هي الضيق والشدة التي تحصل للإنسان، فينفس المسلم على أخيه المسلم تلك الكربة التي حلت به، وذلك الضيق الذي حصل له، فيكون عوناً له فينفس عنه فهذا عمل حسن، والجزاء من جنس العمل، وهو أن الله تعالى ينفس عنه كربة من كرب يوم القيامة؛ لأن العمل تنفيس في الدنيا والجزاء تنفيس في الآخرة.
(ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) وهذا أيضاً يدخل تحت تنفيس الكربة؛ لأن الكربة التي تصيبه قد يكون سببها ما عنده من إعسار وضيق وشدة فيحتاج إلى أخيه المسلم، فيعينه فيزول عنه ذلك العسر والضيق الذي حصل له.
وقوله: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) وهذا من باب الجزاء من جنس العمل؛ لأن العمل في الدنيا تيسير والجزاء تيسير في الدنيا والآخرة.
قوله: (ومن ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة) وهذا كذلك العمل ستر والجزاء ستر، والجزاء من جنس العمل، والستر فيه تفصيل: فيستر من وقع في زلة، أو أقدم على خطأ وليس معروفاً به، أما من كان معروفاً بالشر والفسق والمعاصي فإنه لا يستر مثل صاحب الزلة، بل يرفع أمره إلى من يقوم بردعه والحيلولة بينه وبين الاستمرار على ما هو عليه من الباطل.
قوله: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) هذا هو محل الشاهد من الحديث، والذي تقدم كله يدخل في العون؛ لأن تنفيس الكربة عون، والتيسير على المعسر عون، وستر الإنسان على من يستحق الستر يعتبر عوناً له، وقد يكون ذلك سبباً في إقلاعه عن الذنب، وسبباً في صلاحه وابتعاده عن الوقوع مرة أخرى في تلك الورطة التي وقع فيها.(562/16)
تراجم رجال إسناد حديث (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)
قوله: [حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة].
أبو بكر هو عبد الله بن محمد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
وأخوه عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا أبو معاوية].
هو محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال عثمان: وجرير الرازي].
يعني: أن عثمان -وهو الشيخ الثاني لـ أبي داود في هذا الإسناد- رواه عن شيخين، وأما أبو بكر فقد رواه عن شيخ واحد، وقد اتفقا في روايته عن أبي معاوية، ولكن عثمان زاد أيضاً أنه رواه عن جرير بن عبد الحميد الضبي الرازي، فروايته للحديث عن شيخين، وأما أخوه أبو بكر فروايته عن شيخ واحد، وجرير بن عبد الحميد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا واصل بن عبد الأعلى].
واصل بن عبد الأعلى ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا أسباط].
هو أسباط بن محمد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
أبو صالح هو ذكوان السمان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وقال واصل: قال: حدثت عن أبي صالح].
أي: قال واصل عن الطريق الأخيرة: قال الأعمش: حدثت عن أبي صالح، أي أن هناك واسطة غير مذكورة.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
[قال أبو داود: لم يذكر عثمان عن أبي معاوية (ومن يسر على معسر)].
أي: أن عثمان بن أبي شيبة في روايته عن أبي معاوية ليس فيها هذه الجملة، وإنما فيها قضية التيسير والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، ولكنها مذكورة في رواية جرير الرازي.(562/17)
شرح حديث (كل معروف صدقة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة رضي الله عنه قال قال نبيكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (كل معروف صدقة)].
أورد أبو داود حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال: نبيكم صلى الله عليه وسلم: (كل معروف صدقة) وهذا لفظ عام يشمل الإعانة، والتيسير، وتنفيس الكرب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكل شيء فيه خير ومعروف؛ لأن (كل معروف) المقصود به كل ما هو في مقابل المنكر، بحيث إن الإنسان يحسن إلى أخيه سواء كان بإعانته بفعله، أو بجاهه، أو بماله، أو بأي وسيلة من وسائل النفع؛ فإن ذلك كله صدقة، وقد جاء في بعض الأحاديث ما يفسر ذلك حيث قال: (والكلمة الطيبة صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة إلخ) وكل هذا من أنواع المعروف.(562/18)
تراجم رجال إسناد حديث (كل معروف صدقة)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
هو الثوري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي مالك الأشجعي].
أبو مالك الأشجعي هو سعد بن طارق، وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ربعي بن حراش].
ربعي بن حراش ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حذيفة].
هو حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي جليل أخرج له أصحاب الكتب الستة.(562/19)
شرح سنن أبي داود [563]
إن من حسن تربية الولد اختيار الاسم الحسن له، ولذا وردت الأخيار بأن أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن؛ لأنهما لا يطلقان إلا على الله، أي: اسم (الله) و (الرحمن)، ثم كانت أبغض الأسماء في شريعتنا ما فيها تزكية لصاحبها كـ (شاه شاه) أي: ملك الملوك، أو قاضي القضاة؛ ولذا غير النبي صلى الله عليه وسلم اسم زينب عند أن كان اسمها برة، وفيه نوع من التزكية.(563/1)
ما جاء في تغيير الأسماء(563/2)
شرح حديث (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في تغيير الأسماء.
حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا ح وحدثنا مسدد قال: حدثنا هشيم عن داود بن عمرو عن عبد الله بن أبي زكريا عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم).
قال أبو داود: ابن أبي زكريا لم يدرك أبا الدرداء].
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب في تغيير الأسماء، وأورد تحتها حديثين ليس فيهما ذكر التغيير، وإنما فيهما ذكر الأسماء، فلا أدري كلمة (تغيير) ثابتة في الأصل، أم أنها زيادة خاطئة؛ لأن في الباب الذي بعده تغيير الأسماء القبيحة، وأما هنا فالترجمة في الأسماء فقط، فلعل الترجمة: باب في الأسماء، أي: أنه يسمى بالأسماء الحسنة، وليس فيه ذكر تغيير ولا تعرض للتغيير، وإنما التغيير في الباب الذي يليه، وبعض النسخ كنسخة عون المعبود ونسخ أخرى فيها هذه الترجمة، لكن ذكر التغيير هنا ليس بواضح؛ لأنه لا ذكر للتغيير في الأحاديث، بل التغيير إنما هو في الباب الذي يليه، وأما هذا فليس فيه سوى ذكر الأسماء، وبيان ما يستحسن منها.
وقد أورد أبو داود حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم) وهذا خطاب للآباء بأن يحسنوا أسماء الأولاد؛ لأن التسمية إنما تحصل من الآباء للأولاد، والإنسان لا يسمي نفسه وإنما يسميه أبوه ويسميه أهله، ثم ينشأ على هذا الاسم، فالإرشاد هنا إنما هو للآباء بأن يحسنوا أسماء الأبناء، لكن الحديث فيه انقطاع -كما أشار إليه أبو داود - بين ابن أبي زكريا وأبي الدرداء، فهو منقطع، ولكن لا شك أن حسن اختيار اسم الابن أن هذا أمر مطلوب، وذكر الأسماء القبيحة والأسماء المستنكرة لا يسوغ أو لا يصلح.(563/3)
تراجم رجال إسناد حديث (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم)
قوله: [حدثنا عمرو بن عون].
عمرو بن عون ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ح وحدثنا مسدد قال: حدثنا هشيم].
جاء التحويل قبل ذكر الشيخ الثاني؛ لأن المقصود من ذلك التغاير في الصيغة بين الشيخ الأول والشيخ الثاني؛ لأن الأول قال أخبرنا والثاني قال حدثنا، فالتحويل من أجل الاختلاف في الصيغة.
[قال: حدثنا مسدد].
مسدد ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن داود بن عمرو].
داود بن عمرو صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود.
[عن عبد الله بن أبي زكريا].
عبد الله بن أبي زكريا ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن أبي الدرداء].
هو أبو الدرداء عويمر رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وقد ورد حديث: (إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم ستراً منه على عباده)، وهو غير ثابت، ولم يثبت في ذكر الأمهات شيء.
وكذا حديث: (إذا مات أحدكم من إخوانكم فسويتم التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة فإنه يسمعه ولا يجيبه) غير صحيح، ولم يثبت في التلقين بعد الموت شيء.(563/4)
شرح حديث (أحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن زياد سبلان حدثنا عباد بن عباد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن)، وهذا فيه بيان أن هذين الاسمين هما أحب الأسماء إلى الله، و (الله) و (الرحمن) وهذان من أسماء الله الحسنى، والأسماء الحسنى كثيرة، ولكن خص بالذكر منها هذان الاسمان لأنهما لا يطلقان إلا على الله؛ لأن من أسماء الله ما لا يطلق إلا عليه، ومنها ما يطلق على الله تعالى وعلى غيره، مع أن الصفة التي في الاسم والمضافة إلى الله عز وجل تختلف عما يضاف إلى المخلوقين؛ لأن صفات الباري كما يليق به، وصفات المخلوقين كما يليق بهم، ومن الأسماء التي لا يسمى بها إلا الله ولا يسمى به غيره: لفظ الجلالة (الله) والرحمن؛ لأن الله لا يطلق إلا على الله ولا يسمى به إلا الله، وكذلك الرحمن لا يطلق إلا على الله، بخلاف الرحيم فإنه يطلق على غيره، كما جاء في القرآن في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فوصفه بأنه رحيم، لكن لم يصفه بأنه رحمن؛ لأن الرحمن إنما يضاف إلى الله عز وجل ويسمى به الله عز وجل، ولهذا أطلق على مسيلمة الكذاب رحمن اليمامة، ولكنه ظفر بلقب صار اسماً مركباً لا ينفك عنه كما لا ينفك الوصف عن الموصوف وهو الكذاب، فيقال: مسيلمة الكذاب فلا يذكر مسيلمة وحده، إنما يميز بكلمة الكذاب، فصار ذلك ملازماً له، وقالوا: إنه كان يقال له: رحمن اليمامة.(563/5)
تراجم رجال إسناد حديث (أحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن زياد سبلان].
إبراهيم بن زياد سبلان، وسبلان لقب له فذكر اسمه واسم أبيه ولقبه، وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عباد بن عباد].
عباد بن عباد ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم العمري المصغر وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(563/6)
شرح حديث (تسموا بأسماء الأنبياء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا هشام بن سعيد الطالقاني أخبرنا محمد بن المهاجر الأنصاري قال: حدثني عقيل بن شبيب عن أبي وهب الجشمي رضي الله عنه وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة)].
هذه كلها أسماء فقط لا تغيير فيها، إذاً: كلمة (تغيير) في التبويب فيها مشكلة وغير واضحة، ولا يجزم بثبوتها؛ لأنه لم يرد ذكر التغيير في تلك الأحاديث كلها، وإنما التغيير في الباب الذي يليه.
وقد أورد أبو داود حديث أبي وهب الجشمي رضي الله عنه وكانت له صحبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة).
قوله: (تسموا بأسماء الأنبياء) جاء من هذه الطريق، وأما الألفاظ الأخرى التي جاءت بلفظ: الأحب والأصدق والأقبح، فقد جاءت في أحاديث أخرى، ولهذا ضعف الألباني هذه الجملة التي جاءت من هذا الطريق؛ لأن في إسنادها رجلاً ضعيفاً، وأما الجمل الأخرى فقد جاءت فيها أحاديث أخرى شاهدة لها ودلت على ما دل عليه هذا الحديث.
والتسمي بأسماء الأنبياء لا شك أنه سائغ، ولكن الشأن فيما هو مأمور به، والرسول صلى الله عليه وسلم سمى باسم إبراهيم، ولما ولد له إبراهيم ابنه قال عليه الصلاة والسلام: (ولد الليلة لي غلام فسميته باسم أبي إبراهيم)، ففيه التنصيص على أنه سماه باسم أبيه إبراهيم، وأيضاً أبو موسى الأشعري لما جاء بولد له فحنكه وسماه إبراهيم، لكن لا أعرف هل قال النبي عليه الصلاة والسلام باسم أبينا إبراهيم أو باسم إبراهيم؟ ولكن فيما يتعلق بابنه إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال: (ولد الليلة لي غلام فسميته باسم أبي إبراهيم).
وأما قوله: (أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن)، فهذا مر في الحديث الصحيح الذي قبل هذا.
قوله: (وأصدقها حارث وهمام)، هذا من ناحية مطابقة الاسم للمسمى؛ لأن الإنسان حارث كاسب ومتحرك وعامل، وهمام أي: صاحب هم، وهذه من صفات في الإنسان.
قوله: (وأقبحها حرب ومرة)؛ لأن الحرب فيها دمار وهلاك، ومرة من المرارة، ولفظ الاسم قد يشعر بالمسمى، فيكون في ذلك قبحاً أو سوءاً، وفيه دليل على أن مثل ذلك غيره أولى منه.(563/7)
تراجم رجال إسناد حديث (تسموا بأسماء الأنبياء)
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هو هارون بن عبد الله الحمال البغدادي وهو ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا هشام بن سعيد الطالقاني].
هشام بن سعيد الطالقاني صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي.
[أخبرنا محمد بن المهاجر الأنصاري].
محمد بن المهاجر الأنصاري ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني عقيل بن شبيب].
عقيل بن شبيب مجهول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي.
[عن أبي وهب الجشمي].
أبو وهب الجشمي رضي الله عنه، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي.
وليس في الحديث الحث على التسمي بهمام والحارث، ولكن فيه بيان صدقهما، وأنه إذا سمي بهما فإنه اسم مطابق للواقع، والحث هو فيما هو أحب إلى الله، ويجوز التسمية بأسماء الأنبياء وبأسماء الصحابة، مع معرفة أن الأنبياء لا يساويهم ولا يدانيهم أحد، والصحابة هم خير الناس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات وسلامه وبركاته عليهم أجمعين، والتسمية بابها واسع، سواء كانت بأسماء الأنبياء، أو من بأسماء الصحابة، أو بغير ذلك.(563/8)
شرح حديث تحنيك النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي طلحة وتسميته
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: (ذهبت بـ عبد الله بن أبي طلحة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين ولد، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في عباءة يهنأ بعيراً له، قال: هل معك تمر؟ قلت: نعم، قال: فناولته تمرات فألقاهن في فيه، فلاكهن ثم فغر فاه، فأوجرهن إياه، فجعل الصبي يتلمظ، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: حب الأنصار التمر، وسماه عبد الله)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه ذهب بأخيه لأمه عبد الله بن أبي طلحة لما ولد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليحنكه، ووجده يهنأ بعيراً، أي: يطليه بقطران لجرب فيه، فقال: أمعك تمر؟ قال: نعم، فأخذهن النبي صلى الله عليه وسلم ولاكهن في فيه حتى صار ذلك التمر سائلاً، ثم فغر فم الصبي، ووضعها في فمه، قال: (فأوجرهن) أي: أنه وضعها في حلقه ودلكه، والوجور هو ما يصب في الحلق، والسعوط: هو ما يوضع في الأنف، وأما الفعل فيقال: وُجور وسعوط، مثل طَهور وطُهور ووَضوء ووُضوء، وغيرها من الألفاظ التي تأتي بفتح وضم أولها، فيراد بالمفتوح الشيء الذي يستعمل، والمضموم يراد به الاستعمال، أو نفس الفعل؛ فأوجرهم أي: وضعهن في حلقه ودلكها.
قوله: (فجعل الصبي يتلمظ) أي: يحرك لسانه في فمه يتتبع تلك الحلاوة.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حِبُ الأنصار التمر) قال النووي: روي بالكسر وروي بالضم، فعلى الكسر (حِب) بمعنى محبوب، مثلما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن زيداً حِبه وأسامة حبه، أي: محبوبه، فيكون معنى قوله: (حب الأنصار التمر) أي: محبوب الأنصار التمر، أو: حب الأنصار التمر حاصل أو واقع في التمر.
قوله: (وسماه عبد الله) أي: حنكه وسماه عبد الله.
ومما ينبغي أن يعلم: أن التحنيك لا يصلح أن يقصد به أحد من أجل فضله ليحنك؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ما فعلوا هذا إلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما فعلوه مع أبي بكر ولا مع عمر ولا مع عثمان ولا مع علي، وهم خير الناس، إذاً: لا يصلح أن يقصد بعض الناس من أجل التبرك بريقه، ورجاء البركة من ريقه ليكون في فم ذلك الصبي، بل يحنكه أبوه أو أمه أو أخته أو جدته أو أي أحد من أقاربه، ولا يقصد به أحد من الناس لفضله من أجل أن يحنك؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم -كما ذكر ذلك الشاطبي في الاعتصام- ما فعلوا هذا مع خير الناس بعد الأنبياء والمرسلين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فدل هذا على أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم يتبرك بما لامس جسده، ولهذا كان الصحابة يتبركون ببصاقه وبفضل وضوئه، وبشعره، وبما من جسده صلى الله عليه وسلم، وما كان ذلك يفعل مع غيره عليه الصلاة والسلام.
إذاً: هذا من خصائصه، ولهذا لا يجوز أن يعمل ذلك مع غيره بأن يتبرك بعرقه أو بشيء مما مس جسده، ولا يكون هذا في غير رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وقد سماه عبد الله بن أبي طلحة الذي هو اسم من أحب الأسماء إلى الله، كما جاء في الحديث المتقدم: (أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن).
وأنس هو أخوه لأمه؛ لأن أبا طلحة هو زوج أم سليم التي هي أم أنس، وعبد الله هذا ابنها من أبي طلحة، فهو أخوه لأمه.(563/9)
تراجم رجال إسناد حديث تحنيك النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي طلحة وتسميته
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد بن سلمة].
هو حماد بن سلمة بن دينار البصري، وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس رضي الله عنه خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الإسناد رباعي من أعلى الأسانيد عن أبي داود رحمه الله.(563/10)
شرح سنن أبي داود [564]
غير النبي صلى الله عليه وسلم جملة من الأسماء القبيحة التي اعتاد أهل الجاهلية التسمي بها، وأرشدهم في المقابل إلى ضد ذلك من الأسماء الجميلة؛ لأن المسمى قد يكون له نصيب من اسمه، كما أرشد عليه الصلاة والسلام إلى ترك أسماء فيها تزكية للنفس، أو تدل على نفي الفلاح أو النجاح عند النفي، مثل اسم أفلح ونجاح ويسار وبركة ونحوها.(564/1)
ما جاء في تغيير الاسم القبيح(564/2)
شرح حديث (أن رسول الله غير اسم عاصية وقال: أنت جميلة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في تغيير الاسم القبيح.
حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد قالا: حدثنا يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اسم عاصية وقال: أنت جميلة)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في تغيير الاسم القبيح] يعني: أنه يغير الاسم إذا كان قبيحاً إلى حسن، وأورد أبو داود في الباب عدة أحاديث أولها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي غير اسم عاصية وقال: أنت جميلة) يعني سماها جميلة بدل عاصية؛ وذلك أن عاصية يشعر بالعصيان والمعصية، وهذا شيء غير حسن، ولم يقل: مطيعة؛ لأنه قد يكون فيه تزكية، ولكن قال: جميلة.(564/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله غير اسم عاصية وقال: أنت جميلة)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ومسدد عن يحيى].
مسدد مر ذكره.
ويحيى هو ابن سعيد القطان البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر].
وقد مر ذكر الثلاثة.(564/4)
شرح حديث (لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عيسى بن حماد أخبرنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء: (أن زينب بنت أبي سلمة رضي الله عنهما سألته: ما سميت ابنتك؟ قال: سميتها برة، فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن هذا الاسم، سميت برة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم، فقالوا: ما نسميها؟ قال: سموها زينب)].
أورد أبو داود حديث زينب بنت أبي سلمة رضي الله تعالى عنها أنها سألت محمد بن عمرو بن عطاء عن اسم بنته فقال: اسمها برة، فقالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وأنها هي نفسها سميت برة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزكوا أنفسكم)؛ لأن كلمة برة من البر فقالوا: (ما نسميها؟ قال: زينب) فسميت زينب.
وهذا من أجل التزكية وذاك من أجل قبح المعنى، وهذا الاسم ليس قبيحاً، ولكن فيه تزكية، فقبحه ليس من ناحية الشين، وإنما من جهة المبالغة.(564/5)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم)
قوله: [حدثنا عيسى بن حماد].
عيسى بن حماد هو زغبة وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أخبرنا الليث].
الليث بن سعد المصري وهو ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن أبي حبيب].
يزيد بن أبي حبيب المصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني صدوق أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن عمرو بن عطاء].
محمد بن عمرو بن عطاء ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زينب بنت أبي سلمة].
زينب بنت أبي سلمة رضي الله عنها ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(564/6)
شرح حديث (قال: أنا أصرم، قال: بل أنت زُرعة) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا بشر -يعني: ابن المفضل - قال: حدثني بشير بن ميمون عن عمه أسامة بن أخدري رضي الله عنه: (أن رجلاً يقال له: أصرم كان في النفر الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ قال: أنا أصرم، قال: بل أنت زرعة)].
أورد أبو داود حديث أسامة بن أخدري رضي الله عنه، أنه كان في النفر الذين جاءوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل سأله النبي عن اسمه فقال بأن اسمه أصرم، فقال: بل أنت زرعة؛ وذلك أن أصرم من القطع، والصرم هو القطع، فأبدله باسمه اسماً جميلاً فيه خضرة وجمال وزرع في مقابل ذلك الاسم الذي فيه القطع والبتر.
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا بشر -يعني: ابن المفضل -].
بشر بن المفضل ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني بشير بن ميمون].
بشير بن ميمون صدوق أخرج له أبو داود.
[عن عمه أسامة بن أخدري].
أسامة بن أخدري رضي الله عنه صحابي أخرج له أبو داود.
والإسناد رباعي، وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(564/7)
شرح حديث (قال: فأنت أبو شريح)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الربيع بن نافع عن يزيد -يعني: ابن المقدام بن شريح - عن أبيه عن جده عن أبيه هانئ رضي الله عنه: (أنه لما وفد إلى رسول صلى الله عليه وآله وسلم مع قومه سمعهم يكنونه بـ أبي الحكم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن الله هو الحكم، وإليه الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟ فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أحسن هذا، فما لك من الولد؟ قال: لي شريح ومسلم وعبد الله، قال: فمن أكبرهم، قلت: شريح، قال: فأنت أبو شريح).
قال: أبو داود: شريح هذا هو الذي كسر السلسلة، وهو ممن دخل تستر.
قال أبو داود: وبلغني أن شريحاً كسر باب تستر؛ وذلك أنه دخل من سرب].
أورد أبو داود حديث هانئ بن يزيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يكنى أبا الحكم فسأله عن ذلك فبين السبب في ذلك، وأن قومه كانوا إذا اختلفوا رجعوا إليه فحكم بينهم فرضوا بحكمه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أحسن هذا، ولكن الله تعالى هو الحكم وإليه الحكم) ثم سأله عن أولاده، فقال: شريح ومسلم وعبد الله قال: (من أكبرهم؟ قال: شريح قال: أنت أبو شريح).
فدل هذا على أن الكنية التي فيها محذور فإنها أيضاً تغير كالاسم؛ لأن اسمه هانئ بن يزيد وهانئ اسم باق ما حصل فيه شيء، وإنما الذي حصل في الكنية كونه أبا الحكم، فكناه النبي صلى الله عليه وسلم بأكبر أولاده.
ودل الحديث على أن التكنية تكون بالكبير؛ لأن الإنسان أول ما يولد له يكنى بذلك المولود الذي ولد له، وقد تحصل التكنية بالصغير، وقد تحصل بدون مولود، مثل قصة: (يا أبا عمير ما فعل النغير)، فهذا طفل صغير كانوا يكنونه أبا عمير، وكذلك أيضاً أبو بكر رضي الله عنه ليس له ولد اسمه بكر وعمر ليس له ولد اسمه حفص، وخالد بن الوليد ليس له ولد اسمه سليمان، وكلهم يكنون بهذه الكنى، فإن التكنية تكون بالمولود الكبير، وقد تكون بغيره فتكون مشهورة، مثلما اشتهر هانئ بن يزيد بأنه أبو الحكم لسبب من الأسباب وليس باسم ولد له، فإن الكنية قد تكون بغير ولد.
وفي هذا دليل على أن التكنية تكون بالاسم الكبير وإن كني الشخص من أول الأمر وهو صغير وغلبت عليه تلك الكنية فلا بأس بها ما لم يكن فيها محذور.(564/8)
تراجم رجال إسناد حديث (قال: فأنت أبو شريح)
قوله: [حدثنا الربيع بن نافع].
الربيع بن نافع ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن يزيد -يعني: ابن المقدام بن شريح -].
يزيد بن المقدام بن شريح صدوق أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبيه].
ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن جده شريح].
جده شريح بن هانئ ثقة مخضرم أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه هانئ].
هانئ بن يزيد صحابي أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وهذا من التسلسل في الأسماء المتناسلة؛ لأنها في أربعة أشخاص، فهذا يروي عن أبيه، وهذا عن أبيه، وهذا عن أبيه، وهذا عن أبيه كلهم متناسلون إلا الراوي الأول وهو الربيع بن نافع والباقون كلهم متناسلون.
[قال أبو داود: شريح هذا هو الذي كسر السلسلة وهو ممن دخل تستر].
كسر السلسلة في تستر حيث دخل من سرب؛ فكسر السلسلة، وفتح الباب من الداخل.(564/9)
شرح حديث (قال: أنت سهل، قال: لا السهل يوطأ ويمتهن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: ما اسمك؟ قال: حزن، قال: أنت سهل، قال: لا السهل يوطأ ويمتهن، قال: سعيد فظننت أنه سيصيبنا بعده حزونة)].
أورد أبو داود حديث حزن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم جد سعيد بن المسيب أنه جاء إلى النبي فقال: (ما اسمك؟ فقال: حزن، قال: أنت سهل)، يعني: ضده؛ لأن الحزن ضده السهل، فالحزن فيه شدة وهو في مقابل السهل، والحزن هو الوعر، فقال: (السهل يوطأ ويمتهن) فقال سعيد: (فظننت أنه سيصيبنا بعده حزونة) يعني شدة: نتيجة للبقاء والمحافظة على الاسم، وكما يقولون: الاسم يدل على المسمى، وهذا ليس بغالب.
وبعض الناس يعبرون يقولون: لكل من اسمه نصيب، وهذا أيضاً ليس بغالب، بل يكون الاسم من أحسن الأسماء، ولكن صاحبه من أقبح وأسوأ الناس.(564/10)
تراجم رجال إسناد حديث (قال: أنت سهل، قال لا السهل يوطأ ويمتهن)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
واسم صالح ليس فيه تزكية، فهو اسم نبي الله، لكنه لا يخلو، لكن الشيء الذي سمي به أنبياء لا يقال بأنه يغير، ولا أدري هل في الصحابة من اسمه صالح أو لا.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة فقيه أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
المسيب وهو صحابي أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبيه حزن].
وهو صحابي أخرج له البخاري وأبو داود.(564/11)
حكم تغيير الأسماء
أما عن حكم تغيير الأسماء التي فيها تزكية أو الأسماء القبيحة فكما هو معلوم أن بعض الأسماء مثلما جاء في حزن فقد بقي على ذلك الاسم وما تغير، والرسول صلى الله عليه وسلم أرشده إلى ذلك؛ لكن بعض الأسماء التي فيها قبح مثل عاص أو عاصية فهو مما تنفر منه الطباع، وعلى كل إن لم يكن واجباًَ فهو متأكد، خصوصاً مثل هذا الذي يدل على لفظ السوء.(564/12)
أسماء غيرها النبي صلى الله عليه وسلم
[قال أبو داود: وغير النبي صلى الله عليه وآله وسلم اسم العاص وعزيز وعتلة وشيطان والحكم وغراب وحباب وشهاب فسماه هشاماً، وسمى حرباً سلماً، وسمى المضطجع المنبعث، وأرضاً تسمى عفرة سماها خضرة، وشعب الضلالة سماه شعب الهدى، وبنو الزنية سماهم بني الرشدة، وسمى بني مغوية بني رشدة.
قال أبو داود: تركت أسانيدها للاختصار].
أورد أبو داود جملة أسماء حصل فيها تغيير، وترك أسانيدها للاختصار فلم يذكرها، وإنما اكتفى بذكر هذه الأسماء وقال: إنها غيرت.
قوله: [غير النبي صلى الله عليه وسلم اسم العاص].
هذا مثل عاصية.
[وعزيز].
ولا أعرف الأحاديث التي وردت ولا ذكرها صاحب عون المعبود ولا أشار إليها بشيء، وعزيز كما هو معلوم جاء إطلاقه في القرآن: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف:51] وهو من الأسماء التي تطلق على الله وتطلق على غيره مثل (الرحيم)، بخلاف الرحمن والصمد والله والخالق والبارئ وغيرها من الأسماء التي لا تطلق إلا على الله سبحانه وتعالى، ولا أدري عن الأحاديث التي وردت في ذلك ما مدى صحتها وضعفها.
هذا شيء لا نعلمه ولم أقف عليه.
[وعتلة].
العتلة: هي الحديدة الثقيلة التي تحفر بها الأرض، وتهدم بها الجدران التي يراد هدمها، ومعناه أنها فيها شدة.
[وشيطان].
وشيطان هذا من أقبح ما يسمى به.
[والحكم].
جاء في حديث أبي الحكم، ولا أدري هل المقصود به اسم غيَّره من الحكم إلى اسم آخر أو كونه ورد في الذي مر.
لكن يوجد من الصحابة من كان اسمه الحكم، مثل: الحكم بن حزن والحكم بن سفيان، قال في التقريب: الحكم بن حزن الكلفي صحابي قليل الحديث أخرج له أبو داود، والحكم بن سفيان، وقيل: سفيان بن الحكم، وقيل: ابن أبي الحكم قيل: له صحبة، لكن في حديثه اضطراب، والحكم بن عمرو الغفاري، ويقال: الحكم بن الأقرع صحابي نزل البصرة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
ولا أدري هل المقصود به تغيير اسم، أو المقصود به تغيير ما جاء في الكنية التي هي أبو الحكم، وأنها ترجع إلى السبب كما مر فقط، ولكنه قال في الحديث: (إن الله هو الحكم، وإليه الحكم، ثم قال: ما اسم أولادك؟ ثم قال له: أنت أبو شريح).
فعلى كلٍ الشيء الذي وجد وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم أو حصل فيه تغيير لا إشكال فيه، وبالنسبة للكنية فإنها تغيَّر كما غير ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما بالنسبة للاسم فكونه جاء أن بعض الصحابة تسمى به، فيدل على أن ذلك سائغ مثلما جاء في إقرار اسم عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث وهو صحابي، وهو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتزويجه وقد جاء مع الفضل يطلبان العمل في الزكاة من أجل أن يتزوجا، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)، وأمر المسئول عن الخمس أن يزوجهما، وخطب لهما وقال لفلان زوج فلاناً وقال لفلاناً زوج فلاناً، وأمر المسئول عن الخمس أن يدفع المهر لكل منهما.
ولهذا جاء في كتاب مراتب الإجماع لـ ابن حزم قال: أجمعوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله حاشا عبد المطلب؛ لأنه حصل الإقرار في حق عبد المطلب بن ربيعة ولا يقال: إنه من أجل أن جده اسمه عبد المطلب؛ لأن الذي تقدم لا يحصل فيه تغيير، بل التغيير يكون في الموجودين والذين يمكن تغيير أسمائهم، أما من تقدم ومن كان في نسبه اسم غير سليم فإنه يبقى على ما هو عليه إذا كان من أسماء الجاهلية، ولهذا قال الرسول: (أنا ابن عبد المطلب)، لكن الشاهد لتجويز التسمي باسم عبد المطلب كون النبي صلى الله عليه وسلم أقر اسم عبد المطلب بن ربيعة ولم يغيره.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في القول المفيد عن حديث أبي الحكم: إن الأسماء التي يسمى بها الله ويسمى بها غيره إذا روعي فيها الصفة مثل الحكم لأنه يحتكم إليه، والعزيز لعزته؛ يجب تغييره.
ويمكن أن يكون الأمر مثلما جاء في المحاورة التي جرت بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: إنه كان يتحاكم إلي وكنت كذا وكذا فغير، وهذا له وجه.
[وغراب].
غراب؛ لأن معناه البعد، وقيل: لأنه أخبث الطيور.
ولكن لا ندري عن ثبوت هذه الأحاديث، فهذه أسماء قيل إنها غيرت، فهل هو صحيح أو غير صحيح؟ الله تعالى أعلم.
[وحباب].
وحباب يقال بأنه اسم الشيطان، ويقع على الحية أو نوع منها، أي: أن مسماه قبيح؛ لأنه يطلق على الشيطان ويطلق على نوع من الحيات.
[وشهاب فسماه هشاماً].
لأن الشهاب من النار.
أما لقب شهاب الدين، فمثل هذه الألقاب اشتهر بها بعض الناس مثل الحافظ ابن حجر فإنه يلقب شهاب الدين، والعيني يلقب بدر الدين، فكان بعض المتعصبين من الحنفية وهو من أشد الناس حقداً على أهل السنة وهو الكوثري؛ كان يقول: وفرق ما بين الشهاب والبدر.
يريد أن يرفع من شأن العيني ويحط من شأن ابن حجر.
ولا شك أن تركها هو الذي ينبغي.
[وسمى حرباً سلماً].
السلم ضد الحرب.
[وسمى المضطجع المنبعث].
لأن الانبعاث ضد الاضطجاع.
[وأرضاً تسمى عفرة سماها خضرة، وشعب الضلالة سماه شعب الهدى، وبنو الزنية سماهم بنو الرشدة].
وكل هذه أسماء قبيحة.
[وبنو مغوية سماهم بنو رشدة قال أبو داود: تركت أسانيدها للاختصار].
ترك أسانيدها للاختصار، لكن هل هي صحيحة أو غير صحيحة؟ لا ندري.(564/13)
شرح حديث (الأجدع شيطان) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا أبو عقيل حدثنا مجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق قال: لقيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: من أنت؟ قلت: مسروق بن الأجدع، فقال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (الأجدع شيطان)].
أورد أبو داود حديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأجدع شيطان)، وقاله لما سمع مسروقاً يقول بأن اسمه: مسروق بن الأجدع.
والحديث ضعفه الألباني؛ لأن في بعض رجاله ضعفاً.
قوله [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا هاشم بن القاسم].
هاشم بن القاسم ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو عقيل].
أبو عقيل عبد الله بن عقيل صدوق أخرج له أصحاب السنن.
[حدثنا مجالد بن سعيد].
مجالد بن سعيد ليس بالقوي أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
ومجالد هذا هو علة الحديث.
[عن الشعبي].
الشعبي هو عامر بن شراحيل الشعبي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسروق].
مسروق بن الأجدع وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر].
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(564/14)
شرح حديث (لا تسمين غلامك يساراً ولا رباحاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا منصور بن المعتمر عن هلال بن يساف عن ربيع بن عميلة عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تسمين غلامك يساراً ولا رباحاً ولا نجيحاً ولا أفلح، فإنك تقول: أثم هو؟ فيقول: لا) إنما هن أربع فلا تزيدن علي].
ذكر أبو داود رحمه الله في باب تغيير الاسم القبيح حديث سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسمين غلامك يساراً ولا نجيحاً ولا رباحاً ولا أفلح، فإنك تقول: أثم هو؟ فيقول: لا)، ثم قال سمرة: [إنما هن أربع فلا تزيد علي]، يعني: أن الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هي هذه الأسماء الأربعة فقط.
قوله: (لا تسمين غلامك).
لأن كلمة (غلام) تشمل ولد الصلب والعبد، فإن امرأته أو أمته ولدت ولداً فلا يسمه بهذا الاسم، فسواء كان ولده أو رقيقاً له فلا يسمه بهذه الأسماء الأربعة، وعلل النبي صلى الله عليه وسلم السبب فقال: (فإنك تقول أثم هو)، أي: هل فلان حاضر، فيقال: لا، يعني: ليس ثم، أو ليس هناك رباح، فيكون هناك نفي لهذه الأشياء المحمودة التي هي الربح والنجاح والفلاح واليسر.
ولكنه جاء حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن ينهى عن هذه الأسماء، ولكنه توفي ولم ينه عنها، ثم أراد عمر أن ينهى عنها ثم إنه ترك ذلك)، وعلى هذا فيكون النهي للتنزيه وليس للتحريم، ويكون ما ورد عند المصنف كما سيأتي قريباً: (إن عشت لأمنعن كذا وكذا)، وكذلك ما جاء في مسلم عن جابر: (أن النبي أراد أن ينهى عن أن يسمى بهذه الأسماء وتوفي ولم ينه عنها، ثم أراد عمر أن ينهى وترك ذلك)، يكون ذلك مما يدل على أن النهي إنما هو للتنزيه، وأن المقصود بذلك أن يكون الأولى أن لا يسمى بها، ولكنه إن سمى بها فإنه لا بأس بذلك؛ لأن الذي جاء من النهي إنما هو للتنزيه؛ لأن التحريم الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي ولم يحصل منه، وكذلك أراد عمر أن ينهى عنه ولكنه ترك ذلك.(564/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تسمين غلامك يساراً ولا رباحاً)
قوله: [حدثنا النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا زهير].
زهير بن معاوية ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا منصور بن المعتمر].
منصور بن المعتمر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هلال بن يساف].
هلال بن يساف ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ربيع بن عميلة].
ربيع بن عميلة ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن سمرة بن جندب].
سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(564/16)
شرح حديث (نهى رسول الله أن نسمي رقيقنا أربعة أسماء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا المعتمر سمعت الركين يحدث عن أبيه عن سمرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسمي رقيقناً أربعة أسماء: أفلح ويساراً ونافعاً ورباحاً)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وفيه ذكر الرقيق، وهو داخل تحت اسم الغلام الذي مر؛ لأن الغلام يشمل الرقيق ويشمل الولد؛ لأن المولود يقال له غلام، مثلما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ولد الليلة لي غلام وسميته باسم أبي إبراهيم)، فالغلام يطلق على المولود سواء كان حراً أو عبداً، وذاك لفظ يشمل الحر والعبد، وهذه الطريق الثانية فيها التنصيص على أن العبد يندرج تحت لفظ غلام، وفيه ذكر هذه الأربعة: رباح وأفلح ويسار ونافع.(564/17)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى رسول الله أن نسمي رقيقنا أربعة أسماء)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا المعتمر قال: سمعت الركين].
المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والركين بن الربيع بن عميلة شيخ هلال بن يساف في الإسناد السابق، وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو ابن عميلة الذي مر في الإسناد السابق.
[عن سمرة].
وقد مر أيضاً.
قد يسمى الابن (توفيق) تفاؤلاً أن يوفق، والذي يبدو والله أعلم أنه ليس فيه بأس إن شاء الله، وكذا رابح، وأما رباح فهو للتنزيه وليس للتحريم؛ لأن الرسول ما حرم هذا لكن الإنسان التقي يترك المكروهات.
أما من ناحية الأولوية فمعلوم أن الأسماء كثيرة، وغير اسم توفيق أولى منه، وبدل أن يسمى (توفيق) يسمي عبد الله أو عبد الرحمن أو عبد العزيز أو عبد الكريم أو غير ذلك من الأسماء التي لا يحتاج إلى أن يسأل عنها، حتى لا يكون في نفسه شيء فيما بعد؛ لأن الإنسان لا يسأل عن شيء إلا إذا كان غير مرتاح له، فالأولوية كما هو معلوم بابها واسع، لكن الجواز شيء والأولوية شيء آخر.(564/18)
شرح حديث (إن عشت إن شاء الله أنهى أمتي أن يسموا نافعاً وأفلح وبركة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن عبيد عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن عشت إن شاء الله أنهى أمتي أن يسموا نافعاً وأفلح وبركة -قال الأعمش: ولا أدري ذكر نافعاً أم لا؟ - فإن الرجل يقول إذا جاء: أثم بركة؟ فيقولون: لا)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن عشت إن شاء الله أنهى أمتي أن يسموا نافعاً وأفلح وبركة)، ثم ذكر التعليل الذي سبق أن مر أنه قال: (أثم فلان؟ فيقال: لا)، فكأنه ليس فيه بركة، ونحوها فيكون من الأمور التي لا تستحسن من ناحية النفي.
لكن هنا قال: (إن عشت لأنهين) والمقصود به نهي تحريم، وإلا فإن نهي التنزيه وجد من قبل وسبق أنه نهى أن يسمى كذا وكذا، أو لا يسمين أحد غلامه كذا وكذا، وجاء في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه -وهو أصح من هذا- قال: (أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهى عن تسمية فلان وفلان، ثم توفي ولم ينه عن ذلك، وأراد عمر أن ينهى وترك ذلك).
فإذاً: يجمع بين ما جاء في الأحاديث: أن ما نهى عنه في الأول يحمل على التنزيه وعلى خلاف الأولى، والذي جاء أنه أراده ولم يتم هو التحريم.(564/19)
تراجم رجال إسناد حديث (إن عشت إن شاء الله أنهى أمتي أن يسموا نافعاً وأفلح وبركة)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
أبو بكر بن أبي شيبة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا محمد بن عبيد].
محمد بن عبيد هو الطنافسي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وذكر في ترجمته أنه من الحادية عشرة وهذا وهم أو خطأ؛ لأنه في طبقة شيوخ شيوخ أبي داود، والأقرب أن يكون من التاسعة، وقد توفي سنة مائتين وأربعة وما أدركه الإمام أبو داود، والسنة التي مات فيها الطنافسي هي التي ولد فيها أبو داود فلا تكون الحادية عشرة ولا حتى العاشرة أيضاً، وإنما هي التاسعة على الأظهر.
وذكر الحادية عشرة وهم إما من الحافظ أو من الطابعين، والمناسب أن يكون من التاسعة؛ لأنها نفس السنة التي مات فيها الشافعي والطنافسي ولد فيها أبو داود.
ومن المعلوم أن من يسمى محمد بن عبيد عدد كبير من طبقة شيوخ أبي داود منهم: محمد بن عبيد المحاربي ومحمد بن عبيد بن حساب، ويأتي ذكرهم كثيراً لاسيما ابن حساب فإنه يتكرر ذكره، ويأتي ذكر محمد بن عبيد فقط، وهذا يسمى في علم المصطلح المتفق والمفترق، وهي أن تتفق أسماء الرواة وأسماء آبائهم، وتختلف أسماء أجدادهم، فهنا محمد بن عبيد يطلق على بعض شيوخ أبي داود وهم المحاربي وابن حساب وعلى شيخ شيوخه وهو محمد بن عبيد الطنافسي ومثل ذلك محمد بن سلمة المرادي ومحمد بن سلمة الحراني الباهلي؛ لأن محمد بن سلمة المرادي من طبقة شيوخه، ومحمد بن سلمة الباهلي هو من شيوخ شيوخه.
[عن الأعمش].
الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة [عن أبي سفيان].
أبو سفيان طلحة بن نافع وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما وهو صحابي جليل، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود: روى أبو الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ولم يذكر: بركة].
قوله: [روى أبو الزبير].
أبو الزبير محمد بن تدرس المكي صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
عن جابر رضي الله عنه ولم يذكر بركة ضمن الأسماء الباقية.
لكن يقول المنذري: هذا فيه نظر؛ فإن الحديث في صحيح مسلم مذكور فيه اسم: بركة.
قال المنذري: الذي قاله أبو داود رضي الله عنه في حديث أبي الزبير فيه نظر، فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث ابن جريج عن أبي الزبير وفيه: (أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينهى أن يسمى الغلام بمقبل وبركة) الحديث.
أقول لكن هذه رواية أبي داود، وأما تلك فهي رواية مسلم، هذا الذي ذكره أبو داود هو الذي وقع عنده، فلم يقع في طريقه اسم بركة، وإنما هي عند مسلم؛ وإسناده غير إسناد مسلم.(564/20)
شرح حديث (أخنع اسم عند الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أخنع اسم عند الله تبارك وتعالى يوم القيامة رجل تسمى ملك الأملاك).
قال أبو داود: رواه شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد بإسناده قال: (أخنى اسم)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أخنع اسم عند الله يوم القيامة رجل تسمى ملك الأملاك)؛ لأن هذا لا يصلح إلا لله عز وجل فهو ملك الملوك، وأما المخلوق فلا يقال إنه ملك الملوك، وإنما يقال ملك مثلما جاء: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:50] كما جاء في قصة العزيز في سورة يوسف، لكن كلمة ملك الملوك، هذا هو الذي قال عنه إنه أخنع اسم، ومعناه: أنه يكون في ذلة جزاء ما زعم من العزة، وأنه يصير بالعكس يوم القيامة بسبب هذا التعالي وهذا الترفع وهذا الزعم الباطل.
وفي لفظ (أخنى اسم) يعني مكان (أخنع) ومعناهما سواء، وهو: أفحشه وأقبحه، من الخنا.
وهذا يدل على مثله مما هو موجود في لسان العجم بدل ملك الملوك مثل شاه شاه؛ لأن شاه شاه هي ملك الملوك عند العجم.(564/21)
تراجم رجال إسناد حديث (أخنع اسم عند الله)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان بن عيينة].
أحمد بن حنبل مر ذكره.
وسفيان بن عيينة المكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزناد].
أبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان المدني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعرج].
هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة رضي الله عنه مر ذكره.
[يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم].
كلمة (يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم) معناها: أنه مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والذي يظهر أن التعبير بمثل هذه العبارة التي يقولها من دون أبي هريرة كأنه يكون غير جازم بالصيغة التي رفعه بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإذا قال: يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم صارت محتملة لهذه الأمور كلها.
ومثل ذلك قولهم: ينميه إلى الرسول، أو يرفعه إلى رسول الله، أو مرفوعاً؛ لأن مثل هذه العبارات ليس فيها التنصيص على الصيغة المحددة التي قالها الصحابي عندما روى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يضبط الراوي -سواء الراوي عن أبي هريرة أو من دونه- فإنه يأتي بعبارة تثبت الرفع دون أن يكون محدداً لشيء وهو غير جازم به، وهذا يدلنا على دقة المحدثين وعنايتهم.
[قال أبو داود: رواه شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد].
شعيب بن أبي حمزة الحمصي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأبو الزناد مر ذكره.(564/22)
الأسئلة(564/23)
حكم التسمي باسم أصحاب الله
السؤال
جاءت عدد من الأسئلة عن رأي الشيخ في اسم: أصحاب الله؟
الجواب
هذا اسم غريب، ومثل هذا الاسم لا يصلح أن يسمى به.(564/24)
حكم التسمي باسم ليس من الخاسرين ونحوه
السؤال
ما حكم التسمي باسم: ليس من الخاسرين، ودخيل الله، ودانيال؟
الجواب
مع ثقله وطوله فيه تزكية.
أما دخيل الله فلا شك أن تركه أولى.
أما دانيال احتجاجاً بأنه اسم نبي، فيشكل عليه أنه هل ثبت أنه اسم نبي؟ وعلى كل فالأسماء التي ليس فيها إشكال كثيرة.(564/25)
حكم التسمي بـ (طه) و (ياسين)
السؤال
ما حكم التسمي باسم: طه وياسين؟
الجواب
طه وياسين حروف مقطعة وليست من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعض الناس يقول: إنها من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه ما ورد في ذلك شيء ثابت عن رسول الله عليه السلام، وإنما هما من الحروف المقطعة، وقد ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله في تحفة المودود، وأنه ليس هناك شيء من هذا.
ولعل الذين قالوا إن من أسماء النبي طه؛ استدلوا بأنه جاء بعده: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2] من أجل الخطاب؛ ولكن جاءت سور مبدوءة بحروف مقطعة وفيها الخطاب، مثل الأعراف أولها: {المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف:1 - 2] إذاً: فليكن من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم (المص) إذا كان من أسمائه طه من أجل أنه جاء الخطاب بعد (المص).
وهذا غير صحيح.
وكذلك أيضاً في سورة إبراهيم: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1].
وأسماء الرسول صلى الله عليه وسلم كلها مشتقة وليس فيها اسم جامد، وهذه الحروف المقطعة لا تدل على معنى، وأسماؤه تدل على معنى صلى الله عليه وسلم، مثل محمد وأحمد يدلان على الحمد.
وأسماء الله كلها مشتقة وليس فيها اسم جامد لا يدل على معنى، وما قيل: إن من أسماء الله الدهر هذا غير صحيح؛ لأن الدهر اسم جامد ولا يدل على معنى، فليس من أسماء الله الدهر، والحديث الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر)، ليس معنى ذلك أن من أسمائه الدهر، وإنما يقول: من سب الدهر فقد سبني؛ لأن الدهر مقلب وأنا الذي أقلبه، ومن سب المُقَلب رجعت المسبة إلى المقَلِّب؛ لأن المقَلب غير فاعل وغير متصرف، فمسبته ترجع إلى الله عز وجل الذي يقلبه، ولهذا قال: (بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)، والليل والنهار هو الدهر، فالدهر مقَلَّب والله تعالى هو المقلِّب، ومن سب المقَلَّب رجعت مسبته إلى المقلِّب وهذا معنى قوله: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر)، يعني: من سب الدهر فقد سبني؛ لأن الدهر غير فاعل حتى يسب، وإنما الله تعالى هو الذي يقلبه، فكذلك طه وياسين ليست من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن أسماءه مشتقة، وجاء أنه أحمد ومحمد، وجاء وصفه بأنه الحاشر والعاقب، وهذه تدل على معان.(564/26)
حكم التسمي بـ إيمان وإسلام وتقوى
السؤال
ما حكم أسماء النساء مثل: إيمان وإسلام وتقوى؟
الجواب
مثل هذه الأسماء يبدو أنه لا بأس بها؛ لأن التزكية في تقية، أي توصف بأنها تقية، أما كونها تسمى باسم هكذا فليست متصفة به، ولو ترك واختير من الأسماء التي لا إشكال فيها فهو أفضل مثل فاطمة وزينب وخديجة، ولا أحد يسأل عن حكم التسمي بها؛ لأن الأمر في ذلك واضح.
إذاً: ما كان فيه إشكال فعلى الإنسان إذا تردد فيه أن يتركه.(564/27)
شرح سنن أبي داود [565]
حث الشرع على التسمية بالأسماء الحسنة، ونهى عن التنابز بالألقاب، واختلف العلماء في جواز التسمي باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم والتكني بكنيته كما اختلف الرواة في نقل ذلك.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره الأسماء والألقاب القبيحة، أو ما فيها تزكية لصاحبها، وإنما القسط، والانضباط بضوابط الشرع في ذلك.(565/1)
ما جاء في الألقاب(565/2)
شرح حديث (مه يا رسول الله! إنه يغضب من هذا الاسم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الألقاب.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب عن داود عن عامر قال: حدثني أبو جبيرة بن الضحاك قال: (فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات:11] قال: قدم علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يا فلان، فيقولون: مه يا رسول الله! إنه يغضب من هذا الاسم، فأنزلت هذه الآية: ((وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ)) [الحجرات:11])].
أورد أبو داود: باباً في الألقاب، واللقب ليس هو الاسم، ولكنه لفظ أو اسم يضاف إلى الشخص غير اسمه، وقد يكون محموداً وقد يكون مذموماً لا يرضاه ولا يعجبه ولا يحبه.
فأورد أبو داود حديث أبي جبيرة رضي الله عنه أنه قال: قدم الرسول المدينة وللواحد منا اسمان أو ثلاثة، معه الاسم الأول الذي سمي به، وأسماء أخرى هي ألقاب، فكان يشتهر فيما بينهم باللقب فكان النبي صلى الله عليه وسلم عندما يدعو واحداً منهم باللقب يقولون: مه يا رسول الله! إنه يكره ذلك؛ لأنه لقب لا يعجبه، فنزلت هذه الآية: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات:11] والأمر واضح فيما إذا كان الإنسان يكرهه، أما إذا كان يعجبه أو يحبه فإنه لا محذور في ذلك؛ لأن المحذور فيما يكره.
ومن المعلوم أن الألفاظ التي تضاف إلى الشخص اسم ولقب وكنية، فالاسم هو الذي يسمى به عند الولادة، وهو الذي يكنى به أبوه، فيقال: أبو فلان، سواء ولد له أم لم يولد له، وقد يكنى وهو صغير، كما سيأتي في حديث أبي عمير: (يا أبا عمير ما فعل النغير)، واللقب يحصل له مناسبة، كما هو معروف في ألقاب المحدثين وهي كثيرة مثل: عبد الرحمن بن هرمز لقبه الأعرج وأبو الزناد اسمه عبد الله بن ذكوان وكنيته أبو عبد الرحمن، فـ: أبو الزناد لقب على صيغة الكنية، وهو ليس بكنية، لكن المعروف أن ما يضاف إلى الناس ثلاثة أشياء: اسم وكنية ولقب، كما يقول ابن مالك: واسماً أتى وكنية ولقباً وأخرن ذا إن سواه صحبا ويؤخر اللقب إذا جمع بين الثلاثة.(565/3)
تراجم رجال إسناد حديث (… مه يا رسول الله! إنه يغضب من هذا الاسم …)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا وهيب].
وهيب بن خالد وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن داود].
داود بن أبي هند ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عامر].
عامر بن شراحيل الشعبي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبو جبيرة بن الضحاك].
أبو جبيرة بن الضحاك رضي الله عنه صحابي أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.(565/4)
ما جاء فيمن يتكنى بأبي عيسى(565/5)
شرح حديث (إن رسول الله كناني)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن يتكنى بأبي عيسى.
حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب ابناً له تكنى أبا عيسى، وأن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه تكنى بـ أبي عيسى، فقال له عمر: أما يكفيك أن تكنى بـ أبي عبد الله؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كناني، فقال: إن رسول الله عليه وآله وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإنا في جلجتنا، فلم يزل يكنى بـ أبي عبد الله حتى هلك].
أورد أبو داود: باباً في التكني بأبي عيسى.
يعني بهذا الاسم بالذات الذي هو أبو عيسى، ولعل المقصود من ذلك الإشارة إلى عيسى بن مريم عليه السلام، وأنه ليس له أب، وأن الإنسان الذي يكنى بأبي عيسى يكون متشبهاً بشيء غير صحيح ولا وجود له.
وأورد أبو داود حديث المغيرة بن شعبة بالنسبة للمرفوع؛ لأن المرفوع هو عن المغيرة بن شعبة وعمر رضي الله عنه له الأثر، فـ عمر رضي الله عنه ضرب غلاماً له كنى نفسه أبا عيسى، وكذلك المغيرة كان يكنى أبا عيسى فقال له عمر رضي الله عنه: أما يكفيك أن تكنى بـ أبي عبد الله؟ وكأن شهرته كانت بكنية، ومعلوم أن الشخص قد تكثر كناه وتتعدد فيقال: فلان وأبو فلان، وقد يكون السبب في ذلك أنه كني قبل أن يولد له كما يحصل من تكنية الصغار، ثم ولد له فصار يكنى بأكبر مولود، وقد يكون كني بمولود، ولكنه أول ما ولد تكنى به ثم مات، ثم ولد له مولود آخر وصار مشهوراً عند الناس فصار يكنى به.
والحاصل: أن التكنية تتعدد وتتكرر، وكأن المغيرة رضي الله عنه كانت له هذه الكنية.
وعثمان بن عفان رضي الله عنه كان يكنى بـ أبي عبد الله ويكنى بـ أبي عمرو، وهو مشهور بكنية أبو عمرو؛ لأنه ولد له من إحدى بنتي النبي صلى الله عليه وسلم أم كلثوم أو رقية، وقد ذكر أنه نقره ديك في عينه ومات بسبب ذلك.
والحاصل أن الكنية تتكرر والمغيرة بن شعبة قد يكون مكنى بهذا ومكنى بهذا، وعمر رضي الله عنه أراد منه أن يحتفظ بكنية أبي عبد الله، وأن يترك كنية أبي عيسى، ولكن المغيرة قال: كناني بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، فمعنى ذلك أن الكنية بـ أبي عيسى سائغة مادام الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي كناه، ويكون عمر رضي الله عنه أراد الأولى والأفضل، وأن يجتنب مثل هذا اللفظ من باب الأولى لا من باب التحريم، فهذا يدل على جواز التكنية.
ثم أيضاً الأصل جواز التكنية حتى يأتي ما يمنع، ولم يأت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم يمنع من ذلك، بل جاء ما يدل على جواز ذلك كما في هذا الحديث عن المغيرة، ولكن عمر رضي الله عنه رأى أن الأولى أن يكنى بـ أبي عبد الله بدلاً من أبي عيسى، فقال: (إن رسول صلى الله عليه وسلم كناني، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وإنا في جلجتنا).
قوله: (وإنا في جلجتنا) فسرت بأننا وأمثالنا من الناس لا ندري ما حالنا، ولكن هذا محمول على الأولى كما قلت، وأما الجواز فإن ذلك جائز؛ لكون النبي صلى الله عليه وسلم كنى بذلك المغيرة بن شعبة.
قال: [فلم يزل يكنى بـ أبي عبد الله حتى هلك].
كأنه استجاب إلى ما ذكره له عمر، وكأن الناس بعد ذلك صاروا يخاطبونه بهذا.(565/6)
تراجم رجال إسناد حديث (إن رسول الله كناني)
قوله: [حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء].
هارون بن زيد بن أبي الزرقاء صدوق أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
وهو ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا هشام بن سعد].
هشام بن سعد صدوق له أوهام.
أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن زيد بن أسلم].
زيد بن أسلم وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو أسلم العدوي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر].
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين؛ صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[أن المغيرة بن شعبة] وهو صحابي أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة؛ والمرفوع هو عن المغيرة.(565/7)
ما جاء في الرجل يقول لابن غيره يا بني(565/8)
شرح حديث أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا بني)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يقول لابن غيره يا بني.
حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا ح وحدثنا مسدد ومحمد بن محبوب قالوا: حدثنا أبو عوانة عن أبي عثمان وسماه ابن محبوب الجعد عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: يا بني).
قال أبو داود: سمعت يحيى بن معين يثني على محمد بن محبوب، ويقول: كثير الحديث].
أورد أبو داود: باباً في الرجل يقول لابن غيره يا بني.
هذا التعبير فيه لطف وعطف من الكبير على الصغير، وإن كان ليس ابناً له فإن ذلك سائغ.
روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول له: (يا بني)، فهذا دليل على جواز ذلك، وأنه سائغ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وهذا من الرحمة واللطف بالصغير، ومن العطف عليه ومن تأنيسه.
ومقابله أن يقول الصغير الكبير: يا عم، وإن لم يكن أخا أبيه، كما ثبت في الصحيح عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه لما كانوا يصفون في بدر قبل المعركة، فقال: لم يرعني إلا بشاب عن يميني وشاب عن يساري من الأنصار، فغمزني الذي عن يميني وقال: يا عم! أتعرف أبا جهل؟ قال: وماذا تريد منه؟ قال: بلغني أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، يعني: حتى أموت أو يموت هو، فإما أن يقتلني أو أقتله؛ لأنه كان يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوله: (سوادي) يعني شخصي؛ لأن الإنسان من بعيد يرى أسود.
محل الشاهد كونه قال له: يا عم، وهو من الأنصار وعبد الرحمن من المهاجرين.
ثم غمزه الذي عن يساره وقال له مثلما قال الأول، فقلت: هذا أبو جهل فانطلقا وتسابقا إليه وقتلاه.
وإذا قال: يا والد أو يا والدي، يعني أنه بمنزلة والده من ناحية الكبر فلا بأس به، وكان بعض المشايخ الكبار يخاطبون مشايخهم بلفظ الوالد، وأعرف أن شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه كان إذا كتب للشيخ محمد بن إبراهيم كتاباً قال: إلى حضرة الوالد الشيخ محمد بن إبراهيم.
وهذا في جميع خطاباته التي كان يكتبها له؛ لأنه من تلاميذه ومن الذين لازموه في الطلب، وكذلك كان الملك فيصل رحمه الله يقول للشيخ محمد بن إبراهيم: الوالد؛ لأن الشيخ محمد بن إبراهيم كان كبيراً، فقد ولد سنة 1311هـ، والملك فيصل ولد سنة 1324هـ، فكان عندما يذكره يقول: الوالد، وهذا قاله في خطاب ألقاه في الجامعة الإسلامية، فقال: رئيس الجامعة الوالد الشيخ محمد بن إبراهيم ونائبه الأخ العزيز الشيخ عبد العزيز بن باز، وقد كان أكبر من الشيخ عبد العزيز، فإنه ولد سنة 1330هـ، فبينهما سبع سنوات.
ومثل هذا: أن يقول الرجل أمي لمن هي بمنزلة الأم.(565/9)
تراجم رجال إسناد حديث أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا بني)
قوله: [حدثنا عمرو بن عون].
عمرو بن عون ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ح وحدثنا مسدد ومحمد بن محبوب قالوا: حدثنا].
قال (أخبرنا) ثم ذكر شيخين وهما مسدد ومحمد بن محبوب، وأتى بالتحويل قبل ذكر الواسطة الثانية؛ لأن المقصود من ذلك بيان التفاوت بالصيغة؛ لأن الأول قال: (أخبرنا)، والآخران قالا: (حدثنا)، وهذا كثيراً ما يستعمله الإمام مسلم رحمه الله في كتابه فيقول: حدثنا فلان وفلان وفلان، الأولان قالا أخبرنا، والآخر قال: حدثنا، وهنا أبو داود رحمه الله ذكر التحويل بعد الصيغة من أجل أن يبين أن الاختلاف إنما هو في الصيغة فقط.
ومسدد هو: ابن مسرهد ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
ومحمد بن محبوب ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبو عوانة].
أبو عوانة هو: الوضاح بن عبد الله اليشكري وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عثمان وسماه ابن محبوب: الجعد].
معناه: أن الشيخين الأولين ما زادا على قولهم: عن أبي عثمان، وأما محمد بن محبوب فإنه ذكر اسمه إضافة إلى كنيته، فقال: الجعد بن دينار اليشكري وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والإسناد رباعي؛ لأن ثلاثة من الشيوخ يعتبرون في طبقة واحدة: طبقة شيوخه، ثم شيوخ شيوخه، ثم شيوخ شيوخ شيوخه، ثم الطبقة الرابعة وهي طبقة الصحابة وهو أنس بن مالك رضي الله عنه، فالحديث سنده رباعي.
[قال أبو داود: سمعت يحيى بن معين يثني على محمد بن محبوب].
لأنه لما ذكر ابن محبوب وأنه من الرواة، وكأنه مقل من الرواية، وليس له عند أبي داود كثير رواية، ولعله من أجل ذلك أراد أن يذكر هذا الثناء عليه.
قوله: [سمعت يحيى بن معين].
يحيى بن معين ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.(565/10)
ما جاء في الرجل يتكنى بأبي القاسم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يتكنى بأبي القاسم.
حدثنا مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حدثنا سفيان عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي)].
أورد أبو داود رحمه الله الترجمة: باب التكني بكنية رسول الله صلى الله عليه وسلم (أبي القاسم)، والتكنية بكنية رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيها أحاديث عديدة منها ما ذكر فيه النهي عن الكنية مع التسمي بالاسم، وفيها النهي عن الجمع بين الاسم والكنية من غير تحديد لهذا أو لهذا، وأن المقصود الجمع، ومعنى ذلك أنه لو حصل الاسم وحده فلا بأس، أو حصلت الكنية وحدها فلا بأس.
وجاءت أحاديث أخرى تدل على جواز ذلك، وأن المقصود من ذلك أنه كان في حياته صلى الله عليه وسلم لا يتكنى بكنيته، وأما بعد وفاته فلا بأس بذلك.
ولكن الذي يظهر والله أعلم أن التكنية جائزة، ولكن تركها أولى، والإنسان إذا تركها من أجل ما جاء من الأحاديث التي فيها النهي فلا شك أنه أولى، وإن فعل ذلك فهو جائز، ولا مانع منه؛ لأنه أولاً وجد أن بعض الصحابة كان يكنى بأبي القاسم، وكذلك التكنية بعدهم كانت معروفة ومشهورة، ومنهم أبو القاسم الطبراني مشهور بكنيته، وكذلك أيضاً جاء في الحديث كما سيأتي عن علي رضي الله عنه أنه قال: إن ولد لي بعدك غلام هل أكنيه بكنيتك؟ فأجابه بنعم.
فالحاصل: أن ما تقتضيه النصوص هو جواز التكنية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حياته جاءت بعض النصوص أنه كان يمشي فقال رجل: يا أبا القاسم! فالتفت الرسول صلى الله عليه وسلم فقال الرجل: لم أعنك يا رسول الله فقال: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي).
إذاً: هناك سبب اقتضى هذا التنبيه أو هذا الإرشاد، لكن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم جاء ما يدل على الجواز، وإن كان الأولى هو تجنب ذلك، ومن فعله فلا حرج عليه.
هذه خلاصة ما يتعلق بالأحاديث الواردة في هذا الباب، وهي عديدة.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي).
وهذا يدل على جواز الإرشاد إلى التسمية باسمه، والنهي عن التكني بكنيته، ومعناه: إفراد الكنية بالنهي.(565/11)
تراجم رجال إسناد حديث (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي)
قوله: [حدثنا مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة].
مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة مر ذكرهما.
[حدثنا سفيان].
سفيان هو ابن عيينة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب السختياني].
أيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن سيرين].
محمد بن سيرين ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة رضي الله عنه مر ذكره.
[قال أبو داود: وكذلك رواه أبو صالح عن أبي هريرة].
يعني مثل هذه الرواية، وأبو صالح هو ذكوان السمان ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وكذلك رواية أبي سفيان وجابر].
أبو سفيان عن جابر مر ذكرهما.
[وسالم بن أبي الجعد عن جابر].
سالم بن أبي الجعد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وسليمان اليشكري عن جابر].
سليمان اليشكري هو سليمان بن سليمان بن قيس اليشكري وهو ثقة أخرج له الترمذي وابن ماجة.
[وابن المنكدر عن جابر].
ابن المنكدر هو محمد بن المنكدر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[نحوهم وأنس بن مالك].
أنس بن مالك صحابي مر ذكره.
وجابر كذلك مر ذكره.
ومعنى ذلك: أن هذا الذي جاء عن أبي هريرة جاء عن جابر من عدة طرق، وجاء عن أنس أيضاً.(565/12)
ما جاء فيمن رأى أن لا يجمع بين كنية الرسول واسمه(565/13)
شرح حديث (من تسمى باسمي فلا يتكن بكنيتي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من رأى ألا يجمع بينهما.
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من تسمى باسمي فلا يتكن بكنيتي، ومن تكنى بكنيتي فلا يتسم باسمي)].
أورد أبو داود: [باب من رأى أن لا يجمع بينهما].
معناه: أنه يأخذ بواحد منهما دون الجمع، فيقال: محمد، ولا يكنى أبا القاسم، أو يكنى أبا القاسم ولكن لا يتسمى بمحمد، بل ينظر له اسماً آخر غير محمد، فلا يجمع بينهما، فأبو القاسم يمكن أن يتكنى به من لم يتسم بمحمد مثل عبد الله أو عبد الرحمن وغير ذلك من الأسماء، المهم ألا يجمع يبنهما.
والحديث فيه عنعنة أبي الزبير عن جابر وهو مدلس، والتدليس محتمل للصحة في الصحيحين، ولكنه في غير الصحيحين يؤثر، فيكون الحديث بهذا الإسناد غير صحيح؛ لأن فيه هذه العنعنة، فهو غير مستقيم بهذا الحديث.(565/14)
تراجم رجال إسناد حديث (من تسمى باسمى فلا يتكن بكنيتي)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام].
هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
أبو الزبير هو: محمد بن تدرس المكي صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والإسناد رباعي، وهي أعلى الأسانيد عند أبي داود.
[قال أبو داود: وروى بهذا المعنى ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة].
أي: وروى بهذا المعنى الذي جاء من ناحية أنه لا يجمع بين الاسم والكنية، ابن عجلان وهو محمد بن عجلان المدني وهو صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه لا بأس به، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
عن أبي هريرة وقد مر ذكره.
[وروي عن أبي زرعة عن أبي هريرة مختلفاً على الروايتين].
يعني: أن الروايتين المذكورتين وهما رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة ورواية أبي الزبير عن جابر، متفقتان في جزء: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي)، والذي فيه الإذن بالاسم دون الكنية ورواية أبي زرعة مخالفة لهما.
قوله: [عن أبي زرعة].
أبو زرعة بن عمرو بن جرير وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وكذلك رواية عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة اختلف فيه: رواه الثوري وابن جريج على ما قاله أبو الزبير، ورواه معقل بن عبيد الله على ما قاله ابن سيرين].
وعبد الرحمن بن أبي عمرة ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن أبي حاتم: ليست له صحبة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[رواه الثوري].
الثوري هو سفيان الثوري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وابن جريج].
ابن جريج هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[على ما قاله أبو الزبير].
يعني: أن النهي هو عن الجمع بينهما.
[ورواه معقل بن عبيد الله].
معقل بن عبيد الله صدوق يخطئ أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[على ما قاله ابن سيرين].
على ما قاله ابن سيرين من إفراد الإذن بالاسم دون الكنية (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي).
[واختلف فيه على موسى بن يسار عن أبي هريرة أيضاً على القولين].
يعني: كما قال ابن سيرين وكما قال أبو الزبير.
[موسى بن يسار].
موسى بن يسار ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[اختلف فيه كذلك حماد بن خالد وابن أبي فديك].
اختلف فيه كذلك حماد بن خالد وهو ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[وابن أبي فديك].
ابن أبي فديك هو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.(565/15)
ما جاء في الرخصة في الجمع بين اسم الرسول وكنيته(565/16)
شرح حديث (أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك، قال نعم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرخصة في الجمع بينهما.
حدثنا عثمان وأبو بكر ابنا أبي شيبة قالا: حدثنا أبو أسامة عن فطر عن منذر عن محمد بن الحنفية قال: قال علي رضي الله عنه: قلت: (يا رسول الله! إن ولد لي من بعدك ولد أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك، قال: نعم.
ولم يقل أبو بكر: قلت: قال علي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم)].
أورد أبو داود باباً في الرخصة في الجمع بينهما، وكون الإنسان يجوز له أن يسمى بمحمد ويتكنى بأبي القاسم، وذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحديث الذي أورده هنا علي رضي الله عنه قال: (إن ولد لي بعدك)، يعني: بعد وفاتك، (هل أسميه باسمك؟) وهذا يدلنا على أن ما ورد كان مبنياً على أساس أنه في حياته صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في الحديث أنه كان يمشي فنادى رجل: يا أبا القاسم! فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم يظن أنه الذي يدعى، فقال: لم أعنك يا رسول الله، وإنما عنيت شخصاً آخر، فقال: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي).
فهذا كان في حياته، وهذا التعليل يبين أن النهي كان بهذه المناسبة، ثم حديث علي هذا واضح بأنه بعد وفاته يجوز الجمع بينهما، ولكن كون الإنسان يتجنب التكنية أخذاً بما جاء في الحديث (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي) لاشك أن هذا هو أولى.
وممكن أن نستأنس للتكني بالكنية بكون أربعة من الصحابة تكنوا بأبي القاسم، وكذا بعض أهل العلم صنعوا ذلك، وفيهم من صغار الصحابة مثل محمد بن أبي بكر الذي ولد في حجة الوداع في ذي الحليفة، وهم ذاهبون إلى الحج، وله رؤية.(565/17)
تراجم رجال إسناد حديث (أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك؟ قال: نعم)
قوله: [حدثنا عثمان وأبو بكر ابنا أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا الترمذي وإلا النسائي فأخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا أبو أسامة].
أبو أسامة هو: حماد بن أسامة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن فطر].
فطر بن خليفة وهو صدوق أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن منذر].
منذر بن يعلى الثوري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن الحنفية].
محمد بن الحنفية وهو محمد بن علي بن أبي طالب المشهور بـ ابن الحنفية وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي].
علي رضي الله عنه أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(565/18)
شرح حديث (ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي؟) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي حدثنا محمد بن عمران الحجبي عن جدته صفية بنت شيبة رضي الله عنها عن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله! إني قد ولدت غلاماً فسميته محمداً وكنيته أبو القاسم، فذكر لي أنك تكره ذلك، فقال: ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي؟ أو: ما الذي حرم كنيتي وأحل اسمي؟!)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن عائشة وهو يدل على جواز الجمع بينهما، لكن الحديث في إسناده ضعف.
قوله: [حدثنا النفيلي].
النفيلي مر ذكره.
[حدثنا محمد بن عمران الحجبي].
محمد بن عمران الحجبي مستور أخرج له أبو داود، وهذا هو الذي فيه ضعف.
صفية بنت شيبة ولها رؤية أخرج حديثها أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين، وهي الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهو رباعي.
ولا يقال: إن حديث هذا المستور يشهد له الحديث الذي قبله؛ لأنه يختلف، لأن ذاك يتعلق بما بعد الموت، وأما هذا ففي الحياة، مع أنه هو نفسه لما نادى ذلك الرجل وقال: يا أبا القاسم! فالتفت إليه، فقال: لم أعنك فقال: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي)؛ لأن حديث علي بعد الوفاة، والمحذور الذي جاء في هذا الحديث انتهى بوفاته صلى الله عليه وسلم.(565/19)
شرح سنن أبي داود [566]
مما يجوز في باب الكنى أن يكنى الطفل الصغير، وأن يتكنى الرجل والمرأة وإن لم يولد لهما، أو بغير أولادهما.
ومن جملة الألفاظ التي دل عليها الشرع: المنع من إطلاق لفظ السيد على المنافق، ووصف النفس بالخبث.
ومما جاء به الشرع التأدب في الألفاظ وأن لا يشرك الله مع غيره في المشيئة، وأن لا يعجب المرء بنفسه، فيقول: هلك الناس، ونحو ذلك.(566/1)
ما جاء في الرجل يتكنى وليس له ولد(566/2)
شرح حديث (يا أبا عمير ما فعل النغير)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الرجل يتكنى وليس له ولد.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدخل علينا ولي أخ صغير يكنى أبا عمير، وكان له نغر يلعب به فمات، فدخل عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فرآه حزيناً، فقال: ما شأنه؟ قالوا: مات نغره، فقال: يا أبا عمير! ما فعل النغير؟)].
أورد أبو داود باباً في الرجل يتكنى وليس له ولد.
يعني: لا يلزم أن تكون الكنية بسبب وجود الولد، بل يمكن أن تكون قبل أن يوجد ولد، وقد تكون للصغير أيضاً، ومن المعلوم أن من الصحابة من اشتهر بكنيته.
من المعلوم أن بعض الصحابة الكبار رضي الله عنهم وأرضاهم كان لهم كنى ليست على أسماء أولاد لهم، ومن أشهر هؤلاء أفضل هذه الأمة بعد الأنبياء والمرسلين أبو بكر وعمر؛ فإن أبا بكر كنيته أبو بكر وليس له ولد اسمه بكر، وعمر كنيته أبو حفص وليس له ولد اسمه حفص، وكذلك خالد بن الوليد كنيته أبو سليمان وليس له ولد اسمه سليمان، فالكنية تكون من غير ولد، فيتكنى الإنسان بكنية حتى وإن لم تكن باسم أحد أبنائه أو حتى مع عدم وجود الولد وقد يكنى الصغير أيضاً من حين ولادته، وقد يكون السبب في تكنيته أنه اختير له اسم أحد الصحابة فكني بكنية ذلك الصحابي؛ لأن المقصود بتسميته أنه سمي باسم ذلك الصحابي فيكنى بكنية ذلك الصحابي وهو صغير.
والحديث يدل على جواز تكنية الصغير، وأن هذا ليس من الكذب؛ لأن التكنية ليس بلازم أن تكون عن ولد، بل تكون بدون ولد، كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله في قصة أخي أنس بن مالك رضي الله عنه، وأبوه هو أبو طلحة وأمه أم سليم.
وأبو عمير هذا قيل هو الذي كان مريضاً، وكان أبو طلحة يسأل عنه، وعندما توفي ما أرادت أمه أن تفاجئه بالوفاة، ولكنها أخفت عليه الأمر، وعرضت بما يدل على وجوده، والتعريض هو: أن يقول القائل كلاماً يريد شيئاً فيفهم المخاطب شيئاً آخر، فسألها عن الغلام فقدمت له العشاء، وتهيأت وتجملت، وجامعها، وبعد ذلك أخبرته، ولكنه عندما سألها من قبل: كيف هو؟ قالت: استراح وسكنت نفسه.
وكانت تعني أنه مات وانتهى، وأيضاً سكنت نفسه إذا مات، وهو فهم أنه استراح من المرض، فهي أرادت شيئاً وفهم الرجل شيئاً آخر.
فلما أخبرته أنكر عليها، وبعد ذلك جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبره فقال: (هل عرستما؟ قال: نعم.
فقال: بارك الله لكما في ليلتكما)، ثم ولد لهما مولود، ولعله عبد الله الذي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم وحنكه، كما مر في الحديث السابق أنه كان يهنأ بعيراً له، وأنه لما ولد أتى به إليه أخوه أنس، ثم قال: (معك تمرات؟ فأخذها ولاكها ثم وضعها في فم الغلام، وجعل الغلام يتلمظ وقال: حب الأنصار التمر! وسماه عبد الله) وبورك في ذلك الولد وفي نسله.
فالحاصل أن هذا الغلام أبا عمير هو الذي توفي، وحصل الوقاع في تلك الليلة، وحملت بـ عبد الله هذا الذي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم وحنكه، فيجوز أن يكنى الصغير، ولا يعتبر ذلك من الكذب، وفيه أيضاً ملاطفة الصغير وتأنيسه ومداعبته.
[عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدخل علينا ولي أخ صغير يكنى أبا عمير، وكان له نغر يلعب به)].
النغر: طائر صغير كالعصفور أو نحوه، معناه: أنه يستأنس به.
[(فمات فدخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فرآه حزيناً، فقال: ما شأنه؟).
رآه حزيناً لأن نغره قد مات، فتأثر ذلك الصبي فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أهله عن سبب حزنه، فقالوا: إنه قد مات نغره، فقال: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟).
يعني: ما حال النغير؟ لكن هذا غير صحيح، فإن الأحاديث الكثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت بالنهي عن صيد المدينة، وقال: (لا يصاد صيدها، ولا يقطع شجرها)، وقال أبو هريرة كما في الصحيح: (لو وجدت الظباء ترتع في المدينة ما ذعرتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المدينة حرم ما بين لابتيها)، فالذي يبدو أن هذا صيد قد أدخل وليس مصيداً في المدينة؛ لأن المدينة لا يجوز أن يصاد بها الصيد، فهذا خطأ، والحديث ليس فيه أنه صِيد في المدينة، بل الأحاديث الكثيرة كلها تدل على تحريم صيد المدينة، ولكن الذي يفهم أن هذا الصيد قد أخذ من خارج الحرم.
لكن الحديث يدل على جواز حبس الطيور إذا أحسن إليها، ولم يحصل لها أذى، ومثل هذا إحضار الدجاج إلى البيوت والحمام، المهم: أنه يحسن إليها، وأما حبسها مع إيذائها، أو عدم الإحسان إليها فيدخل تحت قصة صاحبة الهرة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم (دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها).
فقوله: لا هي أطعمتها إذ حبستها.
يدل على الجواز، (ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض).(566/3)
تراجم رجال إسناد حديث (يا أبا عمير! ما فعل النغير)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل عن حماد عن ثابت].
موسى بن إسماعيل عن حماد مر ذكرهما، وثابت هو ابن أسلم البناني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس رضي الله عنه مر ذكره.
وهذا الإسناد رباعي من أعلى الأسانيد عند أبي داود رحمه الله.(566/4)
ما جاء في المرأة تكنى(566/5)
شرح حديث (فاكتني بابنك عبد الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المرأة تكنى.
حدثنا مسدد وسليمان بن حرب المعنى قالا: حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (يا رسول الله! كل صواحبي لهن كنى قال: فاكتني بابنك عبد الله، يعني: ابن أختها.
قال مسدد: عبد الله بن الزبير، قال: فكانت تكنى بـ أم عبد الله)].
أورد أبو داود باباً في المرأة تتكنى، والمرأة تكنى كما يتكنى الرجل، والرجل تتحد كنيته وكنية زوجته إذا كان بينهما أول ولد، وقد يكون الرجل له كنية سابقة، والمرأة كذلك قد تكون لها كنية إذا كان لها زوج سابق، وقد تكنى المرأة وإن لم يكن لها ولد، كما مر في حديث أبي عمير، وكما جاء في حديث عائشة؛ لأن عائشة ليس لها ولد، ولكن الرسول أمرها بأن تتكنى بكنية ابن أختها أسماء عبد الله بن الزبير فكان يقال لها: أم عبد الله، وهي ليس لها ولد؛ لأنها لم تلد من النبي صلى الله عليه وسلم.
وهو يدل على ما دل عليه الحديث السابق من أنه يتكنى من ليس له ولد، وأن الكنية تكون من غير ولد، وأيضاً يدل على أنه يقال لغير الابن الذي هو من النسل ابن؛ لأنه قال: (ابنك)، أي: ابن أختك، مثلما مر أنه قال لـ أنس يا بني.
فابن الأخت هو ابن للخالة، فكانت تكنى ب أم عبد الله رضي الله تعالى عنها وأرضاها.(566/6)
تراجم رجال إسناد حديث (فاكتني بابنك عبد الله)
قوله: [حدثنا مسدد وسليمان بن حرب].
مسدد مر ذكره، وسليمان بن حرب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد بن زيد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
عروة بن الزبير ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين.
[عن عائشة].
عائشة رضي الله عنها مر ذكرها.
[قال أبو داود: وهكذا قال قران بن تمام ومعمر].
قران بن تمام صدوق ربما أخطأ، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[ومعمر].
معمر بن راشد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[جميعاً عن هشام نحوه].
هشام هو ابن عروة (نحوه) يعني: نحو ما تقدم.
[ورواه أبو أسامة عن هشام عن عباد بن حمزة].
أبو أسامة مر ذكره، وعباد ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[وكذلك حماد بن سلمة ومسلمة بن قعنب عن هشام كما قال أبو أسامة].
حماد بن سلمة ثقة أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
ومسلمة بن قعنب هو والد عبد الله بن مسلمة القعنبي الذي يأتي ذكره كثيراً في الأسانيد، وهو ثقة.(566/7)
لا يقول المملوك ربي وربتي(566/8)
من أحكام كلمة السيد ونحوها
لفظة (سيدي) مخففة معناها معروف, ولكن السيد بالكسر اسم للذئب، فالذي يقول سِيدي ويقصد سَيدي، هي في الحقيقة بهذا اللفظ اسم للذئب، وهو يقولها يقصد بها السؤدد.
أما لفظة المولى فقد جاء فيها بعض الأحاديث، وجاء إطلاقها على المخلوق {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى} [الدخان:41]، وإطلاقها على الحقيقة إنما هو على الله {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال:40] ومن الأدب ترك ذلك حتى كلمة (سيدي) هذه، فلا يستعملها المرء ولا يحرص عليها، وإن كان يجوز أن يقول ذلك في بعض الأحيان، لكن كونه يلتزمها أو يحافظ عليها فهذا شيء غير معروف عند سلف هذه الأمة.
وفي بعض البلاد تستخدم كلمة (السيد) لصاحب العمل، وهناك من يستعملونها لكل أحد، والآن كلمة السيد صارت ممتهنة مبذولة، فالاستمارات التي تعبأ مكتوب فيها السيد وبعدها فراغ، فالكل سيد بالمجان! والشاعر يقول: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال إن السؤدد لا يحصل إلا بالمشقة، وليس الكل يصنع المشقة، إذاً: ليس الكل يصلح أن يكون سيداً.
ومن مباحث كلمة سيد: ما قاله النووي رحمه الله: ولم يأت تسميته تعالى بالسيد في القرآن ولا في حديث متواتر.
لكن هذا كلام غير مستقيم، فقد ورد في حديث صحيح مر بنا في سنن أبي داود ما يدل على ذلك والتواتر ليس بلازم في الصحة.
أما جاء في سورة يوسف: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف:42] فهذا كما هو معلوم حكاية عمن كان قبلنا، ثم أيضاً فيه مخاطبة، وقوله: (ربك) يعني بها سيده، ومعلوم أن هذا من باب الأدب في الخطاب، وإلا فإنه عندما يضاف فيقال: رب الدار، رب البيت، وكما جاء عن عبد المطلب: (أنا رب إبلي وللبيت رب يحميه) فكلمة الرب تعتبر من الألفاظ التي تستعمل كما ينبغي.(566/9)
شرح حديث (وليقل سيدي ومولاي) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن أبا يونس حدثه عن أبي هريرة رضي الله عنه في هذا الخبر، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وليقل: سيدي ومولاي)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى عن أبي هريرة، ولم يقل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أنه لم يرفعه، وفيه قال: (سيدي ومولاي، بدل: سيدي وسيدتي).
قوله: [حدثنا ابن السرح].
ابن السرح هو: أحمد بن عمرو بن السرح ثقة أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث].
ابن وهب مر ذكره، وعمرو بن الحارث المصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن أبا يونس].
أبو يونس هو سليم بن جبير وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.(566/10)
شرح حديث (لا تقولوا للمنافق سيد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن قتادة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تقولوا للمنافق: سيد، فإنه إن يك سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل)].
أورد أبو داود حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه: (لا تقولوا للمنافق: سيد، فإنه إن يك سيداً فقد أسخطتم ربكم) يعني: أن المنافق إن كان سيداً من ناحية أنه كبير قوم وقلتم عليه سيد فقد أسخطتم الله؛ لأن وصف السؤدد لا يصلح له، وإن لم يكن سيداً في قومه أو كبيراً في قومه، فإن هذا ذم إلى ذم، فهو أولاً ليس عنده السؤدد الذي يحصل لأمثاله أو يحصل لبني جنسه؛ لأن في المنافقين السيد والمسود، وأيضاً من ناحية أنه كذب؛ لأنه لا يوجد فيه السؤدد الذي يضاف إلى من كان له سؤدد على قومه من جنسه، فجمع بين كونه يغضب الله لو كان سيداً، وبين كونه أيضاً كذباً؛ لأنه لا يوجد فيه هذا الوصف.
والمنافق لا يكون سيداً، وإنما هو ذليل وحقير، وليس من أهل السؤدد في الحقيقة، ومع الأسف أن السؤدد الآن حصل لكل أحد حتى للكفار، فيقال للكافر سيد إما بلغة العرب وإما بلغة العجم.(566/11)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تقولوا للمنافق سيد)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة].
عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري ثقة أخرج له أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا معاذ بن هشام].
معاذ بن هشام صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبي].
أبوه هو هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن بريدة].
عبد الله بن بريدة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(566/12)
ما جاء في أنه لا يقال خبثت نفسي(566/13)
شرح حديث (لا يقولن أحدكم خبثت نفسي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب لا يقال خبثت نفسي.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي، وليقل: لقست نفسي)].
أورد أبو داود باب لا يقال خبثت نفسي؛ لأن (خبثت) ليست بمعنى (لقست)، ومعناه: أنه حصل للنفس شيء، فتوصف بالوصف الذي لا شبهة فيه، وليس فيه مخالفة للأدب وهو (لقست)، ولا يؤتى بلفظ (خبثت) الذي يدل على الخبث، ويضيف الخبث إلى نفسه.
فمن الأدب أن يبتعد عن هذا اللفظ، وإضافته إلى نفسه، وإن كان معناه يقارب معنى (لقست)، ولكن هذا من التنبيه إلى الشيء الذي فيه السلامة، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا} [البقرة:104] فأرشدهم إلى أن يقولوا: انظرنا، ولم يأمرهم أن يقولوا: راعنا؛ لأن (راعنا) تحتمل معنى حسناً ومعنىً سيئاً، وهنا لفظ الخبث سيئ، فكونه يضيف الخبث إلى نفسه هذا شيء سيئ فأرشده إلى أن يتركه، وأن لا يأتي به، ولكن يأتي بلفظ آخر يؤدي معناه، وليس في ذلك اللفظ ما لا يليق.(566/14)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يقولن أحدكم خبثت نفسي)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن وهب أخبرني يونس].
ابن وهب مر ذكره، ويونس بن يزيد الأيلي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف].
أبو أمامة بن سهل بن حنيف وهو: أسعد وكنيته أبو أمامة، وله رؤية، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
سهل بن حنيف رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(566/15)
شرح حديث (لا يقولن أحدكم جاشت نفسي) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (لا يقولن أحدكم: جاشت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي)].
أورد المصنف حديث عائشة: (لا يقولن أحدكم: جاشت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي)، وهو مثل الذي قبله في أنه يرشد إلى الشيء الذي ليس فيه احتمال معنىً آخر، ولا فيه احتمال سوء.
وقوله: (جاشت) وصف مذموم لعله بمعنى (خبثت).
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد].
مر ذكرهما.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة بن الزبير وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
عروة بن الزبير وهو ثقة فقيه من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وأرضاها، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(566/16)
شرح حديث (لا تقولوا ما شاء الله وفلان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن منصور عن عبد الله بن يسار عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان)].
أورد أبو داود هذا الحديث ولا علاقة له بالترجمة أو الأحاديث السابقة؛ لأن ما شاء الله وشاء فلان هذا لا علاقة له بالباب المذكور، وفي عون المعبود يوجد باب قبل هذا الحديث بدون ترجمة، وبعض النسخ ليس فيها ذكر باب، وهنا جعل الباب بعد هذا الحديث، ومحله المناسب قبل هذا الحديث؛ لأن الحديث لا علاقة له بالترجمة السابقة، ولعله لم يذكر الترجمة؛ لأنه ذكر جملة أحاديث متفرقة تدل على معان مختلفة، فلم يجعل باباً معيناً؛ لأن تحته عدة أحاديث، فاكتفى بأن يقول: باب، وأن يميزه عما قبله بذلك، حتى لا يكون معناه أن له علاقة به من ناحية أنه من الآداب في الألفاظ؛ لأن كل الأحاديث التي مرت سابقاً تتعلق بالآداب في الألفاظ.
ومن المعروف أن الباب عندما يذكر بدون ترجمة يكون كالفصل عن الباب الذي قبله، فهنا ذكر الترجمة؛ لأنه جاء على أحاديث متعددة تتعلق بالآداب في الألفاظ، ولكنها متنوعة وليست على معنىً واحد، أو على موضوع واحد، فنسخة عون المعبود فيها كلمة باب قبل هذا الحديث، ومعناه أن حديث: (ما شاء الله وشاء فلان)، والأحاديث التي بعده إلى نهاية الباب وهي أحاديث متفرقة تتعلق بالآداب في الألفاظ.
وقوله: (ما شاء الله وشاء فلان) هذا ممنوع، وهو من الشرك الأصغر شرك الألفاظ؛ لأن فيه التشريك بين الله وغيره.
والنبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى أن يقول: (ما شاء الله ثم شاء فلان).
يعني: أن مشيئة العبد ليست مقترنة بمشيئة الله، وإنما هي تابعة لمشيئة الله؛ لأن (ثم) تفيد العطف مع التراخي، وأما الواو فتفيد التشريك والجمع، ومشيئة الله عز وجل نافذة، ومشيئة العبد تابعة لمشيئة الله، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] فجاءت السنة بأنه لا يؤتى بهذا اللفظ الذي فيه شرك أصغر، وأرشدت إلى ما فيه السلامة، وما يليق بالله عز وجل، وما يليق بالمخلوق، فقال: (ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان).
أي: أن مشيئة فلان تابعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى، وليست مقترنة بها.
وهذا يدلنا على أن الله له مشيئة والعبد له مشيئة، ومشيئة العبد تابعة لمشيئة الله، ولكن لا يقال: إن العبد لا مشيئة له وإنه مجبور، كما تقوله الجبرية: الإنسان مجبور على أفعاله، وليس له إرادة، وهو مثل الريشة التي تحركها الرياح.
بل له مشيئة؛ لأن الله أثبت له مشيئة كما في الحديث: (ما شاء الله وشاء فلان)، ولكنه ليس مستقلاً بمشيئته وإرادته، وإنه يشاء ما لم يشأه الله، بل ما يشاؤه يكون تابعاً لمشيئة الله.(566/17)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تقولوا ما شاء الله وفلان)
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
أبو الوليد الطيالسي هو: هشام بن عبد الملك ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
منصور بن المعتمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن يسار].
عبد الله بن يسار ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن حذيفة].
حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(566/18)
ما جاء في جملة من آداب الألفاظ(566/19)
شرح حديث أن خطيباً قال: (من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما، فقال قم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان بن سعيد قال: حدثني عبد العزيز بن رفيع عن تميم الطائي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه: (أن خطيباً خطب عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما، فقال: قم.
أو قال: اذهب فبئس الخطيب أنت!)].
أورد أبو داود هذا الحديث، وهو من الأحاديث التي فيها آداب الألفاظ، ولكن ليس هناك ترجمة خاصة به، ولا بالذي قبله ولا في الذي بعده، وهو يتعلق بالجمع بين الضمير في حق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، والحديث يدل على المنع، وعلى أنه لا يجمع بينهما في ضمير واحد.
وقد جاء ما يدل على الجمع بينهما في ضمير واحد، مثلما جاء في الحديث: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن الخمر والميتة)، وكذلك حديث: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) فـ (هما) ضمير لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهنا جاء المنع، وقد جمع العلماء بين ما فيه الجواز وما فيه المنع فقالوا: الخطب المقصود فيها البسط وعدم الإجمال لكي تكون واضحة، وألا يكون فيها شيء موهم، بل يفصل فيها، فيقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، أو فلا يضر إلا نفسه.(566/20)
تراجم رجال إسناد حديث أن خطيباً قال: (من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما، فقال قم)
قوله: [حدثنا مسدد عن يحيى].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
ويحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان بن سعيد].
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عبد العزيز بن رفيع].
عبد العزيز بن رفيع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن تميم الطائي].
تميم بن طرفة الطائي وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عدي بن حاتم].
عدي بن حاتم رضي الله عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(566/21)
شرح حديث (لا تقل تعس الشيطان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية عن خالد -يعني: ابن عبد الله -عن خالد - يعني: الحذاء - عن أبي تميمة عن أبي المليح عن رجل قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعثرت دابته فقلت: تعس الشيطان! فقال: لا تقل: تعس الشيطان؛ فإنك إذا قلت ذلك تعاظم حتى يكون مثل البيت، ويقول: بقوتي، ولكن قل: باسم الله، فإنك إذا قلت ذلك تصاغر حتى يكون مثل الذباب)].
أورد أبو داود حديثاً عن رجل كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فعثرت الدابة فقال: تعس الشيطان! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تقل: تعس الشيطان، فإنك إذا قلت ذلك تعاظم حتى كان كالبيت -يعني يتضخم- ولكن قل: باسم الله، فإنه يتضاءل حتى يكون كالذباب) , وذلك؛ لأن قوله: (تعس الشيطان).
معناه الذم له، وفيه أيضاً: أنه يصير عنده قدرة وقوة، وكأن ذلك حصل منه، فيقول: بقوتي، ولكن إذا قيل: باسم الله فإنه يتضاءل حتى يكون كالذباب.(566/22)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تقل تعس الشيطان)
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
وهب بن بقية الواسطي ثقة أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن خالد -يعني ابن عبد الله].
خالد بن عبد الله الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد الحذاء].
خالد بن مهران يعني: الحذاء ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي تميمة].
أبو تميمة هو طريف بن مجالد ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن أبي المليح].
أبو المليح اسمه عامر بن أسامة وقيل: زيد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رجل].
رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والجهالة في الصحابة لا تؤثر، والمجهول فيهم في حكم المعلوم.
والتابعي قد يبهم الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون لم يعرف اسمه، وقد يكون عرفه ونسيه، فاكتفى بقوله: رجل.
على الإبهام، والجهالة في الصحابة لا تؤثر، بينما الجهالة في غيرهم تؤثر، مثلما قال الخطيب في الكفاية: إن الرجال في الإسناد كلهم يحتاج إلى معرفة أحوالهم من الثقة والعدالة والضعف إلا الصحابة، فإنه لا يحتاج؛ لأن المجهول فيهم في حكم المعلوم.(566/23)
شرح حديث (إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك ح وحدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا سمعت - وقال موسى:- إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم).
قال أبو داود: قال مالك: إذا قال ذلك تحزناً لما يرى في الناس -يعني: في أمر دينهم- فلا أرى به بأساً، وإذا قال ذلك عجباً بنفسه وتصاغراً للناس فهو المكروه الذي نهي عنه].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة قال: (إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم).
لفظ (الرجل) هنا لا مفهوم له، فالمرأة إذا قالت ذلك فإنها مثل الرجل.
وقوله: (من قال: هلك الناس فهو أهلكهم) يعني: أنه أسبقهم إلى هذا، وهو أولهم في الهلاك وهذا الوصف للناس هو أولى الناس بالاتصاف به، أو: هو أولى من غيره، أو: هو أول من يتصف به.
وقد ذكر مالك رحمه الله: أن من قال ذلك تحزناً على ما يرى من الناس، فإن ذلك لا بأس به، ولكن كونه يرى لنفسه ميزة على غيره ويتصاغره ويحتقره، فإن هذا هو الذي يكون مذموماً، ولاشك أن تجنب ذلك هو الذي ينبغي.
هناك رواية لكلمة: (أهلكهم) بالنصب، يعني أنه تسبب في هلاكهم، وأن من قال ذلك ييئس من الناس وييأسون هم بسبب مقالته.(566/24)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم)
قوله: [حدثنا القعنبي].
القعنبي هو: عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا موسى بن إسماعيل عن حماد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه].
موسى بن إسماعيل وحماد مر ذكرهما.
وسهيل بن أبي صالح صدوق أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وروايته في البخاري مقرونة، وأبوه أبو صالح هو السمان واسمه ذكوان أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه وقد مر ذكره.(566/25)
الأسئلة(566/26)
حكم التسمي بأسماء الأنبياء
السؤال
بالنسبة للتسمي بأسماء الأنبياء، روى مسلم في صحيحه عن المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت نجران سألوني فقالوا: إنكم تقرءون: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته فقال: (إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم)؟
الجواب
هذا في حق من قبلنا؛ لأنه لما ذكر (يا أخت هارون) مع أن هارون هو أخو موسى، وبين عيسى وموسى مدد طويلة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: إن هارون هذا هو أخ لمريم، وليس هو أخا موسى وإنما هذا واحد ممن سموهم بأسماء الأنبياء؛ لأنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياء، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى ابنه إبراهيم باسم أبيه إبراهيم حيث قال عليه الصلاة والسلام: (ولد الليلة لي غلام وسميته باسم أبي إبراهيم).
فالحديث الذي في فيه (تسموا بأسماء الأنبياء) ما ثبت؛ لأن فيه رجلاً ضعيفاً، وأما التسمية فليس هناك ما يمنع منها، وإنما الإشكال في كون الرسول أمر بالتسمية، لكنه سمى باسم أبيه إبراهيم، وقال: (ولد الليلة لي غلام وسميته باسم أبي إبراهيم).
فلم يثبت أمره صلى الله عليه وسلم بأن يسمى، وأما هذا الذي في الحديث فهو إخبار أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم، وهنا أيضاً لا بأس أن يسمى بأسماء الأنبياء؛ لأن القدوة في ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد سمى ابنه إبراهيم باسم أبيه إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وقد بوب النووي: باب استحباب التسمية بعبد الله وإبراهيم وسائر أسماء الأنبياء عليهم السلام.
وعلى كل فإن أسماء عبد الله وعبد الرحمن جاء نص فيها، وأما الأنبياء فما أعلم نصاً صحيحاً يدل على الأمر بالتسمية بها، ولكن جائز أن يسمى لأنه صلى الله عليه وسلم سمى ابنه باسم أبيه إبراهيم.(566/27)
حكم التسمي بأسماء الصالحين
السؤال
ما حكم التسمي بأسماء الصالحين، وهل هذا من التبرك بهم؟
الجواب
التبرك لا يكون بأحد من الناس، وقد عرفنا أن التبرك إنما هو بالرسول صلى الله عليه وسلم فقط، مثل التبرك بعرقه وبما يخرج من جسده عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا هو الذي كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلونه معه، وما كانوا يفعلونه مع غيره، وأما كون الإنسان يسمي باسم شخص أعجبه لعلمه ولفضله، فإنه لا بأس بذلك، لكن لا يقال: تبركاً به.(566/28)
معنى قول أبي العالية (تسمون أولادكم بأسماء الأنبياء ثم تلعنونهم)
السؤال
روى ابن أبي شيبة فيما يكره من الأسماء قال: حدثنا الفضل بن دكين عن أبي خلدة وهو صدوق عن أبي العالية قال: إنكم تفعلون شراً في ذلك، تسمون أولادكم أسماء الأنبياء ثم تلعنونهم؟
الجواب
هذا لا يدل على المنع، وإنما يدل على المنع من الثاني، وهو أن يسمي الإنسان باسم طيب ثم يلعنه.
وأيضاً لو حصل اللعن فإنه لا يكون لذاك النبي، وإنما لهذا الشخص، ومعلوم أن لعن المعين لا يجوز مطلقاً، وإنما اللعن يكون للأوصاف، (لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء).
(لعن الله النامصة والمنتمصة).
لعنة الله على الكاذبين لعنة الله على الظالمين، وهكذا بالأوصاف وليس بالأسماء، وهذا الأثر لا يدل على المنع، ولكن يدل على المنع من اللعن مطلقاً.(566/29)
حكم التسمي بشهاب الدين ونحوه من الأسماء
السؤال
بالنسبة للتسمي بشهاب الدين ونحوها، قال ابن القيم في تحفة المودود: وأما فلان الدين وعز الدين وعز الدولة وبهاء الدولة فإنهم -أي: العرب- لم يكونوا يعرفون ذلك، وإنما أتى هذا من قبل العجم؟
الجواب
نعم هذا جاء من قبل العجم، ولكنه اشتهر عند العرب، واستعملوه، فكانوا يضيفون مثل هذه الألقاب، وابن القيم رحمه الله يقال له: شمس الدين وشيخ الإسلام يقال له: تقي الدين، وابن حجر يقال له: شهاب الدين، والعيني يقال له: بدر الدين، وهكذا، ولاشك أن تركها هو الذي ينبغي.(566/30)
شرح سنن أبي داود [567]
لقد نهت الشريعة عن تسمية العشاء بالعتمة، من باب المحافظة على الآداب في الألفاظ، وإلا فقد جاءت أحاديث فيها تسمية العشاء بالعتمة، ولكن الالتزام بلفظ القرآن هو الأولى، وإن حصل عكس ذلك فلا يكون هو الأغلب السائد.
ومن الالتزام بالألفاظ الشريعة أن لا يكذب المسلم فقد جاء التشديد فيه، والتحذير منه، وأنه يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار، وفي المقابل أوجب الصدق في الأقوال والأفعال على المسلم.(567/1)
ما جاء في صلاة العتمة(567/2)
شرح حديث (لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا وإنها العشاء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في صلاة العتمة.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا سفيان عن ابن أبي لبيد عن أبي سلمة قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، ألا وإنها العشاء، ولكنهم يعتمون بالإبل)].
أورد أبو داود رحمه الله تعالى باباً في صلاة العتمة.
العتمة هي صلاة العشاء، والمقصود من ذلك أن الذي ينبغي أن يذكر في اسم هذه الصلاة أن يقال: صلاة العشاء، كما جاء ذلك في القرآن، قال عز وجل: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [النور:58] فسماها الله عز وجل صلاة العشاء، والأعراب كانوا يطلقون عليها العتمة، وكانوا يؤخرونها؛ لأنهم يعتمون بالإبل حتى يؤخروا الصلاة بسبب ذلك، فكانوا يسمونها العتمة.
والمقصود من النهي ألا يهجر اسم العشاء حتى يغلب الاسم الذي يطلقه الأعراب على اسم العشاء الذي جاء في القرآن، وإذا ذكر في بعض الأحيان العشاء وأطلق عليها العتمة، فذلك سائغ؛ لأنه جاء في بعض الأحاديث الصحيحة إطلاق لفظ العتمة على العشاء، كما قال: (لو يعلم الناس ما في الفجر والعتمة) يعني صلاة الفجر وصلاة العشاء، فالمقصود من ذلك ألا يهجر اسم العشاء ويغلب عليه ذلك الاسم الذي هو العتمة؛ ولهذا قال: [(لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، ألا وإنها العشاء، ولكنهم يعتمون بالإبل)] أي: يشتغلون بالإبل ويؤخرون صلاة العشاء بسبب ذلك، ولهذا يقولون لها: العتمة؛ لأنها مأخوذة من الإعتام، وهو شدة الظلام.
إذاً: فالمقصود من ذلك هو المحافظة على الآداب في الألفاظ، وأنه يعبر عن الصلاة الثانية من صلاة الليل بصلاة العشاء كما جاء في القرآن، ولا يعبر عنها بالعتمة بأن يغلب ذلك، وإذا حصل أن قيل لها: العتمة في بعض الأحيان فإنه لا بأس بذلك؛ لأنه ثبت ذلك في بعض الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(567/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا وإنها العشاء)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي لبيد].
هو عبد الله بن أبي لبيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن أبي سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.(567/4)
حكم إطلاق لفظ صلاة الأخير أو العشاء الأخير على صلاة العشاء
أيضاً كون بعض الناس يقولون: إن صلاة العشاء صلاة الأخير، فالمقصود به العشاءان: العشاء الأول الذي هو المغرب، والعشاء الأخير الذي هو العشاء، ولكن كون الناس يأتون بلفظ صلاة العشاء كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي ينبغي، وأما أن يهجر أو يترك لفظ صلاة العشاء ويقال: الأخير، أو العشاء الأخير، فلا ينبغي ذلك.(567/5)
شرح حديث الرجل من خزاعة وفيه (يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا مسعر بن كدام عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد قال: قال رجل، قال مسعر: أراه من خزاعة: (ليتني صليت فاسترحت، فكأنهم عابوا عليه ذلك، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليتني صليت فاسترحت).
يقصد من ذلك أنه يكون قد أدى الواجب الذي عليه، وأبرأ ذمته من ذلك الشيء الذي هو في ذمته، وهذا تعبير معناه صحيح من ناحية أن الإنسان يبادر إلى أداء الواجب، لكن لما كان التعبير بالاستراحة فهموا على أنه يريد التخلص منها أو ما إلى ذلك، فأنكروا عليه ذلك، فروى الحديث الذي قال: [(يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها)] ويمكن أن يكون معنى قوله: [(استرحت)] يعني: استرحت بها، وبالإتيان بها، أما كون المعنى استرحت منها، فهذا هو الإشكال؛ لأن فيه تخلصاً من العبادة وتثاقلا بها، وأما الذي جاء في الحديث هذا: [(أرحنا بها)] فمعناه: أرحنا مما كنا فيه من العناء والتعب، ومن الضيق والمشقة إلى أن نشتغل بالصلاة.
ويمكن أن يكون المقصود بقوله: [(فاسترحت)] أنه أدى الواجب الذي عليه وأبرأ ذمته منه، وبادر إلى أداء الواجب، ومعلوم أن المبادرة إلى أداء الواجب من أهم الأشياء المطلوبة؛ لأن البدار إلى أداء الواجب شيء محمود، لكن لما كان التعبير بالاستراحة قد يفهم منه أنه تخلص منها، فصار فيه هذا الاحتمال الذي أنكروا عليه من أجله، فهو استدل عليهم بقوله صلى الله عليه وسلم: [(أرحنا بها)] ومعلوم أن هذا غير هذا، لكن يمكن أن يحمل هذا على أنه استراح بانشغاله بالصلاة وإقباله على الصلاة.(567/6)
تراجم رجال إسناد حديث الرجل من خزاعة وفيه (يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عيسى بن يونس].
عيسى بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا مسعر بن كدام].
مسعر بن كدام ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن مرة].
عمرو بن مرة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم بن أبي الجعد].
سالم بن أبي الجعد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: قال رجل، قال مسعر: أراه من خزاعة].
يعني: أنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا، ومعلوم أن جهالة الصحابي لا تؤثر؛ لأن المجهول فيهم في حكم المعلوم، والجهالة في غيرهم هي التي تؤثر.(567/7)
وجه تعلق الحديث بترجمة الباب
هذا الحديث ليس فيه علاقة بصلاة العتمة؛ لأنه لم يتعرض لصلاة العتمة، ولكن يبدو والله أعلم أن المقصود من ذلك أن هذه ألفاظ ينبغي تركها، مثل ما جاء في صلاة العتمة أن صلاة العشاء أولى من العتمة، فكذلك ذكر العبارات التي فيها احتمال معنىً ليس بجيد فإنها تترك، ويؤتى بعبارات واضحة لا احتمال فيها.
كذلك الحديث الذي بعده لا تعلق له بصلاة العتمة، ولكن له تعلق من جهة أن الألفاظ التي فيه ينبغي أن يبتعد عنها؛ لأن فيها احتمال معنىً غير لائق أو غير مرغوب فيه.(567/8)
شرح حديث الرجل من الأنصار الذي فيه (قم يا بلال فأرحنا بالصلاة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا إسرائيل حدثنا عثمان بن المغيرة عن سالم بن أبي الجعد عن عبد الله بن محمد بن الحنفية قال: (انطلقت أنا وأبي إلى صهر لنا من الأنصار نعوده، فحضرت الصلاة، فقال لبعض أهله: يا جارية، ائتوني بوضوء لعلي أصلي فأستريح، قال: فأنكرنا ذلك عليه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: قم يا بلال فأرحنا بالصلاة)].
هذا مثل الذي قبله، وفيه أن عبد الله بن محمد بن الحنفية ذهب هو وأبوه إلى صهر لهما من الأنصار يعودانه، فطلب من جارية أن تأتي بماء، قال: حتى أتوضأ وأصلي فأستريح، فأنكروا عليه قوله: فأستريح، مثل ما حصل الإنكار على الرجل المبهم في الحديث الأول، وكذلك هنا هو رجل من الأنصار غير معروف، وجهالة الصحابي لا تؤثر.
فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [(قم يا بلال فأرحنا بالصلاة)] ومعلوم أن قوله: [فأستريح)] محمول على أنه يستريح بها، وأنه يبادر إلى أداء الواجب، لا أن المقصود بذلك أنه يتخلص منها، أو كأنه شيء ثقيل يتخلص منه، وإنما المعنى ليستريح بها ويكون له فيها راحة عما أهمه، أو أن المقصود من ذلك أنه يبادر إلى أداء ما أوجب الله عليه، فيبرئ ذمته، فيكون المعنى مستقيماً على هذين الوجهين.(567/9)
تراجم رجال إسناد حديث الرجل من الأنصار الذي فيه (قم يا بلال فأرحنا بالصلاة)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا إسرائيل].
هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عثمان بن المغيرة].
عثمان بن المغيرة وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن سالم بن أبي الجعد عن عبد الله بن محمد بن الحنفية].
سالم بن الجعد مر ذكره، وعبد الله بن محمد بن الحنفية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وأبوه محمد بن الحنفية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، لكن ليس هو في هذه الرواية، وإنما ذكر ابنه أنه ذهب هو وإياه إلى رجل من الأنصار.
[إلى صهر لنا].
صهرهم هو رجل من الأنصار صحابي.(567/10)
شرح حديث (ما سمعت رسول الله ينسب أحداً إلا إلى الدين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينسب أحداً إلا إلى الدين)].
أورد أبو داود حديث عائشة: [(ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسب أحداً إلا إلى الدين)] يعني: كأن يقول: هذا مهاجري أو أنصاري أو ما إلى ذلك من الألقاب المحمودة كالهجرة والنصرة، ولكن الحديث فيه انقطاع بين عائشة والراوي عنها وهو زيد بن أسلم.(567/11)
تراجم رجال إسناد حديث (ما سمعت رسول الله ينسب أحداً إلا إلى الدين)
قوله: [حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء].
هارون بن زيد بن أبي الزرقاء هو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
أبوه ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا هشام بن سعد].
هشام بن سعد وهو صدوق له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن زيد بن أسلم].
زيد بن أسلم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة رضي الله عنها.
ورواية زيد عنها مرسلة، فالسند فيه انقطاع، وهو غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.(567/12)
ما روي في الرخصة في تسمية العشاء بالعتمة(567/13)
شرح حديث (كان فزع بالمدينة فركب رسول الله فرساً لأبي طلحة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما روي في الرخصة في ذلك.
حدثنا عمرو بن مرزوق أخبرنا شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: (كان فزع بالمدينة، فركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرساً لـ أبي طلحة رضي الله عنه فقال: ما رأينا شيئاً، أو ما رأينا من فزع، وإن وجدناه لبحراً)].
قوله: [باب ما روي في الرخصة في ذلك] يعني: في جواز تسمية صلاة العشاء بصلاة العتمة، وأن الباب الأول يفيد على أن الأولى هو عدم الإكثار منها، وألا يغلب ذلك الاسم الذي اشتهر عند الأعراب، ويهجر الاسم الذي جاء في القرآن، وهنا الحديث ليس له علاقة بالذي قبله، لكن يمكن أن يكون له علاقة بالذي قبله من حيث التعبير بلفظ آخر غير المشهور، وأنه لا بأس بذلك؛ لأنه ذكر البحر، والبحر كما هو معلوم أنه الماء المعروف، والرسول صلى الله عليه وسلم وصف الفرس الذي ركب عليه وكان عرياً ليس عليه سرج بقوله: [(وإن وجدناه لبحراً)] يعني: أنه شديد الجري وشديد العدو، وأنه يشبه البحر في سيلانه وتدفقه، أو كونه يسبح في الفضاء فوق الأرض مثل ما يحصل من الأمواج في البحر، فهو يموج وينتقل ويضطرب ويذهب بسرعة.
فيكون المقصود من ذلك أن مثل هذا التعبير سائغ؛ لأن البحر في الحقيقة يقصد به البحر الجاري.
أما بالنسبة للعتمة فإنه ليس فيه شيء يدل عليها، ولكنه قد جاء ما يدل عليها مثل الحديث الذي أشرت إليه: (لو يعلم الناس ما في الفجر والعتمة) وقد جاء في الحديث الذي في قصة المنافقين: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما ولو حبواً).
قوله: [(كان فزع بالمدينة فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً)].
يعني: أصاب الناس فزع على اعتبار وصول أعداء لهم غازين على المدينة، فسمعوا الصوت فأسرعوا، وسبقهم الرسول صلى الله عليه وسلم فركب على فرس عري ليس عليه سرج وكان بطيئاً، ولكن الله تعالى أجراه حتى سبق الناس ورجع إليهم وهم ذاهبون فقال: لا خوف عليكم، وهذا الذي سمعتموه ليس له حقيقة، ولم يحصل الشيء الذي تخافونه، فطمأنهم عليه الصلاة والسلام.
والحديث طويل وهو هنا مختصر.(567/14)
تراجم رجال إسناد حديث (كان فزع بالمدينة فركب رسول الله فرساً لأبي طلحة)
قوله: [حدثنا عمرو بن مرزوق].
عمرو بن مرزوق هو ثقة له أوهام، أخرج له البخاري وأبو داود.
[أخبرنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(567/15)
حكم استعمال حق الغير إذا علم رضاه
لقد استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على جواز أخذ حق غيره بغير إذنه إذا علم رضاه، فإذا علم أنه يسره إذا استفاد من سيارته أو من دابته، فإنه لا بأس به، وحتى لو حصل فزع شديد، والناس احتاجوا إلى أن يأخذوا أموال غيرهم إذا كان غيرهم لا يقدر على المشاركة، والأمر يتطلب ذلك، فإنه لا بأس من أجل دفع الضرر الذي هجم على الناس.(567/16)
كلام ابن القيم عن وجه النهي عن تسمية العنب كرماً والمقارنة بين شجر العنب والنخل
إن الأحاديث التي مرت كلها تتعلق بأدب الكلام والألفاظ، وبعد ذلك جاءت أبواب أخرى لا تتعلق بالموضوع الذي هو أدب الكلام وإنما تتعلق بعبارات ينبغي ألا تكون، وأنه يؤتى بألفاظ أخرى مكانها تكون أولى منها، وسبق أن مر فيما يتعلق بتسمية العنب كرماً كلام جيد وجميل لـ ابن القيم ذكره في عون المعبود، يقول فيه: العرب تسمي شجر العنب كرماً لكرمه، والكرم كثرة الخير والمنافع والفوائد؛ لسهولة تناولها من الكريم، ومنه قوله تعالى: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان:10] وفي آية أخرى: {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق:7] فهو كريم في مخبره بهيج في منظره، وشجر العنب قد جمع وجوهاً من ذلك: منها: تذليل ثمره لقاطفه.
ومنها: أنه ليس دونه شوك يؤذي مجتنيه.
ومنها: أنه ليس بممتنع على من أراده لعلو ساقه وصعوبته كغيره.
يعني: أنه ليس من الشجر التي لها ساق، وإنما يمتد على الأرض ويجعل له عريش وأعواد يمتد فوقها، ثم تتدلى من العريش عناقيد العنب.
ثم قال: ومنها: أن الشجرة الواحدة منه - مع ضعفها ودقة ساقها - تحمل أضعاف ما تحمله غيرها.
ومنها: أن الشجرة الواحدة منه إذا قطع أعلاها أخلفت من جوانبها وفروعها، والنخلة إذا قطع أعلاها ماتت ويبست جملة.
ومنها: أن ثمره يؤكل قبل نضجه، وبعد نضجه، وبعد يبسه.
ومنها: أنه يتخذ منه من أنواع الأشربة الحلوة والحامضة كالدبس والخل ما لا يتخذ من غيره، ثم يتخذ من شرابه من أنواع الحلاوة والأطعمة والأقوات ما لا يتخذ من غيره، وشرابه الحلال غذاء وقوت ومنفعة وقوة.
قوله: شرابه الحلال، مفهومه أن الحرام الذي هو الخمر الذي يتخذ منه شر وبلاء، ولكن هذه الأوصاف في الشراب الحلال.
ثم قال: ومنها: أنه يدخر يابسه قوتاً وطعاماً وأدماً.
ومنها: أن ثمره قد جمع نهاية المطلوب من الفاكهة من الاعتدال، فلم يفرط إلى البرودة كالخوخ وغيره، ولا إلى الحرارة كالتمر، بل هو في غاية الاعتدال، إلى غير ذلك من فوائده.
ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجمع بين القثاء والرطب؛ لأن القثاء بارد والرطب حار، فيقابل بحرارة هذا برودة هذا.
ثم قال: فلما كان بهذه المنزلة سموه كرماً، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الفوائد والثمرات والمنافع التي أودعها الله قلب عبده المؤمن من البر وكثرة الخير أعظم من فوائد كرم العنب، فالمؤمن أولى بهذه التسمية منه.
فيكون معنى الحديث على هذا: النهي عن قصر اسم الكرم على شجر العنب، بل المسلم أحق بهذا الاسم منه.
وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب) أي: مالك نفسه أولى أن يسمى شديداً من الذي يصرع الرجال.
وكقوله: (ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، ولكنه الذي لا يسأل الناس ولا يفطن له فيتصدق عليه) أي: هذا أولى بأن يقال له مسكين من الطواف الذي تسمونه مسكيناً.
ونظيره في المفلس والرقوب وغيرهما.
ثم قال: ونظيره قوله: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكنه الذي إذا قطعت رحمه وصلها) وإن كان هذا ألطف من الذي قبله.
وقيل في معناه وجه آخر، وهو قصد النبي صلى الله عليه وسلم سلب هذا الاسم المحبوب للنفوس، التي يلذ لها سماعه عن هذه الشجرة التي تتخذ منها أم الخبائث، فيسلبها الاسم الذي يدعو النفوس إليها، ولاسيما فإن العرب قد تكون سمتها كرماً؛ لأن الخمر المتخذة منها تحث على الكرم وبذل المال، فلما حرمها الشارع نفى اسم المدح عن أصلها، وهو الكرم، كما نفى اسم المدح عنها وهو الدواء، فقال: (إنها داء، وليست بدواء) ومن عرف سر تأثير الأسماء في مسمياتها نفرةً وميلاً عرف هذا، فسلبها النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاسم الحسن، وأعطاه ما هو أحق به منها، وهو قلب المؤمن.
ويؤكد المعنى الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه المسلم بالنخلة؛ لما فيها من المنافع والفوائد، حتى إنها كلها منفعة، لا يذهب منها شيء بلا منفعة، حتى شوكها.
يعني: شوكها توقد به النار.
ثم قال: ولا يسقط عنها لباسها وزينتها، كما لا يسقط عن المسلم زينته، فجذوعها للبيوت والمساكن والمساجد وغيرها، وسعفها للسقوف وغيرها، وخوصها للحصر والمكاتل والآنية وغيرها، ومسدها للحبال وآلات الشد والحل وغيرها.
ومن ذلك قوله تعالى: (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:5].
والمسد المقصود به الليف الذي يتخذ منه الحبال، وكذلك القنو الذي في الشماريخ يدق ثم تتخذ منه حبال، والليف يتخذ منه حبال.
ثم قال: وثمرها يؤكل رطباً ويابساً، ويتخذ قوتاً وأدماً، وهو أفضل المخرج في زكاة الفطر تقرباً إلى الله، وطهرة للصائم.
يعني: أن التمر لا يحتاج إلى تعب وإنما يؤكل رأساً، بخلاف البر فإنه يحتاج إلى طحن وخبز، وكذلك الزبيب يحتاج إلى معالجة حتى يصير زبيباً، وكذلك يحتاج إلى تجميد، أما التمر فإنه يؤكل رأساً.
ثم قال: ويتخذ منه ما يتخذ من شراب الأعناب، ويزيد عليه بأنه قوت وحده بخلاف الزبيب، ونواه علف للإبل التي تحمل الأثقال إلى بلد لا يبلغه الإنسان إلا بشق النفس، ويكفي فيه أن نواه يشترى به العنب، فحسبك بثمر نواه ثمن لغيره.
يعني: أن النوى يعاوض به العنب، والنوى هو المأخوذ من التمر، فنواها الذي بداخلها يحتاج إليه في علف الإبل، فيعاوض بالعنب، فصاحب العنب إذا أراد نوى من أجل علف إبله، فإنه يعطي عنباً مقابل النوى.
ثم قال: وقد اختلف الناس في العنب والنخل: أيهما أفضل وأنفع؟ واحتجت كل طائفة بما في أحدهما من المنافع.
والقرآن قد قدم النخيل على الأعناب في موضع، وقدم الأعناب عليها في موضع، وأفرد النخيل عن الأعناب، ولم يفرد العنب عن النخيل.
وهذا يريد به ترجيح النخل على العنب.
ثم قال: وفصل الخطاب في المسألة: أن كل واحد منهما في الموضع الذي يكثر فيه ويقل وجود الآخر أفضل وأنفع.
يعني: أنه تحصل الفائدة من كل واحد منهما من أجل كثرته، والشيء القليل لا يعول عليه، وإنما التعويل على ما هو كثير، فالمكان الذي يكثر فيه العنب تكون الفائدة فيه أكثر، والمكان الذي يكثر فيه النخل ويقل فيه العنب تكون الفائدة فيه أكثر.
ثم قال: فالنخيل بالمدينة والعراق وغيرهما أفضل وأنفع من الأعناب فيهما، والأعناب في الشام ونحوها أفضل وأنفع من النخيل بها، ولا يقال: فما تقولون إذا استويا في بلدة؟ فإن هذا لا يوجد، لأن الأرض التي يطيب النخيل فيها، ويكون سلطانه ووجوده غالباً لا يكون للعنب بها سلطان، ولا تقبله تلك الأرض، وكذلك أرض العنب لا تقبل النخيل، ولا يطيب فيها.
يعني: لأن النخيل يكون في البلاد الحارة، والعنب يكون في البلاد الباردة، وقد يوجد النخل في البلاد الباردة ولكن لا يطيب، وقد يوجد العنب في البلاد الحارة ولا يكون مثلما يكون في البلاد الباردة.
ثم قال: والله سبحانه قد خص كل أرض بخاصية من النبات والمعدن والفواكه وغيرها، فهذا في موضعه أفضل وأطيب وأنفع، وهذا في موضعه كذلك.
هذا كلام نفيس لـ ابن القيم رحمة الله عليه فيما يتعلق بالعنب وفوائد العنب وفوائد النخل، والمقارنة بينهما.(567/17)
ما جاء في التشديد في الكذب(567/18)
شرح حديث (إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التشديد في الكذب.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع أخبرنا الأعمش ح وحدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود حدثنا الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً، وعليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً)].
أرود أبو داود رحمه الله: [باباً في التشديد في الكذب] يعني: بيان ما فيه من وعيد، وأن خطره عظيم، والكذب ليس بالهين، وأنه عظيم عند الله عز وجل.
أورد أبو داود حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار)] وهذا للتحذير؛ لأن (إياكم) من ألفاظ التحذير، كما أن (عليكم) من ألفاظ الحث والترغيب، كما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) وهذا ترغيب في السنن، وتحذير من البدع بقوله: (وإياكم ومحدثات الأمور).
والكذب هو الإخبار بشيء على خلاف الواقع، ولا يكون إلا في أمر قد مضى كأن يقول: حصل كذا وكذا أو وقع كذا وكذا؛ ولهذا كانت اليمين الكاذبة لا كفارة لها، بل هي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في الإثم، لأن الإنسان حلف كاذباً على أمر أخبر بأنه حصل وهو لم يحصل، أما اليمين التي تكفر كأن يحلف على أمر مستقبل أنه سيفعله، ثم يريد ألا يفعل، أو أنه لا يريد أن يفعله ثم يريد أن يفعله، فهذه تكفر؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير).
إذاً: من حلف على أمر قد مضى وهو كاذب، فهذه تسمى اليمين الغموس وليس لها كفارة إلا التوبة، فلا تكفر بإطعام عشرة مساكين كما تكفر اليمين المعقودة على أمر مستقبل، بل الواجب فيها التوبة إلى الله عز وجل، وترك الكذب والابتعاد عن الكذب.
قوله: [(فإن الكذب يهدي إلى الفجور)] والفجور هو الانحراف والميل عن الحق والهدى.
والفجور يوصل إلى النار ويؤدي إليها، ومن الأسباب الموصلة إلى النار.
والكذب هو من جملة الفجور، والفجور واسع؛ ولهذا قال الله عز وجل: (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14] الفجار يكون عندهم كذب وعندهم أمور أخرى من أنواع الفجور.
قوله: [(ولا يزال الرجل يكذب)] يعني: في حديثه.
قوله: [(ويتحرى الكذب)] يعني: يحاول أن يكذب ويتعمد الكذب.
قوله: [(حتى يكتب عند الله كذاباً)] يكون هذا ديدنه وهذه عادته، وهذا منهجه وهذه طريقته كأنه لا يعرف إلا الكذب، فيكتب عند الله كذاباً، وهذه صيغة مبالغة في هذا الوصف.
قوله: [(عليكم بالصدق)].
وهذا هو الترغيب؛ لأن (إياكم) ترهيب، و (عليكم) ترغيب، والصدق هو ضد الكذب.
قوله: [(فإن الصدق يهدي إلى البر)] البر هو كل خير، قال الله عز وجل: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ} [البقرة:177] كل هذا يدخل تحت البر.
والبر والتقوى لفظان عامان إذا أفرد أحدهما عن الآخر شمل كل ما هو مأمور ومطلوب فعله فيؤتى، وكل ما هو منهي عنه فيحذر ويجتنب، وإذا اجتمعا فسر البر بما يتعلق بفعل المأمورات، والتقوى بما يتعلق بترك المحظورات، مثل: الفقير والمسكين، والإيمان والإسلام إذا جمع بينهما في الذكر فرق بينهما في المعنى، وإذا انفرد أحدهما عن الآخر اتسع لأن يشمل المعاني التي وزعت عند الاجتماع.
قوله: [(ولا يزال الرجل يصدق)] يعني: يكون صادقاً في حديثه، ويتحرى الصدق فيما يحدث به؛ حذراً من الكذب.
قوله: [(حتى يكتب عند الله صديقاً)] يعني: أنه متمكن في الصدق، ومبالغ في الصدق، مثل ما صار الأول كذاباً مبالغة في الكذب، وهذا صار صديقاً مبالغة في الصدق.(567/19)
تراجم رجال إسناد حديث (إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
أبو بكر بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا مسدد].
ح للتحول من إسناد إلى إسناد، ومسدد بن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الله بن داود].
هو عبد الله بن داود الخريبي وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا الأعمش عن أبي وائل].
الأعمش مر ذكره.
وأبو وائل هو شقيق بن سلمة مشهور بكنيته، ومشهور باسمه، وهو ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله].
هو عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(567/20)
شمول الصدق للقول والعمل
قد يكون الصدق في العمل أيضاً، كأن يكون عمله مبنياً على استقامة، ولكن أكثر ما يطلق على القول.
أما الكتابة فهي من جملة القول، ومعلوم أن الإنسان لو كتب طلاق زوجته طلقت بكتابته، وإن لم يتلفظ بلسانه.(567/21)
شرح حديث (ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا يحيى عن بهز بن حكيم حدثني أبي عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له!)].
أورد أبو داود حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له)].
هذا فيه التحذير من الكذب، والتشديد في أمر الكذب كما في الترجمة، وذلك بالتعبير بالويل: [(ويل له ويل له!)] وتكرار ذلك، فهو يكذب ويتعمد الكذب لأجل أن يضحك الناس بالكذب الذي يخبر به وهو غير صادق، بل هو كاذب، وهذا كذب سواء كان للإضحاك أو كان لغير الإضحاك؛ لأن الكذب محرم مطلقاً كما مر في الحديث السابق: (إياكم والكذب).
فعلى الإنسان أن يتجنب الكذب ويحذر الكذب.
ثم أيضاً هذا يدل على تحريم التمثيل الذي ابتلي به كثير من الناس في هذا الزمان؛ لأن التمثيل مبني على الكذب، وعلى أخبار غير واقعة.
إذا حدث الرجل بقصة أو بطرفة وهي لا حقيقة لها وليس لها أساس، فالمحظور قائم؛ لأنه إخبار بشيء لا حقيقة له، ويكون قد صرح لهم بأنه كذاب.
وقد كرر فيه ذكر الويل ثلاث مرات.(567/22)
تراجم رجال إسناد حديث (ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم)
قوله: [حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بهز بن حكيم].
هو بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن.
[حدثني أبي].
هو حكيم بن معاوية بن حيدة وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو معاوية بن حيدة رضي الله عنه وهو صحابي، أخرج له البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن.(567/23)
شرح حديث عبد الله بن عامر (أما إنك لو لم تعطيه شيئاً كتبت عليك كذبة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن ابن عجلان أن رجلاً من موالي عبد الله بن عامر بن ربيعة العدوي حدثه عن عبد الله بن عامر رضي الله عنه أنه قال: (دعتني أمي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وما أردت أن تعطيه؟ قالت: أعطيه تمراً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما إنك لو لم تعطيه شيئاً كتبت عليك كذبة)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عامر أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً في بيتنا، وأن أمه قالت: تعال أعطيك فقال: [(وماذا أردت أن تعطيه؟)] ما قال لها عليه الصلاة والسلام: هل تريدين أن تعطيه شيئاً؟ أو لا تريدين أن تعطيه؟ وإنما قال: وما الذي تريدين أن تعطيه؟ فقالت: تمراً، فكانت النتيجة أنها تريد أن تعطيه شيئاً وهو التمر، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: [(أما إنك لو لم تعطيه شيئاً لكتبت عليك كذبة)] وهذا يدل على أن الكذب على الصغار يعتبر كذباً، وأنه لا يقال: إن هذا الأمر سهل، وإن الكذب إنما يضر إذا كان على الكبار، بل المطلوب أن يعود الصغار على الصدق، وألا يعودوا على الكذب.(567/24)
تراجم رجال إسناد حديث عبد الله بن عامر (أما إنك لو لم تعطيه شيئاً كتبت عليك كذبة)
قوله: [حدثنا قتيبة].
هو قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
هو الليث بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عجلان].
هو محمد بن عجلان المدني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[أن رجلاً من موالي عبد الله بن عامر].
وهذا مبهم غير معروف، والألباني صححه وذكر له شاهداً يدل عليه.
[عن عبد الله بن عامر].
عبد الله بن عامر رضي الله عنه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(567/25)
دلالة الحديث على صحة تحمل الصغير حال صغره وتأديته في حال كبره
هذا الحديث يدل على تحمل الصغير في حاله صغره وتأديته في حال كبره، ومثله تحمل الكافر في حال كفره وتأديته بعد إسلامه، وكل ذلك سائغ ومعتبر، وهذا من أمثلة، تحمل الصغير في حال الصغر وأداؤه في حال الكبر.
فأداء الكبير في حال كبره ما تحمله في صغره معتبر عند العلماء.
والمسلم إذا حدث بعد إسلامه عن شيء حصل في كفره، فإنه معتبر، كما وقع في قصة أبي سفيان مع هرقل حيث أخبر بما جرى بينه وبينه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم متصف بكذا وكذا وكذا، فإن هذا شيء قاله في حال كفره وبلغه في حال إسلامه.
ومن جنس ذلك النعمان بن بشير رضي الله عنه كان من صغار الصحابة، توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام وعمره ثمان سنوات، وكان يحدث بأحاديث يقول فيها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا، ومنها الحديث المشهور الذي هو من جوامع الكلم: (إن الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات) فإن راويه النعمان بن بشير، وقد قال فيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، ومعنى ذلك أنه تحمل في حال صغره، وأدى في حال كبره.(567/26)
شرح حديث (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة ح وحدثنا محمد بن الحسين حدثنا علي بن حفص قال حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم، قال ابن حسين في حديثه: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع).
قال أبو داود: ولم يذكر حفص أبا هريرة.
قال أبو داود: ولم يسنده إلا هذا الشيخ، يعني علي بن حفص المدائني].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع)] يعني: كل ما يدخل في سمعه يخرج من لسانه، فهو يحدث بكل شيء سمعه سواء كان صدقاً أو كذباً، ومعنى ذلك أنه من جنس ما تقدم، وورد في الحديث: (بئس مطية الرجل زعموا) كما مر في حديث سابق، كذلك حديث الأمور التي يكرهها الله عز وجل: (إن الله يكره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).
فكون الإنسان يحدث بكل شيء يسمعه ويخبر به، وقد يكون ذلك الذي سمعه ليس متثبتاً فيه، وقد يكون خبراً غير مطابق للواقع، فإنه بعد ذلك من سمعه منه نسبه إليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم حذر من ذلك وقال: من كان كذلك كفاه ذلك إثماً.(567/27)
تراجم رجال إسناد حديث (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
هو حفص بن عمر النمري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
شعبة مر ذكره.
[ح وحدثنا محمد الحسين].
محمد بن الحسين وهو صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا علي بن حفص].
علي بن حفص وهو صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن].
خبيب بن عبد الرحمن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حفص بن عاصم].
هو حفص بن عاصم العمري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال ابن حسين في حديثه: عن أبي هريرة].
يعني: الشيخ الثاني، وهو محمد بن الحسين أضافه إلى أبي هريرة بعد خبيب بن عبد الرحمن.
[قال أبو داود: ولم يذكر حفص أبا هريرة].
هو الشيخ الأول حفص بن عمر.
[قال أبو داود: ولم يسنده إلا هذا الشيخ يعني علي بن حفص المدائني].
يعني: ولم يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا علي بن حفص المدائني.(567/28)
ما جاء في حسن الظن(567/29)
شرح حديث (حسن الظن من حسن العبادة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في حسن الظن.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد ح وحدثنا نصر بن علي عن مهنأ أبي شبل، قال أبو داود: ولم أفهمه منه جيداً، عن حماد بن سلمة عن محمد بن واسع عن شتير قال نصر: ابن نهار عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال نصر عن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم أنه قال: (حسن الظن من حسن العبادة).
قال أبو داود: مهنأ ثقة بصري].
أورد أبو داود باباً في حسن الظن، يعني: كون الإنسان يحسن الظن بالله، ويحسن الظن بالمخلوقين، ولا يسيء الظن بالناس، ومع ذلك يكون كما سبق أن مر في ترجمة سابقة على حذر من أن يخدع.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [(حسن الظن من حسن العبادة)] يعني: كون الإنسان يحسن الظن بالله، وكما هو معلوم بأن حسن الظن بالله عبادة لله عز وجل، يعني: يرجوه وهو محسن الظن به، وأنه سبحانه وتعالى يحقق له ما يريد، ولا ييئس ويقنط، بل يحسن الظن بالله عز وجل، وأن يعمل الأعمال الصالحة والله تعالى يثيبه عليها، وكذلك يحسن الظن بالناس؛ لأنه إذا أحسن الظن بالناس فإنه مأجور، وأما إذا أساء الظن بالناس فإنه إما غير مأجور وإما آثم، قال بكر بن عبد الله المزني وهو من التابعين كما ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمته في تهذيب التهذيب: إياك من الكلام ما إن أصبت فيه لم تؤجر، وإن أخطأت فيه أثمت، وهو سوء ظنك بأخيك.(567/30)
تراجم رجال إسناد حديث (حسن الظن من حسن العبادة)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل عن حماد].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[ح وحدثنا نصر بن علي].
هو نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مهنأ أبي شبل].
مهنا أبو شبل وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي في مسند علي.
[قال أبو داود: ولم أفهمه منه جيداً].
من هذا الطريق الذي فيه نصر بن علي.
[عن حماد بن سلمة عن محمد بن واسع].
محمد بن واسع ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن شتير قال نصر: ابن نهار].
يعني: نسبه الشيخ الثاني الذي هو نصر بن علي الجهضمي، والشيخ الأول ما نسبه، وإنما اكتفى بـ شتير.
والصواب أنه سمير بن نهار العبدي.
صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي.
والشيخ الألباني ضعف هذا الحديث؛ بسبب شتير هذا، وقال: إن الذهبي قال: إنه نكرة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.
[قال أبو داود: مهنأ ثقة بصري].
يعني: هذا توثيق من أبي داود له، والحافظ في التقريب وثقه، وقال عنه: أخرج له أبو داود والنسائي في مسند علي.(567/31)
شرح حديث صفية (كان رسول الله معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً فحدثته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن علي بن حسين عن صفية رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً فحدثته وقمت، فانقلبت فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: على رسلكما! إنها صفية بنت حيي، قالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً، أو قال: شراً)].
أورد أبو داود حديث صفية بنت حيي أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنها زارت النبي صلى الله عليه وسلم في معتكفه، وأنه في الليل، وأنه قام معها ليقلبها ويرافقها في الانصراف، وعندما كان يمشي معها مر رجلان من الأنصار فأسرعا، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: [(على رسلكما! إنها صفية بنت حيي، قالا: سبحان الله يا رسول الله!)] يعني: ما أردنا شيئاً أو ما وقع في أذهاننا شيء، وكيف يصلح أن يظن بك شيء وأنت رسول الله؟! قال: [(إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً، أو قال: شراً)] فأراد أن يبين لهم من أول وهلة الواقع حتى لا يحصل أن يقذف الشيطان في نفوسهما شيئاً، والحديث يدل على زيارة المعتكف، وعلى جلوسه مع أهله للحاجة في المسجد، وأيضاً يدل على أنه يرافقهم في الانصراف، ومرافقة الزائر والمشي معه.
وفيه: أن الإنسان يدفع عن نفسه إذا حصل شيء قد يظن به.
وفيه: أن الشيطان كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم يحرص على إغواء الإنسان وإضلاله، ويحرص على أن يظن السوء بمن ليس من أهل السوء، هذا من عمل الشيطان ومما يريده الشيطان، وأن الواجب هو الحذر منه، والاستعاذة بالله عز وجل منه.(567/32)
تراجم رجال إسناد صفية (كان رسول الله معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً فحدثته)
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد المروزي].
هو أحمد بن محمد المروزي المعروف بـ ابن شبويه وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري مر ذكره.
[عن علي بن حسين].
هو زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أحد أئمة أهل البيت، وأحد البارزين فيهم، يعظمه أهل السنة ويوقرونه ويعرفون له قدره، وأما الرافضة فإنهم يغلون فيه مع بقية الاثني عشر بأشياء لا تليق إلا بالله سبحانه وتعالى، وأهل السنة معتدلون متوسطون يحبون الصالحين من أهل البيت، ويحبون الصحابة، ويحبون كل من كان مستقيماً ويثنون عليه، ويعرفون لأهل البيت فضلهم وقدرهم، ولا يبخسونهم حقوقهم، ولكنهم لا يغلون ولا يجفون، والحق وسط بين الغلو والجفاء، وبين الإفراط والتفريط.
[عن صفية].
هي أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله تعالى عنها، وهي من بني إسرائيل، تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم في منصرفه من خيبر، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(567/33)
الأسئلة(567/34)
حكم خروج المعتكف من معتكفه مع من جاء لزيارته من أهله
السؤال
هل حديث صفية حين زارت النبي في معتكفه يدل على خروج المعتكف من معتكفه، وذلك حين قام ليقلبها؟
الجواب
نعم، مثل هذا جائز، فللمعتكف أن يخرج من معتكفه لقضاء حاجته لمثل هذا الأمر، كأن يخرج مع أهله ومع زوجته لاسيما في الليل.(567/35)
حكم التدخين في المدينة والمعصية في الحرم
السؤال
ورد في السنة الوعيد الشديد لمن أحدث في المدينة أو آوى محدثاً، فهل من هذا الإحداث التدخين في المدينة؟
الجواب
لا شك أن التدخين من المعاصي، وسواء كان الإنسان محدثاً أو متابعاً لمحدث أو فاعلاً لمعصية من المعاصي، كل ذلك في المدينة خطر؛ لأن المعصية في الحرم ليست كمعصية في غير الحرم، من يعص الله في حرم الله ليس كمن يعصيه في أماكن بعيدة، وكون الإنسان يعصي الله في الحرام، فإنه يكون قد جمع بين خصلتين ذميمتين وهما: كونه عصى الله، وكون ذلك في الحرم، وأما الذي يعصي الله في غير الحرم فيكون عنده خطأ واحد وهو أنه عصى الله عز وجل.
إذاً: الذي يعصي الله في الحرم سواء في مكة أو المدينة فهو بالإضافة إلى كونه عصى الله قد عصاه في الحرم أيضاً، فالأمر أخطر والأمر أشد، ومن المعلوم أن السيئات لا تضاعف في الحرم تضعيف الكميات، ولكنها تضخم وتضاعف بالكيف، لا يقال: إن السيئة تصير سيئتين أو أربعاً أو ثلاثاً، ولكن السيئة في الحرم ليست كالسيئة في غير الحرم، وكذلك في الأزمان المقدسة مثل رمضان، الأمر في ذلك أخطر، سواء كان انتهاك حرمة المكان، أو انتهاك حرمة الزمان.(567/36)
حكم صلاة من فقد وعيه لكبر سنه أو عنده بعض الوعي
السؤال
امرأة بلغت من العمر ثمانين سنة، وكانت قد فقدت الوعي، الآن عاد إليها بعض الوعي فقط، حتى إنها لا زالت لا تعرف بعض أولادها وأبناء أولادها فما حكم الصلاة في حق هذه المرأة مع هذا الحال؟
الجواب
إذا كانت لا تتقن الصلاة، ولا تعرف ما يتعلق بالصلاة فهي لا تزال في فقدها للوعي وإن وجد شيء من الوعي، وأما إذا عاد وعيها بحيث إنها تتقن الصلاة وتعرف ما يتعلق بها، فإن الأمر يتغير عما كان عليه من قبل من كونها معذورة وتكون غير معذورة، وأما إن كانت تعرف بعض أولادها، ولكنها لا تتقن الصلاة ولا تعرف ما يتعلق بالصلاة، وقد تصلي ولا تعرف عدد ركعات الصلاة، ولا ما يقال في الصلاة، فهي تكون معذورة.(567/37)
عدم اشتراط القبض عند معاوضة النوى بالعنب
السؤال
ذكر ابن القيم أن العنب يشترى بالنوى، فهل يشترط حينئذ أن يكون يداً بيد، مثل أصله التمر؟
الجواب
لا؛ لأنه كما هو معلوم أن النوى ليس تمراً، وإنما هو طعام للإبل وليس طعاماً للناس، فلا يشترط أن يكون يداً بيد، فهذه عين بعين يمكن أن تكون يداً بيد ويمكن أن يعطيه نوى وبعد ذلك يأخذ عنباً.(567/38)
شرح سنن أبي داود [568]
الوفاء بالوعد من صفات المؤمنين، خلفه من صفات المنافقين، ويدخل خلف الوعد في الكذب المذموم، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر من الكذب في كل شيء، وكان يمزح فلا يكذب، وإنما يمزح بالحق كما وردت الأحاديث بذلك.(568/1)
ما جاء في الوفاء بالوعد(568/2)
شرح حديث (إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي له فلم يف ولم يجئ للميعاد فلا إثم عليه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في العدة.
حدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو عامر حدثنا إبراهيم بن طهمان عن علي بن عبد الأعلى عن أبي النعمان عن أبي وقاص عن زيد بن أرقم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي له، فلم يف ولم يجئ للميعاد، فلا إثم عليه)].
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب في العدة] والعدة: هي مصدر وعد يعد عدةً، أي: أنه حصل منه وعد فعليه أن ينجز ما وعد، والوعد إما أن يكون الإنسان عند وعده لا يريد أن يفي بما وعد، فهذا من قبيل الكذب، وهو مذموم؛ لأنه وعد وهو لا يريد الوفاء بالوعد، وإنما أراد الكذب في الوعد.
وقد مر قريباً حديث المرأة التي قالت عند الرسول صلى الله عليه وسلم لصبيها (تعال أعطك، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم وماذا تعطيه؟ قالت: تمراً، قال: أما إنك لو لم تعطيه لكتبت عليك كذبة).
أما إذا كان الإنسان عند وعده يريد أن يفي به، ولكنه ما حصل له الوفاء إما لعجز أو لعدم قدرة، أو لوجود شيء ما شغله عن الوفاء بالوعد فهذا لا إثم عليه، ولكن عليه أن يعتذر ممن وعده ولم يف بوعده.
أورد أبو داود حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي له، فلم يف ولم يجئ للميعاد فلا إثم عليه)].
أي: إذا تواعد الإنسان مع شخص على أن يلتقي به من أجل اتفاق بينهما في مكان معين فلم يستطع الذهاب فلا شيء عليه.
والحديث فيه رجلان مجهولان، وهو ضعيف غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الإنسان عليه أن يفي بوعده إذا وعد، وألا يتخلف عن إنجاز الوعد إلا لأمر يقتضي ذلك، وإلا فإن إخلاف الوعد من صفات المنافقين التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر).(568/3)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي له)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
هو محمد بن المثنى أبو موسى العنزي الملقب الزمن وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بكنيته أبو موسى؛ ولهذا عندما يذكر الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب الشيوخ والتلاميذ، فإنه يكتفي ويقول: روى عنه فلان وفلان وأبو موسى، فالمقصود بـ أبي موسى محمد بن المثنى.
[حدثنا أبو عامر].
هو أبو عامر العقدي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إبراهيم بن طهمان].
هو إبراهيم بن طهمان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي بن عبد الأعلى].
علي بن عبد الأعلى وهو صدوق ربما وهم، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبي النعمان].
أبو النعمان وهو مجهول، أخرج له أبو داود والترمذي.
[عن أبي وقاص].
أبو وقاص وهو مجهول، أخرج له أبو داود والترمذي.
[عن زيد بن أرقم].
زيد بن أرقم رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(568/4)
شرح حديث (بايعت النبي ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس النيسابوري حدثنا محمد بن سنان حدثنا إبراهيم بن طهمان عن بديل عن عبد الكريم بن عبد الله بن شقيق عن أبيه عن عبد الله بن أبي الحمساء رضي الله عنه قال: (بايعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببيع قبل أن يبعث، وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث، فجئت فإذا هو في مكانه، فقال: يا فتى! لقد شققت علي، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك!).
قال أبو داود: قال محمد بن يحيى: هذا عندنا عبد الكريم بن عبد الله بن شقيق.
قال أبو داود: هكذا بلغني عن علي بن عبد الله.
قال أبو داود: بلغني أن بشر بن السري رواه عن عبد الكريم بن عبد الله بن شقيق].
أورد أبو داود هذا الحديث عن عبد الله بن أبي الحمساء أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيع وبقي له شيء فواعده أن يأتيه به في مكانه، فلم يأته، ثم لقيه بعد ثلاث في نفس المكان، وقال: شققت علي يا فتى! أنا هاهنا منذ ثلاث.
وأورد أبو داود هذا الحديث من أجل إخلاف الوعد، وأنه لم يأت في الوقت المحدد، وترتب على ذلك أن جلس هذه المدة ينتظره، والحديث في متنه نكارة، وفي إسناده ضعف، ففيه نكارة من جهة أن الرسول صلى الله عليه وسلم جلس ثلاث ليال في مكانه ينتظر، وأنه قال: (أنا هاهنا منذ ثلاث) وفي إسناده من هو ضعيف، وهو عبد الكريم بن عبد الله بن شقيق.(568/5)
تراجم رجال إسناد حديث (بايعت النبي ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية…)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس النيسابوري].
هو محمد بن يحيى بن فارس النيسابوري الذهلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن سنان].
محمد بن سنان وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا إبراهيم بن طهمان عن بديل].
إبراهيم بن طهمان مر ذكره، وبديل بن ميسرة وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الكريم].
هو عبد الكريم بن عبد الله بن شقيق، وجاء في الروايات التي بعد هذا أن عبد الكريم هو ابن عبد الله بن شقيق، فتكون (ابن) -*- هذه جاء بدلاً منها عن، وقد أورد أبو داود عدة طرق بعد ذلك تبين أن عبد الكريم هو ابن عبد الله بن شقيق، وليس عبد الكريم يروي عن عبد الله بن شقيق، فالتصحيف بين ابن وعن؛ ولهذا يأتي في بعض الطبعات من الكتب التي لم تحقق ولم يعتن بها أنه أحياناً يكون الإسناد قصيراً، والسبب في ذلك أنه جعل شخصين شخصاً واحداً حيث أبدلت عن بابن فقصر الإسناد، مع أن بعض الأسماء مركبة من شيئين، وأذكر أن في بعض الطبعات التي اشتملت على مثل هذا طبعة جامع بيان العلم وفضله لـ ابن عبد البر الطبعة القديمة، فإن فيها تصحيفاً فعن يأتي بدلها (ابن) فيجعل الشخصين شخصاً واحداً.
وعبد الكريم بن عبد الله مجهول أخرج له أبو داود.
[عن عبد الله بن شقيق].
هو عبد الله بن شقيق العقيلي وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
الحافظ لما ذكر شقيقاً العقيلي قال: جاء في رواية موهمة، والصواب عن عبد الله بن شقيق عن عبد الله بن أبي الحمساء.
[عن عبد الله بن أبي الحمساء].
عبد الله بن أبي الحمساء صحابي، أخرج له أبو داود.
والإسناد فيه عبد الكريم بن عبد الله بن شقيق وهو مجهول، ففيه نكارة من جهة المتن، وضعف من جهة الإسناد.
[قال أبو داود: قال محمد بن يحيى: هذا عندنا عبد الكريم بن عبد الله بن شقيق].
يعني: وليس عن عبد الله بن شقيق.
[قال أبو داود: هكذا بلغني عن علي بن عبد الله].
هو علي بن عبد الله المديني ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة في التفسير.
[قال أبو داود: بلغني أن بشر بن السري رواه عن عبد الكريم بن عبد الله بن شقيق].
بشر بن السري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(568/6)
الأسئلة(568/7)
حكم من أحرج بوعد فقال إن شاء الله لغرض التخلص
السؤال
إذا أحرجت بشخص يريد مني وعداً، وأنا أريد أن أتخلف عن الوعد، فقلت: سآتيك إن شاء الله؟
الجواب
يعتذر منه؛ لأنه قد يقول: إن شاء الله ويفهم منه التحقيق وأنه عازم.(568/8)
عدم اشتراط النطق بالوعد في ثبوت الوعد
السؤال
هل يلزم لإبرام الوعد أن ينطق به فيقول: أعدك بهذا الشيء، أو هذا وعد أم أن مجرد النطق بالشيء يعتبر وعداً؟
الجواب
مجرد النطق بالشيء يعتبر وعداً، وليس بلازم أن يقول: أعدك كذا وكذا، وإنما يقول: سأفعل كذا وكذا، سأعطيك كذا وكذا، هذا هو الوعد.(568/9)
حكم عدم الوفاء بالوعد بسبب المشقة
السؤال
إذا تضمن الوفاء بالوعد مشقة، فهل يجب الوفاء به؟
الجواب
إذا تضمن الوفاء به مشقة من جهة أنه حصل هذا، فينبغي له أن يعمل على إبلاغ الشخص؛ لئلا يشق عليه في الانتظار، أو يتكلف من أجله وهو قد منعه مانع، فليعمل على الاتصال به، لاسيما في هذا الزمان فقد صار الاتصال سهلاً عن طريق الهاتف.(568/10)
ما يسقط الوفاء بالوعد
السؤال
ما هي الحالات التي يسقط فيها الوفاء بالوعد؟
الجواب
كون الإنسان وعد بشيء على أنه يقدر عليه ثم لم يتمكن من ذلك، فإنه يكون معذوراً إذا لم يف؛ لأنه وعد على أساس أنه يقدر ولم يقدر، فيكون معذوراً.(568/11)
ما جاء في المتشبع بما لم يعط(568/12)
شرح حديث: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المتشبع بما لم يعط.
حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: (أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن لي جارة - تعني ضرة- هل علي جناح إن تشبعت لها بما لم يعط زوجي؟ قال: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)].
أورد أبو داود: [باب في المتشبع بما لم يعط].
أي: الذي يستكثر من شيء وهو غير واجد له وغير مالك له، كأن يقول: عندي كذا وليس عنده، مما يترتب على ذلك إيهام السامع بأن عنده قدرة، فيؤدي ذلك إلى أن يتعامل معه بناءً على كلامه الكاذب غير الصحيح.
أو يدعي أمراً ليس له، كأن يدعي نسباً شريفاً وهو ليس له هذا النسب، فإنه متشبع بما لم يعط، ومضيف لنفسه شيئاً ليس له، مثل ما هو موجود الآن في هذا الزمان من الانتساب إلى أهل البيت، فإن كثيراً من العجم فضلاً عن العرب يحصل منهم هذا الشيء، فتجدهم ينتسبون إلى أهل البيت، وهذا إذا كان الإنسان عالماً بذلك وفاعلاً لذلك عن علم أنه ليس كذلك، فإنه داخل تحت التشبع بما لم يعط، فهو أضاف شيئاً إليه وهو ليس عنده أو ليس له.
أورد أبو داود حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما: أن امرأة جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالت: إن لي جارة- ضرة - فهل علي يعني من جناح إذا ذكرت لها أن زوجي أعطاني كذا وهو لم يعطني؟ فهي بهذا القول تريد أن تضرها وتريد أن تحزنها، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: [(المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)] يعني: أن كلامه وفعله زور، فهو كالمتصف بوصفين ذميمين، وهو أنه لابس ثوبي زور وليس ثوباً واحداً، وهذه زيادة في الإثم، وزيادة في الضرر.(568/13)
تراجم رجال إسناد حديث (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد بن زيد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة].
هو هشام بن عروة بن الزبير وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن فاطمة بنت المنذر].
هي زوجته وابنة عمه فاطمة بنت المنذر بن الزبير، وهو هشام بن عروة بن الزبير، وهو يروي عن زوجته فاطمة بنت المنذر بن الزبير وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن أسماء بنت أبي بكر].
أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(568/14)
ما جاء في المزاح(568/15)
شرح حديث (أن رجلاً أتى النبي فقال يا رسول الله احملني قال النبي إنا حاملوك على ولد ناقة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في المزاح حدثنا وهب بن بقية أخبرنا خالد عن حميد عن أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، احملني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا حاملوك على ولد ناقة، قال: وما أصنع بولد الناقة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق؟!)].
أورد أبو داود [باب ما جاء في المزاح] والمزاح هو كون الإنسان يأتي بشيء يكون فيه مازحاً، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يمزح، ولكن كان لا يقول في مزحه إلا حقاً، ففيه مداعبة وفيه مزح، ولكن مزحه يكون حقاً ليس فيه شيء يخالف الحق، أو شيء ليس بصحيح، بل هو صحيح.
أورد أبو داود رحمه الله حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله احملني)] يعني: يريد منه أن يحمله على بعير.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا حاملوك على ولد ناقة)] فهو فهم أن ولد الناقة صغير لا يحمل عليه ولا يركب عليه، فقال: [(وما أصنع بولد الناقة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق؟!)] يعني: أن كل الإبل هي من ولد الناقة، فهذا مزاح وتورية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد العموم، وهذا فهم شيئاً خاصاً وهو الصغير الذي لا يستطيع أن يحمل.
فهذا من مزحه صلى الله عليه وسلم ومداعبته لأصحابه.
ومنه المرأة التي قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة عجوز، فبكت فقال لها: إن النساء إذا دخلن الجنة يعدن أبكاراً) أي لا يدخلن الجنة وهن عجائز، بل يدخلن الجنة وهن شابات، فهي فهمت أن العجوز في الدنيا لا تدخل الجنة، والرسول صلى الله عليه وسلم أراد بذلك أنها لا تدخل المرأة الكبيرة الجنة وهي كبيرة عجوز، وإنما تدخل وهي شابة كما قال الله عز وجل: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:35 - 37].(568/16)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رجلاً أتى النبي فقال يا رسول الله احملني قال النبي إنا حاملوك على ولد ناقة)
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
هو وهب بن بقية الواسطي وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[أخبرنا خالد].
هو خالد بن عبد الله الواسطي الطحان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد].
هو حميد بن أبي حميد الطويل وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا الإسناد من الأسانيد العالية عند أبي داود؛ لأنه رباعي.(568/17)
قصة مزاح الشيخ ابن باز مع الشيخ عبد العزيز بن ماجد مؤذن الجامع الكبير بالرياض
هذا الحديث دليل على جواز التورية بقصد المزاح، وأذكر من مزاح شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه أنه كان في المدينة وذهب إلى الرياض، ولقيه الشيخ عبد العزيز بن ماجد رحمة الله عليه مؤذن الجامع الكبير بالرياض، وكان يؤذن ونحن طلاب منذ مدة طويلة، يعني: له أربعون سنة تقريباً وهو يؤذن في هذا المسجد، وقد توفي قبل سنتين تقريباً، فقال له الشيخ: إني سمعتك البارحة تؤذن قبل دخول وقت الأذان بنصف ساعة.
يعني: الشيخ ابن باز كان في المدينة وذاك في الرياض، ومعلوم أن الأذان في الرياض قبل المدينة بنصف ساعة، فالشيخ يقول: أنا سمعتك تؤذن قبل دخول الوقت بنصف ساعة، يعني: قبل دخول الوقت عندنا في المدينة.(568/18)
شرح حديث (استأذن أبو بكر على رسول الله فسمع صوت عائشة)
[قال المصنف رحمه الله تعالى: حدثنا يحيى بن معين حدثنا حجاج بن محمد قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: (استأذن أبو بكر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمع صوت عائشة عالياً، فلما دخل تناولها ليلطمها، وقال: ألا أراك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحجزه، وخرج أبو بكر مغضباً، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين خرج أبو بكر: كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟! قال: فمكث أبو بكر أياماً، ثم استأذن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجدهما قد اصطلحا، فقال لهما: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قد فعلنا، قد فعلنا)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: أن أباها دخل عليها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صوتها عالياً، فغضب عليها وأراد أن يلطمها، فالرسول صلى الله عليه وسلم حال بينه وبينها، فخرج مغضباً، يعني أنه دخل ثم خرج مغضباً، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة: كيف رأيتني منعتك من الرجل؟ يعني: حلت بينك وبينه، ثم إن أبا بكر جاء مرة أخرى فوجدهما قد اصطلحا فقال: [(أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما)] يعني: المرة الأولى حصل فيها خصام وخرج مغضباً، وهذه المرة صارا مصطلحين، فالأولى فيها حرب والثانية فيها سلم.
فقال: [(أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: قد فعلنا، قد فعلنا)] هذا الحديث في متنه شيء، من جهة كون أبي بكر يفعل هذا الفعل مع أنه معروف بالرحمة وبالرأفة ومعروف باللطف رضي الله عنه، وما كان معروفاً بالشدة، اللهم إلا أن شدته عرفت في حروب الردة مع لطفه ومع سماحته ومع رفقه، لكن في قتال المرتدين تغلب على غيره وفاق غيره، وعمر بن الخطاب الذي كان شديداً صار أبو بكر أشد منه فيما يتعلق بحروب الردة.
فصفات أبي بكر رضي الله عنه من الهدوء وعدم الشدة وكونه أراد أن يلطمها، ثم إن الرسول يمنعه منها، ثم يخرج مغضباً، فهذا لا يخلو من شيء، والإسناد فيه أبو إسحاق السبيعي وهو مدلس، وقد روى بالعنعنة، والحديث ضعفه الألباني.(568/19)
تراجم رجال إسناد حديث (استأذن أبو بكر على رسول الله فسمع صوت عائشة)
قوله: [حدثنا يحيى بن معين].
يحيى بن معين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حجاج بن محمد].
هو حجاج بن محمد المصيصي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يونس بن أبي إسحاق].
هو يونس بن أبي إسحاق السبيعي صدوق يهم قليلاً، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي إسحاق].
وهو عمرو بن عبد الله الهمداني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن العيزار بن حريث].
العيزار بن حريث ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن النعمان بن بشير].
النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(568/20)
شرح حديث (أتيت رسول الله في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مؤمل بن الفضل حدثنا الوليد بن مسلم عن عبد الله بن العلاء عن بسر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم، فسلمت فرد وقال: ادخل، فقلت: أكلي يا رسول الله؟ قال: كلك، فدخلت)].
أورد أبو داود حديث عوف بن مالك الأشجعي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في قبة من أدم، أي: من جلد، فجاء إليه واستأذن فقال: [(ادخل، قال: أكلي؟)] يعني: هل كلي أدخل؟ فكأن هذا فيه إشارة إلى صغر القبة.
[(فقال: كلك)] يعني: كونه قال: (كلك) هذا من المزح.(568/21)
تراجم رجال إسناد حديث (أتيت رسول الله في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم)
قوله: [حدثنا مؤمل بن الفضل].
مؤمل بن الفضل هو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا الوليد بن مسلم].
هو الوليد بن مسلم الدمشقي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن العلاء].
عبد الله بن العلاء وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن بسر بن عبيد الله].
بسر بن عبيد الله وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إدريس الخولاني].
أبو إدريس الخولاني واسمه عائذ الله وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عوف بن مالك الأشجعي].
عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(568/22)
شرح أثر (إنما قال أدخل كلي؟ من صغر القبة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا صفوان بن صالح حدثنا الوليد حدثنا عثمان بن أبي العاتكة قال: إنما قال: أدخل كلي؟ من صغر القبة].
أورد أبو داود هذا الأثر المقطوع عن عثمان بن أبي عاتكة وفيه أنه بين التعليل بقوله: إنما قال ذلك من صغر القبة، يعني: هذا الكلام الذي قاله عوف بن مالك من صغر القبة، فهو إن كان المقصود به حكاية لشيء قد وقع فهو معضل؛ لأن فيه انقطاعاً، وبينه وبين الصحابي مسافة، وإن أراد به إنما هو تفسير منه وفهم منه فلا يبعد أن يكون كذلك، ولكن عثمان هذا فيه ضعف؛ ولهذا قال الشيخ الألباني: إنه ضعيف مقطوع.(568/23)
تراجم رجال إسناد أثر (إنما قال أدخل كلي؟ من صغر القبة)
قوله: [حدثنا صفوان بن صالح].
صفوان بن صالح ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة في التفسير.
[حدثنا الوليد حدثنا عثمان بن أبي العاتكة].
الوليد مر ذكره، وعثمان بن أبي العاتكة قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق، ضعفوه في روايته عن علي بن يزيد الألهاني، وهذا ليس منها، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود وابن ماجة.(568/24)
شرح حديث (يا ذا الأذنين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن مهدي حدثنا شريك عن عاصم عن أنس رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا ذا الأذنين)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: [(يا ذا الأذنين)] يعني: أنه يمازحه.
وكل إنسان له أذنان، ولكنه قال ذلك يخاطبه مازحاً صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهو يمزح ولا يقول إلا حقاً.(568/25)
تراجم رجال إسناد حديث (يا ذا الأذنين)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن مهدي].
إبراهيم مهدي هو مقبول، أخرج له أبو داود.
[حدثنا شريك].
هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عاصم].
هو عاصم بن سليمان الأحول وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه وقد مر ذكره.
وهذا إسناد رباعي، وهو من أعلى الأسانيد عن أبي داود.(568/26)
أخذ الشيء على المزاح(568/27)
شرح حديث (لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من يأخذ الشيء على المزاح.
حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى عن ابن أبي ذئب ح وحدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن ابن أبي ذئب عن عبد الله بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً، وقال سليمان: لعباً ولا جداً، ومن أخذ عصا أخيه فليردها)، لم يقل ابن بشار: ابن يزيد، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم].
أورد أبو داود [باب: من يأخذ الشيء على المزاح] يعني: أن ذلك منهي عنه إذا ترتب عليه فزع الإنسان أو ذعر الإنسان أو حزن الإنسان، بأن يظن أنه سرق وما إلى ذلك، فإن ذلك غير سائغ.
أورد أبو داود حديث يزيد بن سعيد الكندي رضي الله عنه والد السائب بن يزيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً)] يعني: لا يأخذه على سبيل المزح ولا على سبيل الحقيقة.
قوله: [(ولا جاداً)] يعني: أنه يأخذه ليتموله أو ليختص به.
قوله: [(لاعباً)] أي: مازحاً؛ لأن ذلك يفزعه ولو رده إليه وأعاده إليه، فإن ذلك إذا لم يكن عن علم منه فإن ذلك يدخل في نفسه الحزن والتألم، ولا ينبغي في حق المسلم أن يحزن أخاه وأن يسيء إلى أخيه، بأن يجعله يتألم ويتأثر لأمر قد حصل له وهو لا يعلم من الذي أخذ هذا الشيء، وقد يفهم أنه أخذه إنسان سرقة، فيتأثر بذلك ويتألم بذلك.
قوله: [(ومن أخذ عصا أخيه فليردها إليه)] يعني: وسواء كان ذلك جاداً أو مازحاً؛ لأنه لا يجوز له أن يأخذ من أخيه شيئاً إلا عن طيب نفس منه، فإذا أعطاه إياه عن ارتياح وعن اطمئنان فله أن يأخذه.(568/28)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً)
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
محمد بن بشار هو الملقب بـ بندار وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي ذئب].
هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي].
سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا شعيب بن إسحاق].
شعيب بن إسحاق وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن ابن أبي ذئب عن عبد الله بن السائب بن يزيد].
عبد الله بن السائب بن يزيد وثقه النسائي، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي.
[عن أبيه].
السائب بن يزيد وهو صحابي صغير، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وقد جاء عنه أنه قال: (حج بي أبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن سبع سنين) يعني: أنه في حجة الوداع عمره سبع سنين وهو من صغار الصحابة.
[عن جده].
هو يزيد بن سعيد وهو صحابي، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي.
[لم يقل ابن بشار: ابن يزيد].
يعني: لم يقل ابن بشار: عبد الله بن السائب بن يزيد وإنما قال: عبد الله بن السائب عن أبيه عن جده.
[(وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
يعني: هناك فرق في الصيغة فواحد قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، والآخر قال: (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا من أمثلة دقة المحدثين وعنايتهم بالألفاظ التي يروونها، فهم يأتون بها كما جاءت بحيث يفرقون بين من يقول: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وبين من يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.(568/29)
شرح حديث (لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا ابن نمير عن الأعمش عن عبد الله بن يسار عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال: (حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه، ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً)].
أورد أبو داود حديث جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنام رجل منهم وكان معه حبل، فجاء شخص فأخذ الحبل مازحاً، فقام فزعاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: [(لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً)] لأنه لما أخذ الحبل من يده واستيقظ بسبب ذلك وتنبه لذلك قام فزعاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الترويع، وعن كون الإنسان يفزع أخاه ويروع أخاه.(568/30)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً)
قوله: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري].
محمد بن سليمان الأنباري صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا ابن نمير].
هو عبد الله بن نمير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن يسار].
عبد الله بن يسار وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن عبد الرحمن بن أبي ليلى].
عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم].
وهم غير مسمين، ومعلوم أن الجهالة في الصحابة لا تؤثر؛ لأن المجهول فيهم في حكم المعلوم رضي الله عنهم وأرضاهم.(568/31)
الأسئلة(568/32)
حكم صلاة التسبيح
السؤال
هل ورد في صلاة التسبيح حديث صحيح، وهل يعمل بها؟
الجواب
ورد فيها حديث صححه بعض أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين، ومن المتأخرين الشيخ الألباني رحمه الله، وضعفه كذلك بعض أهل العلم من المتقدمين ومن المتأخرين، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية ومن المعاصرين شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه، كذلك الشيخ ابن عثيمين وغيرهم، والحديث في متنه نكارة، وهو أن فيه: أن من صلى صلاة التسبيح في العمر مرة واحدة، فإنه يغفر له ما تقدم من ذنبه دقه وجله وأوله وآخره وكبيره وصغيره إلى آخره.
ومثل هذا يدل على النكارة في المتن، وفي الرجال من فيه شيء من الكلام.(568/33)
حكم تغيير اسم الوالد المتوفي لقبحه دون رضا الإخوة
السؤال
يقول شخص: إن اسم الوالد غير مستحسن، فهل يغير ولو لم يوافق الإخوة على ذلك، والوالد متوفى؟
الجواب
ما دام الوالد قد توفي لا يغير، بل يبقى على ما هو عليه، فالأسماء التي في الأنساب لا تغير؛ لأنك تجد فلان بن فلان بن عبد العزى ولم تغير أسماء آبائهم وأسماء أجدادهم، فهذا علي بن أبي طالب هو ابن عبد مناف، فلم يغير، كذلك أبو لهب له أولاد ولم يغيروا اسم أبيهم.
وإذا كان الأحفاد ينبزون ويعيرون إذا ذكر اسم الجد، فيمكن أن يتجاوزه فيكون منسوباً إلى من هو فوقه، يعني: بدل ما يذكرون اسم الجد القريب الذي يترتب عليه إساءة إليهم، فإنهم يتجاوزونه إلى جد فوقه، ويصير مثل ما يأتي كثيراً نسبة المرء إلى جده.(568/34)
درجة حديث (تحية البيت الطواف) ومعناه
السؤال
ما حكم هذا الحديث وما معناه: (تحية البيت الطواف)؟
الجواب
ما أعلم شيئاً عن صحته، ولكن إذا دخل الإنسان الكعبة فإن كان يريد أن يجلس أو يقرأ قرآناً، أو جاء للصلاة، فإنه يصلي ركعتين قبل أن يجلس؛ وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) أما إن كان يريد أن يطوف فليطف ثم يصلي ركعتين، ولا يقال: إن كل من دخل المسجد لا يجلس حتى يطوف بالبيت؛ لأن الإنسان قد يدخل للصلاة ولا يريد أن يطوف، وقد تكون الصلاة قريبة ولا يمكنه أن يأتي بالطواف، فما أعرف شيئاً عن ثبوته، ولكن تحية البيت هو أن الإنسان إذا دخل ليجلس أو يقرأ قرآناً فإنه لا يجلس حتى يصلي ركعتين، وأما إن كان يريد أن يطوف فإنه يطوف، وإذا فرغ فإنه سيصلي ركعتي الطواف قبل أن يجلس، حتى لو كان هذا أول قدوم لمكة بالنسبة للشخص، وجاء والصلاة قريبة ولا يمكنه أن يطوف إلا بعد الصلاة، فإنه يصلي ركعتين ويجلس.(568/35)
حكم العادة السرية وإفسادها للصوم
السؤال
هل العادة السرية تفسد الصوم؟
الجواب
نعم تفسد الصوم وعليه القضاء وعليه الإثم وعليه التوبة إلى الله عز وجل، وألا يعود إلى ذلك؛ لقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7].
فقوله تعالى: ((وَرَاءَ ذَلِكَ)) يعني: كل شيء وراء الزوجة وملك اليمين فهو من العدوان، فيدخل تحت ذلك العادة السرية وكل استمتاع محرم.(568/36)
حكم أخذ الصدقة من شخص يغلب الحرام في ماله
السؤال
هل يجوز أخذ الصدقة من رجل يغلب الحرام على ماله؟
الجواب
إذا كان يغلب عليه الحرام في ماله فالتنزه عن ذلك أمر مطلوب.(568/37)
حكم حكاية القصص غير الواقعية لأخذ العبرة أو الطرفة
السؤال
إذا كان الإنسان يحكي قصصاً ولا يدري عن صحتها، وإنما لأخذ العبرة أو الطرفة، ومن ذلك القصص التي تذكر على ألسنة الحيوانات، فهل هذا جائز؟
الجواب
كون الإنسان يحرص على أن يكون جاداً وألا يهتم بالمزاح هو الذي ينبغي؛ لأن بعض الناس تجده مولعاً بالمزاح ويجمع ما هب ودب، ويشغل نفسه عن الجد، وهذا لا ينبغي للإنسان، لكن إذا كان في أشياء ذكرت مثل حياة الحيوان فذكرها وعزاها إلى مكانها فلا بأس بذلك، لكن المهم في الأمر كما قلت أن الإنسان يكون شأنه الجد وليس شأنه الهزل.(568/38)
حكم إحضار الفيديو وأشرطته المسلية للأطفال
السؤال
مشاهدة أشرطة الفيديو التي فيها نوع تسلية للأطفال، وفي بعضها تعليم للأذكار اليومية، خاصة وأن الأطفال يلحون على إحضارها، هل هي من الأشياء التي فيها الكذب؟ وما هو البديل لذلك، خاصة في هذا العصر الذي كثرت فيه الفتن هل أحضر لهم الفيديووأشرطته؟
الجواب
علمهم ولقنهم ولا تحضر لهم أشياء يشاهدونها، وإن كان فيه شيء من السلامة من ناحية أنه ليس فيه صور؛ فإنه قد ينجر الأمر ويتوسع فيه، بأن يأتوا بأشياء فيها محذور؛ لأنهم قد ألفوا ذلك.(568/39)
حكم قول الرجل لزوجته (انتقلي إلى أهلك) بقصد الهجر لا الطلاق
السؤال
إذا قال الرجل لزوجته: انتقلي إلى أهلك، وهو يقصد بذلك هجرها مدة من الزمن لغضبه عليها، فهل يعتبر هذا القول طلاقاً؟
الجواب
لا، ليس طلاقاً؛ لأن هذه من الكنايات، والكنايات لا تعتبر طلاقاً إلا إذا أريد بها الطلاق، وأما إذا لم يرد الطلاق فإنها لا تعتبر طلاقاً، لفظ الطلاق الصريح هو الذي يقع الطلاق به، وأما الكنايات فإنه إن أراد بالكناية الطلاق فهو طلاق، وإن لم يرد بالكناية الطلاق فإنه لا يعتبر طلاقاً.(568/40)
حكم كذبة إبريل
السؤال
هناك أمر منتشر بين الناس وهي كذبة إبريل، فهل من تنبيه؟
الجواب
الكذب مطلقاً هو حرام وغير سائغ، وإذا كان بمناسبة معينة لاسيما إن كانت القصة جاءت من الكفار فيكون حشفاً وسوء كيلة، يعني: شراً مضافاً إليه شر.(568/41)
حكم من زنت وحملت من الزنا وأسقطت الجنين فندمت
السؤال
امرأة جاءت من بلادها تعمل كخادمة، ثم وقعت في فاحشة الزنا من شخص من بلادها وحملت من الزنا، فأشارت عليها بعض النسوة بأخذ دواء لإسقاط هذا الحمل، فأسقطت الحمل، وهو طفلة بنت أربعة أشهر، وتوفيت الطفلة، والمرأة الآن نادمة وتائبة تريد أن تقدم نفسها للمحكمة لإقامة الحد عليها، وهي امرأة ثيب فما توجيهكم؟
الجواب
إذا أرادت أن تقدم نفسها فلها ذلك، وإن استترت بستر الله وتابت إلى الله عز وجل وندمت على ما حصل، فمن تاب تاب الله عليه.(568/42)
حكم استئجار ثوب الزفاف أو الذهب للنساء للتزين به في الحفلات
السؤال
البعض يستأجر ثوب الزفاف، وآخر يستأجر المشلح الغالي وأحياناً الذهب للنساء في ذهابهن للحفلات، فهل هذا يدخل في التشبع بما لم يعط؟
الجواب
إذا كان هذا الشيء غالياً، وأن يظن ملكه لذلك الشيء، فلا شك أنه من هذا القبيل، ولكن إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يحصل على الشيء الذي يتزين به إلا بالأجرة فله ذلك، لكن كونه يتخذ شيئاً غالياً فهذا لا شك أنه داخل في التشبع بما لم يعط.
وأما كون الإنسان يستأجر شيئاً يناسبه؛ لأنه ليس عنده القدرة على تحصيله ولو كان سعره قليلاً، فإنه لا بأس، مثل ما يستأجر البسط ويستأجر الفرش ويستأجر المشلح، أو تستأجر المرأة شيئاً من الحلي وهي تناسب مثلها.(568/43)
حكم الجمع في كفارة اليمين بين الإطعام والكسوة
السؤال
هل يجوز الخلط بين الإطعام والكسوة في كفارة اليمين؟
الجواب
يبدو أن ذلك جائز لا بأس به؛ لأن المقصود هو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فإذا دفع نصفها كسوة ونصفها طعاماً فلا بأس بذلك.(568/44)
حكم أخذ الرجل متاع غيره مازحاً للتحذير من الإهمال
السؤال
إذا أخذ الرجل متاع أخيه مازحاً؛ وذلك ليلقنه درساً حتى لا يهمل متاعه، فهل يدخل في النهي؟
الجواب
نعم، يدخل في النهي، وإذا أراد أن يذكره يقول له: انتبه لنفسك ولا تهمل متاعك، وأما أن يفزعه فلا.(568/45)
حكم تحريك الأصبع في التشهد
السؤال
هل ورد حديث صحيح في تحريك الأصبع في الصلاة؟
الجواب
جاء في الحديث الصحيح: (كان يحركها ويدعو بها) أي في التشهد.(568/46)
حكم من ترك التشهد الأول ونبه فرجع بعد أن استتم قائماً قبل الشروع في الفاتحة
السؤال
صلى إمام بجماعة صلاة المغرب ونسي التشهد الأول، ونبه على ذلك ورجع قبل أن يشرع في الفاتحة، لكنه بعد أن استتم قائماً، فهل الصلاة صحيحة؟
الجواب
الصلاة صحيحة ولا بأس.(568/47)
حكم من وجدت مبلغاً من المال في الحرم وتصدقت به قبل التعريف
السؤال
امرأة وجدت مبلغ خمسمائة ريال في ساحة الحرم، فلم تسلمها للمفقودات، وكذلك لم تعرف بها، ولكنها تحرت امرأة فقيرة وأعطتها هذا المبلغ، فما حكم عملها؟
الجواب
كان الواجب عليها ألا تتصرف فيها، وإنما تعطيها للجهة التي يمكن أن يرجع الناس إليها ويسألونها عن مفقوداتهم، هذا هو الذي ينبغي لها، أما كونها صرفتها فما أدري هل تكون برئت ذمتها بذلك؛ لأنه قد يكون صاحبها جاء يسأل عنها ومع ذلك لم يجدها، فتكون تسببت في الحيلولة بينه وبين حقه.(568/48)
مسئولية الأخ الأكبر تجاه إخوانه الصغار بعد وفاة الأب
السؤال
توفي شخص وترك بعده أبناء كثيرين، فهل على الابن الأكبر أن يتحمل مسئولية إخوانه، بحيث يكون راعياً عليهم؟ وإذا كان كذلك فهل يتحقق عليه وعيد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (من مات وهو غاش لرعيته فقد حرمت عليه الجنة) علماً بأن إخوانه عندهم بعض المعاصي كالتدخين والاستماع إلى الأغاني ومشاهدة التلفاز وهم لا يحترمونه؟
الجواب
إذا كان أبوهم قد وصى إلى أحدهم واختار شخصاً بعينه، فإنه هو الذي تقع عليه المسئولية، وإن لم يكن كذلك فإن أكبرهم عليه أن يحافظ عليهم كما كان أبوه يحافظ عليهم، وكذلك أيضاً إخوانه الآخرون يتعاونون ويتناصحون وينبهونهم على الأخطاء التي وقعوا فيها، ويحذرونهم من مغبتها، وأخطر ما يكون من ذلك هذه الدشوش الخبيثة التي تنقل أوساخ العالم وتدخلها البيوت، فكل قاذورات العالم يمكن أن تصل إلى البيوت بسهولة ويسر، فيكون في ذلك الفساد والإفساد الذي ليس له حد وليس له نهاية.
نسأل الله السلامة والعافية.(568/49)
خروج المني الذي يفسد الصوم
السؤال
هل خروج المني من غير شهوة يفسد الصوم؟
الجواب
المني في الغالب يكون مع شهوة، حيث يخرج دفقاً بلذة، هذا هو المني، وقد يكون هذا الذي خرج بدون شهوة وبدون دفق مذياً وليس بمني، والمذي لا يفسد الصوم وإنما الذي يفسده خروج المني، والمني هو الذي يخرج دفقاً بلذة وبشهوة.(568/50)
الفرق بين قول المحدثين (وفي رواية أخرى) و (وفي لفظ آخر)
السؤال
ما الفرق بين قول المحدثين: وفي رواية أخرى وقولهم: وفي لفظ آخر؟
الجواب
الذي يبدو أنه ليس بينهما فرق، ويمكن أن يكون بينهما فرق من ناحية أن فيه اختلافاً في العبارة وتعدداً، وأنها اختلفت، وأما قوله: وفي رواية أخرى، يعني: رواية أخرى غير هذه الرواية الموجودة.(568/51)
حكم نسخ أشرطة الكاسيت وإسطوانات الكمبيوتر المكتوب عليها الحقوق محفوظة
السؤال
هل يجوز نسخ الأشرطة الكاسيت أو إسطوانات الكمبيوتر التي مكتوب عليها: الحقوق محفوظة؟
الجواب
الشيء المحفوظ يرجع في الاستحقاق والاستفادة منه إلى أهله، وأما إذا كان ثمنه باهظاً وأهله يريدون فيه أسعاراً خيالية لا يستحقونها، وأخذ الإنسان لنفسه شيئاً يخصه دون أن يبيع برخص فله ذلك، أما أن ينافس أولئك بأن يبيع بأرخص مما يبيعون فليس له ذلك.(568/52)
الفرق بين الإسناد الجيد والإسناد الحسن
السؤال
ما الفرق بين قول المحدثين: إسناد جيد وإسناد حسن؟
الجواب
ذكر شارح البيقونية ابن السراج: أن الجيد من أسماء الصحيح وله أسماء كثيرة، قال: ولكن الجهبذ لا يعدل عن قول الصحيح إلى الجيد إلا لنكتة في سنده، فهو دون الصحيح وفوق الحسن.(568/53)
درجة حديث (تسعة أعشار الرزق في التجارة)
السؤال
ما حكم حديث: (تسعة أعشار الرزق في التجارة)؟
الجواب
هذا لا أعلم له أصلاً، وأذكر مرة من المرات قبل سنوات كثيرة أن شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه كان حاضراً في مؤتمر بمكة وكنت أيضاً معه، وكان أحد المنتسبين للعلم قد كتب مقالاً ويريد أن يلقيه على الشيخ، فكان مما قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (تسعة أعشار الرزق في التجارة) رواه البخاري، فالشيخ قال: هذا الحديث لا نعرف له وجوداً لا في البخاري ولا في غير البخاري.(568/54)
ثبوت حديث (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله)
السؤال
هل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يكون في خدمة أهله، فإذا أذن للصلاة ترك كل شيء وفزع لها؟
الجواب
نعم ثبت من حديث عائشة: (أنه صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله، وإذا جاءت الصلاة خرج للصلاة).(568/55)
شرح سنن أبي داود [569]
إن التكلف والتشدق والتقعر في الكلام مذموم في الشرع، وأما البلاغة والفصاحة والبيان من غير تكلف فمحمودة إذا استخدمت في الخير، وفي نشر العلم والأخلاق والفضيلة.
والشعر منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم، فالمحمود ما كان في الخير، وما لم يشغل عن القرآن والحديث والذكر، وما لم يكن الاشتغال به هو الغالب، وإلا فسيصبح مذموماً، والشعر الحسن يجوز إنشاده في المسجد.(569/1)
ما جاء في المتشدق في الكلام(569/2)
شرح حديث (إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في المتشدق في الكلام.
حدثنا محمد بن سنان الباهلي -وكان ينزل العوقة- حدثنا نافع بن عمر عن بشر بن عاصم عن أبيه عن عبد الله -قال أبو داود: هو ابن عمرو رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها)].
أورد أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في المتشدق في الكلام] وفي بعض النسخ: [باب التشدق في الكلام] والمقصود بذلك الإنسان الذي يتفاصح ويتقعر ويتعمق في الكلام ويتكلفه، ولم يكن ذلك له سليقة، فيتكلف ويأتي بشيء عن طريق التكلف، أما إذا كان من غير تكلف بأن يعطي الله الإنسان فصاحة وبلاغة فتكلم واستخدم فصاحته وبلاغته في بيان الحق، فإن ذلك غير مذموم.
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها)].
وهذا الحديث فيه أن الله يبغض الذي يتكلف البلاغة، ويأتي بشيء عن تقعر وتكلف، ووصفه بأنه يشبه البقرة التي تتخلل بلسانها وتحرك لسانها وتديره وتمده، يعني: أنه يتكلف ويتقعر كما أن البقرة هذا شأنها وهذه طريقتها في كونها تستعمل لسانها في أكلها، وقيل: إن البقرة ليست كالبهائم؛ لأن البهائم تتناول الشيء بأسنانها، وأما هي فتتناول الشيء بلسانها.
فشبه من يتفاصح ويتكلف البلاغة والفصاحة بالبقرة التي تحرك لسانها وتمده وتميله يميناً وشمالاً.
وفي هذا إثبات صفة البغض لله عز وجل حيث قال: [(إن الله يبغض)] فهذه من صفات الله عز وجل التي يجب إثباتها لله عز وجل كما يليق به، كما هو الشأن في جميع الصفات.
وفيه: تحريم مثل هذا العمل وذمه، وأن صاحبه ممن هو مبغض عند الله سبحانه وتعالى.
قوله: [(الباقرة)] يعني: المقصود بها البقرة، والجمع الباقر، والمفرد الباقرة كما أن المفرد البقرة، والجمع البقر، وهذه من الجموع التي يكون فيها وزن المفرد أكثر من وزن الجمع؛ لأن الجمع مبناه أقل من مبنى المفرد، لأن المفرد مبني من أربعة حروف، والجمع مكون من ثلاثة حروف، بقر وبقرة، فمبناه أكبر من معناه؛ لأنه إذا اتسع اللفظ قل المعنى، فإذا قيل: بقرة فهي واحدة، وإذا قيل بقر ونقص حرف في الآخر صار يقصد به الجمع، فهي من الجموع التي تكون فيها حروف المفرد أكثر من حروف الجمع.
والباقرة لغة في البقرة، وإذا حذفت التاء صار الجمع باقراً، كما أن البقرة إذا حذفت التاء منها صار الجمع بقراً، ومثل بقرة وبقر: شجرة وشجر.(569/3)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها)
قوله: [حدثنا محمد بن سنان الباهلي وكان ينزل العوقة].
محمد بن سنان الباهلي هو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا نافع بن عمر].
نافع بن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بشر بن عاصم].
بشر بن عاصم وهو ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبيه].
هو عاصم بن سفيان وهو صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[عن عبد الله، قال: أبو داود هو ابن عمرو].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادله الأربعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والعبادلة الأربعة هم: عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين، فيطلق عليهم لفظ العبادلة من الصحابة، وإن كان في الصحابة عدد كبير ممن يسمى عبد الله مثل: عبد الله بن مسعود وعبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري وعبد الله بن أبي بكر وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن لفظ العبادلة غلب على هؤلاء الأربعة الذين هم من صغار الصحابة، والذين عمروا حتى استفاد من أدركهم من علمهم، وأما غيرهم ممن يسمى عبد الله فهم في الغالب من المتقدمين من الصحابة الذين لم يدركهم من التابعين مثل هؤلاء الذين أدركوا هؤلاء الصحابة الذين هم من صغارهم.(569/4)
شرح حديث (من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن السرح حدثنا ابن وهب عن عبد الله بن المسيب عن الضحاك بن شرحبيل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال أو الناس، لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة: [(من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال أو الناس)] يعني: تصاريفه والتعمق فيه من أجل أن يسبي عقول الرجال ويستميل قلوب الناس إليه، وأنه إنما تعلم من أجل أن يصرف الناس إليه فهذا هو المذموم.
قوله: [(لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلا)] يعني: هذا يدل على أنه مذموم، والصرف النافلة والعدل الفريضة، وقيل غير ذلك، ولكن الحديث في إسناده ضعف من جهة أن فيه من هو مقبول، ومن جهة أن الضحاك قيل: إنه لم يرو عن الصحابة، وإنما روايته عن التابعين وليست عن الصحابة، ففيه احتمال الانقطاع، وفيه أيضاً الرجل الذي هو مقبول وهو عبد الله بن المسيب.(569/5)
تراجم رجال إسناد حديث (من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال)
قوله: [حدثنا ابن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن المسيب].
عبد الله بن المسيب وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن الضحاك بن شرحبيل].
الضحاك بن شرحبيل وهو صدوق يهم، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.(569/6)
شرح حديث ابن عمر (إن من البيان لسحراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (قدم رجلان من المشرق فخطبا، فعجب الناس -يعني: لبيانهما- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من البيان لسحراً، أو إن بعض البيان لسحر)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: [(قدم رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس يعني لبيانهما)] فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: [(إن من البيان لسحراً، أو إن بعض البيان لسحر)].
وهذا فيه بيان أن من الكلام ما يكون فيه فصاحة وبلاغة، فإن كان عن تكلف فهو الذي سبق أن مر ذمه، وأما إذا كان من غير تكلف فإنه محمود إذا صرف فيما هو خير، ومذموم إن صرف فيما هو شر.
والإمام أبو داود أورده في باب التشدق في الكلام، ومعلوم أن التشدق في الكلام مذموم، لكنه يحمل على ما إذا كان عن تكلف، وأما إذا كان عن طبيعة وجبلة وسليقة وليس فيه تكلف، فإنه يكون محموداً إذا كان الإتيان به فيما هو خير، أما إذا كانت الفصاحة والبلاغة الجبلية الطبيعية صرفت فيما هو شر فهي شر.
ومعلوم أن الباب باب ذم وليس باب مدح، ولكنه كما أشرت يحمل على أن المقصود به ما إذا كان عن تكلف، أو فصاحة طبيعية جبلية ولكنها صرفت في شر، ولكن ورود حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [(إن من البيان لسحراً)] الذي يبدو أنه مدح؛ لأنه كلام أعجبوا به، وليس فيه شيء يدل على الذم، ولكنَّ أبا داود أورده في باب التشدق فيحمل إيراده إياه على ما إذا كان عن طريق التكلف، أو أنه استعمل في شر، لأن من الناس من يكون فصيحاً بليغاً فيستخدم بلاغته في الشر ونشر الباطل وإظهار الباطل وإغواء الناس والعياذ بالله، ومنهم من يكون فصيحاً وفصاحته تستعمل في الخير.
قوله: [(قدم رجلان من المشرق)].
الرجلان هما: الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم.(569/7)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر (إن من البيان لسحراً)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن أسلم].
زيد بن أسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر].
عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا الإسناد رباعي وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(569/8)
شرح حديث عمرو بن العاص (لقد أمرت أن أتجوز في القول فإن الجواز هو خير)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن عبد الحميد البهراني أنه قرأ في أصل إسماعيل بن عياش وحدثه محمد بن إسماعيل ابنه قال: حدثني أبي قال: حدثني ضمضم عن شريح بن عبيد قال: حدثنا أبو ظبية أن عمرو بن العاص رضي الله عنه (قال يوماً وقام رجل فأكثر القول، فقال عمرو: لو قصد في قوله لكان خيراً له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لقد رأيت -أو أمرت- أن أتجوز في القول؛ فإن الجواز هو خير)].
أورد أبو داود حديث عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: [(أن رجلاً تكلم فأكثر الكلام، فقال عمرو رضي الله عنه: لو تجوز في الكلام لكان خيراً له، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: رأيت أو أمرت أن أتجوز في القول؛ فإن الجواز هو خير)].
يعني: اختصار الكلام والإتيان به مختصراً غير مطول هو خير، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً، فكان يأتي بالكلام القليل المبنى الواسع المعنى؛ لأن كلامه جوامع عليه الصلاة والسلام.
قوله: [(أمرت أن أتجوز)] إذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [(أمرت)] فالآمر له هو الله، وإذا قال الصحابي أمرت بكذا أو أمرنا بكذا فالآمر هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد شك الراوي هل قال: أمرت أو رأيت.(569/9)
تراجم رجال إسناد حديث عمرو بن العاص (لقد أمرت أن أتجوز في القول فإن الجواز هو خير)
قوله: [حدثنا سليمان بن عبد الحميد البهراني].
سليمان بن عبد الحميد البهراني هو صدوق، أخرج له أبو داود.
[أنه قرأ في أصل إسماعيل بن عياش].
يعني: في أصل كتابه.
[وحدثه محمد بن إسماعيل ابنه قال: حدثني أبي].
وأيضاً حدثه ابن إسماعيل بن عياش عن أبيه، فصار يروي الحديث من جهتين: من جهة أنه قرأه في أصل كتاب إسماعيل ثم رواه عنه، ومن جهة أنه رواه عن ابنه عن أبيه.
وإسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن أهل بلده، أخرج حديثه البخاري في رفع اليدين، وأصحاب السنن.
أما محمد بن إسماعيل بن عياش فقد عابوا عليه أنه حدث عن أبيه من غير سماع، وحديثه أخرجه أبو داود.
[حدثني ضمضم].
هو ضمضم بن زرعة الحمصي، وهو من أهل بلد إسماعيل بن عياش، وهو صدوق يهم، أخرج له أبو داود وابن ماجة في التفسير.
[عن شريح بن عبيد].
شريح بن عبيد وهو حمصي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا أبو ظبية].
أبو ظبية وهو مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجة، وقد رجعت إلى تهذيب التهذيب فما وجدت شيئاً من الكلام فيه، وإنما الكلام الذي فيه حسن، فقد وثقه يحيى بن معين كما نقل عنه ذلك من طريقين، وأثنى عليه أناس غيره، فقول الحافظ فيه: إنه مقبول غير مستقيم.
[أن عمرو بن العاص].
عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(569/10)
الأسئلة(569/11)
كيفية إثبات صفة البغض لله وغيرها من الصفات
السؤال
هل صفة البغض تثبت لله مطلقاً، أم لا بد من تقييدها مثل بغض المنافقين؟
الجواب
الله تعالى يبغض ويحب، فكما أن المحبة تثبت لله عز وجل وهي ليست لكل أحد، فالبغض يثبت لله عز وجل ولكن ليس لكل أحد.
فالمحبة تثبت لله ويقال: من صفات الله المحبة، ويقال: من صفاته البغض، ولا يقال: إنه لا يذكر إلا مقيداً فيقال: من صفات الله بغض كذا، ومن صفات الله محبة كذا، بل يقال: من صفاته أنه يحب ويبغض، ولكن يحب من هو أهل للحب، ويبغض من هو أهل للبغض.(569/12)
الكلام في نسبة محمد بن سنان الباهلي إلى العوقة
السؤال
ما معنى قوله عن محمد بن سنان الباهلي كان ينزل العوقة؟ يعني: أنه كان يسكن وينزل هذه البلدة التي هي العوقة، والباهلي نسبة إلى قبيلة باهلة.
قال الحافظ في التقريب: محمد بن سنان الباهلي أبو بكر البصري العوقي بفتح المهملة والواو بعدها قاف.
فنسبه إلى البصرة ثم نسبه إلى العوقة، يعني: أن نسبته الأصلية بصري، ثم نزل العوقة، مثل ما يقولون: إن فلاناً كان في بلد كذا ثم انتقل إلى كذا، ولهذا يقول هنا: البصري ثم العوقي، ويقال في مثله البصري نزل كذا أو نزيل كذا.
يعني: إن قيل: العوقي فنسبته صحيحة، وإن قيل: البصري فنسبته صحيحة.
وقال صاحب العون: يذكر أن العوقة هذه محلة من محال البصرة.
وأيضاً هي قرية في اليمامة.
وهذا مثل الذي مر بنا أبو داود الحفري وهو كوفي.
والحفر محلة من محلات الكوفة، فيقال له أحياناً: الحفري وأحياناً الكوفي، وهذا إذا قيل له: العوقي أحياناً فهو نسبة إلى العوقة، وهي محلة في البصرة، وهي نسبة خاصة، وإذا قيل: البصري فهي نسبة عامة.(569/13)
حكم تعلم إلقاء الخطبة والمسابقة في ذلك
السؤال
ما حكم تعلم إلقاء الخطبة والاشتراك في المسابقة فيها؟
الجواب
لا بأس أن يتعلم الإنسان أو يعود نفسه على الخطابة، ويأتي بالخطب في بعض الأحيان من أجل التمرن ومن أجل التعود لا بأس بذلك؛ لأن العلم بالتعلم، والإنسان لا يأتيه العلم فجأة وإنما يأتيه بالتدرج، فإذا حصل منه أن تعلم الخطابة وأتى بالخطبة في بعض المساجد من أجل أن يتمرن ويتعود فلا بأس بذلك.
وكون الإنسان يخطب من أجل أن يتعود ويتمرن على الخطابة فهذا ليس من التكلف في البلاغة والفصاحة والتشدق والتعمق والتقعر في الكلام.(569/14)
ما جاء في الشعر(569/15)
شرح حديث (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الشعر.
حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً)].
أورد أبو داود [باب ما جاء في الشعر] يعني: فيما يتعلق بالاشتغال به وإنشاده وفي مدحه أو ذمه.
أورد أبو داود هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً)] والحديث يدل على أن الانهماك فيه والاشتغال به عن القرآن والحديث وعن ذكر الله عز وجل مذموم، وأما إذا كان الاشتغال فيه ليس هو الغالب وإنما الغالب هو الاشتغال بالقرآن والحديث وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وذكر الله فإنه لا يكون مذموماً؛ لأن إنشاده وحفظ ما هو مفيد منه محمود وليس بمذموم، ولكن الذم فيما إذا شغل عن ذكر الله وشغل عن القرآن وشغل عن الحديث وشغل عن العلم النافع، وأما إذا لم يشغل فإنه لا مانع منه ولا محذور فيه؛ ولهذا بوب البخاري رحمه الله باباً للحديث يوضح هذا المعنى قال: باب ما يكره من الإكثار من الشعر حتى يشغل عن ذكر الله.
يعني: أن المقصود به هو الإكثار منه والاشتغال به حتى يغلب الإنسان ويشغله عما هو أهم منه، ويقال: إن معناه إذا كان الشعر محرماً.
وهذا لا يقال فيه: قليله حلال وكثيره حرام، بل لو لم يكن فيه غير بيت من الشعر وهو شر، ويظل الإنسان به ويحفظه ويحافظ عليه ويعجبه، فإنه مذموم ولو كان بيتاً واحداً، وإنما الكلام في قوله: [(لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً)] يعني: هو الشعر المحمود، ولكنه يشغل عن ذكر الله وعن القرآن وعن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا هو المذموم، أما إذا كان عنده شعر قليل ولكنه ليس شغله الشاغل واهتمامه بما هو أهم منه وبما هو أولى منه، فإنه لا بأس بذلك.(569/16)
تراجم رجال إسناد حديث (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً)
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
هو هشام بن عبد الملك ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
هو ذكوان السمان اسمه ذكوان ولقبه السمان وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة وقد مر ذكره.(569/17)
نقل أبي علي اللؤلؤي عن أبي عبيد وجه الذم للمشتغل بالشعر ومعنى البيان وسحره
[قال أبو علي: بلغني عن أبي عبيد أنه قال: وجهه أن يمتلئ قلبه حتى يشغله عن القرآن وذكر الله، فإذا كان القرآن والعلم الغالب فليس جوف هذا عندنا ممتلئاً من الشعر.
وإن من البيان لسحراً: قال: كأن المعنى أن يبلغ من بيانه أن يمدح الإنسان فيصدق فيه حتى يصرف القلوب إلى قول، ثم يذمه فيصدق فيه حتى يصرف القلوب إلى قوله الآخر، فكأنه سحر السامعين بذلك].
هذا الكلام فيما يتعلق بالشعر مطابق لما بوب به البخاري من أن المقصود هو الإكثار من الشعر بحيث يغلب ويطغى على غيره مما هو أهم منه، وأما إذا كان الغالب هو القرآن والحديث وما فيه ذكر الله عز وجل، وكان عنده شيء من الشعر وهو مغمور وليس هو الأكثر، فإنه ليس هو المذموم الذي قال فيه: [(لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير من أن يمتلئ شعراً)] فهذا لا بأس به إذا كان عنده شيء من الشعر، ولكنه ليس هو الغالب، بل الغالب عليه ما هو أهم منه وهو القرآن والحديث وما فيه اشتغال بالعلم النافع.
ثم ذكر ما يتعلق بالسحر وقال: (إن من البيان لسحراً) وهو أن الإنسان بفصاحته وبلاغته يمكن أن يمدح إنساناً فيأتي به، ويذم إنساناً فيأتي به، ولكن المحمود منه فيما إذا كان بخير، والمذموم منه فيما إذا كان بشر.(569/18)
ترجمة اللؤلؤي وأبي عبيد وسبب عدم رواية صاحبي الصحيحين لبعض الثقات
قوله: [قال أبو علي بلغني عن أبي عبيد].
أبو علي هو اللؤلؤي راوي الكتاب عن أبي داود، وأبو عبيد هو القاسم بن سلام وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وفي جزء القراءة، وأبو داود.
لم يخرج له البخاري ومسلم في صحيحيهما، مع أنه إمام من الأئمة رفيع المنزلة، وهذا يبين لنا أن البخاري ومسلماً ما رويا عن كل ثقة، كما أنهما لم يرويا كل حديث صحيح، فقد رويا أحاديث صحيحة وتركا أحاديث صحيحة، ورويا عن ثقات وتركا الرواية عن ثقات، وليس تركها الرواية عن الثقات لأنهما لا يريان الاحتجاج بهما، أو أنهم ليسوا حجة عندهما.
كما أنهما تركا جملة من الأحاديث الصحيحة، وليس معنى ذلك أنهما لا يريانها أحاديث صحيحة، بل إنهما انتقيا وأوردا هذا المقدار من الأحاديث الصحيحة، وتركا من الصحيح ما هو كثير لم يأتيا به، فكذلك أيضاً اتفق لهما أن رويا أحاديث عن جماعة من الثقات ولم يرويا عن جماعة من الثقات، وهذا يبين لنا أن البخاري ومسلماً لم يلتزما إخراج كل صحيح، فلا يستدرك عليهما أحاديث صحيحة ولم يلتزما الإخراج عن كل ثقة، فلا يقال: كيف لم يخرجا لفلان وهو ثقة؟ فقد يكون الإنسان ثقة وفي غاية الأوصاف الحميدة ثم لا يرويان عنه، فـ أبو عبيد أثنى عليه الحافظ في التقريب ثناء عظيماً قال: القاسم بن سلام بالتشديد البغدادي أبو عبيد الإمام المشهور ثقة فاضل مصنف.
ويقول الحافظ: لم أر له في الكتب حديثاً مسنداً، بل من أقواله في شرح الغريب.
وهذا كما هو معلوم أن طريقة الحافظ أنه يذكر الشخص إذا كان من خرج له اتصالاً، أما إذا كان في التعاليق فإنه لا يرمز له، بل يرمز لمن خرج له اتصالاً.
وهنا على خلاف طريقة أبي داود فقد رمز له الحافظ بدال.(569/19)
حكم إيراد المفسرين بعض أشعار العرب في التفسير
أهل العلم قد شرطوا في المفسر أن يكون ملماً بلغة العرب وأشعارها وبخاصة المعلقات، رغم أن فيها الغزل الماجن، وقد كان الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في دروسه يأتي بأبيات عجيبة، ويبين أن المراد هو الوصول بها إلى التفسير وفهم كلام الله عز وجل.
أقول: إذا كان الإنسان مثل الشيخ الشنقيطي في السعة في الحديث والتفسير وكلام العرب فليحفظ المعلقات، وأما كونه يشتغل بالمعلقات وهو لا يعرف التفسير ولا يعرف شيئاً من الأمور المهمة في التفسير فهذا هو الذي ينطبق عليه حديث ذم الشعر والاشتغال به.
وهذه الأشعار التي كان يأتي بها الشيخ الشنقيطي عند التفسير فهو يأتي أولاً بتفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالحديث، وتفسير القرآن بكلام الصحابة، وتفسير القرآن بكلام التابعين، ثم يأتي بكلام العرب وأشعارهم، فالإنسان الذي عنده القدرة على أن يكون كذلك فليفعل.(569/20)
حكم حفظ المنظومات العلمية
أما عن حفظ المنظومات العلمية، فإنها لا تدخل في الذم، فمن حفظ هذه المنظومات من أجل أن يستذكر، فلا بأس؛ لأن حفظ الشعر أسهل من حفظ النثر، لكن لا يكون شغله هو النظم، بل يحفظ النظم وغير النظم، إنما النظم يأتي به من أجل التوصل به إلى العلم، مثل المنظومات في المصطلح، وفي الفرائض وغيرها من أجل أن يستذكر، فمثل هذا لم يشغله عن ذكر الله، بل هو نظم في ذكر الله.(569/21)
شرح حديث (إن من الشعر حكمة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن المبارك عن يونس عن الزهري حدثنا أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن مروان بن الحكم عن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث عن أبي بن كعب رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الشعر حكمة)].
أورد أبو داود حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(إن من الشعر حكمة)] وهذا مدح للشعر؛ لأن من الشعر ما يكون فيه حكم، وما يكون فيه أمور جميلة، وما يكون فيه عظة وعبرة، وما أكثر الشعر الذي هو من هذا القبيل، مثل شعر أبي العتاهية فإنه مليء بالحكم.
فإذاً: من الشعر ما هو محمود، ولكن كما مر في الحديث الأول لا يكون شغل الإنسان الشاغل هو الشعر ولو كان محموداً؛ لأنه إذا شغل عما هو أهم منه وعما هو أولى منه صار مذموماً.(569/22)
تراجم رجال إسناد حديث (إن من الشعر حكمة)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
أبو بكر بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا ابن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك المروزي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام].
أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال في السابع منهم.(569/23)
ذكر فقهاء المدينة المتفق عليهم والمختلف فيهم
إن فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين ستة متفق على عدهم، والثالث فيه ثلاثة أقول، المتفق على عدهم هم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وخارجة بن زيد بن ثابت والقاسم بن محمد بن أبي بكر وسليمان بن يسار وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير بن العوام والسابع فيه أقوال ثلاثة: قيل: أبو بكر بن عبد الرحمن هذا الذي معنا.
وقيل: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
وقيل: سالم بن عبد الله بن عمر.
وابن القيم رحمه الله ذكر في أول كتابه إعلام الموقعين جماعة من المفتين من الصحابة، ثم جماعة من المفتين من التابعين في مختلف البلدان، ولما جاء عند ذكر المدينة وذكر الفقهاء فيها، ذكر من فقهاء المدينة في عصر التابعين سبعة، وذكر سابعهم هذا الذي معنا أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وذكر بيتين من الشعر اشتمل البيت الثاني على ذكر السبعة، فقال: إذا قيل من في العلم سبعة أبحر روايتهم ليست عن العلم خارجه فقل هم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجه يعني هم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عروة بن الزبير.
القاسم بن محمد.
سعيد بن المسيب.
أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
سليمان بن يسار.
خارجة بن زيد بن ثابت.(569/24)
تابع تراجم رجال إسناد حديث (إن من الشعر حكمة)
قوله: [عن مروان بن الحكم].
مروان بن الحكم الخليفة، وقد قال عنه عروة بن الزبير: إنه لا يتهم في الحديث، وقد خرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث].
عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أخرج له البخاري وأبو داود وابن ماجة.
[عن أبي بن كعب].
أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(569/25)
طريق أخرى لحديث (إن من البيان سحراً وإن من الشعر حكماً) وترجمة رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يتكلم بكلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن من البيان سحراً وإن من الشعر حكماً)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: [(جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يتكلم بكلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من البيان سحراً وإن من الشعر حكماً)] وهو بمعنى الحكمة.
وقوله: [(إن من البيان سحراً)] سبق أن مر في الحديث السابق.
وقد مر أيضاً في حديث سابق: (إن من الشعر حكمة).
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو عوانة].
هو وضاح بن عبد الله اليشكري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سماك].
هو سماك بن حرب وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب صحابي جليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث كما هو معلوم فإن الذي فيه جاء في أحاديث أخرى صحيحة، فهو إما أن يكون ثابتاً أو أن له شواهد.(569/26)
شرح حديث (إن من البيان سحراً وإن من العلم جهلاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا سعيد بن محمد حدثنا أبو تميلة حدثني أبو جعفر النحوي عبد الله بن ثابت حدثني صخر بن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (إن من البيان سحراً، وإن من العلم جهلاً، وإن من الشعر حكماً، وإن القول عيالاً).
فقال صعصعة بن صوحان: صدق نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم أما قوله: (إن من البيان لسحراً) فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق.
وأما قوله: إن من العلم جهلاً، فيتكلف العالم إلى علمه ما لا يعلم فيجهله ذلك.
وأما قوله: إن من الشعر حكماً، فهي هذه المواعظ والأمثال التي يتعظ بها الناس.
وأما قوله: إن من القول عيالاً، فعرضك كلامك، وحديثك على من ليس من شأنه ولا يريده].
أورد أبو داود حديث بريدة بن الحصيب رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(إن من البيان سحراً، وإن من العلم جهلاً، وإن من الشعر حكماً، وإن من القول عيالاً)].
وقوله: [(إن من البيان سحراً)] مر ذكره.
صعصعة بن صوحان فسر قوله: [(وإن من العلم جهلاً)] بعدة تفسيرات وهذا المذكور عن صعصعة منها، وهناك تفسيرات أخرى ذكرها في عون المعبود غير هذا اللفظ قال فيها: أي: لكونه علماً مذموماً، والجهل به خير منه.
يعني: وجود الجهل خير من ذلك العلم؛ لأن علمه فيه ضرر والجهل به فيه نفع.
ثم قال: أو لكونه علماً بما لا يعنيه، فيصير جهلاً بما يعنيه.
يعني: إما أن يكون اشتغل بما لا يعنيه أو ترك ما يعنيه.
ثم قال: وقيل: ألا يعمل بعلمه، فيكون ترك العمل بالعلم جهلاً.
يعني: أنه يكون بمثابة الجاهل؛ لأنه لم يعمل بعلمه، بل الجاهل أحسن حالاً منه، كما يقول الشاعر: إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم ثم قال: وفي النهاية قيل: هو أن يتعلم ما لا حاجة إليه كالنجوم وعلوم الأوائل، ويدع ما يحتاج إليه في دينه من علم القرآن والسنة.
وقيل: هو أن يتكلف العالم القول فيما لا يعلمه فيجهله ذلك.
وهذا معنى كلام صعصعة بن صوحان الذي ذكره أبو داود ونقله عنه.
قوله: [فيجهله ذلك].
يعني: ينسب به إلى الجهل؛ لأنه تكلم بغير علم.
قال أبو يوسف: الجهل بالكلام هو العلم.
قوله: [(وإن القول عيالاً)] بكسر أوله، قال الخطابي: هكذا رواه أبو داود: [(عيالاً)] ورواه غيره (إن من القول عيلاً).
قال الأزهري: قوله عليه الصلاة والسلام: [(عيلاً)] من قولك: علت الضالة أعيل عَيْلاً وعَيَلاً، إذا لم تدر أية جهة تبغيها.
قال أبو زيد: كأنه لم يهتد لمن يطلب علمه فعرضه على من لا يريده.
يعني: كأنه وضعه في غير موضعه، حيث شغل وقته في غير طائل، كأنه أهدي هدية لا يريدها، وهذا مثل ما يقولون: صيحة في واد ما لها نتيجة ولا لها ثمرة.(569/27)
تراجم رجال إسناد حديث (إن من البيان سحراً وإن من العلم جهلاً)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا سعيد بن محمد].
سعيد بن محمد صدوق، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة.
[حدثنا أبو تميلة].
هو يحيى بن واضح وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبو جعفر النحوي عبد الله بن ثابت].
عبد الله بن ثابت وهو مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن صخر بن عبد الله بن بريدة].
وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
هو عبد الله بن بريدة وهو تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جده].
هو بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث ضعيف من حيث الإسناد، ولكن الجملة الأولى والجملة الثالثة وهما قوله: [(إن من البيان سحراً)] وقوله: [(وإن من الشعر حكماً)] قد جاءت الأحاديث بهما، وأما قوله: [(وإن من العلم جهلاً)] وقوله: [(وإن من القول عيالاً)] فهما جاءا في هذا الإسناد، فيكون فيهما ضعف؛ لأنهما جاءا من هذا الطريق.(569/28)
شرح حديث (مر عمر بحسان وهو ينشد في المسجد فلحظ إليه فقال قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن أبي خلف وأحمد بن عبدة المعنى قالا: حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد قال (مر عمر بـ حسان رضي الله عنهما وهو ينشد في المسجد، فلحظ إليه، فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك)].
أورد أبو داود حديث حسان وفيه: أن عمر مر به وهو ينشد شعراً في المسجد فلحظه، يعني: نظر إليه بعينه نظرة فيها إنكار، فقال: مجيباً عن الفعل الذي قام مقام القول: [(قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك)] يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدل على جواز إنشاد الشعر في المسجد وذكره في المسجد إذا كان سليماً وكان حكماً، مثل ما كان شعر حسان رضي الله عنه دفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(569/29)
تراجم رجال إسناد حديث (مر عمر بحسان وهو ينشد في المسجد فلحظ إليه فقال قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك)
قوله: [حدثنا ابن أبي خلف].
هو محمد بن أحمد بن أبي خلف وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود.
[وأحمد بن عبدة].
هو أحمد بن عبدة الضبي وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا سفيان بن عيينة].
هو سفيان بن عيينة المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن سعيد].
الزهري مر ذكره، وسعيد هو ابن المسيب وهو ثقة، وهو من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[مر عمر بـ حسان].
هو حسان بن ثابت رضي الله عنه وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.(569/30)
الحكم على رواية سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال المنذري: وسعيد بن المسيب لم يصح سماعه من عمر، فإن كان سمع ذلك من حسان بن ثابت فيتصل.
يعني: هو يحكي الذي قد حصل، فيمكن أن يكون سعيد سمع من حسان، ويمكن أن يكون سمع من عمر؛ لأن ابن القيم رحمه الله ذكر في تهذيب السنن ما يدل على سماعه منه، وأثبت سماعه منه.
قال ابن القيم: وقد تكرر له في هذا الكتاب في مواضع.
يعني: تكرر أن المنذري يقول مثل هذا الكلام.
قال ابن القيم رحمه الله: وبه يعلل ابن القطان وغيره حديث سعيد عن عمر، وهو تعليل باطل أنكره الأئمة كـ أحمد بن حنبل ويعقوب بن سفيان وغيرهما، قال أحمد: إذا لم يقبل سعيد بن المسيب عن عمر فمن يقبل؟! سعيد عن عمر عندنا حجة.
وقال حنبل في تاريخه: حدثنا أبو عبد الله يعني: أحمد بن حنبل، قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا سعيد عن إياس بن معاوية قال: قال سعيد بن المسيب ممن أنت؟ قلت من مزينة، قال: إني لأذكر يوم نعى عمر بن الخطاب النعمان بن مقرن المزني على المنبر.
وهذا صريح في الرد على من قال: إنه ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر.
وقال: يحيى بن سعيد الأنصاري: كان سعيد بن المسيب راوية عمر بن الخطاب؛ لأنه كان أحفظ الناس لأحكامه.
وقال مالك: بلغني أن عبد الله بن عمر كان يرسل إلى ابن المسيب يسأله عن بعض شأن عمر وأمره.
هذا ولم يحفظ عن أحد من الأئمة أنه طعن في رواية سعيد عن عمر، بل قابلوها كلهم بالقبول والتصديق، ومن لم يقبل المرسل قبل مرسل سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال الحاكم في علوم الحديث: سعيد بن المسيب أدرك عمر وعلياً وطلحة وباقي العشرة وسمع منهم.
والمقصود: أن تعليل الحديث برواية سعيد له عن عمر تعنت بارد، والصحيح أنه ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر فيكون له وقت وفاة عمر ثمان سنين، فكيف ينكر سماعه، ويقدح باتصال روايته عنه! والله الموفق للصواب وقد أخرجاه في الصحيحين وذكره أبو داود عقب هذا الحديث عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، فذكر الحديث بمعنى ما تقدم دون ذكر الزيادة.(569/31)
طريق أخرى لحديث حسان عن أبي هريرة وزاد فيه (فخشي أن يرميه برسول الله فأجازه) وترجمة رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه بمعناه زاد: (فخشي أن يرميه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأجازه)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى عن أبي هريرة وقال: بمعناه، وزاد: [(فخشي أن يرميه برسول الله)] يعني: خشي أن يقول له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أنشدته وهو خير منك.
قوله: [(فأجازه)] يعني: أن عمر تركه.
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن سعيد بن المسيب].
الزهري وسعيد بن المسيب مر ذكرهما.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة وقد مر ذكره.(569/32)
شرح حديث (كان رسول الله يضع لحسان منبراً في المسجد فيقوم عليه يهجو من قال في رسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سليمان المصيصي لوين حدثنا ابن أبي الزناد عن أبيه عن عروة وهشام عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لـ حسان رضي الله عنه منبراً في المسجد، فيقوم عليه يهجو من قال في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن روح القدس مع حسان، ما نافح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها الذي فيه بيان ما ذكره حسان في الحديث السابق حيث قال: (كنت أنشده وفيه من هو خير منك) يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر هنا الحديث الذي فيه إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم له بأن ينشد الشعر، وأنه كان يضع له منبراً يقوم عليه وينشد الشعر ينافح ويدافع به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهجو المشركين الذين كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يهجوهم ويقابل هجاءهم للرسول صلى الله عليه وسلم بهجائه إياهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [(إن روح القدس مع حسان)] وروح القدس هو جبريل.
قوله: [(ما نافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)] فهو يدل على توضيح ما ذكر في الحديث السابق من إنشاد الشعر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.(569/33)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله يضع لحسان منبراً في المسجد فيقوم عليه يهجو من قال في رسول الله)
قوله: [حدثنا محمد بن سليمان المصيصي لوين].
هو محمد بن سليمان المصيصي، ولوين لقبه، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا ابن أبي الزناد].
هو عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
وهذا عبد الرحمن هو الذي يكنى به أبو الزناد أبوه يقال له: أبو عبد الرحمن، وأبو الزناد ليست كنية وإنما هي لقب، ولكنه على صيغة الكنية.
[عن أبيه].
هو أبو الزناد عبد الله بن ذكوان المدني ثقة مكثر من الرواية عن أبي هريرة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
هو عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[وهشام عن عروة].
يعني: أن هشاماً مثل أبي الزناد يروي عن عروة، وهشام هو ابن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(569/34)
شرح أثر ابن عباس في نسخ (والشعراء يتبعهم الغاوون)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثنا علي بن حسين عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] فنسخ من ذلك واستثنى فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الشعراء:227]] أورد أبو داود أثر ابن عباس قال: [{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] فنسخ من ذلك واستثنى فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الشعراء:227]] فاللفظ الأول عام، وهم الشعراء الذين يتبعهم الغاوون الذين وصفهم الله، فالذين استثناهم الله عز وجل من اللفظ العام بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الشعراء:227] ليسوا من الشعراء الذين يتبعهم الغاوون، وإنما الذين يتبعهم الغاوون هم الذين ليسوا موصوفين بهذه الأوصاف التي جاءت في هذا الاستثناء.
قوله: [فنسخ من ذلك واستثنى] أي: نسخ بعض ما يدل عليه العموم؛ لأن النسخ هو رفع الحكم الشرعي بحكم شرعي آخر متراخ عنه، وهذا نسخ الحكم جملة، وأما الاستثناء فيقال له: تخصيص؛ لأنه استثنى بعض أفراد العام، وأطلق عليه نسخ؛ لأنه في الجملة رفع للشيء وإن لم يكن الرفع فيه كلياً، وإنما هو رفع للبعض؛ ولأن اللفظ العام قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] يشمل كل شاعر، فلما استثني منه هؤلاء الذين اتصفوا بالإيمان والعمل الصالح وذكر الله، صار الحكم العام باقياً في حق غير هؤلاء المستثنين.(569/35)
تراجم رجال إسناد أثر ابن عباس في نسخ (والشعراء يتبعهم الغاوون)
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد المروزي].
هو أحمد بن محمد بن ثابت المروزي المشهور بـ ابن شبويه وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا علي بن حسين].
هو علي بن حسين بن واقد وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو ثقة له أوهام، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد النحوي].
هو يزيد بن أبي سعيد النحوي وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عكرمة عن ابن عباس].
عكرمة وابن عباس قد مر ذكرهما.(569/36)
الأسئلة(569/37)
حكم الأناشيد التي تسمى بالإسلامية
السؤال
بمناسبة الحديث عن الشعر فقد كثرت الأسئلة عن الأناشيد التي تسمى بالإسلامية، خاصة وأنها الآن ربما ألقيت في حفلات تقام في المسجد، ويحتجون بحديث حسان مع عمر رضي الله عنه؟
الجواب
هذه الأناشيد التي يتغنى بها والتي غالباً ما يحرص فيها على الأصوات ولا يحرص فيها على المعاني، ليست من قبيل الشعر المحمود الذي يثنى عليه؛ لأنه يغلب عليه الرغبة في الأصوات والاستمتاع بها أكثر من الاستمتاع بالمعاني.(569/38)
حكم من صلى وفي ثوبه نجاسة من دم أو غيره
السؤال
صليت وكان في ثوبي دم وهذا الدم كان من رجلي، فهل صلاتي صحيحة؟
الجواب
الإنسان إذا صلى وفي ثوبه نجاسة ولم يعلم إلا بعد فراغ الصلاة، فإن صلاته صحيحه، سواء كانت بولاً أو دماً أو غير ذلك، وإنما تكون صلاته غير صحيحه لو صلاها بغير وضوء، فإنه يجب عليه الإعادة.
وأما إذا صلى وعليه نجاسة دون علم بها فإن صلاته صحيحة، والدليل على ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنه صلى بأصحابه وكان عليه نعلاه وأصحابه عليهم نعالهم، فلما كان في أثناء الصلاة جاءه جبريل وأخبره بأن في نعليه قذراً فخلعهما، فخلع الناس نعالهم اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك أخبرهم بأن جبريل أخبره، فدل هذا على أن الصلاة صحيحة؛ لأنه لو كانت الصلاة غير صحيحة لاستأنف الصلاة من أولها، ولم يبن على ما مضى.
إذاً: لو صلى المرء وفي ثوبه نجاسة ولم يعلم إلا بعد ما فرغ من الصلاة، أو كان على علم قبل ذلك بالنجاسة ولكن نسيها فإن صلاته صحيحة، وليس عليه الإعادة لهذا الحديث، وإنما تكون الإعادة لو صلى بغير وضوء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ).(569/39)
حقيقة إهداء النبي صلى الله عليه وسلم بردته لكعب بن زهير حين ألقى عليه قصيدته
السؤال
هل صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى بردته لـ كعب بن زهير عندما ألقى عليه قصيدته، وسميت بالبردة لذلك؟
الجواب
كون الرسول صلى الله عليه وسلم أهدى لـ كعب بردة لا أدري عنه شيئاً، ولكن قصيدة كعب بن زهير مشهورة، والشيخ إسماعيل الأنصاري رحمه الله كتب رسالة خاصة حول قصيدة كعب بن زهير وأنه ألقاها بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر ما يتعلق بها من الأسانيد والأحاديث.
وأما قضية البردة فلا أعلم عنها شيئاً.(569/40)
حكم إطلاق القول بأن القرآن كالسحر
السؤال
هل يصح القول بأن القرآن كالسحر؟
الجواب
القرآن هو خير الكلام وأفصح الكلام وأبلغ الكلام، ولكن لا يوصف بهذا الوصف؛ لأن السحر كما هو معلوم يحمد ويذم، والقرآن كله حمد لا ذم فيه.(569/41)
شرح سنن أبي داود [570]
الرؤيا جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة؛ فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عن أمور مستقبلة عن طريق الوحي، وقد بقي من هذا النوع الرؤيا الصالحة، لكن يجب أن يفهم أنها لا تؤخذ منها الأحكام الشرعية، وإنما هي فقط للاستئناس، لذا لا ينبغي للمسلم أن يشغل نفسه بالرؤى.
وهناك فرق بين الرؤى والأحلام، وهناك آداب تتعلق بتعبير الرؤيا، بحيث لا تعرض إلا على عاقل، وإن كانت مما يحزن فلا تعرض على أحد، بل يستعيذ الرائي من الشيطان ويتحول عن مكانه.(570/1)
ما جاء في الرؤيا(570/2)
شرح حديث (أن رسول الله كان إذا انصرف من صلاة الغداة يقول هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الرؤيا: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن زفر بن صعصعة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كان إذا انصرف من صلاة الغداة يقول: هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟ ويقول: إنه ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الرؤيا].
والرؤيا: هي بعض ما يحصل في المنام، لأن الذي يحصل في المنام رؤيا وحلم، والحلم هو من تلاعب الشيطان بالإنسان، وهو الذي يقال له: أضغاث أحلام، والرؤيا هي التي تدل وتشير إلى شيء وتعبر، بخلاف الحلم فإنه لا يعبر.
والرؤيا التي يراها النائم في منامه منها ما يكون تأويلها مطابقاً للمرئي في المنام، ومنها ما يكون على ضرب المثال، وقد جاء في القرآن رؤيا الفتيين اللذين كانا مع يوسف عليه الصلاة والسلام في السجن، واللذين طلبا منه أن يعبر لهما الرؤيا، وكانت النتيجة أن أحدهما كانت رؤياه مطابقة لما حصل له في اليقظة، والثانية على صورة المثال، فالذي رأى في المنام أنه يعصر خمراً فقد كان في اليقظة يعصر خمراً، وتأويل رؤياه كانت مطابقة للمرئي، وأما الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه، فإنما يقتل ويصلب وتأتي الطير وتأكل من رأسه بعد صلبه وقتله، وتأويل رؤيا هذا ليست مطابقة للمرئي، وإنما هي على صورة التمثيل.
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاة الغداة قال: [(هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟)] يعني: ليعبرها له، وإنما كان يقول ذلك صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الغداة؛ لأن الإنسان حديث عهد بالرؤيا، فيستطيع أن يأتي بها دون أن ينساها، أو يحصل عنده عدم إدراك لها، بخلاف ما إذا مضى عليها وقت فقد يحصل شيء من النسيان لشيء منها؛ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك، لكن هذا لا يعني أنه كان دائماً وأبداً يسأل وأن هذا ديدنه، وأنه كلما سلم من صلاة فإنه كان يفعل ذلك، ولكن معنى هذا بيان أن هذا من شأنه وأن هذا من عادته، وإن لم يكن ذلك دائماً وأبداً.
ومن المعلوم أنه إذا قال للناس في بعض الأحيان: من رأى منكم رؤيا، فإن الإنسان عندما يرى رؤيا فإنه يرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويطلب منه تأويلها وتفسيرها، ولكن لا يدل لفظ (كان) هنا على الدوام والاستمرار، وأنه لا يتركه أبداً.
قوله: [(إنه ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة)] ليس معنى ذلك أن النبوة باقية، فالنبوة وصف له صلى الله عليه وسلم، والوحي انقطع بوفاته عليه الصلاة والسلام، ولا ينزل وحي على أحد من الناس بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأن الوحي الذي هو شرع الله والذي جاء به رسول الله والذي هو دين الإسلام قد اكتمل واستقر قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فليس هناك تشريع يأتي بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإنما كل ما يعول عليه الرجوع إلى ما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فقوله: [(إنه ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة)].
يعني: أن أمور الغيب لا تعرف إلا عن طريق النبوة، ولكن الرؤيا الصالحة هي من الأمور التي يمكن أن يعرف بها شيء مغيب مستقبل يراه المرء فتعبر رؤياه ثم تقع طبقاً لما رآه الرائي.
فإذاً: هذه الرؤيا ليست هي من النبوة ولا جزءاً من النبوة؛ لأن النبوة هي ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وتلقي عنه قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، وإلا فإنه ليس هناك أحكام شرعية تؤخذ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما المقصود من ذلك أنه كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام يخبر عن أمور مستقبلة بالوحي، فإنه بقي من الأمور التي هي من هذا النوع ما يمكن أن يحصل عن طريق الرؤيا، يعني: أنه سيحصل شيء في المستقبل بسبب هذه الرؤيا، فهذا وجه قوله: [(إنه ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة)] يعني: المبشرات أو هذه الأمور التي ترى في المنام، وليس معنى ذلك أن النبوة باقية وأن الوحي مستمر.(570/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله كان إذا انصرف من صلاة الغداة يقول هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، وأحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة].
إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زفر بن صعصعة].
زفر بن صعصعة وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبيه].
هو صعصعة بن مالك وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(570/4)
ذكر مناسبة إيراد المصنف للرؤيا في كتاب الأدب
أما مناسبة الباب لكتاب الأدب فإن الرؤيا من الأشياء التي يحتاج إليها الناس، ويحتاجون إلى معرفة تأويلها وتفسيرها، ولذلك ألحق بابها وأدخل في الأدب، ومن العلماء من يخصها بكتاب، مثل الإمام البخاري فإنه أتى بكتاب التعبير، وهو خاص بالرؤيا وما يتعلق بالرؤيا، معنى ذلك أن الرؤيا يسلك فيها الآداب الشرعية التي هي كون الإنسان لا يعرضها على كل أحد، وإذا كانت لا تسره فإنه ينفث ويبصق عن يساره ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو يصلي أو ما إلى ذلك من الأشياء.(570/5)
عدم اختصاص الرؤيا بوقت معين من الليل
إن بعض المفسرين للرؤى يقولون: إن هذا الحديث دليل على أن الرؤية التي تكون قبل الفجر بقليل تكون حقاً وتعبر، أما التي في النهار أو في الليل قبل دخول الفجر؛ فإنها لا تعبر وليست بشيء، لكن هذا ليس بصحيح؛ لأنه ليس هناك شيء يدل عليه، لكن لما كان النوم في الليل غالباً، والله جعل الليل سكناً ومحلاً للنوم، وجعل النهار معاشاً ينتشرون فيه للبحث عن الرزق، وقد يحصل منهم نوم، لكن جرى الحكم على هذا الغالب الذي هو بعد نوم الليل.(570/6)
حقيقة تعبير الرؤيا والفرق بين الرؤيا والحلم
ليس كل عالم يستطيع التعبير؛ لأن من الناس من يهتم به ويعنى به، ومنهم من لا يشغل نفسه به.
وتعبير الرؤى يبدو أنه استنتاج واستنباط؛ لأنه أحياناً يكون التعبير من الألفاظ نفسها، كما سيأتي أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى في المنام كأنه في دار عقبة بن رافع وأنه أتي برطب من رطب ابن طاب، فأول ذلك أن الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن الدين قد طاب وكمل، فأخذ التعبير من نفس اللفظ، وليست القضية قضية إلهام يلهمه بعض الناس؛ لأن من الناس من يهتم بهذا الشيء فيحرص عليه، فيكون عنده بالمران والاستمرار والتأمل في الأمور، فهو شيء يحتاج إلى تأمل.
وهناك فرق بين الرؤيا والحلم، فالحلم غالباً يأتي الإنسان عندما يفكر في شيء ويهتم له فيأتي في منامه، هذا في الغالب جاء نتيجة لاهتمامه وانشغال باله، فهذا يكون من قبيل أضغاث الأحلام، وكذلك أيضاً الأشياء التي لا تعقل مثل قصة ذاك الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (رأيت أن رأسي انقطع وتدحرج أمامي، وصرت ألحقه، فقال: هذا من تلاعب الشيطان بك).(570/7)
شرح حديث (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)].
أورد أبو داود حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)] وفسر هذا بتفسيرات منها: أن النبوة مدتها ثلاث وعشرون سنة، من حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمره أربعون سنة وحتى أكمل ثلاثاً وستين سنة ثم توفاه الله عز وجل، وكان ثلاث عشرة سنة منها في مكة وعشر سنوات في المدينة.
وقد قيل في تفسير ذلك: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل أن يبعث يرى الرؤيا الصالحة، فتأتي مثل فلق الصبح واضحة جلية، ورؤيا الأنبياء وحي، فقيل: إن ستة أشهر كان يرى فيها الرؤيا الصالحة، ومعلوم أن ستة أشهر هي نصف سنة، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من ثلاث وعشرين سنة؛ لأن ثلاثاً وعشرين سنة تعتبر ستة وأربعين نصف سنة، ومن المعلوم أن رؤيا المؤمن إنما تدل على ما تدل عليه مما يأتي عن طريق النبوة، فمن يرى رؤيا فهي من المبشرات وكانت رؤيا مؤمن، فإن فيها معرفة شيء من علم الغيب، ومن الأمور المستقبلة، ولكن عن طريق الرؤيا التي تشبه ما كان يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم في منامه، إلا أن رؤيا الأنبياء وحي، ورؤيا غير الأنبياء ليست بوحي.
وقد يرى المؤمن في منامه رؤيا ثم يقع هذا الذي رآه طبقاً لما رآه في المستقبل، فيكون معناه أنه حصل على معرفة شيء مما هو مغيب في المستقبل، وعرف عن طريق الرؤيا.(570/8)
تراجم رجال إسناد حديث (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
[عن عبادة بن الصامت] عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث من رواية صحابي عن صحابي.(570/9)
حكم الاشتغال بتعبير الرؤيا
لا ينبغي للإنسان أن يشغل نفسه بالرؤى، لكن إذا حصلت له رؤيا وأمكنه تعبيرها فإنه يعبرها، وإن لم يعبرها ووثق في أحد وسأله عبرها له، وإن كان فيها شيء لا يعجبه فيأخذ بالآداب التي أرشد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما أن يشغل نفسه بالرؤى وتعبيرها، فإنه قد يشتغل بذلك عما هو أهم منه.
والعلماء ما كانوا يحرصون على الاشتغال بالرؤى، ولكن يمكن للإنسان أن يستنتج ويفهم مثل ما عمل ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) فإنه عندما جاء عند ذكر التشبيه والقياس، ذكر أن الرؤى تعرف عن طريق التشبيه وعن طريق القياس، ثم ذكر جملة من الرؤى، بناء على إلحاق الشبيه بالشبيه والنظير بالنظير، وذلك عند ما شرح كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري؛ لأن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري كتاباً في القضاء يتكون من صفحة واحدة، وشرحه ابن القيم في مجلد من إعلام الموقعين، وكان من جملة ما جاء فيه أنه أتى بالأمثال التي ضربت في القرآن من أوله إلى آخره، وتكلم على تلك الأمثال، ثم تكلم على الرؤى والاستنتاج، وأن تعبير الرؤى يمكن أن يعرف عن طريق ضرب الأمثال، وذكر كلاماً كثيراً حول تعبير الرؤى في ذلك الموضع.
لكن كون الإنسان يشتغل بالرؤى وتعبير الرؤى فهذا يحتاج إلى وقت ليبحث ويقرأ عن فلان وعن فلان؛ ولهذا نجد الآن بعض المعبرين الذين تصدوا للتعبير سوقهم رائجة، والناس يشغلونه أكثر مما يشغلون العلماء في مسائل الدين وفي مسائل الفقه والأمور التي يحتاجون إليها في أمور دينهم، وما أكثر من يسأل عن الرؤيا، يتصل بالهاتف يريد أن يسأل عن رؤيا، أما أنا فليس عندي سوى جواب واحد: أني لا أعرف تعبير الرؤيا، فإذا سألني أحد وقال: أريد أن أقص عليك رؤيا، أقول له: لا تقص علي، فأنا لا أعرف تعبير الرؤى، ولا أريد أن أبحث ولا أريد أن أشغل نفسي بتعبير الرؤيا.
وأذكر أن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى سمعته مرة من المرات في الإذاعة في سؤال في برنامج نور على الدرب، سألته امرأة فقالت: رأيت أن لي لسانين، قال: أنا لا أعرف تعبير الرؤيا، لكن قد يكون عندك لغتان؛ لأن اللسان يطلق على اللغة، فهذا كتاب لسان العرب لـ ابن منظور يعني: لغة العرب، والله تعالى يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم:4] يعني: بلغة قومه، فاللسان يأتي بمعنى اللغة.
فهو رحمه الله قال: قد يكون عندك لغتان أو ستحصلين على لغتين، ولم يحدد، بل قال: أنا لا أعرف تعبير الرؤيا؛ لأنه لا يريد أن يشغل نفسه في هذه الأمور، لأنها تشغله عما هو أهم منها، مثل الذي ينشغل بالشعر ويهتم به ويصير هو ديدنه فإنه ينشغل عما هو أهم منه.(570/10)
شرح حديث (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن أن تكذب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد الوهاب عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن أن تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً، والرؤيا ثلاث: فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، والرؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل ولا يحدث بها الناس، قال: وأحب القيد، وأكره الغل، والقيد: ثبات في الدين).
قال: أبو داود: (إذا اقترب الزمان) يعني: إذا اقترب الليل والنهار، يعني: يستويان].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن أن تكذب)] وفسر أبو داود اقتراب الزمان أنه إذا استوى الليل والنهار، فعند استواء الليل والنهار تكون الرؤيا صادقة ولا تكون كاذبة.
وقيل: إن المقصود بقرب الزمان هو آخر الأمر وآخر الدنيا، يعني: ليس المقصود هو استواء الليل والنهار؛ لأن اقتراب الزمان وما يتعلق بالزمان يأتي مراداً به ما يستقبل، ومن العلماء من فسره بهذا التفسير الذي ذكره أبو داود.
قوله: [(وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً)] الإنسان الذي تعود الصدق في حديثه في اليقظة يصدق في رؤياه وتكون رؤياه صادقة، ومن يكون بخلاف ذلك بأن يكون كاذباً أو من أكذب الناس فقد تكون رؤياه في المنام مثل حالته في اليقظة.
قوله: [(والرؤيا ثلاث: فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، والرؤيا تحزين من الشيطان)].
يعني: تنقسم الرؤيا إلى ثلاثة أقسام: صالحة وهي بشرى من الله، وهي التي جاء في الحديث: (فإنه لا يبقى إلا المبشرات) وهي الرؤيا الصالحة التي يراها المؤمن أو ترى له، والرؤيا التي فيها تحزين من الشيطان وفيها شيء يسوء الإنسان، ورؤيا هي حديث نفس.
قوله: [(ورؤيا ما يحدث بها المرء نفسه)] يعني: يكون في اليقظة مشغولاً بأمر يفكر فيه، وهذا الذي يراه في منامه إما أن يكون ساراً , وإما أن يكون محزناً، وإما أن يكون شيئاً مطابقاً لحديث النفس الذي كان يحدث نفسه به في اليقظة.
قوله: [(فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل ولا يحدث بها الناس)].
يعني: الرؤيا التي فيها تحزين من الشيطان يقوم الإنسان بعدها ويشتغل بالصلاة ويشتغل بذكر الله عز وجل، حتى يلهي نفسه عن هذا الذي أفزعه وعن هذا الذي أحزنه.
قوله: [(قال: وأحب القيد وأكره الغل)].
يعني: وأحب رؤية القيد؛ لأنه ثبات في الدين، وأكره الغل؛ لأنه شيء مذموم، وهو الغل الذي يكون في العنق.
[قال أبو داود: (إذا اقترب الزمان) يعني: إذا اقترب الليل والنهار، يعني: يستويان].
يقول الخطابي: في اقتراب الزمان قولان: أحدهما: أنه قرب زمان الساعة ودنو وقتها.
والقول الآخر: إن معنى اقتراب الزمان اعتداله واستواء الليل والنهار.
والمعبرون يزعمون أن أصدق الرؤيا ما كان في أيام الربيع، ووقت اعتدال الليل والنهار.
يعني: هذا مطابق لما جاء عن أبي داود، أو لعلهم أخذوه من قول أبي داود.
قال المنذري: وقد قيل هو قرب الساعة، وقد قيل: لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب، ويحتمل أن يراد اقتراب الموت عند علو السن، فإن الإنسان في ذلك الوقت غالباً يميل إلى الخير والعمل به، ويقل تحديثه نفسه بغير ذلك.
وهذا ليس على إطلاقه، فيمكن أن يتقدم في السن وتحدثه نفسه بأمور كثيرة.(570/11)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن أن تكذب)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الوهاب].
هو عبد الوهاب بن عبد المجيد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب] هو أيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد].
هو محمد بن سيرين وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة] أبو هريرة قد مر ذكره.(570/12)
شرح حديث (الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم أخبرنا يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت، قال: وأحسبه قال: ولا تقصها إلا على واد أو ذي رأي)].
أورد أبو داود حديث أبي رزين العقيلي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت)] يعني: أنها إذا عبرت تقع، وليس معنى ذلك أنه لا بد أن تقع؛ لأنه كما جاء في حديث تعبير أبي بكر رضي الله عنه فإنه أول من عبرها، ومع ذلك ما وقعت طبقاً لما عبر به رضي الله عنه، وإن كان قد أصاب في بعض شيء وأخطأ في أشياء أخرى، لكن قد تعبر بشيء ليس بمحمود فيقع له، فعلى الإنسان ألا يشغل نفسه بتعبير رؤيا إذا كانت غير سليمة، كما سبق أن مر وقال: (ولا يحدث بها الناس) وأنها تقع، ولكن قد يكون الأمر أنها تعبر ولا تقع، وقد تصدق وقد تكذب؛ لأنه قال: (لم تكد رؤيا المؤمن أن تكذب)، يعني: أنها قد تكون رؤيا كاذبة غير صحيحة.(570/13)
تراجم رجال إسناد حديث (الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا يعلى بن عطاء].
يعلى بن عطاء ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن وكيع بن عدس].
وكيع بن عدس وهو مقبول، أخرج له أصحاب السنن.
[عن عمه أبي رزين].
هو أبو رزين العقيلي رضي الله عنه وهو صحابي، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.
والحديث فيه هذا المقبول، ولكن الألباني ذكر له شاهداً بلفظ آخر قريب منه، فيكون عاضداً له.(570/14)
شرح حديث (الرؤيا من الله والحلم من الشيطان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي سمعت زهيراً يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: سمعت أبا سلمة يقول: سمعت أبا قتادة رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (الرؤيا من الله والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات، ثم ليتعوذ من شرها؛ فإنها لا تضره)].
أورد أبو داود حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(الرؤيا من الله والحلم من الشيطان)].
الرؤيا: هي التي ليست أضغاث أحلام وإنما هي رؤيا قد تنفع وقد تضر.
والحلم من الشيطان: وهو ما كان أضغاث أحلام يتلاعب فيه الشيطان بالإنسان في نومه، مثلما يتلاعب به في يقظته، فالشيطان يتلاعب بالإنسان في اليقظة ويشغله، فيحصل له ذلك في المنام، وقد يحصل له شيء في المنام لا علاقة له باليقظة، ولكنه من الشيطان.
قوله: [(فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثاً، وليتعوذ بالله من شرها؛ فإنها لا تضره)] وهذا من الآداب التي تجعل الإنسان يتخلص من الفزع الذي أصابه بسبب ما رآه في النوم، فإنه يأتي بهذه الأسباب التي تجعل تلك الرؤيا لا تضره ولا تقع على وجه يضره.(570/15)
تراجم رجال إسناد حديث (الرؤيا من الله والحلم من الشيطان)
قوله: [حدثنا النفيلي].
هو عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[سمعت زهيراً].
هو زهير بن معاوية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد الأنصاري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت أبا سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت أبا قتادة].
هو الحارث بن ربعي رضي الله عنه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا حديث مسلسل بصيغة سمعت؛ لأن كل واحد من الرواة أتى بها إلا أبا داود.(570/16)
شرح حديث جابر (إذا رأى أحدكم ما يكرهه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يزيد بن خالد الهمداني وقتيبة بن سعيد الثقفي قالا: أخبرنا الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره، وليتعوذ بالله من الشيطان ثلاثاً، ويتحول عن جنبه الذي كان عليه)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه وفيه ما في الذي قبله، مع زيادة التحول عن الجنب الذي كان عليه، وعلى هذا فقد ورد من الأمور التي يفعلها الإنسان ومن الآداب التي تفعل عند حصول ما يكره في منامه أنه يصلي، وأنه ينفث عن يساره ثلاثاً، ويتعوذ بالله من الشيطان، ويتحول عن الجنب الذي كان عليه عندما حصلت له هذه الرؤيا المحزنة.
فيتحول عن الجنب الذي كان عليه، ولو كان على الجنب الأيمن فإنه يتحول إلى الجنب الأيسر؛ لأن هذا هو الذي أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم.(570/17)
تراجم رجال إسناد حديث جابر (إذا رأى أحدكم ما يكرهه)
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد الهمداني].
يزيد بن خالد الهمداني ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وقتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد مر ذكره.
[أخبرنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد رباعي، وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(570/18)
شرح حديث (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، أو لكأنما رآني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(من رآني في المنام فسيراني في اليقظة)] هذا يحمل على أمرين: إن كان الشخص في زمانه صلى الله عليه وسلم ولم يكن قد رآه ثم رآه في المنام، فإنه قد ييسر الله له أن يراه، وأن يهاجر إليه، ثم يرى أن ما رآه في المنام مطابق لما رآه في اليقظة.
قوله: [(أو لكأنما رآني)] يعني: أنه بمثابة من رآني.
قوله: [(ولا يتمثل الشيطان بي)] أي: لا يتمثل به على هيئته التي يعرفها أصحابه، وإلا فقد يأتي الشيطان ويقول: إنه رسول الله ويكون على هيئة ليست هي هيئته، فهذا ليس رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلو أن إنساناً رأى في المنام قزماً، أو رأى شخصاً عملاقاً، أو رأى شخصاً ليس له لحية، أو رآه على هيئة خبيثة قبيحة لا تليق بالرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا ليس رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإنما تكون الرؤيا مطابقة إذا كانت على الهيئة التي يعرفها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر الترمذي في الشمائل حديثاً عن ابن عباس: (أن رجلاً من التابعين جاء إلى ابن عباس وقال له: إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال له: صف لنا هذا الذي رأيت؟ فوصفه، قال له: لو كنت رأيته كما رأيناه ما زدت على هذا الوصف شيئاً) يعني: أن رؤياك مطابقة للذي نعرفه من هيئته ومن صفاته الخلقية صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ولهذا لا يقال: إن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم قد رآه حقاً؛ لأنه قد يكون رأى شخصاً ليس هو رسول الله، والشيطان لا يتمثل به على هيئته وقد يتمثل به على هيئة أخرى.
وكذلك أيضاً من رآه كما جاء في بعض الأحاديث: (من رآني فقد رآني)، يعني: أنه من رآه على هيئته في المنام فقد رآه؛ لأن تلك الهيئة هي هيئته.
قوله: [(فسيراني)] يعني: أنه سيراه بعد الموت في الدار الآخرة، وتكون رؤيته حقاً.(570/19)
تراجم رجال إسناد حديث (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عبد الله بن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مر ذكره.
[أن أبا هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.(570/20)
شرح حديث ابن عباس (من صور صورة عذبه الله بها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد وسليمان بن داود قالا: حدثنا حماد حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من صور صورة عذبه الله بها يوم القيامة حتى ينفخ فيها وليس بنافخ، ومن تحلم كلف أن يعقد شعيرة، ومن استمع إلى حديث قوم يفرون به منه صب في أذنه الآنك يوم القيامة)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صور صورة عذبه الله بها يوم القيامة حتى ينفخ فيها وليس بنافخ)، يعني: أنه لما صور صورة في الدنيا وقد منع من ذلك وحرم عليه ذلك، فإنه يعاقب يوم القيامة بأن يكلف بأن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ، ولا يقدر على النفخ، وليس بإمكانه أن ينفخ الروح فيها، وهذا تحذير من التصوير وترهيب منه.
قوله: [(ومن تحلم)] وهذا هو محل الشاهد من إيراده للحديث في باب الرؤيا.
فقوله: [(ومن تحلم كلف أن يعقد شعيرة)].
يعني: من زعم أنه رأى في منامه رؤيا وهو كاذب فيها، فإنه يكلف بين أن يعقد شعيرة، والشعيرة هي حبة الشعير، فإنه لا يمكن أن يعقد طرفيها وأن يجمع بين طرفيها.
ومعنى ذلك: أنه يكلف بأمر لا يطيقه ويعذب عذاباً على هذا الفعل الذي فعله، وهو أنه أرى عينيه ما لم تريا، وأنه كذب في رؤياه وأخبر بأنه رأى ما لم ير.
قوله: [(ومن استمع إلى حديث قوم يفرون به منه)].
يعني: هم لا يريدون أن يسمع كلامهم وحديثهم، فهم يفرون بالحديث عنه بحيث لا يسمعه، وهو مع ذلك يحاول أن يسمعه.
قوله: [(صب في أذنه الآنك يوم القيامة)] والآنك: هو الرصاص المذاب، وهذه عقوبة له؛ لأنه لما استمع سماعاً لا يجوز له، فيصب في أذنيه الآنك، كما أنه سعى إلى أن يدخل في أذنيه هذا الذي فر أهل ذلك الكلام منه حتى لا يسمعه، ولكنه تتبع ذلك من أجل أن يصل إليه، فإنه يعاقب بهذه العقوبة، والجزاء من جنس العمل.(570/21)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس (من صور صورة عذبه الله بها)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[وسليمان بن داود].
هو سليمان بن داود العتكي أبو الربيع الزهراني هو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
إذا جاء حماد يروي عنه مسدد أو يروي عنه سليمان بن حرب فإنه حماد بن زيد، وإذا جاء حماد غير منسوب ويروي عنه موسى بن إسماعيل التبوذكي فالمراد به حماد بن سلمة، وقد ذكر المزي في تهذيب الكمال بعد ترجمة حماد بن سلمة فصلاً، ذكر فيه التلاميذ الذين يروون عن حماد بن زيد وحماد بن سلمة وأنه إذا روى عنه فلان وفلان فهو حماد بن زيد وإذا روى عنه فلان وفلان فهو حماد بن سلمة.
[حدثنا أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة مر ذكره.
[عن عكرمة].
وهو عكرمة مولى ابن عباس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس] وابن عباس قد مر ذكره.(570/22)
حكم الصورة الفوتوغرافية
هذا الوعيد في من صور صورة، أما الصور الفوتوغرافية فكبار المشايخ في هذا العصر ومنهم شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز له رسالة في هذا اسمها (الجواب المفيد في حكم التصوير)، وكذلك شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمة الله عليه، وكان إذا قيل له: إن الصورة الفوتوغرافية ليست مثل الصور الأخرى التي تنقش، قال: هم يقولون لها صورة، ويقولون للذي يعملها المصور.
والشيخ الألباني رحمه الله كان يقول: إنها ظاهرية عصرية، أن الصور التي في قماش يقال لها صورة، وإذا كانت صورة فوتوغرافية لا يقال لها صورة! فهذا مثل عمل أهل الظاهر وقول أهل الظاهر الذين يجعلون شيئاً معيناً هو المعتبر وغيره لا يلحق به ولا يعتبر مثله ولا يماثله.
فالحاصل أن الصور الفوتوغرافية داخلة تحت التصوير، وأن الواجب هو الحذر من ذلك إلا ما تدعو إليه حاجة أو ضرورة فيما يتعلق بأمور لا بد منها، مثل: جواز سفر، أو رخصة قيادة، أو ما إلى ذلك من الأمور التي يحتاج الناس إليها، فهذه لا بأس بها إن شاء الله.(570/23)
شرح حديث (رأيت الليلة كأنا في دار عقبة بن رافع وأتينا برطب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (رأيت الليلة كأنا في دار عقبة بن رافع، وأُتينا برطب من رطب ابن طاب، فأولت أن الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب)].
أورد أبو داود حديث أنس رضي الله عنه: (رأيت الليلة كأنا في دار عقبة بن رافع وأُتينا برطب من رطب ابن طاب)؟ يعني: فأول ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الرفعة لنا في الدنيا، وهذا مأخوذ من لفظ (رافع)، والعاقبة لنا في الآخرة، وهذه مأخوذة من لفظ (عقبة).
قوله: [(وأن ديننا قد طاب)] هذا مأخوذ من لفظ (ابن طاب)، وهذا من التأويل الذي يؤخذ من الألفاظ، مثل ما جاء في هذا الحديث.
وابن طاب هو رجل ينسب إليه الرطب، أو ينسب إليه نخل أو بستان، فيقال له: تمر ابن طاب، يعني: هو نوع من التمر معروف بهذا الاسم، ينسب إلى شخص معين هو ابن طاب.(570/24)
تراجم رجال إسناد حديث (رأيت الليلة كأنا في دار عقبة بن رافع وأتينا برطب)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس رضي الله عنه وقد مر ذكره.
والحديث رباعي، وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(570/25)
الأسئلة(570/26)
حقيقة الرؤيا
السؤال
ما هي حقيقة الرؤيا، هل هي تكليم من الله للعبد، أو هي من وحي الملك أو غير ذلك؟
الجواب
جاء في الحديث: (الرؤية الصالحة من الله والحلم من الشيطان).
قوله: (من الله) يعني: أن الله قذفها في قلبه، أو أنه جاء الملك ووضعها في قلبه.(570/27)
وجه وقوع الرؤيا على ما عبرت عليه من خير أو شر
السؤال
اشتهر عند الناس أن الرؤيا على ما عبرت عليه فإن كان أول من عبرها بأمر سيئ وقعت على ما هي عليه، فهل هذا صحيح؟
الجواب
هذا سيأتي، ومعلوم ما جاء في قصة الظلة التي تنطف سمناً وعسلاً فكان أول من عبرها أبو بكر رضي الله عنه، ومع ذلك قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (أصبت شيئاً وأخطأت شيئاً).(570/28)
وجه تفسير حديث (من رآني في المنام) على أن من رأى الرسول في المنام أنه سيراه في اليقظة في الجنة
السؤال
يفسر البعض حديث: (من رآني في المنام) على أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فإنه سيراه في اليقظة في الجنة، فهي بشارة للمؤمن، فهل هذا صحيح؟
الجواب
عسى أن يكون ذلك صحيحاً، ومعلوم أن المؤمنين كلهم سيدخلون الجنة، ولا يحرم من الجنة إلا الكفار، ومعلوم أن كل مسلم وإن ارتكب من الذنوب ما ارتكب وشاء الله أن يعذبه ويدخله النار، فإنه يعذب فيها، ولكنه لا بد وأن يئول أمره إلى الجنة، وأن يكون من أهل الجنة، ولا يبقى في النار إلا الكفار، وكل مسلم وكل مؤمن فإنه يكون في الجنة، إما ابتداء وإما مآلاً.(570/29)
حكم الاعتماد على الرؤيا في إثبات الأوامر والنواهي
السؤال
هل يجوز الاعتماد على الرؤيا في إثبات شيء أو إنكاره، كمن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم يأمره بشيء أو ينهاه عن شيء؟
الجواب
ليس هناك تشريع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشريعة مستقرة، ولا تؤخذ الأحكام الشرعية من الرؤى المنامية، لكن كونه يأمر بشيء طيب لا يخالف الشريعة بل هو مطابق لما جاء عنه وبما جاء في شرعه، كأن يأمره بصدقة، أو يأمره بعمل مطابق لما يمكن أن يأتي به؛ فلا بأس، ولكن هذا كما هو معلوم إذا كان على الهيئة التي كان عليها صلى الله عليه وسلم، والتي يعرفها أصحابه، والتي دونت في كتب الحديث.
أما إذا أتى بشيء يخالف الشريعة أو يأمر بشيء مخالف للشريعة؛ فهذا الذي رآه ليس هو رسول الله عليه الصلاة والسلام.(570/30)
حكم ادعاء رؤية أهل البدع للنبي وأمره لهم بأمور خيرية
السؤال
ادعى رجل في بلادنا أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وأشار إليه النبي صلى الله عليه وآله سلم بحفر بئر خارج البلد، وإنشاء مركز لتحفيظ القرآن الكريم، مع العلم بأن هذا الرجل من جنس الصوفية، فهل هذا صحيح؟
الجواب
إذا كان من المنحرفين عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم فغالباً ما تكون رؤياه غير صحيحة.(570/31)
حكم التمني والدعاء من أجل رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام
السؤال
هل للإنسان أن يتمنى ويدعو الله أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام؟
الجواب
الذي ينبغي للإنسان أن يتمنى ويرجو الله أن يريه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وهذا هو المهم.(570/32)
حكم من يزعم رؤية النبي غالب الأيام
السؤال
يزعم رجل أنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم يومياً، ويأتي أحياناً لصلاة الفجر وهو حزين، فيسأل ما بالك؟ فيقول: الليلة ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، فلا أدري أي ذنب فعلت، وهذا الرجل فتن الشباب والتفوا حوله؟
الجواب
هذا لا يبعد أن يكون في عقله خلل.(570/33)
معنى العي والبذاء والبيان
السؤال
جاء في حديث: (أن العي من الإيمان والفصاحة من النفاق) فما معنى العي؟
الجواب
روى الترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق) وقد صحح الحديث الألباني رحمه الله.
وقال أبو عيسى الترمذي: والعي قلة الكلام، والبذاء هو الفحش في الكلام، والبيان هو كثرة الكلام.
وقال المباركفوري في التحفة: قوله: (الحياء والعي) أي: العجز في الكلام، والمراد به في هذا المقام هو السكوت عما فيه إثم من النثر والشعر، لا ما يكون للخلل في اللسان، قاله القاري.
وعلى كل فالعي يكون محموداً ويكون مذموماً، والحديث يحمل على ما فسره الترمذي وغيره من أنه السكوت عما لا يعني، والسكوت عما لا ينبغي، وكون الإنسان يكون كلامه قليلاً وسماعه أكثر هو الأولى، مثل ما قال أبو حاتم ابن حبان في كتابه (روضة العقلاء) قال: إن الله عز وجل خلق أذنين ولساناً واحداً؛ حتى يسمع الإنسان أكثر مما يقول.
ومعلوم أنه إذا فسر بهذا المعنى فإنه مستقيم، وأما العي الذي هو العجز وعدم القدرة على الكلام مطلقاً الذي هو ضد الفصاحة، فهذه صفة مذمومة، وقد جاء في الحديث: (إنما شفاء العي السؤال) يعني: إذا كان الإنسان عنده إعياء وعنده عدم قدرة على الشيء، فإنه يحصله عن طريق السؤال.(570/34)
حكم العدة والميراث لمن توفي زوجها قبل الدخول بها
السؤال
هل على المرأة التي توفي عنها زوجها ولم يدخل بها عدة، وهل لها إرث؟
الجواب
نعم، عليها العدة ولها ميراث، فقد ثبت في السنة أن عليها العدة ولها الميراث.(570/35)
حكم الحج والاعتمار عن الأقارب الموتى
السؤال
يقول شخص: أنا ولله الحمد وفقني الله إلى حجة الإسلام والعمرة عدة مرات، والآن عند وصولي من بلادي في رمضان اعتمرت عن إحدى قريباتي، وأحب أن أحج عن أحد الأقارب، وكذلك إذا اعتمرت أحب أن أعتمر عن جميع أقاربي مثل: أجدادي وجداتي الأموات رحمهم الله، فقال لي أحد الإخوة: ينبغي أن تعتمر عن نفسك، مع علمه أني قد اعتمرت عن نفسي، فما هو الصحيح؟
الجواب
كون الإنسان يحرص على أن تكون عمره لنفسه، وأن يدعو لأمواته هذا هو الذي ينبغي، وإن اعتمر عن أحد فإنه جائز؛ لأن السنة جاءت في جواز ذلك.(570/36)
حكم الرؤيا التي تمنع من القول بأن أبوي الرسول في النار
السؤال
ذكر أحد المشايخ ممن يدرس التفسير عند مسألة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم هل هما في الجنة أو النار قال: إن أحد مشايخه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأشار إليه إشارة معناها ألا تخوض في هذه المسألة، فما رأي فضيلتكم؟
الجواب
يؤخذ بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال: (إن أبي وأباك في النار)، وحديث استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يستغفر لأمه فلم يأذن له، واستأذنه أن يزورها فأذن له، وأنزل الله عز وجل في ذلك: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:113].
ولا يؤخذ بهذه الرؤيا.
فما جاء عن رسول الله عليه الصلاة والسلام من الأحاديث الصحيحة هو الذي يعول عليه، وأما هذه الرؤيا التي هي مخالفة للشرع، فإنه لا يلتفت إليها، وهذا الذي قال هذا الكلام لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً.(570/37)
حكم من أفطر في صوم القضاء متعمداً
السؤال
رجل أفطر في صوم قضاء متعمداً فماذا عليه؟ هل يقضي اليوم بيومين؟
الجواب
عليه أن يقضي يوماً واحداً، ولكن لا يجوز للإنسان أن يترك الواجب الذي أوجبه الله عليه وقد دخل فيه؛ فإن قيامه بفعل واجب ثم يتخلى عنه ويبقي في ذمته مذموم، ولكن الذي يجب عليه هو قضاء يوم واحد فقط.(570/38)
حكم رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل ثبتت أحكام شرعية برؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من رؤى رآها فإنها وحي من الله؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي، وعائشة رضي الله عنها وأرضاها في قصة الإفك كانت تقول: (كنت أحب أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم في منامه رؤيا يبرئني الله بها، ولشأني في نفسي أهون من أن ينزل الله في آيات تتلى) يعني: كانت تتمنى أن يحصل له وحي عن طريق النوم، ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي، كما في قصة إبراهيم: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102].(570/39)
حكم الاعتماد على الرؤى في رد الحقوق إلى أهلها كالديون وغيرها
السؤال
هل يجوز لمن رأى أباه الميت يأمره برد بعض الحقوق إلى بعض الناس كالديون والودائع، لاسيما وأننا نجد كثيراً من الروايات عن السلف في مثل هذا؟ فهل يعتمد على مثل هذه الرؤى؟
الجواب
لا شك أن الاحتياط في هذا سائغ، إذا كان رأى أباه وقال: إن عليه لفلان ديناً فلا شك أن الاحتياط هو تبرئته، ما دام أنه حصل له ذلك؛ لأن في ذلك تخليصَ ذمته.(570/40)
شرح سنن أبي داود [571]
التثاؤب والعطاس من الأمور اللاإرادية التي قد تغلب على المرء في بعض الأحيان، لكن التثاؤب ناتج عن التخمة والكسل والخمول وامتلاء البطن، بينما العطاس ناتج عن الخفة والنشاط ما لم يكن العاطس مزكوماً، وقد ورد الشرع بمدح العطاس وذم التثاؤب، وقد جاء في السنة ذكر آدابهما القولية والفعلية.(571/1)
ما جاء في التثاؤب(571/2)
شرح حديث (إذا تثاءب أحدكم فليمسك على فيه فإن الشيطان يدخل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما جاء في التثاؤب.
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير عن سهيل عن ابن أبي سعيد الخدري عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إذا تثاءب أحدكم فليمسك على فيه؛ فإن الشيطان يدخل)].
قوله: [باب ما جاء في التثاؤب] يعني: ما جاء فيه من أحاديث تبين أحكامه وآدابه، وما يتعلق بذلك.
والتثاؤب هو ما يحصل من الإنسان عندما يكون فيه كسل وخمول، ويكون غالباً عن كثرة أكل، فإنه يترتب على ذلك أن الإنسان يتثاءب، والشيطان يريد هذا الشيء؛ لأن كل ما فيه ضرر على الإنسان فإن الشيطان يريده.
وقد جاء عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن الإنسان عندما يتثاءب فإنه يتأدب بآداب، فمن هذه الآداب ما جاء في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه الذي أورده المصنف، وهو أن الإنسان إذا تثاءب يمسك بيده على فيه؛ فإن الشيطان يدخل، وذلك أنه إذا أمسك على فيه، فإنه يمنع فمه من الانفتاح ويكظم ما استطاع؛ لأن ذلك يمنع من حصول التثاؤب على وجه يفرح به الشيطان ويريده.
وجاء في هذه الرواية أن الشيطان يدخل من فيه، وجاء في رواية أخرى أنه يضحك معجباً ومسروراً بما يحصل للإنسان من تلك الهيئة الكريهة، التي هي غير مرضية وغير مستحسنة.
والحديث الذي معنا فيه أنه يدخل، ويمكن أن كلاً من الأمرين يحصل، بحيث يحصل منه الدخول والضحك، ومعلوم أن الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم، فيدخل ويضحك فرحاً وسروراً بهذا الشيء الذي فيه مضرة على الإنسان وفيه كسل وخمول.(571/3)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا تثاءب أحدكم فليمسك على فيه فإن الشيطان يدخل)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهذا هو الذي أثنى عليه الإمام أحمد ووصفه بأنه شيخ الإسلام.
[حدثنا زهير].
زهير بن معاوية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهيل].
هو سهيل بن أبي صالح وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وروايته في البخاري مقرونة، أما مسلم فإنه روى عنه على سبيل الإفراد، ومما روى عنه مسلم في صحيحه حديث: (الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟!) فإنه من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه، وأما البخاري فإنه لم يخرجه في صحيحه، ولكنه أورد الحديث في ترجمة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) وهو يدل على صحته عنده، ولكنه ليس على شرطه.
[عن ابن أبي سعيد الخدري].
هو عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو أبو سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله تعالى عنه، مشهور بكنيته أبي سعيد وبنسبه الخدري، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام والذين جمعهم السيوطي في ألفيته بقوله: والمكثرون في رواية الأثر أبو هريرة يليه ابن عمر وأنس والبحر والخدري وجابر وزوجة النبي البحر المقصود به ابن عباس، وزوجة النبي هي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فهم ستة رجال وامرأة واحدة، بلغت أحاديث بعضهم ما يزيد على الألف، وبعضهم ما يزيد على الألفين، وبعضهم ما يزيد على ذلك.(571/4)
حقيقة دخول الشيطان فم المتثائب
ذكر صاحب العون في قوله: (فإن الشيطان يدخل) قال: إما حقيقة، أو المراد بالدخول التمكن منه.
فالتمكن حاصل والدخول ممكن، والأصل هو الحقيقة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم).
وكون الإنسان يأتي بأذكار اليوم والليلة والأذكار التي يكون فيها حرز من الشيطان، فمعنى ذلك أن الحرز يدفع عنه الضرر، وأما كون الشيطان يدخل فقد يدخل، وكونه يحصل شيء يفرحه وشيء يسره يمكن.(571/5)
ضعف تقييد حكم التثاؤب بحال الصلاة دون خارجها
أما ما نقل عن العراقي أن في أكثر الروايات إطلاق التثاؤب وفي رواية تقييده بحال الصلاة، فكونه يحمل المطلق على المقيد هذا غير صحيح؛ لأن معنى ذلك أن الحكم سيكون في المقيد دون المطلق، وأنه خارج الصلاة لا يكون الحكم، فإذا كان المراد به أن الحكم يتعلق بالصلاة وأن ما كان خارج الصلاة لا يحصل له هذا الحكم، فهذا غير صحيح، وأما إذا أريد به أن الحكم عام، ولكنه في الصلاة يتأكد ويكون أمره أخطر وأمره أشد، وأن هذا من قبيل التنصيص على بعض أفراد ما يمكن أن يشمله، فهو صحيح، إذ لا شك أنه في الصلاة أشد؛ لأن فيه إشغال الإنسان عن صلاته بهذا الذي حصل له من الكسل والخمول، ولا شك أن هذا يسر الشيطان كثيراً؛ لأنه مشتغل بعبادة، وهو يريد أن يلهيه عن العبادة وأن يشوش عليه عبادته وأن يفسدها عليه ويصرفه عنها.(571/6)
شرح حديث (إذا تثاءب أحدكم فليمسك على فيه) من طريق ثانية وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن العلاء عن وكيع عن سفيان عن سهيل نحوه، قال: (في الصلاة فليكظم ما استطاع)].
أورد أبو داود رواية ثانية وفيها: (في الصلاة) وهذا لا يدل على قصر الحكم على الصلاة كما أشرت، والحكم أنه يكظم ما استطاع في الصلاة وغير الصلاة، وإن غلبه التثاؤب فإنه يمسك فمه في الصلاة وفي غير الصلاة.
قوله: [حدثنا ابن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهيل نحوه].
هو سهيل بن أبي صالح وقد مر.
[نحوه] يعني: نحو ما تقدم بنفس الإسناد.(571/7)
حكم التعوذ من الشيطان عند التثاؤب
أما قول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم عند التثاؤب، استناداً إلى قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200] فلا أعلم أنه جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإنسان عند التثاؤب يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولكن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (التثاؤب من الشيطان) يؤيد ذلك فلا بأس بذلك؛ لأن هذا من الشيطان، فهو يتذكر أن هذا من الشيطان وأن هذا يعجب الشيطان، وأن هذا يريده الشيطان، فيتعوذ بالله منه.(571/8)
شرح حديث (إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، ولا يقل: هاه هاه؛ فإنما ذلكم من الشيطان يضحك منه)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب).
العطاس محبوب إلى الله عز وجل؛ لأن فيه استخراج أشياء من الدماغ، فالإنسان يتخلص منها ويكون فيه نشاط فيكون محموداً، والله تعالى يحبه، وأما التثاؤب فإن الله تعالى يكرهه؛ لأن فيه ثقلاً وكسلاً وخمولاً، وهذا مما يعجب الشيطان.
قوله: [(فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع)] يعني: يحاول أن يكظم ذلك النفس الذي يظهر من فمه ويؤدي إلى انفتاحه، وهي هيئة مستقذرة مستكرهة، فإن غلبه وصار لا بد من الانفتاح، فإنه يضع يده على فيه؛ لأنه بذلك يمنع من زيادة الانفتاح في الفم، ويمنع أيضاً من حصول الصوت الذي يكون نتيجة لهذا الانفتاح، ولهذا قال في الحديث: (إذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع ولا يقل: هاه، هاه) وهذه حكاية للصوت الذي يخرج من الفم عند التثاؤب بسبب هذا الانفتاح؛ وبسبب هذا النفس.
وإذا حدث مثل هذا الصوت فهذا يدل على أن التثاؤب قد بلغ حده وبلغ نهايته، وصار على هذه الهيئة الكريهة، وصار منه هذا الصوت الذي هو صوت خروج النفس منه، وليس معنى ذلك أن الإنسان يقول: هاه، بحيث ينطق بها ويأتي بها، وإنما المقصود بذلك حكاية صوت النفس الذي يحصل نتيجة لهذا الانفتاح وخروج النفس بهذه الطريقة.
قوله: [(فإنما ذلكم من الشيطان يضحك منه)] يعني: يضحك سروراً؛ لأنه وجد ما يسره ويعجبه، وفي هذا إثبات أن الشيطان يحصل منه الضحك ويفرح بما يسوء الإنسان وبما لا خير فيه للإنسان، كما جاء أنه يأكل بشماله ويشرب بشماله، فكذلك أيضاً جاء عنه أنه يضحك فرحاً وسروراً لحصول الهيئة التي يكرهها الله.(571/9)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا يزيد بن هارون].
هو يزيد بن هارون الواسطي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن أبي ذئب].
هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد المقبري].
هو سعيد بن أبي سعيد المقبري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
وهو كذلك ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة رضي الله تعالى عنه مر ذكره.
وسعيد بن أبي سعيد يروي عن أبي هريرة مباشرة ويروي عنه بالواسطة، وهنا روى عنه بواسطة أبيه.(571/10)
ما جاء في العطاس(571/11)
شرح حديث (كان رسول الله إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في العطاس.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن عجلان عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه، وخفض أو غض بها صوته) شك يحيى].
أورد أبو داود [باباً في العطاس] يعني: ما يتعلق بآدابه، وقد مر أن الله تعالى يحب العطاس ويكره التثاؤب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أبي هريرة هذا- إذا عطس وضع يده أو وضع ثوبه على فمه وغض صوته بالعطاس.
وهناك فوائد لوضع الثوب على الفم والأنف في حالة العطاس منها: أولاً: أنه يخفض الصوت.
ثانياً: أنه يمنع من حصول أشياء تتطاير وتنتشر بسبب العطاس الذي يحصل بقوة، وتخرج من الدماغ، فينتج عنه أن يخرج من أنفه أشياء، فهذا يمنع من خروجها على جسمه أو على من حوله.
قوله: [(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه، وخفض أو غض بها صوته) شك يحيى].
يعني: قوله: [(خفض أو غض)] شك يحيى وهو أحد الرواة.(571/12)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عجلان].
هو محمد بن عجلان المدني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سمي].
هو سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
هو ذكوان السمان اسمه ذكوان ولقبه السمان ويقال: الزيات؛ لأنه كان يجلب الزيت ويجلب السمن، فلقب بـ الزيات والسمان، فهي نسبة حرفة ومهنة وعمل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه وقد مر ذكره.(571/13)
وجه كون صدق الحديث ما عطس عنده
أما ما يقولون من أن الذي يعطس عند ذكره لشيء فهذا يدل على صدقه، كما جاء في الحديث: (أصدق الحديث ما عطس عنده) فأقول: هذا الحديث ضعيف وهو في السلسلة الضعيفة للشيخ الألباني رحمه الله تعالى، والكذاب يمكن أن يأتي بشيء من الفلفل الذي يجلب العطاس ثم يعطس؛ لأن من الناس من إذا شم هذا الفلفل ولو من مكان بعيد يحصل له العطاس بسبب ذلك، ومن ألف الفلفل لا يعطس وإن كان يكيل الفلفل كيلاً، كان بعض الناس في بعض الأسواق يبيع الفلفل ويكيله بالصاع، وكان كل من مر من طرف السوق يعطس، وهو نفسه لا يعطس؛ لأن عنده مناعة.
وإذا كان العطاس يحبه الله تبارك وتعالى فلا يعني ذلك أن يكثر منه؛ فالإكثار منه غير جيد؛ لأنه مرض، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا زاد العاطس على ثلاث لا يشمته، ويقول: مزكوم!(571/14)
شرح حديث (خمس تجب للمسلم على أخيه رد السلام وتشميت العاطس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن داود بن سفيان وخشيش بن أصرم قالا: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنازة)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة: خمس تجب على المسلم لأخيه المسلم وهي: رد السلام، وتشميت العاطس، وعيادة المريض، واتباع الجنازة، وإجابة الدعوة.
هذه تجب على المسلم لأخيه، وهذا يدل على وجوب التشميت للعاطس، واختلف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: إنه وجوب عيني، ومنهم من قال: إنه وجوب كفائي.
قوله: [(خمس تجب للمسلم على أخيه)].
هذا الأسلوب من الأساليب التي جاءت في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو كونه يذكر العدد أولاً ثم يذكر المعدود بعد ذلك؛ لأن هذا فيه تحفيز السامع إلى أن يتهيأ لاستيعاب هذا العدد، وألا يفوته منه شيء، وأنه إن قصر عن استيعابه فمعناه أنه فاته شيء، وهذا من كمال بيانه وكمال نصحه لأمته عليه الصلاة والسلام، فإنه يأتي بمثل هذه العبارات التي تحفز السامعين إلى أن يعنوا وأن يهتموا بما يلقى بعد ذكر هذه الخمس، بخلاف ما لو جاء المعدود بدون ذكر العدد في الأول، فإن الإنسان قد يفوته شيء ولا يدري أنه قد فاته.
وقد جاء هذا كثيراً في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، منها: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان) ومنها: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً) ومنها: (خمس من الفطرة) وهنا: (خمس تجب على أخيه المسلم) ومنها: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن) يعني: ذكر أنهما كلمتان وذكر صفاتهما ثم ذكرهما في الآخر: (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).
فهذا الحديث من أمثلة ما اشتمل عليه كلامه صلى الله عليه وسلم من البلاغة، وما اتصف به صلى الله عليه وسلم من كمال النصح للأمة، فهو أفصح الناس وأنصح الناس للناس عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
قوله: [(خمس تجب للمسلم)].
وهذا فيه التصريح بالوجوب.
قوله: [(للمسلم على أخيه)] ومعنى هذا: أن هذا الحق إنما هو للمسلم وليس لغيره.
قوله: [(رد السلام)] ورد السلام واجب، وابتداؤه سنة، وهذا مما يقال فيه: إن السنة فيه أفضل من الواجب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) فالذي يبدأ بالسلام ويبادر إليه أحسن وأفضل ممن يُسْبَقُ بالسلام، ويكون شأنه راداً وليس مبتدئاً، لكن كما هو معلوم جاءت أحاديث تبين من الناس من يكون منه السلام، كأن يسلم الراكب على الماشي، والماشي على الجالس وهكذا.
قوله: [(وتشميت العاطس)].
وتشميت العاطس هو ما نحن فيه.
قوله: [(وإجابة الدعوة)].
آكد ما يكون فيها دعوة الزواج ووليمة العرس، وكذلك إذا كانت الدعوة يترتب عليها مصلحة وفائدة كبيرة، ولا يترتب على الإنسان مضرة، أو لم يحصل فيه إخلال بعمل أو بموعد آخر أو ما إلى ذلك، فإن ذلك متأكد.
قوله: [(وعيادة المريض)].
يعني: كون الإنسان يعود أخاه في مرضه، فإنه يدخل عليه السرور ويؤنسه، وهو في ظرف وفي حالة هو بحاجة إلى الإيناس وإلى أن يحسن إليه وأن يسر، بأن يؤتى إليه ويدعى له ويطمأن.
قوله: [(واتباع الجنازة)].
يعني: إذا مات فإنه يتبع جنازته.(571/15)
تراجم رجال إسناد حديث (خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام وتشميت العاطس)
قوله: [حدثنا محمد بن داود بن سفيان].
محمد بن داود بن سفيان مقبول، أخرج له أبو داود.
[وخشيش بن أصرم].
خشيش بن أصرم ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن المسيب].
هو سعيد بن المسيب وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.(571/16)
حكم تشْميت العاطس
إن تشميت العاطس واجب، وينبغي للإنسان أن يحرص على تشميت العاطس، لكن بعض أهل العلم قال: إن تشميته متعين، وإنه واجب، ولكنه إذا قام به من يكفيه سقط الإثم.
ولكن الإنسان يحرص على أن يكون مؤدياً لهذا الواجب، سواء قام به غيره أو لم يقم به غيره، وقد جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (فحق على كل من سمعه أن يشمته).
وهذا يدل على الوجوب، لكن كما قلت وكما هو معلوم أنه الوجوب الكفائي، فهو واجب على الجميع في الأصل، ولكن الإثم يسقط عنهم لقيام البعض به.(571/17)
ما جاء في تشميت العاطس(571/18)
شرح حديث سالم بن عبيد (إذا عطس أحدكم فليحمد الله وليقل له من عنده: يرحمك الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في تشميت العاطس.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن هلال بن يساف قال: (كنا مع سالم بن عبيد رضي الله عنه فعطس رجل من القوم فقال: السلام عليكم، فقال سالم: وعليك وعلى أمك، ثم قال بعد: لعلك وجدت مما قلت لك؟ قال: لوددت أنك لو لم تذكر أمي بخير ولا بشر، قال: إنما قلت لك كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم، إنا بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عطس رجل من القوم فقال: السلام عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك وعلى أمك، ثم قال: إذا عطس أحدكم فليحمد الله، قال فذكر بعض المحامد، وليقل له من عنده: يرحمك الله، وليرد يعني عليهم: يغفر الله لنا ولكم)].
أورد أبو داود [باب ما جاء في تشميت العاطس].
وتشميت العاطس هو أنه إذا حمد الله يدعى له بالرحمة فيقال: يرحمك الله! هذا هو التشميت، ويقال له التسميت بالسين.
والتشميت إنما يكون لمن عطس وحمد وليس لكل عاطس، ويجيب الذي دعي له بالرحمة وقد حمد الله في الأول بقوله: (يهديكم الله ويصلح بالكم) كما جاء في ذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الحديث قال: (يغفر الله لنا ولكم) ولكن الحديث ضعيف؛ لأن في إسناده من هو متكلم فيه.
ثم ما جاء في الحديث من ذكر السلام يحتمل أنه سبق لسان أو أنه ظن أن هذا يقال في هذا الموقف، ولكن الحديث غير صحيح؛ لأن في إسناده من هو متكلم فيه، ولكن السنة ثبتت بأن العاطس يحمد الله، وأن سامعه يشمته، فيقول: يرحمك الله، والعاطس يجيب من شمته بقوله: يهديكم الله ويصلح بالكم.(571/19)
تراجم رجال إسناد حديث سالم بن عبيد (إذا عطس أحدكم فليحمد الله وليقل له من عنده: يرحمك الله)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن المعتمر هو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هلال بن يساف].
هلال بن يساف وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[كنا مع سالم بن عبيد].
وهو صحابي أخرج له أصحاب السنن.
والحديث فيه انقطاع بين هلال بن يساف وبين سالم بن عبيد.(571/20)
طريق أخرى لحديث سالم بن عبيد في تشميت العاطس وترجمة رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا تميم بن المنتصر حدثنا إسحاق -يعني ابن يوسف - عن أبي بشر ورقاء عن منصور عن هلال بن يساف عن خالد بن عرفجة عن سالم بن عبيد الأشجعي رضي الله عنه بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى عن سالم، وأحال على الطريق السابقة، وهذه الطريق تختلف عنها بوجود واسطة، ثم أيضاً قد اختلف في وجود الواسطة على عدة أوجه، والذي ذكره أبو داود هنا واسطة هو مقبول.
قوله: [حدثنا تميم بن المنتصر].
تميم بن المنتصر ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا إسحاق يعني ابن يوسف].
إسحاق بن يوسف وهو المشهور بـ الأزرق وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بشر ورقاء].
أبو بشر ورقاء وهو صدوق في حديثه عن منصور لين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وهذه أيضاً علة أخرى؛ لأنه هنا يروي عن منصور بن المعتمر فهذه علة غير علة الانقطاع بين هلال بن يساف وسالم بن عبيد، وأيضاً غير علة الواسطة التي بين هلال وبين سالم الذي هو ابن عرفجة.
[عن منصور عن هلال بن يساف عن خالد بن عرفجة].
خالد بن عرفجة ويقال عرفطة وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن سالم بن عبيد الأشجعي].
سالم بن عبيد الأشجعي مر ذكره.(571/21)
شرح حديث (إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله على كل حال)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله على كل حال، وليقل أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، ويقول هو: يهديكم الله ويصلح بالكم)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه تفصيل ما يقوله العاطس في البداية وما يقوله في النهاية، وما يقوله من يسمعه في الوسط، فالعاطس يقول: الحمد لله على كل حال، وجاء أنه يقول: الحمد لله رب العالمين، وسامعه يقول: يرحمك الله، وهو يجيب بعد التشميت بقوله: يهديكم الله ويصلح بالكم.(571/22)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله على كل حال)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة].
هو عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن دينار].
عبد الله بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح عن أبي هريرة].
أبو صالح وأبو هريرة وقد مر ذكرهما.(571/23)
الأسئلة(571/24)
حكم قوله: (يهدينا ويهديكم الله) في رد العاطس على من شمته
السؤال
هل ورد: (يهدينا ويهديكم الله) في رد العاطس على من شمته؟
الجواب
لا أعلم شيئاً في ذلك، والذي أعلم هو قوله صلى الله عليه وسلم: (يهديكم الله ويصلح بالكم).(571/25)
وجه ورود قوله: (الحمد لله على كل حال) في باب العطاس مع كونه يحبه الله
السؤال
قوله: (الحمد لله على كل حال) هذا لا يقال إلا على شيء مكروه، والعطاس يحبه الله، فهل هذا صحيح؟
الجواب
ما دام أنه جاء ذلك في السنة فيؤتى بما جاءت به السنة، ومعلوم أن ذلك فيه مبالغة في الثناء على الله عز وجل، وأنه محمود في جميع الأحوال، ولا يقال: إنها خاصة بالمكروه، بل تكون فيه وفي غيره؛ لأنها تشمل المكروه وتشمل غير المكروه.(571/26)
حكم حمد الله لمن عطس في الصلاة
السؤال
إذا عطس شخص في الصلاة فهل يحمد الله؟
الجواب
يحمد الله ولكن لا يشمت، ولا يرفع صوته بحيث يشوش على الناس، وإنما يحمد بينه وبين نفسه.(571/27)
حكم تعليق تشميت العاطس بحمد الله
السؤال
إذا عطس عاطس ولم يقل: الحمد لله، فهل يقال له: يرحمك الله إن حمدت الله؟
الجواب
لا يقال هذا وإنما يسكت، وجاء عن الأوزاعي أنه عطس عنده شخص فقال له: ماذا تقول إذا عطست؟ قال: أقول: الحمد لله، قال: يرحمك الله، وقيل: إن هذه القصة عن ابن المبارك.
إذاًَ: قبل أن يشمت يُذّكَّر، ويقال له: إن العاطس يحمد الله، أما لو قال له: كيف حالك؟ فقال: الحمد لله، فلا نقول له: يرحمك الله؛ لأنه لم يحمد الله على العطاس، وإنما حمد الله على هذا الشيء.(571/28)
عدد مرات تشميت العاطس(571/29)
شرح حديث أبي هريرة (شمت أخاك ثلاثاً فما زاد فهو زكام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كم مرة يشمت العاطس.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن عجلان حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: شمت أخاك ثلاثاً فما زاد فهو زكام].
أورد أبو داود [باب كم مرة يشمت العاطس] والمقصود أنه يشمت ثلاث مرات: إذا عطس الأولى وحمد الله يشمت، ثم إذا عطس الثانية وحمد الله يشمت، ثم إذا عطس الثالثة وحمد يشمت، فإن زاد على ذلك فإنه لا يشمت وإنما يقال: أنت مزكوم أو زكام.
أما إذا عطس وهو يقضي حاجته فإنه لا يحمد الله لا جهراً ولا سراً، لكن يحمد الله في قلبه.
لكنه لا يزال يحمد الله كلما عطس وإن زاد على الثلاث؛ لأنه ليس هناك شيء يمنع من هذا، لكن التشميت ينتهي عند الثلاث.(571/30)
تراجم رجال إسناد حديث (شمت أخاك ثلاثاً فما زاد فهو زكام)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى].
مسدد مر ذكره، ويحيى بن سعيد القطان مر ذكره أيضاً.
[عن ابن عجلان حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة].
سعيد بن أبي سعيد يروي عن أبيه، وهنا يروي عن أبي هريرة مباشرة، وكما ذكرت أن أبا هريرة يروي عنه أبو سعيد المقبري ويروي عنه سعيد بن أبي سعيد المقبري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(571/31)
طريق ثانية لأثر أبي هريرة مرفوعاً بمعناه وترجمة رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عيسى بن حماد المصري أخبرنا الليث عن ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لا أعلمه إلا أنه رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وآله سلم بمعناه].
أورد الحديث من طريق أخرى وفيها شك في الرفع، ولكن الرواية الأولى مصرحة بالوقف.
قوله: [حدثنا عيسى بن حماد المصري].
عيسى بن حماد المصري هو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة، وهو الذي يلقب بـ زغبة.
[أخبرنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة].
وقد مر ذكر الثلاثة.(571/32)
طريق ثالثة لأثر أبي هريرة مرفوعاً وترجمة رجال الإسناد
[قال أبو داود: رواه أبو نعيم عن موسى بن قيس عن محمد بن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله سلم].
وهذه طريق أخرى وفيها أنه رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[قال: أبو داود رواه أبو نعيم].
أبو نعيم هو الفضل بن دكين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن موسى بن قيس].
موسى بن قيس وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن محمد بن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة].
وقد مر ذكر الثلاثة.(571/33)
شرح حديث (تشمت العاطس ثلاثاً فإن شئت أن تشمته فشمته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرحمن عن يحيى بن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أمه حُميدة أو عبيدة بنت عبيد بن رفاعة الزرقي عن أبيها رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (تشمت العاطس ثلاثاً، فإن شئت أن تشمته فشمته وإن شئت فكف)].
أورد أبو داود حديث عبيد بن رفاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تشمت العاطس ثلاثاً، فإن شئت أن تشمته فشمته وإن شئت فكف) يعني: أنه بعد الثلاث مخير، وفي الثلاث الأول يشمت، وقد مر أنه يشمت ثلاثاً وبعد ذلك يقال له: مزكوم.
وهذا الحديث الذي فيه أنه مخير غير صحيح؛ لأن في إسناده ضعفاً؛ لأن راويه قيل إنه ليس من الصحابة وإنما هو مرسل، وكذلك أيضاً فيه كلام آخر في بعض رواته.(571/34)
تراجم رجال إسناد حديث (تشمت العاطس ثلاثاً فإن شئت أن تشمته فشمته)
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هو هارون بن عبد الله الحمال البغدادي ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا مالك بن إسماعيل].
مالك بن إسماعيل وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد السلام بن حرب].
عبد السلام بن حرب وهو ثقة له مناكير، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن عبد الرحمن].
هو يزيد بن عبد الرحمن أبو خالد الدلاني، صدوق يخطئ كثيراً، أخرج له أصحاب السنن.
[عن يحيى بن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة].
يحيى بن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن أمه حميدة أو عبيدة بنت عبيد بن رفاعة الزرقي].
وهي مقبولة، أخرج لها أصحاب السنن.
[عن أبيها].
ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو من ثقات التابعين، يعني: لم تثبت صحبته، فيكون الحديث مرسلاً.
فإذاً: فيه الإرسال، وفيه أيضاً الراوية التي هي مقبولة، وفيه أيضاً الشخصان اللذان دونها فواحد منهما كثير الخطأ والآخر له مناكير.
وعبيد بن رفاعة أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.(571/35)
صفة تشميت من يكون عطاسه متتابعاً أو في الصلاة
هناك من يكون عنده العطاس متتابعاً، فمثل هذا يشمت بعدها مرة واحده.
كذلك إذا عطس من كان مصلياً فحمد الله فسمعه من لم يكن في صلاة فليس له أن يشمته؛ لأن المصلي لا يخاطِب ولا يخاطَب، اللهم إلا في السلام فإنه يسلم عليه ويرد بالإشارة.(571/36)
شرح حديث (أن رجلاً عطس عند النبي فقال له يرحمك الله ثم عطس فقال الرجل مزكوم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا ابن أبي زائدة عن عكرمة بن عمار عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه رضي الله عنه: (أن رجلاً عطس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يرحمك الله، ثم عطس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل مزكوم)].
أورد أبو داود حديث سلمة بن الأكوع قال: (أن رجلاً عطس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يرحمك الله، ثم عطس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل مزكوم)، وهنا لم يثبت تكرار، ولكن جاءت الأحاديث المبينة بأن الإنسان يشمت إلى ثلاث، وبعد ذلك يقال له: مزكوم.
أما كون الزكام يتتابع بسبب غبار أو غيره فهذا ليس هو الزكام العادي، وإنما هو لمرض أو غيره.(571/37)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رجلاً عطس عند النبي فقال له يرحمك الله ثم عطس فقال الرجل مزكوم)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى].
هو إبراهيم بن موسى الرازي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن أبي زائدة].
هو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة بن عمار].
عكرمة بن عمار وهو صدوق يغلط، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن إياس بن سلمة بن الأكوع].
إياس بن سلمة بن الأكوع وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، وقد أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
كذلك إذا علمت أن الرجل مزكوم من أول مرة فشمته إلى ثلاث مرات.(571/38)
كيفية تشميت الذمي(571/39)
شرح حديث (كانت اليهود تعاطس عند النبي رجاء أن يقول لها يرحمكم الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى [باب كيف يشمت الذمي.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن حكيم بن الديلم عن أبي بردة عن أبيه رضي الله عنه قال: (كانت اليهود تعاطس عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول لها: يرحمكم الله، فكان يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم)].
أورد أبو داود [باب كيف يشمت الذمي] وهو أنه يشمت بأن يقال له: يهديكم الله ويصلح بالكم، وهذا هو الذي يناسبه، وأما الرحمة فإنها تناسب المسلمين الذين هم أهل الرحمة، وأما أولئك فهم أهل العذاب والمستحقون للعذاب، ولكن يدعى لهم بالهداية، فالكافر يدعى له أن يهديه الله للإسلام، وأن يخرجه من الظلمات إلى النور.
أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن اليهود كانوا يتعاطسون ويتكلفون العطاس؛ رجاء أن يدعو لهم بالرحمة، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: (يهديكم الله ويصلح بالكم).(571/40)
تراجم رجال إسناد حديث (كانت اليهود تعاطس عند النبي رجاء أن يقول لها يرحمكم الله)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع حدثنا سفيان].
مر ذكر الثلاثة.
[عن حكيم بن الديلم].
حكيم بن الديلم صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبي بردة].
هو أبو بردة بن أبي موسى الأشعري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس رضي الله عنه صحابي جليل، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(571/41)
حكم من عطس ولم يحمد الله(571/42)
شرح حديث (عطس رجلان عند النبي فشمت أحدهما وترك الآخر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن يعطس ولا يحمد الله.
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير ح وحدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان المعنى قالا: حدثنا سليمان التيمي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما وترك الآخر، قال: فقيل: يا رسول الله! رجلان عطسا فشمتّ أحدهما، قال أحمد: أو فسمت أحدهما وتركت الآخر، فقال: إن هذا حمد الله، وإن هذا لم يحمد الله)].
أورد أبو داود [باباً فيمن يعطس ولا يحمد الله] والمقصود أنه لا يشمت؛ لأن التشميت تابع للحمد ومبني على الحمد من العاطس، فإذا عطس وحمد الله بعد عطاسه استحق أن يشمت، وإن لم يحمد فإنه لا يشمت.
أورد أبو داود حديث أنس رضي الله عنه أن رجلين عطسا عند رسول الله عليه الصلاة والسلام فشمت أحدهما، وأحد الشيخين لـ أبي داود قال: (سمت) بدل شمت؛ لأن معناهما واحد، فقيل له: رجلان عطسا شمت أحدهما ولم تشمت الآخر، فقال: هذا حمد الله، وهذا لم يحمد الله، فدل هذا على أن التشميت تابع للحمد، وأنه يأتي بعد حصوله.(571/43)
تراجم رجال إسناد حديث (عطس رجلان عند النبي فشمت أحدهما وترك الآخر)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير ح وحدثنا محمد بن كثير].
أحمد بن يونس مر ذكره، وزهير مر ذكره، ومحمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
هو سفيان الثوري مر ذكره.
[قالا: حدثنا سليمان التيمي].
هو سليمان بن طرخان التيمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس رضي الله عنه خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والإسناد رباعي، وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(571/44)
الأسئلة(571/45)
حكم حمد الله ممن عطس وهو بمفرده
السؤال
إذا عطس الإنسان وكان لوحده فهل يحمد الله؟
الجواب
نعم يحمد الله ولو كان لوحده.(571/46)
حكم تشميت العاطس ممن يقرأ القرآن أو يشتغل بالذكر
السؤال
إذا عطس أحد بجواري وأنا أقرأ قرآناً أو مشغول بالذكر فهل أقطع وأشمته؟
الجواب
نعم؛ لأن هذا شيء طارئ ولا يمنع من المواصلة.(571/47)
حكم تشميت من سُمع عطاسه من بعيد دون حمده لله
السؤال
إذا كان العاطس بعيداً لكنني أعلم أنه من عادته أنه يحمد الله فهل أشمته وإن لم أسمعه؟
الجواب
لا تشمته إلا إذا سمعته؛ لأنه قد ينسى.(571/48)
صفة تشميت المبتدع البدعة المكفرة والمفسقة
السؤال
إذا عطس صاحب بدعة اعتقادية وحمد الله، فهل يقال له: يرحمكم الله، أو يهديكم الله ويصلح بالكم؟
الجواب
إذا كانت بدعته مكفرة يدعى له كما يدعى للكفار، وإن كانت بدعته مفسقة، فإنه يدعى له كما يدعى للمسلمين.(571/49)
حكم تشميت الرجل الأجنبي للمرأة والعكس
السؤال
هل يشمت الرجل المرأة الأجنبية والعكس؟
الجواب
لا ينبغي ذلك مع الأجنبيات؛ لأن هذا يؤدي إلى تخاطب وإلى كلام، والمرأة الأجنبية كما هو معلوم عليها ألا ترفع صوتها بالحمد إذا عطست، فهي ليس لها أن تظهر صوتها وأن تحمد الله عند الرجال، والرجال أيضاً كذلك لا يجيبونها، وقد جاء في السنة أن الإمام إذا حصل له شيء في صلاته فإنه يسبح الرجال وتصفق النساء، والمقصود بذلك ألا يسمع صوتها وألا يظهر صوتها.(571/50)
حكم تشميت العاطس بقولهم له عافية
السؤال
إذا عطس الرجل فمن عادتنا في البلد أن يقال له: عافية، فهل هذا جائز؟
الجواب
السنة أن يحمد الله، ويقال له: يرحمك الله.(571/51)
عدم تشميت من يعطس أثناء خطبة الجمعة
السؤال
إذا عطس شخص يوم الجمعة والخطيب يخطب فهل أشمته؟
الجواب
هو يحمد الله كما يحمد الله في الصلاة ولكن لا يشمت.(571/52)
حكم توزيع رسالة كفر تارك الصلاة في فرنسا
السؤال
لقد ترجمت رسالة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله (حكم تارك الصلاة) إلى اللغة الفرنسية، ولكن بعض الإخوة ينصح بعدم توزيعها في فرنسا؛ لأن ذلك يسبب فتنة لكثرة تاركي الصلاة هناك، ولأن الشيخ قد قرر فيها كفر تارك الصلاة، فماذا ترون حفظكم الله؟
الجواب
على كل الحكم يبين؛ لأنه حتى في نفس البلاد الإسلامية الذي يترك الصلاة أناس كثيرون، فعلى هذا لا توزع أبداً ولا توجد.(571/53)
حكم الجهر بالتسمية قبل الوضوء
السؤال
هل للإنسان أن يرفع صوته بالتسمية قبل الوضوء أم يسمي في نفسه؟
الجواب
إذا سمى في نفسه بدون نطق لم يسم كلاماً؛ لأن الكلام إنما هو باللسان وتحريك الشفتين لا بسكون اللسان وإطباق الشفتين، فهذا لا يقال له كلام؛ لأن حديث النفس ليس بكلام، قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل).
فالكلام هو ما يسمعه المتكلم سواء كان سراً أو جهراً، فهو إن كان المقصود به أنه يسمي بينه وبين نفسه بحيث يسمع نفسه فلا بأس، وكذلك أيضاً كونه سمى ليسمع غيره حتى يعلم وينبه هذا شيء طيب.(571/54)
طرق إرضاء الوالدين في السماح للولد بفعل النوافل من العبادات
السؤال
ما هو الضابط في رضا الوالدين إذا كانا يمنعان من بعض نوافل العبادات كنافلة الحج والعمرة والصيام؛ خوفاً وشفقة على صحتي؟
الجواب
على الإنسان أن يحرص على رضا الوالدين وعلى إقناعهما، ويخبرهما بأن هذا خير له ولهم؛ لأنه بذلك يؤدي عبادة عظيمة ويدعو لنفسه ولهم في تلك الأماكن المقدسة الفاضلة.(571/55)
حكم إعطاء الرجل سيارته لأصدقائه دون رضا أمه
السؤال
يقول شخص: والدتي تمنعني من إعطاء سيارتي لأصدقائي وزملائي، فإذا أعطيتها لواحد منهم هل أعتبر عاصياً لها؟
الجواب
الإعطاء لكل أحد قد لا يكون مناسباً؛ لأنه قد يعطيها لشخص ويتهور في قيادتها ويتلفها، ولكن إذا كان الذي أعطاه إنساناً عاقلاً ومأموناً ودعت الحاجة إلى ذلك، فالناس يحتاج بعضهم إلى بعض، ولا يستغني بعضهم عن بعض، ولكنه يقنع والدته ويقول لها: كما أن الواحد منهم يعطيني سيارته إذا احتجت فهم أيضاً كذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه) يعني: يعامل الناس بمثل ما يحب أن يعاملوه به، لكنه لا يعطيها لكل أحد؛ لأنها قد يحصل لها دمار ويحصل لها تلف.(571/56)
شرح سنن أبي داود [572]
يستغرق النوم ما يقارب نصف عمر الإنسان، وقد جاء الشرع الحنيف بذكر آداب النوم وسننه، وما ينبغي تركه وتجنبه عند النوم، وما يفعله المرء عند الاستيقاظ.(572/1)
ما جاء في انبطاح الرجل على بطنه(572/2)
شرح حديث (إن هذه ضجعة يبغضها الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أبواب النوم باب في الرجل ينبطح على بطنه.
حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن يحيى بن أبي كثير حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن عن يعيش بن طخفة بن قيس الغفاري قال: (كان أبي رضي الله عنه من أصحاب الصفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلقوا بنا إلى بيت عائشة رضي الله عنها فانطلقنا، فقال: يا عائشة! أطعمينا.
فجاءت بجشيشة فأكلنا، ثم قال: يا عائشة! أطعمينا.
فجاءت بحيسة مثل القطاة فأكلنا، ثم قال: يا عائشة! أسقينا.
فجاءت بعس من لبن فشربنا، ثم قال: يا عائشة! أسقينا.
فجاءت بقدح صغير فشربنا، ثم قال: إن شئتم بتم وإن شئتم انطلقتم إلى المسجد، قال: فبينما أنا مضطجع في المسجد من السحر على بطني إذا رجل يحركني برجله، فقال: إن هذه ضجعة يبغضها الله، قال: فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)].
أورد أبو داود رحمه الله تعالى [أبواب النوم] أي: الأبواب المتعلقة بالنوم وأحكامه وآدابه، فعنون لها بهذا العنوان العام، ثم أتى بأبواب متفرقة تندرج تحت هذا التبويب العام فقال: [باب في الرجل ينبطح على بطنه] أي: في حال نومه يكون منبطحاً على بطنه.
ومعلوم أن ذكر الرجل ليس له مفهوم كما جاء مراراً وتكراراً، فحكم المرأة كحكم الرجل ولا فرق بين الرجال والنساء في الأحكام، إلا إذا جاءت النصوص تدل على أن هذه الأحكام خاصة بالرجال، أو أن هذه الأحكام خاصة بالنساء، فعند ذلك يصار إلى هذا التمييز، وأما إذا لم يأت شيء يدل على اختصاص الرجال بشيء أو النساء بشيء، فإن الحكم يشمل الرجال والنساء.
أورد أبو داود رحمه الله حديث يعيش ين طخفة الغفاري قال: كان أبي من أهل الصفة وإن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليهم وقال: انطلقوا بنا إلى بيت عائشة.
فذهبوا إليها وقال: يا عائشة أطعمينا.
فأطعمتهم جشيشة، والجشيشة هي البر الذي لم يطحن بحيث يكون دقيقاً، ثم إنه طبخ وقدم، وهو الذي يسمى في هذا الزمان الجريش، فقدمته لهم.
ثم قال: (يا عائشة أطعمينا.
فأتتهم بحيسة مثل القطاة) يعني: قطعة من الحيس، والحيس هو التمر والأقط والسمن إذا جمع بينها وخلطت، وقد يكون معها سويق؛ لأنه يتكون من الأشياء الثلاثة بدون سويق، وقد يضاف إليه سويق فتكون أجزاؤه أربعة: التمر والأقط والسمن والسويق، والسويق هو البر الذي قلي ثم طحن.
وفي القاموس قال: إن الحيس هو الذي جمع أو ألف من التمر والأقط والسمن، وقال: ربما أضيف إليه السويق.
فمن قال: إنه مكون من ثلاثة فهو كذلك، ومن قال: إنه مكون من أربعة فإنه يكون كذلك، ويضرب المثل بالحيس للشيء الذي حصل اختلاطه وامتزاجه، ومنه قول القائل: واختلط الناس اختلاط الحيس.
يعني: أن هذه الأمور الثلاثة دخل بعضها في بعض وامتزجت.
قوله: [(مثل القطاة)] والقطاة طائر من الطيور يشبه الحمام ولكنه ليس من الحمام؛ لأن الحمام يأتي للبساتين ويأتي للنخل، وأما القطاة فإنها تكون بعيداً في أماكن خالية، ولهذا فإن الذين يصطادونها يعملون له حياضاً ومشارع في الفلاة ويضعون عليها شباكاً، ثم يصيدونها بهذه الوسيلة؛ لأنها تعيش في الفلاة وليست مثل الحمام الذي يعيش مع الناس ويقع على أشجارهم.
فقوله: [(مثل القطاة)] يعني: أنه شيء قليل مثل حجم القطاة؛ لقلته وصغر حجمه.
قوله: [(أسقينا.
فجاءت بعس من لبن)] قيل: إن العس هو القدح الكبير.
قوله: [(ثم قال: يا عائشة أسقينا.
فأتتهم بقدح صغير فشربوا، ثم قال: إن شئتم بتم وإن شئتم انطلقتم إلى المسجد)] يعني: من شاء أن ينام فلينم وإلا فلينطلق.
فانطلقوا، ونام والد يعيش في المسجد، وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم وهو منبطح على بطنه من السحر فحركه برجله وقال: (إنها ضجعة يبغضها الله، قال: فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم) والحديث أورده أبو داود من أجل هذه الجملة التي في آخره، وهي الضجعة التي يبغضها الله.
وقوله: [(من السحر)] قيل: إنه من آخر الليل، وقيل: إنه من السحر الذي هو ما يكون بين الرقبة وبين البطن والذي يقال له سحر، ولهذا جاء عن عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بين سحري ونحري) يعني: بين رقبتها وما فوق بطنها، فإن هذا يقال له: سحر: فقيل: إنه فعل ذلك للعلاج أو لأنه يؤلمه وأراد أن يتكئ به على الأرض.
والحديث فيه اضطراب في اسم يعيش بن طخفة أو قيس بن طخفة وجاء على عدة أوجه، ولكن هذه الجملة الأخيرة جاءت عند ابن ماجة من طريق أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه فهي ثابتة.
وأما ما جاء في أوله من ذكر الطعام والشراب، وكونه طلب منها مرتين أن تطعمهم ثم مرتين أن تسقيهم، فهذا جاء بهذا الإسناد الذي فيه الاضطراب، وأما ما جاء في آخره، فإنه قد جاء عند ابن ماجة من طريقين، وهو مقتصر على هذه الجملة التي هي الضجعة التي يبغضها الله عز وجل.(572/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن هذه ضجعة يبغضها الله)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
محمد بن المثنى أبو موسى العنزي الملقب بـ الزمن وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معاذ بن هشام].
معاذ بن هشام وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبي].
هو هشام بن أبي عبد الله بن الدستوائي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن أبي كثير].
هو يحيى بن أبي كثير اليمامي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يعيش بن طخفة بن قيس الغفاري].
يعيش بن طخفة بن قيس الغفاري قال فيه الحافظ: إنه هو طخفة وإنه يعيش وإنه قيس.
فيكون معناه أنه رجل واحد، ولكن الذي في الرواية أنه يروي عن أبيه؛ ولهذا قالوا: إن فيه اضطراباً؛ لأنه ذكر على أوجه متعددة.
[قال: كان أبي من أصحاب الصفة].
أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والنسائي وابن ماجة.(572/4)
الأسئلة(572/5)
حكم الانبطاح على البطن للعلاج
السؤال
الأطباء ينصحون بوضع الأطفال على بطونهم فهل يخرج غير المكلف؟
الجواب
إذا كان بطن الإنسان منتفخاً وانبطح على بطنه من أجل أن يسهل خروج الريح من ذلك الانتفاخ للعلاج فلا بأس بذلك.
وجاء في الحديث: (إن هذه ضجعة يبغضها الله) فما دام فيها بغض من الله فالإنسان يبتعد عنه، لكن لو أن الإنسان فعل ذلك وهو نائم لا يشعر فهو معذور، حتى الانبطاح حال اليقظة فنفس هذه الهيئة هي التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.(572/6)
حكم من اعتاد النوم على البطن
السؤال
يصعب علي النوم إلا على هذه الحالة فماذا أصنع؟
الجواب
عود نفسك النوم على غير هذه الحالة.(572/7)
حكم النوم على الجهة اليسرى أو على الظهر
السؤال
ما حكم النوم على الجهة اليسرى أو على الظهر مستلقياً؟
الجواب
سبق أن مر بنا عدة أحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام مستلقياً ويضع إحدى رجليه على الأخرى، وفي بعضها النهي عن وضع إحدى الرجلين على الأخرى، وعرفنا فيما مضى أن الجمع بينها أنه إذا لم يكن عليه سراويل أو أنه يترتب على ذلك انكشاف العورة فهذا هو الذي ينطبق عليه ما جاء من النهي، وما جاء من التجويز فهو فيما إذا أمن انكشاف العورة.
وأما بالنسبة للنوم على الجنب الأيسر فقد جاء ما يدل على أن الإنسان ينام على شقه الأيمن كما سيأتي في الأحاديث، وجاء ما يدل على جواز التحول إلى الشق الأيسر، كما سبق أن مر بنا بالنسبة للرؤيا التي تحزن الإنسان، فإن من جملة الآداب فيها أنه يتحول إلى جنبه الآخر، بحيث لو كان على اليمين يتحول على الشمال، وإذا كان على الشمال فيتحول على اليمين.
إذاً: الإنسان يضطجع على شقه الأيمن، لكن إذا احتاج إلى أن يتحول إلى الشق الأيسر لمصلحة أو لفائدة لا بأس بذلك، مثل ما جاء في حديث الرؤيا.(572/8)
صفة الإنكار على من ينام على بطنه
السؤال
هل يؤخذ من الحديث أنه ينكر على من نام على بطنه ولو كان نائماً فإنه يحرك ويؤمر بالتحول؟
الجواب
يرشد إلى السنة وأن هذه ضجعة يبغضها الله، وإذا كان يتأثر من التحريك بالرجل فإنه يحركه باليد.(572/9)
وجه خدمة المرأة للضيوف أخذاً بفعل عائشة
السؤال
هل يؤخذ من الحديث خدمة المرأة للضيوف حيث إن عائشة رضي الله عنها أتت بالطعام؟
الجواب
لا يدل الحديث على ذلك؛ لأنه ليس فيه أنها جاءت وخدمتهم، وإنما يمكن أنها أخرجت لهم هذا الشيء الذي طلبوه، وبعد ذلك أخذوه هم.(572/10)
ما جاء في النوم على سطح غير محجر(572/11)
شرح حديث (من بات على ظهر بيت ليس له حجار فقد برئت منه الذمة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النوم على سطح غير حجار.
حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا سالم -يعني ابن نوح - عن عمر بن جابر الحنفي عن وعلة بن عبد الرحمن بن وثاب عن عبد الرحمن بن علي -يعني ابن شيبان - عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من بات على ظهر بيت ليس له حجار، فقد برئت منه الذمة)].
أورد أبو داود [باب من بات على سطح ليس عليه حجار] وفي بعض النسخ: [ليس بمحجر] يعني: ليس عليه ساتر من الجوانب، وهو يقال له: حجار، ويقال له: حجى، ويقال له: حجاب، وقد جاءت روايات متعددة بهذا اللفظ.
فحجار: معناه أنه يوجد حجر يمنع من السقوط، أو وجود قائم مرتفع يمنع الإنسان من السقوط.
وحجى: قيل: إنه تشبيه بالعقل؛ لأن العقل هو الحجى والعقل يمنع من الوقوع في الأمور التي لا تنبغي، وكذلك الحجى الذي يكون على جوانب السطح يمنع من السقوط والتردي من فوق السطح.
وحجاب: تعني الشيء الساتر الذي يحجب الإنسان عما وراءه.
والمقصود من ذلك هو ألا يكون السطح الذي ينام فيه الإنسان ليس له ساتر من الجوانب؛ لأنه قد يتحرك وينقلب وهو نائم فيسقط من السطح فيلحقه ضرر، أو أنه يكون مستيقظاً ولكنه قد يكون غافلاً لاهياً ويمشي على حافة السطح وليس له شيء يمنعه فيقع، ولكن إذا كان له حجى وصار له ساتر فإنه لو انتقل وهو نائم يرده هذا الفاصل، وإن كان يمشي وهو غافل فإنه يرده ذلك الفاصل، ففي ذلك مصلحة وحيطة من الوقوع فيما يحصل به ضرر على الإنسان، وهو التردي من فوق ذلك المكان العالي.
أورد أبو داود رحمه الله حديث علي بن شيبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بات على ظهر بيت ليس له حجار فقد برئت منه الذمة) يعني: لو أن إنساناً نام على سطح لغيره ليس له حجار، فإن ذلك الشخص لا يكون مسئولاً؛ لأنه هو الذي فرط حيث نام على هذا المكان الذي لا يأمن من ورائه السقوط.
أو أن يكون المقصود أنه غير محفوظ بحفظ الله عز وجل، وأنه إذا لم يأخذ بالأسباب فإنه يكون بذلك قد عرض نفسه لأن يحصل له الشيء الذي لا تحصل به السلامة والحفظ من الله.(572/12)
تراجم رجال إسناد حديث (من بات على ظهر بيت ليس له حجار فقد برئت منه الذمة)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
محمد بن المثنى مر ذكره.
[حدثنا سالم -يعني ابن نوح -] سالم بن نوح هو صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عمر بن جابر الحنفي] عمر بن جابر الحنفي وهو مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود.
[عن وعلة بن عبد الرحمن بن وثاب.
] هو وعلة بن عبد الرحمن بن وثاب الحنفي وهو مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود.
[عن عبد الرحمن بن علي يعني ابن شيبان].
عبد الرحمن بن علي بن شيبان وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود وابن ماجة.
[عن أبيه].
هو علي بن شيبان رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود وابن ماجة.
والحديث فيه مقبولان، ولكن له شواهد تشهد له، فهو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(572/13)
ما جاء في النوم على طهارة(572/14)
شرح حديث (ما من مسلم يبيت على ذكر طاهراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النوم على طهارة.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا عاصم بن بهدلة عن شهر بن حوشب عن أبي ظبية عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من مسلم يبيت على ذكر طاهراً، فيتعار من الليل فيسأل الله خيراً من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه)].
أورد أبو داود [باباً في النوم على طهارة] يعني: أن الإنسان يكون على وضوء عندما ينام، وهي هيئة كاملة وهيئة مفضلة.
أورد أبو داود حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يبيت على ذكر طاهراً) يعني: أنه يذكر الله عز وجل عند النوم وعند البيات، ويكون طاهراً، وهذا محل الشاهد أنه يكون على وضوء.
قوله: [(فيتعار من الليل)] يعني: يستيقظ وينتبه من نومه.
قوله: [(فيسأل الله خيراً من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه)] والمقصود من الحديث أن الإنسان ينام على طهارة وأن هذا أمر مستحب.(572/15)
تراجم رجال إسناد حديث (ما من مسلم يبيت على ذكر طاهراً)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة بن دينار ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا عاصم بن بهدلة].
هو عاصم بن بهدلة بن أبي النجود وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وروايته في الصحيحين مقرونة.
[عن شهر بن حوشب].
شهر بن حوشب وهو صدوق كثير الإرسال والأوهام، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي ظبية].
هو أبو ظبية الكلاعي قال عنه الحافظ في التقريب: مقبول، وقد سبق أن مر ذكره قريباً عند ذكر الحديث الذي فيه: المرأة التي وعدت ولدها قالت: تعال أعطيك، وذكرت أن في ترجمته في تهذيب التهذيب أن ابن معين نُقِلَ عنه نقلان في توثيقه وأنه قال عنه: ثقة، وأن بعض العلماء أثنوا عليه ولم يذكر أحد فيه شيئاً من الجرح، والمنذري وثقه كما في عون المعبود ولا أدري هل ذكره في الحاشية أو لا، فالحاصل أن قول الحافظ فيه: مقبول ليس بمستقيم؛ لأن المقبول هو الذي لا يحتج بحديثه إلا إذا اعتضد، وهذا قد وثق ولم يقدح فيه أحد بقادح، بل أثني عليه ثناء عظيماً، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن معاذ بن جبل].
معاذ بن جبل رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ثابت البناني: قدم علينا أبو ظبية فحدثنا بهذا الحديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم].
ذكر المصنف رحمه الله عن ثابت البناني وهو يروي عن أبي ظبية وهناك روى عن أبي ظبية شهر بن حوشب وفيه كلام، ولكن رواية ثابت هذه تزيل الإشكال الذي في رواية شهر بن حوشب، وثابت البناني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(572/16)
معنى قوله (لقد جهدت أن أقولها حين أنبعث فما قدرت عليها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ثابت: قال فلان: لقد جهدت أن أقولها حين أنبعث فما قدرت عليها].
يعني أن ثابتاً لم يسم القائل؛ لأن هذا وصف غير محمود، وقد يكون المقصود من ذلك أنه جهد وحرص على أن يقولها إذا قام من النوم، ولكنه يحصل له نسيان عند الاستيقاظ ويذهل عن ذلك الشيء الذي كان عازماً عليه من قبل.
وهذا الذكر هو أن يسأل الله خيراً من الدنيا والآخرة، فيفهم من هذا أن الرجل كان حريصاً على أن يأتي بهذه المسألة بعد أن يستيقظ من النوم، ولكنه إذا استيقظ ينسى، وليس معنى ذلك أنه يكون متنبها ويعجز أن يسأل الله أو أنه يحال بينه وبين ذلك.(572/17)
شرح حديث (أن رسول الله قام من الليل فقضى حاجته فغسل وجهه ويديه ثم نام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام من الليل فقضى حاجته فغسل وجهه ويديه ثم نام).
قال أبو داود: يعني بال].
أورد أبو داود حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الليل فقضى حاجته ثم غسل وجهه ويديه ثم نام.
يعني أنه بال وغسل وجهه ويديه فنام على طهارة، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام على طهارة؛ لأنه بعد ما قام وبال حصل منه أن غسل وجهه ويديه، ومعنى ذلك أن هذا شيء من الطهارة أو شيء من النظافة، وإن كان الحديث فيه اختصار فيكون معناه أنه حصل منه الحد الأدنى من الطهارة الذي هو غسل وجهه ويديه.
والإنسان يتوضأ وينام، فإذا حصل منه قضاء الحاجة ونقض الوضوء بهذا الفعل الذي حصل، فإنه يستعمل الماء في بعض الطهارة الذي هو غسل الوجه واليدين وليس كامل الطهارة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.(572/18)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله قام من الليل فقضى حاجته فغسل وجهه ويديه ثم نام)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا وكيع].
وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وإذا جاء وكيع يروي عن سفيان غير منسوب فالمراد به الثوري.
[عن سلمة بن كهيل].
سلمة بن كهيل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن كريب].
هو كريب مولى ابن عباس وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(572/19)
الأسئلة(572/20)
حكم الوضوء أو التيمم قبل النوم للحائض والجنب
السؤال
هل يستحب للحائض والجنب الوضوء أو التيمم قبل النوم؟
الجواب
كما هو معلوم الحائض لا تحصل لها الطهارة مع وجود الحيض، ولو توضأت لم يرتفع الحدث بل الحدث قائم وهو الحدث الأكبر، والجنب كذلك لا يرتفع حدثه بالتيمم إلا إذا كان الماء غير موجود، ولكنه جاء في بعض الأحاديث أن الإنسان يتوضأ وهو جنب ثم ينام، وهذا فيه تخفيف الجنابة.(572/21)
المراد بالنوم على طهارة
السؤال
هل المراد بالنوم على طهارة نوم الليل أم يدخل فيه القيلولة ونوم النهار؟
الجواب
إذا كان ذلك في جميع الأحوال فلا شك أنه أولى، لكن الذي يظهر أن الغالب في الأحكام التي تذكر أنها لنوم الليل؛ لأن فيها ذكر البيتوتة، والبيتوتة إنما تكون في الليل لا في النهار.
أما من أراد أن يغفو أو يمتد فلا يفعل ذلك؛ لأن الإنسان قد يسترخي استرخاء وإن لم يحصل منه نوم وقد ينعس.(572/22)
كيفية التوجه في النوم(572/23)
شرح حديث (كان فراش النبي نحواً مما يوضع الإنسان في قبره)
قال المصنف رحمه الله تعالى [باب كيف يتوجه.
حدثنا مسدد حدثنا حماد عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن بعض آل أم سلمة: (كان فراش النبي صلى الله عليه وسلم نحواً مما يوضع الإنسان في قبره، وكان المسجد عند رأسه)].
أورد أبو داود [باب كيف يتوجه] يعني: كيف يتوجه الإنسان في نومه.
والمقصود من الترجمة أنه يتوجه إلى القبلة، وذلك بأن ينام على جنبه الأيمن ووجهه متجه إلى القبلة كهيئته عندما يوضع في قبره؛ لأنه يوضع على جنبه الأيمن موجهاً إلى القبلة.
وأورد أبو داود هذا الحديث عن بعض آل أم سلمة ولا تعرف الصحبة لذلك الذي هو من آل أم سلمة والحديث غير صحيح.
وقد جاء فيه أن فراش النبي صلى الله عليه وسلم عندما ينام يكون رأسه إلى جهة المسجد على شقه الأيمن، ومعنى ذلك أن رجليه تكونان إلى جهة الجدار الخارجي الذي من جهة الشرق، ورأسه إلى جهة المسجد الذي هو من جهة غرب الحجرة؛ لأن الحجرة في شرقي المسجد ولها باب إلى المسجد وباب إلى الخارج، فهو عندما ينام في حجرته يكون رأسه إلى جهة المسجد ورجلاه إلى جهة الجدار الذي في المشرق وهو متجه إلى القبلة، وهذه هي الهيئة التي يكون الإنسان عليها عندما يوضع في قبره، حيث يوضع على جنبه الأيمن موجهاً إلى القبلة.
والحديث يدل على استحباب النوم إلى القبلة، لكن الحديث غير ثابت.(572/24)
تراجم رجال إسناد حديث (كان فراش النبي نحواً مما يوضع الإنسان في قبره)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد الحذاء].
هو خالد بن مهران الحذاء وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قلابة].
هو عبد الله بن زيد الجرمي وهو ثقة عنده تدليس وإرسال، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن بعض آل أم سلمة].
بعض آل أم سلمة لا يعرف هل هو صحابي، وفيه هذا الإبهام لبعض آل أم سلمة، وفيه أيضاً رواية أبي قلابة وهو يدلس ويرسل.
ولا أعلم له شواهد والألباني ضعفه.(572/25)
شرح سنن أبي داود [573]
وردت كثير من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين لنا آداباً وسنناً وأذكاراً تكون عند النوم، وذلك أن النوم أخو الموت، فقد ينام المرء فتقبض روحه في المنام فيكون قد مات على طهارة وعلى ذكر لله عز وجل.(573/1)
ما يقال عند النوم(573/2)
شرح حديث (اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يقول عند النوم.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا عاصم عن معبد بن خالد عن سواء عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد أن يرقد وضع يده اليمنى تحت خده، ثم يقول: اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك.
ثلاث مرار)].
أورد أبو داود [باب ما يقول عند النوم] يعني: الذكر الذي يقوله المرء عند النوم.
أورد أبو داود جملة من الأحاديث في هذا الباب، وأولها حديث حفصة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يرقد وضع يده اليمنى تحت خده، وقال: اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك) قالها ثلاثاً، والحديث صححه الألباني بدون ذكر الثلاث، وإنما يقولها مرة واحدة وليس فيه ذكر التكرار.
وفيه: أنه ينام على شقه الأيمن، وهنا ذكر أن يده اليمنى تكون تحت خده، ومعنى ذلك أن اليمنى تحت خده الأيمن؛ لأن اليد اليمنى هي أقرب شيء إلى خده الأيمن، وقد جاء ذلك صريحاً بأنه كان ينام على شقه الأيمن وكان يضع يده تحت خده.(573/3)
تراجم رجال إسناد حديث (اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل مر ذكره.
[حدثنا أبان].
أبان بن يزيد العطار وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا عاصم].
عاصم بن بهدلة مر ذكره.
ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمته في مقدمة الفتح أن الجرح أو الكلام إذا كان لم يثبت فإنه لا يعول عليه وذلك بحسب الإسناد؛ لأنه ذكر في ترجمته في مقدمة الفتح أن من العلماء من تكلم فيه، ولكن جاء هذا الكلام بإسناد فيه من هو ضعيف، فقال: لا يعول عليه.
[عن معبد بن خالد].
معبد بن خالد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سواء].
سواء وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن حفصة].
حفصة بنت عمر بن الخطاب أم المؤمنين رضي الله عنها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث صححه الألباني بدون ذكر الثلاث وهنا فيه المقبول، ولكن له شواهد دون ذكر الثلاث.(573/4)
شرح حديث البراء (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا المعتمر سمعت منصوراً يحدث عن سعد بن عبيدة قال: حدثني البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك، رهبة ورغبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت، قال: فإن مت مت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تقول، قال البراء: فقلت: أستذكرهن، فقلت: وبرسولك الذي أرسلت، قال: لا، وبنبيك الذين أرسلت)].
أورد أبو داود حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن) وهذا دليل واضح على أن الإنسان يضطجع على شقه الأيمن عند نومه، وأن يكون على وضوء، حيث أمره بأن يتوضأ الوضوء الذي هو للصلاة.
قوله: [(اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رهبة ورغبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت، قال البراء: فقلت: أستذكرهن)] يعني: أعاد الكلام والنبي صلى الله عليه وسلم يسمعه يريد أن يتأكد من حفظه وأتى بقوله: (وبرسولك الذي أرسلت) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، وبنبيك الذين أرسلت).
قوله: [(فإن مت مت على الفطرة واجعلهن آخر ما تقول)] أي: أن هذا آخر ذكر يقال عند النوم.
قوله في أول الحديث: [(اللهم أسلمت وجهي إليك)] يعني: استسلمت لأمرك ونهيك، وانقدت لما جاء به شرعك، فأصدق الأخبار وأنفذ الأوامر وأجتنب النواهي.
قوله: [(وفوضت أمري إليك)] يعني: أني اعتمدت عليك وتوكلت عليك.
قوله: [(وألجأت ظهري إليك)] يعني: اعتمدت عليك واستندت إليك وليس إلى غيرك.
قوله: [(رهبة ورغبة إليك)] يعني: رغبة فيما عندك من خير، ورهبة مما عندك من العقوبة.
قوله: [(لا ملجأ ولا منجى إلا إليك) أي: لا مفر من الله إلا إليه، وأن الإنسان لا يسلم مما هو ضار إلا بالتعويل على الله عز وجل الذي منه الضر والنفع، والذي هو خالق كل شيء وبيده كل شيء سبحانه وتعالى، وهذا كما جاء في الحديث: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك).
ثم إن البراء رضي الله عنه قال: (فقلت: أستذكرهن) يريد أن يحفظها وأن يتأكد من حفظه لها والنبي صلى الله عليه وسلم يسمعه وكان أن عبر بقوله: (وبرسولك الذي أرسلت) بدل: (وبنبيك الذي أرسلت) قال: (لا، وبنبيك الذي أرسلت) والمعنى واحد، ولكن من أحسن ما قيل في معناه ما قاله الحافظ ابن حجر: إن الأذكار يتمسك بها ولا يبدل لفظ منها بآخر، وإنما يحافظ على ألفاظها ويتمسك بها ولا يعدل عنها إلى ألفاظ أخرى، وإلا فإن إرسال النبي وإرسال الرسول جاء في القرآن، قال تعالى: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ} [الزخرف:6]، وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم:4].(573/5)
تراجم رجال إسناد حديث البراء (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة)
قوله: [حدثنا مسدد عن المعتمر].
مسدد مر ذكره.
والمعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت منصوراً].
هو منصور بن المعتمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعد بن عبيدة].
سعد بن عبيدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني البراء بن عازب].
البراء بن عازب وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وإذا كان الإنسان على طهارة قبل النوم فلا يحتاج إلى وضوء؛ لأن المقصود أن يكون على وضوء.(573/6)
معنى قوله (واجعلهن آخر ما تقول)
قوله: [(واجعلهن آخر ما تقول)] فلو حصل طارئ وتكلم الإنسان بعد أدائه لهذا الذكر فليس عليه إعادته؛ لأن الإنسان قد يتكرر منه ذلك، ولكن المقصود منه عندما يأتي بأذكار النوم فليكن هذا الذكر آخر ما يقوله.(573/7)
ذكر مناسبة أمر النبي بالوضوء عند النوم
أما مناسبة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء عند النوم مع أن النوم ناقض للوضوء، فلا شك أن هذا من الصفة المحمودة، وليس معنى ذلك أنه سيستمر على طهارة، ولكن كونه ينام وهو على هيئة حسنة وعلى هيئة طيبة، هذا هو الذي ينبغي.(573/8)
شرح حديث البراء (إذا أويت إلى فراشك) من طريق ثانية وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن فطر بن خليفة قال: سمعت سعد بن عبيدة قال: سمعت البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أويت إلى فراشك وأنت طاهر فتوسد يمينك) ثم ذكره نحوه].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه ذكر توسد اليمين، والذي قبله فيه ذكر النوم على الشق الأيمن.
يعني: هذا الحديث يدل على أنه يتوسد يمينه، والحديث السابق يدل على أنه ينام على شقه الأيمن، فيجمع الإنسان بينهما.
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن فطر بن خليفة].
فطر بن خليفة صدوق، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[قال: سمعت سعد بن عبيدة قال: سمعت البراء بن عازب].
وقد مر ذكرهما.(573/9)
طريق ثالثة لحديث البراء في التطهر قبل النوم وترجمة رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبد الملك الغزال حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن الأعمش ومنصور عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا.
قال سفيان: قال أحدهما: (إذا أتيت فراشك طاهراً)، وقال الآخر: (توضأ وضوءك للصلاة)، وساق معنى معتمر].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه مثل الذي قبله مع بيان اختلاف الراويين اللذين اشتركا في روايته، وأن أحدهما عبر بأنه إذا أتى فراشه يتوضأ، والثاني عبر بأنه ينام وهو طاهر؛ فالمعنى واحد واللفظ مختلف.
قوله: [حدثنا محمد بن عبد الملك الغزال].
محمد بن عبد الملك الغزال وهو ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن يوسف].
هو محمد بن يوسف الفريابي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان الثوري.
[عن الأعمش ومنصور].
الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ومنصور: هو ابن المعتمر الذي مر ذكره.
[عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب].
وقد مر ذكرهما.(573/10)
شرح حديث (كان النبي إذا نام قال: اللهم باسمك أحيا وأموت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن حذيفة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا نام قال: اللهم باسمك أحيا وأموت، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)].
أورد أبو داود حديث حذيفة رضي الله عنه في الذكر عند النوم وبعد القيام من النوم قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام قال: اللهم باسمك أحيا وأموت، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور).
يعني: عندما ينام يقول هذا اللفظ؛ لأنه يحيا بقدرة الله ويموت بقدرة الله وبمشيئة الله وإرادته، والإنسان في نومه قد يعود إلى الحياة بعد أن تأخذه هذه الموتة الصغرى التي هي النوم، وقد يفارق الحياة كما جاء في القرآن: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر:42] يعني: يتوفاها.
((وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)) يعني: التي لم يقض عليها الموت في هذه النومة فإنها تعود إلى الحياة.
فالإنسان يعتمد على الله ويجعل كل شيء بيد الله عز وجل، ويعظم الله عز وجل ويعلم بأن كل شيء بقدرته ومشيئته وإرادته، وهو المحيي والمميت، والإنسان يعلم أنه بنومه قد يحيا بعد هذه النومة وقد يموت.
قوله: [(وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)] وهذا فيه أن النوم يطلق عليه الموت، كما في الآية التي ذكرتها: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا)) يعني: والتي لم يتوفها الله في منامها.
{فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42]، وهي التي حصلت لها الحياة يرسلها إلى الأجل الذي يأتي فيه الموت.
وقد جاء في الحديث: (النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون).
قوله: [(وإليه النشور)] أي: أن الناس يبعثون من قبورهم، ويكونون في المكان وهو الصعيد الذي يأتي الله عز وجل لفصل القضاء بينهم فيحاسبهم، ويذهبون إلى منازلهم من الجنة أو النار.(573/11)
تراجم رجال إسناد حديث (كان النبي إذا نام قال: اللهم باسمك أحيا وأموت)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
أبو بكر بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح مر ذكره.
[عن سفيان عن عبد الملك بن عمير].
سفيان مرّ ذكره، وعبد الملك بن عمير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ربعي].
هو ربعي بن حراش وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حذيفة].
هو حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ويمكن للإنسان أن يجمع بين هذه الأذكار عند نومه، لكن كون الإنسان يذكر بعضها لا بأس بذلك؛ وهذه الأذكار في الغالب تكون في النوم الذي يكون بالليل.(573/12)
شرح حديث (إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا عبيد الله بن عمر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره؛ فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليضطجع على شقه الأيمن ثم ليقل: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره) يعني: الإنسان يكون عليه إزار، وينفض فراشه بداخلة الإزار مما يلي جسده.
وقيل: إن الحكمة في ذلك أنه قد يكون عليه شيء من وسخ أو هوام، أو شيء من ذلك.
قوله: [(فإنه لا يدري ما خلفه عليه)].
يعني: بعد أن تركه وقبل أن يرجع إليه لا يدري أي شيء خلفه، ومن المعلوم أن هذا يتعلق بهوام أو بغبار أو وسخ وما إلى ذلك.
فعلى الإنسان أن ينفض فراشه سواء كان فيه شيء أو لم يكن فيه شيء.
وأما بالنسبة للجن فإن التسمية والتعوذ بالله يطردان الجن، وإنما المقصود من ذلك أن يكون هناك غبار أو هوام أو وسخ أو شيء من ذلك.
قوله: [(ثم ليضطجع على شقه الأيمن)].
وهذا مثل الذي مرّ في حديث البراء: (ثم ليضطجع على شقه الأيمن)، وقد جاء في الروايات الأخرى أنه يجعل يده تحت خده.
قوله: [(ثم ليقل: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه)].
يعني: وضعت جنبي في النوم، ورفعته بعد النوم، كل ذلك بمشيئة الله وإرادته، مثل قوله: (بك أحيا وبك أموت).
قوله: [(إن أمسكت نفسي فارحمها)].
يعني: إن أنت قبضتها في هذه النومة وخرجت من الدنيا بالموت في حال النوم فارحمني برحمتك.
قوله: [(وإن أرسلتها فاحفظها)] يعني: لم يحصل لها الموت، بل عادت وحصلت لها الحياة، وحصل لها الانتباه من النوم، فالمطلوب أن يحفظها بما يحفظ به عباده الصالحين، وذلك بالاستقامة على أمر الله وطاعة الله وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، حتى يموت الإنسان وهو على حالة طيبة.(573/13)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
هو أحمد بن عبد الله بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبيد الله بن عمر].
عبيد الله بن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن أبي سعيد المقبري].
سعيد بن أبي سعيد المقبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
وهو كذلك ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة رضي الله عنه، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(573/14)
شرح حديث (أن النبي كان يقول إذا أوى إلى فراشه: اللهم رب السماوات)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب ح وحدثنا وهب بن بقية عن خالد نحوه عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أنه كان يقول إذا أوى إلى فراشه: اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب كل شيء فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، زاد وهب في حديثه: اقض عني الدين وأغنني من الفقر)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (كان إذا أوى إلى فراشه قال: اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن) هذا تمهيد وتوسل إلى الله عز وجل بصفاته وأفعاله؛ ومن الأمور المطلوبة في الدعاء أن الإنسان عندما يدعو يتوسل إلى الله عز وجل بأسمائه وصفاته، أو بتقديم حمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا من أسباب قبول الدعاء.
قوله: [(اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب كل شيء)] فكل هذا ثناء على الله عز وجل، فهو رب السماوات ورب الأرضين، ورب كل شيء، وهذا عام؛ لأنه يشمل السماوات والأرض، ويشمل غيرهما.
قوله: [(ورب كل شيء)] أي: رب السماوات والأرضين ومن في السماوات ومن في الأرضين من المخلوقات، فكلها أشياء، فهو ثناء على الله عز وجل وتعظيم له سبحانه وتعالى.
قوله: [(فالق الحب والنوى)] يعني: يفلق الحب لإخراج النبات منه، كما ينثر الحب عند الزرع في الأرض ثم تحرث الأرض ويسقى بالماء، فتنفتح الحبة وتنفلق ويظهر منها الزرع، وكذلك النوى عندما يكون في الأرض ويسقى بالماء فإن تلك النواة تنشق ويظهر منها أصل النخلة وتنشأ حتى تكون نخلة كاملة.
والحب هو ما يتعلق بالزرع، والنوى هو ما يتعلق بالنخل، والله عز وجل هو الذي أوجد هذا، وهو الذي بيده كل شيء سبحانه وتعالى، فلو شاء أن الحبة أو النواة لا تنفلق لم يحصل الانفلاق، وإذا شاء أن يحصل انفلاقها ويحصل نبات الزرع وخروج النخل من تلك النواة فعل ذلك؛ لأن كل شيء بيده ومشيئته، فإن شاء أن تحصل النتائج من وراء هذا السقي والزرع ظهرت، وإن شاء ألا تحصل الفوائد والنتائج حصل ما أراده الله وقضاه.
قوله: [(منزل التوراة والإنجيل والقرآن)] وهذه الثلاثة الكتب: التوراة المنزل على موسى، والإنجيل المنزل على عيسى، والقرآن المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وخصت هذه الكتب الثلاثة من بين الكتب المتقدمة؛ لأنها أشهرها وأهمها وأعظمها، وهي التي يأتي ذكرها كثيراً في القرآن، ولم يذكر القرآن كتباً أخرى سوى التوراة والإنجيل إلا صحف إبراهيم وموسى وإلا زبور داود عليه الصلاة والسلام، فصحف إبراهيم وموسى جاءت في موضعين: في سورة النجم، وفي سورة الأعلى، وزبور داود جاء في موضعين: في سورة النساء وفي سورة الإسراء، وأما التوراة فجاءت في مواضع كثيرة بلفظ الكتاب وبلفظ التوراة، وكتاب عيسى عليه الصلاة والسلام جاء بلفظ الإنجيل كثيراً في القرآن، والقرآن هو خير الكتب وأفضلها وخاتمها.
قوله: [(أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته)].
يعني: جاء المطلوب الذي مهد له بهذا التمهيد؛ لأن ما تقدم هو ثناء على الله عز وجل وتعظيم للوصول إلى ما يريده وما يطلبه من الله، وهو الاستعاذة بالله من كل ما فيه شر، فالله عز وجل هو آخذ بناصية كل مخلوق، وهو الذي بيده أمره وبيده التصرف فيه، وهو الذي يجعله يضر ويجعله لا يضر، ومن أعظم الوقاية من الضرر سؤال الله عز وجل ودعاؤه.
قوله: [(أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)، وهذه أسماء أربعة من أسماء الله عز وجل قد جاءت في هذا الحديث، وقد جاءت في أول سورة الحديد.
وفيه أيضاً توضيحها وبيانها؛ لأنه قال: (أنت الأول فليس قبلك شيء)، فهو أول ليس قبله شيء، وكل شيء تابع له، وكل شيء عقبه، والأولية المطلقة إنما هي لله عز وجل، وكل من سوى الله كان عدماً فأوجده وخلقه بعد أن لم يكن، والله عز وجل هو الذي كان بلا بداية، وهو الذي يدوم بلا نهاية سبحانه وتعالى؛ ولهذا ذكر هذين الاسمين المتقابلين: الأول الذي ليس قبله شيء، ويقابله الآخر الذي ليس بعده شيء، وأنه الباقي الذي يدوم وغيره لا يدوم، وإن حصلت إدامة فإنما هي من الله عز وجل كما يكون في الجنة والنار وأهليهما، فإنه ليس لهما إلا العدم؛ ولكن الله عز وجل هو الذي شاء أن يحصل بقاؤهما، وأن يحصل استمرارهما، فبقاء الله عز وجل لازم لذاته، وأما بقاء الجنة والنار فهو مكتسب، والله تعالى هو الذي أكسبهما ذلك، ولو شاء أن ينهيهما لفعل سبحانه وتعالى.
قوله: [(وأنت الظاهر فليس فوقك شيء)] يعني: أن الله عز وجل ليس فوقه شيء؛ لأنه عالٍ على كل شيء، فله علو القدر وعلو القهر وعلو الذات، فهو عال فوق كل شيء قاهر له، وهو فوق كل شيء في المنزلة والنفوس، فلا يكون أحد مقدم عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله) ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم تابعة لمحبة الله، وإنما يُحَب غير الله وفقاً لما جاء عن الله، فيكون التفاضل بين الخلق بالمحبة لله والفضل، وكل ذلك راجع إلى ما جاء عن الله عز وجل من بيان التفاضل، ومن يكون أفضل ومن يكون أعظم محبة، وأن محبة الله عز وجل مقدمة على كل شيء، وكل شيء محبوب فإنما هو تابع لمحبته، سواء كان ذلك المحبوب أشخاصاً أو أفعالاً، فإنها تُحب من أجل أن الله تعالى شرعها ورغب فيها، ومن كانت له مكانة وله فضل فيحب لفضله ولتفضيل الله عز وجل إياه.
قوله: [(وأنت الباطن فليس دونك شيء)] يعني: أن الله عز وجل مطلع على كل شيء، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ولكن ليس معنى ذلك أنه يكون حالاً في المخلوقات وأن المخلوقات تحويه، فالله أعلى وأجل من أن يحويه شيء مخلوق، بل هو مباين للمخلوقات؛ ولكن مع كونه عالياً على المخلوقات فإنه مطلع على كل شيء ولا يخفى عليه شيء ولا يحجب عنه شيء سبحانه وتعالى، بل كل شيء أمامه وتحت قهره ونظره وسمعه، لا يخفى عليه دبيب النمل في الظلام وعلى الصخور الصماء، ولا يخفى عليه دقيق ولا جليل، بل هو مطلع على كل شيء، وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم السر وما كان أخفى من ذلك.
زاد أحد الشيخين لـ أبي داود وهو وهب بن بقية الواسطي: [(اقض عني الدين وأغنني من الفقر)] يعني: أن الإنسان يدعو ربه أن يسلم من الدين، وأن يحصل له الغنى من الفقر، فيكون غنياً وإن لم يكن عنده غنى اليد، ولكن غنى النفس، وإذا كان غنى النفس موجوداً، فإن هذا هو الغنى الحقيقي، وإذا كانت النفس ليست غنية فلو كانت اليد مليئة فإنها تكون فقيرة، وتراها تبحث وتهتم وتشتغل بتحصيل على مزيد.(573/15)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي كان يقول إذا أوى إلى فراشه: اللهم رب السماوات)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا وهيب].
هو وهيب بن خالد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا وهب بن بقية].
(ح) يتحول من إسناد إلى إسناد، ووهب بن بقية الواسطي ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن خالد].
هو خالد بن عبد الله الطحان الواسطي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهيل].
هو سهيل بن أبي صالح وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وروايته في البخاري مقرونة.
[عن أبيه].
هو ذكوان السمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة] هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق.(573/16)
حكم دعاء الله باسمه الأول والآخر مع الإفراد وإثبات صفة (فالق) لله
قوله: [(فالق الحب)].
هذا لا يأتي إلا مضافاً، فهو من صفات أفعاله سبحانه وليس من أسمائه.
أما كون الإنسان يدعو الله بهذه الأسماء بأن يقول: يا أول ويا آخر دون تقييد فالأولى أن يأتي بها الإنسان على الهيئة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي فيها ثناء عليه وتعظيم له: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء) وذلك لأن الإتيان بها كذلك أكمل.(573/17)
عدم التلازم بين اسم الأول والآخر في الذكر
أما عن التلازم بين اسم الأول والآخر بحيث لا يذكر أحدهما إلا بالآخر؛ وكذلك اسم الظاهر والباطن فليس بلازم؛ لأنه يمكن أن يسمى شخص: عبد الأول، ويسمى آخر: عبد الآخر، ولا يقال: عبد الأول والآخر، أو عبد الأول الآخر، بل يؤتى بهذا على حدة، وهذا على حدة، وليسا مثل: النافع والضار، فهذه لا يخاطب الإنسان بها ربه ويقول له: يا ضار، وإنما يصف الله بأنه النافع الضار.(573/18)
حكم الرضاء بالفقر وعدم سؤال الله الغنى
أما بالنسبة لمن يقول: هل الأفضل الرضا بالقضاء والرضا بالفقر لمن يقدر على الصبر عليه، أم الأفضل سؤال الله الغنى مطلقاً، أم الأمر فيه تفصيل؟ فأقول: الإنسان يسأل الله عز وجل مثل ما جاء في الحديث أنه لا يكون فقيراً؛ لأن الفقر يجعله يحتاج إلى غيره، ويجعله ينشغل، ولكن كونه يصير عنده الكفاف الذي ليس فيه غنى يطغيه، ولا فقر يشغله، وإنما يكون كفافاً مثل ما كان يعيش المصطفى صلى الله عليه وسلم.
والغنى إذا طرأ على الإنسان وأنفق في سبيل الله فهذا ثوابه عظيم عند الله عز وجل؛ ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فيهم أثرياء؛ ولكن كانوا يبذلون في سبيل الله، ويحصلون ما يحصلون؛ ولهذا جاء فقراء المهاجرين وقالوا: (ذهب أهل الدثور بالأجور والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم) فالمال إذا وجد وصرف في طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، فأجره عظيم عند الله عز وجل؛ ولكن كونه يصير بيد الإنسان ويشغله عن الخير ويمسك عليه، فهذا فيه ضرر عليه، وفي نفس الوقت تعب له ونصب؛ لأنه دائماً مشغول به، تراه يحرص على أن يضيف إليه، وقد جاء في الحديث الصحيح: (لو يعطى ابن آدم وادياً من ذهب لطلب ثانياً، ولو أعطي ثانياً لطلب ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب).(573/19)
شرح حديث (أنه كان يقول عند مضجعه: اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا العباس بن عبد العظيم العنبري حدثنا الأحوص -يعني ابن جواب -حدثنا عمار بن رزيق عن أبي إسحاق عن الحارث وأبي ميسرة عن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه كان يقول عند مضجعه: اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامة، من شر ما أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت تكشف المغرم والمأثم، اللهم لا يهزم جندك، ولا يخلف وعدك، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك وبحمدك)].
أورد أبو داود حديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، الذي يقول فيه: (كان يقول صلى الله عليه وسلم عند مضجعه: اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم).
يعني: كان يقول عند اضطجاعه وعند نومه: (اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم) وهذا فيه إثبات صفة الوجه لله سبحانه وتعالى.
وتأتي صفة الوجه في القرآن والحديث ويراد بها تلك الصفة، لكن لا يقال: إنها دائماً يراد بها نفس الصفة دون الموصوف، فإنه يراد بها الصفة والموصوف؛ ولكنه لا يقال: إن هذا عبارة عن الذات وليس لله صفة وجه، بل لله ذات متصفة بالصفات ومنها صفة الوجه، فإذا ذُكرت الصفة وذكرت الذات فلا بأس بذلك.
وأما أن تفسر الصفة بالذات، فهذا نفي للصفة، وهذا غير سائغ؛ لأن الذين يؤولون الصفات، يقولون: إنه يراد بالوجه الذات، ولا يثبتون لله وجهاً، وإنما يقولون: إنما عبر بالوجه عن الذات وإلا فليس لله وجه، لكن نقول: بل النصوص جاءت بذكر الوجه وأنه من صفات الله عز وجل.
وقول الله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] يعني: أن البقاء للذات والصفات ومنها الوجه، ولا يقال: إن البقاء للذات وأنه ليس لله صفة وجه، كما يقول بعض المفسرين في قوله تعالى: ((وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ)) أي: ذاته، فهذا يتأول ولا يثبت صفة الوجه، فهذه طريقة أهل التأويل وأهل التعطيل الذين لا يثبتون الصفات بل يتأولونها ويصرفونها عما تدل عليه إلى أمور أخرى مقتضاها عدم إثبات الصفة؛ لأنه كما يقولون: هذا مجاز، والمجاز يصح نفيه، فمعنى ذلك أنه ليس لله وجه على قولهم.
وأما إذا أثبت الوجه، وأثبتت الذات المتصفة التي من صفاتها الوجه، فكل ذلك حق، فقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] يعني: ويبقى الله عز وجل بذاته وصفاته ومنها صفة الوجه وليس معنى ذلك أن البقاء للوجه وحده الذي هو الصفة دون الموصوف، بل للذات المتصفة بالصفات، ومنها صفة الوجه لله عز وجل.
قوله: [(وكلماتك التامة)] الكلمات يمكن أن تكون كلمات كونية، وأن تكون كلمات شرعية، والكلمات الكونية هي القضاء والقدر، الذي قدر الله عزّ وجل بأن هذه كلمات كونية، والكلمات الشرعية هي القرآن.
فكلمات الله تعالى الكونية تامة لا يتخلف شيء منها، وكلماته الشرعية تامة أيضاً، كما قال الله عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي، فأخبارها صادقة وأحكامها عادلة.
وهناك من الكلمات ما تأتي لمعنى كوني ولمعنى شرعي، منها: القضاء، ومنها: الأمر، ومنها: الكتابة، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه (شفاء العليل) فصلاً خاصاً فيها، وذكر جملة منها وأدلة كل واحدة منها، سواء كانت كونية أو شرعية دينية.
وقوله عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} [هود:119] يعني: الذي هو القضاء والقدر؛ لأن (كلمة) هنا بمعنى القضاء والقدر، فتأتي الكلمة بمعنى كوني، وتأتي بمعنى شرعي ديني.
قوله: [(ومن شر ما أنت آخذ بناصيته)].
يعني: كل شيء الله آخذ بناصيته، وكل شيء تحت قبضة الله عز وجل وتصرفه.
قوله: [(اللهم أنت تكشف المغرم والمأثم)].
المغرم: هو الغُرم، ومنه الدَيْن؛ وذلك بالتخليص منه والسلامة منه والإغناء حتى يتخلص الإنسان منه.
والمأثم هو ما يحصل به الإثم، فهو يدعو الله تعالى أن يكشفه ويزيله، وهو الذي يعفو عن السيئات، وهو الذي يسلم من أسباب الآثام.
قوله: [(اللهم لا يهزم جندك ولا يخلف وعدك)].
يعني: جندك هم الغالبون لا يهزمون، ووعدك نافذ لا يحصل له خلف.
قوله: [(ولا ينفع ذا الجد منك الجد)].
يعني: لا ينفع صاحب الحظ حظه عندك وإنما ينفعه عمله الصالح؛ لأن الحظوظ الدنيوية سواء كانت مالاً أو جاهاً أو غير ذلك لا تنفع عند الله عز وجل إلا إذا كان معها إيمان وتقوى واستقامة على طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والجد هنا في الموضعين معناه الحظ والنصيب، فالجد هو فاعل ينفع، يعني: لا ينفع الجد صاحب الحظ، فهو قدم المفعول فيه على الفاعل، أي ولا ينفع صاحب الحظ حظه عندك.
وذُكر أن (من) بمعنى بدل، يعني: ولا ينفع صاحب الحظ حظه بدلاً منك، يعني: بدلاً من طاعتك، بل الطاعة هي التي تنفع و (من) تأتي بمعنى البدل في بعض المواضع كما في قول الله عز وجل: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} [التوبة:38] يعني: بدل الآخرة.
وقوله: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42] أي: من الذي يكلؤكم غير الرحمن أو بدل الرحمن؟! والجد يأتي بمعنى الجد الذي هو أبُ الأب وأبُ الأم، ويأتي بمعنى الحظ والنصيب، ويأتي بمعنى العظمة، كما قال الله عز وجل: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن:3] يعني: تعالت عظمته وجلاله؛ وكذلك في دعاء الاستفتاح: (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك) فهي هنا بمعنى العظمة.
وهو من الألفاظ التي تأتي لعدة معان، ويسمونها المشترك اللفظي؛ لأن اللفظ واحد ولكنه يطلق على عدة معان.
أما المشترك المعنوي فهو الاتفاق في المعنى مع التفاوت في اللفظ، فالإبصار يتفاوت الناس فيه، وكل من لا يكون أعمى فهو مبصر وإن كان بصره ضعيفاً جداً، يعني: فهم مشتركون في المعنى مع التفاوت فيه.
وأما المشترك اللفظي فإنه يطلق على كل واحد على حدة، هذا يطلق عليه جد، وهذا يطلق عليه جد، وهذا يطلق عليه جد، وقد يكون المشترك اللفظي من الأضداد مثل: عسعس، فإنه يطلق على (أقبل) وعلى (أدبر) وهما ضدان، وكذلك القُرء يطلق على الطهر وعلى الحيض وهما ضدان.(573/20)
تراجم رجال إسناد حديث (أنه كان يقول عند مضجعه: اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم)
قوله: [حدثنا العباس بن عبد العظيم العنبري].
العباس بن عبد العظيم العنبري ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا الأحوص -يعني ابن جواب -].
الأحوص بن جواب وهو صدوق ربما وهم، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عمار بن رزيق].
عمار بن رزيق وهو لا بأس به، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي إسحاق].
هو أبو إسحاق السبيعي واسمه عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحارث].
هو الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني وهو ضعيف، أخرج له أصحاب السنن.
[وأبي ميسرة].
هو عمرو بن شرحبيل وهو ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن علي].
هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث ضعفه الألباني وليس فيه إلا عنعنة أبي إسحاق على ما يبدو، وإلا فالباقون كلهم محتج بهم، اللهم إلا أن يكون هناك انقطاع لا أدري عنه.(573/21)
الأسئلة(573/22)
حكم استقدام الأشخاص للعمل مع فرض نسبة معينة من كسبهم
السؤال
يقول شخص: قدمت إلى هذا البلد للعمل تحت كفالة شخص، واشترط عليّ أن أدفع له مما أكسبه نسبة، وقدرها (15%) فهل هذا العمل يجوز، وما المخرج إن كان هذا العمل لا يقره الشرع؟
الجواب
هذا يرجع إلى تنظيم الدولة، والدولة إنما تأذن للأشخاص بأن يستقدموا أشخاصاً للقيام بأعمال لهم، وأن يكونوا قائمين بالعمل تحت إشرافهم وتحت توجيههم، وأما أن يأتي بأناس ثم يطلقهم يتكسبون ويعطونه نسبة وهو قد أرسلهم لا يعرف عنهم شيئاً، إلا أنه في آخر الشهر يعطونه راتباً، فهذا لا يتفق مع الغرض الذي من أجله حصل الاستقدام؛ لأن الاستقدام يكون لحاجته هو ليستخدمه، أما أن يستقدم أناساً ويرسلهم فهذا عمل غير صحيح، وفي نفس الوقت هذا مما يخشى من ورائه الأضرار؛ لأن الإنسان قد يفلت ولا يدري ما يحصل من وراء إفلاته، وقد يحصل منه أمور لا تحمد عقباها، كأن يسرق، أو يحصل منه اعتداء على أحد.(573/23)
حقيقة صلاة ثابت البناني في قبره بعد موته
السؤال
هل ثبت أن ثابتاً البناني صلى في قبره بعد موته، كما في حلية الأولياء لـ أبي نعيم؟
الجواب
هذه من الأمور الغيبية، ومن يطلع الناس على أنه كان يصلي أو أنه صلى؛ لأن هذه الأمور غيبية لا تقال ولا يتحدث فيها بغير علم، لكن جاء في حق الأنبياء أن موسى كان يصلي في قبره كما جاء في حديث الإسراء، وأما كون الناس يصلون في قبورهم، وأن ثابتاً كان يصلي في قبره، فلا نعلم شيئاً يدل على هذا وهو من أمور الغيب.(573/24)
حكم الجمع بين الظهرين وقصرهما لمن يعمل خارج المدينة ويأتي قبل دخول وقت العصر
السؤال
نحن مجموعة من المعلمين ندرس في منطقة تبعد عن المدينة حوالى (160) كيلو متر، ونداوم من المدينة يومياً، فهل يجوز لنا الجمع بين الظهر والعصر مع القصر، مع العلم أننا وقت صلاة الظهر نكون في الطريق، ولكن وقت صلاة العصر نكون في منازلنا؟
الجواب
إذا كانوا سيصلون إلى منازلهم قبل العصر، فليس لهم أن يجمعوا؛ لأنهم إذا سمعوا الأذان فعليهم أن يجيبوا، وأما إذا كانوا يجمعون على اعتبار أنهم لا يعرفون هل سيصلون قبل العصر أو بعده فهذا جائز، ولكنهم لو وصلوا منازلهم قبل العصر وسمعوا النداء عليهم أن يذهبوا المسجد، ولا يصلون في الطريق من أجل أن يأتوا في وقت الظهر ليناموا والناس يصلون في المساجد.(573/25)
وجه إيراد لفظ الوجه بمعنى الثواب وغيره
السؤال
هل يمكن أن يأتي لفظ الوجه ويقصد به الثواب، كما في قوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52]؟
الجواب
من آثار تلك الصفة أن الإنسان يطلب الثواب، ومن ذلك النظر إلى الوجه الذي هو أكمل نعيم يكون لأهل الجنة؛ لكن لا يقال: إنه يأتي الوجه ويراد به الثواب فقط، فرؤية وجهه من الثواب، بل هو أعظم الثواب؛ لأن أكمل نعيم لأهل الجنة رؤية الله عز وجل؛ ولهذا ادخرها الله عز وجل إلى الدار الآخرة، ولم يشأ أن يرى في الدنيا، والله تعالى قادر على أن يراه عباده لو شاء ذلك؛ وذلك أن نعيم الآخرة لا يأتي في الدنيا بل يبقى غيباً؛ ولهذا جاء في حديث الكسوف: أنه لما عرضت عليه الجنة والنار ورأى عناقيد العنب متدلية، وأراد أن يخرج عنقوداً ثم كفّ، قال عليه الصلاة والسلام: (لو أخذت منه لأكلتم ما بقيت الدنيا) عنقود واحد يأكل الناس منه إلى أن تنتهي الدنيا، فشاء الله عز وجل أن يكون ذلك غيباً، وألا يحصل في الدنيا شيء من نعيم الآخرة أو من نعيم الجنة؛ حتى يتميز من يؤمن بالغيب ومن لا يؤمن بالغيب.(573/26)
شمول كلمات الله الشرعية للقرآن وغيره من الكتب السماوية
السؤال
هل كلمات الله الشرعية هي القرآن فقط؟
الجواب
ليس القرآن فقط، بل التوراة والإنجيل وكل ما تكلم الله عز وجل به مما هو تشريع هو كلام الله عز وجل، والسنة تدخل؛ لكنها ليست لفظاً، بل هي كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه مبلغ لكلام الله عز وجل كما قال عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
وكذلك الأحاديث التي دلت على ذلك، ومنها الحديث الذي أشرت إليه مراراً، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يغفر للشهيد كل شيء، ثم قال: إلا الدين، سارّني به جبريل آنفاً) يعني: استثناء.(573/27)
وجه تفسير ابن كثير لقوله تعالى: (إلا وجهه) بالذات
السؤال
قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، فسرها ابن كثير رحمه الله: إلا ذاته، وقد ذكر أهل العلم ومنهم الشيخ ابن عثيمين والفوزان أن الإمام إذا كان من أهل السنة ومعروف بإثبات الصفات، فإن كلامه في تفسير هذه الآية يرد إلى المحكم من كلامه في إثبات صفة الوجه، وأنه هنا فسر اللازم بالملزوم، فهل هذا صحيح؟
الجواب
من جاء عنه من أهل السنة مثل هذا الكلام مع أنه يثبت الصفة لله عز وجل لا يقال إنه مؤول؛ لأنه يثبت الذات ويثبت الوجه الذي هو من صفة الذات.
وعلى كل فالإمام البخاري نفسه في الصحيح عند قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] في سورة القصص أتى كعادته يفسر بعض الكلمات، ثم قال: (وجهه) وعبر عنه بقوله: مَلِكَه، فبعض الناس يقول: إنها تفنى إلا مُلْكه، وهذا لا يستقيم؛ لأن كل شيء هو مُلكه، فيكون معناه: كل شيء هالك إلا كل شيء، وهذا لا يستقيم، ولكن المقصود بها المَلِك، كل شيء هالك إلا مَلِكَه، وهذا جاء عنه في التفسير؛ ولكن جاء عنه في كتاب التوحيد ذكر الوجه وذكر الآيات والأحاديث التي في صفة الوجه.
والحافظ ابن حجر ذكر ذلك كما في الشرح: فقال: إن هذا تفسير أبي عبيدة معمر بن المثنى، وقال: إلا هو، يعني: ملِكَه.
ومعنى ذلك أن البقاء لله عز وجل في ذاته وصفاته، فالبقاء للذات والصفات وليس للصفات وحدها، فقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] يعني: إلا صفة الوجه وغير الوجه يغنى هذا لا يستقيم؛ ولكن المقصود إثبات الذات المتصفة بالصفات ومنها صفة الوجه، فالكلام الذي نقل عن الشيخ ابن عثيمين مستقيم ولا شك أن كلام ابن كثير يرد فيه المتشابه إلى المحكم، ولا يقال: إن هذا تأويل؛ لأنه فصل وأثبت الوجه في مكان آخر، لكن الجواب الصحيح في هذا أن يقال: إثبات الذات والصفات ومنها صفة الوجه.
أما الآية التي في سورة الرحمن فكما هو معلوم أن الوصف جاء للوجه، ولهذا قال: ((وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو)) ما قال: (ذي) يعني: بحيث يصير وصفاً للمضاف إليه الذي هو الرب، وإنما هو وصف لـ (ذو) الذي هو الوجه، ففيه إثبات الصفة وإثبات الذات المتصفة بالصفات، ومنها صفة الوجه، وفي آخر سورة الرحمن جاء الوصف يرجع إلى المضاف إليه، قال عز وجل: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78] فصار الوصف بـ (ذي) يرجع إلى المضاف إليه الذي هو الرب.(573/28)
شرح سنن أبي داود [574]
قد جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ترشدنا إلى ما ينبغي على المسلم من تأدبة أذكار يقولها عند النوم، والحث على آداب وسنن يعملها المسلم عند نومه، وذلك أن النوم موت أصغر، فيكون آخر عهده من الدنيا إن توفاه الله في منامه أن يموت على طهارة وذكر الله عز وجل.(574/1)
تابع ما يقال عند النوم(574/2)
شرح حديث (أن رسول الله كان إذا أوى إلى فراشه قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أوى إلى فراشه قال: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي).
يعني: الحمد لله الذي رزقنا الطعام ومكننا من استعماله وجعلنا نستفيد منه.
قوله: [(وسقانا)] يعني: أنزل علينا الماء من السماء وأنبعه من الأرض فيكون بذلك حصول طعامنا وشرابنا.
قوله: [(وكفانا)] أي: من كل شر.
قوله: [(وآوانا)] يعني: هيأ لنا المساكن التي نستكن بها من الحر ومن البرد ونأوي إليها، وكل هذه نعم من الله عز وجل، فهو وحده الذي تفضل بها، وهو الذي جاد بها، وهو المنعم المتفضل بكل نعمة.
قوله: [(فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي)] يعني: كثير من الناس لا يحصل لهم هذا الشيء ويحرمون هذه النعمة، ونحن قد أنعم الله علينا بها، وتفضل بها علينا، فنحن نشكر الله عز وجل على ذلك ونثني عليه ونعظمه.(574/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله كان إذا أوى إلى فراشه قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا يزيد بن هارون].
هو يزيد بن هارون الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا حماد بن سلمة].
حماد بن سلمة وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(574/4)
شرح حديث (أن رسول الله كان إذا أخذ مضجعه من الليل قال: باسم الله وضعت جنبي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا جعفر بن مسافر التنيسي حدثنا يحيى بن حسان حدثنا يحيى بن حمزة عن ثور عن خالد بن معدان عن أبي الأزهر الأنماري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه من الليل قال: باسم الله وضعت جنبي، اللهم اغفر لي ذنبي، وأخسئ شيطاني، وفك رهاني، واجعلني في الندي الأعلى)].
أورد أبو داود حديث أبي الأزهر الأنماري رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه من الليل قال: باسم الله وضعت جنبي).
يعني: إذا بدأ بالنوم وضع جنبه، وقد ورد في الحديث أنه كان ينام على شقه الأيمن ويقول: (باسم الله وضعت جنبي).
قوله: [(اللهم اغفر لي ذنبي)].
يعني: أنه يسأل الله عز وجل المغفرة للذنوب.
قوله: [(وأخسئ شيطاني)].
يعني: اجعله خاسئاً.
والمقصود من ذلك الشياطين الذي يريدون إيذاءه أنهم يخسئون ويندحرون، وقيل: إن المقصود به القرين من الجن، ولكن قد جاء في الحديث أنه أسلم فكان لا يأمره إلا بالخير كما في صحيح مسلم حيث قال: (ما منكم من أحد إلا وله قرين من الجن وقرين من الملائكة، قالوا: وأنت يا رسول الله، قال: وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير)، فيكون المقصود من ذلك الشيطان الذي يريد أن يؤذيه، مثل الشيطان الذي جاء إليه وهو يصلي فأمسكه وقال: (لولا دعوة أخي سليمان: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] لربطته حتى يلعب به الأطفال) أو كما جاء في الحديث.
قوله: [(وفك رهاني)].
المقصود بالرهان الدين سواء كان ديناً لله عز وجل أو للآدميين، فكل هذا يجري فيه الرهان، والنفس مرتهنة بالأعمال، فإن كانت حسنة فإنها تسلم، وإن كانت غير ذلك فإنه تحصل لها ما يحصل بسبب ذلك، وكذلك فيما يتعلق بالدين عندما يكون فيه رهن، فإنه لا يفك إلا بحصول الدين وسداده.
قوله: [(واجعلني في الندي الأعلى)].
الندي هو المجتمع أو الجماعة، والمقصود بذلك في الملأ الأعلى، بحيث يذكر في الملأ الأعلى.(574/5)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله كان إذا أخذ مضجعه من الليل قال: باسم الله وضعت جنبي)
قوله: [حدثنا جعفر بن مسافر التنيسي].
جعفر بن مسافر التنيسي صدوق ربما أخطأ، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا يحيى بن حسان].
يحيى بن حسان هو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا يحيى بن حمزة].
يحيى بن حمزة هو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثور].
هو ثور بن يزيد الحمصي وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن خالد بن معدان].
خالد بن معدان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الأزهر الأنماري].
أبو الأزهر الأنماري وهو صحابي، أخرج له أبو داود.(574/6)
طريق أخرى لحديث أبي الأزهر الأنماري وترجمة رجال إسنادها
[قال أبو داود: رواه أبو همام الأهوازي عن ثور قال: أبو زهير الأنماري].
أورد أبو داود طريقاً أخرى معلقة عن أبي همام الأهوازي واسمه محمد بن الزبرقان وهو صدوق ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن ثور، قال: أبو زهير الأنماري].
قال: أبو زهير بدل أبو الأزهر.(574/7)
شرح حديث: (أن النبي قال لنوفل: اقرأ: قل يا أيها الكافرون ثم نم على خاتمتها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق عن فروة بن نوفل عن أبيه رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ نوفل: اقرأ: ((قل يا أيها الكافرون)) ثم نم على خاتمتها؛ فإنها براءة من الشرك)].
أورد أبو داود حديث نوفل الأشجعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، ثم نم على خاتمتها؛ فإنها براءة من الشرك) وهذا يدل على مشروعية قراءة هذه السورة عند المنام، كما أن: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] أيضاً تقرأ، ومثل آية الكرسي أيضاً كما جاءت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه السورة هي إحدى سورتي الإخلاص؛ ولهذا يقال لها ولـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، سورتا الإخلاص؛ لأن سورة الكافرون تتعلق بتوحيد العبادة و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تتعلق بتوحيد أسماء الله عز وجل وصفاته.
فإذاً: سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] تتعلق بتوحيد العبادة؛ لأنها مشتملة على البراءة من الشرك.(574/8)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي قال لنوفل: اقرأ (قل يا أيها الكافرون) ثم نم على خاتمتها)
قوله: [حدثنا النفيلي].
هو عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو إسحاق عن فروة بن نوفل].
أبو إسحاق قد مر ذكره.
وفروة بن نوفل الأشجعي مختلف في صحبته، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[(أن النبي قال لـ نوفل)].
هو نوفل الأشجعي وهو صحابي، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.(574/9)
الجمع بين حديث (واجعلهن آخر ما تقول) وحديث (ثم نم على خاتمتها)
مر معنا في حديث البراء: (واجعلهن آخر ما تقول).
وهنا قال: (نم على خاتمتها).
فيمكن أنه يكون كل منهما في الآخر؛ بأن يقدم أحدهما على الآخر؛ ولكن قوله: (نم على خاتمتها) لم يأت أنها تكون في الآخر، وإذا كان متعدداً فيمكن أن يقدم هذا في بعض الأحيان، وهذا في بعض الأحيان.
وحديث نوفل هذا ضعفه الشيخ مقبل رحمه الله وتكلم فيه الترمذي وقال: إنه لا يثبت، وتكلم فيه ابن عبد البر وقال: إنه لا يثبت؛ ولكن جاءت روايات كثيرة وأغلبها يدور على أبي إسحاق السبيعي، وقد روى بالعنعنة وهو مدلس، ولكن حسنه الحافظ ابن حجر، وصححه الألباني، وذكره ابن كثير عند تفسير هذه السورة، ذكر أرجح الطرق له، وذكر طريقاً آخر ليس من طريق أبي إسحاق، ولكن بيض لاسم الصحابي، وبعض العلماء حسنه من أجل وروده من طرق أخرى غير طريق أبي إسحاق السبيعي.(574/10)
شرح حديث (أن النبي كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد ويزيد بن خالد بن موهب الهمداني قالا: حدثنا المفضل -يعنيان ابن فضالة - عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما وقرأ فيهما: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] وينفث في يديه ويمسح بهما وجهه ورأسه وما أمكنه من جسده، وهذا فيه بالإضافة إلى القراءة المسح.(574/11)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما وقرأ فيهما)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ويزيد بن خالد بن موهب الهمداني].
يزيد بن خالد بن موهب الهمداني ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن المفضل -يعنيان ابن فضالة -].
يعني: أن الشيخين ذكراه بدون نسبة، والذي دون الشيخين هو الذي نسبه، سواء كان أبا داود، أو من دون أبي داود.
والمفضل بن فضالة المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عقيل].
هو عقيل بن خالد بن عقيل المصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
هو عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(574/12)
صفة المسح والنفث عند قراءة المعوذتين والإخلاص عند النوم
أما كيفية هذا الذكر وكيفية المسح فإن النفث يكون قبل القراءة أو بعدها ثلاث مرات، والذي يبدو أن المسح هو للنفث، والمقصود من ذلك أن ينفث ثلاث مرات؛ لأنه يقرأ وينفث ثم يمسح، فالمقصود من ذلك هو مسح الذي صار في اليد من النفث، والنفث ليس بصاقاً وإنما هو نفخ يسير، والنفث بعد القراءة والمسح هو للمقروء.
أما المراد من قوله: (ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده) يعني: الذي يمكنه من جسده؛ لأن بعض المواضع من الجسد لا تصل إليها اليد.
وأيضاً قوله: (يفعل ذلك ثلاث مرات) الإشارة تعود إلى المسح بعد النفث ثلاث مرات وعلى القراءة، يعني: أنه يكررها ويمسح.(574/13)
شرح حديث (أن رسول الله كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني حدثنا بقية عن بحير عن خالد بن معدان عن ابن أبي بلال عن العرباض بن سارية رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد، وقال: إن فيهن آية أفضل من ألف آية)].
أورد أبو داود حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد فيقول: إن فيهن آية هي أفضل من ألف آية).
المسبحات: هي السور التي تبدأ بتنزيه الله عز وجل، وهن سبع سور، (سَبّحَ) في الماضي في ثلاث سور: سورة الحديد، وسورة الحشر، وسورة الصف، و (يُسبح) فعل مضارع في سورتين: الجمعة، والتغابن، والأمر (سبِّحْ) {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] و (سبحان) الإسراء.
ويقول: (إن فيهن آية هي أفضل من ألف آية) ولكن الحديث ضعيف فيه ابن أبي بلال وهو مقبول.(574/14)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد)
قوله: [حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني].
مؤمل بن الفضل الحراني صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا بقية].
هو بقية بن الوليد وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
وبقية مدلس.
[عن بحير].
هو بحير بن سعد وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.
[عن خالد بن معدان].
خالد بن معدان مر ذكره.
[عن ابن أبي بلال].
هو عبد الله بن أبي بلال وهو مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن العرباض بن سارية].
العرباض بن سارية رضي الله عنه، صحابي أخرج له أصحاب السنن.(574/15)
شرح حديث (أن رسول الله كان يقول إذا أخذ مضجعه: الحمد لله الذي كفاني وآواني)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا علي بن مسلم حدثنا عبد الصمد حدثني أبي حدثنا حسين عن ابن بريدة عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه حدثه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول إذا أخذ مضجعه: الحمد لله الذي كفاني وآواني وأطعمني وسقاني، والذي منّ عليّ فأفضل، والذي أعطاني فأجزل، الحمد لله على كل حال، اللهم رب كل شيء ومليكه وإله كل شيء، أعوذ بك من النار)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه من النوم، قال: (الحمد لله الذي كفاني وآواني وأطعمني وسقاني) يعني: أنه كفاه الشرور وكفاه ما يخاف ويحذر.
وآواه يعني: رزقه المسكن، ومكنه من حصول السكن الذي يستكن به، وأطعمه وسقاه، وهذه الأمور الأربعة سبق أن مرت: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا).
قوله: [(والذي منّ علي فأفضل)].
يعني: من عليه وتفضل عليه بالعطاء، فحصل منه المن والتفضل.
قوله: [(والذي أعطاني فأجزل)].
يعني: أعطاه وأكثر له من العطاء.
قوله: [(الحمد لله على كل حال)].
يعني: الله تعالى هو المحمود سبحانه وتعالى في جميع الأحوال، سواء كان الحال حسناً أو كان غير حسن؛ لأن الله تعالى هو المقدر لكل شيء وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، فهو سبحانه الذي يحمد على كل حال بدون استثناء حال من الأحوال، بخلاف غيره فإنما يحمد ويمدح ويثنى عليه إذا حصل منه ما يقتضي ذلك محبوب ومما هو مرغوب.
وهذا يدل على أن هذا الدعاء يؤتى به في المكروهات وغير المكروهات، ولا يقال إنه خاص بالأمور المكروهة.
قوله: [(اللهم رب كل شيء ومليكه، وإله كل شيء)].
فالله عز وجل هو الرب وهو المليك الذي بيده ملكوت كل شيء، المتصرف في كل شيء، المربي خلقه بالنعم الموجد لهم من العدم، وهو إلههم وإله كل شيء.
ففيه الإقرار بربوبية الله عز وجل وألوهيته، أي بكونه رب الناس وخالق الناس، والمتصرف في الخلق كيف يشاء، وكونه الذي يعبد ويخص بالعبادة ولا يُشْرك معه أحد فيها، فكما أنه لا رب سواه وهو الإله الذي لا إله بحق سواه، فلا تصرف العبادة إلا له، ولا يجوز أن يصرف شيء من العبادة لغير الله؛ لأن المتفرد بالخلق والإيجاد هو الذي يجب أن يفرد بالعبادة سبحانه وتعالى؛ ولهذا يقول العلماء: إن توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية، يعني: من أقر بأن الله تعالى هو الخالق وحده، الرازق وحده، المحيي وحده، الذي ليس له شريك في الخلق والإيجاد، فيجب أن يفرد بالعبادة وحده، كما أنه واحد في أفعاله كالخلق والرزق والإحياء والإماتة والتدبير، فهو أيضاً الواحد في ألوهيته، ويكون معبوداً وحده فيها، فلا يعبد مع الله سواه، ولا يصرف من أنواع العبادة شيء لغير الله، فلا بد من هذا ومن هذا.
قوله: [(أعوذ بك من النار)].
بعد أن أثنى على الله عز وجل بذلك الثناء، وهو من الوسائل التي يؤتى بها بين يدي الدعاء؛ طلب منه ما يحتاج، فهنا بعد هذا الثناء استعاذ بالله من النار.(574/16)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله كان يقول إذا أخذ مضجعه الحمد لله الذي كفاني وآواني)
قوله: [حدثنا علي بن مسلم].
علي بن مسلم هو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الصمد].
هو عبد الصمد بن عبد الوارث العنبري صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبي].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حسين].
هو حسين بن ذكوان المعلم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن بريدة].
هو عبد الله بن بريدة بن الحصيب وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.(574/17)
وجه تقديم الربوبية ثم الملك ثم الألوهية في سورة الناس
أما عن ترتيب الربوبية ثم الملك ثم الإلهية في سورة الناس فكما هو معلوم أن الله تعالى هو الذي خلق وملك وهو مالك لكل ما خلق، وهو الذي يجب أن يعبد؛ ومعلوم أن العبادة تأتي بعد الخلق والملك، والله عز وجل هو المالك لكل شيء وهو الخالق لكل شيء، فيطلب من العباد أن يخصوه بالعبادة، ولعلّ هذا الترتيب؛ لأن الله تعالى خالق مالك فهو خالق الخلق ومالكه، لا يكون خالقاً ثم يكون غير مالك، بل هو خالق مالك، ومن خلق فهو المالك لما يخلقه، وهؤلاء المكلفون من المخلوقين مأمورون بأن يفردوا الله عز وجل ويخصوه بالعبادة سبحانه وتعالى.
ثم إن الربوبية والملك مستلزمان للألوهية، فمن حصل منه الإقرار بهما لزمه أن يقر بها؛ لأنه لا يعقل أن يكون هو الخالق وحده وهو الملك وحده المتصرف بالكون وحده، الذي أوجدهم من العدم، ثم يصرف لهم شيئاً من العبادة؟! وكيف يليق بالإنسان أن يعبد مخلوقاً مثله، بل المعبود هو الخالق الذي خلق الخلق وأوجدهم من العدم ورباهم بالنعم، فهو الذي يجب أن يفرد بالعبادة.(574/18)
شرح حديث (من اضطجع مضجعاً لم يذكر الله تعالى فيه إلا كان عليه ترة يوم القيامة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حامد بن يحيى حدثنا أبو عاصم عن ابن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من اضطجع مضجعاً لم يذكر الله تعالى فيه إلا كان عليه ترة يوم القيامة، ومن قعد مقعداً لم يذكر الله عز وجل فيه إلا كان عليه ترة يوم القيامة)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (من اضطجع مضجعاً لم يذكر الله فيه إلا كان عليه ترة يوم القيامة، ومن قعد مقعداً لم يذكر الله فيه إلا كان عليه ترة يوم القيامة) والترة: هي النقص والحسرة، وهي مصدر: وتره يتره ترة، ومنه: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35]، يعني: ينقصكم.
وهذا فيه بيان أهمية الذكر عند النوم، وأهمية الذكر في المجلس، وأن الإنسان إذا لم يحصل منه الذكر عند النوم يكون هذا نقصاً عليه وحسرة؛ وكذلك إذا ترك الذكر في المجلس يكون نقصاً عليه وحسرة.(574/19)
تراجم رجال إسناد حديث (من اضطجع مضجعاً لم يذكر الله تعالى فيه إلا كان عليه ترة يوم القيامة)
قوله: [حدثنا حامد بن يحيى].
حامد بن يحيى ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا أبو عاصم].
هو الضحاك بن مخلد أبو عاصم النبيل وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو من كبار شيوخ البخاري، الذين روى عنهم الثلاثيات التي هي من الأسانيد العالية عنده، وهي من طريق ثلاثة أشخاص أو أربعة من شيوخه، وأبو عاصم هذا أحدهم، وقد روى عنه جملة من الأحاديث الثلاثية؛ لأنه من أتباع التابعين، وكذلك مكي بن إبراهيم روى عنه بعض الثلاثيات ومحمد بن عبد الله الأنصاري روى عنه بعض الثلاثيات.
[عن ابن عجلان].
هو محمد بن عجلان المدني صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن المقبري].
وهو أبو سعيد المقبري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب، وسعيد وأبوه كلاهما ثقتان.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، وهو الصحابي الجليل أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو أكثر السبعة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(574/20)
شرح سنن أبي داود [575]
قد جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بما ينبغي على المسلم إذا استيقظ من الليل، من ذكر الله عز وجل والثناء عليه بما هو أهله، بحيث لو دعا بعد ذلك استجيب له، فإن قام وتوضأ ثم صلى قبلت صلاته، وهذا فضل من الله عز وجل على عباده.
وكذلك جاءت الأحاديث في مشروعية الذكر عند النوم، وأنه من أسباب القوة والنشاط عند القيام بالأعمال الصالحة.(575/1)
بيان ما يقول الرجل إذا تعار من الليل(575/2)
شرح حديث (من تعار من الليل فقال حين يستيقظ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يقول الرجل إذا تعار من الليل.
حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي حدثنا الوليد قال: قال الأوزاعي: حدثني عمير بن هانئ حدثني جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من تعار من الليل فقال حين يستيقظ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم دعا: رب اغفر لي -قال الوليد: أو قال: دعا- استجيب له؛ فإن قام فتوضأ ثم صلى قبلت صلاته)].
أورد أبو داود [باب ما يقول الرجل إذا تعار من الليل] يعني: من استيقظ من الليل وذكر الله عز وجل، وقد مر الحديث في التعار من الليل وأنه الاستيقاظ.
وقيل: إن المقصود به هيئة الاستيقاظ وأنه يحصل منه صوت أو يحصل منه تمط، ولكنه كما هو معلوم سواء حصل هذا أو لم يحصل المهم أنه إذا قام من نومه واستيقظ فإنه يذكر الله عز وجل.
قوله: [(من تعار من الليل فقال حين يستيقظ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)] وهذا ثناء على الله عز وجل فيه الاعتراف بأُلوهيته، وأنه هو الإله الحق وحده لا شريك له الذي لا تكون العبادة إلا له، و (لا) نافية و (إله) اسمها فهي نافية للجنس أي: نافية لجنس الإله، إلا أن يكون بحق وهو الله سبحانه وتعالى، والتقدير لا إله حق إلا الله، ولا يكون التقدير لا إله موجود فإن هذا كلام غير صحيح؛ لأنه مخالف وغير مطابق للواقع؛ لأن الآلهة موجودة مع الله من ناحية الوجود، وتعبد من غير الله، لكن الآلهة التي تعبد من غير الله تعبد بغير حق.
فإذاً: (لا إله حق إلا الله) هذا هو الذي يستقيم به المعنى ويكون مطابقاً للواقع، أما إذا قدر لا إله موجود فإنه يكون باطلاً وغير مطابق للواقع ويكون كذباً؛ لأن الآلهة والمعبودات التي يعبدها المشركون والكفار موجودة، منهم من يعبد الملائكة ومنهم من يعبد الجن ومنهم من يعبد الشجر ومنهم من يعبد الحجر وكل هذه أمور موجودة، ولكن المعبود بحق والإله بحق هو الله سبحانه وتعالى.
قوله: [(لا إله إلا الله وحده لا شريك له)] كلمة (وحده) مؤكدة لـ (إلا الله)، و (لا شريك له) مؤكدة للنفي في (لا إله) لأن (وحده لا شريك له) تعادل (إلا الله) ومعناها: لا شريك لله بل هو الإله وحده.
إذاً: فالجملة الأخيرة مؤكدة للجملة قبلها وهي لا إله إلا الله إلا أنها مقلوبة ليست على الترتيب الأول، وهي مؤكدة للإثبات الذي في الآخر فصار التأكيد في الإثبات متصلاً بعضه ببعض (إلا الله وحده).
قوله: [(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد)] أي: فهو مالك الملك وهو الذي بيده الملك وهو الذي يحمد على كل حال.
قوله: [(وهو على كل شيء قدير)] أي: لا يعجزه شيء، بل هو قدير على كل شيء سبحانه وتعالى، وهذا لفظ عام لا يستثنى منه شيء، وأما قول المتكلمين المتكلفين: وخص العقل ذاته فليس عليها بقادر، فهذا من التكلف، نعم.
ذات الله شيء، لكنها لا تدخل تحت قوله: وهو على كل شيء قدير، مع ما يدخل تحت قدرة الله عز وجل في كونه يوجد ويميت ويحيي.
وتفسير الجلالين مع اختصاره ووجازته ما سلم من مثل هذا التكلف، فإنه عند ختام سورة المائدة وهي: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120] قال: وخص العقل ذاته فليس عليها بقادر، مع أنه مختصر جداً ومع ذلك يأتي بهذا الباطل ويحافظ عليه ولا ينسى، مع أنه تكلف وكلام باطل.
قوله: [(سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوله إلا بالله)] هذه خمس جمل: سبحان الله: وهي تنزيه لله عز وجل، والحمد يأتي للإثبات، فهناك تنزيه وإثبات، فالمحامد هي إضافات تضاف إلى الله عز وجل، وأما سبحان فإنه تنزيه لله عز وجل عما لا يليق به؛ ولهذا يأتي كثيراً في بعض الأحاديث: (سبحان الله وبحمده) فيجمع بين التسبيح والتحميد؛ لأن هذا تنزيه وهذا إثبات، هذا نفي وهذا إثبات، فيكون الإنسان جامعاً بين هذا وهذا.
ولا إله إلا الله هذه كلمة الإخلاص وكلمة التوحيد.
ولا حول ولا قوة إلا بالله، يعني: أن الإنسان يبرأ من الحول والقوة، وأنه لا يحصل ذلك إلا بالله ولا يقدر على ذلك إلا بإقدار الله، وأن كل شيء يرجع إلى قدرة الله وإلى مشيئة الله وإرادته، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكما قال عليه الصلاة والسلام في وصيته لـ ابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)، ثم ما يحصل عن طريق الناس من الإحسان هو من الله عز وجل الذي سخرهم، وهو الذي وفقهم لأن يحصل منهم الإحسان لمن حصل منه الإحسان، وهو الذي وفق لدفع الشر ممن فيه شر عن وصول الشر إلى من يريدون إيصاله إليه، فالله عز جل إذا شاء شيئاً وجد سواء كان خيراً أو شراً، لا يقع في ملك الله إلا ما شاءه الله.
فلا يقع في الوجود شيء إلا بمشيئته وإرادته، سواء كان نافعاً أو ضاراً.
والله أكبر تعظيم لله عز وجل، وأنه أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، وكل شيء ضئيل أمام عظمته وكبريائه سبحانه وتعالى.
قوله: [(ثم دعا: رب اغفر لي)] يأتي كثيراً في أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم التمهيد للطلب والدعاء بتعظيم الله عز وجل وتقديسه وتنزيهه وتمجيده والثناء عليه، وهذا من أسباب قبول الدعاء، مثل ما جاء في قصة الرجل الذي دعا دون حمد وثناء، فقال عليه الصلاة والسلام: (عجل هذا) حيث دعا ولم يحمد الله ولم يصل على رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا شرع في صلاة الجنازة قبل الدعاء للميت في الصلاة قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى، والصلاة على النبي صلى عليه وسلم بعد التكبيرة الثانية، ثم الدعاء بعد الثالثة، فيكون قد سبق بشيء هو من أسباب قبول الدعاء، فهديه عليه الصلاة والسلام أنه في كثير من الأدعية تكون الأدعية مسبوقة بحمد وثناء وتمجيد وتعظيم وتنزيه لله سبحانه وتعالى.
[(قال الوليد أو قال: دعا استجيب له)].
يعني أن الوليد قال: دعا، وما قال: رب اغفر لي، فهو شك، هل قال هذا أو قال هذا، فكلمة (دعا) عامة، وكلمة (رب اغفر لي) دعاء خاص وهو طلب المغفرة.
قوله: [(فإن قام فتوضأ ثم صلى قبلت صلاته)].
يعني: فإن حصل منه أن قام من الليل وذكر الله بهذا الذكر ثم قام وتوضأ وصلى قبلت صلاته؛ لأنه أخذ بأسباب القبول، حيث وجد منه هذا الذكر وهذا الثناء على الله عز وجل، ثم أضاف إلى ذلك أن هب من نومه فتوضأ وصلى، فتقبل صلاته.
قوله: [(من تعار من الليل)] يدخل في هذا ما إذا استيقظ من غير إرادة منه، أو عمل شيئاً ينبهه ليقوم، فكل ذلك داخل؛ لأن كله استيقاظ سواء كان بسبب أو بغير سبب.(575/3)
تراجم رجال إسناد حديث (من تعار من الليل فقال حين يستيقظ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له)
قوله: [حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي].
عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي هو ثقة، وهو الملقب دحيم ودحيم مأخوذة من عبد الرحمن أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الوليد].
هو الوليد بن مسلم الدمشقي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: قال الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو أبو عمرو الأوزاعي فقيه الشام ومحدثها، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عمير بن هانئ].
عمير بن هانئ وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني جنادة بن أبي أمية].
جنادة بن أبي أمية وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبادة بن الصامت].
عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(575/4)
شرح حديث (أن رسول الله كان إذا استيقظ من الليل قال: لا إله إلا أنت سبحانك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حامد بن يحيى حدثنا أبو عبد الرحمن قال حدثنا سعيد -يعني ابن أبي أيوب - حدثني عبد الله بن الوليد عن سعيد بن المسيب عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال: لا إله إلا أنت سبحانك، اللهم أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك، اللهم زدني علماً ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال: لا إله إلا أنت سبحانك) يعني: فيه كلمة الإخلاص وفيه تنزيه الله عز وجل.
قوله: [(اللهم أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك)].
يعني: أسألك مغفرة الذنوب وحصول الرحمة.
قوله: [(اللهم زدني علماً)].
يعني: زيادة علم وطلب المزيد لما عنده من العلم.
قوله: [(ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني)].
يعني: أن الله قد هداه ووفقه وجعله من المسلمين، فالمسلم عندما يكون كذلك يدعو الله بهذا الدعاء فيقول: (رب لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني)؛ لأن القلوب بيد الله عز وجل يصرفها كيف يشاء؛ لأن الإنسان قد يكون سليماً فيمرض وقد يكون مريضاً فيسلم، وقد يكون على خير فيتحول إلى شر والعياذ بالله، ويكون على شر ويتحول إلى خير، والعبرة بالخواتيم كما جاء ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: (رب لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني) فالإنسان إذا ظفر بالهداية فليسأل الله تعالى الثبات عليها وعدم الزيغ عنها.
قوله: [(وهب لي من لدنك رحمه إنك أنت الوهاب)].(575/5)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله كان إذا استيقظ من الليل قال: لا إله إلا أنت سبحانك)
قوله: [حدثنا حامد بن يحيى].
حامد بن يحيى مر ذكره.
[حدثنا أبو عبد الرحمن].
هو عبد الله بن يزيد المقرئ وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سعيد يعني ابن أبي أيوب].
سعيد بن أبي أيوب وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عبد الله بن الوليد].
عبد الله بن الوليد وهو لين الحديث، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب وهو ثقة فقيه، من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث فيه هذا الرجل الذي هو عبد الله بن الوليد وهو لين الحديث، ولين الحديث هو الذي لا يقبل حديثه ولا يحتج بحديثه إلا إذا توبع.(575/6)
ما جاء في التسبيح عند النوم(575/7)
شرح حديث علي في سؤال فاطمة من الرسول خادماً لتعينها وتخدمها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التسبيح عند النوم.
حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة ح وحدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة المعنى عن الحكم عن ابن أبي ليلى، قال مسدد: قال: حدثنا علي رضي الله عنه قال: (شكت فاطمة رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى في يدها من الرحى، فأتي بسبي فأتته تسأله فلم تره، فأخبرت بذلك عائشة رضي الله عنها، فلما جاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبرته، فأتانا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا لنقوم فقال: على مكانكما، فجاء فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، فقال: ألا أدلكما على خير مما سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا أربعاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم)].
أورد أبو داود [باباً في التسبيح عند النوم] التسبيح هو قول: سبحان الله.
أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه، أن فاطمة رضي الله عنها شكت ما يحصل لها من الرحى، يعني: كونها تطحن ويحصل لها تعب بسبب الطحن وتتأثر يدها، فالرسول صلى الله عليه وسلم جاءه سبي فذهبت فاطمة لتطلب منه أن يمنحها وأن يهب لها خادماً تخدمها وتقوم بهذه المهمة عنها، فلم تجد النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرت عائشة بحاجتها وانصرفت، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغه الخبر فجاء إليهما وقد أخذا مضاجعهما، فأرادا أن يقوما فقال: (مكانكما) يعني: ابقيا على ما أنتما عليه.
فجلس بينهما ثم قال: (ألا أدلكما على خير مما سألتما) وهو خطاب للاثنين، وإن كان الطلب من فاطمة رضي الله عنها فهي التي ذهبت فتحمل التثنية على أساس أنهما مشتركان في الرغبة، وأنه حصل بينهما تفاهم على هذه الرغبة، ولهذا هو أخبر بالذي قد حصل، وأنها ذهبت لتطلب تحقيق هذه الرغبة التي هي رغبة للجميع، ثم أيضاً هو يرغب في أن يحصل لها راحة وأن يحصل لها من يساعدها، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشدهما إلى أن يذكرا الله بهذا الذكر عند النوم وهو أن يسبحا الله ثلاثاً وثلاثين، ويحمداه ثلاثاً وثلاثين، ويكبراه أربعاً وثلاثين، فيكون العدد مائة وقال: (إن هذا خير لكما من خادم) وجاء في بعض الروايات أنه جعل ذلك السبي لليتامى الذين قتل آباؤهم في بدر.
والحاصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحقق الرغبة فيما طلباه، وإنما أرشدهما إلى شيء يكون فيه قوة لهما بإذن الله، بحيث لا يحتاجان معها إلى خادم؛ لأن هذا الثناء على الله عز وجل يكسبهما قوة ويكسبهما نشاطاً، والله عز وجل يجعل عندها من القوة ما ترتاح إلى عملها وإلى القيام بهذا الجهد الذي تقوم به، وأن يكون ذلك خيراً من ذلك الخادم الذي طلبته.
قوله: [(فأتانا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا لنقوم فقال: على مكانكما، فجاء فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، فقال: ألا أدلكما على خير مما سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا أربعاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم)] هذا لا يدل على جواز دخول الأب على بنته مع زوجها في حال الفراش؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حصل منه هذا الشيء وهو المشرع، ولكن كون الأب عندما يأتي عليه أن يستأذن ويتكلم لا أن يفتح الباب ويدخل عليهما وهما على هذه الحالة، بحجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم حصل منه ذلك؛ لأنه ليس لكل أحد أن يحصل منه مثل ما حصل من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد يحصل لهما حرج، فالذي ينبغي للأب أن يستأذن؛ حتى يرتبان أنفسهما ويستقبلانه، أما كونه يأتي ويفتح عليهما باب غرفة النوم ويدخل عليهما وقد يكونان على حالة لا ينبغي له الدخول عليهما فيها، فلا.(575/8)
تراجم رجال إسناد حديث علي في سؤال فاطمة من الرسول خادماً لتعينها وتخدمها
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا مسدد].
ح للتحول من إسناد إلى إسناد ومسدد هو ابن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
شعبة مر ذكره.
[المعنى].
يعني: أنهما متفقان في المعنى.
[عن الحكم].
هو الحكم بن عتيبة الكندي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ويأتي كثيراً تصحيف اسم أبيه بعتبة في بعض الكتب وهو عتيبة وليس عتبة.
[عن ابن أبي ليلى].
هو عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال مسدد: قال: حدثنا علي].
يعني: أنه ذكر لفظ ابن أبي ليلى في روايته عن علي أنه قال: حدثنا علي.
وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(575/9)
شرح حديث علي في سؤال فاطمة من الرسول خادماً من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مؤمل بن هشام اليشكري حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن الجريري عن أبي الورد بن ثمامة قال: قال علي رضي الله عنه لـ ابن أعبد: (ألا أحدثك عني وعن فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! وكانت أحب أهله إليه، وكانت عندي، فجرت بالرحى حتى أثرت بيدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها، وقمت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت القدر حتى دكنت ثيابها وأصابها من ذلك ضر، فسمعنا أن رقيقاً أتي بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: لو أتيت أباك فسألته خادماً يكفيك، فأتته فوجدت عنده حداثاً، فاستحيت فرجعت، فغدا علينا ونحن في لفاعنا، فجلس عند رأسها، فأدخلت رأسها في اللفاع حياء من أبيها، فقال: ما كان حاجتك أمس إلى آل محمد؟ فسكتت، مرتين، فقلت: أنا والله أحدثك يا رسول الله، إن هذه جرت عندي بالرحى حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت القدر حتى دكنت ثيابها، وبلغنا أنه قد أتاك رقيق أو خدم، فقلت لها: سليه خادماً) فذكر معنى حديث الحكم وأتم].
أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه من طريق أخرى، وفيه تفصيل للطريقة التي حصل فيها سؤال الخادم، وأن علياً رضي الله عنه ذكر الأمور التي جعلتها تقدم على هذا الطلب، وكذلك هو معها راغب في تحقيق هذا الطلب، وأنها ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجدت ناساً يتحدثون عنده، فرجعت ولم تكلمه؛ لأنه مشغول مع هؤلاء يتحدث معهم، فجاء إليهما في مرقدهما وفي منامهما وسألها عن حاجتها.
قوله: [قال: فذكر معنى حديث الحكم وأتم].
يعني: ذكر معنى حديث الحكم الذي مر ذكره وفيه زيادة على ذلك، والحديث فيه ما يتعلق بحديث الحكم من ناحية أنها طلبت والرسول صلى الله عليه وسلم أرشدهما إلى ما يغني عن الخادم، وهذا ثابت في الطريق الأولى، وأما هذه الطريق ففيها ضعف.(575/10)
تراجم رجال إسناد حديث علي في سؤال فاطمة من الرسول خادماً من طريق ثانية
قوله: [حدثنا مؤمل بن هشام اليشكري].
مؤمل بن هشام اليشكري ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا إسماعيل بن إبراهيم].
هو إسماعيل بن إبراهيم ابن علية وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الجريري].
هو سعيد بن إياس الجريري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الورد بن ثمامة].
أبو الورد بن ثمامة وهو مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي.
[قال علي لـ ابن أعبد].
هو علي بن أعبد وهو مجهول، أخرج له أبو داود والنسائي في مسند علي.
وعلي رضي الله عنه قد مر ذكره.(575/11)
المراد بآل النبي في قوله: (فما كان حاجتك أمس إلى آل محمد)
في الحديث دليل على أن المراد بآل النبي أزواجه، حيث قال: (فما كان حاجتك أمس إلى آل محمد) والقرآن جاء بهذا، وهو من أوضح الأمور في ذلك؛ لأن الخطاب في آيات سورة الأحزاب هو لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، وقد ذكر خطابهن قبل هذه الجملة وبعدها، ولكن لم يأت في القرآن الخطاب لهن على سبيل التحديد، ما قال: إن الله أذهب عنكن الرجس أهل البيت؛ لأن أهل البيت يشملهن ويشمل غيرهن، وهذا التطهير لهن ولغيرهن، ولهذا جاء في السنة بيان أن علياً وفاطمة والحسن والحسين من أهل البيت، والقرآن صريح في أن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل البيت.(575/12)
شرح حديث علي في سؤال فاطمة من الرسول خادماً من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عباس العنبري حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا عبد العزيز بن محمد عن يزيد بن الهاد عن محمد بن كعب القرظي عن شبث بن ربعي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهذا الخبر قال فيه: قال علي: (فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ليلة صفين فإني ذكرتها من آخر الليل فقلتها)].
أورد أبو داود رحمه الله هذا الحديث عن علي وفيه هذه الكلمات التي هي التسبيح والتحميد والتكبير بهذا العدد الذي يبلغ المائة، وأن علياً رضي الله عنه كان يحافظ عليها، وأنه ما غفل عنها إلا ليلة صفين حيث ذكرها في آخر الليل فأتى بها متداركاً لذلك الشيء الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحديث هنا في سنن أبي داود ضعفه الألباني، ولكنه صححه في صحيح الكلم الطيب، وقد جاء في المسند من طريق شعبة عن عطاء بن السائب -وليس فيه ذكر شبث - ما يدل على أنه كان يحافظ عليها، وأنه ليلة صفين حصل منه ذلك وأنه تداركها، فهو ثابت وموجود.(575/13)
تراجم رجال إسناد حديث علي في طلب فاطمة من الرسول خادماً من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا عباس العنبري].
هو عباس بن عبد العظيم العنبري ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الملك بن عمرو].
هو أبو عامر العقدي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد العزيز بن محمد].
هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن الهاد].
يزيد بن الهاد هو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن كعب القرظي].
محمد بن كعب القرظي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شبث بن ربعي].
شبث بن ربعي يقال إنه مخضرم، ولم يذكر فيه حكماً، وإنما ذكر شيئاً من أحواله التي ذكرها، أخرج له أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة.
[عن علي].
هو علي رضي الله عنه، وقد مر ذكره.(575/14)
شرح حديث عبد الله بن عمرو (خصلتان لا يحافظ عليها مسلم إلا دخل الجنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خصلتان أو خلتان لا يحافظ عليهما عبد مسلم إلا دخل الجنة، هما يسير ومن يعمل بهما قليل: يسبح في دبر كل صلاة عشراً، ويحمد عشراً، ويكبر عشراً، فذلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان، ويكبر أربعاً وثلاثين إذا أخذ مضجعه ويحمد ثلاثاً وثلاثين ويسبح ثلاثاً وثلاثين، فذلك مائة باللسان وألف في الميزان، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده، قالوا: يا رسول الله! كيف هما يسير ومن يعمل بهما قليل؟ قال: يأتي أحدكم -يعني الشيطان- في منامه فينومه قبل أن يقوله، ويأتيه في صلاته فيذكره حاجة قبل أن يقولها)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما وهو يتعلق بالتكبير عند النوم كما جاء في حديث علي من التسبيح والتحميد ثلاثاً وثلاثين والتكبير أربعاً وثلاثين، وكذلك هنا يسبح دبر الصلاة عشراً ويحمد عشراً ويكبر عشراً، وقال: إنها تكون مائة وخمسين باللسان وتكون ألفاً وخمسمائة في الميزان من حيث إن الحسنة بعشر أمثالها.
الجزء الأخير هو الذي يتعلق بالترجمة، والجزء الأول لا يتعلق بالترجمة، ولكنه يتعلق بالذكر عقب الصلاة.
قوله: [(قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده)].
يعني: يعدها بأصابعه يكبر ويسبح ويهلل حتى يعرف العدد.(575/15)
تراجم رجال إسناد حديث عبد الله بن عمرو (خصلتان لا يحافظ عليها مسلم إلا دخل الجنة)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عطاء بن السائب].
حفص بن عمر وشعبة مر ذكرهما.
وعطاء بن السائب صدوق اختلط، وشعبة ممن روى عنه قبل الاختلاط، فسماعه صحيح فيكون حديثه عنه صحيحاً، وهو صدوق أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو السائب وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عمرو].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(575/16)
شرح حديث (أصاب رسول الله سبياً فذهبت أنا وأختي فاطمة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب حدثني عياش بن عقبة الحضرمي عن الفضل بن حسن الضمري أن ابن أم الحكم أو ضباعة ابنتي الزبير حدثه عن إحداهما أنها قالت: (أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبياً، فذهبت أنا وأختي فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشكونا إليه ما نحن فيه، وسألناه أن يأمر لنا بشيء من السبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سبقكن يتامى بدر، ثم ذكر قصة التسبيح قال: على إثر كل صلاة لم يذكر النوم)].
أورد أبو داود حديث أم الحكم أو ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ابنتي عم النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث سبق أن مر عن واحدة منهما، وليس فيه ذكر الواسطة الذي هو الابن الذي يروي عنهما، بل الفضل بن حسن الضمري روى عنهما مباشرة وبدون واسطة، وقد ذهبن الثلاث إلى النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم؛ لأنه جاء في بعض الروايات: (أنا وأختي وفاطمة) فيكون اللائي ذهبن هي وأختها وفاطمة، وفي بعض الروايات سقطت الواو بين أختي وبين فاطمة، فكأنهما اثنتان وتكون أختها في الإسلام، ولكن الذي جاء بواو العطف يكون فيه أن الثلاث ذهبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته وابنتا عمه، وكلهن من بني هاشم من أهل البيت.
والرسول صلى الله عليه وسلم جاءه سبي فجئن يطلبن منه، فقال صلى الله عليه وسلم: (سبقكن يتامى بدر) يعني: الذين فقدوا آباءهم في بدر، وهم أحق بأن يعطوا وأن يكون لهم النصيب في ذلك ولم يعطهن شيئاً.
وذكر مسألة التسبيح دبر الصلاة ولم يذكر التسبيح عند النوم، وهو محل الشاهد في باب التسبيح عند النوم، والحديث صحيح.
وكونه قال: (على إثر كل صلاة) لا يقال له: شاذ؛ لأنه ثبت في حديث عبد الله بن عمرو وهذا الحديث سبق أن مر في كتاب الخراج عن أم الحكم وضباعة وفيه: أنها وأختها وفاطمة وفيه ذكر الواو وليس فيه ذكر الواسطة الذي هو الابن، والابن مجهول لا يعرف، وأما بقية الإسناد فلا بأس بهم فهو ثابت، ولكن لا أدري لفظه هناك فيما يتعلق بالتسبيح عند النوم هل هو موجود أو غير موجود.
وأنا ذكرت فضل أهل البيت وعلو مكانتهم وذكرت جملة من أهل البيت من النساء والرجال، وذكرت أم الحكم وضباعة، وأشرت إلى ذلك عند شرح الحديث الذي في كتاب الخراج عند أبي داود الذي فيه ذكرهما، وأنهما صحابيتان وأنهما من بنات عم الرسول صلى الله عليه وسلم ومن نساء أهل البيت.(575/17)
تراجم رجال إسناد حديث (أصاب رسول الله سبياً فذهبت أنا وأختي فاطمة)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عبد الله بن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عياش بن عقبة الحضرمي].
عياش بن عقبة الحضرمي وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن الفضل بن حسن الضمري].
الفضل بن الحسن الضمري وهو صدوق، أخرج له أبو داود.
[أن ابن أم الحكم].
لا يعرف، أخرج له أبو داود.
[أم الحكم وضباعة].
أم الحكم صحابية، أخرج لها أبو داود.
وضباعة أخرج لها أبو داود والنسائي وابن ماجة.
وضباعة بنت الزبير هي صاحبة حديث الاشتراط في الحج وفيه: (أنها جاءت إلى رسول الله وقالت: إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني).(575/18)
الأسئلة(575/19)
الجمع بين الروايات الواردة في حديث سؤال فاطمة خادماً من أبيها
السؤال
في بعض الروايات المتقدمة أن فاطمة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجده فرجعت، وفي الرواية الأخيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبهن بقوله: (سبقكن يتامى بدر) فهل هناك تعارض بين الروايات؟
الجواب
لا يوجد تناف بينهما؛ لأنه هنا ذكر من هو الأولى، وأرشد إلى السبب، وهناك أرشد إلى العوض وما يقوم مقام الخادم.(575/20)
أهمية المحافظة على الأذكار بعد الصلاة المفروضة
السؤال
هل القيام بعد أداء الصلاة قبل الإتيان بأذكار ما بعد الصلاة من خوارم المروءة خاصة لطلاب العلم، فنرجو نصيحة من فضيلتك في المحافظة على الذكر دبر الصلوات، ومجاهدة النفس على ذلك؟
الجواب
لا شك أنه لا يليق بالإنسان أن يقوم بسرعة بعد الصلوات من غير ضرورة تلجئ إلى ذلك، أما إذا كان مضطراً إلى ذلك فهذا شيء آخر، وأما إذا لم تكن هناك ضرورة فعليه أن يتريث وأن يذكر الله عز وجل وألا يستعجل؛ لأنه يشوش على الناس ويفوت على نفسه ذلك الخير الكثير.
وطلاب العلم لا شك أنهم أولى من غيرهم؛ لأنهم هم الذين يتعلمون ويعرفون الأحكام الشرعية ويقفون عليها ويطلعون عليها، فالمسئولية عليهم أعظم من المسئولية على غيرهم من العوام الذين ليسوا من أهل التفقه والعلم، ومعلوم أن المتعلم عنده ما ليس عند غير المتعلم؛ ولهذا كان المطلوب منه أعظم وأكثر مما يطلب من غير المتعلم.
وإذا رأينا الرجل يقوم بعد صلاة الفريضة مباشرة ولا يذكر الأذكار لا نقول: إن هذا من تأثير الشيطان عليه؛ لأنه شغله عن الذكر بعد الصلاة؛ لأنه قد يكون مضطراً، وقد يذكر الله عز وجل وهو يمشي إذا كان مضطراً، ولكن الشأن فيما إذا لم تكن هناك ضرورة، وأما كون الإنسان مضطراً فإن له أن يقطع الصلاة إذا احتاج إلى قطعها.(575/21)
وجه كون التسبيح والتحميد والتكبير دبر الصلاة عشراً من أذكار الصلاة
السؤال
هل التسبيح والتحميد والتكبير دبر الصلاة عشراً عشراً هو غير التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثاً وثلاثين وتمام المائة لا إله إلا الله؟
الجواب
الذي يبدو أن هذا منه، وأن هذه من الصيغ التي تأتي بعد الصلاة، ولكن كما هو معلوم الإتيان بما هو أتم وبما هو أكمل أولى.(575/22)
معنى قوله (فأستأذن على ربي في داره)
السؤال
جاء عند البخاري تحت باب قوله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] حديث أنس وفيه: (ثم أعود الثالثة فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه) فما المقصود بقوله: في داره؟
الجواب
الذي يبدو أن المقصود به الجنة، وأن الإنسان في الجنة يكون في دار الله عز وجل، وهي دار الكرامة، وليس معنى ذلك أن الله عز وجل يحويه شيء.(575/23)
بيان محل النفث عند قراءة المعوذتين عند النوم
السؤال
ذكرتم حفظكم الله أن النفث بعد القراءة عند النوم، وقد جاء عند البخاري في كتاب فضائل القرآن: (جمع كفيه فنفث فيهما ثم قرأ المعوذات) فثم تفيد الترتيب، ألا يقال: ينفث ثم يقرأ؛ لأن هذا ظاهر الرواية؟
الجواب
يبدو والله أعلم أن هناك نفثاً متكرراً وأنه ليس مرة واحدة، المهم أن يوجد النفث والقراءة، ويمكن أن النفث متكرر، وأنه يكون قبل القراءة وبعدها.(575/24)
شرح سنن أبي داود [576]
هناك أحاديث كثيرة في أذكار الصباح والمساء وفيها الثناء والتعظيم والتنزيه لله سبحانه وتعالى، وسؤاله الخير والتعوذ به من الشر، وينبغي للمسلم أن يحافظ عليها؛ أداءً للشكر الواجب علينا لله، وكذلك لما يترتب عليها من أجور كثيرة، منها: العتق من النار، ومغفرة الذنوب، ورفع الدرجات، والدخول في رحمة الله وعفوه، فضلاً عن أنها حروز للمؤمن تقية المصائب الدنيوية وشرور الخلق.(576/1)
أذكار الصباح والمساء(576/2)
شرح حديث (أن أبا بكر قال: يا رسول الله مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يقول إذا أصبح.
حدثنا مسدد حدثنا هشيم عن يعلى بن عطاء عن عمرو بن عاصم عن أبي هريرة: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت، قال: قل: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، قال: قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب ما يقول إذا أصبح] يعني: وكذلك إذا أمسى.
وقد أورد أبو داود جملة من الأحاديث التي تشتمل على الأدعية التي تتعلق بهذه الترجمة، وأولها حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت، قال: قل: اللهم فاطر السماوات والأرض) يعني: خالقهما وموجدهما.
قوله: [(عالم الغيب والشهادة)] أي: العالم بكل شيء مما يشاهده الناس ومما هو غائب عنهم، فالله تعالى عالم به لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء سبحانه وتعالى.
قوله: [(رب كل شيء ومليكه)] أي: هو الخالق المربي ذو النعم، الموجد للخلق المالك لكل شيء، المتصرف في كل شيء، الذي بيده ملكوت كل شيء، وكل هذا ثناء على الله عز وجل وتمهيد للدعاء الذي يدعو به الإنسان.
قوله: [(أشهد أن لا إله إلا أنت)] وهذه الشهادة لله بالوحدانية والشهادة له بالألوهية، وأنه الإله الواحد الذي لا شريك له، كما أنه لا شريك له في الخلق فلا شريك له في العبادة، وكما أنه المتفرد بالخلق والإيجاد فهو الذي يجب أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له.
قوله: [(أعوذ بك من شر نفسي)] يعني: أن يتعوذ الإنسان بالله من شر نفسه الأمارة بالسوء إلا ما رحم الله، فهو يسأله العافية والسلامة من شر نفسه.
قوله: [(ومن شر الشيطان)] أي: من شر الشيطان الذي هو عدو الإنسان؛ لأنه آلى على نفسه والتزم بأن يغوي الناس وأن يجتهد في إغوائهم وإخراجهم من النور إلى الظلمات.
قوله: [(وشركه)] يعني: ما يدعو إليه من الشرك الذي هو أظلم الظلم وأبطل الباطل، والذي صاحبه يكون خالداً مخلداً في النار، وأقصى ما يريده الشيطان أن يخرج المرء من الإسلام إلى الشرك وإلى الكفر؛ حتى يكون معه في نار جهنم وحتى يكون من الخالدين الباقين فيها إلى ما لا نهاية؛ لأن الشرك هو أعظم ذنب وهو الذي لا يغفر، وهو الذي يخلد صاحبه في النار ولا سبيل له إلى دخول الجنة، بخلاف الذنوب الأخرى فإنها تحت مشيئة الله عز وجل إن شاء عفا عن صاحبها، وإن شاء عذبه ثم أخرجه منها وأدخله الجنة.
وجاء في بعض الروايات: (ومن شر الشيطان وشركه وحبائله).
قوله: (قال: قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك)].
يعني: تقال في ثلاثة أحوال: في الصباح، وفي المساء، وعند النوم.(576/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أن أبا بكر قال: يا رسول الله مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يعلى بن عطاء].
يعلى بن عطاء وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن عاصم].
وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(576/4)
شرح حديث (أن النبي كان يقول إذا أصبح: اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أنه كان يقول إذا أصبح: اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور، وإذا أمسى قال: اللهم بك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة وهو من أدعية الصباح والمساء: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أصبح قال: اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور).
أي: أن إصباحنا وإمساءنا بقدرتك وبمشيئتك وإرادتك، فأنت الذي شئت أن تحصل لنا الحياة ثم يحصل لنا الموت، سواء كان الموت الذي به مفارقة الحياة مطلقاً، أو النوم الذي تكون به مفارقة الروح مفارقة نسبية، فهو يقال له وفاة، ويقال له موت، وقد جاء في الحديث: (النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون).
قوله: [(وإليك النشور)] أي: بعث الناس من قبورهم وذهابهم للمحشر ومجازاتهم على أعمالهم، وهذه هي النهاية التي ينتهي إليها الناس؛ لأنه لا بد من الموت، ولا بد من البعث بعد الموت وهو النشور، ثم الحساب والمجازاة على أعمالنا إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
وجاء في بعض الروايات: (وإليك المصير) لكن المشهور (وإليك النشور).(576/5)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي كان يقول إذا أصبح: اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا وهيب].
هو وهيب بن خالد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سهيل].
هو سهيل بن أبي صالح وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وروايته في البخاري مقرونة.
[عن أبيه].
هو أبو صالح ذكوان السمان ويقال: الزيات وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة رضي الله عنه وقد مر ذكره.(576/6)
شرح حديث (من قال حين يصبح أو يمسي: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا محمد بن أبي فديك أخبرني عبد الرحمن بن عبد المجيد عن هشام بن الغاز بن ربيعة عن مكحول الدمشقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (من قال حين يصبح أو يمسي: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك، أنك أنت الله لا إله إلا أنت وأن محمداً عبدك ورسولك؛ أعتق الله ربعه من النار، فمن قالها مرتين أعتق الله نصفه، ومن قالها ثلاثاً أعتق الله ثلاثة أرباعه، فإن قالها أربعاً أعتقه الله من النار)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يصبح أو يمسي: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت، وأن محمداً عبدك ورسولك أعتق الله ربعه من النار، وإن قالها أربعاً يعتق الله جميعه من النار).
وهذا ثناء على الله عز وجل وتعظيم له سبحانه وتعالى؛ لأن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه، ويشهد المرء هؤلاء الخلق أنه معترف بهذا الشيء وأنه مقر بهذا الشيء، وأنه معظم لله عز وجل، فهو ثناء من العبد على ربه سبحانه وتعالى.
والحديث ضعفه الألباني لأن في إسناده مجهولاً، وفيه مكحول وهو مدلس ويرسل، لكنه جاء من طريق أخرى يمكن أن يحسن بها، فإذا انضم إليه الطريق الآخر يكون الحديث مقبولاً.(576/7)
تراجم رجال إسناد حديث (من قال حين يصبح أو يمسي: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا محمد بن أبي فديك].
محمد بن أبي فديك وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عبد الرحمن بن عبد المجيد].
هو عبد الرحمن بن عبد المجيد السهمي مجهول من السابعة، أخرج له أبو داود.
[عن هشام بن الغاز بن ربيعة].
هشام بن الغاز بن ربيعة هو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن مكحول].
هو مكحول الشامي وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(576/8)
شرح حديث (من قال حين يصبح أو حين يمسي: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا الوليد بن ثعلبة الطائي عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (من قال حين يصبح أو حين يمسي: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء بنعمتك وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فمات من يومه أو من ليلته دخل الجنة)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه في هذا الدعاء الذي هو سيد الاستغفار، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يصبح أو حين يمسي: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك).
هذا كله تعظيم لله عز وجل وإقرار بربوبيته وأنه رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق الرازق المتصرف في الكون الذي بيده ملكوت كل شيء.
قوله: [(وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت)].
يعني: أنني ملتزم بأن أقوم بما عاهدتك عليه ووعدت أن أفعله من الاستقامة والالتزام بما أمرت به، وذلك حسب الاستطاعة.
والعهد والوعد يرجع إلى فعل الإنسان وإلى وما هو مطلوب من الإنسان؛ لأنه عاهد الله عليه وواعد الله تعالى أن يقوم به.
قوله: [(أبوء لك بنعمتك وأبوء بذنبي)] يعني: أنني متقلب في نعمتك وظافر بنعمتك التي أنعمت بها علي وأنا معترف بها ومقر بها شاكر لك عليها، وأبوء بذنبي الذي اقترفته، وأنا نادم عليه وتائب منه وراجع عنه.
قوله: [(فاغفر لي)].
هذا هو المقصود وما قبله كله تمهيد، وهكذا نجد أن الأدعية النبوية تسبق بثناء على الله عز وجل وتمجيده وتعظيمه، وهو من أسباب قبول الدعاء.
فهذا الاعتراف بفضل الله عز وجل وتعظيمه وتمجيده المقصود منه الوصول إلى هذه الغاية، وهي أن يغفر الله له.
قوله: [(إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)] يعني: فأنت الذي بيدك كل شيء وأنت الذي تغفر الذنوب، وأنت الذي يتوكل عليك ويعول عليك في كل شيء.
قوله: [(فمات من يومه أو من ليلته دخل الجنة)].
يعني: إذا قال هذه الكلمة في الصباح أو في المساء فإنه يدخل الجنة؛ بسبب هذا الدعاء العظيم الذي دعا الله عز وجل به.(576/9)
تراجم رجال إسناد حديث (من قال حين يصبح أو حين يمسي: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
هو أحمد بن عبد الله بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الوليد بن ثعلبة الطائي].
الوليد بن ثعلبة الطائي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن ابن بريدة].
هو عبد الله بن بريدة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(576/10)
شرح حديث (أن النبي كان يقول إذا أمسى: أمسينا وأمسى الملك لله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية عن خالد ح وحدثنا محمد بن قدامة بن أعين حدثنا جرير عن الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم بن سويد عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقول إذا أمسى: أمسينا وأمسى الملك لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، زاد في حديث جرير: وأما زبيد كان يقول: كان إبراهيم بن سويد يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها، رب أعوذ بك من الكسل ومن سوء الكبر أو الكفر، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر، وإذا أصبح قال ذلك أيضاً: أصبحنا وأصبح الملك لله)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمسى قال: أمسينا وأمسى الملك لله).
يعني: دخلنا في المساء وأمسى الملك كله لله عز وجل، وكل ما في الكون فهو لله عز وجل مالكه والمتصرف فيه، وهو دائماً وأبداً في قبضته وتحت تصرفه سبحانه وتعالى، ونحن من جملة الملك؛ لأن لله ملك السماوات وما فيهما وما بينهما.
قوله: [(لا إله إلا الله وحده لا شريك له)].
وهذا تعظيم لله عز وجل وإقرار له بالألوهية، وأنه إله كل شيء ومليكه.
ولا إله إلا الله نفي وإثبات، ووحده لا شريك له نفي وإثبات؛ إلا أن الإثبات في الثاني قدم والنفي أخر، فقوله: [(وحده لا شريك له)] مثل قوله: [(لا إله إلا الله)].
قوله: [(رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها)].
يعني: كل ما في هذه الليلة من خير أسألك إياه، وأعوذ بك من شر هذه الليلة وما بعدها.
قوله: [(أعوذ بك من الكسل)] يعني: أعوذ بك من الخمول والفتور والكسل في الطاعة الذي يحصل عنه عدم القيام بها كما ينبغي.
قوله: [(وسوء الكبر)] الذي هو الهرم، بحيث يرد الإنسان إلى أرذل العمر.
قوله: [(أو الكفر)] هذا شك من الراوي.
قوله: [(رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر)].
يعني: يستعيذ بالله عز وجل من عذاب القبر وعذاب البرزخ ومن عذاب النار، ومعلوم أن عذاب البرزخ هو من عذاب النار إلا أن ما يكون بعد البرزخ أشد، كما قال الله عز وجل عن آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] يعني: أنهم في البرزخ معذبون بعذاب النار، وعندما يحصل البعث والنشور ينتقلون إلى عذاب النار الذي هو أشد من هذا الذي حصلوه في قبورهم من عذاب النار والعياذ بالله.
قوله: [(وإذا أصبح قال مثل ذلك)] يعني: هذا من أدعية الصباح والمساء.(576/11)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي كان يقول إذا أمسى: أمسينا وأمسى الملك لله)
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
هو وهب بن بقية الواسطي ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن خالد].
هو خالد بن عبد الله الواسطي الطحان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا محمد بن قدامة بن أعين].
ح وهو التحول من إسناد إلى إسناد ومحمد بن قدامة بن أعين ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن بن عبيد الله].
الحسن بن عبيد الله وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن إبراهيم بن سويد].
إبراهيم بن سويد وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن يزيد].
هو عبد الرحمن بن يزيد النخعي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله].
هو عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه الصحابي الجليل، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[زاد في حديث جرير: وأما زبيد كان يقول: كان إبراهيم بن سويد].
هو زبيد اليامي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(576/12)
طريق أخرى لحديث ابن مسعود وترجمة رجال إسنادها
[قال أبو داود: رواه شعبة عن سلمة بن كهيل عن إبراهيم بن سويد قال: (من سوء الكبر)، ولم يذكر سوء الكفر].
أورد الحديث من طريق أخرى، وشعبة بن الحجاج الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سلمة بن كهيل].
سلمة بن كهيل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم بن سويد].
إبراهيم بن سويد وقد مر ذكره، ولم يذكر الكفر.(576/13)
شرح حديث (من قال إذا أصبح وإذا أمسى: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن أبي عقيل عن سابق بن ناجية عن أبي سلام أنه كان في مسجد حمص فمر به رجل فقالوا: هذا خدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقام إليه فقال: حدثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يتداوله بينك وبينه الرجال، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من قال إذا أصبح وإذا أمسى: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، إلا كان حقاً على الله أن يرضيه)].
أورد أبو داود حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من قال إذا أصبح وإذا أمسى: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، إلا كان حقاً على الله أن يرضيه).
وهذا مشتمل على ثلاثة أمور: الرضا بالله في ربوبيته وبدين الإسلام وبنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وهذه الأمور الثلاثة هي التي يسأل عنها في القبر؛ لأن الإنسان في القبر يسأل عن ربه ودينه ونبيه، وقد جاء هذا الدعاء في أدعية الصباح والمساء، وجاء أيضاً عند الأذان، بل جاء أيضاً مطلقاً كما في صحيح مسلم من حديث العباس: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً).
وهذه الأمور الثلاثة هي التي بنى عليها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كتابه الأصول الثلاثة؛ لأن الأصول الثلاثة هي هذه الأمور الثلاثة، وهي معرفة العبد ربه ودينه ونبيه، والكتاب وجيز مفيد لا يستغني عامي ولا طالب علم عنه؛ لأنه وضح فيه هذه الأمور التي هي محل السؤال في القبر.(576/14)
تراجم رجال إسناد حديث (من قال إذا أصبح وإذا أمسى: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
هو حفص بن عمر النمري وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
شعبة مر ذكره.
[عن أبي عقيل].
هو هاشم بن بلال ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن سابق بن ناجية].
سابق بن ناجية مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي سلام].
هو ممطور الحبشي وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن رجل خدم النبي صلى الله عليه وسلم].
والحديث في إسناده هذا المقبول، ولكنه جاء من طريق أخرى، فيكون حسناً.(576/15)
شرح حديث (من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا يحيى بن حسان وإسماعيل قالا: حدثنا سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الله بن عنبسة عن عبد الله بن غنام البياضي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر يومه، ومن قال مثل ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن غنام البياضي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر يومه، ومن قال ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته) يعني: اعترف بأن كل نعمة من الله عز وجل، وهذا كما قال عز وجل: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] وقال سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، وفي دعاء التلبية: (إن الحمد والنعمة لك والملك)، فهو صاحب النعم، وهو مستحق للحمد والشكر سبحانه وتعالى، والعباد إذا حصل منهم إحسان فإنما هو من الله سبحانه وتعالى، لأنه هو الذي ساق ذلك بسببهم وجعلهم واسطة، ولو لم يشأ ذلك ولم يقدره لما حصل، فكل نعمة تصل إلى العبد سواء كانت بسبب مباشر من بعض الناس أو ليست بسبب فإنها ترجع إلى الله عز وجل، فهو المتفضل بها وهو الذي سخر من كان سبباً لأن تحصل منه هذه النعمة، ولو شاء لمنعه ولم يجعله يقدم على هذا الإحسان أو على إسداء هذه النعمة وبذل هذه النعمة.
فإذاً: يرجع الأمر كله إلى الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا جاء في حديث وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).(576/16)
تراجم رجال إسناد حديث (من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح مر ذكره.
[حدثنا يحيى بن حسان].
يحيى بن حسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[وإسماعيل].
هو إسماعيل بن أبي أويس، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا سليمان بن بلال].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عنبسة].
وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن عبد الله بن غنام البياضي].
عبد الله بن غنام البياضي وهو صحابي، أخرج له أبو داود والنسائي.(576/17)
شرح حديث (لم يكن رسول الله يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: اللهم إني أسألك العافية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن موسى البلخي حدثنا وكيع ح وحدثنا عثمان بن أبي شيبة المعنى حدثنا ابن نمير قالا: حدثنا عبادة بن مسلم الفزاري عن جبير بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (لم يكن رسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عورتي، وقال عثمان: عوراتي وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي).
قال أبو داود: قال وكيع: يعني الخسف].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع حين يمسي ويصبح أن يقول هذه الكلمات: (اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة).
يعني: السلامة من كل شر في الدنيا والآخرة، وسؤال العافية في الدنيا والآخرة والسلامة من كل شر هذا من الأدعية الجامعة.
قوله: [(اللهم استر عورتي وقال عثمان: عوراتي)].
يعني: أحد الشيخين ذكرها بالإفراد والثاني ذكرها بالجمع، والعورة تشمل الحسية وغيرها.
قوله: [(وآمن روعاتي)].
يعني: ما يحصل من رعب وخوف، فيكون آمناً.
قوله: [(اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي)].
يسأل الله عز وجل أن يحفظه من جميع الجهات: من أمامه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه، ثم قال: (وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي) ثم قال: وقال وكيع: أي الخسف، يعني: يعوذ بعظمة الله أن يحصل له الخسف، فهو يسأل الله عز وجل أن يحفظه من جميع الجهات ألا يأتيه بلاء وشر.(576/18)
تراجم رجال إسناد حديث (لم يكن رسول الله يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: اللهم إني أسألك العافية)
قوله: [حدثنا يحيى بن موسى البلخي].
يحيى بن موسى البلخي هو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا ابن نمير].
هو عبد الله بن نمير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبادة بن مسلم الفزاري].
عبادة بن مسلم الفزاري وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.
[عن جبير بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم].
وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[سمعت ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.(576/19)
شرح حديث (أن النبي كان يعلم ابنته فيقول قولي حين تصبحين: سبحان الله وبحمده لا قوة إلا بالله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو أن سالماً الفراء حدثه أن عبد الحميد مولى بني هاشم حدثه أن أمه حدثته وكانت تخدم بعض بنات النبي صلى الله عليه وسلم، أن ابنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حدثتها: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يعلمها فيقول: قولي حين تصبحين: سبحان الله وبحمده لا قوة إلا بالله، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، أعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً؛ فإنه من قالهن حين يصبح حفظ حتى يمسي، ومن قالهن حين يمسي حفظ حتى يصبح)].
أورد أبو داود حديث إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلمها فيقول: (قولي حين تصبحين: سبحان الله وبحمده) فجمع بين التنزيه والتعظيم، أي: تنزيه الله عز وجل عما لا يليق به وإضافة ما يليق به، فالأول تنزيه والثاني ثناء وتعظيم.
قوله: [(لا قوة إلا بالله)].
يعني: لا قوة لأحد إلا بتمكين الله عز وجل وإقداره له، وإلا فإنه بدون ذلك لا يستطيع؛ لأن كل شيء من عند الله سبحانه وتعالى.
قوله: [(ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن)] يعني: كل ما شاء الله أن يكون فإنه لابد أن يكون، وكل ما لم يشأ الله أن يكون فإنه لا يمكن أن يكون، وهاتان الكلمتان ينبني عليهما باب الإيمان بالقضاء والقدر؛ لأنه مبني على أن كل شيء مقدر لابد من أن يوجد، وكل شيء غير مقدر لا يمكن أن يوجد، وعليه يدل الحديث: (واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك)، يعني: ما قدره الله أن يكون لا يمكن أن يتخلف، والشيء الذي قدر الله عز وجل أنه لا يكون فإنه لا يمكن أن يحصل لأحد؛ لأنه قدر ألا يوجد.
إذاً: هاتان الكلمتان فيهما بيان القضاء والقدر، وأن كل شيء راجع إلى قضاء الله وقدره: (ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن) يقول الشاعر: فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن وقال عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] يعني: إذا أراد الإنسان شيئاً ولم يرده الله عز وجل فإنه لا يكون، وما أراده الله عز وجل لابد من أن يكون سواء أراده الإنسان أو لم يرده.
قوله: [(أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً)].
فيه الثناء على الله عز وجل بعموم قدرته وعموم علمه، فهو على كل شيء قدير لا يعجزه شيء، وهو عالم بكل شيء لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهذا هو الذي ختمت به سورة الطلاق: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12].(576/20)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي كان يعلم ابنته فيقول قولي حين تصبحين: سبحان الله وبحمده لا قوة إلا بالله)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب].
عبد الله بن وهب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عمرو].
هو عمرو بن الحارث المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن سالماً الفراء].
سالم الفراء مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة.
[أن عبد الحميد مولى بني هاشم].
عبد الحميد مولى بني هاشم مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أن أمه].
أمه مقبولة أخرج لها أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة.
[عن بعض بنات النبي صلى الله عليه وسلم].
والحديث فيه هؤلاء الثلاثة المقبولون.(576/21)
شرح حديث (من قال حين يصبح فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني قال: أخبرنا ح وحدثنا الربيع بن سليمان قال: حدثنا ابن وهب أخبرني الليث عن سعيد بن بشير النجاري عن محمد بن عبد الرحمن البيلماني قال الربيع: ابن البيلماني عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قال حين يصبح: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) [الروم:17 - 18] إلى: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم:19] أدرك ما فاته في يومه ذلك، ومن قالهن حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته) قال الربيع: عن الليث].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يصبح: ((فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ)) [الروم:17] إلى قوله: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم:19] أدرك ما فاته في يومه ذلك، ومن قالهن حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته) ولكن الحديث غير صحيح؛ لأن في إسناده من هو متكلم فيه.(576/22)
تراجم رجال إسناد حديث (من قال حين يصبح فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون)
قوله: [حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني].
أحمد بن سعيد الهمداني صدوق، أخرج له أبو داود.
[قال: أخبرنا، ح وحدثنا الربيع بن سليمان قال: حدثنا].
يعني: ذكر التحويل بعد الصيغة للإشارة إلى أن الفرق بين الشيخين أن واحداً عبر بأخبرنا والثاني عبر بحدثنا، والربيع بن سليمان ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[حدثنا ابن وهب أخبرني الليث].
ابن وهب مر ذكره، والليث هو ابن سعد المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن بشير النجاري].
سعيد بن بشير النجاري مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن محمد بن عبد الرحمن البيلماني].
وهو ضعيف، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن أبيه].
أيضاً وهو ضعيف، أخرج له أصحاب السنن.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة المشهورين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.(576/23)
شرح حديث (من قال إذا أصبح لا إله إلا الله وحده لا شريك له)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد ووهيب نحوه عن سهيل عن أبيه عن ابن أبي عائش وقال حماد: عن أبي عياش رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قال إذا أصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كان له عدل رقبة من ولد إسماعيل، وكتب له عشر حسنات وحط عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات، وكان في حرز من الشيطان حتى يمسي، وإن قالها إذا أمسى كان له مثل ذلك حتى يصبح).
أورد أبو داود حديث ابن أبي عائش أو أبي عياش وهو صحابي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال إذا أصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كان له عدل رقبة من ولد إسماعيل، وكتب له عشر حسنات وحط عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات، وكان في حرز من الشيطان حتى يمسي، وإن قالها إذا أمسى كان له مثل ذلك حتى يصبح)، وهذا يدل على فضل هذا الدعاء وعظم شأنه، ومع وجازته فيه هذا الثواب العظيم الذي يعادل إعتاق رقبة من ولد إسماعيل، وأنه يرفع له عشر درجات ويحط عنه عشر خطيئات، فهذا كلام يسير وعمل يسير ولكن ثوابه جزيل وعظيم عند الله سبحانه وتعالى.(576/24)
تراجم رجال إسناد حديث (من قال إذا أصبح لا إله إلا الله وحده لا شريك له)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد].
موسى بن إسماعيل مر ذكره، وحماد هو ابن سلمة بن دينار البصري ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[ووهيب].
وهيب مر ذكره.
[نحوه عن سهيل].
يعني: نحو حديث حماد.
وسهيل هو سهيل بن أبي صالح مر ذكره.
[عن أبيه عن ابن أبي عائش وقال حماد: عن أبي عياش].
أبو عياش صحابي، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.(576/25)
حكم التعويل على الرؤيا في إثبات الأحكام الشرعية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال في حديث حماد: فرأى رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرى النائم، فقال: يا رسول الله! إن أبا عياش يحدث عنك بكذا وكذا، قال: صدق أبو عياش].
يعني: هذه الرؤيا مطابقة لشيء ثابت بالإسناد، والأصل أن لا يعول على ما يأتي من طريق الرؤى، ولكن هذا مطابق لشيء ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما إذا ادعى أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قال له: افعل كذا، أو قال له عن شيء لا يعرف له أساس في السنة ولا يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فإنه لا يعول عليه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما فارق الحياة الدنيا إلا وقد أكمل الله به الدين وأتم على الأمة النعمة، كما قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].(576/26)
طريق ثانية لحديث (من قال إذا أصبح لا إله إلا الله وحده لا شريك له) وتراجم رجالها
[قال أبو داود: رواه إسماعيل بن جعفر وموسى الزمعي وعبد الله بن جعفر عن سهيل عن أبيه عن ابن عائش].
قوله: [رواه إسماعيل بن جعفر].
إسماعيل بن جعفر هو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وموسى الزمعي].
موسى الزمعي صدوق سيئ الحفظ، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.
[وعبد الله بن جعفر].
عبد الله بن جعفر ضعيف، أخرج له الترمذي وابن ماجة.
ولم يذكر أن أبا داود خرج لـ ابن جعفر؛ لأنه ما أتى به في المتصلات وإنما أتى به المعلقات.
[عن سهيل عن أبيه عن ابن عائش] مر ذكرهم.(576/27)
شرح حديث (من قال حين يصبح اللهم إني أصبحت) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعال: [حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا بقية عن مسلم -يعني: ابن زياد - قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال حين يصبح: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك، إلا غفر له ما أصاب في يومه ذلك من ذنب، وإن قال حين يمسي غفر له ما أصاب تلك الليلة)].
تقدم هذا الحديث بمعناه.
قوله: [حدثنا عمرو بن عثمان].
هو عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير الحمصي وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا بقية].
هو بقية بن الوليد وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن مسلم -يعني: ابن زياد -].
مسلم بن زياد وهو مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي.
[سمعت أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.(576/28)
شرح حديث (إذا انصرفت من صلاة المغرب فقل اللهم أجرني من النار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النضر الدمشقي حدثنا محمد بن شعيب أخبرني أبو سعيد الفلسطيني عبد الرحمن بن حسان عن الحارث بن مسلم أنه أخبره عن أبيه مسلم بن الحارث التميمي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه أسر إليه فقال: (إذا انصرفت من صلاة المغرب فقل: اللهم أجرني من النار سبع مرات؛ فإنك إذا قلت ذلك ثم مت في ليلتك كتب لك جوار منها، وإذا صليت الصبح فقل كذلك؛ فإنك إن مت في يومك كتب لك جوار منها) أخبرني أبو سعيد عن الحارث أنه قال: أسرها إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنحن نخص بها إخواننا].
أورد أبو داود حديث مسلم بن الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا انصرفت من صلاة المغرب فقل: اللهم أجرني من النار سبع مرات؛ فإنك إذا قلت ذلك ثم مت في ليلتك كتب لك جوار من النار، وإذا صليت الصبح فقل كذلك؛ فإنك إن مت في يومك كتب لك جوار منها) وهذا يتعلق بالصباح والمساء، لأنه بعد صلاة المغرب وبعد صلاة الفجر، ولكن الحديث في إسناده هذا الرجل الذي يروي عن أبيه وهو غير معروف، والجهالة في الصحابي لا تؤثر ولكن الجهالة فيمن دونه تؤثر.
قوله: [أخبرني أبو سعيد عن الحارث أنه قال: أسرها إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نخص بها إخواننا].
يعني: لما حصل الإسرار بها إليهم فهم كانوا أيضاً يسرون بها، لكن الحديث في إسناده هذا الشخص المجهول.(576/29)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا انصرفت من صلاة المغرب فقل اللهم أجرني من النار)
قوله: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النضر الدمشقي].
إسحاق بن إبراهيم أبو النضر الدمشقي صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا محمد بن شعيب].
هو محمد بن شعيب بن شابور، وهو صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[أخبرني أبو سعيد الفلسطيني عبد الرحمن بن حسان].
وهو لا بأس به -بمعنى صدوق- أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن الحارث بن مسلم أنه أخبره عن أبيه مسلم بن الحارث التميمي].
الحارث بن مسلم ومسلم بن الحارث مجهولان؛ لكن الأب جهالته لا تؤثر لأنه صحابي، وأما الابن الراوي عن أبيه فالجهالة فيه تؤثر، كما قال الخطيب في كتابه الكفاية: إنه ما من راو إلا ويحتاج إلى معرفة حاله من الضعف أو الثقة ما عدا الصحابة فإن الجهالة فيهم لا تؤثر.(576/30)
شرح حديث (إذا انصرفت من المغرب فقل اللهم أجرني من النار) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن عثمان الحمصي ومؤمل بن الفضل الحراني وعلي بن سهل الرملي ومحمد بن المصفى الحمصي قالوا: حدثنا الوليد حدثنا عبد الرحمن بن حسان الكناني حدثني مسلم بن الحارث بن مسلم التميمي عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال نحوه إلى قوله: (جوار منها) إلا أنه قال فيهما: (قبل أن يكلم أحداً) قال علي بن سهل فيه: إن أباه حدثه، وقال علي وابن المصفى: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سرية، فلما بلغنا المغار استحثثت فرسي فسبقت أصحابي وتلقاني الحي بالرنين، فقلت لهم: قولوا: لا إله إلا الله وحده تحرزوا، فقالوها فلامني أصحابي وقالوا: حرمتنا الغنيمة، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبروه بالذي صنعت، فدعاني فحسَّن لي ما صنعت، وقال: أما إن الله قد كتب لك من كل إنسان منهم كذا وكذا -قال عبد الرحمن: فأنا نسيت الثواب- ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما إني سأكتب لك بالوصاة بعدي، قال: ففعل وختم عليه ودفعه إلي، وقال لي ثم ذكر معناه) وقال ابن المصفى: قال: سمعت الحارث بن مسلم بن الحارث التميمي يحدث عن أبيه].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وفيه زيادة: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فلما بلغنا المغار استحثثت فرسي فسبقت أصحابي، وتلقاني الحي بالرنين) يعني: بالأصوات والحركات.
قوله: [(فقلت لهم: قولوا لا إله إلا الله وحده تحرزوا)].
يعني: قال لهؤلاء الذين غزوهم: قولوا لا إله إلا الله تحرزوا، فقالوها.
قوله: (فلامني أصحابي وقالوا: حرمتنا الغنيمة، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه بالذي صنعت، فدعاني فحسَّن لي ما صنعت)].
يعني: قال له: أحسنت.
لأنه دعاهم للإسلام وقال لهم: قولوا لا إله إلا الله تسلموا على أنفسكم وعلى أموالكم.
قوله: (وقال: أما إن الله قد كتب لك من كل إنسان منهم كذا وكذا، قال عبد الرحمن: فأنا نسيت الثواب)].
يعني: كتب لك عن كل إنسان من هؤلاء الذين قلت لهم: (قولوا لا إله إلا الله) كذا وكذا، فالراوي نسي الثواب الذي يحصل له عن كل واحد منهم.
قوله: (ثم قال صلى الله عليه وسلم: أما إني سأكتب لك بالوصاة بعدي)].
يعني: وصية بشيء.
قوله: [(قال: ففعل وختم عليه)].
يعني: ختم على الوصية.
قوله: [(فدفعه إلي وقال لي: ثم ذكر معناه)].
يعني: ذكر حديث: (اللهم أجرني من النار) السابق.(576/31)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا انصرفت من المغرب فقل اللهم أجرني من النار) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا عمرو بن عثمان الحمصي ومؤمل بن الفضل الحراني].
مؤمل بن الفضل الحراني صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[وعلي بن سهل الرملي].
علي بن سهل الرملي صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة.
[ومحمد بن المصفى الحمصي].
محمد بن المصفى الحمصي صدوق له أوهام، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الوليد].
هو الوليد بن مسلم الدمشقي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرحمن بن حسان الكناني حدثني مسلم بن الحارث بن مسلم التميمي عن أبيه].
مر ذكرهم.(576/32)
الأسئلة(576/33)
بيان وقت الإتيان بأذكار الصباح والمساء
السؤال
هل لأذكار الصباح والمساء وقت تبدأ فيه وتنتهي فيه؟
الجواب
الصبح كما هو معلوم يبدأ من طلوع الفجر، وكونه يأتي بها بعد صلاة الفجر وقبل صلاة المغرب هو الأولى، ولكن إذا لم يأت بها قبل المغرب يأتي بها بعد المغرب، بحيث يأتي بها في أول الليل وأول النهار.(576/34)
فضل الروضة بالمسجد النبوي
السؤال
ما الذي يجب أو يستحب أن يفعله المسلم عند دخوله الروضة في المسجد النبوي؟
الجواب
الروضة جاء فيها أحاديث منها: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) وهذا الحديث يدل على تميزها على غيرها من المسجد، بأنه حصل لها هذا الوصف الذي لم يأت مثله في المسجد، وعلى هذا فإن الصلاة فيها لها ميزة وذلك بالنسبة للنافلة، أما بالنسبة للفريضة فإن الصفوف التي أمامها أفضل منها وأولى منها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها)، وقوله: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا) وقوله صلى الله عليه وسلم: (أتموا الصف الأول فالأول فتأتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال القوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله).(576/35)
وجه كون الروضة من الأماكن التي يرجى فيها إجابة الدعاء
السؤال
هل الروضة من الأماكن التي يتحرى فيها إجابة الدعاء؟
الجواب
المساجد كلها هي خير البقاع كما جاء في صحيح مسلم: (أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها) وهي محل ذكر الله عز وجل ودعائه، ولاشك أن الإنسان إذا دعا فيها يرجى أن يحقق الله له ما يريد.(576/36)
حكم صبغ الشعر بالسواد بالنسبة للفتاة
السؤال
هل يجوز صبغ الشعر بالسواد وتغييره وذلك للمرأة الشابة التي ليس عندها شيب؟
الجواب
إذا كان شعرها أسود فأي حاجة إلى الصبغ بالسواد، ثم أيضاً هذا الصبغ لا ندري عن حقيقته هل هو يغير اللون فقط أو يكون طبقة تغطي الشعر، فإذا كان فيه تغطية للشعر فهذا غير جائز، وكذلك الأحكام التي تتعلق بالشيء الظاهري في الجسد، فإذا كان عليه صبغ يغطيه فلابد من أن يزيله حتى يصل إليه الماء، إلا إذا كان الصبغ لا يغطي ولكنه يغير اللون فقط مثل الحناء إذا وضع على اليد أو في الرأس أو في الشعر فإنه لا يغطي ولكنه يغير اللون.
إذاً: فهذه الأصباغ لا أدري عن حقيقتها، وإذا كان شعرها أسود فأي حاجة إلى الصبغ بالسواد؟!(576/37)
شرح سنن أبي داود [577]
إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد علمنا أذكار الصباح والمساء، فينبغي لنا المداومة عليها؛ إحياءً للسنة، وكذلك فإن المحافظة عليها لها نتائج عظيمة منها: أنها حماية من البلاء، وسبق للخلائق في الأعمال، وكذلك فإن الله يكفي قائلها ما أهمه، وقد علمنا الرسول أيضاً أدعية تقال قبل قيام الليل، كما أن في بعض الأدعية إعلان من العبد بمتابعته التامة لما أراد الله، وإذعان لأحكام الله تعالى.(577/1)
تابع أذكار الصباح والمساء(577/2)
شرح حديث (من قال إذا أصبح وإذا أمسى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يزيد بن محمد الدمشقي حدثنا عبد الرزاق بن مسلم الدمشقي -وكان من ثقاة المسلمين من المتعبدين- قال: حدثنا مدرك بن سعد - قال يزيد: شيخ ثقة - عن يونس بن ميسرة بن حلبس عن أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (من قال إذا أصبح وإذا أمسى: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله ما أهمه؛ صادقاً كان بها أو كاذباً!)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، قال أبو الدرداء: (من قال إذا أصبح وإذا أمسى: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله ما أهمه؛ صادقاً كان بها أو كاذباً).
هذا أثر عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه ومثله لا يقال بالرأي؛ لأن تحديد هذا الأجر لهذا العدد الذي هو سبع مرات لا يقال من قبل الرأي، لكن في آخره لفظ مشكل وهو قوله: (صادقاً كان بها أو كاذباً)، فإن تحصيل هذا الأجر إنما يحصله من كان صادقاً في طلبه ومستحضراً هذا الثواب ويرجو من الله عز وجل أن يحقق له ذلك.
وأما أن يقولها وهو كاذب فهذا مشكل، وإن كان بعض العلماء فسره وقال: إنه الإنسان الذي يقول ذلك ولم يكن مستحضراً، ولكن اللفظ لاشك أنه منكر، والألباني ضعف الحديث مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنه منكر، وأما كونه موقوفاً فهذا صحيح الإسناد وليس فيه إشكال إلا ما يتعلق بهذه الجملة، والحافظ ابن كثير رحمه الله لما ذكر هذا الحديث عن أبي داود في آخر تفسير سورة التوبة عند ذكر الآية المشتملة على هذا الذكر لم يذكر في آخره: (صادقاً كان بها أو كاذباً) وإنما عزاه إلى أبي داود بدون هذه الزيادة.
فالحاصل أنه موقوفاً صحيح وله حكم الرفع، وأما هذه الزيادة ففيها إشكال، وأما كونه مسنداً ومرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاء من طريق منكرة، فيها مخالفة الضعيف للثقات، وهذا ذكره الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة عند رقم (5286).
وفي ضعيف أبي داود في الأذان قال: موضوع، وهي كلمة لاشك أنها خطأ ولعلها جاءت بدل موقوف، وإلا فإنه قال: منكر في المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الطريق المرفوع فمن نفس الطريق إلا أن فيه شخصاً تحت الفلسطيني هذا.
وقد جاء في عمل اليوم والليلة لـ ابن السني يقول: حدثني أحمد بن سليمان الجرمي حدثنا أحمد بن عبد الرزاق حدثني جدي عبد الرزاق بن مسلم الدمشقي عن مدرك بن سعد عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال في كل يوم حين يصبح وحين يمسي: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات، كفاه الله عز وجل ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة).
وهذا الإسناد المرفوع فيه هذا الرجل الضعيف الذي خالف الثقات وهو أحمد بن عبد الرزاق.(577/3)
تراجم رجال إسناد حديث (من قال إذا أصبح وإذا أمسى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت)
قوله: [حدثنا يزيد بن محمد الدمشقي].
يزيد بن محمد الدمشقي صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الرزاق بن مسلم الدمشقي].
عبد الرزاق بن مسلم الدمشقي وهو صدوق، أخرج له أبو داود.
[وكان من ثقات المسلمين من المتعبدين].
يعني: هذا تلميذه يزيد بن محمد وصفه بأنه ثقة.
[حدثنا مدرك بن سعد].
مدرك بن سعد وهو لا بأس به، أخرج له أبو داود.
[عن يونس بن ميسرة بن حلبس].
يونس بن ميسرة بن حلبس وهو ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أم الدرداء].
وهي هجيمة التابعية وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الدرداء].
وهو عويمر بن زيد الأنصاري رضي الله عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(577/4)
شرح حديث عبد الله بن خبيب في قراءة (قل هو الله أحد) والمعوذتين في الصباح والمساء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المصفى حدثنا ابن أبي فديك أخبرني ابن أبي ذئب عن أبي أسيد البراد عن معاذ بن عبد الله بن خبيب عن أبيه رضي الله عنه قال: (خرجنا في ليلة مطر وظلمة شديدة نطلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليصلي لنا، فأدركناه فقال: أصليتم؟ فلم أقل شيئاً، فقال: قل، فلم أقل شيئاً، ثم قال: قل.
فلم أقل شيئاً، ثم قال: قل.
فقلت: يا رسول الله ما أقول؟ قال: قل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفك من كل شيء)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن خبيب رضي الله عنه قال: (خرجنا في ليلة مطر وظلمة شديدة نطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي لنا، فأدركناه فقال: أصليتم؟ فلم أقل شيئاً، فقال: قل.
فلم أقل شيئاً، ثم قال: قل.
فلم أقل شيئاً، ثم قال: قل.
فقلت: يا رسول الله ما أقول؟ قال: قل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفك من كل شيء).
يعني: فيه قراءة هذه السور الثلاث والإتيان بها ثلاث مرات في الصباح والمساء وأنها تكفي، وفسرت الكفاية بأنها تكفي عن غيرها، وقيل: إنها تكفي من كل شر وتكفي من كل سوء.
قوله: (أصليتم؟) هذا فيه إشكال؛ لأن مثل هذا السؤال يتطلب الجواب بنعم أو لا، وهو إنما سكت، وهي موجودة بين شرطتين، وهذا يفيد أن الكلام قبلها وبعدها متصل لا إشكال فيه؛ لأنه قال: قل بدون قوله: أصليتم؟ وعلى هذا يكون هو لا يدري ماذا يقول، ولكن كونه يقول: أصليتم؟ فإن الجواب أن يقول: نعم صلينا، أو: ما صلينا، فذكرها هنا غير واضح من ناحية أنه سئل ثم سكت، ثم قال له: قل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، فيكون الكلام بدون هذه الزيادة التي بين الشرطتين مستقيماً، والمقصود أنه لا يدري ماذا يقول، فقال له: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، يعني: اقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] واقرأ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] تكفك.(577/5)
تراجم رجال إسناد حديث عبد الله بن خبيب في قراءة قل هو الله أحد والمعوذتين في الصباح والمساء
قوله: [حدثنا محمد بن المصفى].
محمد بن المصفى صدوق له أوهام، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن أبي فديك].
ابن أبي فديك صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني ابن أبي ذئب].
هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي أسيد البراد].
أبو أسيد البراد صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.
[عن معاذ بن عبد الله بن خبيب].
معاذ بن عبد الله بن خبيب صدوق ربما وهم، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه صحابي، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.(577/6)
شرح حديث (قالوا يا رسول الله حدثنا بكلمة نقولها إذا أصبحنا وإذا أمسينا واضطجعنا فأمرهم أن يقولوا اللهم فاطر السماوات والأرض)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عوف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا أبي قال ابن عوف: ورأيته في أصل إسماعيل قال: حدثني ضمضم عن شريح عن أبي مالك رضي الله عنه قال: (قالوا: يا رسول الله! حدثنا بكلمة نقولها إذا أصبحنا وإذا أمسينا واضطجعنا، فأمرهم أن يقولوا: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت رب كل شيء، والملائكة يشهدون أنك لا إله إلا أنت، فإنا نعوذ بك من شر أنفسنا ومن شر الشيطان الرجيم وشركه، وأن نقترف سوءاً على أنفسنا أو نجره إلى مسلم)].
أورد أبو داود حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم (علمنا دعاء ندعو به إذا أصبحنا وإذا أمسينا وإذا أخذنا مضاجعنا.
فقال قولوا: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت رب كل شي، والملائكة يشهدون أنك لا إله إلا أنت، فإنا نعوذ بك من شر أنفسنا، ومن شر الشيطان وشركه وأن نقترف سوءاً على أنفسنا أو نجره إلى مسلم).
وهذا دعاء جاء بعضه في حديث أبي بكر رضي الله عنه الذي تقدم في أول الباب، وهذه الزيادة: (وأن نفترق سوءاً على أنفسنا أو نجره إلى مسلم) ذكر الألباني أن لها شواهد؛ ولهذا صححها في السلسلة الصحيحة.(577/7)
تراجم رجال إسناد حديث (قالوا يا رسول الله حدثنا بكلمة نقولها إذا أصبحنا وإذا أمسينا واضطجعنا فأمرهم أن يقولوا اللهم فاطر السماوات والأرض)
قوله: [حدثنا محمد بن عوف].
محمد بن عوف هو ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي في مسند علي.
[حدثنا محمد بن إسماعيل].
هو محمد بن إسماعيل بن عياش عابوا عليه أنه حدث عن أبيه من غير سماع، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
أبوه وهو صدوق في روايته عن أهل بلده، وهذا من روايته عن أهل بلده، أخرج له البخاري في رفع اليدين، وأصحاب السنن.
[قال ابن عوف: ورأيته في أصل إسماعيل].
يعني: في أصل كتابه.
[قال: حدثني ضمضم].
هو ضمضم بن زرعة الحمصي صدوق يهم، أخرج له أبو داود وابن ماجة في التفسير.
[عن شريح].
شريح وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي مالك].
هو أبو مالك الأشعري رضي الله عنه وهو صحابي، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.(577/8)
شرح حديث (إذا أصبح أحدكم فليقل أصبحنا وأصبح الملك لله رب العالمين)
[قال أبو داود: وبهذا الإسناد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا أصبح أحدكم فليقل: أصبحنا وأصبح الملك لله رب العالمين، اللهم إني أسألك خير هذا اليوم فتحه ونصره ونوره وبركته وهداه، وأعوذ بك من شر ما فيه وشر ما بعده.
ثم إذا أمسى فليقل مثل ذلك)].
يعني: ذكر حديثاً بالإسناد السابق من أوله إلى آخره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أصبح أحدكم فليقل: أصبحنا وأصبح الملك لله رب العالمين)].
يعني: وكذلك إذا أمسى فليقل: أمسينا وأمسى الملك لله إلخ، يعني: أنا دخلنا في الصباح ودخلنا في المساء وأن كل شيء لله عز وجل، وكله تحت ملك الله وجبروته وعظمته وتصرفه.
قوله: [(اللهم إني أسألك خير هذا اليوم نصره)].
يعني: ما يحصل فيه من نصر.
قوله: (وفتحه)].
يعني: ما يفتح فيه من الخيرات.
قوله: (ونوره)].
يعني: ما يحصل فيه من نور في العلم والبصيرة.
قوله: (وبركته)].
يعني: ما يحصل فيه من بركة في الرزق.
قوله: (وهداه)].
يعني: ما يحصل فيه من هدى واستقامة وتوفيق للخير.(577/9)
شرح حديث عائشة (كان رسول الله إذا هب من الليل كبر عشراً وحمد عشراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا كثير بن عبيد حدثنا بقية بن الوليد عن عمر بن جعثم حدثنا الأزهر بن عبد الله الحرازي حدثني شريق الهوزني قال: (دخلت على عائشة رضي الله عنها فسألتها: بم كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفتتح إذا هب من الليل؟ فقالت: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، كان إذا هب من الليل كبر عشراً وحمد عشراً وقال: سبحان الله وبحمده عشراً، وقال سبحان الملك القدوس عشراً، واستغفر عشراً وهلل عشراً، ثم قال: اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة عشراً، ثم يفتتح الصلاة)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن شريقاً الهوزني سأل عائشة بم كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته من الليل؟ فقالت: (كان إذا هب من الليل كبر عشراً) أي: قال: الله أكبر عشر مرات.
قولها: [(وحمد عشراً)].
أي: قال: الحمد لله عشر مرات.
قولها: [(ثم قال: اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة)].
أي: أعوذ بك مما يحصل من ضيق وضنك في الحياة الدنيا، وكذلك ما يحصل من ضنك وضيق في الدار الآخرة.
قولها: [(ثم يفتتح الصلاة)].
أي: صلاته من الليل.
وهذا اللفظ لا يناسب الباب؛ لأنه يتعلق بباب: إذا تعار من الليل، أو إذا قام من الليل أو استيقظ من الليل من النوم.(577/10)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة (كان رسول الله إذا هب من الليل كبر عشراً وحمد عشراً)
قوله: [حدثنا كثير بن عبيد].
هو كثير بن عبيد الحمصي هو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا بقية بن الوليد].
بقية بن الوليد صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمر بن جعثم].
عمر بن جعثم وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثني الأزهر بن عبد الله الحرازي].
الأزهر بن عبد الله الحرازي وهو صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثني شريق الهوزني].
شريق الهوزني وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[قال: دخلت على عائشة].
هي عائشة رضي الله عنها.
والحديث صححه الألباني وقال: له شواهد ومتابعات.(577/11)
شرح حديث (كان رسول الله إذا كان في سفر فأسحر يقول سمع سامع بحمد الله ونعمته وحسن بلائه علينا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني سليمان بن بلال عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا كان في سفر فأسحر يقول: سمع سامع بحمد الله ونعمته وحسن بلائه علينا، اللهم صاحبنا فأفضل علينا، عائذاً بالله من النار)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فأسحر) يعني: جاء وقت السحر، مثل: أمسى يعني: دخل في المساء ومثل: أتهم وأنجد يعني: دخل في تهامة ودخل في نجد، وهكذا، فهو من هذا القبيل: أسحر أي: دخل في السحر.
قوله: [(سمع سامع)] فسر بأنه شهد شاهد، أو ليشهد شاهد بأننا نقول كذا.
قوله: (بحمد الله ونعمته وحسن بلائه علينا)].
يعني: نعترف ونقر بفضل الله عز وجل وإنعامه علينا وإحسانه إلينا.
قوله: [(اللهم صاحبنا)] يعني: كن صاحباً لنا في السفر، كما جاء في الحديث (اللهم أنت الصاحب في السفر).
قوله: (فأفضل علينا)] يعني: تفضل علينا وجد علينا بفضلك وإحسانك.
قوله: [(عائذاً بالله من النار)].
يعني: مستعيذاً بالله من النار.(577/12)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله إذا كان في سفر فأسحر يقول سمع سامع بحمد الله ونعمته وحسن بلائه علينا)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عبد الله بن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني سليمان بن بلال].
هو سليمان بن بلال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهيل بن أبي صالح].
سهيل بن أبي صالح وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وحديثه في البخاري مقرون.
[عن أبيه].
هو ذكوان السمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أكثر الصحابة حديثاً.(577/13)
شرح أثر (من قال حين يصبح اللهم ما حلفت من حلف أو قلت من قول أو نذرت من نذر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن معاذ حدثنا أبي حدثنا المسعودي حدثنا القاسم قال: كان أبو ذر رضي الله عنه يقول: من قال حين يصبح: اللهم ما حلفت من حلف أو قلت من قول أو نذرت من نذر فمشيئتك بين يدي ذلك كله، ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن، اللهم اغفر لي وتجاوز لي عنه، اللهم فمن صليت عليه فعليه صلاتي، ومن لعنت فعليه لعنتي؛ كان في استثناء يومه ذلك أو قال ذلك اليوم].
ثم أورد أبو داود أثر أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: من قال حين يصبح: اللهم ما حلفت من حلف أو قلت من قول أو نذرت من نذر فمشيئتك بين يدي ذلك كله.
يعني: أن ما أحلف عليه وما أنذره وما أقوله كل ذلك تابع لمشيئتك، ومشيئتك نافذة، وما أقوله إن شئته فإنه سيقع وإن شئت ألا يكون فإنه لا يمكن أن يكون.
قوله: [ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن].
يعني: ما سبقت مشيئة الله وإرادته وقضاؤه وقدره أنه يوجد فإنه لابد من أن يوجد، وما سبق في علم الله وقضائه أنه لا يوجد فإنه لا سبيل إلى وجوده؛ لأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكما مر بنا أن هذا وأمثاله هي مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك) يعني: ما قدره الله أن يكون لك فإنه لا يمكن أن يخطئك ولابد من أن يوجد، وما قدر أنه لا يصيبك ولا يحصل لك فإنه لا يصيبك؛ لأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
قوله: [اللهم اغفر لي وتجاوز لي عنه].
يعني: ما نذرته وما حلفت به وما قلته.
قوله: [اللهم فمن صليتَ عليه فعليه صلاتي، ومن لعنتَ فعليه لعنتي].
أي: أنا متابع لك، أصلي على من صليت عليه وألعن من لعنت، فمدحي تابع لمدحك وذمي تابع لذمك، فمن ذممتَه ذممتُه ومن مدحتَه مدحتُه.
قوله: [كان في استثناء يومه ذلك].
يعني: أنه يسلم في يومه ذلك الذي قال فيه هذا الكلام.
قوله: [أو قال ذلك اليوم].
يعني: شك الراوي هل قال: يومه ذلك، أو: ذلك اليوم.
والحديث في إسناده المسعودي، والألباني ضعفه.(577/14)
تراجم رجال إسناد أثر (من قال حين يصبح اللهم ما حلفت من حلف أو قلت من قول أو نذرت من نذر)
قوله: [حدثنا ابن معاذ].
هو: عبيد الله بن معاذ العنبري ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حثنا أبي].
هو معاذ بن معاذ العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا المسعودي].
هو عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي وهو صدوق اختلط، أخرج له البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن.
[حدثنا القاسم].
هو القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[كان أبو ذر].
هو جندب بن جنادة رضي الله عنه وهو صحابي، أخرج أحاديثه أصحاب الكتب الستة.
والحديث من ناحية الثبوت غير ثابت، ولو ثبت لكان له حكم الرفع.(577/15)
شرح حديث (من قال باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا أبو مودود عمن سمع أبان بن عثمان يقول: سمعت عثمان يعني ابن عفان يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من قال باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شىء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات، لم تصبه فجأة بلاء حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح ثلاث مرات لم تصبه فجأة بلاء حتى يمسي).
قال: فأصاب أبان بن عثمان الفالج، فجعل الرجل الذي سمع منه الحديث ينظر إليه، فقال له: ما لك تنظر إلي؟ فوالله ما كذبت على عثمان ولا كذب عثمان على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن اليوم الذي أصابني فيه ما أصابني غضبت فنسيت أن أقولها].
أورد أبو داود حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: (من قال: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات لم تصبه فجأة بلاء).
يعني: أنه لا يصيبه شر يفاجئه ويهجم عليه؛ لأنه حصل منه هذا الدعاء الذي تكون به السلامة العافية.
ثم إن أبان بن عثمان الذي حدث بهذا الحديث حصل له فالج فجعل الرجل الذي سمع منه الحديث ينظر إليه، ففهم منه أنه حدث بهذا الحديث ومع ذلك حصل له الفالج، فقال: ما كذبت على عثمان ولا كذب عثمان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنني في اليوم الذي حصلت لي هذه المصيبة غضبت فنسيت أن أقول تلك الكلمات.
والفالج لهو استرخاء في أحد شقي البدن بسبب خلط بلغمي تنسد منه مسالك الروح.(577/16)
تراجم رجال إسناد حديث (من قال باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا أبو مودود].
هو عبد العزيز بن أبي سليمان وهو مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عمن سمع أبان بن عثمان].
يقال: هو محمد بن كعب القرظي كما قال الحافظ.
وسيأتي في الإسناد الثاني.
وأبان بن عثمان ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[سمعت عثمان يعني: ابن عفان].
عثمان بن عفان رضي الله عنه أمير المؤمنين وثالث الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(577/17)
إسناد آخر لحديث (من قال باسم الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي حدثنا أنس بن عياض حدثني أبو مودود عن محمد بن كعب عن أبان بن عثمان عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
لم يذكر قصة الفالج].
ثم ذكر إسناداً آخر للحديث السابق.
قوله: [حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي].
نصر بن عاصم الأنطاكي لين الحديث، أخرج له أبو داود.
[حدثنا أنس بن عياض].
أنس بن عياض ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبو مودود عن محمد بن كعب].
هو محمد بن كعب القرظي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبان بن عثمان عن عثمان].
مر ذكرهما.
هناك إسناد آخر غير هذا الإسناد بهذا المعنى، ذكره الألباني.
وفيه أبو داود الطيالسي.(577/18)
شرح حديث (يا أبت إني أسمعك تدعو كل غداة اللهم عافني في بدني)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا العباس بن عبد العظيم ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا عبد الملك بن عمرو عن عبد الجليل بن عطية عن جعفر بن ميمون حدثني عبد الرحمن بن أبي بكرة أنه قال لأبيه رضي الله عنه: (يا أبت! إني أسمعك تدعو كل غداة: اللهم عافني في بدني اللهم عافني في سمعي اللهم عافني في بصري لا إله إلا أنت، تعيدها ثلاثاً حين تصبح وثلاثاً حين تمسي، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهن فأنا أحب أن أستن بسنته.
قال عباس فيه: وتقول: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر لا إله إلا أنت، تعيدها ثلاثاً حين تصبح وثلاثاً حين تمسي فتدعو بهن فأحب أن أستن بسنته.
قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت) وبعضهم يزيد على صاحبه].
أورد أبو داود حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه قال له ابنه: (يا أبت! إني أسمعك تدعو كل غداة: اللهم عافني في بدني).
هذا لفظ عام يدخل فيه السمع والبصر، فقوله بعد ذلك: (اللهم عافني في سمعي اللهم عافني في بصري) من باب عطف الخاص على العام؛ وذلك لعظم شأن السمع والبصر، وإلا فقد دخلا تحت العافية في البدن؛ لأنهما من جملة البدن.
قوله: [(قال عباس فيه: وتقول: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر)].
يعني: الشيخ الثاني زاد هذا اللفظ.
قوله: [(اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر لا إله إلا أنت، تعيدها ثلاثاً حين تصبح وثلاثاً حين تمسي فتدعو بهن، فأحب أن أستن بسنته)].
وهذا يدلنا على ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحرص الشديد على اقتفاء آثار الرسول عليه الصلاة والسلام واتباعهم له، وحرصهم على الإتيان بما كان يأتي به الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء كان ذلك في الأقوال أو الأفعال رضي الله عنهم وأرضاهم.(577/19)
تراجم رجال إسناد حديث (يا أبت إني أسمعك تدعو كل غداة اللهم عافني في بدني)
قوله: [حدثنا العباس بن عبد العظيم].
هو العباس بن عبد العظيم العنبري ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[ومحمد بن المثنى].
هو محمد بن المثنى العنزي أبو موسى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الملك بن عمرو].
هو أبو عامر العقدي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الجليل بن عطية].
عبد الجليل بن عطية صدوق يهم، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والنسائي.
[عن جعفر بن ميمون].
جعفر بن ميمون وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري في جزء القراءة، وأصحاب السنن.
[حدثني عبد الرحمن بن أبي بكرة].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنه قال لأبيه].
هو أبو بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه، صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وفي بعض طبعات التقريب في ترجمة جعفر بن ميمون رمز له بالراء فقط، مع أنه روى له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن، لكن المزي في آخر ترجمته قال: روى البخاري في جزء القراءة والباقون إلا مسلماً، وهذا من أحسن ما يرجع فيه إلى معرفة الرموز وهل هي خطأ أو صحيحة؛ لأن المزي في آخر الترجمة يذكر من خرج له بالأسماء، يقول: أخرج له مسلم أخرج له البخاري أخرج له أبو داود والترمذي وغيرهم، فهذا هو الذي ينبغي أن يرجع إليه في معرفة التحقق من الرواة الذين خرج لهم أصحاب الكتب الستة، عندما يكون الرمز فيه لبس أو شك، فيكون التوضيح والبيان في تهذيب الكمال في ترجمة كل راو.
والإسناد مستقيم.(577/20)
شرح حديث (من قال حين يصبح سبحان الله العظيم وبحمده)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد يعني ابن زريع حدثنا روح بن القاسم عن سهيل عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال حين يصبح: سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة وإذا أمسى كذلك، لم يواف أحد من الخلائق بمثل ما وافى)] أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة، لم يواف أحد من الخلائق بمثل ما وافى) يعني: أنه جاء بعمل عظيم لم يكن أحد مثله؛ لأنه أتى بهذا الذكر العظيم الذي وصف من أتى به بأنه لم يواف أحد بمثل ما وافى.(577/21)
تراجم رجال إسناد حديث (من قال حين يصبح: سبحان الله العظيم وبحمده)
قوله: [حدثنا محمد بن المنهال].
محمد بن المنهال هو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا يزيد يعني ابن زريع].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا روح بن القاسم].
روح بن القاسم هو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن سهيل عن سمي].
سهيل مر ذكره.
وسمي هو مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح عن أبي هريرة].
أبو صالح وأبو هريرة قد مر ذكرهما.(577/22)
الأسئلة(577/23)
درجة حديث أبي ذر (اللهم ما قلت من قول أو حلفت من حلف أو نذرت من نذر)
السؤال
حديث أبي ذر هل هو موقوف أو هو ضعيف: (اللهم ما قلت من قول أوحلفت من حلف أو نذرت من نذر)؟
الجواب
ذكر المنذري حديثاً في كتابه الترغيب والترهيب وقد حسنه الألباني، وهو يشهد لما رواه أبو داود عن أبي ذر، ونص الحديث عند المنذري: عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه دعاء وأمره أن يتعاهده ويتعاهد به أهله في كل يوم، قال: قل حين تصبح: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير بيديك ومنك وإليك، اللهم ما قلت من قول أو حلفت من حلف أو نذرت من نذر فمشيئتك بين يديه، ما شئتَ كان وما لم تشأ لم يكن، لا حول ولا قوة إلا بك، إنك على كل شيء قدير، اللهم وما صليت من صلاة فعلى من صليت، وما لعنت من لعنة فعلى من لعنت، إنك وليي في الدنيا والآخرة، توفني مسلماً وألحقني بالصالحين، اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، وأعوذ بك اللهم أن أظلم أو أظلم، أو أعتدي أو يعتدى علي، أو أكتسب خطيئة أو ذنباً لا تغفره، اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة ذا الجلال والإكرام، فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا وأشهدك وكفى بالله شهيداً أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، لك الملك ولك الحمد وأنت على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك، وأشهد أن وعدك حق، ولقاءك حق، والجنة حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنك تبعث من في القبور، وأنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة وذنب وخطيئة، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاغفر لي ذنوبي كلها إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وتب علي إنك أنت التواب الرحيم)، قال المنذري: رواه أحمد والطبراني والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وروى ابن أبي عاصم منه إلى قوله: (بعد القضاء).
وهذا الإسناد أنا لا أعرف شيئاً عنه، ولا أعرف درجته ولا حال رجاله، لكن لا شك أن هذا اللفظ مطابق لهذا اللفظ الذي جاء في أبي داود فيما يتعلق بالنذر والحلف وهناك أمور أخرى التي في آخره ثابتة، لكن هذا الذي هو شاهد لحديث أبي ذر لا أدري عن حاله فيما يتعلق بتلك الأسانيد التي أشار إليها، لكن هذا الحديث حسنه الألباني في الترغيب والترهيب صفحة (157).
وعلى كل إذا كان ليس فيه ضعف شديد فهو شاهد لحديث المسعودي الذي فيه اختلاط، فإذا صار هناك شيء يشهد له يمكن أن يحسن، ولعل الشيخ الألباني حسنه لشواهده.(577/24)
وقت نشوء مذهب السلف وحكم القول بأن النبي أول السلف
السؤال
هل يصح أن يقال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم هو أول السلف؟ ومتى كان بدء مقولة السلف؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم هو قدوة سلف هذه الأمة، وهو أسوتهم، وهو الذي لما اتبعوه وساروا على منهاجه صاروا في خير.
أما عقيدة ومنهج سلف هذه الأمة فقد بدأت ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا كلام صحيح؛ لأن كثيراً من المذاهب المختلفة كانت بدايتها متأخرة، منها ما بدأ في آخر عهد الصحابة ومنها ما جاء بعدهم وولد بعدهم، وأما ما كان عليه سلف هذه الأمة فإنه بدأ ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس له بداية متأخرة كالمذاهب الأخرى والنحل الأخرى التي جدت مثل المعتزلة والجهمية، ومثل الأشاعرة وغيرهم من الفرق المختلفة التي لها بداية متأخرة، وهي داخلة تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) فإن هذه المذاهب المختلفة هي من الاختلاف الكثير الذي جد وولد بعد زمنه صلى الله عليه وسلم، وأما سلف هذه الأمة فهم الذين يتبعون السنن، وهم على سنته وعلى منهجه وعلى طريقته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(577/25)
حكم تأدية الشخص للعمرة عن نفسه وعن غيره بإحرام واحد في آن واحد
السؤال
رجل يريد أن يؤدي عمرة عن نفسه ووالده المتوفى وزوجته في آن واحد وإحرام واحد، فهل يصح هذا؟
الجواب
العمرة لا تتوزع على أشخاص وإنما تكون لشخص واحد.(577/26)
حكم من أتى للحج من أفغانستان مباشرة إلى المدينة النبوية
السؤال
الحجاج الذين جاءوا من أفغانستان جاءوا مباشرة إلى المدينة، فهل عليهم دم أم لا؛ لأنهم في زعمهم قالوا: تجاوزنا الميقات؟
الجواب
لم يتجاوزوا الميقات، فأمامهم ميقات، فيدخلون تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن) فهم من غير أهل هذا الميقات؛ لأنهم لما جاءوا المدينة صاروا من أهل هذا الميقات، ولا يقال إنهم تجاوزوا الميقات.(577/27)
حكم نوم المرأة على بطنها
السؤال
مر معنا حكم النوم على البطن، فهل المرأة مثل الرجل في النهي عن الانبطاح؟
الجواب
الأصل في الأحكام التساوي بين الرجال والنساء، وذكر الرجال في بعض الأحاديث لا يعني اختصاصهم بالحكم دون النساء؛ لأن الخطاب يكون للرجال في الغالب، ولهذا يأتي كثيراً ذكر الرجال مع أن الحكم يشمل النساء أيضاً.
ولا يقال: إن الحكم خاص بالرجال إلا إذا جاء شيء يدل على ذلك، ولا يقال: إن الحكم خاص بالنساء إلا إذا جاء شيء يدل على ذلك، أما إذا لم يأت شيء يفرق ويميز بين الرجال والنساء فالأصل هو التساوي بين النساء والرجال في الأحكام.(577/28)
مآل الفاسق المسلم في الآخرة
السؤال
من المعلوم أن المؤمن تبشره الملائكة قبل موته بالجنة والكافر تبشره بالنار، ولكن المسلم الفاسق الذي شاء الله أن يعذبه في النار ثم يخرجه بماذا يبشر؟
الجواب
الله أعلم كيف يبشر، لكنه مادام ليس كافراً فلا شك أن مآله إلى الجنة، وهو من أهل الجنة إما في أول الأمر إن تجاوز الله عنه، وإما في نهاية الأمر إن لم يشأ الله التجاوز عنه وشاء تعذيبه على ما حصل منه.(577/29)
معنى حديث (إن الله خلق آدم على صورته)
السؤال
الذي يقول: إن معنى حديث الصورة هو أن الله خلق آدم على صورة آدم نفسه، مع أنه يثبت الصورة والوجه لله، هل يبدع ويغلظ عليه، وهل أهل السنة اختلفوا في معنى الحديث؟
الجواب
جمهور أهل السنة على أن الضمير يرجع إلى الله عز وجل وأن الله تعالى خلقه على صورته، وفسروا ذلك بأنه سميع بصير متكلم، وإن كان ما يضاف إلى الله عز وجل من السمع والبصر والكلام يليق به، وما يضاف إلى الإنسان من السمع والبصر والكلام يليق به، هذا هو المشهور عند أهل السنة، وقد جاء عن ابن خزيمة أنه قال: إن الضمير يرجع إلى آدم، ولكن المشهور عند أهل السنة هو القول الأول.(577/30)
تعريف الظلم عند أهل السنة وعقيدة الجبرية فيما يتعلق بأعمال الإنسان
السؤال
ما هو تعريف الظلم عند أهل السنة وعند الجبرية وما الفرق بينهما؟
الجواب
الظلم عند أهل السنة وضع الشيء في غير موضعه، أما بالنسبة للجبرية فعقيدتهم فيما يتعلق بأعمال الإنسان أنه مجبور عليها وليس له إرادة ولا مشيئة، وأما تفسيرهم للظلم فلا أدري.(577/31)
حكم وصف الله عز وجل بأنه أفقه بالواقع من غيره
السؤال
هل يجوز وصف الله عز وجل بأنه أفقه بالواقع من غيره؟
الجواب
لا يضاف إلى الله عز وجل شيء لم يرد، وإنما يؤتى بشيء قد ورد أو بشيء يليق به، أما أن يؤتى بأي عبارات تضاف إلى الله عز وجل فالأصل أن الإنسان يبتعد أن يضيف إلى الله أشياء يترتب عليها محذور، أو لا تليق بالله سبحانه وتعالى؛ لأن الله تعالى عالم بكل شيء، فهو عالم بما يقع وبما لا يقع، ما يكون وما لا يكون، هذا هو الذي يقال في حق الله عز وجل، أما أن يعبر بأن الله يفقه كذا أو أنه كذا فمثل هذه العبارات لا يصلح الإنسان أن يستعملها.(577/32)
وجه قول القائل إن صفات الله قديمة النوع حادثة الآحاد
السؤال
هل من منهج السلف أن نقول: إن صفات الله قديمة النوع حادثة الآحاد أم هذا خاص بالكلام فقط؟
الجواب
الكلام قديم النوع حادث الآحاد، ولكن هناك أفعال بعمومها يقال: إنها أفعال الله قديمة النوع حادثة الآحاد، لكن لا يقال: إن كل فعل من أفعاله يكون قديم النوع، يعني كون الله يفعل ما يشاء هذا قديم لا بداية له، لكن هناك أفعال مثل النزول إلى السماء الدنيا لم يحصل إلا بعدما خلقت السماوات والأرض، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء لا يحصل إلا يوم القيامة، وهذا كله داخل تحت مشيئته وإرادته، لكن لا يقال: إن مجيئه يوم القيامة قديم، ونزوله إلى السماء الدنيا قديم، لكن أفعاله قديمة النوع، يفعل ما يشاء ولا بداية لاتصافه بذلك، وأما الجزئيات أو الأشياء التي تدخل تحت هذا العموم فمنه ما يحصل في الوقت الذي شاء الله تعالى أن يحصل، مثل مجيئه يوم القيامة لفصل القضاء.
فإذاً: يمكن أن يقال: إن كلام الله نوعه قديم وآحاده حادثة، ويقال: إن الله تعالى متصف بأنه يفعل ما يشاء، وأنه لا بداية لاتصافه بذلك، لكن هناك جزئيات لا يقال إنها قديمة النوع، بل هي مما يحصل في الوقت الذي شاء الله أن تحصل فيه، مثل مجيئه لفصل القضاء يوم القيامة.(577/33)
شرح سنن أبي داود [578]
جاءت السنة بكثير من الأذكار والأدعية للمواقف والأحوال المختلفة، بحيث يكون المؤمن على اتصال دائم بربه، فيدعوه ويذكره كلما تجدد له حال، ومن تلك الأحوال: إذا رأى الهلال، أو دخل البيت، أو خرج منه، أو هاجت الريح وكلها أحوال تصل العبد بمولاه.(578/1)
ما يقول الرجل إذا رأى الهلال(578/2)
شرح حديث (أن النبي كان إذا رأى الهلال قال: هلال خير ورشد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يقول الرجل إذا رأى الهلال.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا قتادة أنه بلغه (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رأى الهلال قال: هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، آمنت بالذي خلقك.
ثلاث مرات ثم يقول: الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا)].
أورد أبو داود [باب ما يقول الرجل إذا رأى الهلال].
إذا رأى الهلال، أي في أول الشهر، وذلك عندما يهل الهلال ويراه الإنسان لأول مرة فإنه قد أورد أبو داود هنا أثرين أو حديثين مرسلين من رواية قتادة، وقتادة من صغار التابعين، وقد أضافهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهما من قبيل المرسل.
والمرسل ليس بحجة عند العلماء، وذلك أن الساقط في الإسناد يحتمل أن يكون صحابياً ويحتمل أن يكون تابعياً، فكونه صحابياً لا إشكال فيه؛ لأن المجهول فيهم في حكم المعلوم، ولكن الإشكال في الاحتمال الثاني وهو أن يكون تابعياً؛ لأنه إذا كان تابعياً يحتمل أن يكون ثقة وأن يكون ضعيفاً، والإشكال إذا كان ضعيفاً، وعلى هذا فالمرسل غير معتبر عند العلماء؛ ولابد من معرفة حال من دون الصحابي، وهنا مجهول.
والصحابة كلهم عدول رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وهذا بإجماع العلماء، ولم يخالف في ذلك إلا شذاذ من المبتدعة كما قال الحافظ ابن حجر.
أورد أبو داود أثر قتادة أنه بلغه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، آمنت بالذي خلقك.
ثلاث مرات، ثم يقول: الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وأتى بشهر كذا).
يعني: أنه يسمي الشهر الماضي والشهر الذي دخل، مثلاً يقول: الحمد الله الذي ذهب بشهر شوال وأتى بشهر ذي القعدة، فهو يسمي هذا ويسمي هذا؛ لأن (كذا) لفظ يشير إلى شيء غير معين، فيصدق على كل شهر.
لكن الحديث غير صحيح وغير ثابت؛ لأنه منقطع.(578/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي كان إذا رأى الهلال قال: هلال خير ورشد)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبان].
هو أبان بن يزيد العطار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(578/4)
شرح حديث (أن رسول الله كان إذا رأى الهلال صرف وجهه عنه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء أن زيد بن حباب أخبرهم عن أبي هلال عن قتادة: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رأى الهلال صرف وجهه عنه).
قال أبو داود: ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب حديث مسند صحيح].
أورد أبو داود عن قتادة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال صرف وجهه عنه) يعني: لم يستقبله.
وهذا كما كما هو معلوم مثل الذي قبله حديث مرسل؛ لأن قتادة من صغار التابعين، فالكلام في السابق هو الكلام في هذا.
ثم قال أبو داود: ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب حديث مسند صحيح، لكن هناك حديث وهو: (اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، ربي وربك الله) فإن هذا قد ذكر الألباني في صحيح الكلم الطيب بأنه صحيح لشواهده.(578/5)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله كان إذا رأى الهلال صرف وجهه عنه)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن زيد بن حباب].
زيد بن حباب وهو صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي هلال].
هو محمد بن سليم الراسبي صدوق فيه لين، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن قتادة].
مر ذكره.(578/6)
ما يقال عند الخروج من البيت(578/7)
شرح حديث (ما خرج النبي من بيتي قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: اللهم إني أعوذ بك من أن أضل أو أُضل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يقول إذا خرج من بيته.
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن منصور عن الشعبي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (ما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بيتي قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: اللهم إني أعوذ بك أن أَضل أو أُضل، أو أَزل أو أُزل، أو أَظلم أو أُظلم، أو أجهل أو يُجهل عليّ)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب ما يقول إذا خرج من بيته] أي: الدعاء الذي يدعو به عندما يخرج من بيته.
وأورد أبو داود حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيتها رفع رأسه إلى السماء وقال: (اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي) هذا هو الدعاء الذي كان يدعو به الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله في أول الحديث: [(إلا رفع طرفه إلى السماء)] المقصود به الإشارة إلى علو الله عز وجل فهو يخاطب الله ويدعوه.
وهذا الدعاء مشتمل على أربع جمل.
الجملة الأول قوله: [(اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل)] يعني: كون يحصل له الضلال أو أن يضله غيره، أو أنها تعني: أن يحصل مني الإضلال لغيري، فهو يسأل الله عز وجل أن يحفظه من أن يضل بنفسه أو يضله غيره أو هو يضل غيره.
قوله: [(أو أزل أو أزل)] وهذا من جنسه، ومعنى أزل أن يحصل منه خطأ وقد يكون غير مقصود، فهو يريد أن يسلم من الخطأ سواءً كان متعمداً أو غير متعمد، وسواءً كان بقصد أو بغير قصد، فهو يسأل الله عز وجل أن يسلمه من الخطأ.
قوله: [(أو أظلم أو أظلم)].
أي: أن أظلم غيري أو يظلمني غيري، وهذا لا يستقيم إلا بالبناء للمجهول بالنسبة للثاني، بخلاف قوله: أُزِل وأُضِل، أُزَل وأُضَل؛ فإنه يصلح بالبناء للمعلوم وللمجهول، أما هنا فليس هناك صيغة أخرى أو معنى آخر؛ لأنه إما أن يحصل الظلم منه لغيره أو يحصل ظلم غيره له؛ لأن قوله: أضل وأزل يعني أنه غير متعدٍ، بل حصل الضلال له من نفسه، وأما أُضل فمعناه: أنه يضلني غيري أو أضل غيري، وأما هنا فليس إلا صيغة واحدة وهي أن قوله: (أظلم) أي: أن أظلم غيري أو غيري يظلمني؛ لأن الظلم يكون منه لغيره، وقد يظلم نفسه، وذلك بالوقوع في المحرمات؛ لأن هذا ظلم للنفس.
قوله: [(أو أجهل أو يجهل علي)].
يعني: يحصل منه فعل أهل الجهالة وفعل الجهل والسفه على غيره، أو يحصل من غيره أن يجهل عليه ويفعل معه فعل أهل الجهل.
فهذا من أدعية الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم عندما يخرج من منزله، كان يدعو بهذا الدعاء العظيم الذي هو السلامة من الضلال والزلل والظلم والجهل.
ويشرع رفع الطرف إلى السماء عند قول هذا الدعاء كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.(578/8)
تراجم رجال إسناد حديث (ما خرج النبي من بيتي قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: اللهم إني أعوذ بك من أن أَضل أو أُضل)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن المعتمر أو منصور بن عبد الرحمن، لكن منصور بن المعتمر هو المشهور بالرواية، ويأتي عند أبي داود بكثرة، وكذلك أيضاً يأتي عند أبي داود منصور بن عبد الرحمن وهما من مشايخ شعبة ومن تلاميذ الشعبي إلا أن الذي هو أكثر في الرواية منصور بن المعتمر فيحتمل أن يكون هذا أو هذا، ومنصور بن المعتمر هو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الشعبي].
هو عامر بن شراحيل الشعبي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أم سلمة].
أم سلمة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وهي هند بنت أبي أمية، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(578/9)
شرح حديث (إذا خرج الرجل من بيته فقال: باسم الله توكلت على الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن الحسن الخثعمي حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إذا خرج الرجل من بيته فقال: باسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، قال: يقال حينئذ: هديت وكفيت ووقيت، فتتنحى له الشياطين فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرج الرجل من منزله وقال: باسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله، قال: يقال حينئذٍ: هديت وكفيت ووقيت، فتتنحى له الشياطين) يعني: من أجله.
قوله: [(فيقول شيطان لشيطان: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي)].
يعني: قد حصلت له هذه الأمور بأن الله تعالى هداه وكفاه ووقاه، يعني: كفاه ما أهمه ووقاه الشرور من غيره.
ومعنى ذلك: أنه تحصل له السلامة، وذلك باعتماده على الله عز وجل وتوكله عليه وذكر اسمه سبحانه وتعالى بقوله: باسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله.(578/10)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا خرج الرجل من بيته فقال: باسم الله توكلت على الله)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن الحسن الخثعمي].
إبراهيم بن الحسن الخثعمي هو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا حجاج بن محمد].
هو حجاج بن محمد المصيصي الأعور وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة].
إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وعنعنعة ابن جريج لا تؤثر.
وأخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ونسبه المنذري للنسائي أيضاً.(578/11)
شرح حديث (إذا ولج الرجل بيته فليقل: اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن عوف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثني أبي قال ابن عوف: ورأيت في أصل إسماعيل قال: حدثني ضمضم عن شريح عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إذا ولج الرجل بيته فليقل: اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج، باسم الله ولجنا وباسم الله خرجنا وعلى الله ربنا توكلنا.
ثم ليسلم على أهله)].
أورد أبو داود حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ولج الرجل بيته فليقل: اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج، باسم الله ولجنا، وباسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا.
ثم ليسلم على أهله)].
يعني: أنه يدعو بهذا الدعاء الذي يصلح للدخول والخروج، باسم الله ولجنا، وباسم الله خرجنا.
وقد أورده أبو داود في باب ما يقول الرجل إذا خرج من بيته.
وهذا الحديث هو من رواية شريح بن عبيد الحمصي، وهو يرسل كثيراً، وذكر أيضاً أن روايته عن أبي مالك الأشعري مرسلة، وعلى هذا فيكون الحديث منقطعاً، فيكون غير صحيح، والألباني كان قد صححه في صحيح الكلم الطيب ثم رجع عن ذلك وقال بتضعيفه، ولعل السبب في ذلك هو كونه من رواية شريح بن عبيد وروايته عن أبي مالك الأشعري مرسلة.(578/12)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا ولج الرجل بيته فليقل: اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج)
قوله: [حدثنا ابن عوف].
هو محمد بن عوف، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي في مسند علي.
[حدثنا محمد بن إسماعيل].
هو محمد بن إسماعيل بن عياش، وقد عيب عليه التحديث عن أبيه من غير سماع، وهذا من روايته عن أبيه، وقال محمد بن عوف: إنه وجده في أصل إسماعيل بن عياش، وإسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن أهل بلده، ومخلط في غيرهم، وهنا روايته عن أهل بلده؛ لأن ضمضماً وشيخه شريحاً كليهما من أهل حمص، فروايته عن أهل بلده من قبيل ما هو معتبر ومن قبيل ما هو معتمد؛ لأنه صدوق في روايته عن أهل بلده، وهذا من روايته عن أهل بلده، لكن الإشكال فيه كونه من وراية شريح بن عبيد الحمصي، وروايته عن أبي مالك الأشعري مرسلة.
ومحمد بن إسماعيل خرج له أبو داود.
وأبوه أخرج له البخاري في رفع اليدين، وأصحاب السنن.
[حدثني ضمضم].
ضمضم صدوق يهم، أخرج له أبو داود وابن ماجة في التفسير.
[عن شريح].
هو شريح بن عبيد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي مالك الأشعري].
أبو مالك الأشعري صحابي، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.(578/13)
الأسئلة(578/14)
حكم الجهر والإسرار بأذكار الدخول والخروج من المنزل والجمع بينها
السؤال
هل تقال أذكار الدخول والخروج من المنزل جهراً أو سراً؟ وهل يجمع بينها؟
الجواب
للمرء أن يجهر بها وله أن يسر بها فكل ذلك جائز، وكذلك له أن يجمع بينها عند دخوله وخروجه من المنزل.(578/15)
ورود ترجمة متعلقة بأذكار الدخول إلى المنزل في عون المعبود وغيره
السؤال
هناك طبعة حققها محمد عوامة يوجد فيها عنوان جديد: (باب ما يقول من دخل إلى بيته)، فما وجه عدم ذكر الدخول هنا؟
الجواب
لقد ورد في عون المعبود أيضاً أنه أفرد لها باباً، والأحاديث مشتملة على الدخول والخروج، وقد ورد في الدخول الحديث الصحيح الذي فيه: (أن الإنسان إذا دخل بيته فذكر الله قال الشيطان لأتباعه: لا مبيت لكم، وإذا أكل وسمى الله قال: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل ولم يسم قال: أدركتم المبيت، وإذا أكل ولم يسم قال: أدركتم المبيت والعشاء) وهذا صحيح، فينبغي للإنسان أن يذكر الله عند دخوله، ويسمي الله عز وجل عند دخوله.(578/16)
حكم تعليق أدعية الدخول والخروج من المنزل للذكرى
السؤال
هل يجوز تعليق هذه الأدعية في باب البيت، لأجل أن يتذكر الإنسان؟
الجواب
لا يصلح؛ لأن الناس قد يرونه أمامهم ومع ذلك لا يفعلونه، فيكون الأمر أشد وأعظم.(578/17)
بيان القائل للإنسان (هديت وكفيت ووقيت)
السؤال
في حديث أنس: (يقالِ حينئذٍ: هديت وكفيت ووقيت)، من القائل؟
الجواب
كأن القائل ملك من الملائكة، وهذا يفيد بأن مثل هذا الدعاء يكون سبباً من أسباب الهداية والوقاية والكفاية.(578/18)
الفرق بين قوله (أضل) وقوله (أزل)
السؤال
ما الفرق بين قوله: أن أضل أو أزل كما في حديث أم سلمة: (اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل)؟
الجواب
الضلال يحصل للإنسان ويأتيه عن عمد وعن قصد، أما الزلل فهو يأتي من غير قصد، فهو يسأل الله عز وجل أن يخلصه من الأمر الذي لا يسوغ، سواء حصل بقصد منه أو بغير قصد.(578/19)
حكم من نسي أذكار الخروج من المنزل وأتى بها في الطريق
السؤال
في حديث أم سلمة تقول: (ما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيتي قط إلا رفع طرفه إلى السماء) وفي حديث أنس يقول: (إذا خرج الرجل من بيته) فإذا تذكر الإنسان بعد الخروج في الطريق فهل له أن يذكر، أو أنه سنة فات محلها؟
الجواب
الذي يبدو أن السنة فات محلها؛ لأن مكان الذكر عند الخروج، ولأنه قد لا يذكر إلا وهو راجع إلى البيت.(578/20)
حكم الجمع بين دعاء الخروج من المنزل ودعاء الخروج إلى المسجد عند الذهاب إلى المسجد
السؤال
هناك دعاء في الخروج إلى المسجد مر معنا في آداب المشي إلى الصلاة، فهل يجمع إلى هذه الأدعية إن كان الخارج يريد المسجد، أو أن ذاك في الخروج إلى المسجد، وهذه في الخروج لغير ذلك؟
الجواب
الذي يبدو أن هذا الحديث الذي معنا عام للمسجد ولغير المسجد؛ لأنه قد يحصل له هذا الشيء الذي يخافه، والذي سأل الله عز وجل أن يخلصه منه، فله أن يجمع بين حديث: (اللهم إني أعوذ بك من أن أَضل أو أُضل) وبين دعاء الخروج من المسجد: (اللهم اجعل في قلبي نوراً).(578/21)
ما يقال إذا هاجت الريح(578/22)
شرح حديث (الريح من روح الله فإذا رأيتموها فلا تسبوها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يقول إذا هاجت الريح.
حدثنا أحمد بن محمد المروزي وسلمة يعني ابن شبيب، قالا: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري حدثني ثابت بن قيس، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (الريح من روح الله، قال سلمة: فروح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، وسلوا الله خيرها واستعيذوا بالله من شرها)].
أورد أبو داود [باب ما يقول إذا هاجت الريح].
يعني: عندما تشتد الرياح ويحصل هبوبها وهيجانها يدعو الإنسان بهذا الدعاء.
قوله: (فإذا رأيتموها فلا تسبوها، وسلوا الله خيرها واستعيذوا بالله من شرها)] يعني: ما حصل فيها من خير فاسألوا الله عز وجل أن يحققه لكم، وما فيها من شر فاسألوه سبحانه وتعالى أن يصرفه عنكم وأن يخلصكم منه.
ومعنى ذلك أن الريح مأمورة، فالإنسان يسأل الله خيرها ويستعيذ بالله من شرها، وهي تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، ومعلوم أن الله تعالى يرسل الرياح فتثير سحاباً فيحصل الخير والبركة للناس، وكذلك تكون عذاباً كما كانت عذاباً لعاد، فقد أرسل الله عليهم ريحاً صرصراً عاتية، تنزع النخيل وتنقل الرجال وتلقيهم في أماكن بعيدة، وتهلكهم كما قال الله عز وجل: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25]، وفي الحديث الذي سبق أن مر بنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذهب إلى تبوك ومر بالمرأة صاحبة البستان، وأمرها بخرصه حتى يعود ليأخذ زكاته، وفي البخاري وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم: (تهب الليلة ريح فلا يقم أحد منكم، وكلٌ يعقل بعيره) فقام رجل فحملته الريح فألقته في جبل طي، يعني: أخذته من تبوك إلى حائل.
قوله: [(الريح من روح الله)] قيل: الروح هو الرحمة.
قوله: [(قال سلمة: فروح الله)].
يبدو والله أعلم أنه مع ذلك قال: فروح الله إلخ، أو أنه ما قال: الريح من روح الله، وإنما قال: فروح الله إلخ.
قوله: [(تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها)].
يعني: لا يحصل منكم سب أو شتم؛ لأن الريح من مخلوقات الله عز وجل، والله تعالى يجعل فيها الرحمة ويجعل فيها العذاب، وهذا قوله: (لا تسبوا الدهر)، يعني: أنها مأمورة ومخلوقة.(578/23)
تراجم رجال إسناد حديث (الريح من روح الله فإذا رأيتموها فلا تسبوها)
قوله: [أحمد بن محمد المروزي].
أحمد بن محمد بن ثابت بن شبويه وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[وسلمة بن شبيب].
هو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني ثابت بن قيس].
ثابت بن قيس وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أن أبا هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.(578/24)
الفرق بين الريح والرياح
وهناك فرق بين الريح والرياح، فالرياح تأتي في الخير في الغالب، وأما الريح فتأتي للخير وتأتي للشر، كما هنا قال: (سلوا الله من خيرها واستعيذوا بالله من شرها).
وكذلك جاء في القرآن آية فيها الريح في غير العذاب، وهي قوله عز وجل: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس:22].(578/25)
شرح حديث (وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرنا عمرو أن أبا النضر حدثه، عن سليمان بن يسار عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قط مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم، وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه، فقلت: يا رسول الله! الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية، فقال: يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟ قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24])].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها تصف فيه هيئة الرسول صلى الله عليه وسلم في ضحكه وأنه كان يتبسم فقط، وأنه ما كان يضحك حتى تبدو لهواته من شدة الضحك، وإنما كان ضحكه تبسماً صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وأنه كان إذا رأى الريح تظهر على وجهه علامة الخوف، فقالت عائشة: إن الناس إذا رأوا الريح استبشروا يرجون أن يكون مطراً، وأنت إذا رأيتها تظهر في وجهك الكراهية، قال: وما يؤمنني، فإن الله عذب قوماً بالريح، فلما رأوا هذا العارض الذي في الأفق والذي في السماء قالوا: هذا عارض ممطرنا، ولكنه عذاب.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الريح خشي العذاب، والريح كما أنها تأتي بالرحمة تأتي بالعذاب، وتكون رحمة وتكون عذاباً، كما مر في الحديث السابق، فعلى الإنسان أن يسأل الله من خيرها ويستعيذ بالله من شرها.(578/26)
تراجم رجال إسناد حديث (وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عبد الله بن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا عمرو].
هو عمرو بن الحارث المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن أبا النضر].
هو سالم بن أبي أمية وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن يسار].
سليمان بن يسار وهو ثقة، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وأبو سعيد، وأنس، وجابر، وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عن الجميع.(578/27)
شرح حديث (أن النبي كان إذا رأى ناشئاً في أفق السماء ترك العمل وإن كان في الصلاة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئاً في أفق السماء ترك العمل وإن كان في صلاة، ثم يقول: اللهم إني أعوذ بك من شرها، فإن مطر قال: اللهم صيباً هنيئاً)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئاً في الأفق ترك العمل وإن كان في صلاة) يعني: إذا رأى سحاباً في الأفق ترك العمل وإن كان في صلاة.
قوله: [(اللهم إني أعوذ بك من شرها)] يخشى أن تكون عذاباً.
قوله: [(فإن مطر قال: اللهم صيباً هنيئاً)] يعني: يكون المطر فيه الهناء وفيه الخير وفيه الخصب وفيه البركة.
قوله: [(اللهم! إني أعوذ بك من شرها)] هذا هو محل الشاهد.(578/28)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي كان إذا رأى ناشئاً في أفق السماء ترك العمل وإن كان في صلاة)
قوله: [حدثنا ابن بشار].
هو محمد بن بشار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرحمن].
هو عبد الرحمن بن مهدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المقدام بن شريح].
المقدام بن شريح وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وأبوه كذلك ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عائشة].
عائشة رضي الله عنها وقد مر ذكرها.(578/29)
ما جاء في المطر(578/30)
شرح حديث (أصابنا ونحن مع رسول الله مطر فخرج رسول الله فحسر ثوبه عنه حتى أصابه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في المطر.
حدثنا قتيبة بن سعيد ومسدد المعنى قالا: حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسر ثوبه عنه حتى أصابه، فقلنا: يا رسول الله! لم صنعت هذا؟ قال: لأنه حديث عهد بربه)].
أورد أبو داود [باب ما جاء في المطر].
وأورد فيه حديث أنس رضي الله عنه أنه أصابهم وهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم مطر فحسر عن ثوبه حتى يصيبه المطر، فسألوه عن ذلك، فقال: عليه الصلاة والسلام: (إنه حديث عهد بربه).
يعني: أن هذا هو السبب الذي جعله يحسر ثوبه، ومعلوم أن المطر إنما يأتي من السحاب المسخر بين السماء والأرض، وهو لا يأتي من السماوات المبنية، وإنما الله عز وجل يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه بين السماء والأرض، ثم ينزله حيث يشاء وينفع به من يشاء من عباده، ويضر به من يشاء من عباده، وليس المقصود من قوله: (لأنه حديث عهد بربه) أنه نزل من فوق العرش، وإنما المقصود أن الله عز وجل أنزله، كما قال عز وجل: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] وقوله عز وجل: {أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:69]، فهذا هو المقصود من قوله: (حديث عهد بربه)، يعني: أنه بإنزال ربه وبإيجاد ربه، وليس معنى ذلك أنه جاء من فوق العرش؛ لأن المطر يأتي من السحاب المسخر بين السماء والأرض.(578/31)
تراجم رجال إسناد حديث (أصابنا ونحن مع رسول الله مطر فخرج رسول الله فحسر ثوبه عنه حتى أصابه)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[المعنى].
يعني: أن الرواية بالمعنى، وليسا متفقين في اللفظ ولكن في المعنى.
[حدثنا جعفر بن سليمان].
جعفر بن سليمان وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه، وقد مر ذكره.(578/32)
الأسئلة(578/33)
حكم التبرك بالمطر
السؤال
هل في حديث حسر الثوب عند نزول المطر دليل على جواز التبرك بالمطر؛ لكونه حديث عهد بربه؟
الجواب
يفعل كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن المطر ماء مبارك وفيه بركة.(578/34)
وجه الاستدلال بحديث (إنه حديث عهد بربه) على علو الله عز وجل
السؤال
هل يمكن الاستدلال بحديث حسر الثوب عند نزول المطر على علو الله عز وجل؟
الجواب
لا يظهر أن فيه دليلاً؛ لأن معنى قوله: (حديث عهد بربه) يعني: بإنزال ربه، وقد جاء أكثر من ألف دليل في القرآن والسنة كلها تدل على علو الله سبحانه وتعالى.(578/35)
شرح سنن أبي داود [579]
إن من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ألا يسب المؤمن الديك؛ لأنه يوقظ للصلاة، ومن سننه أيضاً أنه إذا سمع المؤمن نهيق حمار أو نباح كلب أن يستعيذ بالله؛ فإن الحمار والكلب رأيا ما لم نر من الجن، وذلك هو سبب أمر النبي بتقليل الخروج ليلاً؛ نظراً لانتشار الجن.(579/1)
ما جاء في الديك والبهائم(579/2)
شرح حديث (لا تسبوا الديك؛ فإنه يوقظ للصلاة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الديك والبهائم.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمد عن صالح بن كيسان عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تسبوا الديك، فإنه يوقظ للصلاة)].
أورد أبو داود: [باب ما جاء في الديك والبهائم] وأورد فيه حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا الديك؛ فإنه يوقظ للصلاة) يعني: أنه يوقظ للصلاة بصياحه، فينبه الناس بأن يقوموا من نومهم ومن رقادهم، وذلك أنه في آخر الليل يحصل منه صياح، فيكون في هذا مصلحة للناس؛ ولهذا نهى عن سبه؛ لأن صوته فيه مصلحة للناس.(579/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمد].
هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن صالح بن كيسان].
صالح بن كيسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة].
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن خالد].
هو زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(579/4)
شرح حديث (إذا سمعتم صياح الديكة فسلوا الله تعالى من فضله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إذا سمعتم صياح الديكة فسلوا الله تعالى من فضله؛ فإنها رأت ملكاً، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان؛ فإنها رأت شيطاناً)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله تعالى من فضله؛ فإنها رأت ملكاً، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان؛ فإنها رأت شيطاناً).
وهذا يدلنا على أن صياح الديكة علامة على خير، وأن نهيق الحمار علامة على شر؛ لأن الديك يرى ملكاً والحمار يرى شيطاناً، وهذا مما يدل على قدرة الله عز وجل، وأن من المخلوقات من ترى ما لا يراه الإنسان، فإن هذا فيه أن الديك رأى ملكاً وأن الحمار رأى شيطاناً، والناس لا يرون الملائكة ولا يرون الشياطين.
وكذلك أيضاً من ناحية السماع، فهي تسمع ما يحصل في القبور من العذاب، فقد جاء في الحديث أنه يسمع صوت الميت كل شيء إلا الجن والإنس، يعني: والملائكة والحيوانات تسمع ما يجري في القبور، والرسول صلى الله عليه وسلم أسمعه الله ما يجري في القبور، كما قال: (لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع).(579/5)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا سمعتم صياح الديكة فسلوا الله من فضله)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جعفر بن ربيعة].
هو جعفر بن ربيعة الجمحي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعرج].
هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة وقد مر ذكره.(579/6)
وجه كون الدعاء عند حضور الملائكة له أثر
سؤالنا لله معلق بسماع الديك، وتعوذنا بالله معلق بسماع صوت الحمار، والناس يسمعون الديكة ويسمعون صوت الحمير، فيتعوذون بالله عند هذا ويسألون الله عند هذا.
وفي هذا الحديث دليل على أن الدعاء له أثر عند نزول الملائكة، فالملائكة تحضر مجالس الذكر، وتطوف تبحث عنها فإذا وجدتها دعت بعضها بعضاً فيأتون ويسمعون الذكر، والناس لا يعلمون من أحوال الملائكة إلا ما علموه وما جاءهم به نص، وما لم يأتهم فيه نص فهم لا يعلمون.
وما ذكره صاحب عون المعبود: قال القاضي: سببه رجاء تأمين الملائكة على الدعاء واستغفارهم وشهادتهم بالتضرع والإخلاص، قاله النووي.
هذا محتمل والله أعلم، لكن هل يؤمنون على هذا الدعاء؟ لا ندري، والله أعلم بذلك، لكن الملائكة تؤمن عند قراءة الفاتحة؛ لأنه من قال: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) وقال: آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، فهنا نص على أنها تؤمن والله أعلم.
أما من قال: إن في الحديث دلالة على نزول الرحمة عند حضور أهل الصلاح، فيستحب الدعاء في ذلك الوقت، فهذا غير مستقيم؛ لأن علم ذلك عند الله عز وجل.
والنووي رحمه الله ممن يجوز التبرك بالصالحين وبآثار الصالحين، وهذا غير مستقيم.(579/7)
شرح حديث (إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمر بالليل فتعوذوا بالله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري عن عبدة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن عطاء بن يسار عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمر بالليل، فتعوذوا بالله؛ فإنهن يرين ما لا ترون)].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله: (إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمر بالليل فتعوذوا بالله؛ فإنهن يرين ما لا ترون) وهذا الإجمال الذي في هذا الحديث يفسره الحديث الذي قبله، وأنها رأت شيطاناًَ، وفيه إضافة نباح الكلاب.
وهذا الحديث فيه تقييد التعوذ بالليل، ولكن الحديث الذي قبل هذا ليس فيه تقييد فهو عام، لكن إذا سمع الناس نهيق الحمار في النهار فإنهم يقولون مثل هذا الكلام؛ لأنه يمكن أن تكون صفة كاشفة، وأن الشياطين غالباً ما يكون انتشارها في الليل.(579/8)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمر بالليل فتعوذوا بالله)
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هو هناد بن السري أبو السري ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبدة].
هو عبدة بن سليمان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إبراهيم].
هو محمد بن إبراهيم التيمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن يسار].
عطاء بن يسار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما وهو صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(579/9)
شرح حديث (أقلوا الخروج بعد هدأت الرجل فإن لله تعالى دواب يبثهن في الأرض)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن سعيد بن زياد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ح وحدثنا إبراهيم بن مروان الدمشقي حدثنا أبي حدثنا الليث بن سعد حدثنا يزيد بن عبد الله بن الهاد عن علي بن عمر بن حسين بن علي وغيره قالا: قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أقلوا الخروج بعد هدأت الرجل؛ فإن لله تعالى دواب يبثهن في الأرض، قال ابن مروان: في تلك الساعة، وقال: فإن لله خلقاً) ثم ذكر نباح الكلب والحمير نحوه، وزاد في حديثه، قال ابن الهاد: وحدثني شرحبيل الحاجب عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثله].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله تعالى عنهما: (اقلوا الخروج بعد هدأت الرجل) يعني: الحث على السكون وترك الخروج؛ لأنه قد جن الليل، والناس يبقون في بيوتهم.
قوله: [(فإن لله تعالى دواب يبثهن في الأرض)].
يعني: مثل الحديث السابق فيما يتعلق بنباح الكلاب، ونهيق الحمر.
قوله: [قال ابن الهاد: وحدثني شرحبيل الحاجب عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله].
يعني: هذا الحديث فيه رجال متكلم فيهم، وفيه إرسال، ومع الاتصال فيه ضعف، لكن مجموع هذه الطرق يثبت بها الحديث، والحديث الذي قبله فيما يتعلق بنباح الكلاب ونهيق الحمر شاهد له.(579/10)
تراجم رجال إسناد حديث (أقلوا الخروج بعد هدأت الرجل فإن لله تعالى دواب يبثهن في الأرض)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن خالد بن يزيد].
هو خالد بن يزيد الجمحي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن أبي هلال].
سعيد بن أبي هلال وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن زياد].
سعيد بن زياد مجهول، أخرج له البخاري تعليقاً، وأبو داود والنسائي [عن جابر بن عبد الله].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، وقد مر ذكره.
[ح وحدثنا إبراهيم بن مروان الدمشقي].
إبراهيم بن مروان الدمشقي، صدوق أخرج له أبو داود.
[حدثنا أبي].
أبوه ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا الليث بن سعد حدثنا يزيد بن عبد الله بن الهاد].
الليث مر ذكره.
ويزيد بن عبد الله بن الهاد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي بن عمر بن حسين بن علي].
علي بن عمر بن حسين بن علي، وهو مستور، أخرج له أبو داود، وعند البخاري في الأدب المفرد عن عمر وهو صدوق الرواية عن عمر وليست عن علي.
[قال ابن الهاد: وحدثني شرحبيل الحاجب].
هو شرحبيل بن سعد وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود وابن ماجة.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما.(579/11)
الأسئلة(579/12)
حكم اتخاذ الديك في البيت
السؤال
هل من السنة اتخاذ الديك في البيت؛ لأنه يرى الملك ويوقظ للصلاة؟ وهل هو أفضل من الساعات التي توقظ للصلاة؟
الجواب
لا يظهر أن من السنة أن يتخذ الناس في بيوتهم ديكة أو دجاجاً، ولكن الديك سواء كان عندهم أو عند غيرهم، إذا سمعوا صوته فإنهم يأتون بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.(579/13)
حكم إيراد الدعاء عند سماع الديك من ليل أو نهار
السؤال
هل نقول هذا الدعاء في كل وقت من ليل أو نهار إذا سمعنا الديك؟
الجواب
هذا الذي يبدو؛ لأن الحديث الأول عام.(579/14)
حكم قطع قراءة القرآن للإتيان بالدعاء الوارد عند سماع الديك
السؤال
من يقرأ القرآن وسمع صياح الديك فهل يقطع قراءته ويسأل الله؟
الجواب
نعم؛ فهو مثل ما يتوقف لرد السلام إذا سلم عليه شخص من الناس.(579/15)
حكم لعن الديك وغيره من الحيوانات
السؤال
هل يجوز لعن الديك؟
الجواب
الحديث الذي مر فيه النهي عن سبه؛ لأنه يوقظ للصلاة، واللعن أشد من السب.
واللعن كما هو معلوم لا يجوز لا للحيوانات ولا لغيرها، كما في قصة الدابة التي لعنتها صاحبتها فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تصحبنا ناقة ملعونة).(579/16)
حكم رمي الكلاب بسبب نباحها
السؤال
هل يجوز أن نرمي الكلاب إذا سمعنا نباحها، باعتبار أنها رأت أمامنا شيطاناً؟
الجواب
الكلاب لا ترمى، ولكن إذا آذت وحصل منها أذى تقتل من أجل أذاها، أما كونها إذا رأت شيطاناً ترمى، فمعناه أن الكلاب كلها ترمى، وهذا غير سائغ، إلا ما كان مؤذياً فيقتل لأذاه.(579/17)
المقصود من قوله (أقلوا الخروج)
السؤال
قوله في الحديث الأخير: (أقلوا الخروج) هل هو من صيغ التحريم؟
الجواب
هذا أمر فيه الإشارة إلى المنع، ولكنه يجوز الخروج لضرورة أو لأمر لا بد منه، وأن الخروج يمكن أن يحصل، لكن ليس بإطلاق، وأن الأمر في ذلك كغيره من الأوقات، والمقصود هو الإقلال من الخروج لا نفي الأصل.(579/18)
مشروعية الدعاء عند نزول المطر
السؤال
هل يشرع الدعاء عند نزل المطر؟
الجواب
نعم، اللهم صيباً نافعاً، اللهم صيباً هنيئاً، فيدعى بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما كونه يدعو بألفاظ من غير أن يكون لها أساس، فلا نعلم شيئاً في ذلك شيئاً، لكن الذي ورد يؤتى به.(579/19)
بيان صيغة سؤال الله من فضله
السؤال
كيف تكون صيغة الدعاء في سؤال الله من فضله؟
الجواب
الصيغة هي: نسأل الله من فضله!(579/20)
شرح سنن أبي داود [580]
وردت الأحاديث في مشروعية الأذان في أذن الصبي عند ولادته، وكذلك تحنيكه بالتمر، والدعاء له بالبركة.
أما بالنسبة لمن استعاذ برجل؛ لينصره على عدوه الذي ظلمه؛ فقد جاء ما يدل على وجوب نصرته بالحق، وكذلك من سأل بالله فإنه يعطى إذا كان بحاجة، وكان سؤاله معقولاً.
أما رد الوسوسة القبيحة التي يلقيها الشيطان في ذهن الإنسان فواجب، وشعور الإنسان بخطرها دلالة على الإيمان، وهناك طرق يرد بها الوسوسة جاءت بها الأحاديث النبوية.
أما عن حكم الانتماء والانتساب إلى غير الأب أو الموالي فقد جاء الوعيد الشديد في ذلك، فينبغي للمسلم أن يحذر ذلك وأن يبتعد عنه.(580/1)
الأذان في أذن الصبي عند ولادته(580/2)
شرح حديث (رأيت رسول الله أذن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الصبي يؤذن في أذنيه.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني عاصم بن عبد الله عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أذن في أذن الحسن بن علي رضي الله عنهما حين ولدته فاطمة رضي الله عنها بالصلاة)].
أورد أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باباً في الصبي يؤذن في أذنيه].
هذه الترجمة معقودة لبيان حكم الأذان في أذن الصبي عند ولادته؛ ليكون أول ما يقرع سمعه ذكر الله عز وجل، فيكون في ذلك منع وحصانة له من الشيطان.
أورد أبو داود حديث أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (رأيت النبي عليه الصلاة والسلام أذن في أذن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما حين ولد بالصلاة) أي: بأذان الصلاة من بدايته إلى نهايته؛ ليكون أول ما يقرع سمعه ذكر الله عز وجل.
هذا هو الحديث الذي أورده أبو داود رحمه الله للاستدلال به على الأذان في أذن الصبي، وقد ذكره جماعة من العلماء للاستدلال به على ذلك، ومنهم ابن القيم في كتابه (تحفة المودود في أحكام المولود)، والشيخ ناصر حسنه في بعض كتبه، وأخيراً رجع عن ذلك، ففي إسناده رجل ضعيف وهو عاصم بن عبيد الله، وقد ذكر أن في شعب الإيمان للبيهقي حديثاً عن الحسن يتعلق بالأذان وقد قيل: إنه شاهد لهذا، والشيخ ناصر قال: إنه بعدما طبع الكتاب رأى إسناده وإذا في إسناده رجل وضاع ومتروك، وكان قبل ذلك يظن أنه شاهد لحديث أبي رافع الموجود معنا، وعلى هذا فلا يصلح أن يكون شاهداً ما دام أن فيه كذاباً ومتروكاً، فيبقى الحديث بدون شاهد.
وإذا لم يكن في الموضوع أو في الباب إلا هذا الحديث الذي في إسناده هذا الرجل الضعيف الذي هو عاصم بن عبيد الله؛ فإنه لا يكون هناك شيء يصلح للاحتجاج به في هذا الموضوع، إلا إذا كان هناك أحاديث أخرى تشهد له فيمكن ذلك، وأما إذا كان التعويل على هذا الحديث وعلى الحديث الآخر الذي عند البيهقي الذي فيه الوضاع والمتروك، فإنه لا يكون الأذان في أذن الصبي ثابتاً؛ لأن هذا الحديث فيه رجل ضعيف، وذاك الحديث فيه متروك وفيه وضاع، فلا يشهد أحدهما للآخر ولا يثبت الحكم بهذا الحديث.
وعلى هذا فيعتبر الحديث غير صحيح ما دام بهذا الإسناد.(580/3)
تراجم رجال إسناد حديث (رأيت رسول الله أذن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عاصم بن عبيد الله].
عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد، وأصحاب السنن.
[عن عبيد الله بن أبي رافع].
عبيد الله بن أبي رافع وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو أبو رافع رضي الله عنه مولى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(580/4)
شرح حديث (كان رسول الله يؤتى بالصبيان فيدعو لهم بالبركة ويحنكهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل وحدثنا يوسف بن موسى حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يؤتى بالصبيان فيدعو لهم بالبركة.
زاد يوسف: ويحنكهم.
ولم يذكر بالبركة)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى بالصبيان عند ولادتهم فيحنكهم ويدعو لهم بالبركة) أي: أنه كان يمضغ تمرة حتى تذوب وتصير كالماء ثم يدلك بها حنك الصبي عند ولادته؛ فيكون أول شيء يدخل إلى جوفه هذا الحلو من التمر.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يحنك الصبيان ويدعو لهم بالبركة.
والتحنيك يمكن أن يكون من الأب والأم ومن غيرهما، ولكن لا يذهب بالصبي إلى أحد من الناس ليحنكه رجاء بركته بسبب صلاح هذا الإنسان؛ فإن هذا لم يعرف الرجوع فيه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعلوم أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتبركون بالرسول صلى الله عليه وسلم، أي يتبركون بما يحصل من جسده، فيتبركون بشعره ويتبركون بعرقه ويتبركون بمخاطه وبصاقه عليه الصلاة والسلام، ويتبركون بثيابه وما مس جسده، وهو عليه السلام يعطي ذلك لأصحابه ليتبركوا به؛ لأن فيه بركة، وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، فلا يجوز أن يضاف إلى غيره وأن يعامل غيره معاملته؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ما عاملوا أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً رضي الله عنهم وهم خير الصحابة كما كان يحصل ذلك منهم مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فدل على أن غيرهم من باب أولى أن لا يقصد ولا يؤتى إليه من أجل أن يحنك صبياً أو يتبرك به؛ لأن التبرك إنما هو خاص بالرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه.(580/5)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله يؤتى بالصبيان فيدعو لهم بالبركة ويحنكهم)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي، فإنه أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا محمد بن فضيل].
هو محمد بن فضيل بن غزوان صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا يوسف بن موسى].
أي: تحويل من إسناد إلى إسناد آخر، ويوسف بن موسى هو صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[حدثنا أبو أسامة].
هو حماد بن أسامة وكنيته توافق اسم أبيه، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
هو عروة بن الزبير بن العوام وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(580/6)
شرح حديث (هل رئي فيكم المغربون؟ قلت وما المغربون؟ قال الذين يشترك فيهم الجن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن مثنى حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار عن ابن جريج عن أبيه عن أم حميد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (هل رئي -أو كلمة غيرها- فيكم المغربون؟ قلت: وما المغربون؟ قال: الذين يشترك فيهم الجن)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هل رئي، أو كلمة غيرها) يعني: أن الراوي لم يجزم بهذه الكلمة، وإنما هي رئي أو كلمة قريبة منها مثل: وجد أو ما إلى ذلك من العبارات التي تؤدي معناها.
قوله: [(فيكم المغربون؟ قلت: وما المغربون يا رسول الله؟ قال: الذين يشترك فيهم الجن)].
هذا الحديث ضعيف غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن في إسناده من فيه ضعف.
فالمغربون فسروا بأنهم الذين يشترك فيهم الجن.
أما تفسير اشتراك الجن، فقيل: إنهم عندما لم يذكر الله عز وجل يشاركون عند الجماع، فيكون لهم تسلط على أولئك الذين يولدون، ولكن الحديث كما هو معروف غير ثابت وغير صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول صاحب عون المعبود في مناسبة الحديث للباب: مقصود المؤلف من إيراد الحديث في هذا الباب أن الأذان في أذن المولود له تأثير عجيب وأمان من الجن والشيطان، كما للدعاء عند الوقاع تأثير بليغ وحرز من الجن والشيطان.(580/7)
تراجم رجال إسناد حديث (هل رئي فيكم المغربون؟ قلت وما المغربون؟ قال الذين يشترك فيهم الجن)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
هو محمد بن المثنى أبو موسى العنزي الملقب بـ الزمن وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير].
إبراهيم بن أبي الوزير صدوق، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار].
داود بن عبد الرحمن العطار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
وهو لين، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أم حميد].
أم حميد لا يعرف حالها ولا اسمها، وقد أخرج لها أبو داود.
إذاً فالحديث ضعيف، فيه هذان الاثنان: والد ابن جريج وهو لين، وهو دون المقبول، وفيه هذه المرأة التي لا يعرف حالها، فهو غير ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
[عن عائشة].
وقد مر ذكرها.(580/8)
الأسئلة(580/9)
بيان وقت تحنيك الصبي
السؤال
متى يكون التحنيك، هل يكون يوم الولادة أم بعد أسبوع؟
الجواب
التحنيك عند الولادة؛ لأن المقصود من التحنيك أن يكون أول شيء يدخل جوف الصبي هذا الشيء الحلو.(580/10)
وجه مشروعية التحنيك من غير النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما المانع أن نقول: إن التحنيك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مشروع، إذ لا توجد المصلحة التي كانت ترجى من تحنيكه صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
لا نعلم أحداً يقول إن التحنيك غير مشروع، ولكن الذي يقال: إنه لا يعامل أحد كما كان يعامل النبي عليه الصلاة والسلام.(580/11)
حكم قول القائل عند رؤية الصبي ما شاء الله
السؤال
هل قول القائل عند رؤية الصبي: ما شاء الله، سائغ، أم يقيد بما جاء في الحديث من الدعاء بالبركة؟
الجواب
كلمة (ما شاء الله) لا نعلم شيئاً يدل عليها، لكن إذا أتي بها من غير أن تلتزم أو يقال إنها سنة، فلا بأس، يعني: لا بأس أن الإنسان يذكر الله عز وجل عندما يرى الصبي، لكن المقصود أن يدعو له بالبركة، وهذا هو المطلوب وهذا هو المهم.(580/12)
حكم تحنيك الصبي بالعسل أو السكر
السؤال
هل يجوز تحنيك الصبي بالعسل أو السكر؟
الجواب
يجوز، لكن الأصل أن يحنك بالتمر، فإذا لم يوجد يحنك بغيره مما هو حلو.(580/13)
ما جاء في الرجل يستعيذ من الرجل(580/14)
شرح حديث (من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يستعيذ من الرجل.
حدثنا نصر بن علي وعبيد الله بن عمر الجشمي قالا: حدثنا خالد بن الحارث حدثنا سعيد، قال نصر: ابن أبي عروبة عن قتادة عن أبي نهيك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بوجه الله فأعطوه، قال عبيد الله: من سألكم بالله)].
أورد أبو داود [باباً في الرجل يستعيذ من الرجل] يعني: يستعيد بالله من شخص معين ويطلب من غيره أن يعيذه وأن يخلصه منه وأن يكون عوناً له عليه، فإنه تحقق له رغبته فيجار ويحال بينه وبين ذلك الذي تابعه ليؤذيه، أو ليلحق به ضرراً.
قوله: [(ومن سألكم بوجه الله فأعطوه)] يعني: من سأل بوجه الله شيئاً من الأشياء فإنه يعطى، وفي بعض الروايات: (من سأل بالله) يعني: دون ذكر وجه الله، ومن المعلوم أن السؤال الجائز هو الذي يكون تحقيقه ممكناً وليس فيه مشقة على الإنسان، وإلا فقد يسأل الإنسان أشياء ليس من حق السائل أن يسأل، فلا يحقق له ما يريد، كأن يسأل بالله شيئاً لا يجوز أن يخبر به وليس من حقه أن يسأل عنه، وإنما يسوغ السؤال في الشيء الذي من حقه أن يسأله، أو في أمر دعته الضرورة إليه، أما أن يسأل عن أمور خاصة لا يجوز إبداؤها ولا يجوز إظهارها، فليس من حقه أن يسأل هذا السؤال، لكن له أن يسأل شيئاً هو بحاجة إليه والمسئول متمكن من ذلك ولا مشقة عليه، وأما إذا كان غير مضطر وإنما يريد أن يتوسع أو يريد شيئاً ليس بحاجة إليه، كأن يريد مثلاً مبالغ طائلة، فلا تحقق رغبته.(580/15)
تراجم رجال إسناد حديث (من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه)
قوله: [حدثنا نصر بن علي].
هو نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعبيد الله بن عمر الجشمي].
عبيد الله بن عمر الجشمي ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا خالد بن الحارث].
خالد بن الحارث ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سعيد قال نصر: ابن أبي عروبة].
فأحد الشيخين ذكره باسمه فقط، والثاني زاد فقال: ابن أبي عروبة، وسعيد بن أبي عروبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي نهيك].
هو عثمان بن نهيك وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(580/16)
شرح حديث (من استعاذكم بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه ومن دعاكم فأجيبوه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد وسهل بن بكار قالا: حدثنا أبو عوانة ح وحدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير المعنى عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من استعاذكم بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه.
وقال سهل وعثمان ومن دعاكم فأجيبوه، ثم اتفقوا، ومن آتى إليكم معروفاً فكافئوه.
قال مسدد وعثمان فإن لم تجدوا فادعوا الله له حتى تعلموا أن قد كافأتموه)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر وهو مثل الذي قبله في الجملتين الأوليين: الاستعاذة بالله والسؤال بالله، وفيه جملتان أخريان، الأولى: قوله: [(ومن دعاكم فأجيبوه)].
معناه: أنه من دعاهم لوليمة فإن كانت وليمة عرس وجبت إجابتها، وإن كانت غير ذلك فإنه يستحب له أن يجيب دعوته؛ لما فيه ذلك من إدخال السرور والفرح عليه.
الثانية: قوله: [(ومن آتى إليكم معروفاً فكافئوه)].
يعني: من أعطى أو أوصل إليكم معروفاً، وآتى من الإيتاء وهو الإعطاء وليس من الإتيان، يعني: من أوصل إليكم معروفاً أو أعطاكم شيئاً وأحسن إليكم به فكافئوه على ما حصل منه.
قوله: [(فإن لم تجدوا فادعوا له الله حتى تعلموا أن قد كافأتموه)] يعني: إن لم تتمكنوا من مكافأته بمثل إحسانه أو أكثر فادعوا له حتى يحصل منكم المقابلة لهذا الإحسان، إما بمثله أو بالدعاء إذا لم يمكن إلا الدعاء.(580/17)
تراجم رجال إسناد حديث (من استعاذكم بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه ومن دعاكم فأجيبوه)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد مر ذكره.
[وسهل بن بكار].
سهل بن بكار صدوق ربما وهم، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي [حدثنا أبو عوانة].
هو وضاح بن عبد الله اليشكري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير].
عثمان بن أبي شيبة مر ذكره.
وجرير هو ابن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[المعنى عن الأعمش].
الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجاهد].
هو مجاهد بن جبر المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(580/18)
الأسئلة(580/19)
درجة حديث (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة)
السؤال
يسأل عدد من الإخوة عن حكم حديث: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة)؟
الجواب
حديث ضعيف.(580/20)
حكم إعاذة الظالم من ظالم مثله أو أظلم منه
السؤال
هل يعاذ الظالم إذا استعاذ بالله من ظالم مثله أو أظلم منه؟
الجواب
نعم؛ لأن هذه المساعدة يمكن أن تكون سبباً في رجوعه عن الظلم الذي وقع فيه، وهو دون ذاك الذي يريد أن يبطش به فإذا كان ذلك يؤدي إلى فائدة وهي سلامته من الظلم وبعده من الظلم فيمكن أن يعاذ.(580/21)
حكم إجابة دعوة المبتدع
السؤال
جاء في الحديث: (ومن دعاكم فأجيبوه) فإذا كان الدعي من أهل البدع فهل يجاب إلى دعوته؟ الشيخ: لا يجاب إلى دعوته إذا كان من أهل البدع، أو يكون في تلك الدعوة بدعة أو فيها أمر منكر، أما إذا كان سيذهب ويحذر من البدعة أو ينهى عن البدعة فهذا سائغ، أما كونه يذهب ويأكل وكأنه لم يحصل شيء فهذا غير مستقيم.(580/22)
ما جاء في رد الوسوسة(580/23)
شرح حديث (إذا وجدت في نفسك شيئاً فقل (هو الأول والآخر))
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في رد الوسوسة.
حدثنا عباس بن عبد العظيم حدثنا النضر بن محمد حدثنا عكرمة -يعني ابن عمار - قال: وحدثنا أبو زميل قال: (سألت ابن عباس رضي الله عنهما فقلت: ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: والله ما أتكلم به، قال: فقال لي: أشيء من شك؟ قال: وضحك، قال: ما نجا من ذلك أحد، قال: حتى أنزل الله عز وجل: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس:94]، الآية قال: فقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئاً فقل: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3])].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: [باب في رد الوسوسة].
الوسوسة: هي ما ينقدح في الذهن من الخواطر غير الطيبة والتي فيها سوء، تتعلق بالله عز وجل، أو تتعلق بالأمور الغيبية أو تتعلق بالإيمان بالله عز وجل أو بالجنة والنار، وما إلى ذلك من الأمور التي يلقيها الشيطان في قلب الإنسان ليشوش عليه، فعلى الإنسان أن يدفعها وأن يبتعد عنها وأن يستعيذ بالله من الشيطان وأن ينتهي منها، وأن يقول: آمنا بالله، كما جاء في بعض الأحاديث: (أن الشيطان لا يزال مع العبد يقول: من خلق كذا، من خلق كذا حتى يقول: من خلق الله؟ فمن وجد شيئاً من ذلك فليقل: آمنا بالله).
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أبا زميل سأله وقال: (ما شيء أجده في صدري؟ قال: وما هو؟ قلت: والله ما أتكلم به)، يعني: أنه يستعظم أن يتكلم بما انقدح في ذهنه من هواجس وأفكار ويصعب عليه أن ينطق بها، ولكن الشيطان يهجم بها على قلبه وهو يدافعها ويكرهها ويحب أن يتخلص منها.
والوسوسة من الشيطان، فهو الذي يوسوس بمثل هذه الأمور، والإنسان إذا دفعها واستعظم أن ينطق بها وتعوذ بالله عز وجل منها، فإن هذا يدل على قوة إيمانه، وعليه أن يستعيذ بالله عز وجل من الشيطان، وأن ينتهي من تلك الأمور التي انقدحت في ذهنه ويعرض عنها، وينشغل عنها ولا يتبع بعضها بعضاً ويلحق بعضها بعضاً، وإنما يتخلص منها بصرف نفسه عنها وبالتعوذ بالله من الشيطان الذي هو سبب في الإتيان بها إلى قلب الإنسان وذهنه.
قوله: [(ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: والله ما أتكلم به)].
يعني: يقول: أنا أجد في صدري شيئاً لا أطيق أن أتكلم به؛ لأنه شيء قبيح، وظنون تحصل من الشيطان يشوش بها على الإنسان ويلقيها عليه، وهو يردها ويدفعها ويكرهها ويبغضها، فكون الإنسان يعرض عن الوسوسة ويذكر الله عز وجل ويتعوذ بالله من الشيطان، بهذا ترد الوسوسة وتدفع ويتخلص منها.
قوله: [(قال: فقال لي: أشيء من شك؟ قال: وضحك)] أي: ابن عباس ضحك؛ لأنه فهم أنها شكوك وأفكار وأوهام يلقيها الشيطان عليه.
قوله: [(قال: ما نجا من ذلك أحد قال: حتى أنزل الله عز وجل: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس:94])].
المقصود من ذلك أن الناس لا يسلمون من الشيطان، وقد أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، والرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء عن ابن عباس وغيره لم يشك ولم يسأل، ولكن المقصود من ذلك غيره من الذين يمكن أن يلقي الشيطان في قلوبهم شيئاً من الشك، فهؤلاء عليهم أن يعلموا أن الأمم السابقة نزل في كتبها ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وبعثته ونبوته وكذلك الكتاب الذي جاء به، بل أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم جاء ذكر صفاتهم في التوراة والإنجيل، كما في آخر آية من سورة الفتح: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29].
ثم قال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح:29]، فهذا موجود في الكتب السابقة فيما يتعلق بالصحابة، وكذلك ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وذكر القرآن في الكتب السابقة، وأهل العلم بها كـ عبد الله بن سلام وغيره يعلمون ذلك.
قوله: [(قال: فقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئاً فقل: ((هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ)) [الحديد:3])].
يعني: هذا الذي ينقدح في الذهن عن الله عز وجل ويلقيه الشيطان، يدفع بهذه الأسماء لله عز وجل: الأول والآخر والظاهر والباطن، أو كما في اللفظ الآخر: فليقل آمنا بالله، أو آمنت بالله.(580/24)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا وجدت في نفسك شيئاً فقل (هو الأول والآخر))
قوله: [حدثنا عباس بن عبد العظيم].
هو عباس بن عبد العظيم العنبري ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن النضر بن محمد].
النضر بن محمد ثقة له أفراد، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا عكرمة بن عمار].
عكرمة بن عمار صدوق يغلط، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[وحدثنا أبو زميل].
هو سماك بن الوليد، ليس به بأس، وهي بمعنى صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[قال: سألت ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.(580/25)
شرح حديث (يا رسول الله نجد في أنفسنا الشيء نعظم أن نتكلم به)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاءه ناس من أصحابه فقالوا: يا رسول الله! نجد في أنفسنا الشيء نعظم أن نتكلم به، أو الكلام به، ما نحب أن لنا وأنا تكلمنا به، قال: أوقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن أصحاب رسول الله قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: إن أحدنا يجد شيئاً في نفسه نعظم أن نتكلم به، ويصعب علينا أن نتكلم به فقال: أوقد وجدتموه؟ قالوا نعم، قال: ذاك صريح الإيمان).
يعني: إذا وجدتم هذا التعاظم في نفوسكم أن تتكلموا به فهذا رد للوسوسة التي يلقيها الشيطان على الإنسان، فهو موضوع الترجمة [باب في رد الوسوسة] يعني: هذا التعاظم الذي فيه الرد وليس الوسوسة، لأن الوسوسة ليست هي صريح الإيمان، وإنما رد هذه الوسوسة والتعاظم لهذا الذي قذفه الشيطان في قلب الإنسان هو صريح الإيمان؛ لكونه يصعب عليه أن يتكلم بكلام قبيح أو بكلام سيئ لا يليق بالله عز وجل.(580/26)
تراجم رجال إسناد حديث (يا رسول الله نجد في أنفسنا الشيء نعظم أن نتكلم به)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
هو أحمد بن عبد الله بن يونس وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سهيل].
هو سهيل بن أبي صالح وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة، ورواية البخاري له مقرونة.
[عن أبيه].
أبوه هو أبو صالح السمان واسمه ذكوان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.(580/27)
شرح حديث (جاء رجل إلى النبي فقال يا رسول الله إن أحدنا يجد في نفسه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وابن قدامة بن أعين قالا: حدثنا جرير عن منصور عن ذر عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا رسول الله! إن أحدنا يجد في نفسه يعرَّض بالشيء، لأنْ يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة، قال: ابن قدامة: رد أمره، مكان: رد كيده)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أحدنا يجد في نفسه يعرض بالشيء).
يعني: يريد أن يعرض بالشيء تعريضاً ولا ينطق به، وإنما يشير إشارة إلى أن في نفسه شيئاً عظيماً، مثل العبارة التي جاءت في الحديث السابق: (يعظم أحدنا أن يتكلم بها).
إذاً: فمعناه: أنه يجد الشيء يعرض في النفس ولكنه صعب الكلام فيه.
قوله: [(لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به)].
يعني: لأن يكون رماداً أحب إليه من أن يتكلم به؛ لأنه شيء عظيم في نفسه ويصعب عليه أن يتكلم به، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد الله الذي رد كيده إلى الوسوسة) يعني: أن الإنسان لم يتكلم بهذا الشيء ولم يتابع هذا الشيء ولم يتلفظ به فيحقق للشيطان ما يريده، بل استعظم ذلك في نفسه ولم يتكلم به، فيكون بذلك رد كيد الشيطان.(580/28)
تراجم رجال إسناد حديث (جاء رجل إلى النبي فقال يا رسول الله إن أحدنا يجد في نفسه)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وابن قدامة بن أعين].
ابن أبي شيبة مر ذكره.
وابن قدامة هو محمد بن قدامة وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد مر ذكره.
[عن منصور].
هو منصور بن المعتمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ذر].
هو ذر بن عبد الله المرهبي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن شداد].
عبد الله بن شداد ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.(580/29)
الأسئلة(580/30)
حكم استمرار الوسوسة دون التلفظ بها
السؤال
لقد ذكر بعض أهل العلم أن الوسوسة إذا استمرت بالإنسان واستقرت في نفسه فهو مؤاخذ بها وإن لم يتكلم بها أو يعمل؛ لأن من الناس من تستمر معه الوسوسة سنين طويلة، فما صحة هذا القول؟
الجواب
على الإنسان أن يدفع الأشياء التي تهجم عليه، حتى يسلم منها، وأما كون الإنسان يبقي عليها ويثبتها وينميها ويتابعها ويشغل نفسه بها ولا يأتي بالأسباب التي تخلصه منها، كأن يقول هذه العبارة التي جاءت في الحديث: (هو الأول والآخر والظاهر) أو قوله: (آمنا بالله) أو أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فهذا هو الذي يؤاخذ على هذه المتابعة، وهذا مثل الإنسان الذي يهم بمعصية فيخاف الله فيتركها لله، فإنه يثاب على تركه وتكتب له حسنة، أما الإنسان الذي تبقى في ذهنه المعصية وهو مصر عليها ويفكر فيها ومشغول بها، ويتحين الفرصة ليجد الوصول إليها، فإن هذا الإنسان مؤاخذ على هذا العمل.(580/31)
واجب الإنسان تجاه الوساوس التي تعتريه في الصلاة
السؤال
يقول شخص: أحياناً تأتي الوساوس في الصلاة في السجود، والحمد لله أنا لا أبالي بها، فهل هذا يؤثر في نقصان أجر الصلاة؟
الجواب
لا شك أن الإنسان إذا انشغل في صلاته بما ليس منها فإن ذلك نقصان فيها، ولكن الإنسان يحرص على الإقبال على صلاته والانشغال بها وبما هو مطلوب فيها؛ حتى لا يجد الشيطان سبيلاً إلى أن يلقي عليه شيئاً يشغله عن صلاته.(580/32)
شرح سنن أبي داود [581]
إن مما امتن الله به على هذه الأمة أن قيض لها رجالاً يحمون أحاديث رسولها.
ولقد ذكر لنا التاريخ من جهود الصحابة في نشر السنة وضبطهم لها، الأمر الذي انبهرت به عقول المفكرين الغرب.
ومن مننه سبحانه أن حفظ لهذه الأمة نسلها ونسبها، فحرم لذلك ادعاء الرجل لغير أبيه أو قومه أو مواليه، ولعن صانعه، وحرم عليه دخول الجنة ابتداءً، وكل ذلك صيانة لنسب هذه الأمة، والأمن من ضياعها.
ومن مننه سبحانه على هذه الأمة أيضاً أن حرم عليها الافتخار بالأنساب والأحساب، والدعوة إلى العصبية، ودفاع الرجل عن أهله وعشيرته في الباطل؛ وذلك لما لهذه الأمور من خراب وفساد للمجتمعات.(581/1)
حكم ادعاء الرجل إلى غير أبيه أو مواليه(581/2)
شرح حديث (من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل ينتمي إلى غير مواليه.
حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا عاصم الأحول حدثني أبو عثمان حدثني سعد بن مالك رضي الله عنه قال: (سمعته أذناي ووعاه قلبي من محمد عليه الصلاة والسلام أنه قال: من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام) قال: فلقيت أبا بكرة رضي الله عنه فذكرت ذلك له، فقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي من محمد صلى الله عليه وآله وسلم].
أورد أبو داود: [باباً في الرجل ينتمي إلى غير مواليه] وهنا ذكر الرجل لا مفهوم له؛ فإن المرأة مثله، ولكن غالباً ما تأتي الأحكام وفيها ذكر الرجال؛ لأن الغالب أن الكلام معهم، وإلا فإن النساء مثل الرجال في الأحكام، إلا إذا جاء شيء يدل على تخصيص النساء أو تخصيص الرجال في الحكم، فعند ذلك يميز بين الرجال والنساء في الأحكام.
إذاً: ما جاءت به الشريعة وليس فيه التفريق؛ فإن الأصل هو التساوي بين الرجال والنساء فيه، فكون العلماء يذكرون في بعض الأبواب: باب في الرجل يفعل كذا وكذا، أو يأتي في الحديث نفسه ذكر الرجل في أمر من الأمور التي لا يختص بها الرجال؛ فإن الأمر لا يخص الرجال وإنما هو للرجال والنساء، ولكن ذكر الرجال؛ لأن الغالب أن الكلام معهم، وقد جاء في الأحاديث شيء من هذا مثل حديث: (لا تتقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا رجلاً كان يصوم صوماً) يعني: ومثله المرأة، وكذلك حديث: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من الغرماء) وكذلك المرأة؛ فإن الأمر لا يختص بالرجال وإنما ذكر الرجال لأن الغالب أن الكلام معهم.
فإذاً: قول أبي داود: [باب في الرجل ينتمي إلى غير مواليه] المقصود أن الغالب أن الكلام مع الرجال، وإلا فإن المرأة مثل الرجل لو انتمت إلى غير مواليها أو انتسبت إلى غير أبيها، فإن الحكم واحد ولا فرق بين الرجال والنساء، وأن هذا من الأحكام الذي تشترك فيها الرجال والنساء.
أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام).
أولاً: فيه عقوق لوالده؛ لأنه ترك الانتساب إليه.
ثانياً: فيه كذب؛ وذلك لأن انتسابه إلى شخص وهو ليس بأبيه يوهم أنه أبوه.
فكل هذه الأمور موجودة في مثل هذا العمل، ولهذا جاء فيه الوعيد الدال على أنه من الكبائر حيث قال: (فإن الجنة عليه حرام) وهذا من أحاديث الوعيد، وأحاديث الوعيد كما هو معلوم لا يعني أن صاحبها يكون كافراً، ولكنه أتى بأمر خطير وأتى بمعصية كبيرة يستحق عليها دخول النار وعدم دخول الجنة من أول وهلة، وقد يتجاوز الله عز وجل عن العبد الذي حصل منه ارتكاب كبيرة فلا يدخل النار وإنما يدخل الجنة من أول وهلة، وقد يعذب في النار ويدخلها، ولكنه يخرج منها بشفاعة الشافعين أو برحمة أرحم الراحمين ويكون من أهل الجنة.
فالحاصل أن هذا من الكبائر وأن فيه عقوقاً وفيه كذباً.
قوله: (سمعته أذناي)] فيه تأكيد سماع الحديث.
قوله: [(ووعاه قلبي)] فيه ما يدل على قوة الضبط، وعلى صحة الأخذ، وأنه تلقى ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أذنيه سمعتاه وأن قلبه وعاه، بحيث إنه لم يأخذه بواسطة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أخذه مباشرة، وأنه أتقنه وضبطه ولم يفته منه شيء.
وهذا مثل الكلام الذي قاله أبو شريح الخزاعي يخاطب عمرو بن سعيد الأشدق كما ثبت في الصحيحين، لما كان يجهز الجيوش لغزو ابن الزبير قال: (ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم الغداة من يوم الفتح، سمعته أذناي ووعاه قلبي ورأته عيناي وهو يتكلم به)، كل هذه من الصيغ التي فيها التأكيد وفيها قوة الضبط للحديث الذي يحدث به.
وأبو بكرة أيضاً قال مثل ما قال سعد: (سمعته أذناي ووعاه قلبي) يعني: أن كلاً منهما أتى بهذه الصيغ التي فيها تثبيت السماع وتثبيت الحفظ وتحقق ذلك، وأنه ليس هناك واسطة وإنما تلقياه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة.
قوله: [(من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام)].
أما: إذا كان الإنسان قد اشتهر بشيء ثم ذكر فيما اشتهر به، فإن ذلك لا يؤثر مثل ما جاء عن المقداد بن الأسود، فإن الأسود ليس أباه وإنما اشتهر بالنسبة إليه؛ لأنه تبناه لما كان التبني سائغاً، وإلا فهو المقداد بن عمرو، وكذلك الشخص قد ينسب إلى أمه؛ لأنه اشتهر بذلك.(581/3)
تراجم رجال إسناد حديث (من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام)
قوله: [حدثنا النفيلي].
هو عبد الله بن محمد بن النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا زهير].
زهير بن معاوية مر ذكره.
[حدثنا عاصم الأحول].
هو عاصم بن سليمان الأحول ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبو عثمان].
هو عبد الرحمن بن مُل وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني سعد بن مالك].
هو سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وأبو بكرة هو نفيع بن الحارث، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(581/4)
جهود الصحابة في نشر السنة وضبطهم لها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال: عاصم فقلت: يا أبا عثمان! لقد شهد عندك رجلان أيما رجلين، فقال: أما أحدهما فأول من رمى بسهم في سبيل الله أو في الإسلام، يعني: سعد بن مالك رضي الله عنه، والآخر قدم من الطائف في بضعة وعشرين رجلاً على أقدامهم، فذكر فضلاً].
يعني: هذا تعظيم لشأنهما وحسبك بهما، فهما رجلان عظيمان، فأكد هذا الكلام الذي قاله عاصم فقال: نعم.
أما أحدهما فأول رجل رمى بسهم في سبيل الله، وهو سعد بن أبي وقاص، وأما الثاني فقد جاء مع بضعة وعشرين رجلاً من الطائف، وذكر شيئاً من فضائله، وهو أبو بكرة رضي الله تعالى عنه.(581/5)
مكانة الحديث المسلسل بالتحديث عند رواة الحديث
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال النفيلي حيث حدث بهذا الحديث: والله إنه عندي أحلى من العسل، يعني: قوله: حدثنا وحدثني].
يعني: هذا الحديث وهذا الإسناد هو عندي أحلى من العسل؛ لأنه مسلسل بالتحديث فهو بين حدثنا وحدثني، ففي أوله حدثنا مرتين وفي آخره حدثني مرتين.(581/6)
وجه تفضيل الإمام أحمد لحديث أهل البصرة على حديث أهل الكوفة
[قال أبو علي: وسمعت أبا داود يقول: سمعت أحمد يقول: ليس لحديث أهل الكوفة نور، قال: وما رأيت مثل أهل البصرة كانوا تعلموه من شعبة].
أبو علي اللؤلؤي الذي روى كتاب السنن عن أبي داود يقول: سمعت أبا داود يخبر عن الإمام أحمد أنه قال: ليس لحديث أهل الكوفة نور، ويقصد بذلك الفقهاء الذين لم يكن عندهم العناية بالحديث مثل ما عند المحدثين، وإلا فإن أهل الكوفة فيهم كثير من المحدثين ممن يهتمون بالأسانيد والأخذ بالأحاديث الصحيحة.
وأهل البصرة من ناحية الحديث وإتقانه هم مثل المحدثين من أهل الكوفة، لكن كونهم تعلموه من شعبة بن الحجاج فاقوا أهل الكوفة؛ وذلك لأن شعبة بن الحجاج كان من المتمكنين في الحديث، وكان لا يروي عن المدلسين، وكان يعتني بالحديث وانتقائه.
وشعبة بن الحجاج كان من أهل واسط ثم صار من أهل البصرة.
فإذاً: وجوده في البصرة نفعهم.(581/7)
شرح حديث (من تولى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حجاج بن أبي يعقوب حدثنا معاوية -يعني ابن عمرو - حدثنا زائدة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (من تولى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة عدل ولا صرف)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تولى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة عدل ولا صرف) يعني: لا يقبل منه فريضة ولا نافلة، وهذا يدل على شدة الوعيد في هذا الأمر.
قوله: [(من تولى قوماً بغير إذن مواليه)].
هذا لا مفهوم له، فلو حصل الإذن منهم فإنه لا يجوز؛ لأن الولاء كما هو معلوم لحمة كلحمة النسب، لا يتصرف فيه كما لا يتصرف في النسب، فلا يباع ولا يوهب، وإنما هو شيء ثابت مستقر لأهله؛ كما أن النسب ثابت ومستقر لا يتصرف فيه، فكذلك لا يتصرف في الولاء.
فإذاً: قوله: [(بغير إذن مواليه)].
لا مفهوم له، وإنما هي صفة كاشفة لا مخصصة، مثل قوله عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون:117].
فإنه لا يمكن أن يأتي إنسان يدعو مع الله آخر ويكون عنده برهان، فهي صفة كاشفة وليست مخصصة.(581/8)
تراجم رجال إسناد حديث (من تولى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)
قوله: [حدثنا حجاج بن أبي يعقوب].
حجاج بن أبي يعقوب ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا معاوية يعني ابن عمرو].
معاوية بن عمرو وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زائدة].
هو زائدة بن قدامة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة].
قد مر ذكر الثلاثة.(581/9)
شرح حديث (من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي حدثنا عمر بن عبد الواحد عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني سعيد بن أبي سعيد ونحن ببيروت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك وهو يجمع بين الحديثين السابقين، الحديث الذي فيه ذكر الانتساب لغير الأب، والحديث الذي فيه تولي غير الموالي، فهو جمع بينهما بقوله: (من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة).(581/10)
تراجم رجال إسناد حديث (من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة)
قوله: [حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي].
سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي هو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عمر بن عبد الواحد].
عمر بن عبد الواحد وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر].
عبد الرحمن بن يزيد بن جابر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني سعيد بن أبي سعيد].
سعيد بن أبي سعيد المقبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه وقد مر ذكره.(581/11)
الأسئلة(581/12)
حكم الانتساب إلى قبيلة أشرف نسباً
السؤال
هل يدخل في تغيير الانتماء للموالي من غير انتسابه إلى قبيلة أخرى أشرف نسباً أو من يجهل نسبه وانتسب إلى قبيلة؟
الجواب
لا يجوز للإنسان أن ينتسب إلى قبيلة وهو ليس منها، ولا يجوز له أيضاً أن يغير قبيلته أو يترك الانتماء إلى قبيلته وينتقل إلى قبيلة تكون أشرف نسباً من قبيلته، فإن هذا يكون من قبيل المتشبع بما لم يعط، فيكون كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور).
كالذين ينتمون إلى أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم لأن هذا النسب شريف، فإن هذا من قبيل التشبع بما لم يعط الإنسان وهو غير سائغ مطلقاً.(581/13)
حكم من ادعى إلى غير أبيه لأجل مصلحة دنيوية
السؤال
ادعى رجل إلى غير أبيه لا رغبة، وإنما من أجل مصلحة دنيوية كالحصول على جنسية أو نحوها من معاملة، فهل يدخل في الوعيد؟
الجواب
لاشك أنه داخل في الوعيد.(581/14)
حكم من انتسب إلى غير جده فما فوق
السؤال
هل يدخل في الوعيد من انتسب إلى غير جده فما فوق؟
الجواب
نعم، مثل أن ينتمي إلى قبيلة بعيدة.(581/15)
حكم انتساب المرأة إلى زوجها
السؤال
في بعض البلدان إذا تزوجت المرأة تنسب إلى زوجها، فهل هذا جائز؟
الجواب
لا يجوز؛ لابد أن تنسب إلى أبيها ولا تنسب إلى زوجها، وهذه من الأمور المحدثة التي أحدثها بعض الناس.(581/16)
كيفية انتساب ولد الزنا
السؤال
إلى من ينسب ولد الزنا؟
الجواب
لا ينسب إلى أحد وإنما يوضع له نسب يعرف به من غير أن يكون له حقيقة، كأن يقال مثلاً: فلان ابن عبد الله أو ابن عبد الرحمن أو ابن عبد العزيز، وهذا أولى من الألفاظ الأخرى؛ لأن الكل عبيد الله عز وجل.(581/17)
حكم إعطاء اسم العائلة للطفل اللقيط دون الميراث
السؤال
ما حكم إعطاء اسم العائلة للطفل الذي يؤتى به من دور اللاجئين ونحوها، مع الالتزام بعدم إعطائه الحقوق الشرعية المترتبة على النسب كالميراث؟
الجواب
لا يصلح أن يضاف إلى العائلة؛ لأنه ليس منها.(581/18)
حكم إلحاق أولاد الأخ أو الابن أو الصديق بالنسب لأجل الحصول على الجنسية
السؤال
يوجد في بعض البلاد من يدخل أولاد أخيه أو أولاد ابنه أو أولاد صديقه إلى البلاد التي يقيم هو فيها على أنهم أولاده، فيحصلون بموجب ذلك على تسهيلات، ومنها الحصول على الجنسية لتلك البلاد، فما هو الحكم؟
الجواب
كل ذلك لا يجوز، وكل ذلك كذب.(581/19)
حكم من أخذ الجنسية من غير بلده
السؤال
ما حكم من يأخذ جنسية غير جنسية بلده؟
الجواب
يدخل في هذا؛ لأن هذا انتقل من بلد إلى بلد، فيقال: إنه من أهل هذا البلد، ومعلوم أن الإنسان قد ينتسب إلى بلد لمكثه فيه، مثلما قال النووي: إن الإنسان إذا مكث في بلد أربع سنوات نسب إليها، ولهذا تتعدد النسبة، مثل شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، كان واسطياً ثم صار بصرياً، والإنسان إذا كان في بلد ثم انتقل إلى بلد آخر وأخذ جنسية ذلك البلد فلا بأس به إذا كان بلداً مسلماً، أما التجنس بجنسيات الكفار فهذا لا يجوز، إلا إذا كان مضطراً وألجأته الضرورة إلى ذلك، ولكن لا يجوز له أن يقوم بالأشياء التي تطلب منه بموجب ذلك التجنس وهي مخالفة للدين.(581/20)
حكم من أراد الرجوع إلى نسبه فلم يستطع إلا بدفع رشوة
السؤال
هناك شخص انتسب إلى عمه الذي لا أولاد له منذ الصغر، وعندما كبر أراد أن ينتسب إلى أبيه فوجد صعوبات في المحاكم من جهة الوثائق، ولم يجد إلى ذلك سبيلاً إلا بدفع الرشوة، فهل يجوز أن يدفع الرشوة في هذه الحال؟
الجواب
لا يدفع الرشوة، ولكنه يخبر بالحقيقة، ويسعى إلى تحصيل ما يريد بدون أن يرتكب أمراً محرماً.(581/21)
حكم إجابة دعوة الوليمة المصحوبة بالأناشيد
السؤال
مر معنا: (وإذا دعاكم فأجيبوه) إذا كان في الدعوة أو في الوليمة شيء من الأناشيد، فهل يجوز الحضور وإجابة الدعوة؟
الجواب
إذا كانت تلك الأناشيد محرمة فليس للإنسان أن يذهب.(581/22)
الضابط في إعطاء من سأل بالله
السؤال
ذكر بعض شراح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب أن العلة في الأمر بإعطاء السائل الذي يسأل بالله هو الاحترام لاسم الله، فهل يكون المرء ناقص الإيمان إذا لم يعط السائل؟
الجواب
أنا ذكرت فيما مضى أن الإنسان إذا كان بحاجة وسأل شيئاً معقولاً، فإن الإنسان يحقق له الرغبة، أما إذا طلب منه أن يتنازل عن ماله أو يعطيه أكثر ماله أو ما إلى ذلك فهذا ليس له أن يجيبه؛ لأن هذا سؤال لا يجوز لمثله أن يسأله.(581/23)
التفاخر بالأحساب(581/24)
شرح حديث (إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التفاخر بالأحساب.
حدثنا موسى بن مروان الرقي حدثنا المعافى ح وحدثنا أحمد بن سعيد الهمداني أخبرنا ابن وهب وهذا حديثه عن هشام بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن)].
أورد أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باباً في التفاخر بالأحساب].
المقصود من هذه الترجمة هو تفاخر الناس بأنسابهم وما يحصل لآبائهم أو لأجدادهم من مفاخر، فيفتخرون بها ويتعالون بها ويترفعون بها على غيرهم ويتكبرون، فهذه من الأمور التي جاء الإسلام بالنهي عنها والتحذير منها، فهي من أعمال الجاهلية التي جاء الإسلام بإبطالها والتحذير منها.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية) يعني: الكبر والتفاخر الذي يكون منهم في الجاهلية بأحسابهم وأنسابهم وتكبرهم، وكونهم يفتخرون بالآباء ويتكبرون بما يزعمونه من فضل أو من شرف على غيرهم.
قوله: [(مؤمن تقي)] وهذا ليس له أن يتكبر، وإنما عليه أن يتواضع وأن يترك التكبر.
قوله: [(وفاجر شقي)] يعني: أن تكبره يكون زيادة في شقائه وزيادة في ضرره؛ لأنه قد حصل على الشقاوة، فيكون في تفاخره وفي تكبره زيادة على ما هو فيه من البلاء.
قوله: [(أنتم بنو آدم وآدم من تراب)].
يعني: كلكم من آدم وآدم أصله من تراب، فيكف يكون التفاخر ممن أصله من تراب وقد خلق من ماء مهين؟! ومن يكون متصفاً بصفات النقص كيف يحصل منه الفخر ويحصل منه التكبر والتجبر؟! وإنما على الإنسان أن يتواضع وأن يبتعد عن هذه الأمور الذميمة التي كانت في الجاهلية، وجاء الإسلام بالتحذير منها وبتركها والابتعاد عنها.
قوله: [(ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم)].
يعني: المتفاخر بهم، وأما المتفاخرون فهم الذين جاء ذكرهم في الآخر: (أو ليكونن أهون على الله من الجعلان) يعني: إما أن يكونوا أهون من الجعلان؛ لذلتهم وهوانهم على الله عز وجل، والمتفاخر بهم هم القوم الذين هم من فحم جهنم.
والمقصود بذلك الكفار الذين كانوا يتفاخرون بهم، وأما إذا كانوا ليسوا من الكفار ولكنهم مسلمون وتفاخر بهم أحد، فإنهم لا يكونون بهذا الوصف الذي جاء في هذا الحديث.
وفخر الولد بشيء من صفات الآباء والآباء لا يرضون بذلك لا يضرهم، وإنما المقصود بالحديث التفاخر الذي كان في الجاهلية بالكفار، فهؤلاء هم فحم جهنم ومآلهم إلى جهنم.
والجعلان: جمع جعل، وهي الدابة التي تعشق العذرة والتي تأخذها وتذهب بها، ولا ترتاح إلا بمصاحبة القاذورات، فمن يفخر بحسبه يكون أهون على الله عز وجل من هذه الدابة التي هي بهذا الوصف، والمتفاخر بهم هم الآباء الذين كانوا كفاراً، فهم فحم من فحم جهنم.
في هذا التحذير من الفخر بالأحساب والأنساب، وأن ذلك مذموم عند الله عز وجل، وأن من حصل منه التفاخر فإنه يعاقب بأن يكون عند الله عز وجل أهون من هذه الدابة التي لا تفارق العذرة.(581/25)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء)
قوله: [حدثنا موسى بن مروان الرقي].
موسى بن مروان الرقي مقبول، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا المعافى].
هو المعافى بن عمران الموصلي وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[ح وحدثنا أحمد بن سعيد الهمداني].
أحمد بن سعيد الهمداني وهو صدوق، أخرج له أبو داود.
[أخبرنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وهذا حديثه].
يعني: حديث ابن وهب، يعني أن اللفظ مسرود على لفظ الطريقة الثانية، وأما الطريق الأولى فهي بالمعنى.
[عن هشام بن سعد].
هشام بن سعد وهو صدوق له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سعيد بن أبي سعيد].
هو سعيد بن أبي سعيد المقبري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو أبو سعيد المقبري وهو ثقة أيضاً، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.
وأبو هريرة يروي عنه أبو سعيد المقبري ويروي عنه أيضاً ابنه سعيد بن أبي سعيد.(581/26)
الأسئلة(581/27)
الفرق بين الحسب والنسب
السؤال
ما الفرق بين الحسب والنسب؟
الجواب
النسب عام فكل له نسب، لكن ليس كل أحد يكون له حسب، ولهذا يفتخر الأبناء بالأحساب، أما الأنساب فكل له نسب.(581/28)
وجه إرجاع الضمير في قوله وهذا حديثه إلى الهمداني لا إلى ابن وهب كما في حديث الباب
السؤال
ما رأيكم في شرح العظيم أبادي لما قال: (وهذا حديثه) قال: أي: حديث أحمد بن سعيد؟
الجواب
هو الآن ذكر الطريقة الثانية، وذكر الشيخ والتلميذ ثم قال: (وهذا حديثه) فيحتمل أن يرجع إلى الشيخ الثاني لـ أبي داود أو إلى شيخ شيخه الثاني، والنتيجة واحدة، لكن الأقرب أن يرجع إلى أقرب مذكور وهو عبد الله بن وهب الذي هو شيخ الشيخ، وإن رجع إلى شيخ أبي داود الذي هو أحمد بن سعيد الهمداني فهو صحيح.(581/29)
حكم التفاخر بالآباء المسلمين
السؤال
هل في الحديث دليل على جواز التفاخر بالآباء والأجداد الذين كانوا مسلمين؟
الجواب
لا يدل على الجواز، بل التفاخر مذموم على كل حال.(581/30)
وجه الشبه بين المتفاخر بحسبه والجعلان
السؤال
ما وجه الشبه بين المتفاخر بحسبه والجعلان؟
الجواب
من ناحية أنه عومل بنقيض قصده، وأنه كان عنده تعال وترفع، ثم صار جزاؤه أن كان بهذه المنزلة أو بهذا الوصف المهين وأنه محتقر، وهذا من جنس ما جاء في المتكبرين أنهم يحشرون أمثال الذر؛ لأنهم كانوا يتعاظمون فصار عقابهم أن يكونوا في غاية الحقارة وفي غاية الصغار والذلة، فيكون من هذا القبيل معاملته بنقيض قصده.(581/31)
حقيقة أهل الفترة
السؤال
هل يستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إنما هم فحم من فحم جهنم) أن أهل الجاهلية ليسوا من أهل الفترة؟
الجواب
الذين بلغتهم الرسالة ليسوا من أهل الفترة، ولهذا جاء الحكم بالنار على أناس كانوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، مثل ما جاء في قوله: (إن أبي وأباك في النار) وجاء في حديث: (أنه لم يأذن لي أن أستغفر لأمي وأذن لي أن أزورها).(581/32)
ما جاء في العصبية(581/33)
شرح حديث (من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي ردي فهو ينزع بذنبه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في العصبية.
حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه قال: (من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي ردي فهو ينزع بذنبه).
حدثنا ابن بشار حدثنا أبو عامر حدثنا سفيان عن سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه قال: (انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو في قبة من أدم فذكر نحوه)].
أورد أبو داود [باباً في العصيبة].
والعصبية: هي الانتصار للقرابة، وقيل: إن العصبية مأخوذة من العصبة الذين هم قرابة الإنسان الذين يرثون بدون تقدير؛ لأن الوارثين منهم من يرث بالفرض ومنهم من يرث بالتعصيب.
فإذاً: الانتصار يكون من أجل القرابة وليس من أجل أنهم مستحقون أو لكونهم مظلومين، وإنما من أجل القرابة، فتجده يكون معهم على الخير والشر وينتصر لهم دائماً وأبداً سواء كانوا ظالمين أو مظلومين، فهو لا ينتصر للحق ولا ينتصر للمظلوم، وإنما ينتصر للقرابة.
أورد أبو داود حديث ابن مسعود وقد جاء من طريقين: الأولى موقوفة، والثانية مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الطريق الأولى: قال ابن مسعود: (من نصر قومه على غير الحق) يعني: أن النصر بالحق أمر سائغ، بأن ينصر قومه وغير قومه بالحق، وإذا كان قومه مظلومين ينتصر لهم، وإذا كانوا ظالمين منعهم من الظلم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قال: أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تمنعه من الظلم).
قوله: [(فهو كالبعير الذي ردي)] أي: تردى في بئر أو في حفرة، وصارت رقبته في الأسفل وذنبه في الأعلى.
قوله: [(فهو ينزع بذنبه)] يعني: فهو يخرج بذنبه، ومعنى ذلك أنه ينصر قومه وهم على باطل، مثل البعير الذي تردى في بئر، فهو لا يتمكن من استخراجه من مقدمه، وذلك لأن المكان الذي تردى فيه ضيق، وليس أمامهم إلا ذنبه، فإنهم ينزعونه به.
وورد الحديث من طريق أخرى مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: (انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبة من أدم) يعني: وهو جالس في قبة من جلد أو خيمة من جلد.(581/34)
تراجم رجال إسناد حديث (من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي ردي فهو ينزع بذنبه)
قوله: [حدثنا النفيلي].
هو عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سماك بن حرب].
سماك بن حرب وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود].
عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وعبد الرحمن سمع من أبيه، وهو أكبر أولاد أبيه ويكنى به.
وقوله: [حدثنا ابن بشار].
هو محمد بن بشار الملقب بندار وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو عامر].
هو أبو عامر العقدي واسمه عبد الملك بن عمرو وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه].
وقد مر ذكر الثلاثة.(581/35)
شرح حديث (يا رسول الله ما العصبية؟ قال أن تعين قومك على الظلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمود بن خالد الدمشقي حدثنا الفريابي حدثنا سلمة بن بشر الدمشقي عن ابنة واثلة بن الأسقع أنها سمعت أباها رضي الله عنه يقول: (قلت: يا رسول الله! ما العصبية؟ قال: أن تعين قومك على الظلم)].
أورد أبو داود حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه: (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن العصبية فقال: أن تعين قومك على الظلم) يعني: كونه يتعصب لهم وهم ظالمون فيكون عوناً لهم، وهذا من جنس الذي قبله، أي الذي ينتصر لقومه بغير حق، فمثله كمثل البعير الذي ردي فهو ينزع من ذنبه.
والأصل أن المظلوم هو الذي يعان وينصر، والظالم ينصر بمنعه من الظلم، وليس بإعانته على الظلم، والحديث بهذا الإسناد ضعيف؛ لأن فيه شخصين مقبولين.(581/36)
تراجم رجال إسناد حديث (يا رسول الله ما العصبية؟ قال أن تعين قومك على الظلم)
قوله: [حدثنا محمود بن خالد الدمشقي].
محمود بن خالد الدمشقي ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الفريابي].
هو محمد بن يوسف الفريابي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سلمة بن بشر الدمشقي].
سلمة بن بشر الدمشقي وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن ابنة واثلة بن الأسقع].
وهي فسيلة وهي مقبولة، أخرج لها البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود وابن ماجة.
[أنها سمعت أباها].
وهو واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(581/37)
شرح حديث (خطبنا رسول الله فقال خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا أيوب بن سويد عن أسامة بن زيد أنه سمع سعيد بن المسيب يحدث عن سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم).
قال أبو داود: أيوب بن سويد ضعيف].
أورد أبو داود حديث سراقة بن مالك بن جعشم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم).
يعني: ما لم يأت إثماً وما لم يكن ظالماً، وإنما يدافع عنهم وهم مظلومون لا ظالمون.
وهذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه انقطاعاً بين سعيد بن المسيب وبين سراقة بن مالك؛ لأن سراقة بن مالك توفي سنة أربع وعشرين، وسعيد ولد في آخر خلافة عمر يعني وعمر توفي سنة ثلاث وعشرين.(581/38)
تراجم رجال إسناد حديث (خطبنا رسول الله فقال خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم)
قوله: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح].
أحمد بن عمرو بن السرح ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا أيوب بن سويد].
أيوب بن سويد وهو صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أسامة بن زيد].
هو أسامة بن زيد الليثي وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي].
سراقة بن مالك بن جعشم رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
سراقة بن مالك كان زمن الهجرة مشركاً، وكان من الذين أرسلتهم قريش للبحث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر، وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وهما في طريقهما إلى المدينة، ولما قرب منهما ساخت يدا فرسه في الأرض حتى بلغت الركبتين، فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، وألا يخبر عنه، فدعا له وظهرت يدا فرسه ورجع، وكان رضي الله عنه إذا لقيه أحد قال: (كفيتم هذه الناحية).
يعني: أنا جئت من هذه الناحية وكفيتكم البحث فيها، وهو الذي جاء عنه حديث قصة دخول العمرة في الحج وقال: (أرأيت عمرتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ قال: بل لأبد الأبد).(581/39)
شرح حديث (ليس منا من دعا إلى عصبية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن السرح حدثنا ابن وهب عن سعيد بن أبي أيوب عن محمد بن عبد الرحمن المكي -يعني ابن أبي لبيبة - عن عبد الله بن أبي سليمان عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية)].
أورد أبو داود حديث جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية) يعني: هذه جمل ثلاث كلها فيها ذكر العصبية، يعني: كون الإنسان يدعو إلى عصبية أو يقاتل على عصبية أو يموت على عصبية، لكن الحديث في إسناده ضعف من جهة أن فيه انقطاعاً، ومن جهة أن أحد رجاله مجهول أو ضعيف، ولكن معناه جاء في صحيح مسلم، فيكون معناه ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه بهذا اللفظ وبهذا الطريق غير صحيح.(581/40)
تراجم رجال إسناد حديث (ليس منا من دعا إلى عصبية)
قوله: [حدثنا ابن السرح حدثنا ابن وهب عن سعيد بن أبي أيوب].
سعيد بن أبي أيوب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عبد الرحمن المكي يعني: ابن أبي لبيبة].
محمد بن عبد الرحمن المكي وهو ضعيف، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن عبد الله بن أبي سليمان].
عبد الله بن أبي سليمان وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود.
[عن جبير بن مطعم].
جبير بن مطعم رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وفيه انقطاع بين عبد الله بن أبي سليمان وبين جبير.(581/41)
شرح حديث (ابن أخت القوم منهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن عوف عن زياد بن مخراق عن أبي كنانة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ابن أخت القوم منهم)].
أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابن أخت القوم منهم) يعني: أن ابن أخت القوم من القوم، وذلك باعتبار أنه يمكن أن يطلع على أسرار القوم، وأيضاً باعتبار الصلة والقرابة من جهة الأم، وإن كان ينتسب إلى قبيلة أخرى، ولكنه من جهة أنهم أخواله وأن أمه من أولئك القوم فإنه يكون منهم.
وقد جاء ذلك في هذا الحديث وفي غيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في حديث الأنصار يوم حنين لما قالوا: (إن سيوفنا تقطر من دمائهم والأموال تعطى لهم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فجمع الأنصار في خيمة أو في مكان، وقال: بلغني عنكم كذا وكذا، ثم قال: هل فيكم أحد غيركم؟ قالوا: فينا غلام وهو ابن أختنا، قال: ابن أخت القوم منهم) وتحدث معهم وتكلم معهم بالكلام الذي طيب به نفوسهم، وصار أحسن لهم من الإبل ومن الغنم التي كانت تعطى للمؤلفة قلوبهم، فكان مما أجابهم به أن قال: (الأنصار شعار والناس دثار، لو سلك الأنصار وادياً وسلك غيرهم وادياً لسلكت وادي الأنصار وشعبها) وقال فيهم كلمات عظيمة طابت بها نفوسهم وفرحوا بها، وصارت أحسن عندهم من تلك الأشياء التي تكلم فيها بعضهم وتأثر بسببها بعضهم؛ لكون غيرهم أعطي وهم لم يعطوا من تلك الغنائم.
ووجه إيراد الحديث في باب العصبية أنه أشار إلى أن من القرابة أن ابن أخت القوم يكون منهم، فيمكن أن تفشى إليه الأسرار ولما يكون من صلة الرحم التي تكون بينه وبين أخواله.(581/42)
تراجم رجال إسناد حديث (ابن أخت القوم منهم)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
أبو بكر بن أبي شيبة اسمه عبد الله بن محمد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا أبو أسامة].
هو حماد بن أسامة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عوف].
عوف بن أبي جميلة الأعرابي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زياد بن مخراق].
زياد بن مخراق وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود.
[عن أبي كنانة].
أبو كنانة القرشي وهو مجهول أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود.
[عن أبي موسى].
هو عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث وإن كان فيه هذا المجهول، إلا أنه ثابت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(581/43)
شرح حديث (شهدت مع رسول الله أحداً فضربت رجلاً من المشركين فقلت خذها مني وأنا الغلام الفارسي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا الحسين بن محمد حدثنا جرير بن حازم عن محمد بن إسحاق عن داود بن حصين عن عبد الرحمن بن أبي عقبة عن أبي عقبة وكان مولى من أهل فارس رضي الله عنه قال: (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحداً فضربت رجلاً من المشركين فقلت: خذها مني وأنا الغلام الفارسي، فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: فهلا قلت: خذها مني وأنا الغلام الأنصاري)].
أورد أبو داود حديث أبي عقبة رضي الله عنه قال: (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً فضربت رجلاً من المشركين فقلت: خذها وأنا الغلام الفارسي، فالتفت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: فهلا قلت: خذها مني وأنا الغلام الأنصاري) يعني: أنكر عليه افتخاره بأصله الذين هم الفرس، وأرشده إلى أن ينسب نفسه إلى الأنصار الذين هو معهم، ولكن الحديث ضعيف؛ لأن في إسناده الراوي عن أبي عقبة وهو عبد الرحمن بن أبي عقبة وهو مقبول.(581/44)
تراجم رجال إسناد حديث (شهدت مع رسول الله أحداً فضربت رجلاً من المشركين فقلت خذها مني وأنا الغلام الفارسي)
قوله: [حدثنا محمد بن عبد الرحيم].
محمد بن عبد الرحيم الملقب صاعقة، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا الحسين بن محمد].
الحسين بن محمد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا جرير بن حازم].
جرير بن حازم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن داود بن حصين].
داود بن حصين وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن أبي عقبة].
عبد الرحمن بن أبي عقبة وهو مقبول، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن أبي عقبة].
أبو عقبة وهو صحابي، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
ففي إسناده عبد الرحمن بن أبي عقبة وهو مقبول، وفيه أيضاً محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد روى بالعنعنة.(581/45)
شرح سنن أبي داود [582]
جاءت الشريعة الإسلامية ببث الإخاء بين المسلمين بعضهم ببعض، وتقوية تلك الروابط بشتى الوسائل، فأمرت المرء إذا كان يحب شخصاً في الله أن يخبره بذلك، ورغبت في التأخير بأن جعلت الحبيب مع من أحب في الجنة، وحثت الإخوة على التناصح، والدلالة على الخير، واستشارة بعضهم بعضاً، والنصح له في المشورة، فإن المستشار مؤتمن.(582/1)
حكم إخبار الرجل بمحبته إياه(582/2)
شرح حديث (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب إخبار الرجل بمحبته إياه.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ثور حدثني حبيب بن عبيد عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه -وقد كان أدركه- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة [باب إخبار الرجل بمحبته إياه].
أي: أن الإنسان إذا أحب رجلاً في الله، فإنه يخبره بمحبته إياه في الله؛ وذلك لأنه يكون في ذلك التواد، ويكون في ذلك السرور والفرح.
ومعلوم أن الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، وقد جاءت أحاديث كثيرة تدل على فضل المحبة في الله، ومن بين ذلك الحديث الذي فيه ذكر السبعة الذين يظلهم الله في ظله: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه).
وقد أورد أبو داود تحت هذا الباب حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه).
قوله: [(فليخبره)].
الذي يبدو أن الإخبار على الاستحباب.(582/3)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثور].
ثور بن يزيد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني حبيب بن عبيد].
حبيب بن عبيد وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن المقدام بن معد يكرب].
المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه وهو صحابي، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[وقد كان أدركه].
يعني: حبيب بن عبيد أدرك المقدام بن معد يكرب.(582/4)
شرح حديث (أن رجلاً كان عند النبي فمر به رجل فقال يا رسول الله إني لأحب هذا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا المبارك بن فضالة حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن رجلاً كان عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فمر به رجل، فقال: يا رسول الله إني لأحب هذا، فقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أعلمته؟ قال: لا، قال: أعلمه، قال: فلحقه فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبك الذي أحببتني له)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلاً كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر به رجل فقال: يا رسول الله إني لأحب هذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعلمته؟ قال: لا، قال: أعلمه، قال: فلحقه فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبك الله الذي أحببتني له).
من فوائد هذا الإخبار أنه دعا له بأن يحبه الله الذي أحبه فيه.(582/5)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رجلاً كان عند النبي فمر به رجل فقال يا رسول الله إني لأحب هذا)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا المبارك بن فضالة].
المبارك بن فضالة صدوق أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا ثابت البناني].
هو ثابت بن أسلم البناني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود.(582/6)
شرح حديث (يا رسول الله الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل كعملهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا سليمان عن حميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه قال (يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل كعملهم، قال: أنت يا أبا ذر مع من أحببت، قال: فإني أحب الله ورسوله، قال: فإنك مع من أحببت، قال: فأعادها أبو ذر فأعادها رسول الله صلى الله عليه وعلى وآله وسلم)].
أورد أبو داود حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل كعملهم، قال: أنت مع من أحببت، قال: فإني أحب الله ورسوله، قال: فأنت مع من أحببت، قال: فأعادها أبو ذر فأعادها رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا يدل على فضل المحبة في الله، وأن من فوائدها أن من يكون كذلك فإنه يكون مع الذي أحبه في الله عز وجل.
وحديث: (المرء مع من أحب) حديث متواتر ذكره ابن كثير عند تفسير قول الله عز وجل: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبْ} [الشورى:17] في تفسير سورة الشورى، وقال: إنه حديث متواتر.
وابن القيم ذكر في تهذيب السنن تسعة عشر صحابياً رووا هذا الحديث، وذكر الذين خرجوا هذا الحديث، وهو يبين ما ذكره ابن كثير من تواتره.
قوله: [(فإنك مع من أحببت قال: فأعادها أبو ذر فأعادها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)].
يعني: أعاد الكلام.(582/7)
تراجم رجال إسناد حديث (يا رسول الله الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل كعملهم)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سليمان].
سليمان بن المغيرة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد بن هلال].
حميد بن هلال وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن الصامت].
عبد الله بن الصامت وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي ذر].
أبو ذر رضي الله عنه واسمه جندب بن جنادة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(582/8)
شرح حديث (يا رسول الله الرجل يحب الرجل على العمل من الخير يعمل به ولا يعمل بمثله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن يونس بن عبيد عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فرحوا بشيء لم أرهم فرحوا بشيء أشد منه، قال رجل: يا رسول الله! الرجل يحب الرجل على العمل من الخير يعمل به ولا يعمل بمثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: المرء مع من أحب)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! الرجل يحب الرجل على العمل من الخير يعمل به ولا يعمل بمثله، فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب) يعني: كون الإنسان يحب رجلاً في الله من أجل فعله الخير وعلى أعماله الطيبة الصالحة، فإنه يكون معه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب).
وقد أخبر أنس بن مالك رضي الله عنه أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فرحوا بهذا الحديث فرحاً شديداً لم يفرحوا بشيء مثله، وجاء في صحيح البخاري: (أنهم ما فرحوا بعد الإسلام فرحهم بهذا الحديث) أي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب) وقد قال أنس رضي الله عنه بعد ذكر هذا الحديث كما في صحيح البخاري: (فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحب أبا بكر وعمر، وأرجو من الله أن يلحقني بهم بحبي إياهم وإن لم أعمل مثل أعمالهم).(582/9)
تراجم رجال إسناد حديث (يا رسول الله الرجل يحب الرجل على العمل من الخير يعمل به ولا يعمل بمثله)
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
هو وهب بن بقية الواسطي وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا خالد].
هو خالد بن عبد الله الطحان الواسطي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يونس بن عبيد].
يونس بن عبيد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثابت عن أنس بن مالك].
ثابت وأنس قد مر ذكرهما.(582/10)
الأسئلة(582/11)
مرافقة المحب للصالحين في الجنة
السؤال
المحب للصالحين هل يبلغ درجتهم في الجنة؟
الجواب
يمكن أن يكون معهم في الجنة وإن حصل التفاوت.(582/12)
وجه ذكر الرجل عند المخاطبة بالأحكام الشرعية
السؤال
الترجمة [باب إخبار الرجل بمحبته إياه] الرجل هنا هل لها مفهوم؟
الجواب
ليس لها مفهوم، الرجل والمرأة كلهم سواء في ذلك؛ لأن الأصل أن الأحكام عامة للرجال والنساء، ولا تكون للنساء إلا إذا جاء شيء يدل على تخصيصهن، ولا تكون للرجال إلا إذا جاء شيء يدل على تخصيصهم، ولكن ذكر الرجال لأن الغالب أن الخطاب معهم.(582/13)
حكم قول الرجل للمرأة إني أحبك في الله
السؤال
هل للرجل أن يقول للمرأة: إني أحبك في الله؟!
الجواب
إذا كانت من أقاربه ومن له بها صلة وممن يمكنه الحديث معها، وكانت ممن تحب في الله فنعم.(582/14)
حكم مخاطبة الرسول بعد موته بقول يا رسول الله إني أحبك في الله
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يقول الآن: يا رسول الله إني أحبك في الله؟
الجواب
لا يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يخبر بأنه يحب الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو يتوسل إلى الله عز وجل بمحبته لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.(582/15)
ما جاء في المشورة(582/16)
شرح حديث (المستشار مؤتمن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المشورة.
حدثنا ابن المثنى حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا شيبان عن عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (المستشار مؤتمن)].
أورد أبو داود [باباً في المشورة].
والمشورة: هي كون الإنسان يشير إذا استشير بما هو أصلح وبما هو خير للمستشير، وهو مؤتمن، ومقتضى الأمانة أنه لا يخونه بأن يشير عليه بشيء لا يناسب، أو يقصر في المشورة، أو يبخل بالمشورة ويعتذر مع تمكنه من أن يشير عليه.
قوله: [(مؤتمن)] يدل على أنه في حكم المؤتمنين من ناحية أنه يؤدي تلك الأمانة، وهي أنه يشير بما يرى فيه الخير، وإذا أشار بشيء يرى فيه المصلحة ثم تبين أنه لم يستفد من هذا الذي أشار عليه به، فإنه ليس عليه تبعة بسبب ذلك؛ لأنه أشار بما رأى فيه المصلحة، وكونه تحقق له ما أراد أو لم يتحقق هذا شيء آخر لا دخل للإنسان فيه، ولا يلحقه به غرم ولا ذم، مادام أنه قد أبدى ما عنده من النصح، وما فيه الخير لمن استشاره.(582/17)
تراجم رجال إسناد حديث (المستشار مؤتمن)
قوله: [حدثنا ابن المثنى].
هو محمد بن المثنى أبو موسى الزمن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يحيى بن أبي بكير].
يحيى بن أبي بكير هو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شيبان].
هو شيبان بن عبد الرحمن النحوي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الملك بن عمير].
عبد الملك بن عمير وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.(582/18)
ما جاء في الدال على الخير(582/19)
شرح حديث (من دل على خير فله مثل أجر فاعله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الدال على الخير: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الأعمش عن أبي عمرو الشيباني عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا رسول الله إني أبدع بي فاحملني، قال: لا أجد ما أحملك عليه، ولكن ائت فلاناً فلعله أن يحملك، فأتاه فحمله فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: من دل على خير فله مثل أجر فاعله)].
أورد أبو داود باباً في الدال على الخير.
أي: أن الدال على الخير يحصل أجراً مثل أجر فاعله الذي أحسن إلى المدلول.
أورد أبو داود حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أبدع بي فاحملني) يعني أنه انقطع به السير أو السفر فلم يحصل ما يركبه، أو أن دابته كلت وحصل لها ضعف ولم يتمكن من استعمالها فاحتاج إلى غيرها، فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (إني أبدع بي فاحملني، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا أجد ما أحملك عليه، ولكن ائت فلاناً فلعله أن يحملك).
فذهب إليه فحقق له ما يريد، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنه قد حملني، فقال عليه الصلاة والسلام: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله).
والفاعل هو الذي أحسن إلى ذلك الشخص الذي حمل، والدال هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بهذه الكلمة العامة التي تدل على أن كل من دل على خير فله مثل أجر فاعله.
والرسول الكريم عليه الصلاة والسلام له مثل أجور أمته كلها من أولها إلى آخرها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي دلها على الحق والهدى، ولهذا من أحب أن يوصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حسنات ورفعة درجات عند الله عز وجل، فما عليه إلا أن يعمل لنفسه صالحاً، ثم إن الله تعالى يعطي نبيه صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطاه؛ لأنه هو الذي دل على هذا الخير والهدى، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى كان له مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً).
وفي المقابل قال: (ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً).
ثم أيضاً الحديث يدل على إخبار المدلول للدال بما حصل له؛ وذلك لأنه إذا أخبر الدال له بما تحقق له يكون في ذلك سرور للدال؛ لأنه تحقق له ما أراده من مشورته عليه ودلالته، وأنه حصل بذلك أجراً.
ثم أيضاً الحديث يدل على أن الإنسان إذا لم يتمكن من تحقيق رغبة السائل، فإنه يدله على من يمكنه أن يحقق رغبته.(582/20)
تراجم رجال إسناد حديث (من دل على خير فله مثل أجر فاعله)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عمرو الشيباني].
أبو عمرو الشيباني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي مسعود الأنصاري].
هو عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور بكنيته أكثر من اشتهاره باسمه، وابن مسعود رضي الله عنه مشهور بنسبته، وهذا مشهور بكنيته أبو مسعود، ويأتي في بعض الأحيان الخطأ والتصحيف بين أبي مسعود وبين ابن مسعود، كما حصل من الخطأ في سبل السلام أو في بلوغ المرام عند حديث أبي مسعود الأنصاري المشهور: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) فإنه ذكر عن ابن مسعود وهو عن أبي مسعود.(582/21)
الأسئلة(582/22)
حقيقة المثل في قوله (فله مثل أجل فاعله)
السؤال
ما حقيقة المثلية في قوله: (فله مثل أجر فاعله) مع ما ذكره الشارع من اختلاف في الثواب؟
الجواب
فضل الله واسع، وقد جاءت أحاديث أنهما في الأجر سواء، مثل حديث صاحب المال وصاحب العلم فقال: (هما في الأجر سواء).(582/23)
حكم دلالة الشخص لغيره على خير لا يفعله هو
السؤال
هل للدال أن يدل غيره على خير لا يفعله هو؟
الجواب
إذا لم يتمكن من تحقيق الرغبة، وفتح له باباً لعله يصل إلى ما يريد، فلاشك أن هذا هو الذي ينبغي، حتى لا يجمع له بين مصيبتين: لا يحقق له رغبته، ولا يدله.(582/24)
وجه حصول الرسول على الثواب والأجر في كونه دل رجلاً على آخر ليقضي حاجته
السؤال
ما وجه الثواب الذي يجده النبي صلى الله عليه وسلم في كونه دل ذلك الرجل على الرجل الآخر، وهو على كل حال هو الذي دل الرجل الآخر على هذا الخير؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم دل الناس على كل خير، وهذا من جملة الخير الذي دل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي دل الناس على الطريق التي يسيرون فيها إلى الله عز وجل.
والدلالة والنصح لشخص يطلب شيئاً، لاشك أنه يحصل بسببها ثواب، ومن فعل ذلك من أمته فله مثل أجر الناس الذين دلهم على كل خير في أمور دينهم وأمور دنياهم.
والدلالة على الخير والتبصير بالحق والهدى يمكن أن تحصل من غير النبي صلى الله عليه وسلم، فمن دل وبين وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر له مثل أجر الذي استفاد خيراً بسببه، وكل من دل على خير فله مثل أجر فاعله، والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم هم أسعد الناس وأوفر الناس حظاً ونصيباً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدلالة على الخير وبيان الحق والهدى؛ لأنهم الواسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين تلقوا الكتاب والسنة وبلغوها للناس، فلرسول صلى الله عليه وسلم مثل أجور أمته، وكل من أخذ عنه سنة من سننه من أصحابه وبلغها عنه، له مثل أجور من عمل بها إلى نهاية الدنيا.(582/25)
حكم الاستشارة
السؤال
في حديث أبي هريرة: (المستشار مؤتمن) يقول الخطابي: فيه دليل على أن الإشارة غير واجبة على المستشار إذا استشير، فهل حديث (إذا استنصحك فانصح له) يدل على معنى الوجوب، أو أن النصيحة غير الاستشارة؟
الجواب
لا شك أن المستشير يطلب أن ينصح في الشيء الذي يريده، فالاستشارة بمعنى الاستنصاح، فهو يطلب منه أن ينصحه فيما يكون خيراً له.
أما بالنسبة للوجوب فإن الإنسان قد يستشار في أمور تكون فيها مضرة، أما كونه واجباً أو غير واجب فلا أدري، لكن لا شك أنه إذا كان لا يترتب عليها مضرة، وأن ذاك يستفيد منها، فإن الذي ينبغي له أن يبادر إلى تحقيق رغبته، لكن لا يظهر الوجوب والله أعلم! وقد يكون من الأشياء التي تترتب على المشورة أن الإنسان لا يقدم على المشورة؛ لأنها قد تتعلق بطرف ثالث يتأذى منها وتؤثر عليه حين تبلغه، فيكون في نفسه عليه شيء، فكونه يتوقف أو يترك الإجابة خشية أن يصير بينه وبين ذلك الطرف الثالث شيء من الوحشة أو شيء من الفرقة، قد يكون ذلك من أسباب ترك المشورة، وهذا مما يوضح أنها غير لازمة دائماً وأبداً؛ لأنه قد يكون هناك شيء يقتضي أن الإنسان يتوقف فيها.(582/26)
حكم إخبار الشخص لغيره أنه يكرهه في الله
السؤال
مر معنا أنه من أحب أخاه فإنه يخبره، فهل يخبره إذا كان يكرهه في الله؟
الجواب
لا، إنما يخبره أنه يحبه في الله، لا أنه يكرهه في الله، وإنما عليه أنه ينصحه حتى يتحسن حاله ويحبه في الله بعد ذلك.(582/27)
ضوابط المحبة في الله
السؤال
ربما يحب الشخص أخاً له لصفات حميدة فيه: من كرم وصفح، فهل هذه محبة في الله؟
الجواب
قد يكون الإنسان كافراً وعنده صفات طيبة، فلا يحب من أجلها، وإنما يحب لكونه مسلماً مستقيماً على طاعة الله، وكونه ممتثلاً لأوامر الله، وكونه من أهل التقى والصلاح، هذا هو الذي يحب من أجله.(582/28)
واجب المسلم تجاه المبتدع
السؤال
يوجد شخص من أهل البدع وأنا أحبه في الله، فهل أخبره بذلك؟
الجواب
كيف تحبه في الله وهو من أهل البدع؟! البدعة تقتضي البغض في الله لا المحبة في الله، وإنما عليك أن تنصحه حتى يستقيم، وتكون محبتك لله في محلها.(582/29)
حكم قول القائل اللهم ببركة حبي لرسول الله حقق لي كذا
السؤال
هل يجوز للمسلم أن يقول في دعائه: اللهم ببركة حبي لرسول الله افعل لي كذا وكذا؟
الجواب
لا يقول ببركة حبي، وإنما يقول: بمحبتي لرسول الله، أو بإيماني بك واتباعي لرسولك ومحبتي لنبيك افعل لي كذا وكذا، أو يتوسل بالعمل الصالح الذي هو المحبة والإيمان والاتباع.(582/30)
حكم رفع الأصوات داخل المساجد
السؤال
ما حكم التجمع في داخل المسجد من بعض الطلبة بحيث يكثر الكلام وترتفع الأصوات ويحدثون ضجة داخل المسجد؟
الجواب
رفع الأصوات وحصول اللغط في المساجد غير سائغ، ينبغي أن تصان عنه المساجد، وإنما تكون لقراءة القرآن وللذكر والدعاء ولتعلم العلم النافع، هذا هو الذي يكون في المساجد، والضجة قد تصلح في الأسواق، ولا يليق بالإنسان أن يحصل منه شيء لا يليق في المساجد، مثل رفع الأصوات، ومثل اللغط، ومثل التشويش على المصلين أو القارئين، أو الذاكرين.(582/31)
وجه إيراد أبي داود الحديث مرسلاً أو موقوفاً ثم إتباعه بالمسند
السؤال
إذا روى أبو داود حديثاً مرسلاً أو موقوفاً ثم أتبعه بالمسند، فهل تكون هذه إشارة إلى تصويب الإرسال أو الوقف؛ لأنه بدأ به أولاً؟
الجواب
لا أعلم اصطلاح أبي داود في هذا، لكن إذا جاء مسنداً وجاء مرفوعاً، فإن المسند لا يخالف الموقوف.(582/32)
حكم سؤال الله بحق قوله تعالى (ن والقلم وما يسطرون)
السؤال
هل يجوز أن يقول المسلم: اللهم إني أسألك بحق: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1]؟
الجواب
لا يسأل بقوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1] ولا نعلم شيئاً يدل عليه، إلا الحديث الذي فيه ضعف وهو: (اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك).
وبعض العلماء قال: لو صح فإن معناه: أنه يتوسل إلى الله عز وجل بإجابته للدعاء، وكونه مجيباً ومتصفاً بالإجابة، ومن أسمائه المجيب.(582/33)
حكم جعل الشخص توقيعه جملة صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يجعل توقيعه كلمة: صلى الله عليه وسلم، يريد بذلك أن يظفر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
لا، بل يكون توقيعه باسمه لا بكلمة صلى الله عليه وسلم، وإنما يكون بشيء يدل على اسمه، أما كونه يكتب: صلى الله عليه وسلم هذا ليس اسمه ولا يرمز إلى اسمه.
وقد توضع هذه الكلمة في مكان لا يناسب، وفيها ذكر الله عز وجل، فقد تكون في شيء يمتهن.
والأصل أن التوقيع هو دلالة على الاسم، وصلى الله عليه وسلم لا يدل على اسم الإنسان، والإنسان يصلي عليه دائماً وأبداً دون أن يستعمله في التوقيع فقط؛ لأنه يمكن أن يكون هذا العمل سبباً في التقليل من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث ستكون توقيعاته قليلة، والمطلوب من الشخص أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً.(582/34)
درجة حديث (العقيق واد مبارك)
السؤال
ما صحة حديث: (العقيق واد مبارك)؟
الجواب
جاء في الحديث: (صل في هذا الوادي المبارك) هذا حديث صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما كلمة العقيق فلا أدري.(582/35)
وجه القول بأن الأصل في الأحكام أنها معللة
السؤال
هل يصح أن يقال: إن الأصل في الأحكام أنها معللة؟
الجواب
لاشك أن الأحكام معللة ولها حكمة، لكن ليست كل حكمة تعلم، ويطلع عليها، والأصل أن المسلم يستسلم وينقاد لكل ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، سواءً علم حكمته أو لم يعلمها، ويكون حرص الإنسان على معرفة الحكم للعمل به، وليس على معرفة الحكمة؛ لأن العمل لا يتوقف على الحكمة، بل الإنسان يستسلم وينقاد سواء عرف الحكمة أو لم يعرفها، وإن بحث عنها وعرفها زاده ذلك ثباتاً ويقيناً، وإن لم يعرفها فإن ذلك لا يثنيه عن أن يعمل بالحق.
ولهذا قبل عمر رضي الله عنه الحجر الأسود، وقال: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) فالإنسان يتبع السنة ويعمل بما جاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم علم الحكمة أو لم يعلمها.(582/36)
حكم دعاء الله بصفاته سبحانه
السؤال
ما حكم نداء الصفة يا قدرة الله يا رحمة الله؟
الجواب
هذا لا يجوز؛ لأن الله عز وجل يدعى بأسمائه ولا يدعى بصفاته، لا يقال: يا قدرة الله حققي لي كذا، يا يد الله أعطيني كذا، يا سمع الله حقق لي كذا، وإنما يقول: يا سميع يا بصير يا حكيم يا لطيف أعطني كذا حقق لي كذا، يا لطيف الطف بي، يا عزيز أعزني، يا كريم أكرمني وغير ذلك.
أما أن ينادي الصفة، ويقول: يا إرادة الله أعطيني كذا، يا مشيئة الله أعطيني كذا، هذا لا يجوز، وشيخ الإسلام ابن تيمية له كلام في هذا، وكان يبالغ فيه وفي تشنيعه وبيان أنه غير صحيح.(582/37)
بيان المقصود بالأنصار في حديث (آية الإيمان حب الأنصار)
السؤال
هل حديث: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار) عام أم خاص بمن كان من الأنصار في عهده صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
هو في الأنصار الذين كانوا في عهده صلى الله عليه وسلم وهم المعنيون، وكذلك أيضاً يدخل معهم المهاجرون؛ لأن الوصف الذي في الأنصار موجود في المهاجرين، وكذلك كل من تحقق فيه وصف النصرة والجهاد في زمنه صلى الله عليه وسلم سواء كان من المهاجرين أو من الأنصار أو ليس من المهاجرين ولا من الأنصار، فإن له نصيباً من ذلك، ولكن الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم هم الذين اشتهروا بهذا الاسم، وهم الذين وصفوا بهذا الوصف، وهم الذين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقدم عليهم وأن يقوموا بنصرته، وقد فعلوا ذلك رضي الله عنهم وأرضاهم، والمهاجرون أفضل منهم؛ لأن عندهم ما عند الأنصار وعندهم زيادة وهي الهجرة؛ وكل من نصر دين الله عز وجل لا شك أنه يحب وأنه يثنى عليه، ولكن الحديث هو في الأنصار الذين هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين بايعوه بيعة العقبة الأولى والثانية على أن ينصروه، وقد فعلوا ذلك لما هاجر إليهم صلى الله عليه وسلم.(582/38)
شرح سنن أبي داود [583]
لقد حض الشرع على القصد في الأمور، بحيث لا يتجاوز الحد الذي يجعله يصم ويعمي لإخوانه على قضاء حاجاتهم، وذلك بمساعدتهم حتى يتمكنوا من قضاء الحاجات، والشفاعة في الخير يؤجر عليها الإنسان سواء أجيب الطلب أو لم يجب، فلا يبخل المسلم بجاهه على إخوانه، بل ينبغي أن يبذل وسعه بما فيه الخير لهم، والتنفيس عنهم.(583/1)
ما جاء في الهوى(583/2)
شرح حديث (حبك الشيء يعمي ويصم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الهوى.
حدثنا حيوة بن شريح حدثنا بقية عن أبي بكر بن أبي مريم عن خالد بن محمد الثقفي عن بلال بن أبي الدرداء عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (حبك الشيء يعمي ويصم)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في الهوى].
والمقصود من هذه الترجمة أن الإنسان قد يحصل منهم أن يهوى شيئاً ويبالغ فيه، ولا ينتبه للحق فيه، بحيث يتجاوز الحد فيجعله يعمى عن الخير ويصم؛ وذلك لمبالغته في شيء يهواه، وتجده يمدحه وإن كان مذموماً، ويذم غيره ولو كان ممدوحاً.
أورد أبو داود حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حبك الشيء يعمي ويصم) أي: أن الاستغراق في محبة الشيء على غير هدى وعلى غير بصيرة يؤدي إلى أن الإنسان يعمى عن معرفة الحق، ويصم سمعه عن سماع الحق، فيكون بذلك مذموماً، وهذا الحديث غير صحيح؛ لأن فيه أبا بكر بن أبي مريم وهو ضعيف وقد اختلط أيضاً، فهو غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(583/3)
تراجم رجال إسناد حديث (حبك الشيء يعمي ويصم)
قوله: [حدثنا حيوة بن شريح].
هو حيوة بن شريح الحضرمي الحمصي وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
وهناك حيوة بن شريح آخر وهو مصري، ولكنه متقدم على هذا، وهذا في طبقة متأخرة، وكل منهما ثقة، والمتأخر الذي يروي عنه أبو داود حمصي، والمتقدم الذي بينه وبين أبي داود وسائط مصري.
[حدثنا بقية].
هو بقية بن الوليد وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي بكر بن أبي مريم].
أبو بكر بن أبي مريم ضعيف وقد اختلط، أخرج حديثه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن خالد بن محمد الثقفي].
خالد بن محمد الثقفي ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن بلال بن أبي الدرداء].
بلال بن أبي الدرداء وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن أبي الدرداء].
أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(583/4)
ما جاء في الشفاعة(583/5)
شرح حديث أبي موسى (اشفعوا إليَّ لتؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما شاء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الشفاعة.
حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن بريد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (اشفعوا إلي لتؤجروا، وليقض الله على لسان نبيه ما شاء)].
أورد أبو داود هذه الترجمة [باب في الشفاعة] والمقصود من الشفاعة هنا الشفاعة في أمور الدنيا وفي إعانة الإنسان على ما فيه خير له في دنياه.
والشفاعة: هي شفاعة الإنسان للإنسان بأن يضم صوته إلى صوته، أو يضم جهده إلى جهده، من أجل وصول المشفوع له إلى ما يريده من الخير، وتكون في الخير وتكون في الشر، فإن كانت خيراً فصاحبها مأجور، وإن كانت شراً فهي من التعاون على الإثم والعدوان، وصاحبها مأزور.
أورد أبو داود حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اشفعوا إلي لتؤجروا، وليقض الله على لسان نبيه ما شاء) يعني: كونوا عوناً لإخوانكم على قضاء حاجاتهم، وذلك بمساعدتهم عند من يتمكنون من أدائها وقضائها، وذلك بأن تضموا أصواتكم إلى أصواتهم ورغباتكم إلى رغباتهم للوصول إلى ما يريدون.
ومعنى ذلك أن الإنسان إذا شفع شفاعة فإنه يؤجر عليها إذا كانت في الخير، وسواء أجيب الطلب أو لم يجب، حققت الرغبة أو لم تحقق، ولهذا قال: (وليقض الله على لسان نبيه ما شاء) يعني: قد يحصل بمشيئة الله وإرادته أن تحقق الرغبة، وقد يحصل بمشيئة الله وإرادته ألا تحقق الرغبة، لوجود ما يمنع من ذلك، إما لعدم وجود الحاجة، أو ما يمكن قضاؤها به، أو لغير ذلك من الأسباب، وقد مر بنا قريباً أن الدال على الخير له مثل أجر فاعله.
والرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى أن يشفع الناس بعضهم لبعض، وأن يكون بعضهم لبعض عوناً على تحقيق مراده.
قوله: [(وليقض الله على لسان نبيه ما شاء)] يعني: أن ما قدره الله وقضاه واقع، فإن قدر تحقيق الرغبة فإنها ستقع، وإن قدر عدم تحقيق الرغبة فإنها لا تقع، وكل شيء بقضاء الله وقدره، كما قال عليه الصلاة والسلام: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
وهذا الحديث يؤتى به في باب الشفاعة ويؤتى به في كتاب القدر؛ لأنه من أدلة القدر، وذلك لقوله: (وليقض الله على لسان نبيه ما شاء).(583/6)
تراجم رجال إسناد حديث أبي موسى (اشفعوا إليَّ لتؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما شاء)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بريد بن أبي بردة].
هو بريد بن عبد الله بن أبي بردة وهو ثقة أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وهو يروي عن جده أبي بردة، وأبو بردة هو ابن أبي موسى الأشعري وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وأبو بردة يروي عن أبيه أبي موسى الأشعري وهو عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(583/7)
شرح حديث معاوية (اشفعوا تؤجروا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح وأحمد بن عمرو بن السرح قالا: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن وهب بن منبه عن أخيه عن معاوية رضي الله عنه قال: (اشفعوا تؤجروا، فإني لأريد الأمر فأؤخره كيما تشفعوا فتؤجروا؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: اشفعوا تؤجروا)].
أورد أبو داود حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما قال: (اشفعوا تؤجروا فإني لأريد الأمر) يعني: أريد تحقيقه.
قوله: [(فأؤخره كيما تشفعوا فتؤجروا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم قال: اشفعوا تؤجروا)].
وهذا يدلنا على أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أحرص الناس على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ولهذا يأمر معاوية بن أبي سفيان بالشفاعة ويرشد إليها كما أرشد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستدل على ذلك بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويقول: إنه يريد الأمر فيؤخره من أجل أن يشفعوا فيكون لهم نصيب من الأجر، وذلك بشفاعتهم.
أما المشفوع له فعليه أن يلجأ إلى الله عز وجل ويعلق آماله بالله سبحانه وتعالى، ويسأله أن ييسر أمره وأن يحقق له ما يريد من الخير الذي أراده عن طريق هذا الشخص الذي يملك قضاء حاجته.(583/8)
تراجم رجال إسناد حديث معاوية (اشفعوا تؤجروا)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[وأحمد بن عمرو بن السرح].
أحمد بن عمرو بن السرح وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار].
سفيان بن عيينة مر ذكره.
وعمرو بن دينار المكي وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن وهب بن منبه] وهب بن منبه وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة فقد أخرج له في التفسير.
[عن أخيه].
هو همام بن منبه، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن معاوية].
هو معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وهو صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(583/9)
شرح حديث أبي موسى (اشفعوا إليَّ تؤجروا) من طريق أخرى وترجمة رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو معمر حدثنا سفيان عن بريد عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مثله].
أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه من طريق أخرى وقال: مثله، أي: أنه ذكر الإسناد ثم أحال على المتن المتقدم وقال: مثل متن الإسناد الأول ومطابق له، وهذا التعبير بكلمة (مثله) يكون إذا كانت المطابقة حاصلة بين المتنين، أما إذا كان المتن الثاني ليس مطابقاً فيقولون بدل مثله: (نحوه) وكذلك يقولون: المعنى أو بالمعنى أي: أن المطابقة والموافقة إنما هي في المعنى وليست في الألفاظ.
قوله: [حدثنا أبو معمر].
هو إسماعيل بن إبراهيم القطيعي وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا سفيان عن بريد عن أبي بردة عن أبي موسى].
وقد مر هذا الإسناد.(583/10)
الأسئلة(583/11)
الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل
السؤال
هل طلب الشفاعة ينافي كمال التوكل؟
الجواب
لا ينافي التوكل؛ لأن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل.(583/12)
حقيقة الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم (اشفعوا)
السؤال
هل الأمر في قوله: (اشفعوا) يدل على الوجوب؟
الجواب
الذي يظهر أنه ليس للوجوب وإنما هو للاستحباب.(583/13)
بيان من له الأولوية في الشفاعة
السؤال
ما توجيه فضيلتكم لمن يعلق شفاعته وتوسطه في الأمور لمن يوافقه في المذهب أو المعتقد؟
الجواب
لاشك أن من يكون سليماً ويكون على صراط مستقيم أولى من غيره، وأما غيره إذا كانت الشفاعة ستفيده وتكون سبباً في هدايته؛ فإن ذلك لا بأس به.(583/14)
ما جاء فيمن يبدأ بنفسه في الكتاب(583/15)
شرح حديث (أن العلاء بن الحضرمي كان عامل النبي على البحرين فكان إذا كتب إليه بدأ بنفسه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن يبدأ بنفسه في الكتاب.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم عن منصور عن ابن سيرين، قال أحمد: قال مرة يعني هشيماً: عن بعض ولد العلاء: (أن العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه كان عامل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على البحرين فكان إذا كتب إليه بدأ بنفسه)].
أورد أبو داود [باباً فيمن يبدأ بنفسه في الكتاب].
يعني: أنه عندما يكتب كتاباً، يقول: من فلان -ويذكر اسمه- إلى فلان، وهو المكتوب إليه، يعني: المقصود من الترجمة أنه إذا كتب كتاباً منه إلى شخص آخر فإنه يبدأ بنفسه فيقول: من فلان إلى فلان.
وهذه المسألة اختلف فيها، وجمهور العلماء على القول بتقديم ذكر المرسل أو الكاتب على المكتوب إليه، بأن يقول: من فلان -ويسمي نفسه- إلى فلان، وهو المرسل إليه ويسميه.
وبعضهم قال: إنه يسوغ أن يقدم المرسل إليه والمكتوب إليه على الكاتب إذا كانت هناك مصلحة فيقول: إلى فلان من فلان، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان من هديه عند مكاتبته أن يبدأ بنفسه، فيقول: من محمد رسول الله إلى فلان بن فلان.
أورد أبو داود حديث العلاء بن الحضرمي رضي الله تعالى عنه: أنه كان إذا كتب للنبي صلى الله عليه وسلم بدأ بنفسه.
أي: قال: من العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الحديث الذي أورده أبو داود هنا لم يثبت؛ لأن في إسناده من هو متكلم فيه.(583/16)
تراجم رجال إسناد حديث (أن العلاء بن الحضرمي كان عامل النبي على البحرين فكان إذا كتب إليه بدأ بنفسه)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
منصور بن زادان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقد قال عنه بعض العلماء وأظنه هشيماً: لو قيل لـ منصور بن زادان إن ملك الموت بالباب ما كان بإمكانه أن يزيد شيئاً من العمل.
أي: أنه على صلة بالله وأعمال صالحة، وليس عنده فرق في جميع أيامه وبين آخر يوم من حياته؛ لأنه مستمر على الطاعة ومداوم عليها، ولو قيل له: إن ملك الموت بالباب قادم ليقبض روحه لم يكن بإمكانه أن يزيد عملاً من الأعمال رحمة الله عليه.
[عن ابن سيرين].
هو محمد بن سيرين وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال أحمد: قال مرة يعني: هشيماً: عن بعض ولد العلاء].
أحمد هو ابن حنبل شيخ أبي داود، قال مرة: أي: قال هشيم الذي هو شيخه: عن بعض ولد العلاء.
يعني: بإبهامه وعدم تعيينه.
وجاء في بعض الروايات كما سيأتي ابن العلاء، وقال عنه الحافظ في التقريب: إنه مقبول، أخرج حديثه أبو داود.
[أن العلاء بن الحضرمي].
العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(583/17)
شرح حديث العلاء بن الحضرمي في الكتابة إلى النبي من طريق ثانية وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا المعلى بن منصور أخبرنا هشيم عن منصور عن ابن سيرين عن ابن العلاء عن العلاء -يعني ابن الحضرمي - رضي الله عنه: (أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبدأ باسمه)].
ذكر أبو داود الحديث من طريق أخرى عن العلاء بن الحضرمي أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً وبدأ باسمه في الكتاب الذي كتبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [حدثنا محمد بن عبد الرحيم].
محمد بن عبد الرحيم الملقب صاعقة وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا المعلى بن منصور].
المعلى بن منصور وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا هشيم عن منصور عن ابن سيرين عن ابن العلاء عن العلاء].
وهذا الإسناد مثل الذي قبله؛ إلا أن الإسناد الأول أعلى؛ لأن فيه: حدثنا أحمد بن حنبل عن هشيم، وهذا بين أبي داود وبين هشيم واسطتان.(583/18)
كيف يُكتب إلى الذمي(583/19)
شرح حديث (أن النبي كتب إلى هرقل من محمد رسول الله إلى هرقل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كيف يكتب إلى الذمي؟ حدثنا الحسن بن علي ومحمد بن يحيى قالا: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كتب إلى هرقل: من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، قال ابن يحيى عن ابن عباس: أن أبا سفيان رضي الله عنه أخبره قال: فدخلنا على هرقل فأجلسنا بين يديه، ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى أما بعد)].
أورد أبو داود [باب كيف يكتب إلى الذمي] أي: كيف تكون مكاتبته؟ وكيف يذكر؟ وكيف يسلم عليه؟ أي: طريقة الكتابة إليه.
أورد أبو داود حديث ابن عباس الذي فيه قصة هرقل عظيم الروم، وما رواه أبو سفيان من قراءة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم، وكان ذلك قبل أن يسلم أبو سفيان رضي الله عنه، وقد كان مع جماعة في الشام، ولما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب إلى هرقل طلب من كان من العرب في الشام ليسأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجيء بـ أبي سفيان وبجماعة معه إليه، فأجلسهم أمامه وسأل عن أقربهم نسباً إليه، فقالوا: أقربهم أبو سفيان، فقدمه عليهم والباقون وراءه وقال: إني سائله فإن كذب فكذبوه، يعني: إن قال شيئاً وهو غير صادق فيه فأخبروني بكذبه، فكان يسأله عن أمور متعددة، وبعدها استنتج من أجوبة أبي سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نبي، وأن هذه هي صفات الأنبياء.(583/20)
حكم تحمل الكافر والصغير للحديث وتأديته بعد الإسلام وحال الكبر
أبو سفيان رضي الله عنه تحمل هذا في حال كفره وأداه في حال إسلامه.
وهذا من الطرق التي يعول عليها العلماء فيما يتعلق بالتحمل والأداء، فإنهم قالوا: يجوز التحمل في حال الكفر ثم يؤدي في حال الإسلام، ويكون ذلك معتبراً.
ومثل ذلك الصغير الذي تحمل في حال صغره وأدى في حال كبره فإن ذلك أيضاً يكون معتبراً، كما جاء ذلك في حق عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا من صغار أصحابه، ومع ذلك يروون الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤدونها وهم كبار، وكانوا قد تحملوها وهم صغار، كما حصل من النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما، فإنه الذي روى الحديث المشهور: (إن الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس) وقد قال فيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول.
وكان عمر النعمان عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثماني سنوات، فتحمل في حال صغره وأدى في حال كبره، وكذلك أبو سفيان تحمل في حال كفره وأدى في حال إسلامه، وكل ذلك معتبر عند العلماء.(583/21)
وجه تبويب أبي داود كيف يكتب إلى الذمي
وأبو داود رحمه الله ترجم وقال: [كيف يكتب إلى الذمي؟] ومن المعلوم أن وصف هرقل بأنه ذمي غير واضح؛ لأن المعروف أن الذمي هو الذي يكون بينه وبين المسلمين عهد، ومعلوم أن هرقل والروم لم يكن بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد، وإنما كتب إليهم كتاباً يدعوهم إلى الإسلام كما كتب إلى غيرهم.
والتبويب الذي ذكره غير أبي داود وهو الترمذي قال: باب الكتابة إلى أهل الشرك، أو كيف يكتب إلى أهل الشرك؟ وهذا هو الذي يطابق المعنى، وأما التعبير بالذمي فهذا غير واضح.(583/22)
تقديم الرسول لاسمه عند كتابة الكتب منه إلى غيره وصفة سلامه على الكفار
والرسول صلى الله عليه وسلم لما كتب بدأ باسمه وقال: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم) فذكره باسمه وهو هرقل، ووصفه بوصفه وهو أنه عظيم الروم؛ لأنه عظيم عند الروم.
قوله: [(سلام على من اتبع الهدى)] من المعلوم أن الكفار لا يبدءون بالسلام، بأن يقال: السلام عليكم، ولكن بمثل هذا الكلام وبمثل هذا السلام؛ لأن هذا سلام بالكناية وسلام بهذا الوصف، وذلك بأن يكون السلام والدعاء لمن اتبع الهدى، وأولئك إذا أسلموا ودخلوا في الإسلام فإنهم يتبعون الهدى، فيكون لهم نصيب من ذلك.
ثم قال: (أما بعد) وذكر دعوته إليه صلى الله عليه وسلم حيث قال: (أسلم تسلم) إلى آخر الحديث.(583/23)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي كتب إلى هرقل من محمد رسول الله إلى هرقل)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[ومحمد بن يحيى].
هو محمد بن يحيى الذهلي وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة فقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة].
هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وهو ثقة، وأحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً هو يروي عن أبي سفيان وهو: صخر بن حرب، وهو صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(583/24)
الأسئلة(583/25)
عدم صحة إسلام هرقل
السؤال
هل صحيح أن هرقل أسلم؟
الجواب
هرقل لم يسلم، صحيح أنه ظهر منه كلام يدل على احتفائه بالرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه له، ولكنه آثر الدنيا على الآخرة، وآثر الرئاسة والملك على ما فيه سعادة الدنيا والآخرة.(583/26)
دلالة حديث كتابة الرسول إلى هرقل على البدء باسم المرسل قبل المرسل إليه
السؤال
هل يمكن أن يعد كتاب النبي إلى هرقل شاهداً لما تقدم، أعني أن يبدأ الإنسان بنفسه عند الكتابة؟
الجواب
لاشك أنه يدل على أن الإنسان يبدأ بنفسه عند الكتابة، وهو حديث متفق على صحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما الحديث الذي فيه أن الكاتب إلى رسول صلى الله عليه وسلم بدأ بنفسه ففيه خلاف بين أهل العلم، منهم من قال: إذا كان يكتب لمن هو أعلى منه منزلة فإنه يبدأ به، وإذا كان غير ذلك فإنه يبدأ بنفسه، وهذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنه أعلى الناس منزلة، وهو خير الناس وأفضل الناس، ولاشك أنه كما قال الجمهور، بل حكى بعضهم الإجماع على ذلك، لكن الخلاف موجود وقائم في أن البدء بالنفس هو الأصل.
وفي عون المعبود ذكر عن بعض السلف: أنهم كانوا يقدمون المرسل إليه، لكن المشهور والمعروف ما جاء في حديث هرقل، وكذلك الموجود في كتب العلماء، وهو الذي كان يفعله بعض مشايخنا مثل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه، فإن كتاباته: من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى فلان، وكذلك كان يفعل الشيخ محمد العثيمين رحمه الله، وكذلك قبلهما الشيخ محمد بن إبراهيم رحمهم الله، كانوا يبدءون بذكر أسمائهم.(583/27)
ذكر الحكمة من البدء باسم المرسل قبل المرسل إليه
السؤال
ما الحكمة من ذكر اسم المرسل أولاً قبل المرسل إليه؟
الجواب
يبدو -والله أعلم- أنه من أجل أنه هو البادي فيكون البدء بمن حصل منه الابتداء، فيكون أول ما يقع عليه بصر المرسل إليه من الكتاب أن يرى اسم المرسل.(583/28)
عدم دلالة حديث كتاب النبي إلى هرقل على جواز مس القرآن بدون وضوء
السؤال
هل هذا الحديث دليل على أن قراءة القرآن دون الوضوء جائزة؛ حيث إن هرقل قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم؟
الجواب
هو لم يقرأ قرآناً، وإنما قرئ الكتاب عليه، وهذا كما هو معلوم بعض من آية.(583/29)
حكم قول الشخص لأخيه المسلم سلام على من اتبع الهدى
السؤال
هل يجوز أن يقول المسلم لأخيه: سلام على من اتبع الهدى؟
الجواب
لا يصلح ولا يليق حتى وإن كان من أهل البدع، بل يقول: السلام عليكم، وإنما يقال: سلام على من اتبع الهدى للكفار إذا بُدئوا بالسلام؛ لأن هذا ليس سلاماً عليهم، وإنما هو سلام على من اتبع الهدى، وهم إذا اتبعوا الهدى صار لهم نصيب من هذا الدعاء.(583/30)
حكم قول فخامة الرئيس في الرسائل التي ترسل إلى رؤساء الكفار
السؤال
ما حكم المراسلات التي ترسل إلى الرؤساء الكفار ويقال فيها: فخامة الرئيس! وهل هي مثل قوله صلى الله عليه وسلم: عظيم الروم؟
الجواب
نعم إذا قيل: فخامة الرئيس! فهي مثل: عظيم الروم، أو عظيم القوم الفلانيين، أي هي من جنسه.(583/31)
شرح سنن أبي داود [584]
إن أحق الناس بالبر والإحسان وحسن الصحبة الوالدان، وذلك لأن الوالدين هما المشاق والمتاعب في حمله وفي ولادته وفي رضاعه وفي رعايته والسهر عليه الشيء الكثير، كذلك الوالد فإنه يكدح ويسعى لجلب الرزق ولجلب الخير إليه ودفع الشر عنه، ومن عظيم حقهما أن الله تعالى قرن طاعتهما بتوحيده، فينبغي للمسلم أن يؤدي حقهما كما أمر الله تعالى وكما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.(584/1)
ما جاء في بر الوالدين(584/2)
شرح حديث (لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في بر الوالدين.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثني سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)].
أورد أبو داود [باب بر الوالدين].
البر: هو الإحسان وبذل المعروف وإيصال الخير ودفع الشر، وأحق الناس بالبر الوالدان، بل إن البر كثيراً ما يكون مضافاً إلى الوالدين، والأرحام تضاف إليهم الصلة، فيقال: بر الوالدين وصلة الأرحام، وذلك أن الوالدين هما سبب وجود الإنسان، ولهما فضل عظيم على الإنسان، أما من ناحية الأم فكونها تحملت من المشاق والمتاعب في حمله وفي ولادته وفي رضاعه وفي رعايته وفي متابعته والسهر عليه الشيء الكثير، والوالد كذلك من كونه يكدح ويسعى لجلب الرزق وجلب الخير إليه ودفع الشر عنه.
فإذاً: كل من الوالدين حصل منهما الإحسان إلى الولد، فهما أولى من غيرهما ببره وإحسانه.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه) ومن المعلوم أن الإنسان إذا ملك أباه، فإنه يعتق عليه بمجرد ملكه إياه، بحيث إذا وجد الملك وجد العتق.
ذكر في هذا الحديث: أنه لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً أو رقيقاً فيشتريه فيعتقه، يعني: أن الولد يسعى في الوصول إليه عن طريق الشراء، ومعلوم أنه إنما يشتريه ليخلصه من الرق، لا ليكون عبداً له وأن يكون سيداً لوالده.
بعض أهل العلم كـ الخطابي حكى الإجماع على أنه بمجرد الشراء فإنه يعتق عليه، لكن بعض أهل العلم حكى عن بعض أهل الظاهر أن الشراء شيء والعتق شيء آخر، وأنه يمكن أن يوجد الشراء ولا يوجد العتق، ولكن الذي عليه جمهور العلماء أو هو كالإجماع من العلماء أنه بمجرد الشراء يحصل العتق؛ وذلك لأنه ليس من المناسب ولا من اللائق أن يكون الوالد عبداً لولده، وأن يكون خادماً لولده، بل العكس هو المطلوب، أعني أن يسعى الولد في خدمة الوالد.
والجد مثل الأب، وذكر الوالد يدخل فيه الوالدة.(584/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[حدثني سهيل بن أبي صالح].
سهيل بن أبي صالح صدوق، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وحديثه عند البخاري مقرون.
[عن أبيه].
هو أبو صالح السمان، اسمه ذكوان وكنيته أبو صالح ولقبه السمان، ويقال: الزيات، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أكثر السبعة حديثاً على الإطلاق.(584/4)
شرح حديث ابن عمر (كانت تحتي امرأة وكنت أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي طلقها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن أبي ذئب قال: حدثني خالي الحارث عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنهما قال: (كانت تحتي امرأة وكنت أحبها، وكان عمر رضي الله عنه يكرهها، فقال لي: طلقها، فأبيت، فأتى عمر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: طلقها)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه كانت تحته امرأة وكان يحبها، وكان أبوه يكرهها، فقال له: طلقها، فأبي، فأتى عمر الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبره وقال النبي صلى الله عليه وسلم: طلقها.
وهذا أورده أبو داود في البر؛ وذلك أن فيه تحقيق رغبة الوالد في هذا الطلب، لكن كما هو معلوم أن الذي طلب الطلاق من ولده هو خير هذه الأمة بعد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وليس كل الآباء وكل الأمهات عدول وأتقياء، بل يمكن أن يكون هناك شيء من الشحناء أو العداوة لأمور دنيويه غير دينية، فينظر في ذلك إلى العدل ومعرفة الحق مع من يكون، فقد تكون الزوجة مظلومة والأم ظالمة، وقد يكون الوالد ظالماً والزوجة مظلومة، فينظر في ذلك إلى العدل وإلى الدين.
وقد تكون كراهية الوالد أو الوالدة للزوجة لأمور ليست دينية، وإنما لكلمة من الكلمات أو حالة من الحالات أو موقف من المواقف، فيترتب على ذلك التنافر والتباعد، والذي ينبغي على الولد أن يكون في مثل هذه الحالة عادلاً، وأن يبين للوالد أو الوالدة إذا كانا ليسا على حق، وأنه يرى أن الحق ليس معهما، فيسعى إلى إرضائهما وإلى إقناعهما بالتي هي أحسن مع الإبقاء على زوجته، وأما إذا كانت الكراهية لأمر ديني، أو أن الأمر بلغ إلى حد لا يمكن معه التوفيق، فلا شك أن طاعة الوالد مطلوبة ورضاه مطلوب.
فإذاً: الذي ينبغي على الولد في مثل هذه الأمور أن يحرص على العدل، وأن يكون عوناً للمظلوم بأن يمنع وصول الظلم إليه، ويكون أيضاً عوناً للظالم بأن يكون حريصاً على منعه من الظلم، كما جاء في الحديث: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً).
ولا يقال: إنه بناء على ما جاء في الحديث فكل رغبة تكون من أب أو أم لا يتردد فيها ولا يتوقف فيها، وإنما ينبغي أن يكون هناك نظر لحال الزوجة واستقامتها ودينها وصلاحها، وكذلك أيضاً فيما يتعلق بالأب أو الأم فقد يكون عند الأب والأم فسق أو نقص أو خلل.(584/5)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر (كانت تحتي امرأة وكنت أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي طلقها)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى].
مسدد مر ذكره.
ويحيى هو ابن سعيد القطان، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي ذئب].
هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[حدثني خالي الحارث].
الحارث وهو صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[عن حمزة بن عبد الله بن عمر].
حمزة بن عبد الله بن عمر وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(584/6)
شرح حديث (قلت يا رسول الله من أبر؟ قال أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك ثم أمك ثم أمك، ثم أباك، ثم الأقرب فالأقرب، وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لا يسأل رجل مولاه من فضل هو عنده فيمنعه إياه إلا دعي له يوم القيامة فضله الذي منعه شجاع أقرع).
قال أبو داود: الأقرع: الذي ذهب شعر رأسه من السم].
أورد أبو داود حديث معاوية بن حيدة رضي الله تعالى عنه قال: (قلت: يا رسول الله من أبر؟) يعني: من أولى الناس ببري؟ أو من الذي أقدمه في البر؟ فقال: (أمك، ثم أمك، ثم أمك) يعني: ثلاث مرات، ثم قال: (ثم أباك).
وهذا يدل على عظم حق الوالدة وأنه أعظم من حق الأب؛ وذلك لأن الوالدة عانت من التعب ومن النصب ومن المشقة مالم يعانه الأب؛ لأنها هي التي حملت به، وهي التي تضررت وحصل لها الآلام عند حمله، وكذلك عند ولادته، وكذلك في السهر عليه وفي إرضاعه وفي تنظيفه وفي رعايته، وما يتعلق بذلك؛ لأنه دائماً معها بين يديها، والأب له إحسان إليه من جهة أنه يرعاه ويجلب الرزق له ولأمه، وكل منهما محسن للولد، ولكن الأم أشد وأعظم إحساناً؛ ولهذا كان حقها أعظم من حق الأب؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أمك ثم أمك ثم أمك، ثم أباك، ثم الأقرب فالأقرب) ومعنى ذلك: أنه يبدأ بالوالدين، والأم مقدمة على الوالد، وبعد ذلك الأقرب فالأقرب.
قوله: [(لا يسأل رجل مولاه من فضل هو عنده فيمنعه إياه، إلا دعي له يوم القيامة فضله الذي منعه شجاع أقرع)].
أي: فضل ماله، والشجاع الأقرع: هو الحية التي ذهب شعر رأسها؛ لكثرة ما فيها من السم.
قوله: [(مولاه)] يدخل تحته المولى المعتق، وكذلك المولى الذي هو القريب؛ لأن هذا اللفظ يطلق على هذا وعلى هذا، كما قال الله عز وجل: (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى} [الدخان:41].(584/7)
تراجم رجال إسناد حديث (قلت يا رسول الله من أبر؟ قال أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير مر ذكره.
[أخبرنا سفيان].
هو سفيان الثوري مر ذكره.
[عن بهز بن حكيم].
بهز بن حكيم وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو صدوق أيضاً، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن.
[عن جده].
هو معاوية بن حيدة وهو صحابي، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن.(584/8)
شرح حديث (يا رسول الله من أبر؟ قال أمك وأباك وأختك وأخاك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عيسى حدثنا الحارث بن مرة حدثنا كليب بن منفعة عن جده: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! من أبر؟ قال: أمك وأباك، وأختك وأخاك، ومولاك الذي يلي ذاك، حق واجب ورحم موصولة)].
أورد أبو داود حديث جد كليب بن منفعة: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك وأباك، وأختك وأخاك، ومولاك الذي يلي ذاك) أي: قريبك؛ لأن المولى هو القريب.
ومعلوم أن الأولاد أقرب من الإخوة، ولكن ذكر الأب والأم ثم ذكر الأخ والأخت؛ لأنه ليس كل أحد يكون له ولد، قد يكون الإنسان له إخوة وليس له أولاد؛ لأن الأولاد يأتون في زمن متأخر، والإخوة قد يكونون موجودين قبله وقد يكونون معه وقد يكونون بعده بقليل أو بكثير.
فذكر الأخ والأخت لا يدل على تقديمهم على الابن والبنت؛ لأن الابن والبنت والأب والأم هم أصول الإنسان الذين تحدر منهم وفروعه الذين تحدروا منه، فهؤلاء هم أقرب الناس إليه؛ ولهذا يقدمون في الميراث على الإخوة، والإخوة لا يرثون إلا إذا لم يكن للميت والد ولا ولد، أي أنه كلالة، فإذا كان له ولد أو أب فهو ليس بكلالة، وإنما الكلالة من لا يكون له ولد ولا والد، والإخوة ميراثهم كلالة؛ لأنهم محيطون به، وأما أولئك فهم فروعه الذين تحدروا منه، وأصوله الذين تحدر منهم.
قوله: [(حق واجب، ورحم موصولة)].
يعني: أن الإنسان يؤدي الحق الذي عليه، ويصل الرحم التي بينه وبين ذوي رحمه.(584/9)
تراجم رجال إسناد حديث (يا رسول الله من أبر؟ قال أمك وأباك وأختك وأخاك)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
هو محمد بن عيسى الطباع وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، وأبو داود والترمذي في الشمائل، والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الحارث بن مرة].
الحارث بن مرة وهو صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا كليب بن منفعة].
كليب بن منفعة وهو مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود.
[عن جده].
ذكر اسمه في الإصابة وهو بكر بن الحارث الأنماري.
وهذا الحديث ضعفه الألباني ولعل السبب هو وجود ذلك المقبول فيه، لكن معناه صحيح.(584/10)
شرح حديث (إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن جعفر بن زياد أخبرنا ح وحدثنا عباد بن موسى حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله! كيف يلعن الرجل والديه؟! قال: يلعن أبا الرجل فيلعن أباه، ويلعن أمه فيلعن أمه)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟!) يعني: أن يكون الإنسان سبباً في لعن والديه مع أنهما كانا سبباً في وجوده، هذا شيء مستعظم، فالرسول صلى الله عليه وسلم بين أن اللعن يمكن أن يكون عن طريق التسبب لا عن طريق المباشرة، بأن يسب الرجل أبا رجل من الناس فيقوم ذلك الرجل فيسب أباه.
وهذا الحديث من أدلة سد الذرائع، وأن الشريعة جاءت بسد الذرائع، وتحريم الأمور التي توصل إلى المحرم، وأن الوسائل لها حكم الغايات، فالوسائل إلى المطلوب مطلوبة، والوسائل إلى المحرم محرمة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يسب الرجل أبا الرجل؛ لأنه سيتسبب في لعن والده وإن لم يباشر سبه؛ ولهذا كان الواجب على الإنسان أن يحفظ لسانه من الكلام في الناس حتى لا يتكلموا فيه وفي والديه، وإنما عليه أن يكون سليم اللسان.
وهذا الحديث من أدلة سد الذرائع، وقد أورد ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) تسعة وتسعين دليلاً من أدلة سد الذرائع، وهذا واحد منها.(584/11)
تراجم رجال إسناد حديث (إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه)
قوله: [حدثنا محمد بن جعفر بن زياد].
محمد بن جعفر بن زياد ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[قال: أخبرنا ح وحدثنا عباد بن موسى].
أتى أبو داود رحمه الله بالتحويل قبل أن يذكر الشيخ؛ لأن المقصود هو بيان الاختلاف في صيغة الأداء أو التحمل؛ لأن الشيخ الأول قال: أخبرنا، والثاني قال: حدثنا.
وهذا يدل على دقة المحدثين وعنايتهم وتفريقهم بين التحديث والإخبار، وإن كان يمكن أن يعبر بهذا عن هذا والعكس، وكثير من أهل العلم لا يفرقون بين حدثنا وأخبرنا، لكن بعضهم يعمل بهذا التفريق.
والأصل أن الإخبار يكون فيما إذا قرئ على الشيخ وهو يسمع، أو قرأ هو على الشيخ، فإنه يعبر بأخبرنا، وأما إذا كان الشيخ يقرأ والتلاميذ يسمعون، فإن التعبير يكون بحدثنا، هذا هو أصل التفريق؛ فالذي ما سمع من لفظ الشيخ لا يقال فيه: حدثنا.
وعباد بن موسى الختلي ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا إبراهيم بن سعد].
وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد بن عبد الرحمن].
حميد بن عبد الرحمن وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمرو].
عبد الله بن عمرو وهو صحابي جليل، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.(584/12)
شرح حديث (هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال نعم الصلاة عليهما)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن مهدي وعثمان بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء المعنى قالوا: حدثنا عبد الله بن إدريس عن عبد الرحمن بن سليمان عن أسيد بن علي بن عبيد مولى بني ساعدة عن أبيه عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: (بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله! هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما)].
أورد أبو داود حديث أبي أسيد مالك بن ربيعة رضي الله تعالى عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل بقي علي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟).
هذا رجل يسأل عن البر للوالدين والإحسان إليهما بعد الموت، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبره وقال: (الصلاة عليهما والاستغفار لهما) يعني: يدعو لهما الإنسان ويستغفر.
قوله: [(وإنفاذ عهدهما)] يعني: إذا عهدا إليه بشيء أو أوصيا بوصية، ينفذ تلك الوصية إذا كانت مشروعة وسائغة وليست مخالفة للشرع، أما إذا كانت مخالفة للشرع فلا ينفذ ما كان مخالفاً للشرع.
قوله: [(وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما)] يعني: رحم أمه ورحم أبيه، فرحم أبيه رحم له، فيصل رحم أبيه وأمه.
قوله: [(وإكرام صديقهما)].
يعني: أن يحسن إلى صديقهما؛ من أجل صداقته لأبيه، أو صداقة المرأة لأمه.
هذا جواب الرسول صلى الله عليه وسلم لمن سأل عن البر بعد الموت، وأنه يمكن أن يكون بهذه الأمور التي منها ما هو دعاء، ومنها ما هو عمل وإحسان إلى من كان قريباً أو صديقاً لوالده أو لوالدته.
والحديث ضعفه الألباني؛ لأن من رجاله علي بن عبيد وهو مقبول، ولكن الحديث له شواهد فيما يتعلق بالدعاء والاستغفار لهما، وكذلك فيما يتعلق بإنفاذ العهد والوصية ما لم يكن محرماً، وكذلك من ناحية البر وإكرام الصديق، وسيأتي الحديث الذي بعد هذا وفيه إكرام الرجل أهل ود أبيه.
إذاً: فالحديث وإن كان في إسناده رجل مقبول، إلا أن له شواهد تدل عليه.(584/13)
تراجم رجال إسناد حديث (هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال نعم الصلاة عليهما)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن مهدي].
إبراهيم بن مهدي وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[وعثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وإلا النسائي فأخرج له في عمل اليوم والليلة.
[ومحمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهؤلاء الثلاثة مشايخ لـ أبي داود والمقبول فيهم لا يؤثر؛ لأن معه اثنين وهما ثقتان.
[حدثنا عبد الله بن إدريس].
هو عبد الله بن إدريس الأودي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن سليمان].
وهو صدوق فيه لين، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي في الشمائل وابن ماجة.
[عن أسيد بن علي بن عبيد].
وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود وابن ماجة.
[عن أبيه].
هو علي بن عبيد وهو مقبول، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود وابن ماجة.
[عن أبي أسيد مالك بن ربيعة].
أبو أسيد الساعدي صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(584/14)
شرح حديث (إن أبر البر صلة المرء أهل ود أبيه بعد أن يولي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن منيع حدثنا أبو النضر حدثنا الليث بن سعد عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أبر البر صلة المرء أهل ود أبيه بعد أن يولي)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن أبر البر صلة المرء أهل ود أبيه بعد أن يولي) يعني: بعدما يموت، وهذا شاهد للحديث الذي قبله؛ لأن فيه إكرام صديق الوالدين، وأن ذلك من أبر البر.(584/15)
تراجم رجال إسناد حديث (إن أبر البر صلة المرء أهل ود أبيه بعد أن يولي)
قوله: [حدثنا أحمد بن منيع].
أحمد بن منيع ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو النضر].
هو هاشم بن القاسم ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن الليث بن سعد].
هو الليث بن سعد المصري ثقة فقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد].
وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن دينار].
عبد الله بن دينار ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وقد مر ذكره.(584/16)
شرح الأحاديث الواردة في بر الوالدين من الرضاعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن المثنى حدثنا أبو عاصم حدثني جعفر بن يحيى بن عمارة بن ثوبان أخبرنا عمارة بن ثوبان أن أبا الطفيل رضي الله عنه أخبره قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقسم لحماً بالجعرانة، قال أبو الطفيل: وأنا يومئذ غلام أحمل عظم الجزور، إذ أقبلت امرأة حتى دنت إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فبسط لها رداءه، فجلست عليه، فقلت: من هي؟ فقالوا: هذه أمه التي أرضعته) حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني حدثنا ابن وهب حدثني عمرو بن الحارث أن عمر بن السائب حدثه أنه بلغه: (أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان جالساً، فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه من الرضاعة فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأجلسه بين يديه)].
أورد الإمام أبو داود رحمه الله تحت باب: بر الوالدين هذين الحديثين المتعلقين بالأم من الرضاعة والأب من الرضاعة، والأحاديث التي مرت كلها تتعلق بالأبوين من النسب، ومن المعلوم أن الأم من الرضاعة والأب من الرضاعة لهما حق على من رضع منهما؛ فإن الأبوة والأمومة متحققة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) فمن حصل له إرضاع من امرأة صارت أمه من الرضاعة وزوجها صاحب اللبن أباه من الرضاعة، فإنه ينسب إليهما ويقال: هذا أبوه من الرضاعة، وهذه أمه من الرضاعة، ولاشك أن لهما حقاً عليه، ولكن دون حق الأم والأب من النسب.
أورد أبو داود الحديث الأول حديث أبي الطفيل وهو عامر بن واثلة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من صغار الصحابة، وقد ولد عام أحد، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره سبع سنوات، وهو آخر من مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
يقول أبو الطفيل: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لحماً بالجعرانة، وأنا يومئذ غلام أحمل عظم الجزور، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً، فجاءت امرأة فبسط لها رداءه وأجلسها عليه، فقلت: من هي؟ فقالوا: هذه أمه التي أرضعته، وقد ذكر أن هذه المرأة هي حليمة السعدية، وقد أوردها ابن حجر في الإصابة، وكذلك الذهبي ذكرها في تجريده لأسماء الصحابة لـ ابن الأثير، وقال: إنه لم ير شيئاً يدل على إسلامها إلا ما جاء في حديث أبي الطفيل هذا الذي عند أبي داود.
وهذا الحديث الذي عند أبي داود ضعيف غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الحديث الذي بعده فهو معضل؛ لأن فيه قول بعض الرواة: (بلغني) وهو متأخر، فيكون هناك وسائط ساقطة، وهو من قبيل المعضل الذي سقط منه اثنان فأكثر بشرط التوالي.
فإذاً: كل من الحديثين لم يثبت، الأول لم يثبت لأن فيه من هو متكلم فيه، والثاني: معضل؛ لأن فيه عدة وسائط ساقطة.(584/17)
تراجم رجال إسناد الأحاديث الواردة في بر الوالدين من الرضاعة
قوله: [حدثنا ابن المثنى].
هو محمد بن المثنى العنزي أبو موسى الملقب الزمن وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، وهو من صغار شيوخ البخاري، وقد مات سنة (252هـ) قبل البخاري بأربع سنوات؛ لأن البخاري توفي سنة (256هـ).
وقد مات في السنة التي توفي فيها ابن المثنى محمد بن بشار ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، وكل هؤلاء من شيوخ أصحاب الكتب الستة، وهم جميعاً من صغار شيوخ البخاري ومحمد بن المثنى يروي عن أبي عاصم، وأبو عاصم هو الضحاك بن مخلد النبيل وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وأبو داود يروي عن أبي عاصم بواسطة.
وأبو عاصم النبيل هو من كبار شيوخ البخاري الذين روى عنهم الثلاثيات؛ لأن الأحاديث الثلاثية رواها عن ثلاثة شيوخ أو أربعة، منهم: أبو عاصم، ومنهم: مكي بن إبراهيم، ومنهم: محمد بن عبد الله الأنصاري.
وابن أبي عاصم صاحب السنة هو حفيد أبي عاصم هذا، وابن أبي عاصم اسمه أحمد بن عمرو بن أبي عاصم وأبو عاصم هذا جده من قبل أبيه، وموسى بن إسماعيل التبوذكي الذي يأتي ذكره كثيراً هو جده من قبل أمه.
[حدثني جعفر بن يحيى بن عمارة بن ثوبان].
جعفر بن يحيى بن عمارة بن ثوبان مقبول أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود وابن ماجة.
[أخبرنا عمارة بن ثوبان].
عمارة بن ثوبان وهو مستور، وهي أقل من مقبول؛ لأن المقبول هو الذي إذا اعتضد اعتبر، وأما المستور فهو مجهول الحال؛ لأن مجهول الحال ومستور بمعنى واحد، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود وابن ماجة.
[أن أبا الطفيل].
هو عامر بن واثلة رضي الله عنه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو آخر من توفي من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وقوله: [حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني].
أحمد بن سعيد الهمداني صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عمرو بن الحارث].
عمرو بن الحارث المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن عمر بن السائب].
عمر بن السائب وهو صدوق، أخرج له أبو داود.
[أنه بلغه أن رسول الله].
يعني: سقط منه عدة وسائط، فيقال له: المعضل؛ لأن المعضل هو ما سقط من إسناده اثنان أو أكثر بشرط التوالي.(584/18)
شرح سنن أبي داود [585]
لقد جاءت الشريعة بالتكافل الاجتماعي من إعالة يتيم وكفالته والإحسان إليه، والقيام بشئونه، ورعايته وتربيته، وغير ذلك مما يتعلق بالتكافل الاجتماعي، كالاهتمام بالفقراء والمساكين، فكفالة اليتيم فيها الأجر العظيم كما وردت بذلك الأحاديث.
وأيضاً جاءت الشريعة لتنبه على عظم حق الجار، سواءً كان مسلماً قريباً أو مسلماً بعيداً أو كافراً، وجاء التحذير من إيذاء الجار والتقصير في حقه.(585/1)
ما جاء في فضل من عال يتيماً(585/2)
شرح حديث (من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده عليها أدخله الله الجنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في فضل من عال يتيماً.
حدثنا عثمان وأبو بكر ابنا أبي شيبة المعنى قالا: حدثنا أبو معاوية عن أبي مالك الأشجعي عن ابن حدير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده عليها- قال: يعني الذكور- أدخله الله الجنة) ولم يذكر عثمان: يعني الذكور].
أورد أبو داود [باباً في فضل من عال يتيماً].
يعني: قام على شئونه ورعايته وكفالته والإحسان إليه وتنشئته.
واليتيم: هو الذي مات أبوه؛ لأن والده هو الذي يرعاه ويقوم بالإنفاق عليه وبالاكتساب له.
فاليتم هو من جهة الأب؛ لأنه هو الذي يسعى لجلب الرزق له، وإذا فقده فإنه يعتبر يتيماً، فإذا أحسن إنسان إلى يتيم وقام مقام أبيه في الرعاية والإحسان إليه؛ فإنه يعتبر كافل اليتيم أو عائلاً لليتيم.
أورد أبو داود حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت له أنثى فلم يئدها).
يعني: لم يفعل فعل الجاهلية بها، وذلك أنهم كانوا يدفنونها حية؛ وذلك خشية الفقر والعار، وقد جاء ذلك في القرآن: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9].
قوله: [(ولم يهنها)] يعني: لم يحصل منه إهانة لها، وإساءة إليها، مثل ما كانوا في الجاهلية، فقد كانوا يسيئون إلى المرأة ويهينونها ولا يعطونها ما تستحق.
قوله: (ولم يؤثر ولده عليها) المقصود بالولد الذكر كما جاء عن أحد الرواة: (قال: يعني الذكور) وذلك أن الولد يطلق على الذكور والإناث، كما قال الله عز وجل: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، وكذلك يقال: الأم لها الثلث إذا لم يكن للميت ولد، والولد يطلق على الذكر والأنثى، فالولد سواء كان ذكراً أو أنثى يحجب الأم من الثلث إلى السدس.
قوله: [(أدخله الله الجنة)] يعني: جزاؤه أن يدخله الله الجنة.
والحديث في إسناده ضعف، ولكن الإحسان إلى البنات، وتربيتهن وتنشئتهن والإحسان إليهن جاء فيه أحاديث، ولكن الحديث بهذا الإسناد ضعيف.(585/3)
تراجم رجال إسناد حديث (من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده عليها أدخله الله الجنة)
قوله: [حدثنا عثمان وأبو بكر ابنا أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
وأما أخوه أبو بكر فهو عبد الله بن محمد، وهو مشهور بكنيته أبي بكر، وهو من شيوخ الشيخين، وأخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، ومسلم أكثر من الرواية عنه حتى بلغت أحاديثه التي رواها عنه أكثر من ألف وخمسمائة حديث، وهو أكثر شيخ روى عنه مسلم في صحيحه.
[حدثنا أبو معاوية].
هو محمد بن خازم الضرير الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي مالك الأشجعي].
هو سعد بن طارق وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن حدير].
وهو مستور، أخرج له أبو داود.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(585/4)
شرح حديث (من عال ثلاث بنات فأدبهن وزوجهن وأحسن إليهن فله الجنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا خالد حدثنا سهيل -يعني ابن أبي صالح - عن سعيد الأعشى، قال أبو داود: وهو سعيد بن عبد الرحمن بن مكمل الزهري، عن أيوب بن بشير الأنصاري رضي الله عنه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من عال ثلاث بنات فأدبهن وزوجهن وأحسن إليهن فله الجنة)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (من عال ثلاث بنات فأدبهن وزوجهن وأحسن إليهن فله الجنة) وهذه الثلاث سواء كن بنات له أو أخوات، كل ذلك يدخل تحت عموم الحديث مادام أنه هو القائم عليهن، وقد أحسن إليهن وعالهن حتى بلغن مبلغ الزواج وزوجهن، حصل منه الإحسان إليهن فجزاؤه الجنة عند الله عز وجل.
بالنسبة للأخوات اللاتي مات عنهن أبوهن فقام أخوهن بإعالتهن والإحسان إليهن، فهذا يدخل تحت باب في فضل من عال يتيماً، أما بنات الرجل فلا يعتبرن يتيمات، ولكن الإحسان إليهن فيه الأجر العظيم والثواب الجزيل من الله سبحانه وتعالى.(585/5)
تراجم رجال إسناد حديث (من عال ثلاث بنات فأدبهن وزوجهن وأحسن إليهن فله الجنة)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا خالد].
هو خالد بن عبد الله الطحان الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سهيل يعني ابن أبي صالح].
سهيل بن أبي صالح وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة، والبخاري روايته عنه مقرونة.
[عن سعيد الأعشى قال أبو داود: وهو سعيد بن عبد الرحمن بن مكمل الزهري].
سعيد بن عبد الرحمن بن مكمل الزهري وهو مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي.
[عن أيوب بن بشير الأنصاري].
أيوب بن بشير الأنصاري له رؤية، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري رضي الله عنه اسمه سعد بن مالك بن سنان، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث في إسناده هذا الرجل المقبول، ولكنه قد جاء ما يدل على فضل من عال ثلاث بنات وأحسن إليهن، أو عدداً من البنات وأحسن إليهن في أحاديث عدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(585/6)
طريق أخرى لحديث (من عال ثلاث بنات) مع ترجمة رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير عن سهيل بهذا الإسناد بمعناه قال: (ثلاث أخوات، أو ثلاث بنات، أو بنتان، أو أختان)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه أنه فصل في التي حصل إعالتهن أنهن ثلاث بنات أو أخوات أو بنتان أو أختان.
قوله: [حدثنا يوسف بن موسى].
يوسف بن موسى هو صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهيل بهذا الإسناد].
أي: بالإسناد المتقدم.(585/7)
شرح حديث (أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا النهاس بن قهم حدثني شداد أبو عمار عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة -وأومأ يزيد بالوسطى والسبابة- امرأة آمت من زوجها ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا)].
أورد أبو داود حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة -وأومأ يزيد بالوسطى والسبابة- امرأة آمت من زوجها ذات منصب وجمال).
يعني: تأيمت من زوجها ومات عنها وعندها بنات، فلم تتزوج من أجل أن ترعاهن وتحافظ عليهن، فآثرت البقاء بدون زوج مع بناتها للإحسان إليهن وتربيتهن وتنشئتهن، وهي ذات منصب وجمال ليست مرغوباً عنها، بل فيها من الصفات ما يقتضي الرغبة فيها، ولكنها آثرت البقاء معهن دون أن تتزوج.
قوله: [(سفعاء الخدين)] السفع: المقصود به حصول كدرة أو شيء يغير لون البشرة، وقيل: إنه بسبب أنها لم تتزوج فلا تحتاج إلى التجمل، ولا إلى أن تتهيأ للزوج، بل بقيت على هذا الوصف بسبب ترك التزين، لا أن ذلك عيب فيها أو أنه شيء في أصل خلقتها، وإنما هو بسبب ابتعادها أو تركها للزواج وتركها التجمل والتزين للزوج.
قوله: [(ذات منصب وجمال)] هذا ليس له مفهوم، بمعنى أن هذا الأجر لا يكون إلا لمن تكون كذلك، بل إن غيرها لو حصل منها مثل ما حصل من هذه، فإنه يكون لها ذلك الأجر، ولكن ذكرت ذات المنصب والجمال؛ لأن هذا مما يرغب فيها ومما يشجع على الإقدام على خطبتها والزواج منها، فكونها ذات شرف وذات حسب ومع ذلك جميلة فإن النفوس تطمع فيها وترغب فيها؛ ولهذا جاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله) يعني: دعته إلى نفسها وهي متصفة بهذه الصفات التي تدعوه إلى الميل إليها والرغبة فيها، ولكنه لبعده عن الفاحشة وبعده عن معصية الله عز وجل امتنع من ذلك وقال: إني أخاف الله.(585/8)
تراجم رجال إسناد حديث (أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع].
مسدد مر ذكره.
ويزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا النهاس بن قهم].
النهاس بن قهم وهو ضعيف، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثني شداد أبو عمار].
شداد أبو عمار وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عوف بن مالك الأشجعي].
عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
ويفهم من الحديث الحث على عدم الزواج لمن مات عنها زوجها، لكن هذا يرجع إلى حالها وإلى ما تعرفه من نفسها، فإذا كان عندها أولاد والزواج يؤثر في ضياعهم، وهي أيضاً كذلك عندها صبر ولا تخشى على نفسها من الفتنة ومن الأمور المحرمة، فلا شك أن بقاء المرأة دون زواج من أجل أولادها أمر مطلوب، لكن الحديث ضعيف.(585/9)
شرح حديث (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن ضم اليتيم.
حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان أخبرنا عبد العزيز -يعني ابن أبي حازم - حدثني أبي عن سهل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة.
وقرن بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب فيمن ضم اليتيم].
يعني: أنه كفله وقام برعايته والإحسان إليه، والباب السابق فيمن عال يتيماً.
ويمكن أن يحمل ما جاء في الترجمة السابقة على الإنفاق عليه، وهذه الترجمة على أنه أتى به وجعله عنده، وقام برعايته والإحسان إليه، فجمع بين كونه ينفق عليه وبين كونه يباشر تأديبه والإحسان إليه.
أورد أبو داود حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة.
وقرن بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام).
هذا فيه إشارة إلى أنه يكون معه الجنة، ولا يعني ذلك أنه يكون معه في درجته.
ولا شك أن هذا خير عظيم، والإنسان إذا دخل الجنة، فإنه يجد فيها كل ما تشتهيه نفسه، ويرى أن هذا الذي هو فيه ليس فوقه شيء، وليس هناك شيء أحسن منه، كما أن المعذبين في النار أهونهم عذاباً يرى أنه ليس هناك أحد أشد منه عذاباً، مع كونه أخف الناس عذاباً.(585/10)
تراجم رجال إسناد حديث (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة)
قوله: [حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان].
محمد بن الصباح بن سفيان صدوق، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[أخبرنا عبد العزيز يعني ابن أبي حازم].
عبد العزيز بن أبي حازم صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبي].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهل].
هو سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا إسناد رباعي وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(585/11)
الفرق بين إعالة اليتيم وبين ضمه وكفالته
الأحاديث السابقة التي مرت، حديث: (من عال ثلاث بنات فأدبهن وزوجهن وأحسن إليهن فله الجنة).
وحديث: (من كانت له أنثى فلم يئدها، ولم يهنها ولم يؤثر ولده عليها أدخله الله الجنة).
يفهم منها أنه هو المباشر، لكن كأن أبا داود رحمه الله ذكر هناك كونه يعول اليتيم، وهنا ذكر الضم الذي فيه زيادة إحسان، وأنه قد يكون الكافل أجنبياً وليس قريباً لليتيم، وأما تلك الأحاديث ففيها أن الكافل والعائل لليتيم يكون من أوليائه كأمه مثلاً، أو أعمامه.(585/12)
ما جاء في حق الجوار(585/13)
شرح حديث (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى قلت ليورثنه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في حق الجوار.
حدثنا مسدد حدثنا حماد عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى قلت: ليورثنه)].
أورد أبو داود [باباً في حق الجوار].
والمقصود بالجوار المجاورة في المسكن، كأن يكون قريباً من الإنسان سواء كان ملاصقاً أو غير ملاصق؛ لأن الجيران متعددون، ولكن من يكون ملاصقاً ويكون بابه قريباً فحقه أعظم وهو مقدم على من يكونون وراءه ومن يكونون أبعد منه، وكلهم لهم حق ولكن هم متفاوتون على حسب القرب.
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى قلت: ليورثنه) يعني: أنه ينزل بالوحي الذي فيه الوصية بالجار، حتى ظن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيكون له نصيب من الميراث، وهذا هو الأقرب في معنى الحديث، وبعضهم قال: إنه ينزل منزلة الوارث في التعظيم، ولكن كونه قال: (حتى قلت: ليورثنه) واضح بأنه ظن أنه سيكون له نصيب من الميراث.
وهذا يدل على عظم شأن حق الجار، وأنه مادام بهذه المنزلة فحقيق أو حري أن يجعل له نصيب من مال الإنسان إذا مات.
فمعنى ذلك أن حق الجار عظيم، وأن الإنسان يحسن إليه ويهدي إليه، ويصل إليه معروفه في حياته مادام أن الرسول صلى الله عليه وسلم ظن أنه سيورث ويجعل له نصيب من ماله إذا مات، وإن لم يحصل التوريث، والتوريث إنما هو للأقارب كما جاء في الكتاب والسنة.
وجاءت أحاديث كثيرة تدل على حق الجار وعلى الابتعاد عن أذاه، وأن أذى الجار أعظم من إيذاء غيره؛ لأن له حقاً على جاره، ولهذا جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره) وقال صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه) يعني: غوائله وشروره.
وقوله: [(حتى قلت: ليورثنه)].
يمكن أن يكون قسماً، مثل قول الرجل لأخيه: لتفعلن، ولم يذكر لفظ الجلالة، فهذا يحتمل القسم وغيره.(585/14)
تراجم رجال إسناد حديث (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى قلت ليورثنه)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد بن درهم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وإذا جاء مسدد يروي عن حماد، فالمقصود به ابن زيد كما أن موسى بن إسماعيل إذا جاء يروي عن حماد فالمقصود به حماد بن سلمة، وذكر المزي ذلك في تهذيب الكمال.
[عن يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد الأنصاري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بكر بن محمد].
[عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرة].
هي عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وهي الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وعمرة كثيرة الرواية عن عائشة.(585/15)
شرح حديث (مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عيسى: حدثنا سفيان عن بشير أبي إسماعيل عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (أنه ذبح شاة فقال: أهديتم لجاري اليهودي؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بعد الحديث السابق، وفيه نفس ما في الحديث الذي سبق، والحديث هنا يحمل على العموم، وأن حق الجوار يكون لكل جار، سواء كان مسلماً أو كافراً، وسواء كان طائعاً أو عاصياً.
وأهم شيء يكون للجيران من الحقوق إذا كانوا كفاراً أو كانوا فسقة نصحهم ودعوتهم إلى الخير.
وعبد الله بن عمرو رضي الله عنه كان له جار يهودي فلما ذبحوا شاة قال: أطعمتم جارنا اليهودي؟ ثم ذكر الحديث، وهو يدل على أن الحديث عام يشمل الإحسان إلى كل جار سواء كان مسلماً أو كافراً؛ لأنه إذا كان مسلماً فله حق الإسلام والجوار، وإن كان كافراً فله حق الجوار فقط، وإن كان قريباً مع كونه مسلماً فله حق الإسلام والقرابة والجوار.(585/16)
تراجم رجال إسناد حديث (مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
هو محمد بن عيسى الطباع وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بشير أبي إسماعيل].
وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن مجاهد].
هو مجاهد بن جبر المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمرو].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وهم: عبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين.(585/17)
شرح حديث الرجل الذي شكا جاره إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة حدثنا سليمان بن حيان عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يشكو جاره، فقال: اذهب فاصبر، فأتاه مرتين أو ثلاثاً، فقال: اذهب فاطرح متاعك في الطريق.
فطرح متاعه في الطريق، فجعل الناس يسألونه فيخبرهم خبره، فجعل الناس يلعنونه: فعل الله به وفعل وفعل، فجاء إليه جاره فقال له: ارجع لا ترى مني شيئاً تكرهه)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره فأمره بالصبر، ثم عاد إليه بعد ذلك فقال: خذ متاعك واجلس على الطريق، ففعل ذلك فكان من مر به سأله، قال: من أجل كذا وكذا، فصار الناس يسبون جاره، فتأذى وتألم جاره وجاء وقال له: ارجع ولا ترى مني إلا خيراً.
وهذا يدلنا على فضل الإحسان إلى الجار والبعد عن أذاه، وأن في أذاه ضرراً، وأن الإنسان إذا حصل له شيء من الأذى، فإنه يصبر على أذى جاره ولو أساء إليه.(585/18)
تراجم رجال إسناد حديث الرجل الذي شكا جاره إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
قوله: [حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة].
هو الربيع بن نافع أبو توبة الحلبي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
وأبو توبة هذا هو الذي جاءت عنه الكلمة المشهورة: أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ستر لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن من اجترأ عليه اجترأ على غيره.
[حدثنا سليمان بن حيان].
هو أبو خالد الأحمر وهو صدوق يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
يأتي أحياناً ذكره أبو خالد الأحمر، وأحياناً يذكر باسمه كما هنا، ومعرفة كنى المحدثين فائدتها ألا يظن الشخص الواحد شخصين، فإذا جاء في إسناد أبو خالد الأحمر، وجاء في إسناد آخر سليمان بن حيان، فالذي لا يعرف أن سليمان بن حيان هو أبو خالد الأحمر وأن هذه كنيته يظن أبا خالد الأحمر شخصاً وسليمان بن حيان شخصاً آخر، وهما شخص واحد.
[عن محمد بن عجلان].
هو محمد بن عجلان المدني وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
ومحمد بن عجلان ذكروا في ترجمته أن أمه حملت به ثلاث سنين.
[عن أبيه].
هو عجلان وهو لا بأس به، وهي بمعنى صدوق، وقد أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر السبعة من الصحابة الذين اشتهروا بكثرة الحديث رضي الله تعالى عنهم.(585/19)
المقصود باللعن في قوله (فجعل الناس يلعنونه)
قوله: [(فجعل الناس يلعنونه)].
يعني: يسبونه، عبر باللعن عن السب؛ لأن لعن المعين لا يجوز، ولكن اللعن هنا هو بمعنى السب، ومثله الحديث الآخر الذي قال فيه: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتدعون لهم ويدعون لكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم) معناه السب.(585/20)
شرح حديث (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) وهذا من أدلة إكرام الضيف والإحسان إليه.
قوله: [(ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)] يعني: لا يصل إليه منه أذى، بل يصل إليه الإحسان والبر، ويبعد عنه ضره وشره، ويكف عنه الأذى.
قوله: [(ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)] يعني: إن كان متكلماً فليتكلم بخير وإلا فليسكت؛ لأن الإنسان إذا كان كلامه في خير نفعه، وإن كان كلامه في غير ذلك فإنه يضره، والسكوت خير له من الكلام الذي يترتب عليه مضرة.
ويأتي في الكتاب والسنة الجمع بين الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأن الإيمان بالله هو الأصل والإيمان بالملائكة والكتب والرسل وغير ذلك تابعة للإيمان بالله، فمن لا يؤمن بالله لا يؤمن بهذه الأشياء.
فالجمع بين الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأن الإيمان بالله هو الأصل، واليوم الآخر فيه تذكير بالجزاء والحساب، وأن على الإنسان أن يستعد لذلك اليوم ويخشى العقوبة فيه؛ ولهذا جاء الجمع بينهما في هذه الأمور الثلاثة.
ومن ذلك في القرآن قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59] وقال تعالى: (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:232] والسنة منها هذا الحديث ومنها (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم) ويأتي كثيراً في الكتاب والسنة الجمع بين ركنين من أركان الإيمان الستة.(585/21)
تراجم رجال إسناد حديث (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)
قوله: [حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني].
محمد بن المتوكل العسقلاني صدوق، أخرج حديثه أبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
وقد مر ذكره.(585/22)
شرح حديث (قلت يا رسول الله إن لي جارين بأيهما أبدأ؟ قال بأدناهما باباً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد بن مسرهد وسعيد بن منصور أن الحارث بن عبيد حدثهم عن أبي عمران الجوني عن طلحة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! إن لي جارين بأيهما أبدأ؟ قال: بأدناهما باباً).
قال أبو داود: قال شعبة في هذا الحديث: طلحة رجل من قريش].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن لي جارين فبأيهما أبدأ؟ قال: بأقربهما باباً) وهذا إذا لم يمكن الإحسان إليهما جميعاً، وكان ما يراد إيصاله لا يكفي للاثنين، فلا بد من تقديم وتأخير فيقدم من كان أقرب باباً؛ وذلك لأن من كان أقرب باباً يرى ما يدخل ويخرج فتتشوف نفسه، بخلاف الذي يكون بابه ليس قريباً من الباب، فإنه لا يرى ما يدخل إلى بيت جاره.
ثم أيضاً من يكون قريب الباب يحتاج إلى إسعاف أو معونة عند حصول أمر طارئ، فهو يحتاج إلى المبادرة والوصول بسرعة، فإن من يكون أقرب باباً يتحقق به ذلك بخلاف البعيد.
فإذاً: إذا لم يمكن الإحسان إلى عدد من الجيران واحتاج إلى أن يقدم ويؤخر فالذي يقدم من يكون أقرب باباً، كما جاء في هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(585/23)
تراجم رجال إسناد حديث (قلت يا رسول الله إن لي جارين بأيهما أبدأ؟ قال بأدناهما باباً)
قوله: [حدثنا مسدد بن مسرهد وسعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن الحارث بن عبيد].
الحارث بن عبيد وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأبو داود والترمذي.
[عن أبي عمران الجوني].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن طلحة].
هو طلحة بن عبد الله وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وقد مر ذكرها.
[قال أبو داود قال: شعبة في هذا الحديث: طلحة رجل من قريش].
يعني: هذا الشخص الذي ذكره هنا عرفه بأنه رجل من قريش، وهو طلحة بن عبد الله التيمي.(585/24)
الأسئلة(585/25)
عدم دلالة حديث (اطرح متاعك في الطريق) على جواز المظاهرات
السؤال
حديث أبي هريرة في الرجل الذي جاء يشكو جاره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اطرح متاعك في الطريق) استدل به بعض الناس على جواز المظاهرات، فهل هذا صحيح؟
الجواب
هؤلاء يتشبثون بخيوط العنكبوت كما يقال، ويبحثون عن شيء يبنون عليه باطلهم.
المظاهرات من قبيل الفوضى، وهذا الرجل أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يفعل ذلك حتى إن جاره يتأثر بسبب ذلك.
ثم أيضاً في هذا الزمان لا يقال: إن كل من يشتكي جاره يكون مصيباً، قد يكون هذا الذي يشتكي جاره هو الأظلم، بخلاف هذا الذي أرشده الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه مظلوم.
في هذا الزمان بعض الجيران يحصل بينه وبين جاره شيء، وكل واحد يقول إنه يؤذيني، وقد يكون هذا الذي خرج وأظهر متاعه أسوأ من ذلك الذي لم يخرج متاعه، فلا يقال إن الحديث على إطلاقه في كل جار؛ لأن أحوال الناس تتفاوت وتتغير، مثل ما مر بنا في حديث ابن عمر في البر من كون أبيه عمر رضي الله عنه قال له: طلق امرأتك! فالناس يتفاوتون، فبعض الآباء قد يكون هو نفسه السيئ، وقد يكون نفسه هو الذي عنده انحراف وعنده فسق، والزوجة تكون صالحة، فلا يقال: إن كل أب يكون مثل عمر، ولا يقال أيضاً: كل جار يكون مثل هذا الذي أرشده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يخرج متاعه إلى الطريق.(585/26)
درجة حديث (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم)
السؤال
ما حكم حديث: (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم)؟
الجواب
هذا حديث ضعيف، لكن إذا حصل منهم إفساد أو ضرر فهذا مطلوب، وأما إذا لم يحصل فإن السنة جاءت بالإتيان بالصبيان إلى المسجد، وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل في الصلاة يريد التطويل ثم يسمع بكاء الصبي فيخفف الصلاة) أي: خوفاً على أمه وشفقة عليها، وهذا يدل على الإتيان بهم.(585/27)
حال أثر ابن عمر أنه كان يستحب قراءة القرآن عند الدفن
السؤال
ما صحة هذه الرواية: أن عبد الله بن عمر أوصى أن يقرأ عند دفنه بفواتح البقرة وخواتيمها، وقد أجاز الإمام أحمد ذلك، ونقل عن بعض الأنصار أنه أوصى أن يقرأ عند قبره بالبقرة؟
الجواب
لا أعلم شيئاً ثابتاً في هذا، ومعلوم أن المقابر لا يفعل فيها إلا ما قد ورد، وهي إنما يذهب إليها لدفن الجنائز ولزيارة القبور، أما أن يقرأ فيها على أصحابها القرآن فإنا لا نعلم شيئاً ثابتاً في ذلك، لا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة.(585/28)
كيفية التعامل مع الجار المبتدع
السؤال
يقول السائل: كيف أعامل جاري المبتدع، مع أني نصحته في بدعته عدة مرات وهو مصر عليها؟
الجواب
احرص على هدايته ولا تيئس، وتكلم معه وزوده بالأشرطة وبالكتب المفيدة.(585/29)
كيفية الجمع بين الإحسان إلى الجار النصراني وبين بغضه لكفره
السؤال
وهذا يقول: لي جار نصراني، فكيف أجمع بين الإحسان إليه وبغضه وعدم ابتدائه بالسلام، وهو أحياناً يؤذيني ببعض المنكرات؟
الجواب
لا تنافي بين الإحسان وعدم البدء بالسلام؛ لأن الإنسان يأتي بما جاء في السنة، فيأتي بكونه يبغضه في الله عز وجل وكونه يحسن إليه بحكم الجوار، وأعظم الإحسان إليه هو أن يدعى إلى الإسلام وأن يسعى إلى هدايته، مثل ما جاء في حديث عبد الله بن عمرو الذي قال فيه: (هل أعطيتم جارنا اليهودي؟) يعني: من تلك الشاة التي ذبحوها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي بالجار حتى قال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).(585/30)
جزاء من أنفقت على أبنائها بسبب فقر زوجها أو بخله
السؤال
المرأة التي يكون لها زوج لا ينفق على أبنائه بما يكفيهم، إذا أنفقت عليهم من مالها فهل تدخل في الأحاديث التي فيها الإحسان إلى البنات؟
الجواب
لاشك أن كل من أحسن فله أجر إحسانه، وإذا كان زوجها فقيراً وقد عملت ما عملت فلا شك أن هذا خير لها، وإذا كان أيضاً غنياً ولكنه بخيل وفعلت ما فعلت فلا شك أنه خير لها، ففي جميع الأحوال هي على خير.(585/31)
حكم من وجد نقوداً في الحرم
السؤال
يقول شخص: وجدت خمسة ريالات في الحرم، فهل آخذها أو أتصدق بها أم ماذا أفعل؟
الجواب
إذا تصدقت بها عن صاحبها فهذا أمر حسن.(585/32)
حكم تسمية اليهود بأبناء القردة والخنازير
السؤال
هل تسمية اليهود بأبناء القردة والخنازير محرمة شرعاً؟
الجواب
جاء في الأحاديث أن بعضهم مسخوا إلى قردة وخنازير، لكن الذين مسخوا ليس لهم نسل، كما جاء في الحديث عن أم سلمة: (أنه ليس للأمة التي مسخت نسل) فقد عرفنا في الحديث أن الذين مسخوا ليس لهم نسل، ولكن لاشك أنهم إخوان القردة والخنازير وأشباه القردة والخنازير.(585/33)
حكم مبيت المرء منفرداً
السؤال
هل النهي في بيات الرجل وحده للتحريم أو الكراهة؟ وهل يدخل في ذلك بيات الرجل في غرفة وحده في فندق مثلاً؟
الجواب
الذي يبدو أن النهي للكراهة وليس للتحريم، أما من نام في غرفة وحده في الفندق فهذا لا يعتبر بات وحده؛ لأنه لو حصل له شيء فإنه يستطيع أن يطرق الباب إذا كان عنده مشكلة كمرض أو غير ذلك ويأتيه الناس، لكن الذي يكون في مكان وحده أو في غرفة والغرفة في بيت كبير قد يحصل له أمر يعوقه فيحتاج إلى من يسعفه، ويحتاج إلى من يساعده ويغيثه فلا يتمكن.(585/34)
شرح سنن أبي داود [586]
حث الشرع على الرحمة والعطف، ونهى عن الإيذاء والغلظة، فنهى عن قذف المملوك وإيذائه والتعدي عليه بالضرب ونحوه وجعل كفارة ذلك عتقه، وأمر المالك أن يطعمه ويكسوه ويعفو عنه ولا يكلفه من العمل ما لا يطيق.
والمملوك إذا نصح لسيده وأحسن عبادة ربه فله أجره مرتين، وقد نهى الشرع عن إفساد المملوك عن سيده بأن يتمرد عليه ويعامله معاملة سيئة.(586/1)
ما جاء في حق المملوك(586/2)
شرح حديث (كان آخر كلام رسول الله الصلاة الصلاة اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في حق المملوك.
حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالا: حدثنا محمد بن الفضيل عن مغيرة عن أم موسى عن علي رضي الله عنه قال: (كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باباً في حق المملوك والمقصود بذلك ملك اليمين، وهم الأرقاء من الذكور والإناث، هؤلاء هم ملك اليمين الذين لهم حقوق قد جاء بيانها في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد يدخل في ملك اليمين ما يملكه الإنسان من الدواب، فإن على من يملكها الإحسان إليها، وذلك بإطعامها وعدم إيذائها وإلحاق الضرر بها.
أورد أبو داود حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان آخر ما قال: (الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم) وفي بعض الألفاظ: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم) أي: أن المقصود بذلك الحث والاهتمام والعناية بالصلاة، وذلك بالمحافظة عليها وإقامتها وأدائها كما شرع الله عز وجل وكما أوجب، والتقدير: الزموا الصلاة أو أقيموا الصلاة أو حافظوا عليها أو غير ذلك من العبارات؛ لأن لفظ الصلاة منصوب بفعل محذوف تقديره الزموا الصلاة أو أقيموا الصلاة.
وكذلك أيضاً ملك اليمين على الإنسان أن يتقى الله عز وجل في ملك اليمين، وذلك بأن يحسن إليه ويعطي حقه ولا يظلم، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق كما جاء ذلك في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكون النبي صلى الله عليه وسلم أوصى في آخر ما أوصى بهذين الأمرين اللذين هما الصلاة وملك اليمين يدل على عظم شأنهما.
ولاشك أن الصلاة جاء فيها نصوص كثيرة تدل على عظم شأنها وعلى أهميتها، فجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وصية بها في آخر ما أوصى به، وجاء بأنها آخر ما يفقد، وجاء أنها أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وجاء أنها عمود الإسلام.
وجاءت الوصية بملك اليمين؛ وذلك لأنه قد يظلم لضعفه، فجاءت السنة بالحث على أداء حقه فلا يظلم ولا يبخس حقه، وعدم التفريط وعدم التقصير في ذلك.(586/3)
تراجم رجال إسناد حديث (كان آخر كلام رسول الله الصلاة الصلاة اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم)
قوله: [حدثنا زهير بن حرب].
هو زهير بن حرب أبو خيثمة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[وعثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وإلا النسائي فأخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا محمد بن الفضيل].
هو محمد بن فضيل بن غزوان وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مغيرة].
هو مغيرة بن مقسم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أم موسى].
أم موسى وهي مقبولة، أخرج لها البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن علي].
علي رضي الله عنه أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث له شواهد عن أنس رضي الله عنه، فلا يؤثر فيه وجود هذه المرأة المقبولة.(586/4)
شرح حديث أبي ذر (إنهم إخوانكم فضلكم الله عليهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن المعرور بن سويد قال: (رأيت أبا ذر رضي الله عنه بالربذة وعليه برد غليظ وعلى غلامه مثله، قال: فقال القوم: يا أبا ذر لو كنت أخذت الذي على غلامك فجعلته مع هذا فكانت حلة، وكسوت غلامك ثوباً غيره، قال: فقال أبو ذر: إني كنت ساببت رجلاً وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه، فشكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية، فقال: إنهم إخوانكم فضلكم الله عليهم، فمن لم يلائمكم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله)].
أورد أبو داود حديث أبي ذر رضي الله عنه أن المعرور بن سويد قال: لقيت أبا ذر في الربذة وعليه برد غليظ وعلى غلامه مثله، فقلت: لو أنك أخذت البرد الذي على غلامك وأضفته إلى البرد الذي معك فصار حلة، يعني: إزاراً ورداء؛ لأن البرد هو شيء واحد ولباس واحد، وإذا كان من إزار ورداء فيقال له: حلة؛ لأن كلمة حلة تطلق على شيئين: إزار ورداء، فيقال للاثنين حلة، ويقال للثوب الواحد الذي يكون على الإنسان: برد، ويقال له: ثوب.
فقال له: لو أنك جعلت هذا الذي على غلامك وأضفته إلى البرد الذي معك لصار حلة لك، من إزار ورداء من شكل واحد ومن جنس واحد، واشتريت لغلامك برداً غير هذا، فأخبر بأنه حصل له قصة وأنه ساب رجلاً وعيره بأمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك امرؤ فيك جاهلية، ثم قال: إنهم إخوانكم فضلكم الله عليهم، فمن لم يلائمكم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله).
فعند ذلك صار يعامل غلامه مثل ما يعامل نفسه، وإن كان لا يلزمه أن يسوي بينه وبينه، بل عليه أن يكسوه وأن يطعمه وليس بلازم أن يسوي بينه وبينه، لكن لما حصل منه ما حصل والرسول صلى الله عليه وسلم قال ما قال صار يعامله معاملة نفسه، يكسوه كما يكتسي ويطعمه كما يطعم رضي الله عنه وأرضاه.
قوله: [(إني كنت ساببت رجلاً وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه)].
يعني: قال: يا ابن فلانة ونسبها إلى جنسها.
قوله: [(إنك امرؤ فيك جاهلية)].
يعني: هذه من صفات الجاهلية، وقد يجتمع في المسلم أن يكون عنده إيمان وعنده صفة من صفات الجاهلية.
وكذلك الإحسان إلى الخادم والخادمة مثل الإحسان إلى المملوك ولاشك أنه من جنسه؛ لأنه يعمل مثل ما يعمل المملوك فهو تحت إمرته وتحت ولايته، فكذلك يعامله معاملة المملوك من ناحية الإحسان إليه، وأنه لا يكلفه ما لا يطيق، لكن الكسوة على حسب الاتفاق، إذا كان بينه وبينه أنه يكسوه وإلا فهو الذي يكسو نفسه؛ لأنه يعمل بأجرة، وهو ليس مثل العبد المملوك؛ فالمملوك ملك لسيده وخراجه إذا اشتغل هو لسيده وكل منافعه.(586/5)
تراجم رجال إسناد حديث أبي ذر (إنهم إخوانكم فضلكم الله عليهم)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة مر ذكره.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المعرور بن سويد].
المعرور بن سويد مخضرم، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وقد ذكر في ترجمته أن الأعمش قال عنه: لقيت المعرور بن سويد وعمره مائة وعشرون سنة وكان أسود شعر الرأس واللحية.
[رأيت أبا ذر].
أبو ذر هو جندب بن جنادة رضي الله عنه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(586/6)
شرح حديث أبي ذر (إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد قال: (دخلنا على أبي ذر رضي الله عنه بالربذة فإذا عليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر لو أخذت برد غلامك إلى بردك فكانت حلة، وكسوته ثوباً غيره، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل وليكسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه؛ فإن كلفه ما يغلبه فليعنه) قال: أبو داود: رواه ابن نمير عن الأعمش نحوه].
أورد أبو داود حديث المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه وفيه: أنهم لقوه بالربذة وعليه برد وعلى غلامه برد، فقالوا: لو أخذت برد غلامك إلى بردك وكسوت غلامك برداً آخر، فقال: إنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم) يعني: ملككم إياهم، فصرتم تتصرفون فيهم وهم إخوانكم.
قوله: [(فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل، وليكسه مما يلبس)].
وهذا هو الذي جعل أبا ذر رضي الله عنه يكسوه كما يكسو نفسه ويسوي بينه وبين نفسه، والتسوية ليست بلازمة، بحيث يشتري لغلامه ما يشتريه لنفسه، ولكنه يحسن إليه ويكسوه من جنس ما يلبس، وإن لم يكن مثله تماماً.
قوله: [(ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه)].
يعني: فلا تكلفوهم ما يغلبهم وإن كلفتموهم ما يشق عليهم فأعينوهم، إما بأنفسكم وإما بقيام غيركم ممن تسندون إليه ذلك وتكلفونه بذلك.(586/7)
تراجم رجال إسناد حديث أبي ذر (إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عيسى بن يونس].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد قال: دخلنا على أبي ذر].
وقد مر ذكر الثلاثة.
[قال أبو داود: رواه ابن نمير عن الأعمش نحوه].
هذه طريق أخرى، وابن نمير هو عبد الله بن نمير وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.(586/8)
شرح حديث أبي مسعود (كنت أضرب غلاماً لي فسمعت من خلفي صوتاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد العلاء حدثنا أبو معاوية ح وحدثنا ابن المثنى حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: (كنت أضرب غلاماً لي فسمعت من خلفي صوتاً: اعلم أبا مسعود، قال ابن المثنى: مرتين، الله أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله تعالى، قال: أما إنك لو لم تفعل للفعتك النار، أو لمسَّتك النار)].
أورد أبو داود حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه: أنه كان له غلام وكان يضربه، فسمع صوتاً من ورائه يقول: اعلم أبا مسعود الله أقدر عليك منك عليه.
يعني: أن قدرة الله عليك أعظم من قدرتك عليه، وكما أنك قادر عليه فإن الله تعالى قادر عليك وقادر على كل شيء، وكما أنك فوقه فالله فوقك وهو فوق كل شيء، وهو قاهر لكل شيء وغالب لكل شيء وهو على كل شيء قدير سبحانه وتعالى.
وهذا فيه تذكير بالله عز وجل وأن من كان له قدرة وحصل منه إخلال في الشيء الذي أوجبه الله عز وجل عليه وفي الشيء الذي يلزمه مما هو قادر عليه فإنه يذكر بقدرة الله عز وجل عليه، وأن الله عز وجل يجازيه، وقد يحصل له ذلك في الدنيا أو يؤخر ذلك في الآخرة، إذا لم يتجاوز الله سبحانه وتعالى عنه.
قوله: [(فقلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله تعالى، قال: أما إنك لو لم تفعل للفعتك النار)].
يعني: آذتك وأصابتك وأحاطت بك، كما يقال: تلفع في ثوبه، يعني: أنه أحاط به نفسه وأداره على نفسه، مثل ما جاء في الحديث: (متلفعات بمروطهن ما يعرفهن أحد من الغلس) يعني: النساء اللاتي كن يصلين مع الرسول صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر.
قوله: [(أو لمستك النار)] يعني: أصابتك، وهذا يدل على أن العتق فيه تكفير لذلك الذنب الذي قد حصل منه، وهو كونه ضرب مملوكه، لكن هذه الكفارة ليست على سبيل الوجوب.(586/9)
تراجم رجال إسناد حديث أبي مسعود (كنت أضرب غلاماً لي فسمعت من خلفي صوتاً)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو معاوية].
هو محمد بن خازم الضرير الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا ابن المثنى].
هو محمد بن المثنى هو الملقب بـ الزمن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو معاوية عن الأعمش].
أبو معاوية شيخ الاثنين والصيغة واحدة، فلا أدري ما وجه كونه حول بعد الشيخ بعد ما ذكره مرتين؛ لأن طريقته في مثل هذا أن يقول: عن فلان وفلان قالا: كذا، لكن جاء في عون المعبود: حدثنا محمد بن العلاء ح وأخبرنا ابن المثنى حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، وبهذا تظهر مناسبة التحويل.
[عن الأعمش عن إبراهيم التيمي].
هو إبراهيم بن يزيد التيمي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو يزيد بن شريك وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي مسعود الأنصاري].
هو أبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(586/10)
طريق ثانية لحديث أبي مسعود الذي فيه ضربه لغلامه وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو كامل حدثنا عبد الواحد عن الأعمش بإسناده ومعناه نحوه، قال: (كنت أضرب غلاماً لي أسود بالسوط) ولم يذكر أمر العتق].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله إلا أنه ليس فيه ذكر العتق.
قوله: [حدثنا أبو كامل].
هو أبو كامل الفضيل بن حسين الجحدري وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الواحد].
هو عبد الواحد بن زياد وهو ثقة في حديثه عن الأعمش وحده مقال، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش بإسناده ومعناه].
يعني: وإن كان هنا في الإسناد مقال، لكن الإسناد الأول من طريق أبي معاوية وهو من أثبت الناس في الأعمش.(586/11)
طريق ثالثة لحديث أبي ذر في الإحسان إلى المملوك وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عمرو الرازي حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن مورق عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من لاءمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون، واكسوه مما تلبسون، ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه، ولا تعذبوا خلق الله)].
أورد أبو داود حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي تقدم، ولكن جاء به من طريق أخرى وبلفظ فيه شيء من المغايرة قال: (من لاءمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون، واكسوه مما تلبسون، ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه، ولا تعذبوا خلق الله).
قوله: [حدثنا محمد بن عمرو الرازي].
محمد بن عمرو الرازي ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة.
[حدثنا جرير عن منصور].
جرير مر ذكره.
ومنصور هو ابن المعتمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجاهد].
هو مجاهد بن جبر المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مورق].
هو مورق العجلي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي ذر].
أبو ذر رضي الله عنه، وقد مر ذكره.(586/12)
شرح حديث (حسن الملكة يمن وسوء الخلق شؤم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عثمان بن زفر عن بعض بني رافع بن مكيث عن رافع بن مكيث رضي الله عنه -وكان ممن شهد الحديبية مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (حسن الملكة يمن وسوء الخلق شؤم)].
أورد أبو داود حديث رافع بن مكيث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حسن الملكة يمن، وسوء الخلق شؤم).
وفي بعض الروايات: (نماء) وهو بمعنى يمن.
وإحسان الإنسان إلى مماليكه يمن، وذلك أن الإنسان عندما يحسن إلى المملوك، فإن المملوك يرتاح فيعامله معاملة طيبة ويكون يمناً عليه ولا يكون شؤماً ولا ضرراً عليه؛ لأن سيده أحسن إليه فيقابل إحسان سيده بأن يعامله المعاملة الطيبة، بخلاف ما إذا عامله معاملة سيئة؛ فإنه قد يعامله معاملة سيئة جزاء بالمثل، والحديث في إسناده شخص مجهول وهو عثمان بن زفر.(586/13)
تراجم رجال إسناد حديث (حسن الملكة يمن وسوء الخلق شؤم)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى].
إبراهيم بن موسى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عثمان بن زفر].
عثمان بن زفر وهو مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن بعض بني رافع بن مكيث].
وقد جاء في الطريقة الثانية تسميته وهو الحارث بن رافع.
والحارث بن رافع مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن رافع بن مكيث].
رافع بن مكيث صحابي، أخرج له أبو داود.
كذلك محمد بن خالد بن رافع بن مكيث هو حفيد رافع بن مكيث وهو مستور، أخرج له أبو داود.(586/14)
طريق أخرى لحديث (حسن الملكة يمن) وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن المصفى حدثنا بقية حدثنا عثمان بن زفر حدثني محمد بن خالد بن رافع بن مكيث عن عمه الحارث بن رافع بن مكيث -وكان رافع من جهينة قد شهد الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (حسن الملكة يمن، وسوء الخلق شؤم)].
هذا الحديث مرسل؛ لأنه لم يرو عن رافع، وهو من جنس الذي قبله.
قوله: [حدثنا ابن المصفى].
هو محمد بن مصفى صدوق له أوهام، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا بقية].
هو بقية بن الوليد وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عثمان بن زفر عن محمد بن خالد بن رافع بن مكيث عن عمه الحارث بن رافع بن مكيث].
تقدم ذكرهم.(586/15)
شرح حديث (يا رسول الله كم نعفو عن الخادم؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني وأحمد بن عمرو بن السرح -وهذا حديث الهمداني وهو أتم- قالا: حدثنا ابن وهب أخبرني أبو هانئ الخولاني عن العباس بن جليد الحجري قال: سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا رسول الله! كم نعفو عن الخادم؟ فصمت، ثم أعاد عليه الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال: اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه حاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كم نعفو عن الخادم؟) يسأل كم مرة يعفو عن الخادم إذا تكرر الخطأ؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم صمت وسكت فلم يجبه، ولما كرر قال: (اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة).
يعني: أنه يعفى عنه ويكرر العفو عنه ولو بلغ سبعين مرة، وهذا يدل على أنه ليس هناك تحديد أنه يعفو عنه مرة أو مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً، وإنما يعفو عنه باستمرار.(586/16)
تراجم رجال إسناد حديث (يا رسول الله كم نعفو عن الخادم؟)
قوله: [حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني].
أحمد بن سعيد الهمداني صدوق، أخرج له أبو داود.
[وأحمد بن عمرو بن السرح].
وأحمد بن عمرو بن السرح وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وهذا حديث الهمداني وهو أتم قالا: حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني أبو هانئ الخولاني].
هو حميد بن هانئ وهو لا بأس به -بمعنى صدوق- أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن العباس بن جليد الحجري].
العباس بن جليد الحجري ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي.
[قال: سمعت عبد الله بن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهو أحد العبادله الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(586/17)
شرح حديث (من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جلد له يوم القيامة حداً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا ح وحدثنا مؤمل بن الفضل الحراني أخبرنا عيسى حدثنا فضيل -يعني: ابن غزوان - عن ابن أبي نعم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حدثني أبو القاسم نبي التوبة صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال (من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جلد له يوم القيامة حداً) قال مؤمل: حدثنا عيسى عن الفضيل -يعني: ابن غزوان -].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قذف مملوكه وهو بريء مما قال) يعني: من القذف.
قوله: [(جلد له يوم القيامة حدّاً)] يعني: أنه يعاقب بتلك العقوبة؛ لأنه لم يقم عليه الحد في الدنيا؛ لأنه سيده وهو وليه، فعوقب بأن حصل ذلك له يوم القيامة إذ لم يحصل له في الدنيا.(586/18)
تراجم رجال إسناد حديث (من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جلد له يوم القيامة حداً)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي قال: أخبرنا ح وحدثنا مؤمل بن الفضل الحراني].
صيغة (حدثنا) استخدمها أبو داود مع شيخه إبراهيم بن موسى ومع شيخه مؤمل بن الفضل.
وكذلك إبراهيم بن موسى قال: أخبرنا، كما أن مؤمل بن الفضل قال: أخبرنا، فكلا الشيخين اتفقا، لكن جاء في عون المعبود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي قال: أنبأنا ح وأخبرنا مؤمل بن الفضل الحراني قال: أخبرنا عيسى.
فيكون هناك فرق في الصيغة من أبي داود نفسه، ثم أيضاً الشيخ الأول قال: أنبأنا، والثاني قال: حدثنا، وهذا هو الذي يناسب الإتيان بالتحويل، وإلا فإنه لا فرق بين الصيغ كما هنا.
ومؤمل بن الفضل الحراني صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا عيسى].
هو عيسى بن يونس مر ذكره.
[حدثنا فضيل يعني: ابن غزوان].
فضيل بن غزوان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي نعم].
هو عبد الرحمن بن أبي نعم وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
[قال مؤمل: حدثنا عيسى عن الفضيل يعني: ابن غزوان].
الظاهر أنه ساقه من طريق
إبراهيم بن موسى الشيخ الأول.(586/19)
شرح حديث (لقد رأيتنا سابع سبعة من ولد مقرن وما لنا إلا خادم فلطم أصغرنا وجهها فأمرنا النبي بعتقها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا فضيل بن عياض عن حصين عن هلال بن يساف قال (كنا نزولاً في دار سويد بن مقرن رضي الله عنه، وفينا شيخ فيه حدة ومعه جارية له فلطم وجهها، فما رأيت سويداً أشد غضباً منه ذاك اليوم، قال: عجز عليك إلا حر وجهها؟! لقد رأيتنا سابع سبعة من ولد مقرن وما لنا إلا خادم، فلطم أصغرنا وجهها فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعتقها)].
أورد أبو داود حديث سويد بن مقرن رضي الله عنه عن هلال بن يساف قال: (كنا نزولاً في دار سويد بن مقرن، وفينا شيخ فيه حدة)].
يعني: فيهم شيخ حاضر.
قوله: [(ومعه جارية له فلطم وجهها فغضب سويد بن مقرن غضباً شديداً وقال: عجز عليك إلا حر وجهها)].
يعني: عجزت إلا أن تضرب وجهها وتلطمها على وجهها، ومعنى هذا أن الضرب قبيح، ولكن كونه على الوجه أقبح وأقبح وأشد.
قوله: [(لقد رأيتنا سابع سبعة من ولد مقرن وما لنا إلا خادم، فلطم أصغرنا وجهها فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعتقها)].
ومعنى ذلك أنهم مشتركون فيها ولكن واحداً منهم لطم الجارية فأمرهم بأن يعتقوها، وهذا مثل الذي قبله؛ لكن قال للذي أعتقها: (أما إنك لو لم تفعل للفعتك النار).
وقال في عون المعبود: هذا محمول على أنهم كلهم رضوا بعتقها وتبرعوا به، وإلا فاللطمة إنما كانت من واحد منهم، فسمحوا له بعتقها تكفيراً لذنبه.
قاله النووي.
وأولاد مقرن سبعة كما ذكر، وفيهم النعمان بن مقرن الذي كان قائد الجيوش لـ أبي بكر رضي الله عنه في قتال الفرس.
ومقرن هو بزنة محدث، ليس كما في عون المعبود أن مقرناً بالفتح.
وفي القاموس ذكر أولاد مقرن السبعة وسماهم، وقال عن مقرن: إنه بزنة محدث.
ومن فوائد القاموس أنه بضبط الأعلام لاسيما المحدثون.
وأذكر أنه لما جاء في مادة (قرب) القاف والراء والباء قال: وكزبير لقب والد الأصمعي -لأن الأصمعي اسمه عبد الملك بن قريب - ورئيس للخوارج يقال له: قريب.(586/20)
تراجم رجال إسناد حديث (لقد رأيتنا سابع سبعة من ولد مقرن وما لنا إلا خادم فلطم أصغرنا وجهها فأمرنا النبي بعتقها)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا فضيل بن عياض].
فضيل بن عياض ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن حصين].
هو حصين بن عبد الرحمن السلمي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هلال بن يساف].
هلال بن يساف وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[كنا نزولاً في دار سويد بن مقرن].
سويد بن مقرن وهو صحابي، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.(586/21)
شرح حديث (كنا سبعة على عهد النبي وليس لنا إلا خادم فلطمها رجل منا فقال رسول الله أعتقوها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني سلمة بن كهيل حدثني معاوية بن سويد بن مقرن قال: (لطمت مولى لنا فدعاه أبي ودعاني، فقال: اقتص منه؛ فإنا معشر بني مقرن كنا سبعة على عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وليس لنا إلا خادم، فلطمها رجل منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أعتقوها، قالوا: إنه ليس لنا خادم غيرها، قال: فلتخدمهم حتى يستغنوا، فإذا استغنوا فليعتقوها)].
أورد أبو داود حديث سويد بن مقرن من طريق أخرى، وفيه قال معاوية بن سويد بن مقرن: (لطمت مولى لنا، فدعاه أبي ودعاني، فقال: اقتص منه) يعني: قال سويد للمولى: اقتص من معاوية ولدي والطمه كما لطمك.
قوله: [(فإنا معشر بني مقرن كنا سبعة على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس لنا إلا خادم، فلطمها رجل منا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أعتقوها، قالوا: إنه ليس لنا خادم غيرها، قال: فلتخدمهم حتى يستغنوا، فإذا استغنوا فليعتقوها)].
هو مثل الذي قبله، إلا أن فيه زيادة أنهم قالوا إنهم بحاجة إليها فقال: فلتخدمهم! وإذا استغنوا عنها أعتقوها.(586/22)
تراجم رجال إسناد حديث (كنا سبعة على عهد النبي وليس لنا إلا خادم فلطمها رجل منا فقال رسول الله أعتقوها)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان الثوري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني سلمة بن كهيل].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني معاوية بن سويد بن مقرن].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: فدعاه أبي ودعاني].
سويد بن مقرن مر ذكره.(586/23)
شرح حديث (من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد وأبو كامل قالا: حدثنا أبو عوانة عن فراس عن أبي صالح ذكوان عن زاذان قال: (أتيت ابن عمر رضي الله عنهما وقد أعتق مملوكاً له، فأخذ من الأرض عوداً أو شيئاً فقال: مالي فيه من الأجر ما يسوى هذا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر، وفيه: أنه قد أعتق عبداً له، فأخذ عوداً من الأرض وقال: مالي فيه من الأجر مثل هذا.
يعني: أنه لم يفعل ذلك ابتداء وإنما فعله كفارة، وهذا مثل حديث أبي مسعود الذي فيه: (أما إنك لو لم تفعل للفعتك النار).
فهو هنا قال: ليس لي فيه من الأجر مثل هذا العود.(586/24)
تراجم رجال إسناد حديث (من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه)
قوله: [حدثنا مسدد وأبو كامل حدثنا أبو عوانة].
أبو عوانة هو وضاح بن عبد الله اليشكري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن فراس].
هو فراس بن يحيى الخارفي وهو صدوق ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح ذكوان].
هو أبو صالح ذكوان السمان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زاذان].
وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[أتيت ابن عمر].
ابن عمر قد مر ذكره.(586/25)
ما جاء في المملوك إذا نصح(586/26)
شرح حديث (إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في المملوك إذا نصح.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب ما جاء في المملوك إذا نصح] يعني: أجره وثوابه عند الله عز وجل.
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة ربه فله أجره مرتين) يعني: له أجر على كونه عبد الله عز وجل، وأجر على كونه أحسن إلى سيده أو قام بما يجب لسيده؛ فيثاب على العبادة ويثاب على الإحسان والقيام بالواجب الذي لسيده.(586/27)
تراجم رجال إسناد حديث (إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر].
وقد مر ذكره.
وهذا من الأسانيد الرباعية عند أبي داود وهي أعلى الأسانيد، وهذا السند أصح الأسانيد عند البخاري أعني: مالك عن نافع عن ابن عمر.(586/28)
ما جاء فيمن خبب مملوكاً على مولاه(586/29)
شرح حديث (من خبب زوجة امرئ أو مملوكه فليس منا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن خبب مملوكاً على مولاه.
حدثنا الحسن بن علي حدثنا زيد بن الحباب عن عمار بن رزيق عن عبد الله بن عيسى عن عكرمة عن يحيى بن يعمر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من خبب زوجة امرئ أو مملوكه فليس منا)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب من خبب مملوكاً على مولاه].
يعني: أفسده عليه وعمل معه أعمالاً جعلته يتمرد على سيده ويعامله معاملة سيئة، وقد يكون ذلك التخبيب من أجل أن بينه وبين سيده عداوة، أو قد يكون له رغبة فيه فيريد أن يجعل سيده يزهد فيه ويرخصه ويبادر إلى التخلص منه فيشتريه.
وكذلك كونه يخبب زوجة على زوجها، بحيث يسعى إلى إفسادها عليه فيطلقها ويتخلص منها، ويكون بذلك التخبيب يريد أن يتزوجها هو، أو يتزوجها غيره ممن يريد أن يتزوجها، كل ذلك من الأمور التي فيها إفساد وهي محرمة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من خبب زوجة امرئ أو مملوكة فليس منا).(586/30)
تراجم رجال إسناد حديث (من خبب زوجة امرئ أو مملوكه فليس منا)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا زيد بن الحباب].
زيد بن الحباب صدوق، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمار بن رزيق].
عمار بن رزيق وهو لا بأس به -وهي بمعنى صدوق- أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عيسى].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن يعمر].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
وقد مر ذكره.(586/31)
الأسئلة(586/32)
حكم تخبيب العامل على كفيله
السؤال
هل تخبيب المملوك يقاس عليه في هذا الوقت الحاضر من يفسد على الكفيل عامله؟
الجواب
نعم هو من جنسه؛ لأنه قد تعب عليه واستقدمه، ثم بعد ذلك يأتي شخص يفسده عليه من أجل أن يحظى به، أو من أجل أن يتمرد ذاك على كفيله فيبحث عن التخلص منه، فينتقل إلى ذلك الشخص الذي خببه وأفسده.(586/33)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم (فليس منا)
السؤال
ما هو المعنى الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: (من خبب زوجة امرئ أو مملوكة فليس منا)؟
الجواب
قيل: إنه من أحاديث الوعيد التي لا تفسر وتبقى على هيبتها، ومنهم من فسره بقوله: ليس على طريقتنا، أو ليس على سنتنا.(586/34)
حكم نظر الرجل إلى مملوكة غيره
السؤال
هل يجوز للرجل النظر إلى مملوكة غيره؟
الجواب
لا يجوز للرجل أن ينظر إلى امرأة سواء كانت مملوكة أو غير مملوكة، فالنظر إلى النساء لا يجوز.(586/35)
حكم ستر المملوكة جميع بدنها
السؤال
هل يجب على المملوكة أن تستر جميع بدنها؟
الجواب
نعم يجب عليها أن تحتشم وأن تبتعد عن شيء يثير الناس، أو يفتنها بالناس أو يفتن الناس بها.(586/36)
عدم دلالة حديث سويد بن مقرن على كشف المرأة عن وجهها
السؤال
حديث سويد بن مقرن هل فيه جواز كشف المرأة عن وجهها؟
الجواب
ليس فيه دليل؛ لأنه كما هو معلوم يمكن أن يلطمها وعليها الخمار.(586/37)
وجه قصر كفارة العتق على من لطم جاريته أو غلامه في وجهه دون سائر جسده
السؤال
هل صحيح أن من لطم في الوجه عليه أن يعتق، أما اللطم في غير الوجه فليس فيه كفارة، ومما يشهد لذلك حديث معاوية بن الحكم السلمي أنه لما لطم جاريته وجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
نعم، لكن جاء في حديث أبي مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اعلم أبا مسعود الله أقدر عليك منك عليه) وليس فيه ذكر لطم الوجه، ثم هو أعتق الغلام الذي ضربه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار).(586/38)
حكم تسمية البنت بأمة الله والغلام بغلام الله
السؤال
هل يجوز أن تسمى البنت بأمة الله والغلام بغلام الله؟
الجواب
يجوز، لكن فيما يتعلق بغلام الله وغيره من الأسماء التي تضاف إلى الله عز وجل قد يكون فيها شبهة، وهناك أسماء كثيرة فعلى الإنسان عندما يسمى ولده أن يبتعد عن الشيء الذي فيه اشتباه، ويسمي بالأسماء التي لا اشتباه فيها.(586/39)
الفرق بين القرابة من النسب والرضاعة في صلة الرحم
السؤال
ما الفرق بين القرابة من النسب والرضاعة من حيث صلة الرحم؟
الجواب
كل منهما يعتبر قرابة، لكن القرابة من النسب مقدمة.(586/40)
حكم بيع الذئب
السؤال
ما حكم بيع الذئب؟
الجواب
والله الذئب من جنس الكلب، والكلب ثمنه خبيث وهذا من جنسه.(586/41)
حكم قول العاصي بعد أن هداه الله كنت في جاهلية
السؤال
ما حكم قول المسلم العاصي بعد أن يهديه الله: كنت في جاهلية؟
الجواب
لا يخبر بما حصل منه فيما مضى، وإنما يستتر بستر الله عز وجل ويستقيم على طاعة الله عز وجل، وأما إذا كان يقصد بالجاهلية أنه في حال جهله حصل منه أمور غير طيبة فهذا لا بأس به، لكن -كما قلت- الإنسان يحمد الله على أن وفقه وهداه ويستتر بستر الله عز وجل ولا يحدث بذلك.(586/42)
حكم إطلاق القول بأن الناس رجعوا إلى الجاهلية
السؤال
هل نقول: بأن الناس الآن رجعوا إلى الحياة الجاهلية؟ وهل هذا يعتبر من التكفير؟
الجواب
التعميم لا شك أنه لا يصلح ولا يستقيم، ولكن كون الناس فيهم جاهلية أو فيهم جهل هذا لاشك فيه وهو الواقع، لكن الإنسان يحرص على أن يعبر بالعبارات السليمة، وقد سبق أن مر بنا أن الإنسان إذا قال: هلك الناس، فإنه يكون أهلكهم.(586/43)
الجاهلية المعاصرة
السؤال
هل نقول: بأن الجاهلية الآن جاءت في ثوب جديد كالعلمانية؟
الجواب
لا شك أن الجاهلية جاءت بأشكال وألوان وبأسماء ومسميات، وكل ذلك من أعمال الجاهلية، وإن تغيرت الأسماء مع اتفاق المسميات أو تشابه المسميات.(586/44)
حكم من تنازلت عن ليلتها لزوجها وأرادت التراجع عن ذلك التنازل
السؤال
امرأة طلبت من زوجها ألا يأتيها في ليلتها وهي متنازلة، ولكن لم تتنازل للزوجة الثانية، وتنازلها كان بسبب غضبها حيث تزوج عليها زوجها، فهل لها أن ترجع عن هذا التنازل؟
الجواب
إذا كان التنازل مؤقتاً فهو ينتهي بذلك التأقيت، وإن كان مستمراً فليس لها أن تتراجع عنه، وإذا كان حصل بينهما إشكال فالأمر يرجع إليه، إما أن يحقق لها ما تريد أو يطلقها إذا كان لا يرغب في بقائها عنده على هذا الوصف.(586/45)
حكم من اغتسل ونسي المضمضمة والاستنثار فتوضأ وأتى بهما
السؤال
هذا رجل اغتسل ونسي المضمضة والاستنثار ولم يتذكرهما إلا بعد أن لبس ملابسه فتوضأ إكمالاً للنقص فهل عمله صحيح؟
الجواب
عمله صحيح مادام أنه بعد أن اغتسل توضأ وتمضمض.(586/46)
حكم اتهام العلماء بعدم تأديتهم لواجباتهم تجاه الأمة
السؤال
ما رأيكم فيمن يقول إن العلماء في هذا الزمان لا يؤدون واجبهم تجاه الأمة، خاصة عند النوازل كما هو الآن في الحرب، وهم لا ينصحون للأمة ولا يقولون كلمة الحق، وإنما يشتغلون بحفظ المتون وتدريس العلوم الأخرى، ولا يهتمون بفقه الواقع؟
الجواب
هذا كلام يكرره بعض الناس، وهذا شيء قديم ليس بجديد، ومعلوم أن العلماء يبينون ويتكلمون وعندما يسألون يجيبون، ولا يلزم أن كل واحد منهم يكتب أو يؤلف أو ينشر، ولكن إذا سئل وأجاب أو تكلم بين من يكون له صلة بهم، فإنه يكون قد أدى ما عليه وما هو مطلوب منه، ولا يلزم أن كل واحد ينشر ذلك في مجلات أو في جرائد أو ما إلى ذلك.
وهذه أقوال أناس يجنون على أنفسهم في النيل من العلماء، ومعلوم أن توقير العلماء وعدم القدح فيهم هو شأن أهل السنة والجماعة بخلاف أهل البدع، ولهذا يقول الطحاوي رحمه الله في عقيد أهل السنة والجماعة: وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخبر والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل.(586/47)
حكم التعرف على الأحداث التي تجري للمسلمين وضوابط ذلك
السؤال
ما رأيكم في خوض بعض طلبة العلم في الأحداث الحالية، والاستماع إلى الأخبار التي تنقل عن الكفار ونشرها في صفوف المسلمين؟ ومن له الحق في التكلم والبيان في هذه المسألة؟
الجواب
أن يسمع المرء ويتعرف على الأحداث وعلى ما يجري هذا أمر مطلوب، ولا يغفل الإنسان عن أمر فيه ضرر على كثير من المسلمين، ومعلوم أن هذه الحرب فيها ضرر على كثير من المسلمين الذين لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وإنما هم شعب مسلم يحصل له ذلك الأذى والضرر، فالإنسان يتألم ويحزن لهذا الشيء، ولكن ليس كل ما يقال يصدق الإنسان به، ولا كل ما يحصل من إرجاف يتابع الإنسان فيه المرجفين ويتكلم فيما لا يعنيه، وإنما عليه أن يعرف ما يجري وما يحصل من الضرر للشعب العراقي وللمسلمين في العراق ويتألم لذلك، هذا هو الذي ينبغي على الإنسان، وأما كونه يشغل نفسه بالكلام في العلماء أو يتكلم في أمور لا تهمه ويشغل نفسه بها فلا، وإنما عليه أن يشتغل بشئون نفسه، ويحرص على معرفة أحوال المسلمين وسلامتهم وكونهم يسلمون من الضرر، ويتألم لما يصيبهم من ضرر.(586/48)
حكم الجهاد مع أهل العراق ضد الاحتلال الأمريكي
السؤال
لا يخفى عليكم ما يحصل في الأمة الإسلامية من الفتن، فهل يجب الجهاد مع إخواننا في العراق؟
الجواب
كيف يحصل الجهاد؟! الآن الشعب العراقي يمطر بوابل من القذائف فهي تهلك من تهلك، فالإنسان ماذا يصنع؟! وهل أهل العراق قلة يحتاجون إلى أحد يساعدهم، هم كثيرون ولكنهم مغلوبون على أمرهم، وهم قبل الحرب بمدة طويلة متضررون من واقعهم المؤلم.(586/49)
حكم الدعاء والصيام أيام حرب الأمريكان على العراق
السؤال
يقول أحد الإخوة: حتى تنتهي الحرب الحالية على العراق لا نملك لهم إلا الدعاء والصيام؟
الجواب
الدعاء لهم أمر مطلوب، أما أن تصوم لهم فما عندنا شيء يدل على أن الإنسان يصوم في مثل هذه الأوقات، ولكن المسلم يدعو للمسلمين في كل وقت وفي كل حين، ويسأل الله عز وجل أن يخلص الشعب العراقي من كل شر وأن يسلمه، وأن يقيه الشرور من الداخل والخارج.(586/50)
الضابط في ربط الأحداث بالنصوص الشرعية
السؤال
ظهر كتاب في هذه الآونة لأحد المتأخرين يتحدث فيه عن بعض هذه الأحداث التي في هذا الزمن وعن السياسة ويربطها بعلامات الساعة، فما نصيحتكم تجاه هذا الكتاب!
الجواب
الكلام على أخبار الساعة وعلامات الساعة إذا كان على وجه صحيح وعلى طريقة سليمة وعلى منهج صحيح فهو شيء طيب، وأما إذا كانت النصوص تفسر وتؤول وفقاً لما حدث فهذا غير صحيح؛ لأن بعض الناس مهمته أن يأتي كأنه اكتشف وكأنه أتى بأشياء جديدة لم يسبق إليها، فينزل ما يرد من النصوص على أمور تقع وكأنه لم يبق للمستقبل شيء، وهذا غير صحيح؛ لأن من الناس قبل سنين كثيرة من كان يقول: إن الكنز الذي جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يحسر الفرات عن جبل من ذهب هو بترول العراق، وهذا غير صحيح، فهؤلاء الناس يضعون الأمور في غير موضعها ويفسرون النصوص تفسيراً منحرفاً، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن جبل من ذهب، وهذا لم يقع ولا بد أن يقع كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا واحد من المغاربة سبق أن ألف كتاباً سماه: (مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية) وأتى بأشياء كثيرة وقعت وأتى بالنصوص وفسرها بها، وتكلف وحمل كلام الرسول صلى الله عليه وسلم على غير محمله الصحيح، فمثل هذا غير صحيح.(586/51)
شرح سنن أبي داود [587]
الاستئذان وعدم النظر في بيوت الآخرين أو دخولها إلا بإذن من أهم الآداب التي يجب على الإنسان أن يتأدب بها؛ حتى لا تكشف العورات، وتنتهك الحرمات، وقد أباح الإسلام فقء عين من نظر إلى بيت بغير إذن أهله، كما أمر من يدخل البيت أن يسلم على من فيه.(587/1)
ما جاء في الاستئذان(587/2)
شرح حديث (أن رجلاً اطلع من بعض حجر النبي فقام إليه رسول الله بمشقص)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الاستئذان.
حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد عن عبيد الله بن أبي بكر عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلاً اطلع من بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص أو مشاقص، قال: فكأني انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يختله ليطعنه)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى باباً في الاستئذان.
أي: الاستئذان للدخول على الإنسان، أي: أن الإنسان يسلم ويستأذن للدخول ثم يدخل إن أذن له، هذا هو المقصود بالاستئذان الذي ترجم له أبو داود رحمه الله.
والاستئذان فائدته ألا يحصل الدخول من الشخص فيرى ما لا يريد صاحب البيت أن يراه غيره، فيحتاج الأمر إلى استئذان حتى يكون صاحب المحل قد تنبه وأخفى الشيء الذي يريد ألا يطلع عليه غيره، أو يكون الناس على غرة فيحصل من الاستئذان عدم الاطلاع على شيء من العورات، ومن أجل كون الإنسان لا يدخل إلا وقد أذن له؛ لأنه قد يكون الإنسان مشغولاً وعنده ظروف تضطره ألا يستقبل أحداً.
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلاً اطلع من بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم) يعني: وضع عينه ينظر من في الداخل، فالرسول صلى الله عليه وسلم تنبه له وأخذ مشقصاً وهو نصل طويل، فكان يختله ليصيب عينه التي حصل منها العدوان في حال عدوانها.
قوله: [(فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يختله)] يعني: أنه يسير إليه برفق من أجل أن يصل إليه حتى يطعنه بهذا المشقص الذي معه صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدلنا على تحريم النظر في بيوت الناس، ومن أجل ذلك جاء الاستئذان لمن يريد أن يدخل حتى لا يحصل منه الوقوع على شيء من العورات أو النظر إلى شيء لا يريد صاحب البيت أن ينظر إليه.(587/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رجلاً اطلع من بعض حجر النبي فقام إليه رسول الله بمشقص)
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد].
هو محمد بن عبيد بن حساب وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن أبي بكر].
هو عبيد الله بن أبي بكر بن أنس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
هو جده أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا الإسناد من الأسانيد العالية عند أبي داود التي هي الرباعيات.(587/4)
شرح حديث (من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فقد هدرت عينه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سهيل عن أبيه حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فقد هدرت عينه)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة في إهدار عين من اطلع على دار قوم بغير إذنهم، وهذا من قوله صلى الله عليه وسلم والأول من فعله.
قوله: [(من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فقد هدرت عينه)] يعني: أنه لا دية له؛ لأنه هو الذي جنى على نفسه، وقد عوقب في حال حصول الجناية منه.
فإذاً: تكون عينه هدراً، فلا ضمان على من فقأها وعلى من أصابها ما دام أنه ينظر في بيت الناس بغير إذنهم.
فالحديث مثل الذي قبله، والأول من فعله، وهذا من قوله صلى الله عليه وسلم.(587/5)
تراجم رجال إسناد حديث (من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فقد هدرت عينه)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة بن دينار البصري وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سهيل].
هو سهيل بن أبي صالح وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة، ورواية البخاري عنه مقرونة.
[عن أبيه].
هو أبو صالح ذكوان ولقبه السمان ويقال له: الزيات؛ لأنه كان يجلب الزيت والسمن ويبيعهما، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(587/6)
شرح حديث (إذا دخل البصر فلا إذن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن حدثنا ابن وهب عن سليمان -يعني: ابن بلال - عن كثير عن الوليد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل البصر فلا إذن)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل البصر فلا إذن) يعني: أن الإنسان عندما يستأذن يستأذن وهو لا يرى ولا يدخل بصره في بيوت الناس بغير إذنهم، فإن الإذن إنما يكون من أجل البصر، كما جاء في الحديث: (إنما الاستئذان من أجل البصر).
فإذاً: الإنسان يستأذن من أجل ألا يقع بصره على شيء لا يناسب رؤيته، ولا يريد أهل البيت أن يروه، فإذا دخل البصر فلا معنى لذلك الاستئذان ولا فائدة من ورائه، وكون الإنسان يقف بالباب وينظر ثم يستأذن هذا غير صحيح، وإنما يقف في جوانب الباب ويسلم ويستأذن، وإذا أذن له اتجه إلى البيت.
والحديث في إسناده كثير بن زيد وقد ضعف الألباني الحديث بسببه، لكن الرجل حسن حديثه الحافظ ابن حجر كما ذكر ذلك الشيخ ناصر، وأيضاً أثنى عليه عدد من الأئمة، وتضعيفه لم يأت مفسراً؛ لأن الذين ضعفوه جاء التضعيف عنهم مجملاً، وقد قال الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ، فمثله يحسن حديثه.(587/7)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا دخل البصر فلا إذن)
قوله: [حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن].
الربيع بن سليمان المؤذن ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان يعني: ابن بلال].
هو سليمان بن بلال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن كثير].
هو كثير بن زيد وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري في جزء القراءة، وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن الوليد].
هو الوليد بن رباح، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.(587/8)
شرح حديث (فإنما الاستئذان من النظر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حفص عن الأعمش عن طلحة عن هزيل قال: (جاء رجل -قال عثمان: سعد -فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن فقام على الباب، قال عثمان: مستقبل الباب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هكذا عنك، أو هكذا، فإنما الاستئذان من النظر)].
أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهو: أن رجلاً وقف في الباب يستأذن فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: هكذا عنك! يعني: يشير إلى أن يكون في جوانب الباب ولا يكون في وجه الباب.
قوله: [(فإنما الاستئذان من النظر)]، وهذا يوضح معنى الحديث الذي قبله، يعني: إنما يستأذن الإنسان من أجل البصر، وإذا كان الإنسان يرى فمعنى ذلك أنه لم يحصل منه الشيء الذي يريده صاحب المنزل وهو ألا يطلع أحد على بيته بغير إذنه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشده إلى أن يذهب إلى جهة يمين الباب أو يساره ولا يكون في وجه الباب، حتى يرى ما بداخله، ثم بين أن الاستئذان من أجل البصر.(587/9)
تراجم رجال إسناد حديث (فإنما الاستئذان من النظر)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وإلا النسائي فأخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
ح للتحول من إسناد إلى إسناد وأبو بكر بن أبي شيبة اسمه عبد الله بن محمد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا حفص].
هو حفص بن غياث وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن طلحة].
هو طلحة بن مصرف وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هزيل].
هزيل وهو ثقة مخضرم، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[قال: جاء رجل قال عثمان: سعد].
عثمان هو شيخ أبي داود الشيخ الأول أما أبو بكر فقال: جاء رجل، وكأن أبا داود ساقه على إسناد أبي بكر، ولهذا أشار إلى قول عثمان: إنه سعد يعني: الذي جاء هو سعد.
وهزيل هذا تابعي لم يشهد القصة، فيكون الحديث مرسلاً بالنسبة للطريقة الأولى، وفي الطريقة الثانية قال: إنه سعد، فيحتمل أن يكون روايه، ويحتمل أن يكون حكاية مثل الأول: جاء سعد أو جاء رجل، وهو بمعنى واحد وأن فيه الإرسال، ولكن الحديث الذي سيأتي ذكر فيه أن ذلك الرجل يروي عن سعد فيكون بذلك متصلاً، ويكون ذلك الرجل المبهم هو هزيل.
فقوله: [عن طلحة بن مصرف عن رجل عن سعد].
هزيل هو الرجل الذي أبهم، فيكون في الإسناد الأول مسمى وأبهم في الإسناد الثاني، وعلى هذا فيكون متصلاً.
ثم يشهد له حديث سيأتي فيما بعد بمعناه من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه لم يكن يستقبل الباب وإنما يكون على يمين الباب أو عن شماله، وهو عن عبد الله بن بسر: (كان صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه) فهذا أيضاً يشهد له.
وعلى هذا فيكون هذا الحديث متصلاً؛ لأن هذا الرجل روى عن سعد فيكون الرجل الذي أبهم في الإسناد الآتي هو الذي جاء في الإسناد الأول.
وسعد هو: ابن أبي وقاص، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة.(587/10)
إسناد حديث (فإنما الاستئذان من النظر) من طريق ثانية وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا أبو داود الحفري عن سفيان عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن رجل عن سعد رضي الله عنه نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم].
وهذا هو الإسناد الثاني.
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هارون بن عبد الله الحمال البغدادي، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي داود الحفري].
وهو عمر بن سعد، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن سفيان].
سفيان الثوري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن رجل عن سعد].
وقد مر ذكرهم.(587/11)
كيف الاستئذان(587/12)
شرح حديث (ارجع فقل السلام عليكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كيف الاستئذان؟ حدثنا ابن بشار حدثنا أبو عاصم حدثنا ابن جريج ح وحدثنا يحيى بن حبيب حدثنا روح عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن أبي سفيان أن عمرو بن عبد الله بن صفوان أخبره عن كلدة بن حنبل: (أن صفوان بن أمية رضي الله عنه بعثه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن وجداية وضغابيس والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فدخلت ولم أسلم، فقال: ارجع فقل: السلام عليكم).
وذلك بعدما أسلم صفوان بن أمية.
قال عمرو: وأخبرني ابن صفوان بهذا أجمع عن كلدة بن حنبل ولم يقل: سمعته منه].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب كيف الاستئذان؟ والاستئذان: طلب الإذن، يقول: السلام عليكم أأدخل؟ أولاً يسلم، ثم يقول: أأدخل؟ فيجمع بينهما ويبدأ بالسلام قبل الاستئذان.
وهنا قال: كيف الاستئذان؟ المقصود أن الترجمة معقودة بكيف الاستئذان؟ وهل يكون مرة أو مرتين أو ثلاثاً؟ فأورد أحاديث أولها حديث كلدة بن حنبل: أنه أرسله إليه صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية في لبن وجداية وضغابيس.
والجداية: هي لحم الظباء الصغار.
والضغابيس: القثاءة الصغيرة.
فدخل ولم يستأذن فقال له: ارجع واستأذن، ومعنى ذلك: أن الإنسان لابد أن يستأذن، والاستئذان يكون بالسلام أولاً ثم بطلب الإذن ثانياً.(587/13)
تراجم رجال إسناد حديث (ارجع فقل السلام عليكم)
قوله: [حدثنا ابن بشار].
محمد بن بشار الملقب بندار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو عاصم].
وهو أبو عاصم الضحاك بن مخلد النبيل اسمه: الضحاك ولقبه: النبيل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن جريج].
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا يحيى بن حبيب].
يحيى بن حبيب بن عربي، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا روح].
روح بن عبادة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن أبي سفيان].
ابن جريج مر ذكره، وعمرو بن أبي سفيان ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي.
[أن عمرو بن عبد الله بن صفوان أخبره].
عمرو بن عبد الله بن صفوان، وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن كلدة بن حنبل].
كلدة بن حنبل رضي الله عنه صحابي أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي.
[قال عمرو: وأخبرني ابن صفوان بهذا أجمع عن كلدة بن حنبل ولم يقل: سمعته منه].
عمرو هو عمرو بن عبد الله بن صفوان.
[أخبرني ابن صفوان بهذا].
ابن صفوان قيل: هو أمية بن صفوان، وهو مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي.
[قال أبو داود: قال يحيى بن حبيب: أمية بن صفوان، ولم يقل: سمعته من كلدة بن حنبل.
وقال يحيى أيضاً: عمرو بن عبد الله بن صفوان أخبره: أن كلدة بن الحنبل أخبره].(587/14)
شرح حديث (اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو الأحوص عن منصور عن ربعي قال: حدثنا رجل من بني عامر: (أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقال: أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقل له: قل السلام عليكم أأدخل؟ فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل)].
أورد أبو داود حديث رجل من بني عامر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقلت: أألج؟ يعني: أأدخل، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لأحد الذين كانوا عنده: اذهب وعلمه الاستئذان، فليقل: السلام عليكم أأدخل؟ فالرجل سمع ولم يحتج إلى أن ينتظر الشخص الذي خرج ليعلمه فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فأذن له فدخل.
فهذا يدل على أن كيفية الاستئذان: أن الإنسان يسلم أولاً، ثم يستأذن بعد ذلك؛ لأن السلام يمكن أن يرد عليه، ولكن الاستئذان قد لا يوافق عليه، قد يكون هناك شيء يمنع منه بأن يكون هناك شغل يحول بينه وبين استقبال الزائرين، فيكون السلام أولاً ثم بعد ذلك يكون الاستئذان الذي هو: أأدخل؟ فإن أذن له دخل وإلا رجع.(587/15)
تراجم رجال إسناد حديث (اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو الأحوص].
أبو بكر بن أبي شيبة مر ذكره.
وأبو الأحوص هو سلام بن سليم الحنفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
منصور بن المعتمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ربعي].
ربعي بن حراش، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا رجل من بني عامر].
وهو مبهم.(587/16)
تراجم رجال إسناد حديث (اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري عن أبي الأحوص عن منصور عن ربعي بن حراش قال: (حدثت: أن رجلاً من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه)].
أورد أبو داود الطريقة الثانية إلا أن فيها إشارة إلى الانقطاع، لأنه قال: (حدثت عن رجل) فمعنى ذلك أنه توجد واسطة.
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هناد بن السري أبو السري، ثقة، أخرج حديثه البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي الأحوص عن منصور عن ربعي قال: حدثت: أن رجلاً من بني عامر].(587/17)
تراجم رجال إسناد حديث (اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان) من طريق ثالثة
[قال أبو داود: وكذلك حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن منصور ولم يقل: عن رجل من بني عامر].
معناه: أنه مرسل.
[قال أبو داود: وكذلك حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبي عوانة].
أبو عوانة وضاح بن عبد الله اليشكري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(587/18)
تراجم رجال إسناد حديث (اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان) من طريق رابعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة عن منصور عن ربعي عن رجل من بني عامر: (أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه قال: فسمعته فقلت: السلام عليكم أأدخل؟)].
أورد الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، وفيه أنه قال: (السلام عليكم أأدخل؟) يعني: بعدما سمع التوجيه الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغه إياه.
قوله: [حدثنا عبيد الله بن معاذ].
عبيد الله بن معاذ العنبري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
معاذ بن معاذ العنبري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور عن ربعي عن رجل من بني عامر].
وقد مر ذكرهم.(587/19)
الأسئلة(587/20)
حكم الاستئذان في الفصول الدراسية
السؤال
هل يجب الاستئذان في الفصول الدراسية؟
الجواب
هذا على حسب الاصطلاح والاتفاق، إذا الشخص متأخراً وأنه قد يؤذن له بالدخول وقد لا يؤذن له فيستأذن، فهذا على حسب الاصطلاح.
وأما إذا لم يكن هناك اصطلاح، كأن يدخل متى شاء ويخرج متى شاء فهذا لا يحتاج إلى استئذان، هذا يرجع إلى الذي يتعارف عليه الناس في الفصول سواء من جهة المدرسين أو من جهة الجهة المسئولة، فإذا كان المدرس يريد ألا يدخل أحد إلا وقد استأذن، وقد يؤذن له وقد لا يؤذن له فإنه يستأذن، وإن كان الأمر لا يحتاج إلى استئذان فإنه يدخل ويجلس.(587/21)
فتح الباب لا يكفي في الإذن بالدخول
السؤال
الآن يستخدم الجرس، فهل دق الجرس يقوم مقام الاستئذان، فإذا فتح الباب معناه أنه سمح له بالدخول؟
الجواب
هذا محتمل؛ لأنه قد يكون الذي استأذن يظن أنه واحد من أهل البيت، فيفتحون لواحد من أهل البيت فيدخل عليهم أجنبي، فإذا كان لديهم هذا الجهاز الذي يكون بواسطته الكلام فقالوا له: ادخل، يدخل، وهذا إذا عرف بنفسه وأذنوا له يدخل.
أما مجرد كونه يفتح الباب وهو ما سمع كلاماً ولا أحداً دعاه، فقد يظنون أنه واحد من أهل البيت ما معه مفتاح، ففتحوا له الباب.
أما إذا كان يوجد جهاز تكليم فهذا يتوقف الدخول أو عدم الدخول عليه إن قالوا ادخل دخل، وإن قالوا: مشغولين الآن ائت في وقت آخر لا يدخل.(587/22)
حكم اعتبار رد السلام إذناً بالدخول
السؤال
إن من العادات في بلادنا أن يدخل الإنسان على بيت غيره ويكتفي بالسلام فقط، فصار رد السلام إذناً له، فهل هذا يقوم مقام الاستئذان؟
الجواب
إذا كان الناس متعارفين على أن مجرد رد السلام يحصل به الإذن فلا بأس، وإذا تعارف الناس على شيء فلا بأس بذلك، فمجرد كونهم ردوا عليه السلام معناه أنه يدخل، وهذا على حسب عرف الناس.(587/23)
حكم السلام إذا لم يجد أحداً في البيت
السؤال
إذا دخل الرجل بيته ولم يجد أحداً فهل يسلم؟
الجواب
كونه يسلم إذا دخل ويعود نفسه على السلام لا شك أن هذا أمر طيب.(587/24)
حكم الاستئذان
السؤال
ما حكم الاستئذان؟
الجواب
الاستئذان واجب، فيجب على الإنسان أن لا يدخل بيت أحد إلا بإذن، ولكنه إذا كان قد دعاه والباب مفتوح فيمكن أن يدخل، وأما كون الإنسان يأتي لنفسه فلا يدخل إلا بإذن.(587/25)
حكم استئذان صاحب البيت
السؤال
هل يستأذن صاحب البيت وهو يعلم أنه لن يرى إلا زوجته أو أمه أو أباه؟
الجواب
صاحب البيت لا يطرق الباب ويستأذن، وإنما يدخل ويتكلم حتى يسمع صوته.(587/26)
التنحنح لا يقوم مقام الاستئذان
السؤال
هل يقوم التنحنح مكان الاستئذان؟
الجواب
لا يقوم مقامه، وإنما المستأذن الذي عند الباب يقول: السلام وعليكم.
ويدخل، ولا يتنحنح ويدخل.(587/27)
حكم دخول الأعمى بدون استئذان
السؤال
إذا كان الاستئذان لأجل البصر، فهل يجوز للأعمى أن يدخل بدون استئذان؟
الجواب
لا؛ لأننا قلنا: إن الاستئذان يكون لحالتين: من أجل أن لا يطلع على شيء، ومن أجل أن الإنسان قد لا يكون عنده الاستعداد لاستقبال من يريد أن يدخل؛ لأنه قد يكون عنده شغل يمنعه، فيستأذن الأعمى فإن قيل له: ادخل، يدخل، وإن قيل له: انصرف، ينصرف.
أما كونه يفتح الباب ويدخل لأنه لا يرى فهذا لا يصلح هذا.(587/28)
حال حديث (إذا دخل البصر فلا إذن)
السؤال
حديث أبي هريرة: (إذا دخل البصر فلا إذن) الذي فيه كثير بن زيد وضعفه الشيخ الألباني، أليست الأحاديث التي بعده تشهد له، فلماذا لم يحكم له بالصحة للشواهد؟
الجواب
هي لا شك أنها شواهد، لكن لا أدري، والرجل نفسه وثقه جماعة وأثنوا عليه كما في ترجمته في تهذيب التهذيب.(587/29)
حكم الاستئذان في غرف السكن الجامعي
السؤال
في مساكن الجامعة كل غرفة أعطيت لعدة طلاب، وكل طالب منهم صنع بالقماش غرفة صغيرة خاصة به في داخل تلك الغرفة الكبيرة، فهل يجوز لنا أن ندخل الغرفة الكبيرة بدون استئذان ونستأذن إذا وقفنا أمام الستارة التي خصصها له؟
الجواب
هذا لا يناسب؛ لأنه قد تكون الستارة مرفوعة، وإنما يستأذن الإنسان عند الباب ما دام ليس من أهل الغرفة.
أعني أن صاحب الغرفة مثل صاحب البيت، فالناس المشتركون في الغرفة مثل الناس الذين هم في البيت، يدخل الإنسان إلى محل سكنه وذاك بينه وبينه ساتر، وأما من ليس من أهل السكن فلا يدخل وإنما يطرق الباب، وإذا أذن له دخل.(587/30)
معنى قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم)
السؤال
ما معنى الآية التي في سورة النور: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَاتٍ} [النور:58]؟
الجواب
هذا الاستئذان من ناحية الدخول عليهم في الأماكن الخاصة، وليس معناه أنهم يستأذنون عند الدخول من الخارج، نعم هو يدخل ولكن هناك أوقات ثلاثة يكون فيها التكشف وعدم الظهور بالمظهر الذي يمكن أن يطلع عليه كل أهل البيت، فهنا يستأذن.(587/31)
شرح سنن أبي داود [588]
الاستئذان من أخلاق المؤمنين، ويكون الاستئذان ثلاث مرات، فإن أُذن للمستأذن وإلا فليرجع، ويستحب السلام عند الاستئذان لا الدق على الباب، إلا إذا كان المكان بعيداً، ولا يستقبل المستأذن الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر.(588/1)
كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان(588/2)
شرح حديث (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان؟ حدثنا أحمد بن عبدة أخبرنا سفيان عن يزيد بن خصيفة عن بسر بن سعيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنت جالساً في مجلس من مجالس الأنصار، فجاء أبو موسى رضي الله عنه فزعاً، فقلنا له: ما أفزعك؟ قال: أمرني عمر أن آتيه فأتيته فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي، فرجعت فقال: ما منعك أن تأتيني؟ قلت: قد جئت فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع.
قال: لتأتين على هذا بالبينة.
قال: فقال أبي بن كعب رضي الله عنه: لا يقوم معك إلا أصغر القوم، قال: فقام أبو سعيد رضي الله عنه معه فشهد له)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان؟ يعني: عندما يأتي عند الباب ويطرقه كم مرة يسلم في حال استئذانه؟ ومعلوم أن الإتيان بالسلام هو من أجل الاستئذان وإنما جاء ليدخل، ولكنه مع ذلك يضيف: أأدخل، لكن كم مرة يسلم ويقول: أأدخل؟ جاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه: أن أبا موسى كان على موعد مع عمر، فجاء أبو موسى الأشعري رضي الله عنه واستأذن ثلاث مرات ثم رجع فقال: لماذا لم تأت؟ فقال: أتيت واستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع) فقال: لتأتين ببينة، يعني: على ذلك.
ومعلوم أن خبره رضي الله عنه كاف، ولكن عمر رضي الله عنه أراد أن يتثبت وأن يحصل على زيادة علم، وليس ذلك من أجل أن ذلك لا يكفي؛ لأن خبر الواحد كاف، ومعلوم أن خبر الاثنين هو أيضاً من أخبار الآحاد لأنه ليس من قبيل المتواتر، ولكن عمر رضي الله عنه أراد أن يتثبت.
ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل معاذاً إلى اليمن، وكان يبلغهم الأحكام الشرعية سواء كانت في العقيدة أو غير العقيدة، وقامت الحجة عليهم بذلك، فدل على أن خبر الواحد حجة في العقائد وفي سائر الأحكام، ولكن عمر رضي الله عنه إنما فعل ذلك من أجل التثبت لا من أجل أن ذلك غير كاف، فإن كثيراً من الأحاديث منها ما هو فرد، ومن ذلك الحديث الذي رواه عمر نفسه وهو حديث: (إنما الأعمال بالنيات) فإنه لم يروه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عمر، وهو من الغرائب التي ما جاءت إلا من طريق واحد، فـ عمر رضي الله عنه هو الذي انفرد بروايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه عنه علقمة بن وقاص الليثي، وهو شخص واحد، ثم رواه عن علقمة بن وقاص محمد بن إبراهيم التميمي، وهو شخص واحد، ثم رواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التميمي، وهو شخص واحد، ثم كثر رواته عن يحيى بن سعيد.
وهذا الحديث من الأحاديث التي اعتمد العلماء عليها كما يعتمدون على غيرها.
والحاصل: أن خبر الرجل الواحد يكتفى به، وعمر رضي الله عنه نفسه اكتفى بالشخص الواحد كما في قصة عبد الرحمن بن عوف في الطاعون الذي وقع في الشام، وكان عمر رضي الله عنه ذهب إلى الشام فاستقبله أبو عبيدة -وهو من أمراء الأجناد- وقال له: كيف تدخل الشام وفيها الطاعون وتعرض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم للموت؟ فاستشار المهاجرين، واستشار الأنصار، واستشار مسلمة الفتح، ثم عزم على أن يرجع بعد أن اختلفوا، ثم إن عبد الرحمن بن عوف جاء وقال: عندي سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأخبر بالحديث الذي عنده؛ ففرح عمر رضي الله عنه؛ لأن اجتهاده وقع مطابقاً لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالحاصل: أن عمر رضي الله عنه كان أراد أن يتثبت، وأن يحمل الناس على التثبت وينبه الناس إلى العناية بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظه وتأديته.(588/3)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع)
قوله: [حدثنا أحمد بن عبدة].
أحمد بن عبدة الضبي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا سفيان].
سفيان بن عيينة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن خصيفة].
يزيد بن خصيفة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بسر بن سعيد].
بسر بن سعيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[فجاء أبو موسى].
أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه، وهو عبد الله بن قيس، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[(قال أبي بن كعب: لا يقوم معك إلا أصغر القوم)].
معنى هذا: كأن هذه السنة معلومة عند الأنصار، ومشهورة عندهم، ولهذا قال: لا يقوم معك إلا أصغر القوم؛ لأن العلم عندهم جميعاً، فيقوم أصغرهم، وأصغرهم أبو سعيد.(588/4)
شرح حديث (يستأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود عن طلحة بن يحيى عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه: (أنه أتى عمر رضي الله عنه فاستأذن ثلاثاً فقال: يستأذن أبو موسى، يستأذن الأشعري، يستأذن عبد الله بن قيس، فلم يؤذن له فرجع، فبعث إليه عمر: ما ردك؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يستأذن أحدكم ثلاثاً، فإن أذن له وإلا فليرجع.
قال: ائتني ببينة على هذا، فذهب ثم رجع فقال: هذا أبي، فقال أبي رضي الله عنه: يا عمر! لا تكن عذاباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: لا أكون عذاباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن قيس من طريق أخرى، وفيه مثل الذي قبله إلا أنه ذكر توضيح الاستئذان؛ لأنه مرة قال: يستأذن عبد الله بن قيس والثانية قال: يستأذن الأشعري والثالثة قال: يستأذن أبو موسى فكل مرة يأتي بلفظ غير اللفظ الأول مما يعرف به نفسه، فـ عبد الله بن قيس هو اسمه رضي الله تعالى عنه.
فهو مثل الذي قبله، وفيه: أنه سأله وقال: ائتني ببينة ثم إنه قال له أبي: لا تكن عذاباً على أصحاب رسول الله! فقال: لا أكون عذاباً على أصحاب رسول الله.
والمقصود من ذلك أن هذا ليس فيه ذكر الشاهد، وقصة أبي سعيد حين ذهب إليه كما في الرواية السابقة، وهنا أبي الذي قال: لا يقوم معك إلا أصغرنا ورد أنه لقي عمر وقال له: لا تكن عذاباً على أصحاب رسول الله؛ يعني: لأن هذا فيه تشديد على أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من ناحية الرواية، فقال: لا أكون عذاباً على أصحاب رسول الله.(588/5)
تراجم رجال إسناد حديث (يستأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود].
مسدد مر ذكره.
وعبد الله بن داود هو: الخريبي، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[عن طلحة بن يحيى].
وهو صدوق يخطئ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي بردة].
أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي موسى].
أبو موسى قد مر ذكره.(588/6)
شرح حديث (يستأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع) من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن حبيب حدثنا روح حدثنا ابن جريج قال: أخبرني عطاء عن عبيد بن عمير: (أن أبا موسى استأذن على عمر رضي الله عنهما بهذه القصة، قال فيه: فانطلق بـ أبي سعيد فشهد له، فقال: أخفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألهاني الصفق بالأسواق، ولكن سلم ما شئت ولا تستأذن)].
أورد أبو داود حديث أبي موسى من طريق أخرى، وفيه مثل الذي قبله وذكر القصة، وأنه طلب بينة، وأنه أتي بـ أبي سعيد فقال: أخفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ألهاني الصفق بالأسواق! يعني: الاشتغال بالبيع والشراء، ومعناه: فاتته معرفة هذه السنة بسبب ذلك.
ومعلوم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضرون مجلسه، فمنهم من يحضر فيحدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث فيغيب عنه من غاب، ويحضره من حضر، فالذي حضر عرف، والذي لم يحضر لم يعرف.
ومعلومة قصة عمر رضي الله عنه مع جاره الأنصاري الذي كان مجاوراً له في مزرعة، وكانا يتناوبان النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا يأتي يوم، وهذا يأتي يوم، وإذا رجع الذي نزل في اليوم أخبر صاحبه الذي لم ينزل بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهو يقول: إن هذه السنة فاتتني، بسبب انشغاله في بعض الأحيان بالصفق في الأسواق يعني: في البيع والشراء من أجل جلب الرزق لأهله.
قوله: [(ولكن سلم ما شئت ولا تستأذن)].
كأن معناه: أنه يسلم ويكرر السلام وإن لم يحصل الاستئذان؛ لأن السلام: السلام عليكم والثاني: أأدخل؟ ثم أيضاً هو نفسه دعاه في قضية ما، فهو ما جاء زائراً وإنما جاء مدعواً كما مر.(588/7)
تراجم رجال إسناد حديث (يستأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع) من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا يحيى بن حبيب حدثنا روح حدثنا ابن جريج قال: أخبرني عطاء].
يحيى بن حبيب وروح وابن جريج مر ذكرهم.
وعطاء بن أبي رباح، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد بن عمير].
عبيد بن عمير، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن أبا موسى].
مر ذكره.
[فانطلق بـ أبي سعيد].
مر ذكره.(588/8)
شرح حديث (يستأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع) من طريق رابعة وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زيد بن أخزم حدثنا عبد القاهر بن شعيب حدثنا هشام عن حميد بن هلال عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه رضي الله عنه بهذه القصة قال: فقال عمر رضي الله عنه لـ أبي موسى: إني لم أتهمك ولكن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد].
وهذا أيضاً عذر من عمر رضي الله عنه، وأنه لم يكن ذلك اتهاماً منه وإنما كان للتثبت والاحتياط.
قوله: [حدثنا زيد بن أخزم].
زيد بن أخزم، ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[عن عبد القاهر بن شعيب].
وهو لا بأس به، أخرج له أبو داود والترمذي.
[حدثنا هشام].
هشام بن حسان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد بن هلال].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه].
أبو بردة وأبوه قد مر ذكرهما.(588/9)
شرح حديث (يستأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع) من طريق خامسة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن وعن غير واحد من علمائهم في هذا، فقال عمر لـ أبي موسى رضي الله عنهما: أما إني لم أتهمك ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وفيه: أن عمر قال: أما إني لم أتهمك، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى ذلك: يريد أن الناس يحسبون حساباً للحديث وللرواية ولا يتساهلون، وأن الأمر ليس بالهين إذا عرفوا من عمر رضي الله عنه أنه يرى مثل هذا الرأي أو يقف مثل هذا الموقف، فإنهم يعتبرون الأمر عظيماً وأنه ليس بالأمر الهين، وهذا مثل قوله: إن الحديث عن رسول الله شديد، يعني: أنه ليس بالأمر الهين، فيحتاج إلى تثبت واحتياط.(588/10)
تراجم رجال إسناد حديث (يستأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع) من طريق خامسة
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة القعنبي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس، إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(588/11)
شرح حديث (زارنا رسول الله في منزلنا فقال السلام عليكم ورحمة الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هشام أبو مروان ومحمد بن المثنى المعنى قال محمد بن المثنى: حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي قال: سمعت يحيى بن أبي كثير يقول: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة عن قيس بن سعد رضي الله عنهما قال: (زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد سعد رداً خفياً، قال قيس: فقلت: ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ذره يكثر علينا من السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله.
فرد سعد رداً خفياً، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبعه سعد فقال: يا رسول الله! إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك رداً خفياً لتكثر علينا من السلام، قال: فانصرف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر له سعد بغسل فاغتسل، ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران أو ورس فاشتمل بها، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة.
قال: ثم أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطعام، فلما أراد الانصراف قرب له سعد حماراً قد وطأ عليه بقطيفة، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد: يا قيس! اصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال قيس: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اركب، فأبيت، ثم قال: إما أن تركب وإما أن تنصرف، قال: فانصرفت)].
هذا الحديث وارد تحت هذه الترجمة، وهي: باب كم مرة يسلم؟ والمقصود أنه يسلم ثلاث مرات ثم ينصرف كما مر في حديث أبي موسى وأبي سعيد رضي الله تعالى عنهما.
وقد أورد أبو داود حديث قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري رضي الله تعالى عنه وعن أبيه وعن الصحابة أجمعين: أن النبي صلى الله عليه وسلم زارهم في منزلهم فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد أبوه سعد بن عبادة رداً خفياً، فقال له ابنه: ألا تجب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: دعه يكثر السلام علينا، ثم قال: السلام وعليكم ورحمة الله، فرد سعد رداً خفياً ثم قال: السلام وعليكم ورحمة الله، فانصرف.
وهذا محل الشاهد من إيراد الحديث، وهو أن السلام يكون ثلاث مرات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلَّم سلم ثلاث مرات ثم انصرف.
ثم إن سعداً تبعه وأخبره بالذي حصل، وأنه كان يسمعه ولكنه كان يجيبه ويرد عليه رداً خفياً من أجل أن يكثر الرسول صلى الله عليه وسلم من السلام عليهم؛ لأن السلام دعاء للمسلم.
فطلب منه أن يعود، فعاد إلى منزله ودخل معه، فأعطاه غسلاً وهو ماء يغتسل به وفيه خطم، ثم إنه أعطاه ملحفة يلتحف بها، ثم إنه أكل من طعامهم عليه الصلاة والسلام، ولما أراد الانصراف وطأ له سعد حماراً عليه قطيفة، فركب الرسول صلى الله عليه وسلم وخرج معه قيس يريد أن يمشي معه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: اركب يعني: رديفاً له، فلم يشأ أن يركب، فقال له عليه الصلاة والسلام: إما أن تركب وإما أن تنصرف.
فانصرف.
ومحل الشاهد من الحديث هو ما جاء في أوله من كون النبي صلى الله عليه وسلم سلم ثلاث مرات ثم انصرف، فدل على أن الاستئذان يكون ثلاث مرات.
وهذا الذي حصل من سعد رضي الله عنه تتعارض فيه مصلحتان: مصلحة دخول النبي صلى الله عليه وسلم من أول وهلة، وكونه يدعو لهم، وكل من الأمرين له شأن: دخول النبي صلى الله عليه وسلم من أول وهلة، والمبادرة إلى إجابته لا شك أن هذا له شأن، وهذا الذي أراده سعد رضي الله عنه وقصده من كثرة الدعاء له، وكونه يكرر السلام عليه أيضاً له شأن.
وفي الحديث كما هو واضح ما ترجم له المصنف من الاستئذان: أن الاستئذان يكون ثلاثاً، وأن المستأذن عندما يسلم ثلاث مرات ولم يرد عليه فإنه ينصرف.
وفيه حرص الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم على دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، ومحبتهم لذلك، وكذلك أيضاً إكرام الرسول صلى الله عليه وسلم، واحتفاؤهم به، وكذلك أيضاً تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم لركوب الحمار، وكونه أراد من الذي تبعه ألا يمشي، بل إما أن يركب وإما أن ينصرف.
وفيه تشييع الزائر ومرافقته عند الدخول والخروج؛ لأن قيساً أراد أن يرافقه وأن يمشي معه، والرسول صلى الله عليه وسلم أراد منه إما أن يركب وإما أن ينصرف، فانصرف.(588/12)
تراجم رجال إسناد حديث (زارنا رسول الله في منزلنا فقال السلام عليكم ورحمة الله)
قوله: [حدثنا هشام أبو مروان].
هشام أبو مروان، صدوق، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[ومحمد بن المثنى المعنى].
هو أبو موسى الزمن العنزي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[قال محمد بن المثنى: حدثنا الوليد بن مسلم].
يعني: ساقه على لفظ محمد بن المثنى، والوليد بن مسلم هو الدمشقي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأوزاعي].
أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، فقيه الشام ومحدثها، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت يحيى بن أبي كثير].
يحيى بن أبي كثير اليمامي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قيس بن سعد].
قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه وعن أبيه وعن الصحابة أجمعين، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقيس هذا كان مشهوراً بالطول، وذكر في ترجمته أن شخصاً من الروم كان طويلاً فطلب من يطاوله، فقيل لـ قيس في ذلك: فأعطاهم سروايله وقال: أعطوه إياها، فلما لبسها الرومي وصلت إلى حلقه.
[قال هشام أبو مروان: عن محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة].
هشام أبو مروان مر ذكره.
[عن محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة].
محمد بن عبد الرحمن يعني: أنه روى بلفظه عن الشيخ الأول؛ لأنه ساقه على لفظ محمد بن المثنى الشيخ الثاني، وكان الأول فيه الإخبار والثاني فيه العنعنة.
هذا هو الفرق بين الطريقين: طريق محمد بن المثنى فيها الإخبار بين يحيى بن أبي كثير وبين محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة.
وأما طريق هشام أبي مروان ففيها: أن رواية يحيى بن أبي كثير عنه بالعنعنة.
[قال أبو داود: رواه عمر بن عبد الواحد وابن سماعة عن الأوزاعي مرسلاً ولم يذكرا قيس بن سعد].
[رواه عمر بن عبد الواحد].
عمر بن عبد الواحد، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وابن سماعة].
إسماعيل بن عبد الله بن سماعة الرملي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن الأوزاعي مرسلاً].
يعني: لم يذكروا قيساً، ومعناه أن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة لم يذكر قيساً.
والألباني ضعف هذا الحديث وقال: إنه ضعيف الإسناد، ولا أدري ما هو وجه هذا التضعيف، إلا أن يكون رجح المرسل على المسند، وإلا فرجاله كلهم ثقات، وفيه التصريح بالتحديث لأن يحيى بن أبي كثير اليمامي مدلس ولكنه صرح بالتحديث.
فهو من حيث الإسناد واضح أن الذي ساقه المصنف إسناد صحيح؛ لأن رجاله كلهم ثقات، والألباني قال: إنه ضعيف الإسناد، ولا أعرف له وجهاً إلا كونه لعله رأى أن المرسل مقدم على المسند.(588/13)