النص على بعض الصحابة أنهم من أهل الجنة فيه زيادة مزية على أن بقية الصحابة تشملهم فضائل أخرى
النص على أهل بيعة الرضوان أنهم لا يدخلون النار فيه زيادة فضل على باقي الصحابة.
ومعلوم أن من ورد فيه نص خاص بأنه من أهل الجنة فيشهد له تبعاً للنص، لكن لا يعني ذلك أن غيره يؤمر به إلى النار؛ لأنه قد جاء في القرآن ما يدل على أنهم وعدوا جميعاً الحسنى، والحسنى هي الجنة، كما قال الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10].(520/19)
شرح حديث (فلعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة ح وحدثنا أحمد بن سنان حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد بن سلمة عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -قال موسى -: (فلعل الله -وقال ابن سنان: اطلع الله- على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)].
هذا الحديث يدل على فضل أهل بدر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لعل الله اطلع على أهل بدر) كما قاله موسى أحد شيخي أبي داود، واللفظ الثاني للشيخ الثاني: (اطلع الله) ولم يقل: لعل الله.
وهذا يدل على فضل أهل بدر، وأن الله تعالى قد غفر لهم، ولهذا صار لهم فضيلة وصار لهم ميزة، فيقال لأحدهم: إنه بدري أو إنه شهد بدراً لهذه الفضيلة ولهذه الخصيصة، ولهذا جاء في قصة حاطب بن أبي بلتعة المشهورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فهو دال على فضلهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وكانوا أكثر من ثلاثمائة.(520/20)
تراجم رجال إسناد حديث (فلعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد بن سلمة].
هو حماد بن سلمة بن دينار البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ح وحدثنا أحمد بن سنان].
أحمد بن سنان ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في مسند مالك وابن ماجة.
[حدثنا يزيد بن هارون].
هو يزيد بن هارون الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا حماد بن سلمة عن عاصم].
عاصم هو ابن أبي النجود بهدلة، وهو صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وحديثه في الصحيحين مقروناً.
[عن أبي صالح].
هو أبو صالح السمان، واسمه ذكوان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
مر ذكره رضي الله عنه وأرضاه.(520/21)
توجيه الأحاديث الدالة على الوعيد بالنار لمن فعل فعلاً ثم صدر عن بعض الصحابة
الشيخ الألباني يصحح حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قاتل عمار وسالبه في النار) والذي قتله: أبو الغادية وهو صحابي!! لكن كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم خير الناس، وما حصل منهم من أمور قد تستنكر أو تؤخذ عليهم، فلهم من الفضائل ولهم من المناقب ولهم من الميزات التي حصلت لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفوقون بها من بعدهم، وقد مر كلام سعيد بن زيد الذي قال فيه: (لمشهد أحدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر فيه وجهه خير من عمل أحدكم عمره ولو عمر عمر نوح).(520/22)
شرح حديث وقوف المغيرة بن شعبة على رأس النبي زمن الحديبية يحرسه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [جدثنا محمد بن عبيد أن محمد بن ثور حدثهم عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية) فذكر الحديث، قال: (فأتاه -يعني: عروة بن مسعود - فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف، وعليه المغفر، فضرب يده بنعل السيف وقال: أخر يدك عن لحيته، فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟! قالوا: المغيرة بن شعبة)].
ذكر أبو داود رحمه الله تعالى حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه الذي فيه: أن المغيرة بن شعبة كان من أهل بيعة الرضوان، وكان بارزاً في تلك الغزوة، وأنه كان واقفاً على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم يحرسه ومعه السيف، فإذا جاء الكفار وجلسوا مع النبي صلى الله عليه وسلم للصلح، فإذا المغيرة واقف على رأسه، وهذا فيه الدلالة على إجلاله واحترامه وتوقيره وحرص الصحابة عليه، وهي منقبة للمغيرة بن شعبة كونه قام بهذه المهمة، وهو أنه كان واقفاً على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم يحرسه، وكان عروة بن مسعود الثقفي يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام وكان أثناء ذلك يأخذ بلحية الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان المغيرة يضرب يده بنعل السيف -وهو أسفل السيف- ويقول: أخر يدك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من هذا؟! قالوا: المغيرة، والحديث مختصر، وهو حديث طويل جاء في صحيح البخاري وفي غيره، وفيه عقد الصلح وما حصل عند عقده، وهو دال على فضل المغيرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ودال أيضاً على أن الوقوف على رأس الإمام عند مجيء الأعداء وإظهار احترامه وتوقيره سائغ وجائز، وهو يدل على أن ما جاء في الحديث الصحيح من النهي عن القيام على رأس الرجل أنه إذا كان في غير هذه الحال كما جاء في صلاة النبي عليه الصلاة والسلام بأصحابه وهو جالس: (لما جحش وصلى بالناس جالساً، فجاء الناس وصلوا وراءه قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، ولما سلم قال: كدتم أن تفعلوا آنفاً فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم جلوس) فهذا يدل على استثناء مثل هذه الحال إذا كان المقام يقتضي بيان احترام الإمام وتوقيره وإظهار الاحتفاء به والحرص عليه والمحافظة عليه، وأن القيام على الرجل في مثل هذه الحالة سائغ، وليس من قبيل الممنوع الذي جاء النهي عنه في الحديث؛ لأنه تشبه بفعل الفرس والروم الذين يقومون على ملوكهم وهم جلوس، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه عن ذلك، وقد فعل المغيرة بن شعبة هذا الفعل، فيدل على أن مثل هذه الحالة مستثناة، وأن مثل ذلك سائغ وجائز.
والقيام للرجل له ثلاث حالات: قيام للرجل، وقيام إلى الرجل، وقيام على الرجل، والذي معنا هو القيام على الرجل، وهو جائز في مثل هذه الصورة، وأما القيام إلى الرجل فهذا سائغ، كون الإنسان يكون جالساً ثم يأتي إنسان فيقوم من أجله ليصافحه أو ليعانقه أو ليستقبله فإن ذلك سائغ؛ لأنه قيام إليه، وأما القيام له وهو أن يقوم الإنسان من مجلسه ويجلس من أجل الرجل، يعني: لم يقم ليعانقه ولا ليصافحه ولا ليستقبله، وإنما هو قيام وجلوس للإكرام فقط، هذا هو الذي جاء النهي عنه وأنه لا يسوغ ولا يجوز، فإذاً القيام له ثلاث حالات: قيام إلى الرجل وهذا سائغ، وقيام للرجل وهذا لا يجوز، وقيام على الرجل وهذا يجوز في مثل الحال التي جاءت في هذا الحديث في قصة المغيرة بن شعبة.(520/23)
تراجم رجال إسناد حديث وقوف المغيرة بن شعبة على رأس النبي زمن الحديبية يحرسه
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد].
محمد بن عبيد يحتمل أن يكون المحاربي، وأن يكون ابن حساب، وكل منهما روى عنه أبو داود، وكل منهما روى عن محمد بن ثور، ومحمد بن عبيد بن حساب الغبري ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
والمحاربي صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
مع أن الموجود في تحفة الأشراف محمد بن عبد الأعلى الصنعاني.
وقد تقدم الحديث في الجهاد من سنن أبي داود، وتقدم التنبيه على هذا الاختلاف في اسم الراوي من تحفة الاشراف، لكن النسخ كلها اتفقت على محمد بن عبيد، حتى محمد عوامة ما نبه أن في إحدى النسخ الخطية اختلاف.
ومحمد بن عبد الأعلى الصنعاني ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وعلى كل سواء كان أي واحد من هؤلاء فإنه محتج به.
فـ الصنعاني ثقة، أخرج له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وأبو داود في القدر ما روى له في المتصل، لأن عندنا هنا محمد بن عبيد، ونبهنا أن في تحفة الأشراف محمد بن عبد الأعلى.
وقد مر الحديث في الجهاد من سنن أبي داود وهو هناك وهنا -في الموضعين- محمد بن عبيد، إنما الخلاف في تحفة الأشراف، فقد ذكر أن أبا داود أخرجه في الجهاد وفي السنة، لكن عن محمد بن عبد الأعلى.
هكذا في تحفة الأشراف، وفي أبي داود في الموضعين محمد بن عبيد.
[أن محمد بن ثور حدثهم].
محمد بن ثور ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة بن الزبير].
هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المسور بن مخرمة].
المسور بن مخرمة رضي الله عنه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(520/24)
فضل المغيرة بن شعبة في الحديبية
هذه القطعة من الحديث لا يستفاد منها إلا فضل المغيرة، وهذا يبين أن المغيرة بن شعبة قد نال منه من نال وتكلم فيه من تكلم، فذكر في الحديث شأنه وحاله، وأنه من الأشخاص البارزين في بيعة الرضوان؛ لأن المبايعين في بيعة الرضوان كانوا ألفاً وأربعمائة، وليس جميعهم معروفين، لكن المغيرة كان في غاية الوضوح؛ لأنه كان قائماً على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو قائم بهذه المهمة العظيمة، وذلك يعد شرفاً له وفضلاً، بالإضافة إلى كونه من أهل البيعة ويشمله ما شملهم من الفضل.(520/25)
شرح أثر عمر بن الخطاب في سؤاله الأسقف عن الخلفاء في الكتاب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر أبو عمر الضرير قال حدثنا حماد بن سلمة أن سعيد بن إياس الجريري أخبرهم عن عبد الله بن شقيق العقيلي عن الأقرع مؤذن عمر بن الخطاب قال: بعثني عمر إلى الأسقف فدعوته، فقال له عمر: وهل تجدني في الكتاب؟ قال: نعم، قال: كيف تجدني؟ قال: أجدك قرناً، فرفع عليه الدرة فقال له: قرن مه؟ فقال: قرن حديد، أمين شديد، قال: كيف تجد الذي يجيء من بعدي؟ فقال: أجده خليفة صالحاً غير أنه يؤثر قرابته، قال عمر: يرحم الله عثمان، ثلاثاً، فقال: كيف تجد الذي بعده؟ قال: أجده صدأ حديد، فوضع عمر يده على رأسه فقال: يا دفراه يا دفراه! فقال: يا أمير المؤمنين! إنه خليفة صالح، ولكنه يستخلف حين يستخلف والسيف مسلول، والدم مهراق.
قال أبو داود: الدفر: النتن].
أورد أبو داود هذا الأثر عن عمر رضي الله عنه أو عن الأقرع الذي هو مؤذن عمر أن عمر أرسله إلى الأسقف وهو عالم النصارى، فقال: كيف تجدني في الكتاب؟ يعني: في كتبكم، فقال: أجدك قرناً، قال: قرن مه؟ قال: قرن حديد، أمين شديد، قال: كيف تجد الذي بعدي؟ قال: إنه خليفة صالح، غير أنه يؤثر قرابته، قال: كيف تجد الذي بعده؟ قال: أجده صدأ حديد، الصدأ يعني: الشيء الذي ما هو جيد في الحديد، فوضع عمر يده على رأسه فقال: يا دفراه يا دفراه.
والدفر هو: النتن.
قال: يا أمير المؤمنين! إنه خليفة صالح، ولكنه يستخلف حين يستخلف والسيف مسلول والدم مهراق.
وكما هو معلوم فـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه اتفقت عليه الأمة بعد قتل عثمان وأجمعوا عليه كما أجمعوا على خلافة أبي بكر، ولم يكن هناك بعد وفاة عثمان على وجه الأرض من هو خير منه، ولم يكن في أول الأمر شيء من هذا، أي أن الفتنة وقعت على عثمان وقتل وأهريق دمه، وأما هو ففي أول الأمر ما كان هذا الذي أشار إليه، ولكنه بعد ذلك حصلت الفتن، وحصل إراقة الدماء بين المسلمين، ثم بعد ذلك اجتمعت الكلمة بالصلح الذي حصل من الحسن رضي الله عنه وتنازله لـ معاوية، فاتحدت كلمة المسلمين، وصار على المسلمين خليفة واحد هو معاوية رضي الله تعالى عن الجميع.
وهذا الأثر فيه نكارة في متنه، فمعناه: أن الذي بعد عمر هو عثمان، والذي بعد عثمان هو علي، ومعلوم أن عمر رضي الله عنه جعل الأمر في ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ما يدرى من يكون الخليفة منهم، وانتهت المسألة إلى أن دار الأمر بين عثمان وعلي، ثم حصلت المشاورة في إسناد الأمر إلى علي أو عثمان.
فلو كان ذلك مسلماً به لصار معروفاً، والإسناد رجاله لا بأس بهم، والألباني ضعف الحديث، ولكن ما أدري ما وجه التضعيف، ولكن من ناحية المتن لاشك أن فيه نكارة.(520/26)
تراجم رجال إسناد أثر عمر بن الخطاب في سؤاله الأسقف عن الخلفاء في الكتاب
قوله: [حدثنا حفص بن عمر أبو عمر الضرير].
حفص بن عمر أبو عمر الضرير صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا حماد بن سلمة].
حماد بن سلمة مر ذكره.
[أن سعيد بن إياس الجريري أخبرهم].
سعيد بن إياس الجريري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن شقيق العقيلي].
عبد الله بن شقيق العقيلي ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الأقرع مؤذن عمر بن الخطاب].
الأقرع مؤذن عمر ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن عمر].
عمر رضي الله تعالى عنه، الصحابي الجليل، ثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
والإسناد ظاهره مستقيم، ولا أدري إذا كان فيه انقطاع أو كان فيه شيء، ولكن الألباني قال: إنه ضعيف الإسناد.(520/27)
الأسئلة(520/28)
ذكر من كفر الحجاج بن يوسف من السلف
السؤال
هل كفر الحجاج أحد من السلف؟!
الجواب
يقول طاوس: عجبت لمن يسميه مؤمناً، وكفره جماعة منهم: سعيد بن جبير، والنخعي ومجاهد وعاصم بن أبي النجود والشعبي، ذكر هذا الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب بعد أن ذكره تمييزاً.(520/29)
حكم من تاب من انتقاص الصحابة
السؤال
وجد في أشرطة بعض الدعاة كلمات فيها لمز للصحابة، مثل قوله: تأويل فاسد وهذا صدر عنهم جهلاً بمراد الله ورسوله وأسامة بن زيد خالف الأصول وهناك سوء التربية فهذه كلمات صدرت من هذا الداعية عفا الله عنه، فما الموقف منها؟
الجواب
هذا الداعية قد ظهر منه الرجوع عن هذا، ومن تاب تاب الله عليه.(520/30)
التحذير ممن يقع في الصحابة
السؤال
أنا مدرس لي زميل في العمل من الرافضة، فهل أسلم عليه وأصافحه وأجلس معه؟
الجواب
الإنسان عليه أن يحب في الله ويبغض في الله، ويوالي في الله ويعادي في الله، والحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، فمن كان مبغضاً للصحابة ومحارباً لهم فإنه يجب بغضه في الله عز وجل، وعدم مجالسته وعدم مخالطته؛ لأن ذلك يؤثر.(520/31)
حكم من يبيع أشياء خفيةً لأن لديه ترخيصاً من ولي الأمر ببيع غيره
السؤال
لي صديق يشتغل في محل سجله التجاري مأكولات خفيفة، وقانوناً يمنع من بيع بعض المأكولات الثقيلة، إلا أن صاحب المحل يبيعها خفية بحجة أن الجميع يفعل هذا للهروب من الضرائب الباهضة، فهل هذا الأمر يعتبر خروجاً عن طاعة ولي الأمر؟
الجواب
المناسب لمثل هذا أن يأخذ الترخيص الذي يسوغ له أن يفعل هذه الأمور كلها، أما كونه يظهر شيئاً ثم يفعل خلافه فهذا لا ينبغي، وإذا أراد أن يحصل منه البيع على وجه أوسع وعلى وجه أتم وأكمل فإنه يحصل على الترخيص الذي يسوغ له ذلك حتى لا يحتاج إلى الحيل.
وأما العامل فإنه يجوز له أن يعمل في هذا المحل ولكن عليه أن ينصح صاحب المحل.
ومال صاحب المحل الذي يتقاضاه من هذا البيع لا بأس به، ولكن عليه أن يحسن العمل، وأن يكون لديه رخصة في بيع المأكولات الثقيلة.(520/32)
فضل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يره
السؤال
ما حال حديث: (أن الصحابة رضي الله عنهم سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم: هل يوجد قوم أحسن منا؟ قال: نعم، قوم يؤمنون بي ولم يروني)؟
الجواب
جاء حديث في فضل الذين يؤمنون به ولم يروه، لكن لا يقال: إنه يأتي أحد بعد الصحابة خير من الصحابة، بل العلماء متفقون على أن أي فرد من أفراد الصحابة هو خير ممن جاء بعدهم، أي فرد منهم، والتفضيل للجميع لا للمجموع، وقد جاء عن ابن عبد البر وحده القول بأنه قد يكون بعض من يأتي بعد الصحابة خير من بعض الصحابة، لكن الجمهور على القول بأن تفضيلهم هو تفضيل للجميع، وأن أي واحد منهم فهو أفضل من أي واحد بعدهم، ويوضح ذلك الأثر الذي مر بنا عن سعيد بن زيد أحد العشرة حيث قال: (لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر فيه وجهه خير من عمل أحدكم عمره ولو عمر عمر نوح).
والجمع بين هذا الحديث وبين حديث: (يأتي زمان أجر العامل فيه أجر خمسين منكم) أنه قد تأتي شدة وأمور خطيرة تحتاج إلى صبر وتجلد، فيكون ذلك العمل عظيماً، لكن فضل الصحبة لا يعدله شيء.(520/33)
شرعية قول (عليه الصلاة والسلام) عند ذكر أي نبي
السؤال
هل تشرع (الصلاة والسلام) عند ذكر أي نبي من الأنبياء عموماً؟
الجواب
نعم، يشرع الصلاة والسلام عليه.(520/34)
عتق العبد أفضل من عتق الأمة
السؤال
أيهما أفضل أن أعتق عبداً أم أمة؟
الجواب
العبد أفضل؛ لأنه جاء أن: (من أعتق رجلاً كان فكاكاً من النار، ومن أعتق جاريتين كانتا فكاكاً من النار)، فدل على أن عتق الرجل أفضل؛ لهذا الحديث الصحيح، وهذا أحد المواضع الخمسة التي تكون المرأة فيها على النصف من الرجل، فهي على النصف من الرجل في خمسة أمور: في الشهادة، وفي الميراث، وفي الدية، وفي العتق، وفي العقيقة.(520/35)
حكم وصف الله تعالى بـ (حاضر) و (ناظر)
السؤال
هل يجوز وصف الله تبارك وتعالى بحاضر أو ناظر؟
الجواب
الله تعالى شاهد كما جاء، وينبغي التقيد بما جاء في النصوص، ولا يخرج عنها إلى عبارة أخرى قد يلزم فيها لوازم وهي لم ترد، ولكن الذي ورد فيه النصوص هو الذي ينبغي للإنسان أن يعبر به.(520/36)
حكم استدلال أصحاب الديمقراطية والتغريب بسؤال عبد الرحمن بن عوف المسلمين فيمن يختارونه للخلافة
السؤال
هل حصل أن مر أحد الصحابة على جميع البيوت ليستشيرهم أيهم يختارون: علياً أم عثمان؟
الجواب
ما يقال: إنه مر على الجميع، ولكن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما تولى هذه المهمة ما كان يتلذذ بنوم ولا يستريح، وكان يطوف على الناس ويسألهم، أما أنه مر على جميع البيوت فلا يظهر أن ذلك حصل.
أما من استدل بهذا الفعل على الانتخابات والديمقراطية في الإسلام! فالإسلام في وادٍ وأصحاب الديمقراطية في وادٍ آخر، هذا شيء جاء من الغرب، والذي عليه المسلمون جاء من السماء.(520/37)
شرح سنن أبي داود [521]
إن الله عز وجل اصطفى نبينا محمداً على سائر البشر وانتخب له الصحابة رضوان الله عليهم فكانوا وزرائه وحوارييه، فقاموا بهذا الدين خير قيام حتى بلغوا به أرجاء المعمورة، لذلك فقد جاء النهي عن انتقاصهم والوعيد الشديد في حق من سبهم ونال من أعراضهم؛ لأن مؤدي هذا الفعل القبيح الطعن في الشريعة بالطعن فيمن بلغوها ونشروها، وأعظم الصحابة وأفضلهم على الإطلاق هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.(521/1)
ما جاء في فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم(521/2)
إثبات فضل الصحابة في الكتاب والسنة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا عمرو بن عون أنبأنا ح وحدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم -والله أعلم أذكر الثالث أم لا- ثم يظهر قوم يشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويفشو فيهم السمن)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم].
هذه الترجمة معقودة لبيان الفضل الذي أكرم الله به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن لهم ميزة تميزوا بها على غيرهم، وهي أنهم وجدوا في القرن الذي بعث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكرمهم الله عز وجل في هذه الحياة الدنيا بصحبته، ومتع أبصارهم بالنظر إلى طلعته صلى الله عليه وسلم، وشنف أسماعهم بسماع حديثه من فمه الشريف، وأكرمهم ووفقهم للجهاد معه ونصرته والذب عنه، فصارت لهم هذه الفضائل وهذه الميزات التي ميزهم الله تعالى بها، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21] ولهذا فإن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام فضلوا على غيرهم بكونهم القرن الذي بعث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم خير الناس: (خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم) والمراد بالقرن هنا: المجموعة من الناس الذين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وصحبوه، فهؤلاء هم قرنه أو القرن الذي بعث فيه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فليس المقصود به مدة معينة محددة لها بداية ولها نهاية، وإنما المقصود منه هؤلاء القوم وهؤلاء الصحب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وأكرمهم الله بصحبته، وسمعوا كلامه وحديثه، ورأوا شخصه وطلعته صلى الله عليه وسلم، وتلقوا الحق والهدى منه، وبلغوهما إلى الناس، فجعلهم الله عز وجل الواسطة بين الناس وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، ما عرف الناس حقاً ولا هدى، ولا وصل إلى الناس كتاب ولا سنة إلا عن طريق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا اشتهر عند العلماء أن الصحابي لا يحتاج إلى أن يعدل وأن يوثق، ولا يحتاج إلى أن يقال: فلان ثقة، وفلان عدل، وفلان كذا وفلان كذا، إذ يكفيهم تعديل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وثناء الله وثناء رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ولهذا كان المجهول فيهم في حكم المعلوم، فجهالة الصحابي لا تؤثر، أما من دون الصحابة فإن جهالتهم تؤثر، ولهذا يأتي في كتب الحديث ذكر الرواية عن الصحابة، فيقال: عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك حجة ومتفق عليه عند أهل السنة، ولا خلاف في ذلك، أما من دون الصحابة من التابعين ومن دونهم، فإنه يحتاج إلى معرفة أحوالهم وإلى بيان عدالتهم وبيان جرحهم من تعدليهم، وقد يقال في بعض الصحابة: فلان صحابي من أهل بدر، أو شهد بيعة الرضوان، أو شهد بدراً، وذلك للفضل الذي حصل لأهل بدر والفضل الذي حصل لأهل بيعة الرضوان، أي: ليبين أنه من أهل هذا الفضل وممن دخل في هذا الفضل الذي هو كونه بدرياً أو كونه ممن شهد بيعة الرضوان، وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة مبينة قدر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان فضلهم ونبلهم، وأثنى الله عليهم وأثنى عليهم رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وجاء في ذلك آيات كثيرة، وجاء في ذلك أحاديث عديدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما جاء في القرآن في فضل الصحابة قول الله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [التوبة:100]، وكذلك قول الله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29].
فهذه الآية الكريمة فيها بيان أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكروا في التوراة والإنجيل، وأنهم ذكروا في الكتب السابقة قبل أن يوجدوا وقبل أن يأتي زمانهم، وهذا دال على فضلهم ونبلهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فهم قد ذكروا في تلك الكتب وأثني عليهم فيها، وهذا مما يدل على فضلهم، وفيه أنهم يغاظ بهم الكفار، وذلك لأنهم يقومون بنصرة الدين بالجهاد في سبيل الله، فالكفار يغاظون بهم، ولهذا قال: ((لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)) ثم أخبر أنه وعدهم بمغفرة ورحمة فقال: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)) والمقصود من ذلك الصحابة، وقد قال منهم، وليس المقصود (من) التبعيضية، وإنما بياناً للجنس، ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً)) أي أن هذا الوعد إنما هو لهم، ولو لم يأت بكلمة (منهم) لصار الأمر لا يخصهم، فلو قيل: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجراً عظيماً.
فيكون لهم ولغيرهم، لكن لما جاءت كلمة (منهم) عرف أن هذا الوعد لهم، لكن ليس لبعضهم وإنما هو لجميعهم، لأن من بيانية، وليست تبعيضية، ونظير ذلك قول الله عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:73] فقوله: ((الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ)) ليس المقصود بعضهم، بل كل الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة توعدوا بهذا الوعيد، فكلمة منهم لبيان الجنس وليست للتبعيض.
فقوله: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً)) (من) في قوله: (منهم) لبيان الجنس في جانب المدح وفي جانب أهل الحق، وقد تأتي لبيان الجنس في الذم مثل قوله تعالى: ((لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) أي: من الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، فهذا في جانب الذم وفي جانب السوء، مع أنهم كلهم موعودون بهذا الوعد، وليس بعضهم؛ لأن (من) هنا لبيان الجنس وليست للتبعيض.
وكذلك قول الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] فإنه وإن حصل بينهم التفاوت في الدرجات وعلو المنازل إلا أن الكل وعد الحسنى، والحسنى هي: الجنة، كما قال الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26].
أما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاءت أحاديث كثيرة تدل على فضل الصحابة وعظيم منزلتهم.(521/3)
شرح حديث (خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم)
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث عمران بن حصين: (خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم) وهم الصحابة، وقوله: (الذي بعثت فيهم) يدلنا على أن المقصود هؤلاء الذين رأوه والذين سمعوا كلامه، والذين تلقوا الحق والهدى منه وبلغوهما إلى الناس، فهؤلاء هم خير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: (خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) أي: قرن الصحابة أولاً ثم قرن التابعين ثم قرن أتباع التابعين، وقد جاء الشك في حديث عمران بن حصين، يعني هل ذكر الثالث أي: بعد قرنه صلى الله عليه وسلم، وليس المقصود من ذلك الشك في قرن أتباع التابعين، فإن الأحاديث التي وردت في ذكر القرون الثلاثة كثيرة، وإنما الشك في كونه ذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، والصحيح أنه ذكر قرنين، مع قرنه، فقرنه الذي هو قرن الصحابة وقرن التابعين وأتباع التابعين، والقرن الرابع لم يثبت فيه شيء، وإنما الثابت هو القرن الثالث الذي هو قرن أتباع التابعين.
فإذاً: الشك في القرن الثالث بعد قرنه صلى الله عليه وسلم، وليس بقرنه عليه الصلاة والسلام، فالقرون الثلاثة هذه جاءت عن جماعة من الصحابة.
ويوضح ذلك الحديث الصحيح الذي جاء في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يأتي على الناس زمان فيغزوا فئام منهم، فيقال: هل فيكم من صحب أو من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم -وهذا المراد به الصحابة- ثم يأتي على الناس زمان فيغزوا فئام منهم، فيقال: هل فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزوا فئام منهم، فيقال: هل فيكم من رأى من صحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم) وهذه القرون الثلاثة هي: قرن الصحابة، وقرن التابعين، وقرن أتباع التابعين.
وقد ذهب أهل السنة والجماعة إلى تفضيل جميع أفراد الصحابة على جميع الأفراد الذين يجيئون بعد زمانهم، أي: أن كل واحد من الصحابة أفضل من أي واحد ممن يأتي بعدهم، ولم يأت ما يخالف ذلك إلا ما نقل عن ابن عبد البر رحمه الله أنه قال: يمكن أن يكون في بعض من يأتي بعد الصحابة من هو أفضل من بعض الصحابة.
ولكن هذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة والذي لا يعرف عنهم غيره، وهو أن التفضيل للجميع لا للمجموع، وأن أي واحد من الصحابة فإنه يكون أفضل من أي واحد ممن بعدهم، فإن ما حصل لهم من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم والجهاد معه وتلقي الكتاب والسنة عنه وتأديتهما إلى الناس هذا شيء تميزوا به واختصوا به، فصار لهم فضل لا يدانيه أحد ولا يساويه أحد، ولهذا جاء في حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه الذي مر: (لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر به وجهه خير من عمل أحدكم عمره ولو عمر عمر نوح).
قوله: [(خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)]، أي: الصحابة والتابعون وأتباع التابعين.
قوله: [والله أعلم أذكر الثالث أم لا؟].
أي: هل ذكر الثالث بعد قرنه؟ وليس الثالث مع قرنه، فإن الثلاثة القرون هذه جاءت فيها النصوص، وإنما الخلاف في القرن الرابع أي قرن أتباع أتباع التابعين، وإلا فإن الثلاثة القرون -قرن الصحابة وقرن التابعين وقرن أتباع التابعين- جاءت عن جماعة من الصحابة.
قوله: [(ثم يظهر قوم يشهدون ولا يستشهدون)].
معناه: أنهم يتساهلون في أمر الشهادة ويحرصون على الشهادة دون أن تطلب منهم، وأما إذا كان الإنسان عنده شهادة وصاحب الشهادة لا يدري أن عند فلان شهادة وعنده فصل في أمر من الأمور، وشهادته تبين حقاً وتوضح حقاً فإن إدلاءه بشهادته محمود، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها) وأما إذا كان صاحب الحق يدري ويعرف، ولكن الإنسان يأتي فيخبر بأنه عنده شهادة، إما لأمر يكون بينه وبين ذلك الشخص الذي يشهد عليه أو لغير ذلك؛ فهذا هو الذي يكون مذموماً.
قوله: [(وينذرون ولا يوفون)].
يعني: يحصل منهم النذر ثم لا يوفون، والنذر يجب الوفاء به إذا وجد، ولكن ليس من المرغب فيه أن ينذر الإنسان، وإنما على الإنسان إذا أراد أن يحسن أن يحسن بدون نذر، وإذا أراد أن يتقرب إلى الله عز وجل بقربة فليبادر إليها بدون أن يعلقها بشيء، ودون أن ينيطها بشيء؛ لأن إناطتها بشيء وتعليقها بشيء يعني أن هذا ما حصل منه ابتداءً من أجل أن يتقرب إلى الله عز وجل به، وإنما إذا حصل له كذا فإنه يفعل كذا وكذا، ثم إذا حصل له ذلك الشيء الذي يترتب عليه النذر ضاق صدره وصار يتألم ويبحث عن مخارج يتخلص بها من ذلك النذر الذي ألزم نفسه به، فيكون فعله لتلك العبادة ولتلك الطاعة لم يحصل في البداية على وجه مشروع وعلى وجه مستحب، وفي النهاية حصل التلكؤ وحصل الامتعاض والتأثر والتألم، وأنه لم يكن مرتاحاً إلى ذلك الذي تصدق به، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) فالبخيل لا يحسن، ولكنه ينيط إحسانه بشيء إذا وجد، وإذا وجد لزمه ذلك، وقد يبحث عن سبيل يتخلص به من ذلك النذر، فالنذر إذا وجد يجب الوفاء به، وهو عبادة لا تكون إلا لله عز وجل، لكن ليس مرغباً فيها وليس مأموراً بها؛ لأنها ليست عبادة متمحضة لله عز وجل ابتداءً، وإنما معلقة بشيء.
قوله: [(ويخونون ولا يؤتمنون)].
يعني: تظهر فيهم الخيانة وقلة الأمانة.
قوله: [(ويفشو فيهم السمن)].
لأنهم مهتمون بمتع الدنيا والانهماك فيها والافتتان فيها، وعدم الاشتغال بشيء آخر سواها.(521/4)
تراجم رجال إسناد حديث (خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم)
قوله: [حدثنا عمرو بن عون].
عمرو بن عون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنبأنا ح وحدثنا مسدد].
التحويل جاء بعد ذكر الصيغة من الشيخ الأول، وذلك أن صيغة كلٍ من الشيخين تختلف في روايته عن أبي عوانة؛ لأن عمرو بن عون قال: أنبأنا ومسدد، قال: حدثنا أبو عوانة، فهو من أجل ذلك أتى بالتحويل.
ومسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو عوانة].
هو أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زرارة بن أوفى].
زرارة بن أوفى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمران بن حصين].
رضي الله عنهما أبو نجيد، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(521/5)
الأسئلة(521/6)
لا تعارض بين (خير الناس قرني) و (خير أمتي قرني)
السؤال
هل هناك تعارض بين قوله: (خير القرون قرني)، ورواية: (خير أمتي قرني)؟
الجواب
ما هناك تعارض، لكن لا نعرف لفظاً (بخير القرون)، وإنما ورد قوله: (خير الناس)، أو (خير أمتي)، وهذه معناها واحد.(521/7)
بداية قرن الصحابة ونهايته
السؤال
متى يبدأ القرن الأول ومتى ينتهي؟
الجواب
القرن الأول يبدأ ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بحصول الإيمان به تكون بدأت الصحبة، وبوفاة آخر واحد من الصحابة ينتهي ذلك القرن، ويقال: إن أبا الطفيل هو آخر الصحابة موتاً، وكانت وفاته سنة مائة وعشر.(521/8)
ضابط القرن الثاني والثالث بعد قرن الصحابة
السؤال
ما هو ضابط القرن الثاني والقرن الثالث؟
الجواب
القرن الثاني: هم التابعون، وهم الذين رأوا الصحابة، وفيهم كبار وفيهم متوسطون وفيهم صغار، ولهذا يقال: من كبار التابعين، أو من أوساط التابعين، أو من صغار التابعين، وقد جاء ذكر المثال لهذه الأصناف من التابعين في أول حديث في صحيح البخاري وهو حديث: (إنما الأعمال بالنيات) فقد رواه عمر بن الخطاب ورواه عن عمر علقمة بن وقاص الليثي وهو من كبار التابعين، ورواه عن علقمة بن وقاص محمد بن إبراهيم التيمي وهو من أوساط التابعين، ورواه عن محمد بن إبراهيم التيمي يحيى بن سعيد الأنصاري وهو من صغار التابعين، والتابعون كما هو معلوم فيهم المخضرمون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم ما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وإنما رأوا كبار الصحابة ورووا عنهم، مثل قيس بن أبي حازم الذي قيل: إنه اتفق له أن يروي عن العشرة المبشرين بالجنة، وكذلك غيره ممن هم موصوفون بأنهم مخضرمون، وينتهي هذا القرن بوفاة آخر واحد رأى واحداً من الصحابة، وكذلك أتباع التابعين الذين رأوا التابعين.
والأحاديث الثلاثية في صحيح البخاري فيها بيان الكبار من هؤلاء وهؤلاء، والثلاثيات هي التي يكون فيها بين البخاري والنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشخاص؛ صحابي وتابعي وتابع تابعي، فهو يكون قد روى عن أتباع التابعين، مثل محمد بن عبد الله الأنصاري، ومكي بن إبراهيم، وأبي عاصم النبيل، فهؤلاء هم ممن روى عنهم الثلاثيات، والبخاري توفي سنة مائتين وستة وخمسين، وأولئك الذين هم من كبار شيوخه ماتوا في حدود سنة مائتين وعشرين.(521/9)
عدالة الصحابة مؤكدة وكذلك ضبطهم
السؤال
بالنسبة لعدالة الصحابة لا تحتاج إلى البحث، لكن هل يقال هذا أيضاً في ضبطهم فلا يبحث عن ضبطهم؟
الجواب
لا يبحث عن ضبطهم، ولا يقال: إن هذا ضابط أو غير ضابط، أو هذا يتوقف في خبره، بل كل ما جاء عنهم فإنه مقبول ومعول عليه.(521/10)
تعليل الحديث بجهالة الصحابة غير مسلم به، وهو مذهب شواذ المبتدعة
السؤال
ألا يخرق الإجماع الذي ذكرتموه بأن الحديث إذا كان عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مقبول؛ قدح ابن القطان الفاسي رحمه الله في كتابه: بيان الوهم والإيهام في عدد من الأحاديث بجهالة الصحابي؟
الجواب
هذا ما له قيمة؛ لأن كتب الحديث فيها هذا الشيء، فهو موجود في صحيح البخاري وفي غيره، وفي تحفة الأشراف الأشخاص الذين ما سموا وقد جاءت الأحاديث عنهم في الكتب الستة، فالجهالة غير مؤثرة وغير معتبرة، ولم يخالف في عدالة الصحابة إلا أهل البدع، قال الحافظ ابن حجر: ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة، وقال السيوطي في كتابه تدريب الراوي: وقالت المعتزلة: هم عدول إلا من قاتل علياً، وبه يتبين الشذوذ من المبتدعة.(521/11)
النهي عن سب الصحابة(521/12)
شرح حديث (لا تسبوا أصحابي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النهي عن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب النهي عن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم]، وبعد أن ذكر فضلهم ذكر النهي عن سبهم، وهو دال على فضلهم أيضاً؛ لأن كونه ينهى عن سبهم هذا دال على فضلهم، وقد جاء في حديث أبي سعيد الذي أورده المصنف، وهو في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) فهذا يدل على فضلهم، وآخر الحديث الذي فيه التعليل: (لو أن أحدكم فعل كذا وكذا) هذا أيضاً دال على فضلهم، وأن القليل منهم لا يساويه الكثير من غيرهم.
قوله: [(لا تسبوا أصحابي)] وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين رأوه وأكرمهم الله برؤيته وبسماع كلامه عليه الصلاة والسلام.
قوله: [(فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)]، يعني: لو كان إنسان عنده كوم من الذهب مثل جبل أحد وأنفقه في سبيل الله، لم يبلغ فضل الواحد من الصحابة الذي ينفق مداً -وهو ربع الصاع؛ لأن الصاع أربعة أمداد- أو نصيفاً، أي: نصف المد، فهذا يدل على فضلهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، والحديث جاء في بعض طرقه أنه حصل خلاف بين عبد الرحمن بن عوف وبين خالد بن الوليد، وأن خالداً سب عبد الرحمن، فقال عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) وهذا يدل على فضل السابقين، وعلى تميزهم على المتأخرين، لكن الكل اشترك في فضل الصحبة، وهم متفاوتون فيها، وليسوا على حد سواء، فالسابقون الأولون أفضل من غيرهم، والذين أسلموا أول من أسلم أفضل من غيرهم، والذين وردت فيهم نصوص تدل على فضلهم أفضل من غيرهم، وهكذا فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا أصحابي) وإذا كان هذا الكلام قيل لـ خالد بن الوليد لما سب رجلاً من السابقين الأولين، فإن غير الصحابة ممن جاء بعدهم ممن لم يظفر بشرف الصحبة هو من باب أولى، فإذا كان الفرق والبون شاسعاً بين الصحابة المتأخرين وبين السابقين فإن الذين يجيئون بعد الصحابة ولم يظفروا بفضل الصحبة، ولم يظفروا بشرف النظر إليه صلى الله عليه وسلم وسماع حديثه من فمه الشريف صلى الله عليه وسلم من باب أولى أن يكون عمل الكثير منهم لا يساوي القليل من عمل أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر، وقد ذكر الذهبي رحمه الله في آخر كتابه الكبائر: كبيرة سب الصحابة، وختم بها ذلك الكتاب المكون من سبعين كبيرة، ولا شك أن سبهم فيه مخالفة لنهي الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك، وفيه نيل من خير هذه الأمة، وتعرض لخير هذه الأمة التي هي خير الأمم، وأفضل هذه الأمة هم أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ولهذا جاءت النقول الكثيرة عن أهل العلم في التحذير من سبهم ومن ذكرهم بسوء، وقد قال أبو المظفر السمعاني -كما نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري-: إن القدح في أحد من الصحابة علامة على خذلان فاعله، وهو بدعة وضلالة.
ولما ذكر الحافظ ابن حجر في شرح حديث المصراة في صحيح البخاري أن أحد الحنفية قال: إن أبا هريرة ليس مثل عبد الله بن مسعود في الفقه، وهو الذي روى حديث المصراة، وهذا قدح في فقهه رضي الله عنه، فقال عند ذلك الحافظ ابن حجر: وقائل هذا الكلام إنما آذى نفسه، ومجرد تصور فساده يغني عن تكلف الرد عليه، ثم نقل كلام أبي المظفر السمعاني المتقدم.
ومن أشد وأوضح ما جاء في ذلك ما نقله الخطيب البغدادي في كتابه الكفاية بإسناده إلى أبي زرعة الرازي قال: إذا رأيتم من ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلموا أنه زنديق، وذلك أن الكتاب حق والرسول صلى الله عليه وسلم حق، وإنما أدى إلينا الكتاب والسنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء -أي الذين يقدحون فيهم- يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة.
لأن القدح في الناقل قدح في المنقول، والمنقول هو الكتاب والسنة، والناقلون هم أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله تعالى عن الصحابة.
قال سعيد بن زيد رضي الله عنه: (لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر به وجهه خير من عمل أحدكم عمره ولو عمر عمر نوح).
ونوح عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً كما جاء ذلك في آية العنكبوت، وهي مدة طويلة، وعمر طويل، وكل هذا يبين فضل الصحابة وخطورة سبهم والنيل منهم.
ثم إن سب آحاد المسلمين والنيل من آحادهم يعتبر من الغيبة المحرمة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النيل منهم يكون أعظم وأشد؛ لأنه نيل من حملة الرسالة الذين هم الواسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عرف الناس حقاً ولا هدى إلا عن طريق الصحابة، ولهذا فإن من فضائل أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ومن مناقبهم كثرة ثوابهم وأجرهم؛ لأن أحدهم إذا روى سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاها الناس من بعده وعملوا بها إلى يوم القيامة، فإن الله تعالى يثيب ذلك الصحابي مثل ثواب كل الذين عملوا بهذه السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) فمن فضلهم رضي الله عنهم وأرضاهم أنهم الذين تلقوا الكتاب والسنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكل من جاء بعدهم إنما أخذه عن طريقهم، فكل من تلقى سنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وحفظها وأداها فإنه يؤجر عليها مثل كل من عمل بهذه السنة التي جاءت من طريقه، والدليل هذا الحديث الشريف الذي رواه مسلم في صحيحه: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه) وقد ذكره أبو داود وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.(521/13)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تسبوا أصحابي)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية].
مسدد مر ذكره، وأبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
هو أبو صالح السمان واسمه: ذكوان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد].
هو أبو سعيد الخدري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(521/14)
سب الصحابة مهلكة
ويجدر التنبيه هنا إلى أنه ليس هناك فرق بين من يسب واحداً من الصحابة ومن يسب جميعهم أو يكفر جميعهم أو يفسق جميعهم؛ فمن كفر الصحابة جميعاً فلا شك أنه كافر، ومن فسقهم فلا شك أنه كافر، لأن هذا إبطال للكتاب والسنة.
واتهام عائشة رضي الله عنها وحدها بعد نزول براءتها كاف في تكفيره، فمن اتهمها ورماها بالإفك بعدما برأها الله فلا شك أنه كافر؛ لأنه مكذب للقرآن.(521/15)
شرح حديث (أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زائدة بن قدامة الثقفي حدثنا عمر بن قيس الماصر عن عمرو بن أبي قرة قال: كان حذيفة بالمدائن، فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأناس من أصحابه في الغضب، فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة، فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة، فيقول سلمان: حذيفة أعلم بما يقول، فيرجعون إلى حذيفة فيقولون له: قد ذكرنا قولك لـ سلمان فما صدقك ولا كذبك، فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة، فقال: يا سلمان! ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال سلمان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب، فيقول في الغضب لناس من أصحابه، ويرضى فيقول في الرضا لناس من أصحابه، أما تنتهي حتى تورث رجالاً حب رجال ورجالاً بغض رجال، وحتى توقع اختلافاً وفرقة؟ ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: (أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي، فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة للعالمين، فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة) والله! لتنتهين أو لأكتبن إلى عمر].
أورد أبو داود رحمه الله تعالى هذا الأثر عن حذيفة وسلمان رضي الله تعالى عنهما، وهو أن حذيفة رضي الله عنه كان يحدث بأحاديث ويخبر بأخبار قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه في حال الغضب، وبلغ سلمان هذا الذي يحدث به حذيفة، فقال للذي أخبره: هو أعلم بما يقول، فرجعوا إليه وقالوا: إنه ما صدقك ولا كذبك، فجاء حذيفة وقال: كيف لا تصدقني في شيء أسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في أناس في حال الغضب فيحمله عنه من يحمله، وإنك بهذا تورث حب أناس وبغض أناس، وإن لم تكف عن مثل ذلك لأكتبن بذلك إلى عمر رضي الله تعالى عنه، وذكر الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم من سببته سبة أو لعنته فاجعل ذلك صلاة عليه) وقد وردت أحاديث كثيرة بهذا المعنى الذي ذكره سلمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقد أورد مسلم في صحيحه جملة منها متوالية، وختمها بقصة أم سليم رضي الله تعالى عنها وجاريتها أو بنيتها التي أرسلتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عرفها وهي صغيرة، ثم رآها وقد كبرت، فقال: (أنت هي؟! كبرت لا كبرت سنك) فجاءت البنية تبكي إلى أم سليم، فجاءت أم سليم مسرعة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: (ما لك يا أم سليم؟! قالت: إنك قلت في بنيتي كذا وكذا!! قال: أما علمت أني اشترطت على ربي أن من دعوت عليه بدعوة ليس لها بأهل أن يبدل الله له ذلك زكاءً وطهراً) فدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يقول الشيء وهو لا يريده كما هو معروف عند العرب، ومع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم دعا بهذه الدعوة، وسأل الله هذه المسألة وهي أن كل من حصل له شيء من ذلك فإن الله تعالى يبدله به زكاءً وطهراً.
ومن جميل صنيع الإمام مسلم رحمة الله عليه أنه لما فرغ من هذه الأحاديث أورد حديث ابن عباس الذي فيه قوله صلى الله عليه وسلم في معاوية: (لا أشبع الله بطنه)، فهذا من جملة الأحاديث التي فيها بيان أن من دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة ليس هو لها بأهل أن يجعل الله ذلك له زكاءً وطهراً، وحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ادع لي معاوية، فذهب إليه فوجده يأكل، ثم قال: اذهب ادع لي معاوية، فذهب إليه وقال: إنه يأكل، قال: ادعه لا أشبع الله بطنه) فبعض الذين في نفوسهم ريب ومرض وحقد على الصحابة يأتون بهذا الحديث على أنه سب وذم لـ معاوية، لكن على هذا الحديث صار محمدة ودعوة لـ معاوية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا أن كل من دعا عليه بدعوة وهو ليس لها بأهل أن يبدل الله ذلك له زكاءً، ولهذا عندما شرح الإمام النووي رحمة الله عليه هذا الحديث قال: إنه صار منقبة له، وأثنى بذلك على صنيع الإمام مسلم وحسن ترتيبه ووضعه الأحاديث في موضعها.
وقد ذكر ابن عساكر رحمه الله في تاريخ دمشق حديث: (لا أشبع الله بطنه) ثم قال: هذا أصح حديث في فضل معاوية.
والإمام مسلم رحمة الله عليه معروف بحسن الترتيب وحسن التنظيم ووضع الأحاديث المناسبة في الأماكن المناسبة، وهو لم يذكر أبواباً في صحيحه وإنما اقتصر على الكتب والأبواب التي ذكرت هي ليست له، بل هي لـ النووي وغير النووي، من الشراح، ولكون مسلم يسوف الأحاديث التي في موضوع واحد مساقاً واحداً في مكان واحد؛ فسهل ذلك تبويب الأبواب على النووي وغيره، ولكن الشيء الجميل في ترتيبه وتنظيمه كونه يأتي بمثل هذا الحديث في هذا المكان، بعد أن يورد الأحاديث التي تبين أن من دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة وهو ليس لها بأهل أنه يكون ذلك دعاءً له.
قوله: [عن عمرو بن أبي قرة قال: كان حذيفة بالمدائن، فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأناس من أصحابه في الغضب، فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة، فيقول سلمان: حذيفة أعلم بما يقول، فيرجعون إلى حذيفة فيقولون له: قد ذكرنا قولك لـ سلمان فما صدقك ولا كذبك، فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة].
والمبقلة: مكان أو مزرعة فيها بقل، والبقل هو نوع من النبات معروف، والمكان الذي يوجد فيه البقل يقال له: مبقلة.
قوله: [فقال: يا سلمان! ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال سلمان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب، فيقول في الغضب لناس من أصحابه، ويرضى فيقول في الرضا لناس من أصحابه، أما تنتهي حتى تورث رجالاً حب رجال ورجالاً بغض رجال؟!].
يعني بسبب هذا الذي ينقله في حق بعضهم.
قوله: [وحتى توقع اختلافاً وفرقة؟ ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: (أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي، فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة للعالمين، فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة)].
ولكن جاء في حديث أم سليم الذي أشرت إليه أنه قيد ذلك بقوله: (من دعوت عليه بدعوة ليس لها بأهل) فهذا هو الذي يبدل الله تعالى ذلك زكاءً وطهراً، وقد يسب أحداً وهو أهل للسب.
قوله: [والله! لتنتهين أو لأكتبن إلى عمر].
يعني: تنتهي عن هذا الذي تظهره أو لأكتبن إلى عمر بذلك.
وفي عون المعبود زيادة بعد قوله: (أو لأكتبن إلى عمر): (فتحمل عليه برجال، فكفر يمينه، ولم يكتب إلى عمر، وكفر قبل الحنث، قال أبو داود: قبل وبعد كله جائز).
كون الإنسان يكفر قبل الحنث أو بعده كله جائز، فيمكن أنه يحنث قبل أن يكفر، ويمكن أن يكفر قبل أن يحنث.
ومعنى قوله: (تحمل عليه برجال، فكفر يمينه، ولم يكتب إلى عمر) كأنه طلب منه بواسطة بعض الرجال فكفر عن يمينه ولم يكتب، ومعناه: أنه لم يبر بيمينه بأن يكتب، وترك التنفيذ فيعتبر أنه حنث لكونه أراد أن يترك التنفيذ.(521/16)
تراجم رجال إسناد حديث (أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو الذي قال عنه الإمام أحمد: إنه شيخ الإسلام، فوصف شيخ الإسلام قديم.
[حدثنا زائدة بن قدامة الثقفي].
زائدة بن قدامة الثقفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عمر بن قيس الماصر].
عمر بن قيس الماصر صدوق ربما وهم، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود.
[عن عمرو بن أبي قرة].
عمرو بن أبي قرة ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود.
[حذيفة سلمان].
حذيفة وسلمان كل منهما صحابي جليل، وحديثهما عند أصحاب الكتب الستة.(521/17)
استخلاف أبي بكر رضي الله عنه(521/18)
شرح حديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في استخلاف أبي بكر رضي الله عنه.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق قال: حدثني الزهري قال حدثني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبيه عن عبد الله بن زمعة قال: (لما استعز برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده في نفر من المسلمين، دعاه بلال إلى الصلاة، فقال: مروا من يصلي للناس، فخرج عبد الله بن زمعة فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائباً، فقلت: يا عمر! قم فصل بالناس، فتقدم فكبر، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته، وكان عمر رجلاً مجهراً، قال: فأين أبو بكر؟! يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون، فبعث إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة، فصلى بالناس)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في استخلاف أبي بكر رضي الله عنه].
وخلافة أبي بكر رضي الله عنه اختلف فيها: فمن قائل: إنها ثبتت بالنص، ومن قائل: إنها ثبتت بالاتفاق المبني على النص، وإذا أريد بالنص أنه نص خاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه النبي: الخليفة بعدي فلان، فهذا لا وجود له، لا لـ أبي بكر ولا لغيره، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما قال: الخليفة بعدي فلان، أو يخلفني فلان، والدليل على ذلك أن عمر رضي الله عنه لما طلب منه أن يستخلف لما طعن قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، يعني: أبا بكر، وإن لم أستخلف فلم يستخلف من هو خير، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يستخلف بنص مكتوب أو بشيء ينص فيه على أن الخليفة بعده فلان، لكن جاءت نصوص كثيرة تدل على أحقية أبي بكر وأولويته بالخلافة، ومنها: تقديم الرسول صلى الله عليه وسلم إياه في الصلاة في مرض موته، وكونه روجع في ذلك وفي كل مرة يراجع يصر ويؤكد على أن أبا بكر هو الذي يصلي بالناس، وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من ذلك تقديمه بالخلافة من بعده، ولهذا قال عمر رضي الله عنه يوم السقيفة: رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ديننا، أفلا نرتضيك لأمر دنيانا؟! ومن أوضح ما جاء في ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في مرض موته: (ادعي لي أباك وأخاك لأكتب كتاباً، فإني أخشى أن يتمنى متمن أو يقول قائل: أنا أولى، ثم ترك الكتابة عليه الصلاة والسلام وقال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) يعني: أن هذا الذي أريد أن أكتبه سيتحقق، لأن الله تعالى يأبى إلا أبا بكر، والمؤمنون يأبون إلا أبا بكر، وقد أبى الله إلا أبا بكر وأبى المؤمنون إلا أبا بكر، وتمت بيعة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وصاروا يلقبونه بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مع خلافة الخلفاء الثلاثة الذين بعده خلافة نبوة كما جاء ذلك في حديث سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي مر بنا قريباً.
أورد أبو داود حديث عبد الله بن زمعة رضي الله عنه قال: (لما استعز برسول الله -يعني: اشتد مرضه- وكان عنده مع جماعة من المسلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءه بلال واستأذنه في الصلاة فقال: مروا من يصلي بالناس، فخرج ولم يكن أبو بكر موجوداً، فقال لـ عمر: صل بالناس، فصلى بالناس، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم تكبير عمر وكان جهوري الصوت رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال: أين أبو بكر؟! -يعني: لماذا لا يصلي بالناس؟ - ثم قال: (يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون).
فهذا يدل على فضله وعلى تقديمه بالخلافة، وعلى أنه الأولى بأن يصلي، وقد جاءت الأحاديث التي فيها التنصيص على أن يصلي أبو بكر بالناس حيث قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس).
وبعد ذلك دعي أبو بكر وجاء بعد أن صلى عمر بالناس، والذي يبدو أنه صلى الصلوات التي بعد، وليس معنى ذلك أن هذه الصلاة أعيدت؛ لأن الصلاة حصلت بإمامة للناس، فما هناك شيء يدل على أنها هي نفسها أعيدت، وإنما صلى عمر هذه الصلاة لأن أبا بكر لم يكن موجوداً، ثم بعد ذلك صار الذي يصلي بالناس أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.(521/19)
تراجم رجال إسناد حديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن سلمة].
محمد بن سلمة هو الباهلي، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
ومحمد بن سلمة الباهلي هذا في طبقة شيوخ شيوخ أبي داود، وهناك محمد بن سلمة في طبقة شيوخه، والمراد به المرادي المصري.
[عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[قال: حدثني الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، والفقهاء السبعة في عصر التابعين في المدينة ستة متفق على عدهم في الفقهاء السبعة، والسابع فيه خلاف، قيل: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وقيل: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وقيل: سالم بن عبد الله بن عمر، والستة المتفق على عدهم هم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعروة بن الزبير، وخارجة بن زيد، وسعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وسليمان بن يسار، فهؤلاء الستة متفق على عدهم في الفقهاء السبعة، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه أعلام الموقعين في أوله عدداً كبيراً من العلماء المفتين في عصر الصحابة وفي عصر التابعين وفي مختلف البلاد، ولما ذكر المدينة ومن كان فيها من الفقهاء في عصر التابعين ذكر الفقهاء السبعة، وذكر السابع منهم أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام هذا، وذكر بيتين من الشعر الثاني منهما يشتمل على الفقهاء السبعة وقال: إذا قيل من في العلم سبعة أبحر روايتهم ليست عن العلم خارجة فقل هم: عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجة فالبيت الثاني مشتمل على ذكر السبعة، والسابع هو أبو بكر هذا الذي معنا في الإسناد، وكما ذكرت هناك قولان آخران أحدهما: أن السابع هو سالم بن عبد الله بن عمر، والثاني: أن السابع هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
[عن عبد الله بن زمعة].
عبد الله بن زمعة رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(521/20)
شرح حديث (ليصل للناس ابن أبي قحافة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبي فديك قال: حدثني موسى بن يعقوب عن عبد الرحمن بن إسحاق عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن زمعة أخبره بهذا الخبر قال: (لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوت عمر -قال ابن زمعة - خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى أطلع رأسه من حجرته ثم قال: لا لا لا، ليصل للناس ابن أبي قحافة، يقول ذلك مغضباً)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، وفيه أنه قال: لا لا، يعني: لا يصل أحد غير أبي بكر، وقوله: ابن أبي قحافة هو أبو بكر رضي الله عنه، وهذا فيه إشارة قوية ودلالة واضحة على أنه الأحق بالأمر من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.(521/21)
تراجم رجال إسناد حديث (ليصل للناس ابن أبي قحافة)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن أبي فديك].
ابن أبي فديك هو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثني موسى بن يعقوب].
موسى بن يعقوب صدوق سيئ الحفظ، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن إسحاق].
عبد الرحمن بن إسحاق صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة].
ابن شهاب مر ذكره، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة هو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن زمعة].
عبد الله بن زمعة مر ذكره.(521/22)
الأسئلة(521/23)
صعود النبي صلى الله عليه وسلم على حراء وعلى أحد قصتان متغايران
السؤال
جاء في بعض الأحاديث أن النبي ومن معه أهتز بهم أحد وفي بعضها أنه حراء فهل هي قصة واحدة أم عدة قصص؟
الجواب
صعود النبي صلى الله عليه وسلم جبل أحد أو حراء مع بعض الصحابة وقع على التعدد، قاله الحافظ في الفتح في الجزء السابع، ثم ذكر رواية في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم صعد حراء ومعه جملة من الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، فالقصتان مختلفتان، ذكر ذلك في فضائل الصحابة في فضل أبي بكر.(521/24)
الحكم على حديث (القدرية مجوس هذه الأمة)
السؤال
ما حكم حديث: (القدرية مجوسية هذه الأمة)؟
الجواب
حديث (القدرية مجوس هذه الأمة) هو حديث حسن، حسنه الألباني في الطحاوية والروض والمشكاة والظلال والصحيحة رقم (2748)، وقال: إن له عدة طرق، فتبين أن للحديث أصلاً، وليس بمنكر، فضلاً عن أن يكون موضوعاً، ونقل عن الحافظ تقويته للحديث.(521/25)
حكم الذبح والصدقة عند تجدد النعم
السؤال
هل يجوز الذبح عند تجدد النعم على المسلم؟
الجواب
شكر الله عز وجل على النعم سائغ ومطلوب، وإذا حصل للإنسان نعمة أو حصل له شيء فذبح ذبيحة وتصدق بها شكراً لله عز وجل على ذلك، لا أعلم شيئاً يمنع منه؟(521/26)
شرح سنن أبي داود [522]
إن من عقيدة أهل السنة والجماعة: السكوت عما حصل في الفتنة بين الصحابة، فهم يعتقدون أن الصحابة مجتهدون في ذلك لا يعدمون الأجر والأجرين، ويسلمون صدورهم وألسنتهم من الخوض أو الطعن في الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وأن من خرج عن هذا فقد ابتدع في الدين، وضل عن هدي رب العالمين.(522/1)
ما يدل على ترك الكلام في الفتنة(522/2)
شرح حديث (إن ابني هذا سيد، وإني أرجو أن يصلح الله به بين فئتين من أمتي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يدل على ترك الكلام في الفتنة.
حدثنا مسدد ومسلم بن إبراهيم قالا: حدثنا حماد عن علي بن زيد عن الحسن عن أبي بكرة ح وحدثنا محمد بن المثنى عن محمد بن عبد الله الأنصاري قال: حدثني الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي: (إن ابني هذا سيد، وإني أرجو أن يصلح الله به بين فئتين من أمتي) وقال في حديث حماد: (ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب ما يدل على ترك الكلام في الفتنة].
لأن ما جرى من فتن وأمور حصلت بين الصحابة فإنه يترك الكلام فيها، وهذا هو معنى ما جاء عن كثير من العلماء في كتب العقائد، لا سيما المختصرة منها: الكف عما شجر بين الصحابة، يعني: من عقيدة أهل السنة والجماعة الكف عما شجر بينهم، وألا يتكلم فيهم إلا بخير، وأن تحسن بهم الظنون، وأن يحمل ما جرى منهم على أحسن المحامل، وفي ذلك سلامة القلوب وطهارتها ونظافتها من أن يقع فيها شيء لا يليق في حق بعض الصحابة، فالواجب الترحم على الجميع والترضي عنهم، واعتقاد أنهم لا يعدمون الأجر أو الأجرين، فمن اجتهد منهم فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد.
وقد جاء عن بعض أهل العلم أنه قال: إن الفتن التي كانت في أيامهم قد صان الله منها سيوفنا، فنسأله أن يصون منها ألسنتنا، يعني: ما كنا في زمانهم حتى يكون لأيدينا مشاركة، وبقيت الألسن فنسأل الله عز وجل أن يصونها وأن يحفظها من أن تتكلم فيهم بما لا ينبغي وبما لا يليق، بل الواجب محبة الجميع وتعظيمهم وتوقيرهم، وألا يشتغل بما جرى بينهم، وإذا اشتغل به فيكون بالاعتذار وبيان سلامتهم، وكثير مما نقل عنهم زيد فيه ونقص منه، وبعضه كذب، وما صح منه فهم دائرون فيه بين الأجر والأجرين، إما مجتهدون مصيبون فلهم أجران، وإما مجتهدون مخطئون فلهم أجر واحد، والخطأ منهم مغفور، هذا هو الواجب في حق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وقد أورد أبو داود حديث أبي بكرة رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان على المنبر ومعه ابنه الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين من أمتي)، وفي بعض الروايات: (بين فئتين من المسلمين عظيمتين) وهذا يدل على إخبار النبي عليه الصلاة والسلام بأمر مغيب يأتي في المستقبل، وهو من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، وذلك من الإيمان بالغيب؛ لأن الإيمان بالغيب يكون عن أخبار ماضية وعن أمور مستقبلة، وعن أمور موجودة لكنها غير مشاهدة ولا معاينة، وهذا مما حصل فيه الإخبار عن أمر مستقبل وقريب من زمنه صلى الله عليه وسلم، فإنه أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن هذا الغلام سيصلح الله به بين فئتين من المسلمين، وقد فهم من هذا أن الحسن سيعيش، وأنه لن يموت طفلاً، بل سيبقى حتى يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن ذلك، وخبره لا يتخلف، بل هو صدق، وهو لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وقد حصل هذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بثلاثين سنة، فتحقق هذا الذي أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، واجتمعت كلمة المسلمين بتنازل الحسن رضي الله عنه وأرضاه، وسمي ذلك العام الذي هو عام (41) هـ عام الجماعة، لاجتماع كلمة المسلمين، وكونه صار لهم خليفة اجتمع عليه الناس وصارت الكلمة واحدة، وتحقق ذلك الذي أخبر به الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وفيه إطلاق السيد على المخلوق، وقد جاء إطلاقه على الله عز وجل، فالله تعالى من أسمائه السيد، ويطلق على المخلوق سيد كما جاء في هذا الحديث حيث قال: (إن ابني هذا سيد).
وفيه أيضاً وصف الفئتين اللتين يحصل الصلح بينهما بأنهما مسلمتان، وهذا فيه بيان أن هؤلاء الذين حصل بينهم الخلاف مسلمون وأن كلمتهم ستجتمع بتنازل هذا الرجل العظيم لـ معاوية رضي الله تعالى عن الجميع، وقد جاء عن سفيان بن عيينة رحمه الله أنه كان يقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (من المسلمين) يعجبنا جداً، يعني: وصف الطائفتين بأنهما من المسلمين مع اقتتالهم واختلافهم، فهو يقول رحمه الله: إن هذا يعجبنا جداً؛ لأنه حكم بإسلام الجميع، وأن هذا اختلاف بين مسلمين، وأن هذا الاتفاق حصل بين فئتين عظيمتين من المسلمين على يد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما.(522/3)
تراجم رجال إسناد حديث (إن ابني هذا سيد، وإني أرجو أن يصلح الله به بين فئتين من أمتي)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[ومسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قالا: حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي بن زيد].
هو علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الحسن].
هو الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بكرة].
هو أبو بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا محمد بن المثنى].
(ح) أي: طريق أخرى، ومحمد بن المثنى العنزي أبو موسى الملقب بـ الزمن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، رووا عنه مباشرة وبدون واسطة.
[عن محمد بن عبد الله الأنصاري].
محمد بن عبد الله الأنصاري ثقة، من كبار شيوخ البخاري، وممن روى عنهم الثلاثيات، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثني الأشعث].
الأشعث يحتمل أن يكون الأشعث بن عبد الله الحداني أو الأشعث بن عبد الملك الحمراني، وكل منهما محتج به، فالأول: صدوق أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن، والثاني: ثقة أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن، وقد ذكر في ترجمة محمد بن عبد الله الأنصاري أنه روى عنهما جميعاً، وكذلك في ترجمة الحسن أنهما رويا عنه جميعاً، وهو محتمل لهذا ولهذا، وكل منهما حجة.
والمحشي يقول: إنه الأشعث بن عبد الملك الحمراني؛ لأن المصنف أخرجه برقم (3775) من رواية ابنه عنه فاتضح أنه ابن عبد الملك الحمراني.
[عن الحسن عن أبي بكرة].
الحسن وأبو بكرة مر ذكرهما في الإسناد السابق، وعلى هذا فالإسناد الذي مر وفيه علي بن زيد بن جدعان لا يؤثر؛ لأن هذا إسناد يغني عن الطريق الأولى.(522/4)
مناسبة حديث (إن ابني هذا سيد) للتبويب في ترك الفتن
أما مناسبة الحديث للترجمة فهو من جهة أن ما حصل من الصلح كان قبله اختلاف وفتنة، وقد انتهت بهذا الذي تم على يد الحسن رضي الله تعالى عنه، أي: أن الفتن التي حصلت قبل ذلك الصلح من الأشياء التي كان المطلوب أن يكف عن الكلام فيها وألا يتكلم فيها إلا بما هو خير وبما هو لائق في حق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(522/5)
ما جرى من الاقتتال بين الصحابة لا يدخل في قوله (إذا التقى المسلمان بسيفهما)
وهناك من يستدل بحديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما) الحديث، على أن ما جرى بين الصحابة رضوان الله عليهم داخل ضمن الوعيد، ولا نص يستثني الصحابة من ذلك.
والحق أنه ليس من هذا القبيل؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم حصل ما حصل منهم باجتهاد، وكل منهم كان يرى أنه على حق، وأما اللذين ذكرا في الحديث فإنهما يلتقيان وكل واحد منهما يريد أن يقتل الآخر، أي: يريد أن يعتدي عليه، ولا يرى أنه على الحق.(522/6)
حديث حذيفة (ما أحد من الناس تدركه الفتنة إلا أنا أخافها عليه إلا محمد بن مسلمة) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد أخبرنا هشام عن محمد قال: قال حذيفة: (ما أحد من الناس تدركه الفتنة إلا أنا أخافها عليه، إلا محمد بن مسلمة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تضرك الفتنة)].
أورد أبو داود حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أنه قال: (ما أحد من المسلمين إلا وأخشى عليه الفتنة ما عدا محمد بن مسلمة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: لا تضرك الفتنة) وسيأتي أنه اعتزل الفتن قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا يزيد].
هو يزيد بن هارون الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا هشام].
هو هشام بن حسان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد].
هو محمد بن سيرين، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حذيفة].
هو حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي جليل أخرج له أصحاب الكتب الستة.(522/7)
شرح أثر حذيفة (إني لأعرف رجلاً لا تضره الفتن شيئاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن مرزوق أخبرنا شعبة عن الأشعث بن سليم عن أبي بردة عن ثعلبة بن ضبيعة قال: دخلنا على حذيفة فقال: إني لأعرف رجلاً لا تضره الفتن شيئاً، قال: فخرجنا فإذا فسطاط مضروب، فدخلنا فإذا فيه محمد بن مسلمة رضي الله عنه، فسألناه عن ذلك، فقال: ما أريد أن يشتمل علي شيء من أمصاركم حتى تنجلي عما انجلت].
أورد أبو داود حديث حذيفة من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله قال: إني لأعرف رجلاً لا تضره الفتنة، ثم إنهم رأوا فسطاطاً منصوباً يعني: خيمة، فدخلوا وإذا فيه محمد بن مسلمة، فسألوه عن شأنه فقال: ما أريد أن يشتمل علي شيء من أمصاركم حتى تنجلي عما انجلت، يعني: الفتن، وهو يريد أن يعتزل الناس حتى تنتهي الفتنة وتنجلي.(522/8)
تراجم رجال إسناد أثر حذيفة (إني لأعرف رجلاً لا تضره الفتن شيئاً)
قوله: [حدثنا عمرو بن مرزوق].
عمرو بن مرزوق ثقة له أوهام، أخرج له البخاري وأبو داود.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأشعث بن سليم].
الأشعث بن سليم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بردة].
هو أبو بردة بن أبي موسى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثعلبة بن ضبيعة].
ثعلبة بن ضبيعة مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن حذيفة].
حذيفة مر ذكره.
[فإذا فيه محمد بن مسلمة فسألناه عن ذلك].
محمد بن مسلمة صحابي، أخرج له أصحاب السنن.(522/9)
أثر حذيفة (إني لأعرف رجلاً لا تضره الفتن شيئاً) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن الأشعث بن سليم عن أبي بردة عن ضبيعة بن حصين الثعلبي بمعناه].
وهذا إسناد آخر بمعنى اللفظ المتقدم في الإسناد السابق.
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة].
أبو عوانة هو الوضاح بن عبد الله اليشكري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أشعث بن سليم عن أبي بردة عن ضبيعة بن حصين الثعلبي].
في الإسناد المتقدم ثعلبة بن ضبيعة، وهنا قال: ضبيعة بن حصين، وهو هو.
وهذا الحديث صحيح، ويقول في العون: هذا الحديث سكت عنه المنذري.(522/10)
شرح أثر علي في سبب مسيره إلى البصرة لملاقاة أهل الجمل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسماعيل بن إبراهيم الهذلي حدثنا ابن علية عن يونس عن الحسن عن قيس بن عباد قال: قلت لـ علي رضي الله عنه: أخبرنا عن مسيرك هذا، أعهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأي رأيته؟ فقال: ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، ولكنه رأي رأيته].
أورد أبو داود هذا الأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد سئل عن مسيره في بعض الأحوال التي التقى فيها مع من يقابله من المسلمين، وذلك في الجمل أو صفين، فقيل: هل مسيرك هذا شيء عهد إليك به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أنه رأي رأيته؟ فأخبر بأنه لم يعهد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء من ذلك، وإنما هو رأي رآه، واجتهاد حصل منه رضي الله تعالى عنه وأرضاه.(522/11)
تراجم رجال إسناد أثر علي في سبب مسيره إلى البصرة لملاقاة أهل الجمل
قوله: [حدثنا إسماعيل بن إبراهيم الهذلي].
إسماعيل بن إبراهيم الهذلي ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا ابن علية].
هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يونس عن الحسن].
يونس هو ابن عبيد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، والحسن تقدم.
[عن قيس بن عباد].
قيس بن عباد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[قلت لـ علي].
علي هو أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(522/12)
شرح حديث (تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا القاسم بن الفضل عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري في الخوارج أنه قال: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق) والمقصود من ذلك الخوارج الذين خرجوا بعدما حصل التحكيم وانحازوا في مكان يقال له: حروراء، وحصل منهم ما حصل، وقاتلهم علي رضي الله عنه وأرضاه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (تقتلهم أولى الطائفتين بالحق)، وهذا يدلنا على أن علياً رضي الله عنه أولى من غيره.
وقوله: (على حين فرقة من المسلمين) هو مثل الحديث الذي مر في قوله: (يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، فإنه وصف المختلفين والمفترقين أنهم مسلمون، فهذا مثل ذاك، وهو يدل على أن علياً رضي الله عنه كان محقاً، وأنه أولى بالحق، ومعاوية رضي الله عنه كان مجتهداً، وكل من المجتهدين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعدمون الأجر أو الأجرين، فالمجتهد المصيب له أجران، والمجتهد المخطئ له أجر واحد، وخطؤه مغفور رضي الله تعالى عن الجميع.
والخوارج هم الذين خرجوا من جيش علي رضي الله عنه بعدما حصل التحكيم، ولا يقال عن جيش معاوية: خوارج، وإنما هم مجتهدون؛ لأن معاوية رضي الله عنه رأى أن يقتص أولاً من الذين قتلوا عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ثم يسلم الشام، وعلي رضي الله عنه رأى أنه يتم تسليم الشام أولاً ثم ينظر في الأمر، وكل وقف عند رأيه، وحصل ما حصل، وكلهم كما ذكرت لا يعدمون الأجر أو الأجرين.
قال في عون المعبود: أجمع العلماء على أن الخوارج مسلمون، فأقول: إن بعض العلماء كفرهم.(522/13)
تراجم رجال إسناد حديث (تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
مسلم بن إبراهيم مر ذكره.
[حدثنا القاسم بن الفضل].
القاسم بن الفضل ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي نضرة].
هو أبو نضرة المنذر بن مالك بن قطعة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي سعيد].
هو أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد رباعي.(522/14)
أقوال كبار أئمة السلف في وجوب السكوت عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم
قال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله: من استخف بالعلماء ذهبت آخرته.
وهذا مذكور في كتاب سير أعلام النبلاء.
وقال الإمام الطحاوي رحمه الله: علماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل.
وقال الحافظ ابن عساكر: واعلم -يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته- أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة بما هم منه براء أمر عظيم، والتناول بأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاق على من اختار الله منهم خلق ذميم، وقد عد أهل العلم الطعن للصحابة زندقة مفضوحة، وقرروا أنه لا يبسط لسانه فيهم إلا من ساءت طويته في النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والإسلام والمسلمين.
وهذا مذكور في كتاب الإمامة لـ أبي نعيم الأصفهاني.
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله حيث سئل عن القتال الذي حصل بين الصحابة: تلك دماء طهر الله يدي منها، أفلا أطهر منها لساني؟! مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل العيون، ودواء العيون ترك مسها.
وهذا مذكور في مناقب الشافعي للرازي.
وسئل الحسن البصري عما حصل بين الصحابة فقال: قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا.
من الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى بعد أن قيل له: ما تقول فيما كان بين علي ومعاوية؟ قال: ما أقول فيهم إلا الحسنى.
من مناقب الإمام أحمد لـ ابن الجوزي.
وقال أبو عبد الله بن بطة رحمه الله أثناء عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة ومن بعدهم: نكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شهدوا المشاهد معه، وسبقوا الناس بالفضل، وقد غفر الله لهم، وأمرك بالاستغفار لهم، والتقرب إليه بمحبتهم، وفرض ذلك على لسان نبيه، وهو يعلم ما سيكون منهم، وأنهم سيقتتلون، وإنما فضلوا على سائر الخلق لأن الخطأ العمد قد وضع عنهم، وكل ما شجر بينهم مغفور لهم.
من الإبانة.
وقال الإمام أبو عبد الله القرطبي رحمه الله: لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، إذ كلهم اجتهدوا فيما فعلوه، وأرادوا الله عز وجل، وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبدنا بالكف عما شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر لحرمة الصحبة، ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم، ولأن الله غفر لهم وأخبرنا بالرضا عنهم.
من الجامع لأحكام القرآن.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ذكر عقيدة أهل السنة والجماعة: ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون.
من العقيدة الواسطية.
ونقل الحافظ ابن حجر عن أبي المظفر السمعاني رحمه الله أنه قال: التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان صاحبه، بل هو بدعة وضلاله.
من فتح الباري.
انتهى.
وهذه فوائد عظيمة تتعلق بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضها يتعلق بأهل العلم، وهذا هو اللائق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والواجب أن تكون الألسنة والقلوب سليمة ونظيفة في حقهم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتكون القلوب سليمة خالية من الحقد والغيظ والبغض، والألسنة سليمة خالية من السب والذم والثلب والعيب، وإذا كانت الغيبة محرمة في حق سائر المسلمين، فإن الاغتياب لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أشد حرمة فهم خير هذه الأمة والواسطة بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين نقلوا الكتاب والسنة إلى الناس؛ والغيبة لهم وقيعة في خير الناس، وفيمن ساق الله للناس الخير على أيديهم، وهو الوحي الذي تلقوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أدوه إلى من بعدهم، فمن حسن حظ المرء أن يكون قلبه ولسانه نظيفين نزيهين سليمين في حق الصحابة، ومن علامة السوء وسوء الحظ للإنسان أن يحرك لسانه فيما لا ينبغي في حقهم، وأن يقع في قلبه شيء مما لا ينبغي في حقهم جميعاً رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وقد نقلت في آخر كتابي الانتصار للصحابة الأخيار نقولاً عديدة في هذا الأمر، ومن أعظمها وأشدها وأوضحها ما قاله أبو زرعة الرازي رحمة الله عليه: إذا رأيتم من ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلموا أنه زنديق، وذلك أن الكتاب حق، والرسول حق، وإنما أدى إلينا الكتاب والسنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم يريدون أن يجرحوا شهودنا فيبطلوا الكتاب والسنة، فالجرح بهم أولى، وهم زنادقة.(522/15)
شرح سنن أبي داود [523]
لقد اصطفى الله تعالى للنوة خيرة البشر وهم الأنبياء، وفاضل بينهم كما هو معلوم في القرآن الكريم الذي هو كلامه، وجعل سيد الخلق وأفضلهم هو محمد صلى الله عليه وسلم، أما ما جاء في السنة من النهي عن التمييز أو التفضيل بين الأنبياء فله محامل قد ذكرها العلماء في مصنفاتهم.(523/1)
التخيير بين الأنبياء(523/2)
شرح حديث (لا تخيروا بين الأنبياء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التخيير بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أهيب حدثنا عمرو -يعني ابن يحيى - عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تخيروا بين الأنبياء)].
أورد أبو داود رحمه الله باب التخيير بين الأنبياء، والمقصود بالتخيير أن يقال: فلان خير من فلان، هذا هو التخيير، ومعلوم أن القرآن والسنة جاءا بالتفضيل، قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253]، وقال: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [الإسراء:55]، فالتفضيل ثابت في الكتاب وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أورد أبو داود رحمه الله هذا الحديث في جملة أحاديث، وهو حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخيروا بين الأنبياء) أي: لا تقولوا: فلان خير من فلان، وهذا النهي المقصود به: أنهم لا يخيرون من تلقاء أنفسهم من غير أن يكون مبنياً على أساس، أو أن يكون في التخيير تقليل من شأن بعضهم، وأما إذا كان التخيير مبنياً على علم ومبنياً على النصوص؛ فإن هذا أمر مطلوب، مع توقير الجميع وتعظيم الجميع ومحبة الجميع، ولكن يعتقد التفضيل الذي جاءت به النصوص؛ لأن التفضيل من أمور الغيب، وهذا من الأمور الغيبية، فلا يقال: فلان خير من فلان إلا بدليل، لأن هذا أمر غيبي، ومعناه: أنه خير عند الله، وأنه أفضل عند الله، وهذا لا يعلم إلا عن طريق الوحي، فالتخيير المنهي عنه هو الذي يكون مبنياً على غير علم ومبنياً على غير وحي، أو مبيناً على عصبية أو حمية، أو يكون في التخيير تقليل من شأن بعض الأنبياء، وأما إذا كان التخيير مبنياً على نصوص الوحي فإن هذا لا بأس به، والله تعالى قد ذكر في كتابه العزيز أنه فضل بعضهم على بعض.(523/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تخيروا بين الأنبياء)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أهيب].
هو أهيب بن خالد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عمرو -يعني ابن يحيى -].
هو عمرو بن يحيى المازني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري رضي الله عنه هو سعد بن مالك بن سنان الخدري، مشهور بنسبته وكنيته، كنيته: أبو سعيد، ونسبته: الخدري، واسمه: سعد بن مالك بن سنان، وهو صحابي جليل، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد وأنس وجابر وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين، ستة رجال وامرأة واحدة، وقد ذكرهم السيوطي في ألفيته حيث قال: والمكثرون في رواية الأثر أبو هريرة يليه ابن عمر وأنس والبحر-يعني ابن عباس- كالخدري وجابر وزوجة النبي(523/4)
شرح حديث (ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس مرفوعاً: (ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى) ويونس بن متى عليه الصلاة والسلام أحد المرسلين الذين جاء ذكرهم في القرآن في عدة مواضع، وذكره الله باسمه، وذكره بوصفه في موضعين، فقال: {وَذَا النُّونِ} [الأنبياء:87] يعني: صاحب الحوت، والنون: اسم للحوت، وجمعه: نينان، كالحوت جمعه: حيتان، وقال في وصفه: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم:48].
والرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا لما جاء في القرآن عنه من أنه لم يصبر على ما حصل من قومه؛ فذهب مغاضباً وحصل له ما حصل، والواجب توقير رسل الله عليهم الصلاة والسلام ومحبتهم والثناء عليهم وذكرهم بما يليق بهم، ولا يقال في حق يونس أي شيء وقد حصل منه ما حصل، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن يقال: إنه خير منه، وإنه يصبر بخلاف الذي حصل من يونس عليه الصلاة والسلام، فقال: (ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) ومتى هو اسم أبيه.(523/5)
تراجم رجال إسناد حديث (ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي، وقد مر ذكره.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي العالية].
هو رفيع بن مهران الرياحي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(523/6)
شرح حديث (ما ينبغي لنبي أن يقول إني خير من يونس بن متى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني قال: حدثني محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أبي حكيم عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن جعفر أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما ينبغي لنبي أن يقول: إني خير من يونس بن متى)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما ينبغي لنبي أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)، وفي الحديث السابق قال: (ما ينبغي لعبد) وهو لفظ عام، وهنا قال: (ما ينبغي لنبي)، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه سيد ولد آدم، ومعلوم أنه خير منه وخير من جميع المرسلين، فنبينا محمد عليه الصلاة والسلام هو سيد المرسلين وأفضلهم عليه الصلاة والسلام، وأولو العزم من الرسل خمسة، وهو أفضلهم عليه الصلاة والسلام، وهم: نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح، هؤلاء الخمسة هم أولو العزم من الرسل الذين ذكرهم الله عز وجل في كتابه فقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] وجاء ذكرهم في سورتين: في سورة الأحزاب، وفي سورة الشورى، في سورة الأحزاب في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب:7]، وفي سورة الشورى في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى:13] الآية، فإن هؤلاء الخمسة قد ذكروا في هاتين الآيتين، وهم أفضل الرسل وخير الرسل، وأفضلهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ويليه إبراهيم وهو خليل، ثم يليه موسى وهو كليم، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم خليل كليم، فاجتمع فيه ما تفرق في غيره، فالخلة لإبراهيم، والتكليم لموسى، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم له الوصفان جميعاً، فهو خليل الرحمن كما هو كليم الرحمن، فقد كلمه ليلة المعراج عندما عرج به إلى السماء صلوات الله وسلامه عليه، وسمع كلام الله من الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ولا يعارض ما جاء من بيان تفضيله صلى الله عليه وسلم على غيره من الرسل ومنهم يونس هذا الحديث، وهو قوله: (ما ينبغي لنبي)، وقد أخبر أنه سيد الناس يوم القيامة؛ لأن الممنوع منه أن يقول: إنه خير منه، والرسول صلى الله عليه وسلم قال ما قال في حقه لأنه أفضل منه وأفضل من غيره، فلا يكون هناك تعارض بين كون الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم -أو قال: سيد الناس- يوم القيامة)، وبين قوله: (ما ينبغي لنبي أن يقول)، وهو نبي صلى الله عليه وسلم وقد قال هذه المقالة؛ لأنه مبلغ ما له من الفضل صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، حتى يعتقد ذلك، وحتى يؤمن بذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس هناك نبي بعده يخبر بمنزلته وبفضله وبدرجته عند الله، بخلاف الأنبياء السابقين فإنه قد جاء بعدهم أنبياء يبينون فضل من تقدمهم، ويبينون شيئاً من أحوال من تقدمهم، أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فليس بعده نبي يخبر عن عظيم قدره وعن منزلته، فلذلك أخبر صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بشخصه صلى الله عليه وسلم من أجل أن يعتقد ذلك؛ لأنه جاء بشريعة كاملة، وقد بين ما يتعلق به وبغيره، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(523/7)
تراجم رجال إسناد حديث (ما ينبغي لنبي أن يقول إني خير من يونس بن متى)
قوله: [حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني].
عبد العزيز بن يحيى الحراني صدوق ربما وهم، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثني محمد بن سلمة].
هو محمد بن سلمة الحراني، وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن إسماعيل بن أبي حكيم].
إسماعيل بن أبي حكيم ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن القاسم بن محمد].
هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن جعفر].
هو عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(523/8)
شرح حديث (لا تخيروني على موسى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حجاج بن أبي يعقوب ومحمد بن يحيى بن فارس قالا: حدثنا يعقوب قال: حدثنا أبي عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة قال: (قال رجل من اليهود: والذي اصطفى موسى! فرفع المسلم يده فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش في جانب العرش، فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله عز وجل)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال: والذي اصطفى موسى، وفي بعض الروايات: على العالمين، فغضب المسلم الذي سمعه ولطمه؛ لأنه فضله على محمد؛ حيث قال: على العالمين، ومعناه: أنه فضله تفضيلاً مطلقاً، فلطمه المسلم، وجاء اليهودي واشتكى المسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك قال: (لا تخيروني على موسى)، وقيل في الجواب عن هذا الذي ورد في الحديث من النهي عن تخييره على موسى وتفضيله على موسى وبين ما جاء من تفضيله على غيره مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم)، وقوله: (أنا سيد الناس يوم القيامة)؛ أن النهي يحمل على أنه حصل قبل أن يعلم بمنزلته وبتفضيله على غيره، أو أن النهي محمول فيما إذا كان التخيير أو التفضيل مبنياً على التعصب والعصبية، وليس مبنياً على النصوص، فيوجد في التوفيق بين الحديثين هذان الجوابان.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن شيئاً حصل لموسى وهو أنه قال: (إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فأجد موسى آخذاً بالعرش، فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله)، وجاء في بعض الأحاديث أنه قال: (فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور)، وقيل: إن هذا الصعق الذي يحصل إنما هو يوم القيامة عندما يتجلى الله عز وجل لفصل القضاء بين الناس فإنهم يصعقون جميعاً، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم أول من يفيق من هذه الصعقة، فيجد موسى آخذاً بقائمة العرش، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا أدري، هل أفاق قبلي) يعني صعق وأفاق قبلي، (أم جوزي بصعقة الطور) التي حصلت في الدنيا، كما قال الله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143] فحصل له الصعق مرتين: مرة في الدنيا، ومرة في يوم القيامة، هذا إن حصل له الصعق في الآخرة، وإن لم يحصل له الصعق في الآخرة، بل سلم من ذلك الصعق، فيكون جوزي بصعقة يوم الطور التي حصلت له في الدنيا، والتي ذكرها الله عز وجل في القرآن: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف:143]، فيكون شأن موسى بالنسبة لهذا الصعق الذي حصل للناس إما أنه حصل له ما حصل لهم، أو أنه لم يحصل له ذلك ولكن حصل له شيء في الدنيا مثله، فجوزي عن تلك الصعقة التي في الدنيا بأنه سلم من هذه الصعقة في الآخرة، وقد جاء في هذا رواية: (أو كان ممن استثنى الله)، فإما أن يكون المقصود به أنه استثني فلم يصعق؛ لأنه قد حصل له ذلك في الدنيا كما جاء في الحديث الآخر، أو يكون المقصود منه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68]، لكن هذه الصعقة التي في هذه الآية المراد بها صعقة الموت لمن كان حياً في آخر الزمان، فهناك صعقة الموت، ثم صعقة البعث، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] أي: ممن لم يشأ الله أن يحصل له الموت، كالذين خلقوا في الجنة ولم يشأ الله موتهم كالحور العين، فإنهن خلقن للبقاء في الجنة، فلا يحصل لهن موت فيكن ممن استثني.
وهذا نقله شارح الطحاوية عن أبي الحجاج المزي، وقال به أيضاً ابن كثير، فذكروا أن الصعق إنما هو في الآخرة عندما يأتي الله لفصل القضاء، وأن موسى عليه الصلاة والسلام إما أن يكون صعق مرة أخرى يوم القيامة فيفيق قبل النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنه لم يصعق ولكنه جوزي بصعقة الدنيا عندما تجلى الله عز وجل للجبل وخر موسى صعقاً، كما جاء ذلك مبيناً في سورة الأعراف.(523/9)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تخيروني على موسى)
قوله: [حدثنا حجاج بن أبي يعقوب].
حجاج بن أبي يعقوب، ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[ومحمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا يعقوب].
هو يعقوب بن أبي إبراهيم بن سعد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبي].
أبوه ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
ابن شهاب هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وأبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو أكثرهم حديثاً.
[قال أبو داود: وحديث ابن يحيى أتم].
ابن يحيى هو محمد بن يحيى الذهلي.(523/10)
شرح حديث (قال رجل لرسول الله: يا خير البرية! فقال رسول الله: ذاك إبراهيم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زياد بن أيوب حدثنا عبد الله بن إدريس عن مختار بن فلفل يذكر عن أنس أنه قال: (قال رجل لرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: يا خير البرية! فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ذاك إبراهيم عليه السلام)].
عرفنا أن المقصود بالتخيير بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يقال: فلان خير من فلان، أو فلان أفضل من فلان، فـ (خير) هذه أفعل تفضيل تحذف الهمزة من أولها، ومثلها في ذلك كلمة شر، فإنها تحذف الهمزة من أولها، ويؤتى بها بدون همزة اختصاراً، وأصلها: أخير وأشر، فيقال: خير وشر، وهاتان اللفظتان يؤتى بهما للمفاضلة وبيان أن هذا أفضل من هذا.
وأورد أبو داود هذا الحديث عن أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا خير البرية! فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك إبراهيم)، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم، وهو أفضل من جميع المرسلين عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم، وأفضل الأنبياء بعده إبراهيم؛ لأن إبراهيم خليل الرحمن ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن، ويلي إبراهيم موسى عليه السلام؛ لأنه كليم الرحمن، وقد اجتمع في نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ما تفرق في غيره، فهو خليل الرحمن، وكليم الرحمن، وإبراهيم خليل الرحمن، وموسى كليم الرحمن.
قوله: (ذاك إبراهيم) أي: الذي هو خير البرية، قال ذلك مع كونه صلى الله عليه وسلم هو خير من إبراهيم وغيره، فقيل: إنه قال ذلك قبل أن يعلم بتفضيله على غيره وأنه أفضل البشر جميعاً، وقيل: إنه قال ذلك على سبيل التواضع.
وفي هذا الحديث دليل على فضل إبراهيم عليه الصلاة والسلام وتفضيله، لكنه لا يدل على أنه أفضل من نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.(523/11)
تراجم رجال إسناد حديث (قال رجل لرسول الله: يا خير البرية! فقال رسول الله: ذاك إبراهيم)
قوله: [حدثنا زياد بن أيوب].
زياد بن أيوب ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الله بن إدريس].
عبد الله بن إدريس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مختار بن فلفل].
مختار بن فلفل صدوق له أوهام، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الإسناد من رباعيات أبي داود، وهي أعلى الأسانيد عنده.(523/12)
شرح حديث (أنا سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن أبي عمار عن عبد الله بن فروخ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول مشفع)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه بيان جملة من فضائله وخصائصه عليه الصلاة والسلام التي اختص بها وتميز بها عن غيره، وأولها قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم)، وهذا يدل على فضله على جميع البشر عليه الصلاة والسلام، وأنه سيدهم، وقد جاء هذا الحديث في صحيح مسلم بلفظ: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)، وجاء في حديث الشفاعة: (أنا سيد الناس يوم القيامة) ثم ذكر حديث الشفاعة، وهو صلى الله عليه وسلم سيد البشر في الدنيا والآخرة، ولكنه نص هنا على يوم القيامة لأن ذلك اليوم هو اليوم الذي يظهر فيه سؤدده على البشر من أولهم إلى آخرهم، وذلك أنهم في ذلك الموقف يموج بعضهم في بعض، ويبحثون عمن يشفع لهم إلى ربهم، فيأتون إلى آدم فيعتذر، ثم إلى نوح فيعتذر، وإلى إبراهيم فيعتذر، وإلى موسى فيعتذر، وإلى عيسى فيعتذر، ثم يأتون إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فيتقدم للشفاعة، ويقول: أنا لها، فيشفعه الله عز وجل، وهذه هي الشفاعة العظمى، فيظهر سؤدده على الجميع في ذلك الموقف؛ لأن شفاعته حصلت للجميع واستفاد منها الجميع، وحصل أثر هذه الشفاعة وفائدتها لكل أهل الموقف، من لدن آدم إلى الذين قامت عليهم الساعة، وقيل لها: المقام المحمود؛ لأنه يحمده عليها الأولون والآخرون.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الأمور عن نفسه لأنه مبين عن الله كل ما يلزم الأمة أن تعتقده، وأن تأخذ به، وأن تعول عليه، ومن ذلك بيان ومعرفة قدر النبي صلى الله عليه وسلم عند الله، وأن له هذه الميزات وهذه الفضائل؛ ليعتقدوها وليعرفوا قدره صلى الله عليه وسلم عند ربه، فهو عليه الصلاة والسلام آخر الأنبياء وليس بعده نبي، بخلاف الأنبياء السابقين فإنه قد جاء بعدهم من الأنبياء من بين فضائلهم، وما يتميز به كل واحد منهم، فقد بين نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فضائل المرسلين، وبين ما اختص به بعضهم، وأما نبينا عليه الصلاة والسلام فليس بعده نبي، وليس بعده وحي يأتي فيه تشريع وبيان ما يحتاج إليه الناس، فالشريعة كاملة تامة، وانتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى بعد أن بلغ البلاغ المبين وأدى للناس كل ما يحتاجون إليه، ولم يتركهم محتاجين إلى شيء، فلا تحتاج هذه الشريعة إلى تكميل، ولا إلى إضافات، ولا إلى بدع ومحدثات.
وفي هذا الحديث دليل على أنه يقال للمخلوق: سيد، ويكون ذلك لمن يستحق السيادة، ولا تقال لكل أحد، بل قد جاء النهي عن إطلاقها على من لا يستحقها كالمنافقين، فلا يقال للمنافق: سيد، ولا يقال للكافر: سيد، ولا يقال لمن لم يستحق السيادة إنه سيد، وقد جاء في السنة أيضاً إطلاق السيادة على بعض الصحابة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حق سعد بن معاذ: (قوموا إلى سيدكم)، فإطلاق ذلك على المخلوق سائغ، وقد جاء ما يدل على أن السيد هو الله عز وجل، وهو من أسمائه سبحانه وتعالى، ويجمع بين هذا وهذا: بأن السؤدد الكامل الذي لا يماثله شيء هو المضاف إلى الله عز وجل، وأما المخلوق فيضاف إليه السؤدد الذي يناسبه، ولكن لا يغالى ولا يتجاوز الحد في ذلك.(523/13)
اختصاص النبي بأنه أول من ينشق عنه القبر، وأول شافع ومشفع
قوله: [(وأول من ينشق عنه القبر)] أي: أول من يبعث، وهذه من خصائصه عليه الصلاة والسلام.
ثم قال: (وأول شافع، وأول مشفع)، فهو أول من يتقدم للشفاعة، وهو أول من تجاب وتحقق شفاعته، وقد جمع بينهما في الحديث لبيان أن الأولية حاصلة له في الحالتين، وذلك أنه قد يحصل التقدم للشفاعة بأن يتقدم شخص ويتقدم شخص، ثم قد يشفع الثاني قبل الأول، لكن جاء في هذا الحديث ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت فيه الأوليتان: الأولية المتعلقة بالتقدم للشفاعة، والأولية المتعلقة بقبول الشفاعة وتحقيقها وحصولها، فهذه من خصائصه عليه الصلاة والسلام وميزاته، وقوله في هذا الحديث: (أول من ينشق عنه القبر) يدلنا على أن المقبورين باقون في قبورهم، وبالنسبة للرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهم باقون في قبورهم على هيئتهم التي وضعوا فيها، فلا تأكلهم الأرض، ولا تغير الأرض شيئاً منهم؛ لأن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، وهم يخرجون منها عند البعث، ولا يخرجون قبل البعث، فلا يقال: إن جسد الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره يخرج من قبره ويبقى القبر ليس فيه جسد، بل إن كل ميت باق في قبره، فإن كان نبياً فإنه باق على هيئته، وإن كان غير نبي فمن الناس من يبقى على هيئته، ومنهم من تأكله الأرض، كما قال الله عز وجل: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق:4] أي: فنحن سنعيده من التراب عند البعث، والأجساد التي أكلتها الأرض هي التي ترجع ذراتها حتى يتكون منها الإنسان الذي قبر، ولا يبعث جسد جديد غير الجسد الذي دفن، بل إن الجسد الذي دفن هو الذي يبعث، وإذا كانت الأرض قد أكلته فإن الله تعالى يعلم ما أخذته الأرض فيعيده، فترجع كل ذرة من ذرات جسده إلى مكانها، ثم يبعث الله ذلك الجسد الذي كان في الدنيا ثم قبر، ولا يبعث جسداً آخر، ولا يخرج أحد من قبره قبل البعث، وأما بعض الدجالين من غلاة الصوفية فإنهم يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج من قبره، ويصافح بعضهم يقظة لا مناماً، فهذا من الدجل، وهو مخالف لما جاء في الكتاب والسنة، فهو يخالف ما جاء في هذا الحديث: (وأول من ينشق عنه القبر)، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أول من يخرج من القبر، وقولهم مخالف للقرآن في قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:16]، فالناس لا يبعثون ولا يخرجون من قبورهم قبل يوم القيامة، وإنما يكون ذلك إذا جاء البعث والنشور، {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:16]، وهؤلاء الضلال من الصوفية يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم طلع من قبره، ومد يده لبعض ممن يزعمون أن فيه الولاية! وهذا من الدجل كما ذكرنا.
وكون الرسول صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة برزخية لا يعني ذلك: أنه يخاطب ويطلب منه شيء، وإنما يسلم عليه، ويدعى له فقط، فيدعى له ولا يدعى هو، والله تعالى هو الذي يدعى، والخلق كلهم يدعى لهم ولا يدعون، فلا يطلب شيء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقول إنسان: يا رسول الله! الشفاعة، يا رسول الله! أريد كذا، يا رسول الله! حقق لي كذا، بل تطلب الشفاعة من الله، فيقال: اللهم! شفع فيَّ نبيك، اللهم! اجعلني من الفائزين بشفاعته، اللهم! اجعلني ممن أكرمته بشفاعة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام، فيطلبها من الله ولا يطلبها من غيره، فالدعاء عبادة، والعبادة إنما تكون لله سبحانه وتعالى، فلا يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم شيء وهو في قبره، ومما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يطلب منه شيء وهو في قبره أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا في زمنه عليه الصلاة والسلام إذا حصل جدب أو قحط فإنهم يأتون إليه ويطلبون منه الدعاء، فيدعو لهم ويغيثهم الله عز وجل، ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذهبوا إلى قبره ويطلبوا منه الدعاء أن الله يغيثهم، وإنما طلبوا من بعضهم أن يدعو، كما حصل من عمر رضي الله عنه، فقد حصل في زمنه جدب وقحط فخرج بالناس للاستسقاء، وطلب من العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم ويدعو، وقال: اللهم! إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قم يا عباس! فادع الله، واختار العباس مع أن غير العباس أفضل منه لأنه عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أقرب الناس إليه، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يورث عنه المال لورثه العباس؛ لأنه أقرب القرابات إليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)، فاختاره رضي الله عنه لأنه عم النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر أفضل منه، وبعض الصحابة أفضل منه كـ عثمان وعلي، وهؤلاء موجودون في زمن عمر رضي الله عنه، ومع ذلك لم يطلب منهم ذلك، وإنما طلبه من عمه؛ لأنه أقرب الناس إليه، وليس المقصود هو التوسل بشخص العباس، وإنما المقصود قرابة العباس من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: إنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فلو كان طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبره سائغاً لما عدل عمر رضي الله عنه إلى طلب الدعاء من العباس، ولقال: يا رسول الله! ادع الله أن يغيثنا، فلما عدل عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة معه إلى طلب الدعاء والسؤال من الله عز وجل عن طريق حي موجود معهم، ولم يتقدموا بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم دل هذا على أنه لا يجوز الطلب من النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبره شيء، وغيره من باب أولى.
ومما يدل على ذلك أيضاً أن البخاري رحمه الله عقد في (كتاب المرضى) من صحيحه باب: قول المريض: وا رأساه! وذكر حديث عائشة لما قالت: (وا رأساه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان ذاك وأنا حي دعوت لك، واستغفرت لك) أي: لو مت قبلي دعوت لك واستغفرت لك، فهذا يدل على أن الدعاء إنما هو في الحياة، وأنه لا يطلب منه شيء بعد وفاته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ولو كان الأمر سواء ولا فرق بين قبل الموت وبعده لما قال لها ذلك؛ لأن الأمر سيان، فلما قال لها ذلك دل على أن هذا إنما يطلب منه في حياته صلى الله عليه وسلم، ولا يطلب منه شيء وهو في قبره، وأما ما ابتلي به بعض الناس من الجهل المطبق الذي حملهم على أن يأتوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويخاطبونه ويقولون: يا رسول الله! أريد كذا، يا رسول الله! حقق لي كذا، يا رسول الله! مدد، فكل هذا من الشرك بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً لا يطلب إلا من الله سبحانه وتعالى.
ويستدل البعض بقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم) على ملازمة قوله: سيدنا كلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك وهم أشد الناس محبة للرسول صلى الله عليه وسلم من غيرهم، وهم أسبق الناس إلى كل خير، وأحرص الناس على كل خير، والدليل على هذا: هذه الأحاديث التي نقرؤها، فالكتب الستة وغيرها كلها تنتهي إلى الصحابي، والصحابي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، ولو كانوا يقولون: سيدنا لنقل ذلك عنهم، فقد عرفنا أن أبا داود وغيره من المصنفين في الحديث يميزون بين كلمة (النبي) وكلمة (الرسول) فيما إذا قال أحد الرواة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: قال النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم يميزون بين هذا وهذا، فيقولون: فلان قال: النبي، وفلان قال: رسول الله، مع أن النتيجة واحدة، فالنبي هو الرسول والرسول هو النبي، والمقصود بذلك شخص واحد، لكن كل هذا للحفاظ على اللفظ، فلو كانت كلمة (سيدنا) موجودة لحافظوا عليها وأبقوها، ولم يتركوها، فدل هذا على أن الالتزام بذلك ليس من طريقة الصحابة ولا السلف الصالح، نعم هو سيدنا صلى الله عليه وسلم، لكن كونه لا يأتي ذكره إلا ويؤتى بهذا فلم يكن الصحابة على هذا.(523/14)
التفضيل بين الملائكة وصالحي البشر
نقل صاحب (العون) عن النووي رحمه الله أنه قال: في الحديث دليل على تفضيله صلى الله عليه وسلم على الخلق كلهم، ومذهب أهل السنة أن الآدميين أفضل من الملائكة، وهو صلى الله عليه وسلم أفضل من الآدميين وغيرهم.
وقد ذكرت فيما مضى أن مسألة التفضيل بين صالحي البشر والملائكة مسألة خلافية، وذكرت أن شارح الطحاوية ذكر هذه المسألة، وذكر أدلة الفريقين، وجواب كل فريق على الآخر، وانتهى إلى الوقف وعدم الجزم، والمشهور عند أهل السنة أن صالحي البشر مفضلون على الملائكة، والمسألة خلافية بين أهل السنة، فمنهم من يقول بخلاف هذا القول.
وقد ذكر بعض الإخوان أن ابن القيم رحمه الله نقل عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه سئل عن صالحي بني آدم والملائكة أيهما أفضل؟ فأجاب: إن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية، والملائكة أفضل باعتبار البداية، فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى منزهون عما يلابسه بنو آدم، مستغرقون في عبادة الرب، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر، وأما في يوم القيامة بعد دخول الجنة فيصير حال صالحي البشر أكمل من حال الملائكة.
ثم قال: وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل، وتتفق أدلة الفريقين، ويصالح كل منهم على حقه.
انتهى.
على كل؛ لا شك أن هذا الكلام الذي قاله شيخ الإسلام واقع من ناحية أن الملائكة الآن معصومون {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، وأنهم ليس لهم عمل غير العبادة، ولا يحصل منهم الخطأ والعصيان، وأما بالنسبة للآخرة فلا شك أن البشر مكرمون، لكن كونهم أفضل من الملائكة في الدار الآخرة الله تعالى أعلم.
ونقل بعض الإخوان أن شيخ الإسلام رحمه الله ذكر في مجموع الفتاوى: أن همته لم تنبعث لتحقيق القول في هذه المسألة حتى وجدها أثرية سلفية صحابية.(523/15)
تراجم رجال إسناد حديث (أنا سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض)
قوله: [حدثنا عمرو بن عثمان].
عمرو بن عثمان هو الحمصي، وهو صدوق، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الوليد].
هو الوليد بن مسلم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأوزاعي].
الأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، فقيه الشام ومحدثها، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عمار].
أبو عمار هو شداد بن عبد الله، وهو ثقة، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن فروخ].
عبد الله بن فروخ ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو أكثر السبعة حديثاً.(523/16)
شرح حديث (ما أدري أتبع لعين هو أم لا، وما أدري أعزير نبي هو أم لا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني ومخلد بن خالد الشعيري المعنى، قالا: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما أدري أتبع لعين هو أم لا، وما أدري أعزير نبي هو أم لا)].
ثم أورد أبو داود هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أدري أتبع لعين أم لا، وعزير نبي أم لا)، وهذا قاله صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلم عن حاله، وقد جاء ما يدل على أنه قد أسلم فلا يكون لعيناً، وأما عزير فلم يأت شيء يدل على أنه نبي.(523/17)
تراجم رجال إسناد حديث (ما أدري أتبع لعين هو أم لا، وما أدري أعزير نبي هو أم لا)
قوله: [حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني].
محمد بن المتوكل العسقلاني صدوق له أوهام كثيرة، أخرج حديثه أبو داود.
[ومخلد بن خالد الشعيري.
] مخلد بن خالد الشعيري ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي ذئب].
هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن أبي سعيد].
هو سعيد بن أبي سعيد المقبري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.(523/18)
شرح حديث (أنا أولى الناس بابن مريم، الأنبياء أولاد علات)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أن أبا سلمة بن عبد الرحمن أخبره أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أنا أولى الناس بابن مريم، الأنبياء أولاد علات، وليس بيني وبينه نبي)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أولى الناس بعيسى بن مريم)؛ ذلك لأنه أقربهم إليه، فليس بينه وبينه نبي.
قوله: [(والأنبياء أولاد علات)]، أي: أن دينهم واحد وشرائعهم شتى، {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، وأولاد العلات في الأصل هم الإخوة لأب، وأما الأمهات فمتعددات، فهنا شيء يجمعهم وشيء يفرقهم، فالأنبياء يجمعهم أصل الدين، فهو واحد في جميع الرسالات، ويختلفون في الشرائع.
ويقال للإخوة الأشقاء: أولاد أعيان، ويقال للإخوة لأم: أولاد أخياف، وإذا كانوا من أب قيل لهم: أولاد علات.(523/19)
تراجم رجال إسناد حديث (أنا أولى الناس بابن مريم، الأنبياء أولاد علات)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن وهب].
ابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
مر ذكره.(523/20)
الأسئلة(523/21)
هل يقال في حق النبي: إنه أفضل الخلق؟
السؤال
ذكر بعض أهل العلم أنه لا يقال في حق النبي عليه الصلاة والسلام: أفضل الخلق، وإنما يقال: سيد ولد آدم، أو أفضل الثقلين ونحو ذلك؛ اقتصاراً على ما ورد، فهل هذا صحيح؟
الجواب
هناك خلاف مشهور بين أهل العلم في التفضيل بين الملائكة والبشر، وقد ذكر ذلك شارح الطحاوية، وذكر أدلة الفريقين على ذلك، وجواب كل فريق عن أدلة الفريق الآخر، وانتهى إلى الوقف، وأنه لا يجزم بشيء؛ لأنه لم يأت دليل يفصل في ذلك، ولكن المشهور عند أهل السنة هو تفضيل الأنبياء وصالحي البشر.
وأما أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الثقفين فليس فيه إشكال.
وهنا فائدة يذكرها بعض الإخوة أن الشيخ ناصر رحمه الله في أشرطة شرح (الأدب المفرد) في مسألة التفضيل بين الملائكة والبشر على سبيل الجنس، فقال: إن الملائكة أفضل، واستدل على ذلك بحديث صحيح أخرجه الطبراني: (أن الله عز وجل يقول للملائكة: اذهبوا فسلموا على عبادي هؤلاء، فيقولون: أنذهب إليهم ونحن خيرة خلقك؟) إلى آخره، فقال الشيخ: وهذا نص على أنهم خيرة الخلق، ولم يأت في الحديث أن الله عز وجل أنكر عليهم.
وهذا الحديث في (السلسلة الصحيحة) (7/رقم 3344)، فيتحقق من هذا الحديث.(523/22)
نصيحة لمن وجد في قلبه وسوسة تجاه التوحيد
السؤال
بماذا تنصحون من يجد في قلبه وسوسة تجاه التوحيد؟
الجواب
لا أدري كيف تكون هذه الوسوسة، فإذا كان المقصود منها: أنه يجد في نفسه شيئاً، أو يحوك في نفسه شيء يجد أن التكلم به صعب فهذا قد جاء في الحديث ما يدل على حسنه، وأن الإنسان الذي يجد هذا الشيء ثم لا يتحدث ولا يتكلم به، وإنما يعرض عنه، أن هذا يدل على إيمان صاحبه، وقد جاء في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا جاءت الإنسان وساوس الشيطان فيما يتعلق بالتوحيد والعقيدة فإن عليه أن يتعوذ بالله من الشيطان، ويقول: آمنت بالله، وقد جاء: (لا يزال الشيطان بالإنسان يقول له: من خلق كذا، ومن خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فمن وجد شيئاً من ذلك فلينته، وليقل: آمنا بالله).(523/23)
وصف من كان من أهل البيت بالسيد
السؤال
ما حكم تصدير الاسم بكلمة السيد للدلالة على أن الشخص ينتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
لا يفعل ذلك، فكل أحد الآن يقال له: سيد، بل صار ذلك يقال للكفار والمنافقين، وهذا يسمع في الإذاعات، فالسيادة امتهنت في هذا الزمان، وصارت تعطى لمن لا يستحقها، وصار السؤدد الآن بالمجان، والأمر كما قال الشاعر: لولا المشقة ساد الناس كلهم فالسؤدد لا يحصل إلا بالمشقة، وليس كل أحد يستطيع المشقة، فلولا المشقة لصار كل واحد سيداً.(523/24)
حكم الإتيان بالعلماء أو طلبة العلم ليقرءوا القرآن عند نزول حاجة معينة
السؤال
عندنا عادة منتشرة وهي أن من كان له حاجة معينة فإنه يستدعي بعض أهل العلم أو طلبة العلم ليقرءوا له القرآن ويدعو له بقضاء حاجته، فيتوزع هؤلاء القرآن بينهم أجزاءً أو أحزاباً، فيقرأ كل واحد منهم ما أعطي حتى يختموا القرآن كاملاً ثم يدعون الله له عقب ذلك، وأحياناً يذبحون تقرباً إلى الله، فما حكم هذا العمل؟
الجواب
لا نعلم أساساً لهذا العمل، والإنسان إذا كان له حاجة فإنه يسأل الله تعالى حاجته، والله تعالى يجيب من دعاه، وأما هذا الفعل المذكور فلا نعلم له أساساً.(523/25)
لا يقال للفاسق سيد
السؤال
هل يجوز أن يقال لمن ظاهره الفسق: سيد؟
الجواب
لا يقال له ذلك.(523/26)
حكم من يتكلم فيما شجر بين الصحابة
السؤال
هل يعتبر من تكلم فيما شجر بين الصحابة بالذم من أهل البدع؟
الجواب
لا شك أن من يذم الصحابة ويعيبهم أنه من أهل البدع، أو عنده بدعة، فإذا كان من أعداء أهل السنة والجماعة ومن المنحرفين عن أهل السنة والجماعة كالروافض وغيرهم، فلا شك أنه من أهل البدع، وأما إذا حصل من بعض أهل السنة شيء من الخطأ والغلط في أمر من الأمور، أو خفي عليه أمر ولم يعلم، أو لم ينبه، فمثل هذا لا يقال في حقه ما يقال في حق المبتدعين الذين هم في واد وأهل السنة في واد آخر.(523/27)
الجمع بين نهي النبي أصحابه عن دعوته بالسيد وبين قوله (إن ابني هذا سيد)
السؤال
ما الجمع بين نهي النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه عن دعوته بالسيد، وقوله في حديث الباب: (إن ابني هذا سيد)؟
الجواب
لم ينههم الرسول صلى الله عليه وسلم نهياً مطلقاً، وإنما قال: (قولوا بقولكم، أو بعض قولكم)، والمعنى: أنكم لا يستهوينكم الشيطان فتزيدوا في الأمر، فأراد منهم أن يكفوا عن المبالغة، وإلا فإنه قد أخبر عن نفسه بأنه سيد، فقال: (أنا سيد ولد آدم، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع)، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وقال: (أنا سيد الناس يوم القيامة) كما جاء في حديث الشفاعة الطويل، وقوله هنا: (أنا سيد الناس يوم القيامة) مع أنه سيدهم في الدنيا والآخرة صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في ذلك اليوم يظهر سؤدده على الجميع من لدن آدم إلى آخر البشر، فالناس في يوم المحشر يجتمعون في صعيد واحد، ويموج بعضهم في بعض، فيبحثون عمن يشفع لهم إلى الله ليخلصهم مما هم فيه من شدة الموقف، فيذهبون إلى آدم فيعتذر، وإلى نوح فيعتذر، وإلى إبراهيم فيعتذر، وإلى موسى فيعتذر، وإلى عيسى فيعتذر، ثم يأتون إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فيقول: أنا لها، ثم يتقدم ويشفع فيشفعه الله عز وجل، وهذه الشفاعة يقال لها: المقام المحمود، وسميت مقاماً محموداً لأنه يحمده عليه الأولون والآخرون، فظهر سؤدده فيها على الأولين والآخرين، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا تبليغاً عن الله ومبيناً عظيم منزلته عند الله عز وجل، فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس بعده نبي يبين منزلته عند الله، فشريعته صلى الله عليه وسلم هي آخر الشرائع، وقد بين ما يتعلق به صلى الله عليه وسلم مما يعتقد في حقه عليه الصلاة والسلام كما في هذه الأحاديث.(523/28)
القول فيما شجر بين الصحابة من الاقتتال
السؤال
ما قولكم فيما شجر بين علي ومعاوية من الاقتتال، وقول النبي صلى الله عليه وسلم عن عمار: (تقتله الفئة الباغية)؟
الجواب
جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، ولكن أولئك الذين حصل منهم المقابلة لـ علي كان الدافع لهم إلى ذلك هو الخلاف حول قتلة عثمان، وكان معاوية من قبيلة عثمان، فكلاهما من بني أمية، فأراد معاوية رضي الله عنه أن يقتص من القتلة، ورأى علي رضي الله عنه أن يستتب له الأمر أولاً، ثم يتتبعون القتلة، فكل مجتهد، ولا يعدم الأجر أو الأجرين.(523/29)
شرح سنن أبي داود [524]
الإيمان عند أهل السنة هو قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وقد ظهرت فرق من أهل الإسلام تقول بالإرجاء، وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب، ولا فرق بين أتقى الناس وأفجر الناس ما دام أن الكل مسلم، وهذا قول غلاة المرجئة، أما مرجئة الفقهاء فيقولون: إن الإيمان قول وتصديق ولا يلزم معه العمل، ومع ذلك فلا يخرج مرجئة الفقهاء من دائرة أهل السنة والجماعة.(524/1)
ما جاء في رد الإرجاء(524/2)
شرح حديث (الإيمان بضع وسبعون شعبة: أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة العظم عن الطريق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في رد الإرجاء.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة العظم عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في رد الإرجاء].
والإرجاء في اللغة: هو التأخير، قال الله عز وجل: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة:106] أي: مؤخرون، وقال: {قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ} [الأعراف:111] أي: أخره وأخاه.
وأما في الاصطلاح: فهو تأخير الأعمال عن أن تكون داخلة في الإيمان.
وينقسم الإرجاء إلى قسمين: إرجاء الغلاة وإرجاء الفقهاء، وإرجاء الغلاة: أنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، ولا فرق بين أتقى الناس وأفجر الناس، فما دام أن الكل مسلم فهم متساوون، ولا فرق بين هؤلاء وهؤلاء، ولا يتفاوت الناس في الإيمان، وهذا مخالف للنصوص الكثيرة الدالة على أن الذنوب تضر أصحابها، وأن أمر صاحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وأما الطاعة مع الكفر فلا تنفع، فالكافر إذا حصلت منه طاعة فإنها تكون مردودة وغير مقبولة، كقوله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23].
وأما مرجئة الفقهاء فهم الذين يقولون: إن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان هو تصديق بالقلب، وقول باللسان، وأما عمل الجوارح فلا يدخل في مسمى الإيمان، والمعروف عند أهل السنة والجماعة أن الإيمان يتكون من هذه الأمور الثلاثة: التصديق بالجنان، وقول باللسان، والعمل بالجوارح والأركان.
ونورد هنا أقوال كبار أئمة السلف الدالة على موقفهم من الإرجاء: قال سفيان الثوري رحمه الله: خالفنا المرجئة في ثلاث: نحن نقول: الإيمان قول وعمل، وهم يقولون: قول بلا عمل، ونحن نقول: يزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص، ونحن نقول: أهل السنة عندنا مؤمنون، أما عند الله فالله أعلم، وهم يقولون: نحن عند الله مؤمنون.
أي: مؤمنون كاملو الإيمان، فعندهم أن كل إنسان مسلم فهو كامل الإيمان.
وهذا الأثر أخرجه البيهقي في كتاب (الاعتقاد إلى سبيل الرشاد).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقالت المرجئة -على اختلاف فرقهم-: لا تذهب الكبائر وترك الواجبات الظاهرة شيئاً من الإيمان، إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء، فيكون شيئاً واحداً يستوي فيه البر والفاجر، ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه تدل على ذهاب بعضه وبقاء بعضه، كقوله: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان).
وهذا كلام صحيح، وهذا هو الواقع، فالناس متفاوتون في الإيمان، ففيهم من هو كامل الإيمان، وفيهم من هو ناقص الإيمان، وكلهم مؤمنون، لكن لا يقال: إن أتقى الناس وأفجر الناس سواء.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله: عمن قال: الإيمان يزيد وينقص؟ قال: هذا بريء من الإرجاء.
وقال الإمام البربهاري: ومن قال: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص؛ فقد خرج من الإرجاء كله: أوله وآخره.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، إذا زنى وشرب الخمر نقص إيمانه.
وقال الإمام أحمد: قيل لـ ابن المبارك: ترى الإرجاء؟ قال: أنا أقول: الإيمان قول وعمل، وكيف أكون مرجئاً؟! وقال أبو عثمان الصابوني رحمه الله: ومن مذهب أهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ومعرفة، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
وأخرج الآجري من طريق أحمد بن حنبل عن عمير بن حبيب قال: الإيمان يزيد وينقص، فقيل: وما زيادته، وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله فحمدناه وسبحناه فتلك زيادته، وإذا غفلنا وضيعنا ونسينا فذلك نقصانه.
وقال الزهري رحمه الله: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على الملة من هذه، يعني: أهل الإرجاء.
والمقصود من ذلك: أنها تؤدي إلى التسيب والانفلات من الأحكام الشرعية، فالمرجئة يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، أي: أن للإنسان أن يفعل المعاصي كيف يشاء، ومع ذلك فإنه يكون مؤمناً كامل الإيمان، ففيها التسيب والانفلات، وفيها عدم الاهتمام بالتكاليف؛ لأن التكاليف عندهم تركها لا يؤثر، والمعاصي فعلها لا يؤثر، فهذا يدل على خطورتها من ناحية الانفلات من الأحكام الشرعية.
وقال الحميدي: سمعت وكيعاً يقول: أهل السنة والجماعة يقولون: الإيمان قول وعمل، والمرجئة يقولون: الإيمان قول، والجهمية يقولون: الإيمان المعرفة، أي: التصديق.
وقد ذكر البخاري رحمه الله أنه لقي أكثر من ألف شيخ كلهم يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.
وقال الأوزاعي رحمه الله: ثلاث هن بدعة: أنا مؤمن مستكمل الإيمان، وأنا مؤمن حقاً، وأنا مؤمن عند الله.
لأن هذه أقوال المرجئة، فمؤمن مستكمل الإيمان عندهم، يعني: كل الناس مؤمنون كاملو الإيمان، ومؤمن حقاً هو بمعناه، يعني: عنده حقيقة الإيمان، وكذلك مؤمن عند الله، فهي كلها بمعنى واحد.
وقال سعيد بن جبير رحمه الله: مثل المرجئة مثل الصابئين.
وممن روي عنه أن الإيمان قول وعمل: الحسن وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز وعطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والنخعي والزهري ومالك والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وغيرهم فهم لا يحصون، وقد ذكر الإمام البخاري أن أكثر من ألف شيخ لقيهم كلهم يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.
وقال محمد بن جرير الطبري: والصواب لدينا من القول: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وبه الخبر عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه مضى أهل الدين والفضل.
يقول: ثم أول من تكلم بالإرجاء هو: زرقان بن غيلان، قال: إن الإيمان هو الإقرار باللسان، وهو التصديق.
نقله في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) للالكائي.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة العظم عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، والمقصود من إيراد هذا الحديث أن الإيمان له شعب، وأن الأعمال داخلة في هذه الشعب، مثل إماطة العظم عن الطريق، فهذا عمل من الأعمال وأدخله في الإيمان، وكذلك قول اللسان هو عمل اللسان، وكذلك الحياء شعبة من الإيمان، وهو عمل القلب، فكل هذه داخلة في مسمى الإيمان وهي أعمال، ولكن الشيء الذي هو عمل واضح في هذا الحديث هو إماطة العظم عن الطريق، وقد جاء في بعض الروايات: إماطة الأذى، وهو أعم من أن يكون عظماً، فقد يكون الأذى شوكاً، أو عظماً، أو زجاجاً، أو حجراً، أو شيئاً يحصل به الانزلاق كقشر الموز، وغير ذلك من الأشياء، فإزالة ذلك من الإيمان.
فهذا الحديث يدل على أن هذه كلها داخلة تحت مسمى الإيمان، وأنها شعبة من شعبه، وفيها ما هو عمل.(524/3)
تراجم رجال إسناد حديث (الإيمان بضع وسبعون شعبة: أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة العظم عن الطريق)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة بن دينار البصري، وهو ثقة عابد تغير حفظه بأخره، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا سهيل بن أبي صالح].
سهيل بن أبي صالح صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وروايته في (صحيح البخاري) مقرونة، وأما مسلم فقد أخرج له في صحيحه في الأصول.
[عن عبد الله بن دينار].
عبد الله بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
أبو صالح هو ذكوان السمان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وسهيل يروي عن أبيه مباشرة، ولكنه هنا يروي عنه بواسطة.
[عن أبي هريرة].
قد مر ذكره.(524/4)
شرح حديث (أتدرون ما الإيمان بالله؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثني يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني أبو حمزة، قال سمعت ابن عباس قال: (إن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم بالإيمان بالله، قال: أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن وفد عبد القيس)، وهم من ربيعة بن نزار، ويلتقي نسبهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في نزار، وربيعة هو أخو مضر الذي هو من آباء الرسول صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء كانوا ممن تقدم إسلامه، وكانوا في البحرين، وكانوا -كما جاء في بعض طرق هذا الحديث- لا يستطيعون أن يأتوا إليه إلا في شهر حرام، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: (إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، ولا نستطيع أن نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر نعمل به ونبلغه من وراءنا، فقال: آمركم بالإيمان) الحديث، ثم قال: (أتدرون ما الإيمان؟)، ففسره لهم (بالشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا الخمس مما غنمتم)، وهذه كلها أعمال، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بها، فدل على أنها داخلة في مسمى الإيمان.(524/5)
تراجم رجال إسناد حديث (أتدرون ما الإيمان بالله؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبو جمرة].
أبو جمرة هو نصر بن عمران الضبعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأبو جمرة هذا مشهور بالرواية عن ابن عباس، بل جاء في بعض طرق هذا الحديث في (صحيح البخاري) أن ابن عباس قال له: ألا أجعل لك شيئاً من مالي حتى تبلغ عني الناس، فكان يأتي يسمع الحديث منه، ثم يبلغه للناس.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا حجة في اتخاذ المحدث المستملي؛ كي يبلغ الناس، أو يبلغ صوته للناس إذا كانوا كثيرين ولا يصل صوته إليهم.
وهناك شخص آخر يروي عن ابن عباس يقال له: أبو حمزة القصاب، وهو يشتبه بهذا من ناحية من قبيل المؤتلف والمختلف.
وأبو حمزة القصاب هذا هو الذي روى عن ابن عباس الحديث المتعلق بـ معاوية: (لا أشبع الله بطنه) كما في (صحيح مسلم)، وهذا الحديث يعتبر محمدة له وليس مذمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم! من دعوت عليه دعوة ليس لها بأهل فأبدل ذلك له زكاة وطهراً).(524/6)
شرح حديث (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)، وهذا يدلنا على عظم شأن الصلاة، وأن تركها كفر، والمقصود بالترك الترك تهاوناً وكسلاً وليس جحوداً، وأما الجحود فإن من جحد ما هو أقل منها فإنه يكفر به باتفاق المسلمين، وإنما الكلام في الترك كسلاً وتهاوناً.
وهذا الحديث مما استدل به من قال بكفر تارك الصلاة، وأوضح ما يستدل به على كفره أيضاً الحديث الذي جاء في قتال الأمراء والخروج عليهم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان)، وجاء في بعض الروايات: (لا ما صلوا)، فدل هذا على أنهم إذا لم يصلوا فقد حصل الكفر الذي فيه من الله برهان.
وهذا الحديث دال أيضاً على ما ذكره المصنف في هذا الباب من جهة أن الصلاة هي من جملة الأعمال وهي داخلة في مسمى الإيمان، لأن تركها يكون كفراً، والكفر مقابل للإيمان.(524/7)
تراجم رجال إسناد حديث (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن حنبل مر ذكره.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
هو أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(524/8)
الأسئلة(524/9)
هل الخلاف بين أهل السنة والمرجئة خلاف لفظي
السؤال
هل خلاف أهل السنة مع مرجئة الفقهاء خلاف لفظي كما يقول شارح الطحاوية؟
الجواب
شارح الطحاوية يقول: إنه لفظي، وهو نفسه قد أشار إلى محاذير تتعلق بذلك، منها: أنه وسيلة إلى القول المذموم الذي هو قول غلاة المرجئة، وهو أيضاً وسيلة إلى التساهل في أمر الأعمال وتهوين شأنها.(524/10)
عدم خروج مرجئة الفقهاء عن دائرة أهل السنة والجماعة
السؤال
هل مرجئة الفقهاء خارجون عن دائرة أهل السنة والجماعة؟
الجواب
لا، ليسوا بخارجين من أهل السنة والجماعة، ولكنهم أخطئوا في هذا.(524/11)
حكم من ترك جميع الأعمال ولم يأت إلا بالشهادتين
السؤال
لو قال بلسانه الشهادتين، واعتقد بقلبه التوحيد، ولم يعمل خيراً طيلة حياته، فلم يقم بواجب ولم يترك محرماً، فهل هذه المقالة مقالة الإرجاء؟
الجواب
هذه المقالة لا شك أنها سيئة، وقد جاءت النصوص بأن ترك الصلاة كفر، وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يعتبرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة، فمثل هذا القول يدل على خلاف هذا الذي جاء عن الصحابة، ولا يقال: إن المقصود من ذلك الجحود؛ لأن الجحود كفر باتفاق وإجماع المسلمين، بل حتى لو جحد ما هو دون الصلاة فإنه يكفر، والذي جاء عن الصحابة إنما هو في التهاون والكسل.(524/12)
الجمع بين كون النبي صلى بالأنبياء ليلة الإسراء وبين قوله: (وأول من تنشق عنه الأرض)
السؤال
كيف الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم (وأول من تنشق عنه الأرض) وكون النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى بالأنبياء ورآهم في ليلة الإسراء والمعراج؟
الجواب
هذا الذي رآه ليست هي الأجساد، فالأجساد لا تخرج من الأرض وتبقى القبور خالية، وإنما الأمر كما قال بعض أهل العلم: إن الذي رآه صلى الله عليه وسلم هو أرواحهم في صور أجسادهم، وإلا فإن الأجساد هي في الأرض إلى يوم البعث والنشور، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى بالأرواح التي هي بصور الأجساد.(524/13)
هل الأعمال شرط كمال أو شرط صحة؟
السؤال
هل الأعمال شرط كمال أو شرط صحة في الإيمان؟
الجواب
هي جزء منه، ومنها ما هو شرط كمال، ومنها ما هو شرط صحة، فمنها ما يكون لا بد منه لأنه يحصل به الكمال، ومنها ما يحصل به الأساس مثل الصلاة، فإن الصلاة لا يقال: إن الإنسان إذا أتى بها حصل كمالاً وإذا لم يأت بها لم يحصل شيئاً، وهذا على القول الصحيح بأنه كفر.
فالكمال بالنوافل، وأما الفرائض فهي على سبيل الوجوب واللزوم، ولا بد منها.
وفي هذه الأيام أصبحنا نسمع أن من ترك جنس العمل فإنه يكفر، ومعنى ترك جنس العمل: ترك أي عمل من الأعمال، وهذا هو معتقد الخوارج الذين يكفرون مرتكب الكبيرة، فعندهم أن من ترك جنس العمل -أي: ترك أي شيء من العمل- فإنه يكفر، والصواب: أن الأعمال مثلها كمثل جسد الإنسان، فهي متفاوتة، فمنها أشياء إذا ذهبت بقي الإيمان، ومنها أشياء إذا ذهبت ذهب الإيمان، فجسد الإنسان لو قطعت منه أصبعاً بقي الجسد، لكن لو قطع رأسه أو قطع منه شيء قاتل فإنه يذهب.(524/14)
حكم لبس الخف في حال الإحرام لعذر
السؤال
ما حكم من لبس الخف في القدم حال الإحرام؛ لأن القدم تتعبه وهو يتألم منها؟
الجواب
إذا كان الخف يظهر منه الكعبان ولا يغطيهما فلا بأس به.(524/15)
الشيخ الألباني والإرجاء
السؤال
كثر الكلام بين طلبة العلم في الآونة الأخيرة حول مسألة الإرجاء خاصة عند الشيخ الألباني رحمه الله، فنرجو من فضيلتكم أن تبينوا لنا: هل الشيخ الألباني وقع في الإرجاء كما يزعم البعض أم أنه بريء منه؟
الجواب
بالنسبة للشيخ الألباني فأنا لم أقرأ شيئاً من التفاصيل عنه، ولكن الذي أفهمه أن هذا الذي نسب إليه إنما هو بسبب القول بأن ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً ليس كفراً، ومشهور بين أهل العلم أن ذلك لا يعتبر كفراً، فكثير من أهل العلم قال بهذا القول، فلا يعتبر من قال بذلك مرجئاً.(524/16)
حكم ترك جنس العمل
السؤال
هل أجمع العلماء على أن ترك جنس العمل كفر؟
الجواب
كيف يكون ذلك والذين يقولون: إن ترك جنس العمل كفر إنما هم الخوارج؟ فهم يقولون: إن الإنسان إذا ارتكب معصية فإنه يخرج من الإيمان ويصير كافراً، ويقول المعتزلة: إنه يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، فهو في منزلة بين المنزلتين، لكنهم يتفقون مع الخوارج في كونه خالداً في النار أبد الآباد.
ويقابلهم في الجانب الآخر المرجئة، وعندهم أن مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، والحق وسط بين هؤلاء وهؤلاء، وهو ما عليه أهل السنة والجماعة، فهم يقولون: هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو هو مؤمن ناقص الإيمان، فقولهم: مؤمن، خالفوا فيه الخوارج الذين قالوا: هو كافر، وقولهم: ناقص الإيمان، خالفوا فيه المرجئة الذين قالوا: هو كامل الإيمان، وهما طرفا الإفراط والتفريط، فالمرجئة فرطوا وأهملوا وضيعوا، فقولهم فيه تحلل من الدين، وانفلات من أحكام الشريعة، ويكون مع ذلك مؤمناً كامل الإيمان، والخوارج والمعتزلة أفرطوا حتى أخرجوا المؤمن العاصي من الإيمان، فالحق وسط بين الإفراط والتفريط كما قال الخطابي: ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم يعني: طرف الإفراط وطرف التفريط.
ومعنى جنس العمل: أيّ عمل من الأعمال، وأما إذا ترك العمل فيقال فيه: ترك العمل نهائياً، أو ترك كل الأعمال.(524/17)
شرح سنن أبي داود [525]
إن من معاني الإسلام والإيمان: أن الإسلام يدل على الشعائر الظاهرة، بينما يدل الإيمان على الشعائر الباطنة، وأنهما يفترقان عند اجتماعهما، ويجتمعان عند افتراقهما، ومن عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان: أنه يزيد وينقص خلافاً للمبتدعة الذين لا يعتد بقولهم، والأدلة على ذلك كثيرة جداً من الكتاب والسنة.(525/1)
الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه(525/2)
شرح حديث (ما رأيت من ناقصات عقل ولا دين أغلب لذي لب منكن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه.
حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا ابن وهب عن بكر بن مضر عن ابن الهاد عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (ما رأيت من ناقصات عقل ولا دين أغلب لذي لب منكن! قالت: وما نقصان العقل والدين؟ قال: أما نقصان العقل: فشهادة امرأتين شهادة رجل، وأما نقصان الدين: فإن إحداكن تفطر رمضان، وتقيم أياماً لا تصلي)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه]، وقد تقدم في باب رد الإرجاء، أن أهل السنة والجماعة يقولون بأن الإيمان قول واعتقاد وعمل، وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن أهل السنة وسط بين المرجئة وبين المعتزلة والخوارج فيما يتعلق بأسماء الإيمان، والحكم في الآخرة، فهم فيما يتعلق بإطلاق اسم الإيمان وعدم إطلاقه وسط بين المرجئة الذين قالوا: إن كل المسلمين مؤمنون كاملو الإيمان، وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهذا هو جانب التفريط والإهمال والضياع والانفلات من الأحكام الشرعية، ويقابل هذا التفريط إفراط، وهو أن مرتكب الكبيرة يكون كافراً، وهذا عند الخوارج، وأما عند المعتزلة فهو في منزلة بين المنزلتين، ويكون عندهما في الآخرة خالداً مخلداً في النار لا يخرج منها أبد الآباد، فسلبوا منه الإيمان بالكلية، فهذان طرفان متقابلان: تفريط وإفراط، تفريط المرجئة، وإفراط الخوارج والمعتزلة، وأهل السنة والجماعة وسط بين هؤلاء وهؤلاء، فعندهم أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً كامل الإيمان، وليس خارجاً من الإيمان كلية، وإنما هو مؤمن ناقص الإيمان، فقول أهل السنة: هو مؤمن، فارقوا به الخوارج والمعتزلة الذين قالوا: ليس بمؤمن، وأنه قد خرج من الإيمان، فالخوارج قالوا: إنه دخل في الكفر، والمعتزلة قالوا: إنه في منزلة بين الإيمان والكفر، ولكنهم متفقون مع الخوارج في تخليده في النار أبد الآباد، وبقولهم: إنه ناقص الإيمان، فارقوا المرجئة الذين قالوا: إنه كامل الإيمان.
إذاً: فقول أهل السنة: مؤمن ناقص الإيمان، هاتان الكلمتان فيهما تحديد مذهب أهل السنة في مرتكب الكبيرة، فلم يسلبوه مطلق الإيمان الذي هو أصله، ولم يعطوه الإيمان المطلق الذي هو الكمال، فهو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، يحب على ما عنده من الإيمان، ويبغض على ما عنده من الفسق والعصيان، فيكون محبوباً باعتبار، ومبغوضاً باعتبار آخر.
ولا مانع من أن يجتمع في الشخص محبة وبغض، فتكون المحبة باعتبار، والبغض باعتبار، كما يقول الشاعر: الشيب كره وكره أن أفارقه فاعجب لشيء على البغضاء محبوب فالشيب؛ إذا نظر إلى ما تقدمه وهو الشباب فليس مرغوباً فيه ولا محبوباً، ولكن إذا نظر إلى ما وراءه وهو الموت صار مرغوباً فيه ومحبوباً، ولا يراد مفارقته إلى ما بعده.
فأهل السنة والجماعة يقولون: إن مرتكب الكبيرة إذا مات من غير توبة فإن أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه فلم يدخله النار وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبه في النار ولكنه لا يخلده فيها، بل يبقى فيها المدة التي شاء الله عز وجل أن يبقى فيها، ثم يخرجه ويدخله الجنة.
فالمعتزلة والخوراج غلبوا جانب الوعيد وأهملوا جانب الوعد، والمرجئة غلبوا جانب الوعد وأهملوا جانب الوعيد، وأما أهل السنة والجماعة فأخذوا بالوعد والوعيد جميعاً، ولهذا يأتي في القرآن كثيراً الجمع بين الوعد والوعيد؛ للترغيب والترهيب، فإذا جاء ذكر الترغيب فإنه يأتي بعده ذكر الترهيب، كقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50]، فهذا ترغيب وترهيب، وقوله: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام:147]، فهذا ترغيب، {وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:147]، وهذا ترهيب، وقوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14]، وهذا ترغيب وترهيب، فأهل السنة والجماعة يأخذون بهذا وهذا، ويقول بعض العلماء: إن المسلم يسير إلى الله عز وجل بالخوف والرجاء، فيكون خائفاً راجياً، ويقول بعضهم: إن الخوف والرجاء للمسلم كالجناحين للطائر، فإذا كان الجناحان سليمين فإن الطيران بهما يكون سهلاً ميسوراً، وإذا اختل أحد الجناحين اختل الطيران.
فأهل السنة يجمعون بين الترغيب والترهيب، والخوف والرجاء، فلا يأخذون بالبعض ويتركون البعض الآخر، وإنما يأخذون الجميع، وعلى هذا فهم وسط في أمور الدنيا، وفيما يتعلق بأحكام الإيمان والكفر، وهم أيضاً وسط في أحكام الآخرة.
قال الإمام أبي داود هنا: [باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه]، ثم أورد جملة من الأحاديث على زيادة الإيمان ونقصانه، وقد قال الإمام البخاري رحمه الله: لقيت أكثر من ألف شيخ كلهم يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وهو عند أهل السنة يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن) أي: لذي عقل منكن، أي: من النساء، فوصفهن بأنهن ناقصات عقل ودين، ومحل الشاهد منه نقص الدين، فالإيمان يزيد وينقص، وفسر نقصان الدين هنا بأن المرأة يأتي عليها أيام لا تصلي ولا تصوم بسبب الحيض، وهذا -كما هو معلوم- ليس من قبلها، وليس الأمر في ذلك إليها، وإنما هذا شيء كتبه الله عليها، فهو بقضاء الله وقدره، وخلقه وإيجاده، والفرق بينهن وبين الرجال أن الرجال مستمرون في الصيام والصلاة، فعندهم إذاً زيادة في الأعمال في هذه المدة التي لا يصلي فيها النساء ولا يصمن، فيكون في ذلك زيادة ثواب عند الله عز وجل، فتكون الصلاة والصيام عند الرجال باستمرار، ولا يمنعهم من ذلك مانع إلا الأمور الطارئة التي تحصل للرجال والنساء، كالمرض وكالسفر، فهذا النقص يكون لأمر يرجع إلى الإنسان كفعل المعاصي، ويكون بشيء لا يرجع إليه كما جاء في هذا الحديث من كون النساء ناقصات عقل ودين، وسألته النساء عن ذلك فأخبر بأنه يأتي عليها أيام لا تصلي ولا تصوم بسبب الحيض، وأما نقصان العقل فإن شهادتها بشهادة نصف رجل كما جاء ذلك في القرآن {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282].
وهذه المسألة -وهي نقصان العقل في حق النساء- واحدة من خمس مسائل النساء فيهن على النصف من الرجال، فشهادة امرأتين بشهادة رجل، وكذلك الميراث {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، وكذلك في العقيقة؛ فالغلام يعق عنه بشاتين والجارية بشاة واحدة، وكذلك في العتق، (من اعتق عبداً كان فكاكه من النار، ومن اعتق جاريتين كانتا فكاكه من النار)، والخامسة: الدية، فهذه خمس مسائل النساء فيهن على النصف من الرجال، والأصل هو التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام، إلا إذا جاءت النصوص تفرق بينهما.(525/3)
تراجم رجال إسناد حديث (ما رأيت من ناقصات عقل ولا دين أغلب لذي لب منكن)
قوله: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب].
ابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بكر بن مضر].
بكر بن مضر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن ابن الهاد].
هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن دينار].
عبد الله بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(525/4)
هل يكتب للحائض إذا انقطعت عن الصلاة والصيام أجر تلك الأيام؟
وقد يقال هنا: أليست الحائض إذا انقطعت عن الصلاة والصيام يكتب لها أجر تلك الأيام مثل الرجل إذا مرض أو سافر فإنه يكتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم؟ فيقول: هذا الحديث يدل على أن الرجل يزيد عليها بالأعمال في مثل هذه المدة التي منعت فيها، وأما ذاك فقد جاء فيما يتعلق بالأشياء التي كانت واجبة على الجميع، فإذا حصل شيء يمنع كالسفر أو المرض فإن الله يكتب له مثل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم.
ومعلوم أن الإيمان ينقص بالمعصية، وفي هذا الحديث ذكر أنها في هذه الحالة تكون ناقصة دين مع أنها لم تعمل معصية، وبناء على هذا فيكون نقصان دينها إنما هو بالنسبة للرجال، فهم عندهم زيادة بالصلاة، وهن ليس عندهن هذه الصلاة، إذاً ففيهن نقص عن الرجال.(525/5)
شرح الحديث الوارد في سبب نزول قوله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري وعثمان بن أبي شيبة المعنى قالا: حدثنا وكيع عن سفيان عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: (لما توجه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله! فكيف بالذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143])].
أورد أبو داود حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توجه إلى الكعبة) أي: بعد أن كان متوجهاً إلى بيت المقدس أمر أن يستقبل البيت الحرام، وذلك أن القبلة كانت إلى بيت المقدس، فاستقبل الرسول صلى الله عليه وسلم الكعبة واستقبلها الناس معه، وكان ذلك بعد الهجرة بستة عشر شهراًً، عند ذلك قال جماعة من الصحابة: (ما بال إخواننا الذين كانوا يصلون إلى القبلة الأولى ولم يصلوا إلى هذه القبلة؟)، أي: أنهم لم يدركوا هذا الشيء الذي حصل، (فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143])، والمقصود بالإيمان هنا: الصلاة، أي: يضيع صلاتكم إلى البيت المقدس.
وفي هذا إطلاق الإيمان على الصلاة، فهو يدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان؛ فالصلاة هي مجموعة أعمال وقد سماها إيماناً.
وأما من ناحية الزيادة فتظهر في أن الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس أولاً، وكتب الله لهم الحياة حتى أدركوا الصلاة إلى بيت الله المسجد الحرام، فإن عندهم زيادة في الأعمال على من مات قبلهم، لكن قد جاء ما يدل على أن السابقين الأولين ممن تقدم إسلامه، ونصر الرسول صلى الله عليه وسلم أن القليل منهم لا يساويه الكثير ممن جاء بعد ذلك وتأخر إسلامه، كما جاء في حديث: (لا تسبوا أصحابي) وذلك عندما جرى بين خالد وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما بعض الشيء، ومعلوم أن الإنسان كلما طال عمره وحسن عمله فإن ذلك زيادة خير وثواب عند الله عز وجل.(525/6)
تراجم رجال إسناد الحديث الوارد في سبب نزول قوله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم)
قوله: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري].
محمد بن سليمان الأنباري صدوق، أخرج له أبو داود.
[وعثمان بن أبي شيبة].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا الترمذي وإلا النسائي فإنه أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سماك].
سماك هو ابن حرب، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(525/7)
وجه الاستدلال بقوله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم) على كفر تارك الصلاة
استدل بعض أهل العلم بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] على كفر تارك الصلاة، ويمكن أن يكون وجه الاستدلال أنه سمى الصلاة إيماناً، لكن هناك أدلة واضحة تدل على أن ترك الصلاة كفر، كحديث: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الأئمة الذين يجوز الخروج عليهم: (لا ما صلوا).
وقد جاء في حديث آخر (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان).(525/8)
شرح حديث (من أحب لله، وأبغض لله فقد استكمل الإيمان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مؤمل بن الفضل حدثنا محمد بن شعيب بن شابور عن يحيى بن الحارث عن القاسم عن أبي أمامة: (عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)].
أورد أبو داود حديث أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)، وقوله: (من أحب لله) حذف فيه المفعول وهو متعلق بمن وبما، والمعنى أحب لله من يحبه الله، وأحب لله ما يحبه الله، والمراد: من يحبه الله من الأشخاص، وما يحبه الله من الأعمال والأقوال، إذاً فالحب يكون للأشخاص وللأقوال وللأفعال التي يحبها الله ويرضى بها، (من أحب لله، وأبغض لله) أي: أبغض من يبغضه الله، وأبغض ما يبغضه الله، (وأعطى لله) أي: من أجل الله، (ومنع لله) أي: من أجل الله، فلا يريد بإعطائه الرياء ولا غير ذلك، وإنما يعطي من أجل الله، ويرجو ثواب الله، ويخشى عقاب الله، وكذلك يمنع وفقاً لما جاء عن الله سبحانه وتعالى، فيكون إعطاؤه من أجل الله، ومنعه من أجل الله، وحبه من أجل الله، وبغضه من أجل الله، فيكون بذلك قد استكمل الإيمان، ولهذا جاء في حديث أنس بن مالك الذي في الصحيحين: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، فالحب يكون في الله ومن أجل الله، وجاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجلان تحابا في الله، اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه)، فالحب والبغض من أعمال القلوب، والإعطاء والمنع من أعمال الجوارح، وكلها من الإيمان، وهي تكون نافعة إذا كانت من أجل الله، سواءً كانت من أعمال القلوب أو من أعمال الجوارح.(525/9)
تراجم رجال إسناد حديث (من أحب لله، وأبغض لله فقد استكمل الإيمان)
قوله: [حدثنا مؤمل بن الفضل].
مؤمل بن الفضل صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا محمد بن شعيب بن شابور].
محمد بن شعيب بن شابور صدوق صحيح الكتاب، أخرج له أصحاب السنن.
[عن يحيى بن الحارث].
يحيى بن الحارث ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[عن القاسم].
هو القاسم بن عبد الرحمن الدمشقي، وهو صدوق يغرب كثيراً، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن أبي أمامة].
أبو أمامة: هو صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور بكنيته، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(525/10)
شرح حديث (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)، وهذا يدل على زيادة الإيمان؛ لأنه ذكر أن ذلك هو أكمل المؤمنين إيماناً، فمعنى ذلك أن الناس متفاوتون في الإيمان.
قوله: [(أحسنهم خلقاً)]، وهذا يدلنا على فضل الأخلاق الحسنة، وأن صاحبها يكون بهذه المنزلة الرفيعة التي بينها رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهو أكمل المؤمنين إيماناً، وذلك لأنه يعاملهم بالمعاملة الطيبة، ويخالق الناس بالمخالقة الحسنة، ويعامل الناس كما يحب أن يعملوه، ومعلوم أن الإنسان يحب أن يعامله الناس معاملة طيبة، فعليه أيضاً أن يعامل غيره معاملة طيبة، فيحب لغيره ما يحب لنفسه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفس).(525/11)
تراجم رجال إسناد حديث (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عمرو].
هو محمد بن عمرو بن علقمة الوقاص الليثي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(525/12)
شرح حديث سعد بن أبي وقاص (يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن، فقال: أو مسلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبيد حدثنا محمد بن ثور عن معمر قال: وأخبرني الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: (أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً، فقال سعد: يا رسول الله أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أو مسلم، حتى أعادها سعد ثلاثاً، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: أو مسلم، ثم قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إني أعطي رجالاً وأدع من هو أحب إلي منهم لا أعطيه شيئاً؛ مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم)].
أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جماعة فأعطى رجالاً ولم يعط رجلاً، وهذا الذي لم يعط شيئاً كان أعجبهم إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً وهو مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم)، أي: أنه يلقنه ويريد منه أن يقول: مسلم، فأعاد، فأعاد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين السبب وأنه قد يعطي أشخاصاً وغيرهم أحب إليه من هؤلاء الذين أعطوا؛ ذلك أن هؤلاء الذين أعطاهم إنما أعطاهم تألفاً وترغيباً لهم في الإسلام، وخشية أن يحصل منهم نفور وعدم إقبال على الإيمان، فيترتب على ذلك أن يكبوا في النار على وجوههم، ولهذا فالنبي صلى الله عليه وسلم لما كان في غزوة حنين وحصلت الغنائم الكثيرة كان يعطي بعض المؤلفة قلوبهم الذين أسلموا حديثاً في عام الفتح؛ تأليفاً لقلوبهم، فحصل في قلوب الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم شيء؛ لكونهم لم يعطوا مثلما أعطي الناس، فجمعهم الرسول صلى الله عليه وسلم وتكلم معهم، وبين أنه إنما يعطي لغرض ويمنع لغرض، وقال: إنه لم يعطهم شيئاً لما عندهم من الإيمان، ثم قال لهم تلك الكلمات الجميلة التي هي أحسن عندهم من الدرهم والدينار ومن الإبل حتى فرحوا وسروا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (الأنصار شعار، والناس دثار، لو سلك الناس وادياً وسلك الأنصار وادياً لسلكت وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت من الأنصار)، فسروا وفرحوا، فكان يعطي أناساً ولا يعطي أناساً آخرين فيعطي الذين لم يكن عندهم قوة إيمان، أو كانوا حديثي عهد بالإسلام، وكان يتألفهم، فلما قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (وهو مؤمن) قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (أو مسلم)؛ وذلك لأن الإيمان درجة كاملة عالية، والإسلام أقل من ذلك فأراد أن يرشد إلى الأصل الذي يشترك فيه جميع المسلمين وهو أصل الإسلام، وأما الإيمان فهو أعلى وأكمل من أصل الإسلام، أخص من الإسلام، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، فقد يكون عنده الاستسلام والانقياد، ولكن لا يكون الإيمان متمكناً من قلبه، ولهذا قال الله عز وجل عن الأعراب: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، أي: لم يتمكن الإيمان في قلوبهم، ومعنى ذلك أن عندهم نقصاً وضعفاً، لكن عندهم الإسلام الذي هو الأصل، وأما الإيمان فهو شيء أعلى من ذلك، ولهذا فالإيمان أخص، والإسلام أعم، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ سعد: (أو مسلم) إشارة منه إلى الحد الذي ليس فيه تزكية، ولهذا كان الواحد من السلف إذا سئل: أنت مؤمن؟ يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو يقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقوله: أنا مؤمن إن شاء الله ليس شكاً، ولكن بعداً عن التزكية، فهو مسلم، وأما الإيمان فهو كمال، فلا يدعيه لنفسه، ولا يزكي نفسه, ولكن يقول: أرجو، أو إن شاء الله، ولا يقول: أنا مسلم إن شاء الله، وإنما يجزم.
ثم إن لفظ الإيمان ولفظ الإسلام من الألفاظ التي إذا جمع بينها في الذكر فرق بينها في المعنى، وإذا انفرد أحدهما عن الآخر شمل المعاني التي افترقت عند الاجتماع، فإذا أطلق الإسلام شمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا أطلق الإيمان شمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا جمع بينهما فسر الإيمان بالأعمال الباطنة، والإسلام بالأعمال الظاهرة، كما في حديث جبريل لما سأله عن الإسلام قال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)، وهذه أمور ظاهرة، وسأله عن الإيمان فقال (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، وهذه أمور باطنة، فلما جمع بينهما في الذكر فرق بينهما في المعنى، فأعطى الإيمان ما يتعلق بالباطن، وأعطى الإسلام ما يتعلق بالظاهر، لكن إذا جاء لفظ الإسلام منفرداً مثل قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] فإنه يشمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وهذا مثل لفظ الفقير والمسكين، فإنه إذا جمع بينهما في الذكر فسر الفقير بمعنى، والمسكين بمعنى، وإذا فصل أحدهما عن الآخر شمل معنييهما عند الاجتماع، فالله تعالى جمع بين الفقير والمسكين في آية تقسيم الصدقات: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60]، فلما جمع بينهما في الذكر فرق بينهما في المعنى، حيث فسر الفقير بأنه من ليس عنده شيء أصلاً، والمسكين بأنه الذي عنده شيء ولكنه لا يكفيه، فهو أحسن حالاً من الفقير، لكن إذا جاء لفظ الفقير مستقلاً فإنه يدخل تحته من ليس عنده شيء، ومن كان عنده شيء لا يكفيه، كما في حديث معاذ بن جبل (فإن هم أجابوك لذلك -أي: إلى الصلاة- فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، فلفظ الفقراء هنا يشمل المساكين، وكذلك لفظ البر والتقوى، فإذا جمع بينهما فإن البر يفسر بالأوامر المطلوبة، وتفسر التقوى بالمنهيات، وأما إذا جاء لفظ البر لوحده، وجاءت التقوى لوحدها، فإن البر يشمل الأوامر والنواهي، والتقوى تشمل الأوامر والنواهي، أي: أن الإنسان يتقي الله عز وجل بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وكذلك البر امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وقد جمع بينهما في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2].
فالخلاصة أن لفظ الإيمان والإسلام من جنس لفظ الفقير والمسكين، ومن جنس لفظ البر والتقوى إذا اجتمعا أو افترقا.
وأما مرتبة الإحسان فهي أكملها، وهي أعلى من الإيمان، وقد بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فكما أنه لا يقال: كل مسلم مؤمن، فكذلك لا يقال: كل مؤمن محسن؛ لأن الإحسان أخص وأعلى من درجة الإيمان.(525/13)
تراجم رجال إسناد حديث سعد بن أبي وقاص (يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن، فقال أو مسلم)
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد].
محمد بن عبيد يحتمل أن يكون محمد بن عبيد بن حساب، ويحتمل أن يكون محمد بن عبيد المحاربي، وكل منهما محتج به، وقد مر ذكرهما.
[حدثنا محمد بن ثور].
محمد بن ثور ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عامر بن سعد].
هو عامر بن سعد بن أبي وقاص، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو سعد بن مالك، فأبوه اسمه مالك، وكنية أبيه أبو وقاص مشهور بكنيته، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(525/14)
النهي عن إطلاق لفظ (مؤمن) على المعين والاكتفاء بلفظ (مسلم)
قوله: [(إني أعطي رجالاً وأدع من هو أحب إلي منهم لا أعطيه شيئاً؛ مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم)]، فهذا يدل على أن من لا يعطى ليس ذلك لكونه لا يستحق، وإنما قد يعطى من هو دونه لأنه يخشى عليه، لذلك فهو يؤلف قلبه بالإعطاء، وليس هناك مجال لإعطاء الجميع.
فالأولى ألا يقال لشخص بأنه مؤمن، بل يقال له: مسلم، وإذا قال إنسان عن غيره: إنه مؤمن على اعتبار أنه عنده قوة إيمان، وأنه معروف بكثرة الأعمال الصالحة فلا بأس، لكن المحذور أن يقول الإنسان عن نفسه: إنه مؤمن، ففي هذا الحديث قال ذلك عن غيره، فالأدب والوصف الذي ليس فيه إشكال أن يقال: هو مسلم، والمشهور عند أهل السنة -كما عرفنا- هو التفريق بين الإسلام والإيمان، وأن الإيمان أكمل من الإسلام، وأعلى درجةً منه، وبعضهم يقول: إن الإسلام هو الإيمان، واستدلوا بقوله عز وجل: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36] وهذه تتعلق بقوم لوط الذين استثنوا من الهلاك، فوصفوا بأنهم مسلمون ومؤمنون، إذاً فالإسلام هو الإيمان، لكن يقول ابن كثير: إن هؤلاء المؤمنين وصفوا بأنهم مسلمون، فالإسلام يدخل في الإيمان، ومن كان مؤمناً فإنه يصدق عليه أنه مسلم، لكن ليس كل مسلم يقال عنه: مؤمن، وهذا هو الذي نهى الله عنه الأعراب حيث قال: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، فهؤلاء الذين نجاهم الله مع لوط هم مؤمنون ومسلمون؛ لأن كل مؤمن مسلم، فقد جمعوا بين هذين الوصفين، ولا يصح العكس فليس كل من كان مسلماً يقال عنه: مؤمن، ولهذا أنكر على الأعراب قولهم: آمنا، وأمروا أن يقولوا: أسلمنا، ولكن من كان مؤمناً فهو مسلم.(525/15)
شرح أثر الزهري (الإسلام الكلمة، والإيمان العمل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبيد حدثنا ابن ثور عن معمر قال: وقال الزهري: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] قال: نرى أن الإسلام: الكلمة، والإيمان: العمل].
وفي الإسناد السابق قال: وأخبرني الزهري، فجاءت بالواو، والأصل والغالب أن يأتي بدون واو (أخبرني)، والمراد بالإتيان بالواو هناك أنه قد حدثه بحديث آخر، ثم حدثه بهذا الحديث، فترك المعطوف عليه وأتى بالمعطوف الذي هو المقصود وفيه محل الشاهد.
وأورد أبو داود هذا الأثر عن الزهري قال: نرى أن الإسلام: الكلمة، والإيمان العمل.
فالإسلام: الكلمة، أي: النطق والكلام، فهو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأما الإيمان فيكون بالعمل، وليس الوقوف عند كلمة أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فقول الزهري رحمه الله: الإسلام: الكلمة، أي: القول، فالإنسان يدخل الإسلام بقوله: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وهذا فيما يظهر للناس، وأما البواطن فعلمها عند الله عز وجل، وأما الإيمان وهو العمل، فيدخل فيه عمل القلوب وعمل الجوارح، ومعلوم أن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب، كالخشية والرجاء وما إلى ذلك، فإن الجوارح يكون فيها التنفيذ كما جاء في حديث النعمان بن بشير الذي أشرت إليه آنفاً: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، وكذلك قول بعض السلف: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقرته القلوب، وصدقته الأعمال.
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد عن ابن ثور عن معمر قال: وقال الزهري].
الزهري مر ذكره، وهذا الأثر مقطوع، وهو المتن الذي ينتهي إلى التابعي أو من دونه، وهو غير المنقطع؛ لأن المنقطع من صفات الأسانيد، وأما المقطوع فهو من صفات المتون، فالمنقطع هو سقوط في أثناء الإسناد.(525/16)
كلام شيخ الإسلام في قول الزهري (الإسلام الكلمة، والإيمان العمل) والتعليق عليه
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قال في كتاب (الإيمان) عن كلمة الزهري: إن فيها حقاً من وجه، وخطأ من وجه، فما أدري شيئاً عن كلام شيخ الإسلام، فإذا كان المقصود بالإيمان العمل فقط دون أن يكون هناك شيء في القلوب، فنعم هو ليس بصحيح، وأما إذا قيل: إن العمل يكون في القلوب ويكون في الجوارح فهو كلام مستقيم.
ولا يفهم من كلام الزهري هذا أنه لا يكفر الشخص بترك الأعمال، إذا ثبت له الإسلام الذي هو أصل الإيمان بالنطق بالشهادتين، نعم الإسلام يثبت للإنسان بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، لكنه لا يعني ذلك أنه يبقى على هذا حتى يموت عليه، من غير أن يسجد لله سجدة، ولا أن يركع لله ركعة، فإذا جاء وقت الصلاة فإنه يطالب بالصلاة، وإذا تركها تهاوناً أو كسلاً فإنه يكون كافراً، وأما الجحود فقد عرفنا أن أي جحد لأمر معلوم من دين الإسلام بالضرورة ولو كان دون الصلاة بكثير فإن ذلك كله يكون كفراً وردة عن الإسلام.(525/17)
حديث سعد (يا رسول الله أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن، فقال أو مسلم) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق ح وحدثنا إبراهيم بن بشار حدثنا سفيان المعنى قالا: حدثنا معمر عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قسم بين الناس قسماً فقلت: أعط فلاناً فإنه مؤمن، قال: أو مسلم؟ إني لأعطي الرجل العطاء وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكب على وجهه)].
وهذا من جنس الذي قبله.
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا إبراهيم بن بشار].
إبراهيم بن بشار حافظ له أوهام، أخرج له أبو داود والترمذي.
[حدثنا سفيان عن معمر].
سفيان هو ابن عيينة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معمر عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه].
قد مر ذكرهم جميعاً.(525/18)
شرح حديث (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة قال: واقد بن عبد الله أخبرني عن أبيه أنه سمع ابن عمر يحدث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)].
ذكر أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وهذا الحديث أورده المصنف في هذا الباب من أجل أن ضرب المؤمنين رقاب بعضهم يعد كفراً، والمقصود بذلك أنه كفر دون كفر، وهو يدل على أن في ذلك نقصاً للإيمان، وإن أريد به أنه كفر مخرج من الملة، فيكون المقصود أنهم لا يرتدون بعده، فيحصل مع ارتدادهم وكفرهم أن بعضهم يضرب رقاب بعض، ويكون المقصود بذلك ما حصل من بعض الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلهم الصديق وكان ذلك من أجل أعماله رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقد بذل جهده في أن يرجع الناس إلى ما كانوا عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فسعى في إصلاح الخلل الداخلي، ثم بعد ذلك انتقل إلى جهاد الكفار وغزوهم في بلادهم بعد أن قاتل المرتدين، فرجع من رجع منهم إلى الإسلام، وقتل من قتل منهم على الردة.
فإنه يحتمل هذا، ويحتمل أن يكون المقصود به حصول المشابهة للكفار الذين يسهل عليهم القتل، فإن من شأنهم التقاطع وقتل بعضهم بعضاً، وشأن المسلمين بخلاف ذلك، فهم متوادون ومتراحمون ومتعاطفون.
وعلى هذا فإيراد المصنف الحديث هنا في زيادة الإيمان ونقصانه على اعتبار أن هذا الفعل ليس ردة، ولا يتعلق بالمرتدين، وإنما يتعلق بالمسلمين الذين يحصل منهم التقاتل بغير حق.
وقد جاء في بعض الأحاديث: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، والمقصود من ذلك أنه كفر دون كفر، فيكون ذلك: من قبيل المعاصي الكبيرة، ومعلوم أن الذنب الذي يوصف بأنه كفر يكون من أكبر الكبائر، ومن أخطر الأشياء.(525/19)
تراجم رجال إسناد حديث (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
أبو الوليد الطيالسي هو هشام بن عبد الملك الطيالسي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[واقد بن عبد الله أخبرني].
هو واقد بن عبد الله بن محمد بن زيد العدوي، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
وهذا فيه تأخير الصيغة عن الراوي أو المحدث؛ لأنه قال: واقد أخبرني، بدلاً من أن يقول: أخبرني واقد عن أبيه، ومعروف عن شعبة أنه كان يستعمل ذلك أحياناً.
وهناك طريقة لبعض العلماء في تقديم المتن وتأخير السند، وهذا الأسلوب كان يستعمله ابن خزيمة، وقد جاء عنه أنه قال: أنه يحرج على من يأخذ من كتابه ألا يغير الصيغة التي أتى بها، بل عليه أن يروي عنه كما روى، وكما جاء عنه، وجاء عند البخاري رحمه الله في مواضع قليلة تقديم المتن وتأخير الإسناد، وقد جاء ذلك عنه في كتابه التفسير من صحيحه، وذلك في أول تفسير سورة فصلت، فإنه ذكر أثراً طويلاً عن ابن عباس، فأتى بالمتن أولاً ثم أتى بالإسناد في الآخر، وكذلك فعل أيضاً في أثر علي رضي الله عنه الذي فيه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!) وقال الحافظ ابن حجر: إن هذا فيه إشارة إلى أن هذا ليس على شرطه، أي: مثل هذه الصيغة، ثم ذكر كلام ابن خزيمة وطريقته وأنه يمنع أن تغير طريقته عند النقل منه، بل ينبه على ما حصل منه من التقديم والتأخير.
وهذا الأثر والكلام الذي ذكره الحافظ ابن حجر موجود عند تفسير سورة فصلت في الجزء الثامن من فتح الباري، وهذا الجزء مشتمل على كتاب التفسير من صحيح البخاري.
وأبوه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنه سمع ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة وهم: عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد وأنس وجابر وأم المؤمنين عائشة، فهم إذاً ستة رجال وامرأة واحدة، رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين.(525/20)
دلالة قوله (لا ترجعوا بعدي كفاراً) على حصول الفرقة بين المسلمين بعد وفاته صلى الله عليه وسلم
ولا يدل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً) على ما آلت إليه القبائل العربية في الجزيرة بعد قرون من الزمان من قتال بعضهم لبعض، وسلب بعضهم لبعض، فصاروا كحالة الجاهلية الأولى لا يدل على ذلك فقط، لكن كونه يحصل شيء فيما بعد يطابق ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو جزء من المراد، فالحديث أعم من ذلك، ولكن هذا المعنى ليس مطابقاً لما أورده المصنف هنا من كونه كفراً دون كفر، وأن الصديق رضي الله عنه قاتلهم، فرجع إلى الإسلام من رجع، وقتل على الردة من قتل، وهم المعنيون بما جاء في حديث الذود عن الحوض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأقول: أصحابي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) أي: أنهم ارتدوا وقتلوا على الردة، وهؤلاء الذين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا من أصحابه، ولكنهم أدركهم الخذلان وارتدوا عن الإسلام، وقاتلهم الصديق رضي الله عنه، وقتل منهم من قتل على الردة، ومنهم من رجع إلى الإسلام، عدد يسير.
يقول الخطابي عن هذا الحديث: هذا يتأول على وجهين: أحدهما: أن يكون معنى الكفار: المتكفرين بالسلاح، يقال: تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه، فكفر به نفسه، أي: سترها، وأصل الكفر: الستر، ويقال: سمي الكافر كافراً لستره نعمة الله عليه، أو لستره على نفسه شواهد ربوبية الله ودلائل توحيده.
وأقول: كونه يتكفر بالسلاح أو يستتر به، أو يحمله هذا لا يكفي، ولكنه يئول أمره إلى كونه يفعل ذلك مستعداً للقتل، فيحصل منه القتل، وأما مجرد ستر نفسه بالسلاح، أو أنه يلبس السلاح، فمجرد هذا لا يكفي بأن يقال عنه: إنه ذنب، وإنه منهي عنه، فالسلاح يلبس عند الحاجة إليه ولا يصير مذموماً، ولكن إذا آل ذلك إلى أمر لا يسوغ، أو أنه فعله استعداداً لفعل أمر لا يسوغ فالعبرة بهذه النهاية، لا بمجرد اللبس فقط، وكون المعنى اللغوي للكفر أنه الستر لا يكفي في أن يكون هو المقصود.(525/21)
شرح حديث (أيما رجل مسلم أكفر مسلماً فإن كان كافراً، وإلا كان هو الكافر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن فضيل بن غزوان عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أيما رجل مسلم أكفر رجلاً مسلماً فإن كان كافراً وإلا كان هو الكافر)].
أورد المصنف حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أيما رجل مسلم أكفر رجلاً مسلماً فإن كان كافراً وإلا كان هو الكافر) أي: إذا كان المقول له ذلك كافراً، أي: حصل منه كفر، فإن الكلام يكون مطابقاً للواقع، ويكون صحيحاً، وأما إذا لم يكن كذلك ولم يكن كافراً فإن الكفر يعود على القائل، فيكون هو الكافر، ومعنى ذلك: أنه يرجع عليه إثمه ومغبته، لا أنه يكون كافراً خارجاً من الإسلام بمجرد أنه قال هذه الكلمة، فهذا فيه وعيد شديد، وبيان أن ذلك الأمر ليس بالهين، وأن التكفير ليس أمراً سهلاً، وإنما هو صعب وخطير، ولا ينبغي التهاون والتساهل فيه، ولا ينبغي للإنسان أن يتكلم فيه بغير علم.
ومثل هذا مسألة الاتهام بالتبديع والتفسيق.(525/22)
تراجم رجال إسناد حديث (أيما رجل مسلم أكفر مسلماً فإن كان كافراً، وإلا كان هو الكافر)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا الترمذي وإلا النسائي فأخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن فضيل بن غزوان].
فضيل بن غزوان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مر ذكره في الحديث الذي قبل هذا.(525/23)
شرح حديث (أربع من كن فيه فهو منافق خالص، ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق حتى يدعها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أربع من كن فيه فهو منافق خالص، ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)، وهذه الأمور كلها من النفاق العملي، وليست من النفاق الاعتقادي، فالنفاق الاعتقادي هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر، وأهله في الدرك الأسفل من النار، فلما كان للإسلام قوة وصولة وشوكة لم يستطيعوا أن يظهروا ما في بواطنهم فلجئوا إلى أن يتظاهروا بالإسلام وهم يبطنون الكفر، كما ذكر الله عنهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14].
فهذه الأمور الواردة في هذا الحديث من النفاق العملي، وليست من النفاق الاعتقادي، لكن من أتى بهذه الأمور مستحلاً لها فإنه يكون كافراً بهذا الاستحلال.
وقوله: [(من كن فيه كان منافقاً)، أي: أن من كانت هذه الأمور مجتمعة فيه فقد وصل إلى حد عظيم فيما يتعلق بهذا الوصف، فيكون منافقاً خالصاً في النفاق العملي وليس الاعتقادي، فلا يكون كافراً بمجرد اتصافه بهذه الصفات الذميمة، ولكن يكون عنده تمكن في النفاق، ومن وجدت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، وأما إذا اجتمعت كلها فيه فقد وصل إلى النهاية والقمة في النفاق العملي، ويكفر العبد -كما قلنا- باستحلال هذه الخصال الذميمة، فمن استحل الكذب فإنه يكفر، وهذا فيما لا يسوغ فيه الكذب وأما ما جاء فيه جواز الكذب سواءً كان صريحاً أو تلويحاً، كالإصلاح بين الناس، وبين المرأة وزوجها، فلا بأس بذلك، وأما استحلال الكذب مطلقاً فلاشك أنه كفر.(525/24)
تراجم رجال إسناد حديث (أربع من كن فيه فهو منافق خالص، ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق حتى يدعها)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
أبو بكر بن أبي شيبة هو عبد الله بن محمد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا الترمذي، وهو ممن أكثر عنه الإمام مسلم، بل لم يرو عن أحد أكثر مما روى عنه، فقد قيل: إنه روى عنه أكثر من ألف وخمسمائة حديث، ولهذا فالذي يقرأ في (صحيح مسلم) لا يكاد يفتح صفحة أو صفحات إلا ويمر فيه أبو بكر بن أبي شيبة؛ لأنه روى عنه عدداً كثيراً من الأحاديث فهو مكثر عنه، ويليه زهير بن حرب أبو خيثمة، فإنه روى عنه أكثر من ألف ومائتي حديث.
[حدثنا عبد الله بن نمير].
عبد الله بن نمير ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأعمش].
الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن مرة].
عبد الله بن مرة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسروق].
هو مسروق بن الأجدع، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمرو].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(525/25)
شرح حديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو صالح الأنطاكي أخبرنا أبو إسحاق الفزاري عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد)، أي: أنه عندما يحصل منه الزنا فإنه يحصل له نقص في الإيمان؛ لوقوعه في المعصية، فيقع النقص في الإيمان من حين يبدأ بالمعصية وهي الزنا هنا إلى أن يتوب منه، وليس أنه بمجرد توبته منها يكفي ذلك، فقد يكون لتلك المعصية حد في الدنيا، وإن أقيم عليه الحد كان كفارة له، وإن لم يقم عليه الحد فإن أمره إلى الله عز وجل، فإن كان تاب منها فالله تعالى يتوب على من تاب، ولهذا جاء في آخر الحديث: (والتوبة معروضة بعد) أي: بعد هذا الذي حصل من ارتكاب الفاحشة، وهذا إذا لم تصل الروح إلى الغرغرة، وإن مات على تلك المعصية والجريمة فإن أمره إلى الله عز وجل: إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه وأدخله النار، ولكنه إذا أدخله النار فإنه لا يخلده فيها، بل يخرجه منها ويدخله الجنة، ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين هم أهلها، سواءً كانوا كفاراً أصليين، أو مرتدين، أو منافقين نفاقاً اعتقادياً، فإن أولئك هم الذين يبقون فيها إلى غير نهاية.
أما من كان مرتكباً للكبائر -سواءً كانت واحدة أو أكثر- فإن أمره إلى الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فكل ذنب دون الشرك هو تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، فإنهم يعتبرون صاحب الكبيرة فاسقاً، ولا يخرجونه من الإسلام، ولا يجزمون بعذابه، وإذا عذب فإنهم لا يقولون بتخليده، بل أمره إلى الله عز وجل: إن شاء عفا عنه ولم يعذبه، وإن شاء عذبه، ولكنه إذا عذبه بالنار فلابد أن يخرجه من النار ومآله إلى الجنة، فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) أي: أنه عند مواقعته المعصية لم يكن عنده كمال الإيمان، بل عنده نقص في الإيمان.
وأما الخوارج فإنهم يقولون بكفر الزاني وغير الزاني ممن ارتكب الفواحش والمحرمات، ويقولون بتخليده في النار إلى غير نهاية، ويقول المعتزلة: إنه خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فهو في منزلة بين منزلة الإيمان والكفر، ولكن في النهاية قولهم مطابق لقول الخوارج بأنه يخلد في النار.
فقوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) ليس معنى ذلك: أنه ينتفي عنه الإيمان حتى يكون كافراً خارجاً من الإسلام، ولكن المراد أن إيمانه ينقص، ويكون فيه ضعف، ولا يكون كاملاً، بل يكون بسبب الفاحشة أنقص مما كان عليه قبل أن يفعل الفاحشة، وهذا الحديث من الأحاديث التي أوردها أبو داود في زيادة الإيمان ونقصانه، فهذا فيه ينقص الإيمان، (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن والتوبة معروضة بعد)، والله تعالى يتوب على من تاب، فإن التوبة تجب ما قبلها، فالشرك وهو أعظم الظلم، وأبطل الباطل إذا تاب الكافر منه تاب الله عليه، فكذلك ما دونه.(525/26)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)
قوله: [حدثنا أبو صالح الأنطاكي].
أبو صالح الأنطاكي هو محبوب بن موسى، وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا أبو إسحاق الفزاري].
أبو إسحاق الفزاري هو إبراهيم بن محمد بن الحارث، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
الأعمش مر ذكره.
[عن أبي صالح].
أبو صالح السمان اسمه ذكوان، ولقبه السمان، ويلقب أيضاً بـ الزيات نسبة إلى بيع السمن والزيت؛ لأنه كان يجلب السمن والزيت ويبيعهما، فيقال له: السمان، ويقال له: الزيات، وهذه نسبة إلى الحرفة، وهذا مثلما يقال: نجار وحداد وخباز.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(525/27)
شرح حديث (إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان وكان عليه كالظلة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسحاق بن سويد الرملي حدثنا ابن أبي مريم أخبرنا نافع -يعني ابن يزيد - حدثني ابن الهاد أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان وكان عليه كالظلة، فإذا انقلع رجع إليه الإيمان)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا زنى المسلم خرج منه الإيمان وكان فوقه كالظلة، فإذا انقلع) أي: انتهى وفرغ من الزنا أو أقلع عن الزنا فإنه يرجع إليه، وهذا فيه وعيد شديد للزناة، فالزنا أمره خطير، وشأنه عظيم، لكن -كما هو معلوم- لا يقال: إن الزاني يكفر في حال زناه استدلالاً بهذا الحديث، فهناك أحاديث أخرى تبين أنه مرتكب كبيرة، وأن أمره إلى الله عز وجل، وأن التوبة معروضة بعد، وهذا الحديث يدل على خطورته، وأنه فاحشة عظيمة.(525/28)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان وكان عليه كالظلة)
قوله: [حدثنا إسحاق بن سويد الرملي].
إسحاق بن سويد الرملي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا ابن أبي مريم].
ابن أبي مريم هو سعيد بن أبي مريم، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا نافع -يعني ابن يزيد].
نافع بن يزيد ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثني ابن الهاد].
ابن الهاد هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن أبي سعيد المقبري].
سعيد بن أبي سعيد المقبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.(525/29)
الأسئلة(525/30)
حكم الاستثناء في الإسلام
السؤال
هل ورد الاستثناء في الإسلام؟
الجواب
لا أدري، لكن حتى الإسلام يتفاوت، فقد جاءت بعض النصوص التي تدل على أنه يتفاوت في الإطلاق، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) أي: المسلم الكامل، لكن لا نعلم أنه يستثنى في الإسلام، ويمكن أن يكون المعنى الذي جاء في قوله: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، من جنس أنه مؤمن، لكن المعروف أن الإسلام هو الدرجة الدنيا، وهي الدرجة التي يتميز بها عن الكفار، ويكون الإنسان بها من المسلمين.(525/31)
قول الخطابي (قد يكون العبد مستسلماً في الظاهر غير منقاد في الباطن ولا يكون صادق الباطن غير منقاد في الظاهر) والتعليق عليه
السؤال
ما صحة هذه العبارة: يقول الخطابي: وأصل الإيمان التصديق، وأصل الإسلام الاستسلام والانقياد، فقد يكون المرء مستسلماً في الظاهر غير منقاد في الباطن، ولا يكون صادق الباطن غير منقاد في الظاهر؟
الجواب
قد يكون العبد مستسلماً في الظاهر وليس عنده الكمال في الباطن، وهذا هو الذي جاء في قول الله عز وجل: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] أي: لم يتمكن في القلوب، وإن كان الأصل موجوداً وهو الإسلام، وإذا وجد الاستسلام والانقياد في الباطن فإنه يتبعه الاستسلام في الظاهر؛ لأن الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث النعمان بن بشير (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، وجاء عن بعض السلف أنه قال: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال).(525/32)
العلاقة بين الكفر والشرك
السؤال
هل لفظ الكفر والشرك من الألفاظ التي نقول فيها: إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت؟
الجواب
لفظتا الكفر والشرك بينهما فرق ولو لم يجتمعا، فالكفر أعم من الشرك، حيث إن الشرك يطلق على ما إذا عبد مع الله غيره، وأما الكفر فإنه يطلق على أمور كثيرة يدخل فيها الشرك، فبينهما إذاً عموم وخصوص مطلق، فكل شرك كفر، وليس كل كفر شركاً؛ لأن الشرك هو دعوة غير الله معه، لكن قد لا يدعو غير الله معه ولكنه يأتي بمكفر آخر كأن يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يسب الله تعالى، أو يجحد أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، فهذا مكفر، ولكن لا يقال له: شرك.(525/33)
الاكتفاء بإطلاق مسمى الإسلام لا يعني نفي أصل الإيمان
السؤال
قولهم: ليس كل مسلم مؤمناً، هل المراد أنه ليس مؤمناً أصلاً، أم أنه لابد من قدر مجزئ من الإيمان؟
الجواب
أصل الإيمان موجود، ولهذا قالوا: إن من جاء عنهم من السلف عدم الاستثناء في الإيمان فإنهم يقصدون بذلك أصل الإيمان، ولا يقصدون بذلك التزكية، وأنهم كاملو الإيمان.(525/34)
حكم من ينتقد سلف الأمة بالتقصير في كتابة التاريخ
السؤال
هناك رجل عندنا ينتقد سلف الأمة بالإهمال والتقصير الكبير في تدوين التاريخ الإسلامي، فيقول: وهذا بعكس أهل الغرب الذين دونوا تاريخهم، ويطعن أيضاً في أهل السنة حيث إنهم يروون عن الضعفاء والروافض، فلم يصححوا تلك المرويات التاريخية، فأصبح للمسلمين تاريخ غير ثابت، فما نصيحتكم لنا تجاه هذا الرجل، وهو أستاذ لنا في الجامعة؟
الجواب
هذا الكلام كلام باطل وغير صحيح، ومعلوم أن العلم قد دُوِّن، والتاريخ منه ما دون بالأسانيد، ومنه ما جاء بغير أسانيد، ولكن الثبوت لا يعتبر إلا بصحة الأسانيد، والشيء الذي لم تصح به الأسانيد فلا يعتبر ثابتاً، ولكن يمكن أن يذكر على سبيل الحكاية وما إلى ذلك، وأما رواية سلف هذه الأمة عن بعض أهل البدع فإنما هي في شيء لا يؤثر، ولا يتعلق ببدعهم، أو أن غيرهم تابعهم على ذلك ولم تقبل روايتهم على سبيل الاستقلال، وأما الشيء الذي يتعلق بالبدع فإنهم يجتنبونه، وقد تكلم العلماء وبينوا أحوال هؤلاء الذين تكلم فيهم من هذه الناحية، وبينوا الاعتذار عمن روى عنهم كما ذكر آنفاً.
والحاصل أن الواجب على كل مسلم أن يحفظ لسانه عن أن يتكلم في علماء أهل السنة والجماعة بما لا ينبغي، بل عليه أن يحسن الظن بهم، وأن يعرف أنهم قد بذلوا جهوداً عظيمة مضنية حفظ الله تعالى بها ما جاء عنه سبحانه وعن رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ورضي الله تعالى عن الصحابة ومن تبعهم بإحسان، والكلام في علماء أهل السنة ضرره كبير على المتكلم به، كما قال الطحاوي في عقيدة أهل السنة والجماعة: وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخبر والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل.
ثم هذا الذي يتكلم بمثل هذا الكلام ماذا قدم للإسلام، أو ماذا سيقدم للإسلام؟! كل ما قدم أنه جنى على نفسه بأن تكلم وقدح في علماء أهل السنة والجماعة بمثل هذا القدح، وغالباً أن مثل هؤلاء الذين يتكلمون في مثل هذا الشيء يعود عليهم مضرته، ولا يأتون بشيء تعود عليهم منفعته.(525/35)
حكم الخروج مع جماعة التبليغ للدعوة مع ما يرافق ذلك من تضييع الأهل والأولاد
السؤال
أود الاستفسار عما تطلبه جماعة التبليغ من النساء، وهو خروج المرأة لمدة ثلاثة أيام من منزلها مع مجموعة من النساء في بلد من البلدان داخل مصر، وأما أزواجهن فيكونون في مسجد قريب، ويقضون ثلاثة أيام في سماع ما يسمى بالبيان، وأنا زوجة لرجل من هذه الجماعة، وهو رجل فاضل، وعندي منه ثلاثة أولاد، لكن ولدي الأكبر -وهو في سن المراهقة- بدأ يسير في طريق البعد عن الله، ويفعل أشياء كثيرة مخالفة للهدى والشرع، وزوجي يلح علي أن أُخرج معي ابني في هذا الخروج؛ حتى يصلح الولد، لأنه مقتنع تماماً بهذا العمل، ويتهمني بأني أنا المسئولة عن ضياع ابني؛ لأني لا أسير معه بهذا الطريق، وأني سأضيع أولادي الآخرين بهذا السلوك، فهل طاعتي له في هذا الأمر واجبة؟ وإذا لم أطعه هل أدخل تحت من تُغضب زوجها فتلعنها الملائكة، علماً بأني دائماً أرد عليه بأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد؟
الجواب
النساء مأمورات بالقرار في البيوت، والاستقامة على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما هذا الخروج الذي انتهجته هذه الجماعة فهم غالباً مفتقرون إلى العلم، ومفتقرون إلى معرفة التوحيد، فهم لا يعنون بالتوحيد، ولا يعنون بالاشتغال بالعلم، ولهذا يأتون إلى العامي الذي لا يعرف شيئاً ويطلبون منه الخروج إلى الدعوة إلى الله عز وجل، وهو نفسه بحاجة إلى دعوة! والذي ينبغي عليهم وعلى غيرهم أن يتفقهوا في دين الله عز وجل، وأن يتعلموا العلم النافع، وأن يدعوا إلى الله عز وجل على بصيرة.
وهذه المرأة عليها أن تناصح زوجها بأن يبقى معها وألا يخرج معهم، فيبقى هو وإياها يتعاونان على تربية الأولاد، وأما أن يخرج هو ويضيع أهله، أو يطلب من أهله أن تخرج أيضاً معه فإن هذا الخروج ليس بصحيح، وتفقه الإنسان في دين الله عز وجل، ومحافظته على أهله وعلى أولاده أفضل من أن يخرج وهو جاهل، ولا يحصل من وراء هذا الذهاب إلا أن يضيع أهله وأولاده.
فالحاصل أن على هذه المرأة أن تنصح زوجها بأن يترك الخروج معهم، وأن يبقى معها، وأن يحرصوا على التفقه في دين الله عز وجل، وعلى تربية الأولاد تربية طيبة.(525/36)
شرح سنن أبي داود [526]
الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، فلا يصح إيمان العبد إلا بإيمانه بالقدر، ومنهج أهل السنة والجماعة في القدر وسط بين طائفتين منحرفتين عن الصواب ومجانبتين لطريق الحق، وهاتين الطائفتين هما: الجبرية المثبتة للقدر الزاعمة أن العبد مسير وليس بمخير، والقدرية النفاة الزاعمون أن العبد يخلق أفعاله.(526/1)
ما جاء في القدر(526/2)
الإيمان بالقدر من أركان الإيمان
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في القدر].
أورد أبو داود باباً في القدر، والقدر -كما جاء في حديث جبريل المشهور- من أصول الإيمان الستة، فقد سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، وكان جبريل قد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن بعض أمور الدين والصحابة يسمعون، وكان المقصود من ذلك أن يسمع الصحابة الجواب فيعلمون بذلك دينهم، ولهذا قال في آخر الحديث: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، وقد جاء على صورة رجل غير معروف، والحديث سيأتي، وفيه أنه قال: (وتؤمن بالقدر خيره وشره).
وهذا من أصول الإيمان، والقدر هو سر من أسرار الله عز وجل في خلقه، لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى، ولهذا لا يُتعمق في الأسئلة عنه؛ لأن التعمق فيه -كما قال بعض السلف- ذريعة الخذلان.
فعلى العبد أن يؤمن بما جاءت به النصوص، وأن يعلم أن الله سبحانه وتعالى حكيم في قدره، وحكيم في شرعه، وأنه تعالى يقدر الأمور لحكمة، كما أنه يشرع ما يشرع لحكمة، والإنسان في باب القدر يأخذ بما هو سائغ، فيأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى السعادة في الدنيا والآخرة، ويستعين بالله عز وجل على تحصيل ما يريد من الخير، ولا يعول على الأسباب ويغفل عن مسبب الأسباب، كما أنه لا يهمل الأسباب ويزعم أنه متوكل على الله، وأن الله إذا قدّر شيئاً فإنه سيأتي إليه وإن لم يفعل السبب، فكل هذا لا يسوغ، وإنما عليه أن يأخذ بالسبب، ويسأل الله أن ينفع به، كما جاء في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله)، فأمر بهذين الشيئين، وهما: فعْل الأسباب، وأن يستعين بمسبِّب الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى، فلا يأخذ بالأسباب ويغفل عن الله عز وجل، ويزعم أن هذه أمور مادية، فإذا وجد كذا وجد بسببه كذا هذا لا يصح؛ بل الأمر بيد الله عز وجل، فإذا شاء ألا يوجد المسبَّب لم يوجد، سواء وُجد السبب أو لم يوجد، فالإنسان يزرع ليحصل الزرع والفائدة، وقد يزرع ولا يحصل المقصود؛ لأنه قد تصيبه آفة، وقد يتزوج الإنسان لتحصيل الولد، ثم بعد ذلك قد لا يأتيه ولد مع أنه قد فعل السبب.
إذاً: لابد مع فعل السبب من التوكل والاعتماد على الله عز وجل، وسؤاله أن ينفع بالسبب.
وكذلك لا يهمل الإنسان السبب ويقعد في بيته ويقول: لا أبحث عن الرزق؛ لأنه لو كان الله قد كتب لي شيئاً فسيأتيني إلى بيتي ولو لم أخرج، فهذا أيضاً أمر لا يسوغ، بل على الإنسان أن يفعل السبب لكن لا يعتمد عليه، فليس السبب هو كل شيء، لذلك فإن التوكل الحقيقي هو الذي يكون فيه الأخذ بالأسباب، وأما التوكل بدون أخذ الأسباب فهو تواكل وليس بتوكل، وهذا مثل فعل الجماعة الذين كانوا يحجون ولا يأخذون زاداً ويقولون نحن المتوكلون، وإذا سافروا سألوا الناس، أو تحرّوا من الناس أن يحسنوا إليهم، وقد تركوا أموالهم في بلدانهم، فتصير حقيقتهم أنهم متأكلون، وليسوا بالمتوكلين، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً، وتروح بطاناً).
أي: أنها لم تجلس في أوكارها وتنتظر إلى أن يأتيها رزقها إليها، وإنما تراها إذا أصبحت خرجت من أوكارها خامصة البطون، (خماصاً).
أي: فارغة البطون، (وتروح بطاناً) أي: وترجع ممتلئة البطون، فهي قد أخذت بالأسباب، فعلى الإنسان أن يجمع بين الأمرين اللذين أرشد إليهما الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز)، ثم إذا فعل الإنسان ما يقدر عليه فلا يقل إذا فاته ما أراد: (لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن ليقل: قدر الله وما شاء فعل)، أي: أن هذا الذي وقع هو (قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان).
فلو أن إنساناً دخل في مشروع تجاري فلم يربح فيه فلا يقل: لو أني لم أدخل في هذا المشروع ودخلت في مشروع آخر لكان كذا وكذا، فيقال له: هذا الذي وقع هو الذي قدره الله عز وجل، ثم ما يدريك أنك إذا دخلت في المشروع الثاني أنه كان سيصير كذا وكذا؟ فكل ذلك غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل، فعلى الإنسان أن يأخذ بالأسباب المشروعة ويستعين بالله سبحانه وتعالى.(526/3)
مراتب الإيمان بالقدر
القدر -كما هو معلوم- لابد فيه من أمور أربعة، وهذه الأمور هي مراتب القدر، فيجب الإيمان بها كلها، أولها: علم الله عز وجل الأزلي، وهو أن الله علم أزلاً من قبل أن يخلق الخلق بأنه سيكون كذا وكذا وكذا، وكل شيء سيقع فالله تعالى قد علم بأنه سيقع، ولا يقع شيء في الوجود لم يكن الله تعالى قد علمه أزلاً، ولا يتجدد لله علم بشيء لم يكن معلوماً له أزلاً، بل كل ما هو كائن فقد علمه أزلاً، فعلم الله أزلي لا بداية له.
ثم أيضاً على العبد أن يؤمن بأن الله قد كتب مقادير الخلق في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما جاء ذلك في الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله القلم قال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة)، فمعنى ذلك: أن كل شيء سيقع فقد كتب في اللوح المحفوظ، وهذه هي المرتبة الثانية.
والمرتبة الثالثة: أن من صفات الله عز وجل الإرادة والمشيئة، ومعنى ذلك: أن الله عز وجل شاء أن يحصل وأن يقع كذا، فيقع طبقاً لما شاء سبحانه وتعالى، والإرادة مثل المشيئة إلا أنها تختلف عنها بأنها قد تأتي لمعنىً شرعي، والمشيئة لا تأتي إلا لمعنىً كوني فقط، ولا تأتي لمعنى شرعي، فإطلاقاتها في الكتاب والسنة كلها تتعلق بالقدر والقضاء والمشيئة الكونية، وأما الإرادة فإنها قد تأتي لمعنى كوني فتكون مثل المشيئة، وقد تأتي لمعنىً شرعي ديني، وبذلك تخالف المشيئة، فهي تتفق معها في الكونية، وتختلف عنها بأنها تأتي لمعنى شرعي، أي: أن بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً، فيجتمعان في المعنى الكوني، وتنفرد الإرادة بأنها تأتي لمعنى شرعي لا تأتي فيه المشيئة.
وهناك ألفاظ أخرى تأتي بمعنى المشيئة، أي: تأتي لمعنى كوني ولمعنى شرعي وهي: الحكم والإذن والكتاب والكلمات والتحريم وغير ذلك، وقد عقد ابن القيم رحمه الله في كتابه (شفاء العليل) الذي يتعلق بالقدر فصلاً ذكر فيه ثلاثين باباً كلها تتعلق بمسائل القدر، وذكر من جملتها باباً يتعلق بالكلمات التي تأتي لمعنى كوني، أو لمعنى شرعي، مع التمثيل لها.
والفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية أن الإرادة الكونية لابد من وقوعها، وأما الإرادة الشرعية فقد تقع وقد لا تقع، وهي تكون فيما يحبه الله، وما لا يحبه الله، وذلك قد يحصل وقد لا يحصل، فهذا الذي شرعه وأمر الناس به -وهو محبوب له- منهم من امتثله، ومنهم من لم يمتثله.
وأما الإرادة الكونية فلابد من وقوعها، فالشيء الذي قدره الله وقضاه لابد أن يقع، فمن الناس من يستجيب لشرع الله فتجتمع فيه الإرادتان الكونية والشرعية، ومنهم من لا يستجيب، فتتحقق فيه الإرادة الكونية فقط، وهي أنه شقي لم يمتثل ما يحبه الله عز وجل، فما شاء الله عز وجل كان، وما لم يشأ لم يكن.
والناس يعرفون ما قدره الله وقضاه بأمرين: الأمر الأول: الوقوع، فكل ما وقع فإن الله قد شاءه؛ لأنه لو لم يشأه لم يقع، (ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك)، فالشيء المقدر لابد أن يوجد ولا يتخلف.
والمرتبة الرابعة: هي الخلق والإيجاد، أي: إيجاد الله عز وجل وخلقه للشيء الذي علمه أزلاً، وكتبه في اللوح المحفوظ، وشاءه وأراده، فيقع كما علمه وكتبه وشاءه، فهذه المراتب الأربع لابد منها في القدر.(526/4)
لا تنافي بين كون أفعال العباد من كسبهم وهي من خلق الله عز وجل
إن الله تعالى هو خالق كل شيء، فليس هناك أحد يخلق مع الله، {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3] فالكل خلقه وإيجاده، ولكن لا يقال: إن العباد ليس لهم مشيئة ولا إرادة، بل لهم مشيئة وإرادة، ولهذا كلفوا وأمروا ونُهوا، وبيِّن لهم أن هذا الطريق يوصل إلى الجنة، وأن هذا الطريق يوصل إلى النار، وأن هذه الأعمال توصل إلى الجنة، وهذه الأعمال توصل إلى النار، وعندهم عقول يدركون ويفهمون بها، فمن عمل بعمل السعادة انتهى إلى السعادة، ومن عمل بعمل الشقاوة انتهى إلى الشقاوة، وقد جاء ذلك في حديث علي وسيأتي عند المصنف -لما قالوا: (يا رسول الله ألا نتكل على كتابنا- وندع العمل، قال: لا، اعملوا فكل ميسر، فأما أهل السعادة فييسرون إلى عمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة).
لكن لا يجوز أن تسلب الإرادة والمشيئة من العبد كما هو قول الجبرية، ولا يجوز أن يقال: إن الله تعالى لم يقدر أعمال العباد ولم يخلقها، وإنهم هم الذين يخلقونها ويوجدونها كما هو قول القدرية النفاة (المعتزلة)، ولا يدخلون أفعال العباد في معنى الآيات العامة التي تدل على عموم خلقه، بل يدخلون تحتها ما لا يجوز أن يدخل، فيقولون: إن القرآن مخلوق، ويقولون: إذا كان الله خالق كل شيء فسيكون القرآن مخلوقاً، وأما أفعال العباد التي لا يجوز أن تخرج من خلق الله فإنهم يخرجونها، فأدخلوا ما لا يصلح دخوله، وأخرجوا ما لا يصلح خروجه، ولاشك أن كلتا الطائفتين منحرفتان عن الحق والهدى، ومجانبتان للصواب، والحق وسط بينهما.
فأهل السنة والجماعة وسط في باب القدر بين الجبرية المثبتة الغلاة في الإثبات، وبين القدرية النفاة، لأن السنة يقولون: إن أفعال العباد خلق الله عز وجل، وهي كسب للعباد، فقد حصلت بمشيئتهم وإرادتهم التابعة لمشيئة الله وإرادته، فالعباد ليسوا مستقلين بحيث إنهم يحصل منهم شيء في الوجود لم يقدره الله تعالى، ولا يقال: إنهم لا إرادة لهم ولا مشيئة، وإنهم مسيرون، وإنهم مثل الأشجار التي تحركها الرياح، ومثل حركة المرتعش، ولا يقال: إنهم مجبورون على أعمالهم، وكيف يكلفون وهم مجبورون؟! وكيف يقال لهم: افعلوا كذا وكذا وليس لديهم مشيئة ولا إرادة؟ بل لهم مشيئة وإرادة، لكن لا يقال: إن مشيئتهم وإرادتهم مستقلة، وإنهم قد يفعلون شيئاً لم يقدره الله تعالى، بل مشيئتهم تابعة لمشيئة الله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر، فأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة)، فهؤلاء عملوا بمشيئتهم وإرادتهم، وهؤلاء عملوا بمشيئتهم وإرادتهم، وكل ذلك يكون مطابقاً لما شاءه الله وقدره وقضاه، فأعمال العباد هي كسب للعباد وخلْق الله عز وجل، فتتعلق بمشيئتهم وإرادتهم، ويحمدون على حسنها، ويذمون على سيئها، وما حصل منهم من الحسن والسيئ فإنه داخل تحت خلق الله عز وجل ومشيئته.
وأما ما جاء في الحديث: (والشر ليس إليك)، فليس معناه أنه ليس إلى الله خلقاً وإيجاداً، وإنما المقصود من ذلك -كما قال بعض أهل العلم- أن الله عز وجل لا يخلق شراً محضاً لا خير فيه بوجه من الوجوه، بل إنه خلق الشر لحكمة، ويترتب عليه مصلحة وفائدة، فلا يقال: إنه تعالى يخلق شراً لا فائدة من ورائه ولا حكمة، ولا يترتب عليه مصلحة، بل كل ما يخلقه لحكمة، فالشر هو خلق الله، والخير هو خلق الله، وكل شيء بخلقه وإيجاده، وبقضائه وقدره، ولهذا فإن عقيدة المسلمين تدور وتنبني على كلمتين وهما: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فما أصابك لم يكن ليخطئك، وهذا هو الذي شاءه الله أن يكون، فلا يمكن أن يتخلف، وما أخطأك لم يكن ليصيبك؛ وهذا هو الذي قدر الله أنه لا يكون، فلا يمكن أن يحصل لك.
ولهذا جاء في حديث ابن عباس (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)، فلا يحصل في الوجود حركة إلا بقضاء الله وقدره كما قال عليه الصلاة والسلام: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس)، فحتى نشاط النشيط، وحركة المتحرك، وخمول الخامل كل ذلك مقدر.
وبهذا الجواب يتبين لنا أن العبد لا يكون مسيَّراً فقط أو مخيَّراً فقط، وإنما هو مسيَّر باعتبار ومخير باعتبار، فهو مخير وليس بمجبور، بمعنى أنه له مشيئة وإرادة، وقيل له: هذا يوصلك إلى الجنة، وهذا يوصلك إلى النار، فالإنسان يختار طريق السعادة أو طريق الشقاوة، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، ومسيَّر باعتبار أنه لا يحصل منه شيء خارج عن مشيئة الله وإرادته، بل ما شاءه الله فلابد أن يوجد، لكن لا يقال: إن ما شاءه الله لابد أن يوجد، وليس للإنسان مشيئة ولا إرادة.
فالإنسان الذي ترتعش يده لا يكون هذا من فعله ولا من كسبه، ولا يقال له: كفّ يدك عن التحرك؛ لأنه لا يقدر على هذا، لكن إذا كان الإنسان يؤذي الناس فإنه يقال له: كف يدك عن الناس، ويؤدب حتى يكف؛ لأنه يستطيع أن يفعل ذلك، وهذا شيء بإرادته ومشيئته، وبهذا يتبيّن الفرق بين الشيء الذي يكون تحت مشيئة الإنسان، والشيء الذي ليس تحت مشيئته، فالجبرية يقولون: إن جميع حركات العباد كحركة المرتعش، أي: أن الإنسان ليس له مشيئة ولا إرادة، وهذا باطل.
وهذه المعاني التي ذكرتها الآن مما يتعلق بالقضاء والقدر، هي وغيرها ذكرتها في كتاب (شرح العقيدة القيروانية).(526/5)
شرح حديث (القدرية مجوس هذه الأمة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم قال: حدثني بمنى عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في القدر]، ثم أورد حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم)، والقدرية هم نفاة القدر، فيقولون: إن العبد خالق لفعله، وإن الله عز وجل لم يقدر عليه الشر، وإنما العبد هو الذي فعله، ويقولون: إن الله تعالى منزه عن الفحشاء فلا يريدها، ومعلوم أن الخير والشر كله من الله عز وجل، وأن كل ما يقع في الوجود من خير وشر فهو بقضاء الله وقدره، ومشيئته وإرادته، وقد جاء في القرآن الكريم نسبة الهداية والإضلال إليه، وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وأنه لو شاء لهدى الناس أجمعين، {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149]، فكل شيء بقضاء الله وقدره، ولا يقع في ملك الله إلا ما شاءه، فالقدرية هم نفاة القدر.
قوله: [(مجوس هذه الأمة)] أي: أنهم يشابهون المجوس الذين جعلوا للكون خالقَين، وهما: النور والظلمة، وأن الخير يرجع إلى النور، والشر يرجع إلى الظلمة، فهؤلاء جعلوا الخير يرجع إلى الله، والشر يرجع إلى العباد، وأن العباد هم الذين يخلقون أفعالهم، والله عز وجل يقول: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، فهذه الآية عامة لا يخرج عنها شيء، فكل شيء مخلوق فهو من خلق الله وإيجاده، سواءً كان ذاتاً أو صفات، فالذوات مخلوقة، والصفات -وهي الأعمال- مخلوقة، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، فهو خالق العباد، وخالق أفعال العباد، وهي كسب لهم، فيحمدون على حسنها، ويذمون على سيئها، ويثابون على حسنها، ويعاقبون على سيئها، فتضاف إليهم باعتبار الكسب، وتضاف إلى الله عز وجل باعتبار الخلق والإيجاد، فلا يقع في ملك الله شيء لم يرده الله سبحانه وتعالى، ويذكر أن أعرابياً سرقت له حمارة، فجاء إلى عمرو بن عبيد يطلب منه أن يدعو الله تعالى أن يردها عليه، فقال: اللهم! إنك لم تُرد أن تُسرق فسُرقت فارددها عليه، فقال الأعرابي: لا حاجة لي بدعائك، لأنه قد يريد ردّها فلا ترد، فهذا الأعرابي على الفطرة لذلك أنكر عليه هذه المقولة.
وهذا الحديث حسنه الألباني وفيه انقطاع، فقد قيل: إن أبا حازم لم يسمع من ابن عمر، لكن قال بعض أهل العلم: إن أبا حازم كان موجوداً مع ابن عمر في المدينة، وكان في زمانه، فيكون قد أدركه ولقيه وعاصره، فإذا روى عنه فإنه يكون مقصوراً على شروط مسلم؛ لأن مسلم - لا يشترط العلم بالسماع، وإنما يكفي المعاصرة مع إمكان السماع، وهذا موجود في أبي حازم مع ابن عمر، فإنه من الممكن أن يروي عنه، ولهذا حسن الحديث الشيخ الألباني.
وفيه بيان ذم هذه الفرقة الضالة وأنهم مضاهئون للمجوس الذين يقولون بتعدد الخالقين، والقرآن والسنة يردان عليهم، وقد ذكرنا بعض الأدلة فيما سبق.
وأما عن تكفيرهم؛ فمن أنكر منهم علم الله تعالى الأزلي فلا شك في كفره، وأما القدرية المعتزلة الذين يثبتون العلم فما أعلم شيئاً يتعلق بتكفيرهم.(526/6)
تراجم رجال إسناد حديث (القدرية مجوس هذه الأمة)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم].
عبد العزيز بن أبي حازم صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبو حازم سلمة بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(526/7)
شرح حديث (لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن عمر بن محمد عن عمر مولى غفرة عن رجل من الأنصار عن حذيفة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم، وهم شيعة الدجال، وحق على الله أن يلحقهم بـ الدجال)].
وهذا في الجملة مثل الذي قبله إلا أن فيه: (لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة -أي: أمة محمد صلى الله عليه وسلم- الذين يقولون لا قدر وهم شيعة الدجال، وحقّ على الله عز وجل أن يلحقهم بـ الدجال).
وهذا الحديث في إسناده رجل مجهول، ورجل ضعيف، فالرجل المجهول هو عمر مولى غفرة، والرجل المبهم هو رجل من الأنصار.
قوله: [(من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم)].
إذا كان يترتب عليه تأديبهم، ورجوعهم فهو عام في جميع أهل البدع، لكن لا يقال: كل من كان عنده بدعة فإنه يطبق عليه هذا الكلام، وإنما هو في أهل البدع، وأصحاب المذاهب المبتدعة، فمن كان منهم مسلماً وليس بكافر فتترك عيادته تأديباً وزجراً وردعاً لهم ولغيرهم، وهذا أمر مطلوب، وهو هنا نصّ في القدرية.(526/8)
تراجم رجال إسناد حديث (لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر بن محمد].
عمر بن محمد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن عمر مولى غفرة].
هو عمر بن عبد الله مولى غفرة، وهو ضعيف، أخرج له أبو داود والترمذي.
[عن رجل من الأنصار].
رجل من الأنصار مبهم هنا.
[عن حذيفة].
هو حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(526/9)
شرح حديث (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد أن يزيد بن زريع ويحيى بن سعيد حدثاهم قالا: حدثنا عوف حدثنا قسامة بن زهير حدثنا أبو موسى الأشعري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض؛ جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزْن، والخبيث والطيب).
زاد في حديث يحيى: (وبين ذلك)، والإخبار في حديث يزيد].
أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود): أي: جاءت منهم هذه الألوان والهيئات، (والسهل والحزن والخبيث والطيب) السهل الذي فيه سهولة ولين ورقة ورفق، والحزونة هي الشدة والغلظة، فالسهل والحَزْن متقابلان، والخبيث والطيب متقابلان.
قوله: [زاد في حديث يحيى (وبين ذلك)].
أي: بين السهولة والحزونة، أي: وسط بين ذلك.
قوله: [والإخبار في حديث يزيد].
المقصود بالإخبار هنا التحديث؛ لأن الموجود (حدثنا) وليس فيه (أخبرنا)، فيستعملون (أخبرنا) بمعنى (حدثنا)، وبعض العلماء يفرق بين حدثنا وأخبرنا، فيأتي بـ (حدثنا) إذا سمع الحديث من لفظ الشيخ، ويأتي بـ (أخبرنا) إذا قرئ على الشيخ وهو يسمع، ومن العلماء من يسوي بينهما، وهنا فيه التسوية بينهما؛ لأنه قال: والإخبار، مع أنه قال: حدثنا.(526/10)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[أن يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ويحيى بن سعيد حدثاهم].
هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عوف].
هو عوف بن أبي جميلة الأعرابي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا قسامة بن زهير].
قسامة بن زهير ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي عن أبي موسى.
[حدثنا أبو موسى].
هو أبو موسى الأشعري وهو عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور بكنيته ونسبته، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(526/11)
شرح حديث علي (اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون للسعادة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا المعتمر سمعت منصور بن المعتمر يحدث عن سعد بن عبيدة عن عبد الله بن حبيب أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال: (كنا في جنازة فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببقيع الغرقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجلس ومعه مخصرة، فجعل ينكت بالمخصرة في الأرض، ثم رفع رأسه فقال: ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا قد كتب الله مكانها من النار أو من الجنة، إلا قد كتبت شقية أو سعيدة، قال: فقال رجل من القوم: يا نبي الله! أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل فمن كان من أهل السعادة ليكونّن إلى السعادة، ومن كان منا من أهل الشقوة ليكونن إلى الشقوة؟ قال: اعملوا فكل ميسر؛ أما أهل السعادة فييسرون للسعادة، وأما أهل الشقوة فييسرون للشقوة، ثم قال نبي الله {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10])].
أورد أبو داود حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في البقيع وكانوا معه، فجلس ومعه مخصرة -وهي عصا صغيرة-، فجعل ينكت بها في الأرض) أي: يخطط بها، وهذا -كما يقولون- عمل المهموم (فقال عليه الصلاة والسلام: ما من نفس منفوسة).
ما من نفس منفوسة أي: مولودة، والمرأة إذا ولدت يقال لها: نفساء؛ لأنه يسيل منها الدم، ونفست يعني: خرج منها الدم، ويقال للدم: نفس، وهناك كلمة مشهورة عن إبراهيم النخعي قال فيها: ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه، أي: ما لا دم له سائل، فالمراد بقوله: (منفوسة) أي: مولودة، (إلا وكتبت شقية أو سعيدة، وكتب مكانها من الجنة أو النار)، وهذا شيء قد سبق به القضاء والقدر، وقد كتب ومضى، (فقال رجل: يا رسول الله! ألا نتكل على كتابنا وندع العمل؟) أي: ما دام أنه قد سبق القضاء والقدر بأن الشقي شقي، وأن السعيد سعيد، وأن الذي في الجنة في الجنة، والذي في النار في النار، فما دام الأمر كذلك ألا ندع العمل، وسيصير الكل إلى مكانه: إما إلى الجنة وإما إلى النار؟ (فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اعملوا) أي: إنّ هذه الغايات والنهايات التي قدرها الله عز وجل من الشقاوة والسعادة قد قدّر الله تعالى أعمالاً تؤدي وتوصل إليها، فالذي يعمل خيراً ويوفق لسلوك طريق الخير ينتهي به الحال إلى الغاية الحميدة المقدرة وهي السعادة، وإذا سلك واختار طريق الشر -وهذا بمشيئته وإرادته وعمله- فإن ذلك سيؤدي به إلى الغاية السيئة وهي الشقاوة، وبهذا تكون الغاية مقدرة، والوسيلة مقدرة، والله تعالى قد قدّر أن هذا سيعمل بعمل أهل الجنة فيكون من أهل الجنة، وأن هذا سيعمل بعمل أهل النار فيكون من أهل النار.
وهذا الذي فعله الإنسان بمشيئته وإرادته لا يخرج عن مشيئة الله وإرادته، بل هو تابع لمشيئة الله، فما قدره وقضاه لابد أن يكون، حيث قدر أن هذا يعمل بعمل أهل السعادة وينتهي إلى السعادة، وأن هذا يعمل بعمل أهل الشقاوة وينتهي إلى الشقاوة، فالوسيلة مقدرة والغاية مقدرة، وكل شيء يقع في الوجود فقد سبق به القضاء والقدر، فبين النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الجواب أن المطلوب هو التقرب إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة، والناس مأمورون بما يعود عليهم بالخير، ومنهيون عما يعود عليهم بالشر، وقد بين الله عز وجل لهم طريق الخير من طريق الشر كما قال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، فمن وفقه الله عز وجل فإنه يعمل الأعمال الصالحة التي تفضي به إلى السعادة، ومن خذله الله عز وجل ولم يوفقه فإنه يعمل الأعمال الخبيثة التي توصله إلى الشقاوة وإلى النار.
وهذا البيان من أوضح البيان في أن المقصود هو العمل، والقدر سر من أسرار الله عز وجل في خلقه، لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.(526/12)
تراجم رجال إسناد حديث علي (اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون للسعادة)
قوله: [حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا المعتمر].
المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت منصور بن المعتمر].
هو منصور بن المعتمر الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعد بن عبيدة].
سعد بن عبيدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن حبيب].
عبد الله بن حبيب هو أبو عبد الرحمن السلمي ثقة مقرئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي رضي الله عنه].
علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب أهل الكتب الستة.(526/13)
ترجمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب نقلاً عن كتاب (عشرون حديثاً من صحيح البخاري)
وهذا الحديث سبق أن وضعته ضمن الأحاديث التي اخترتها من (صحيح البخاري)، وهو الحديث التاسع عشر، وقد ذكرت بعض النقول فيما يتعلق بشرحه، وفيما يتعلق بالقضاء والقدر، فسنقرأ منه الآن شيئاً من الفوائد التي اشتمل عليها الشرح، وأنا لما اخترت العشرين حديثاً من (صحيح البخاري) حرصت على أن اختار لكل واحد من الخلفاء الراشدين حديثاً من أحاديثه، وأترجم له بترجمة أنقل فيها جملة من الثناء عليه، ومن بيان فضائله ومناقبه.
فـ علي بن أبي طالب هو: (أمير المؤمنين، وابن عم سيد الأولين والآخرين، ورابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة الذين جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأمر إليهم شورى من بعده، أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال الحافظ في التقريب: علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وزوج ابنته، من السابقين الأولين، والمرجح أنه أول من أسلم، وهو أحد العشرة، مات في رمضان سنة أربعين، وهو يومئذ أفضل الأحياء من بني آدم في الأرض بإجماع أهل السنة، وله ثلاث وستون سنة على الأرجح).
أي: أنه بعد وفاة الخلفاء الذين قبله لم يكن هناك أحد أفضل منه، وليس في الصحابة أفضل منه بعد الخلفاء الراشدين الثلاثة، وهذا باتفاق أهل السنة.
قال: ورمز لكون حديثه في الكتب الستة، وقال الخزرجي في الخلاصة: (علي بن أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم).
وعبد مناف هو اسم أبي طالب فقد كان مشهوراً بكنيته، وأبو طالب هو عمّ النبي صلى الله عليه وسلم وأعمام الرسول صلى الله عليه وسلم الذين أدركهم الإسلام أربعة وهم: حمزة والعباس وأبو طالب وأبو لهب، فـ أبو طالب اسمه عبد مناف، وأبو لهب اسمه عبد العزى، فوفق اثنان ودخلا في الإسلام، وتشرفا بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخذل اثنان فماتا على الكفر، ولم يدخلا في الإسلام، وقد قال الحافظ ابن حجر: إن من غريب الاتفاق الذي حصل أن هؤلاء الأعمام الأربعة وفق اثنان منهما للإسلام، وأسماؤهم توافق أسماء المسلمين، ولم يوفق اثنان لذلك، وأسماؤهم تماثل أسماء الكفار، فهي معبدة لغير الله عز وجل.
قال: (علي بن أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي، أبو الحسن، ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وختَنُه على ابنته، أمير المؤمنين يكنى أبا تراب، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وهي أول هاشمية ولدت هاشمياً، له خمسمائة حديث وستة وثمانون حديثاً، اتفقا على عشرين، وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر).
وهذه من فوائد (الخلاصة) للخزرجي، فهو إذا ذكر الصحابة ذكر جملة ما لهم من الأحاديث في الكتب الستة، وعدد الأحاديث التي اتفق عليها البخاري ومسلم، وعدد الأحاديث التي انفرد بها البخاري، وعدد الأحاديث الذي انفرد بها مسلم، ومثل هذا لا يوجد في التقريب.
قال: (شهد بدراً والمشاهد كلها، وروى عنه أولاده: الحسن والحسين ومحمد وفاطمة وعمر، وابن عباس والأحنف وأُمم، قال أبو جعفر: كان شديد الأدمة، ربعة إلى القصر، وهو أول من أسلم من الصبيان جمعاً بين الأقوال، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى)).
وقد قال له هذا لما خلفه في المدينة في غزوة تبوك، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد استنفر الناس، وأعلن للناس أنه سيغزو الروم، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أنه إذا أراد غزوة ورّى بغيرها، فإذا أراد أن يذهب إلى جهة الشمال فإنه يسأل -مثلاً- عن طرق في جهة الجنوب، فالذي يسمع مثل هذه الأسئلة يظن أنه سيذهب إلى جهة الجنوب؛ وفعله هذا إنما هو لإخفاء مسيره على الأعداء الذين يريد أن يغزوهم حتى لا يستعدوا له، وأما في غزوة تبوك فإنه قد أعلن لهم أنه سيغزو الروم، وأمر الناس بالاستعداد لذلك؛ لأن المسافة بعيدة وكان ذلك في الصيف، والصيف حار، والعدو كبير، فأراد أن يستعد الناس، ثم إنه خلّف علياً في المدينة ليكون قائماً بشئون أهل بيته، ومن بقي في المدينة من أهل الأعذار، ولما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه نظر علي وإذا به وحده مع النساء والصبيان، مع أنه من أهل الشجاعة رضي الله عنه، ويريد أن يجاهد في سبيل الله ولا يريد أن يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! أتخلفني في النساء والصبيان؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟) أي: إني خلفتك في المدينة حتى أرجع كما خلف موسى أخاه هارون حتى يرجع، وهذا لا يدل على أنه أولى من غيره بالخلافة، وإنما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم خلف قريباً له, وأما موسى فقد خلف أخاه والفرق بين المشبه والمشبه به أن المشبه به نبي خلف نبياً، وأما المشبه فنبي خلف قريبه؛ لأنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي)، فهذا هو الفرق بين المشبه والمشبه به، وهو لا يعني أنه هو الخليفة من بعده؛ لأن موسى إنما خلف أخاه هارون مدة غيبته، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم خلف علياً رضي الله عنه مدة غيبته، فلا يدل هذا على أنه أحق بالخلافة من غيره، ولا يدل على أنه أفضل من غيره، وإنما يدل على فضله، ثم إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له ذلك ابتداءً، وإنما قال له ذلك تطييباً لخاطره لما قال: أتخلفني في النساء والصبيان.
قال: (وفضائله كثيرة، وقد استشهد ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت أو خلت من رمضان سنة أربعين، وهو حينئذ أفضل من على وجه الأرض.
وذكر الحافظ ابن حجر في (مقدمة الفتح) أن له عند البخاري تسعة وعشرين حديثاً، وقال ابن حجر في (الإصابة) أبو الحسن أول الناس إسلاماً في قول كثير من أهل العلم، ولد قبل البعثة بعشر سنين على الصحيح، فَرُبّي في حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفارقه، وشهد معه المشاهد إلا غزوة تبوك، فقال له بسبب تأخيره بالمدينة: (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟)، وزوّجه ابنته فاطمة، وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد، ولما آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه قال له: (أنت أخي)، ومناقبه كثيرة، حتى قال الإمام أحمد: لم ينقل لأحد من الصحابة ما نقل لـ علي، وتتبع النسائي ما خُصّ به من دون الصحابة فجمع من ذلك شيئاً كثيراً بأسانيد أكثرها جياد، وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ): أبو الحسن الهاشمي، قاضي الأئمة، وفارس الإسلام، وخَتنُ المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كان ممن سبق إلى الإسلام ولم يتلعثم، وجاهد في الله حق جهاده، ونهض بأعباء العلم والعمل، وشهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالجنة، وقال: (من كنت مولاه فـ علي مولاه)، وقال له: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعد)، وقال: (لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق)، ومناقب هذا الإمام جمة أفردتها في مجلد وسميته بـ (فتح المطالب في مناقب علي بن أبي طالب) رضي الله عنه، وقال الحافظ ابن حجر في (الإصابة): ومن خصائص علي قوله صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر: (لأدفعن الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غدوا كلهم يرجو أن يُعطاها، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أين علي بن أبي طالب فقالوا: هو يشتكي عينيه، فأُتي به فبصق في عينيه، فدعا له فبرئ، فأعطاه الراية).
أخرجاه في الصحيحين من حديث سهل بن سعد انتهى.
وقد روى هذا الحديث غير سهل أكثر من اثني عشر صحابياً ذكرهم في (تهذيب التهذيب).(526/14)
شرح حديث الجنازة نقلاً عن كتاب (عشرون حديثاً من صحيح البخاري)
قال: (قوله: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة فأخذ شيئاً فجعل ينكت به الأرض)، جاء في بعض الروايات -كما تقدم في التخريج- أن ذلك كان في بقيع الغرقد، وجاء في بعضها بيان ذلك الشيء الذي ينكت به الأرض وأنه عود، وفي بعضها: مخصرة، وهي العصا، وسميت بذلك؛ لأنها تحمل تحت الخصر غالباً للاتكاء عليها، ومعنى (ينكت): أي يخط في الأرض خطاً يسيراً مرة بعد مرة، وذلك فعل المفكر المهموم.
قوله: (قالوا: يا رسول الله! أفلا نتكل؟)، ورد في بعض النصوص تعيين السائل، ففي بعضها أنه سراقة بن مالك بن جعشم، وفي بعضها: أنه شريح بن عامر الكلابي، وفي بعضها: أنه عمر رضي الله عنه، وفي بعضها: أنه أبو بكر رضي الله عنه، قال الحافظ ابن حجر بعد ذكرها: والجمع بينها أن تحمل على تعدد السائلين عن ذلك.
قوله: (أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل): قال الحافظ ابن حجر والفاء معقبة لشيء محذوف تقديره: فإذا كان كذلك أفلا نتكل، وحاصل
السؤال
ألا نترك مشقة العمل فإنا سنصير إلى ما قدر علينا؟ وحاصل
الجواب
لا مشقة؛ لأن كلاً ميسر لما خلق، وهو يسير على من يسره الله عليه.
قال الطيبي: الجواب من الأسلوب الحكيم: منعهم عن ترك العمل، وأمرهم بالتزام ما يجب على العبد من العبودية، وزجرهم عن التصرف في الأمور المغيبة، فلا يجعل العبادة وتركها سبباً مستقلاً لدخول الجنة والنار، بل هي علامات فقط.
انتهى.
وهذا الحديث أصل في باب القضاء والقدر، وأنه قد سبق قضاء الله تعالى بكون المكلفين فريقين: فريقاً في الجنة، وفريقاً في السعير.
قال النووي: قال الإمام أبو المظفر السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس ومجرد العقول، فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء النفس، ولا يصل إلى ما يطمئن به القلب؛ لأن القدر سر من أسرار الله تعالى التي ضربت من دونها الأستار، اختص الله به، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم؛ لما علمه من الحكمة، وواجبنا أن نقف حيث حد لنا ولا نتجاوزه، وقد طوى الله تعالى علم القدر عن العالم، فلم يعلمه نبي مرسل، ولا ملك مقرب.
انتهى.
وقال الطحاوي في عقيدة أهل السنة: وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسُلَّم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه كما قال الله تعالى في كتابه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، وقال: فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائناً لم يقدروا عليه، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، وقال: فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً، وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً، لقد التمس بوهمه في محض الغيب سراً كتيماً، وعاد بما قال فيه أفّاكاً أثيماً.
من فقه الحديث وما يستنبط منه.
أولاً: مشروعية اتباع الجنازة.
ثانياً: أن متبع الجنازة عليه أن يتذكر الآخرة، وأن يظهر عليه أثر ذلك.
ثالثاً: موعظة العالم أصحابه عند القبور.
رابعاً: إثبات القدر، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
خامساً: مراجعة العالم والاستفسار منه عما قد يشكل.
سادساً: أن السعادة والشقاوة بتقدير الله وقضائه.
سابعاً: الرد على الجبرية؛ لأن التيسير ضد الجبر، فالجبر لا يكون إلا عن كره، ولا يأتي الإنسان الشيء بطريق التيسير إلا وهو غير كاره له.
ثامناً: الرد على القدرية؛ لأن أفعال العباد وإن صدرت عنهم فقد سبق علم الله بوقوعها بتقديره سبحانه وتعالى.
تاسعاً: أن العمل الطيب أمارة على الخير، والعكس بالعكس.
عاشراً: النهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر، بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها، وكل ميسر لما خلق له.
حادي عشر: أن السنة تبين القرآن، وتوضحه، وتدل عليه).(526/15)
الأسئلة(526/16)
معنى الكلمات الشرعية والكونية، والفرق بينهما
السؤال
ما معنى الكلمات الكونية والكلمات الشرعية، وما الفرق بينهما؟
الجواب
الكلمات الكونية هي مثل الإرادة الكونية، والكلمات الشرعية مثل الإرادة الشرعية، فالكلمات الشرعية هي الأوامر والنواهي، والقرآن من كلمات الله الشرعية، فهو أوامر ونواهٍ وأخبار، وأما الكلمات الكونية فهي الكلمات القدرية، وذلك مثل: كلمة الإرادة والمشيئة، ولهذا جاء في قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي، وهي الكلمات الشرعية، فالكلمات الشرعية مشتملة على أخبار وأحكام، فأخبارها صادقة، وأحكامها عادلة.(526/17)
أقسام القدرية
السؤال
هل القدرية صنف واحد أو فيهم غلاة وغير غلاة؟
الجواب
القدرية هم أولاً صنفان متقابلان، ثم إن النفاة فيهم غلاة.(526/18)
من نفى علم الله تعالى فهو من غلاة القدرية
السؤال
من نفى علم الله تبارك وتعالى فهل هو من غلاة القدرية؟
الجواب
قال الشافعي رحمة الله عليه: ناظروا القدرية بالعلم؛ فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا، ومن نفى ذلك فلا شك أنه من غلاة القدرية.(526/19)
الإيمان قول وعمل واعتقاد
السؤال
جاء عن جماعة من السلف في تعريف الإيمان قولهم: الإيمان قول وعمل، ولم يذكروا الاعتقاد بالقلب؟
الجواب
الذين قالوا: الإيمان قول وعمل لا يريدون إخراج الاعتقاد بالقلب عن هذا؛ لأن العمل -كما هو معلوم- عمل بالقلب، وعمل باللسان، وعمل بالجوارح، فالقلوب لها أعمال، كما أن الجوارح لها أعمال.(526/20)
يكون الكفر بالتكذيب وغير التكذيب
السؤال
تقول المرجئة: إن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، فهل من يقول: إن الكفر كله تكذيب يكون موافقاً لقول المرجئة؟
الجواب
الكفر يكون بالتكذيب وغير التكذيب، فليس خاصاً بالتكذيب، فسب الله عز وجل مثلاً كفر، مع أنه ليس بتكذيب.(526/21)
ردّ المرجئة للأدلة التي فيها التنصيص على زيادة الإيمان ونقصانه
السؤال
بماذا يجيب المرجئة عن الآيات والأحاديث التي فيها التنصيص على زيادة الإيمان ونقصانه؟
الجواب
المرجئة غلبوا جانب الوعد، وأهملوا جانب الوعيد، فأخذوا بأحاديث الوعد، وأهملوا أحاديث الوعيد، وعكْسهم الخوارج الذين غلبوا جانب الوعيد، وأهملوا جانب الوعد، وأما أهل السنة والجماعة فأعملوا النصوص جميعاً.(526/22)
حكم بيع الأرض بالأرض متساوياً ومتفاضلاً
السؤال
هل يجوز بيع الأرض بالأرض؟ وهل يلحق هذا بالأصناف الربوية الستة؟ الجوانب: يجوز بيع الأرض بالأرض متساوياً ومتفاضلاً، وليس لذلك علاقة بالربا.(526/23)
حكم الاحتفال باليوم العالمي للمعلم
السؤال
يحتفل الناس باليوم العالمي للمعلم، وفيه توزّع جوائز للمعلمين، فما حكم هذا العمل، وما حكم تخصيص مثل هذا اليوم بذلك؟
الجواب
هذا من الأمور المحدثة.(526/24)
الخلع فسخ وليس بطلاق
السؤال
هل يعتبر الخلع طلاقاً بائناً؟
الجواب
هناك خلاف، والأظهر أنه ليس بطلاق، ولهذا لا يحتاج إلى عدة طلاق، وإنما يكتفى فيه استبراء الرحم بحيضة، فالأصح فيه أنه فسخ وليس بطلاق.(526/25)
هل الخلع بينونة صغرى أو كبرى؟
السؤال
هل يعتبر الخلع بينونة صغرى أو كبرى؟
الجواب
هو بينونة، وتملك نفسها بمجرد دفعها للشيء الذي اتفق عليه من العوض ولا يملك هو رجعتها، ولكن إذا أراد أن يرجع إلى ما كان عليه فإنه يحتاج إلى عقد ومهر جديدين، وإلا فإنه ليس له حق الرجعة، فقد بانت منه بحصول الاتفاق على الفسخ، ولكنه لا يعتبر طلاقاً.(526/26)
وجه قول السلف في تعريف الإيمان: قول وعمل، ولم يذكروا الاعتقاد
السؤال
بالنسبة لقول السلف في تعريف الإيمان: الإيمان قول وعمل، ألا يقال: إن السلف أدخلوا الاعتقاد في القول؛ لأن القول إذا أطلق يشمل قول القلب واللسان؟
الجواب
يمكن، ولكن من ناحية العمل، فالقلوب لها أعمال، والجوارح لها أعمال.
وأما إطلاق القول على ما يقوم في القلوب فالأصل أن الكلام هو ما يسمع من المتكلم ويفهم، لكن قد يطلق القول أحياناً على ما يقوم في القلب دون أن ينطق به الإنسان إذا قيد، كما قال الله عز وجل: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة:8]، فلما جاءت كلمة: ((في أنفسهم)) عُرف أن هذا يرجع إلى القلب، لكن لو لم تأت لانصرف إلى الكلام المسموع من المتكلم، وكذلك قول الصحابي: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يطيل من الركوع حتى أقول في نفسي قد نسي) لكن الأصل أن القول يكون بالكلام، ولهذا جاء في الحديث: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل).
ولو طلق الإنسان في قلبه فلا يعتبر مطلقاً، وكذلك لو أعتق في قلبه فلا يعتبر معتقاً حتى يوجد منه اللفظ الذي يحصل به العتق والطلاق.(526/27)
حكم الموعظة عند كل قبر
السؤال
عندنا في الأردن بعض الإخوة يعملون موعظة على كل قبر بعد الدفن، فهل في هذا شيء؟
الجواب
لم يأت شيء في هذا بعد الدفن، وإنما جاء قبل الدفن، وأما بعد الدفن فيقفون على القبر ويدعون للميت ثم ينصرفون، لكن إذا حصل تذاكر أو كلام عابر قبل الدفن فلا بأس به كما جاء في الحديث.(526/28)
أصل مقولة: إن القدر سر الله في خلقه
السؤال
مقولة: إن القدر سر الله في خلقه، هل هي أثر؟
الجواب
هي من كلام الطحاوي رحمه الله، ومعناه: أنه شيء خفي اختص الله تعالى به، ولا يعلم حقيقته إلا هو سبحانه وتعالى، وله الحكمة البالغة في ذلك، فهو من الأسرار الخفية التي لا يبحث عنها، ولا يتعمق فيها، وأما الكلام في القدر طبقاً لما جاءت به النصوص فهذا أمر مطلوب، ولكن المحذور هو التعمق فيه، والاعتراض عليه؛ ولهذا قال الله عز وجل يقول: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149]، فمن حكمته أن جعل الناس فريقين، وهذا لا يعني: أنهم مجبورون بل لديهم عقول وإرادة ومشيئة، ويقدمون بأنفسهم على ما ينفعهم وما يضرهم.(526/29)
حكم دعوة أهل البدع إلى حفل الزفاف من أجل دعوتهم
السؤال
هل بإمكاني دعوة بعض أهل البدع إلى حفل زفافي بغية دعوتهم إلى الحق، علماً أنهم يدعون إلى بدعهم في القرية التي أسكن فيها؟
الجواب
إذا كانت الدعوة يترتب عليها مصلحة استمالتهم والتوصل إلى هدايتهم فهذا مقصد حسن، وأمر طيب.(526/30)
حكم الطبق الخيري
السؤال
تقيم مدارس الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم القسم النسوي ما يسمى بالطبق الخيري، وهو أن تصنع كل طالبة شيئاً من المأكولات، ثم تباع هذه الأشياء في المدرسة لصالح الجمعية، فهل في هذا العمل شيء، خصوصاً وقد أُخبرتُ أنه من عادات النصارى؟
الجواب
أنا ما أعرف أن هذا من عادات النصارى، فمثل هذا الأمر نعتقد أنه لا بأس به؛ لأن فيه فائدة، فكل واحد يتبرع بشيء يأتي به، ثم يباع ذلك بثمن، ويكون ذلك الثمن لصالح الجمعية، فهذا من جنس التبرع، فلو أن كل واحدة تبرعت بنقود بدلاً من الطعام فلا فرق.(526/31)
الجمع للمطر
السؤال
يوجد في فرنسا مسجد، وإمامه دائماً ما يجمع بين المغرب والعشاء، حتى لو كان المطر يسيراً، فهل نصلي معه إذا جمع، أو ننوي النافلة؟
الجواب
إذا كان المطر متواصلاً، ويصعب على الناس الذهاب والإياب فإنه يسوغ، وأما أن يجمع لمجرد نزول شيء من المطر، فهذا لا يصلح ولا ينبغي، ولاسيما والوضع الآن في كثير من البلاد يختلف عما كان عليه من قبل من حيث وجود الدحض في الأرض، أو وجود ما يلتصق على الناس في ثيابهم وأرجلهم، فإذا أتوا للصلاة في المسجد أتوا وهم ملوثو الأرجل، أما الآن فالطرق مسفلتة، ولا يحصل شيء مما كان موجوداً من قبل، وأما إذا كان المطر يصب، وكان في ذهابهم ورجوعهم مشقة، فهذا قد جاءت السنة بمشروعيته، لكن ينبغي أن ينبه على أنه ليس كل نزول مطر يكون معه جمع بين الصلوات، فهذا رخصة وليس بسنة.(526/32)
هل يخرج النبي عن طور البشرية عند نزول الوحي عليه
السؤال
هل صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوحي إليه خرج عن طور البشرية، ودليل ذلك: أنه عندما ينزل إليه الوحي يتصبب عرقاً؟
الجواب
لا يخرج عن طور البشرية في هذا، وإنما يتصبب عرقاً لكونه ينزل عليه أمر عظيم، فهو بشر لا يخرج عن بشريته، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يصيبه أمر عظيم، حتى أن بعض الصحابة يحكي: أن رجله تكاد ترضّ رجل من وقعت عليه ممن حوله من الصحابة من شدة الثقل الذي يحصل له صلوات الله وسلامه وبركاته عليه عند نزول الوحي.(526/33)
الاعتماد على ما صح من السيرة
السؤال
إذا تم الاعتماد على الصحيح من السيرة فقط فسنضيع جزءاً كبيراً من السيرة النبوية، فكيف تريدون الاعتماد على ما صح فقط؟
الجواب
ما جاء في السيرة لا يكون ثابتاً إلا إذا صح إسناده، وأما غير ذلك فلا يقال له: إنه ثابت، ولا يؤخذ به حتى يصح إسناده.(526/34)
حكم استضافة الداعية عمرو خالد
السؤال
نريد استضافة الداعية المعروف عمرو خالد فما رأيكم؟
الجواب
لا تستضيفوه أبداً.(526/35)
حكم فتح باب الجرح والتعديل لكل أحد من الناس
السؤال
هل يصح أن يقال: إن باب الجرح لأهل البدع مفتوح لكل أحد من أهل السنة حتى الفساق؟
الجواب
فساق أهل السنة أنفسهم بحاجة إلى سلامة من الجرح.(526/36)
الليل والنهار في الجنة
السؤال
هل في الجنة ليل ونهار؟
الجواب
معلوم أن الليل والنهار إنما يكونان بالشمس والقمر وجريانهما، وقد جعلهما الله تعالى في الدنيا من أجل أن ينام الناس وينتشروا، فيستريحون بالليل، وينتشرون بالنهار لابتغاء الرزق، وتحصيل المعيشة، ولو جعل الله عليهم الليل سرمداً أو النهار سرمداً لحصل لهم من المشقة ما الله به عليم كما ذكره الله تعالى في القرآن، وأما الجنة فليس فيها إلا الضياء والنور، وليس فيها ليل ولا نهار.(526/37)
ذكر التفويض في لمعة الاعتقاد
السؤال
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله في (لمعة الاعتقاد) بعد أن تكلم عن آيات الصفات ووجوب الإيمان بها من غير تأويل ولا تشبيه، قال: وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً، وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله، فما صحة هذا الكلام؟
الجواب
هذا غلط وليس بصحيح، فتفويض المعنى غير مسلَّم، بل المعنى ثابت على ما يليق بالله سبحانه وتعالى، ومعلوم أن السميع غير البصير، فالبصر يتعلق بالمرئيات، والسمع يتعلق بالمسموعات، فلا يقال: إننا لا نفهم معنى البصر، ولا نفهم معنى السمع، ولا نفهم معنى القدرة، بل المعنى معلوم كما قال ذلك الإمام مالك بن أنس رحمة الله عليه عندما سئل كيف استوى؟ قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، أي: السؤال عن الكيفية، فالمعنى ثابت، ولكنه ليس كما يليق بالمخلوقين، بل كما يليق بالله سبحانه وتعالى، كما قال الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فأثبت السمع والبصر، ونفى المشابهة، فله سمع لا كالأسماع، وبصر لا كالأبصار.
وأما تفويض الكيف مع فهم المعنى فهو منهج أهل السنة والجماعة، وأما المفوضة الذين يقولون في صفات الله: الله أعلم بمراده بذلك، وإن المعنى لا يفهم، فمذهبهم باطل، وليس هذا منهج السلف ولا طريقتهم، بل طريقة السلف تفويض الكيف دون المعنى، وقد بيّن ذلك الإمام مالك بن أنس رحمة الله عليه حيث قال: الاستواء معلوم، -أي: ليس فيه تفويض- والكيف مجهول-أي: أنه يفوّض، والتفويض ليس منهج السلف، وإنما هو طريقة أهل البدع، ولا يصح أن يقال: إن مذهب السلف من الصحابة ومن سار على منوالهم هو التفويض ومن قال ذلك فقد ارتكب ثلاثة محاذير.
الأول: أنه جاهل بمذهب السلف، والثاني: أنه مجهِّل لهم، أي نسبهم إلى الجهل، وأنهم لا يعلمون معاني ما خوطبوا به، لذلك فإنهم يقولون: الله أعلم بمراده، وهذا غلط، فقد فسروا قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] بأن الاستواء هو العلو والارتفاع، ففسروها بما تقتضيه اللغة.
والثالث: أنه كاذب عليهم؛ لأن مذهبهم ليس هو التفويض، بل هو إثبات المعنى، كما قال الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فالسمع معناه معروف، والبصر معناه معروف، ولا يقال: الله أعلم بمعنى السمع، والله أعلم بمعنى البصر، فالسمع يتعلق بالمسموعات، والبصر يتعلق بالمرئيات والمبصَرات، وسمع الله تعالى محيط بكل شيء، ولا يخفى عليه شيء، وكذلك بصره نافذ في كل شيء، ومحيط بكل شيء.(526/38)
قول الرجل لأخيه: وجدتك صدفة
السؤال
ما حكم قول الرجل لأخيه: وجدتك صدفة؟
الجواب
إذا كان المقصود أن ذلك من غير قصد ولا إرادة فلا بأس به، وهذا هو الذي يسمونه اتفاقاً، أي: حصل اتفاقاً من غير قصد، فالإنسان كان لا يفكر فيه ثم لقيه اتفاقاً، وكل شيء بقضاء وقدره.(526/39)
إذا ركع الإمام قبل أن يكمل المأموم قراءة الفاتحة فماذا يفعل؟
السؤال
بعض الأئمة يستعجلون في الصلاة، فيركع أحدهم ولم يفرغ المأموم من قراءة الفاتحة، فهل يقطع المأموم قراءة الفاتحة ويركع أم ماذا يفعل؟
الجواب
يكملها بسرعة ويلحق، وإذا كان الخلل من المأموم فإنه يتدارك الخلل، فبعض المأمومين قد يسهو، أو قد يطيل، وهو يعرف حال إمامه من الإسراع في القراءة، فعليه أن يعمل على أن ينهي الفاتحة قبل أن يركع الإمام، وإذا كان الإمام يستعجل فينبه إلى ضرورة ألا يتأخر ولا يستعجل.(526/40)
جواز إنابة خطيب الجمعة من يصلي بالناس
السؤال
خطب خطيب الجمعة، ولما انتهى من الخطبة أناب شخصاً آخر يصلي بالناس، فما حكم ذلك؟ الشيخ: يجوز.
ولا بأس بذلك.(526/41)
حكم اتباع جنازة المبتدع
السؤال
جاء عن الفضيل بن عياض رحمه الله أنه قال: من مشى في جنازة مبتدع فهو في غضب الله حتى يرجع، فهل هذا ينطبق على كل مبتدع في هذا الزمان؟
الجواب
لا أدري عن صحة نسبة هذا الكلام إلى الفضيل، وكون من فعل ذلك فإنه يكون في غضب الله هذا من الأمور المغيبة، ولكن -كما هو معلوم- فإن هناك مبتدعة، وهناك من عنده بدعة وليس من أهل البدع، فأهل البدع مثل المعتزلة والخوارج.(526/42)
شرح سنن أبي داود [527]
حديث جبريل عليه السلام في بيان مراتب الدين حديث عظيم، وقد أورده ابن عمر بطوله من أجل إثبات الإيمان بالقدر والرد على من ينكره، وفي هذا الحديث فوائد جمة منها: أهمية الشهادتين واشتمالهما على أنواع التوحيد الثلاثة، وكذلك قدرة الملائكة على التمثل بصورة البشر.(527/1)
ما جاء في القدر(527/2)
شرح حديث جبريل في مراتب الدين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من تكلم في القدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر! فوفق الله لنا عبد الله بن عمر داخلاً في المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم، يزعمون أن لا قدر والأمر أنف؟ فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم برآء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر.
ثم قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا نعرفه، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً.
قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه! قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره.
قال: صدقت.
قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل.
قال: فأخبرني عن أمارتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان.
قال: ثم انطلق فلبثت ثلاثاً، ثم قال: يا عمر! هل تدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)].(527/3)
طريقة السلف في الاستدلال
أورد أبو داود رحمه الله هنا حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وهو حديث جبريل المشهور، وهو مشتمل على الإيمان بالقدر؛ وأنه أحد أصول الإيمان الستة، التي أجاب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سؤال جبريل عن الإيمان فذكر: (وتؤمن بالقدر خيره وشره).
وحديث جبريل هذا حديث عظيم، بين النبي صلى الله عليه وسلم في آخره أن جبريل جاء يعلم الدين، وكان تعليمه للدين بإلقائه السؤال على الرسول صلى الله عليه وسلم فأضاف إليه أنه معلم للدين؛ لأنه سأل أسئلة ويريد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيب عليها، حتى يتعلم الناس الذين عنده الدين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأضيف التعليم إليه كما هو مضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي أجاب وهو الذي بيّن، وقد كان جبريل عالماً بالجواب، ولكنه أراد أن يسأل حتى يسمع الحاضرون الجواب.
وقد أورد ابن عمر رضي الله عنه الحديث بطوله من أجل الاستدلال على الإيمان بالقدر، وهذه طريقة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فقد كانوا إذا سئلوا أحياناً يجيبون، وأحياناً يأتون بالدليل، وأحياناً يأتون بالدليل دون الجواب اكتفاءً بالدليل؛ لكن ابن عمر رضي الله عنه بيّن حكم القدر وشأنه وأيضاً ساق الحديث الطويل كله من أجل قوله: (وتؤمن بالقدر خيره وشره).
وفي هذا أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا إذا سئلوا عن شيء ساقوا الحديث الطويل من أجل اشتماله على جزئية معينة؛ لأنهم بهذا الجواب يعطون السائل ما سأل ويزيدونه على ذلك أموراً أخرى.(527/4)
اهتمام التابعين بالعلم وسؤال الصحابة عن ذلك
وقد ذكر في الحديث أن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري خرجا من العراق حاجين أو معتمرين، أي: سافرا إلى مكة في حج أو عمرة، فكان من مهمتهم بالإضافة إلى كونهم يؤدون هذا النسك أنهم يتفقهون في الدين، وأن يخبروا بما حصل عندهم من أمور منكرة، فيرجعون في ذلك إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم هم الذين يرجع إليهم في معرفة الأحكام الشرعية في زمانهم؛ لأنهم شاهدوا التنزيل ورأوا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وسمعوا حديثه.
وفي هذا دليل على حرص التابعين على لقي الصحابة، وسؤالهم عن الأمور المشكلة.
قوله: [(خرجنا حاجين أو معتمرين)]، شك أهو حج أو عمرة.
قوله: [(فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله)].
أي لعلنا نلقى أحداً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فنبدي هذا الذي ظهر في بلادنا.
قوله: [(فوفق الله لنا عبد الله بن عمر)] يعني: أنه حصل أنهما لقيا عبد الله بن عمر وهو داخل المسجد فاكتنفاه عن يمينه وعن شماله، قال يحيى بن يعمر: (فظننت أن صاحبي سيكل الحديث إلي)، أي أنه فهم من صاحبه حميد بن عبد الرحمن الحميري أنه واكل الحديث إليه ليبدأ بالكلام ويسأل، وكانا قد اكتنفاه حتى كان كل واحد منهما على تمكن من سماع كلامه، وما يجيب به، واستيعابه، بحيث لا يفوته منه شيء، ثم أيضاً هذا الاكتناف يدل على حرص التابعين على الاستفادة من الصحابة.(527/5)
كلام القدرية في خلق أفعال العباد
فسأله يحيى بن يعمر وقال: (إنه ظهر قبلنا).
يعني: في بلدنا (أناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم).
يعني: عندهم اشتغال بالعبادة واشتغال بالعلم، وهم يقرءون القرآن ويشتغلون به، ويتقفرون العلم أي يجتهدون في تحصيله، وفي معرفته والبحث عنه، ولكن الشيء الذي ينكر والشيء الذي ظهر منهم أنهم يقولون لا قدر، وأن الأمر أنف، أي أنه مستأنف وليس هناك علم سابق، بمعنى أن العباد يوجدون أفعالهم ويخلقونها، وأن الله تعالى لم يقدر عليهم شيئاً، فقال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه: (إذا لقيتموهم فأخبروهم أنني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً ما تقبله الله منه، حتى يؤمن بالقدر خيره وشره)، ثم ساق الحديث عن أبيه من أجل قوله: (وتؤمن بالقدر خيره وشره).
وفي هذا الكلام من ابن عمر دليل على أن من لا يؤمن بالقدر فعمله مردود، وذلك لأنه أتى بشيء لا يقبل معه عمل، وهو عدم الإيمان بالقدر، الذي هو أصل من أصول الدين.
وقد ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله عن هؤلاء أنهم يقولون: إنه ما تقدم قدر ولا علم، وإن الله تعالى لا يعلم بالأشياء إلا بعد وقوعها، وهؤلاء هم الغلاة في نفي القدر؛ لأنهم ينفون العلم الأزلي بكل شيء، وعلى هذا فقول الله عز وجل: {أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:231] {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12] لا تدخل فيه أفعال العباد التي يدعي هؤلاء أنهم يخلقونها وأن الله تعالى لا يعلمها ولا يقدرها، وهؤلاء كفرهم العلماء.
قال: وأما الذين لا ينكرون العلم فقد جاء عن جماعة من أهل العلم أنهم قالوا: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا وإن أنكروه كفروا، وقال: إن في تكفيرهم خلافاً بين العلماء.(527/6)
قدرة الملائكة على التمثل بهيئة البشر
ثم ساق ابن عمر الحديث عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: كانوا جالسين عند النبي صلى الله عليه وسلم يستفيدون منه ويتفقهون ويتحملون عنه السنن، فذكر أنه طلع عليهم رجل غريب، لا يعرفه أحد منهم، ومع ذلك لا يظهر عليه أثر السفر؛ لأن شعره شديد السواد، ولباسه شديد البياض، والمعروف أن المعتاد من حال المسافر أنه يصير شعره أشعث وعليه غبار السفر، ولكن هذا على خلاف ما اعتادوه وما ألفوه، فكان موضع استغراب منهم.
وهذا الذي جاء هو جبريل، وكان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صوره غير معروفة كما في هذا الحديث، وكان يأتي في صورة دحية بن خليفة الكلبي، وكان من أجمل الصحابة رضي الله تعالى عنه.
وفي هذا بيان أن الملائكة خلقهم الله عز وجل ذوي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وهم يطيرون بأجنحتهم، ويتحول أحدهم من هيئته التي هو عليها إلى هيئة إنسان، وذلك مثلما جاء ضيوف إبراهيم عليه السلام إليه وإلى لوط في صور رجال، وكذلك أتى جبريل عليه السلام إلى مريم في صورة رجل.
وجبريل عليه السلام خلقه عظيم، وله ستمائة جناح كما ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم على هيئته مرتين: مرة ليلة المعراج فوق السماوات، ومرة رآه في الأرض وقد سد الأفق.
ومعلوم أن أصل الملائكة غير أصل البشر، فإن الملائكة خلقوا من نور والبشر خلقوا من تراب، وقد جاء في القرآن أن آدم عليه الصلاة والسلام خلق من تراب، والجان خلق {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15] وجاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم).
فهذا المخلوق العظيم من نور يتحول إلى هيئة إنسان.
فلما جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصل إليه (أسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع يديه على فخذيه)، وبدأ يسأل الأسئلة التي يريد من ورائها أن يسمع الحاضرون الجواب عليها، ليتعلموا الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).
وفي هذا دليل على أن السائل يمكن أن يسأل ليعلم الجواب لكونه جاهلاً به، ويمكن أن يسأل وهو عالم بالجواب، والمقصود من ذلك أن يسمع الحاضرون الجواب، فيريد أن يشاركه غيره بمعرفة الجواب عن السؤال الذي يسأل عنه.(527/7)
أهمية الشهادتين في أركان الإسلام
ثم بدأ بالأسئلة فقال: (يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً.
قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه)؛ لأن من شأن السائل أنه إذا أعطي الجواب أنه يأخذه، وأما إذا قال: صدقت! فمعناه أن الجواب معروف عنده؛ لأن الذي يقول: صدقت هو العالم بالجواب، حيث حصل الجواب طبقاً لما عنده فقال: صدقت! والرسول صلى الله عليه وسلم أجاب ببيان الإسلام بأمور ظاهرة، وهي: الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج، وهذه أركان الإسلام الخمسة التي بني عليها كما جاء في حديث ابن عمر: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)، ومعنى ذلك: أن هذه الخمس هي الأسس التي يقوم عليها الإسلام، وأولها الشهادتان.
والشهادتان هي الأساس لبقية الأركان، ولكل عمل من الأعمال، فهما أصل من الأصول الخمسة ولكنهما الركن الركين والأساس المتين الذي تقوم عليه بقية الأركان؛ لأن الصلاة والزكاة والصيام والحج وكل عمل من الأعمال لابد أن يكون مبنياً على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإلا فإن العمل لا عبرة به، كما قال الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].(527/8)
تلازم الشهادتين
ثم إن الشهادتين متلازمتان، لا تنفك إحداهما عن الأخرى، ولا تقبل إحداهما بدون الأخرى، فمن شهد أن لا إله إلا الله ولم يشهد أن محمداً رسول الله لم تنفعه شهادته، فأهل الكتاب إذا شهدوا أن لا إله إلا الله ولم يشهدوا أن محمداً رسول الله لا ينفعهم ذلك، بل لابد من الشهادة، بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه، فهم مكلفون بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإذا لم يحصل منهم ذلك فإنهم لا يكونون من أهل الإسلام، ولا يقال: إنهم يتبعون الأنبياء السابقين، لأن الأنبياء أمروا أتباعهم باتباعه إذا بعث، لأن الرسالات ختمت ببعثته ونسخت، ومن تمسك بها وأعرض عما جاء به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فإنه كافر ومآله إلى النار خالداً فيها أبد الآباد.
ومما يدل على ذلك أنه قد جاء في حق موسى عليه السلام أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي).
فالرسول الذي يزعم اليهود أنهم أتباعه لو كان حياً لم يسعه إلا اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، أما عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام الذي يزعم النصارى أنهم أتباعه، فإنه قد رفع إلى السماء، وسينزل في آخر الزمان ويقتل الدجال، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام، ويحكم بشريعة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ولا يحكم بالإنجيل الذي أنزل عليه؛ لأن الإنجيل قد نسخ ولم يبق في الأرض إلا شريعة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام التي هي خالدة باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(527/9)
معنى شهادة أن لا إله إلا الله
ثم لابد من معرفة معنى الشهادتين: فالشهادة الأولى معناها: الشهادة لله بالوحدانية والألوهية، فهو واحد في ربوبيته، وواحد في ألوهيته، وواحد في أسمائه وصفاته.
واحد في ربوبيته فلا شريك له في خلق السماوات والأرض ولا في خلق غيرهما، وهو رب العالمين -والعالمون كل من سوى الله- والله تعالى هو الخالق وكل من سواه مخلوق، فالخلق خلقه، وكل شيء إنما وجد بخلقه وإيجاده سبحانه وتعالى، وهو المتصرف في الكون كيف يشاء، فهو الذي يحيي ويميت ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.
وتوحيد الربوبية: هو توحيد الله تعالى بأفعاله، أي أن الله واحد في أفعاله، وهي الخلق والرزق والإحياء والإماتة وتدبير الكون.
وهو واحد في ألوهيته: أي أنه المعبود وحده الذي لا تصرف العبادة لغيره، بل يجب أن تكون خالصة له عز وجل، هذا هو توحيد الألوهية، وهو توحيد الله بأفعال العباد كالدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والإنابة والاستعاذة، والاستغاثة، والذبح، والنذر، وغيرها من أفعال العباد، التي يجب أن تكون كلها لله عز وجل، أي أنه يخص بها ويعبد بها ولا يعبد بها غيره، ولا يشرك معه أحد في العبادة، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل.
وكيف تصرف العبادة لمن كان عدماً فأوجده الله؟! وكيف يعبد المخلوق مخلوقاً مثله؟! فإذن العبادة لا تكون إلا للخالق الموجد الذي خلق الخلق كلهم، ولم يشاركه في الخلق أحد، فكذلك يجب أن يفرد بالعبادة، ولا يشاركه فيها أحد.
ومعنى أشهد أن لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله، أو: لا معبود حق إلا الله.
فالنفي إنما هو للألوهية الحقة، وإلا فإن الألوهية الباطلة موجودة وكثيرة، وقد قال الكفار لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] فالنفي ليس للوجود، وليس المعنى: لا إله موجود إلا الله، لأن هناك آلهة موجودة ولكنها باطلة، فعلم أن خبر (لا إله) هو: حق، أو: بحق، وبهذا تخرج الآلهة الأخرى؛ لأنها بباطل أو أنها باطل.
فلا يصح ولا يجوز أن يقال: لا إله موجود إلا الله؛ لأن الآلهة التي تعبد مع الله وتعبد من دون الله موجودة، ولكن الذي يختص به الله ويخرج به من سواه أن نقول: لا إله حق أو لا إله بحق إلا الله.
فشهادة أن لا إله إلا الله تقوم على ركنين: النفي والإثبات، نفي عام في أولها، وإثبات خاص في آخرها، فالنفي في (لا إله) والإثبات في (إلا الله) والنفي عام حيث تنفي الألوهية عن كل من سوى الله، والإثبات الخاص هو أن تثبتها لله وحده.
والتوحيد الأول الذي هو توحيد الربوبية لم ينكره الكفار الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كانوا مقرين بهذا التوحيد، وقد جاء في القرآن آيات تدل على إقرارهم كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25].(527/10)
التلازم بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية
ويأتي في القرآن كثيراً توحيد الربوبية لا لأن الكفار أنكروه، ولكن لينتقل منه إلى توحيد الألوهية، وليلزم من أقر به أن يقر بالألوهية، ولهذا يقولون: توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية بمعنى أن من أقر بالأول يلزمه أن يقر بالثاني، فإذا اعترف بأن الله الخالق وحده الرازق وحده المحيي وحده المتصرف بالكون وحده، لزمه أن يقر بأن الله هو المعبود وحده، فلا يعبد مع الله مخلوقاً، وإنما يعبد الخالق وحده، فكما أنه متفرد بالخلق والإيجاد، فكذلك يجب أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له.
ويأتي في القرآن كثيراً تقرير توحيد الربوبية للانتقال لتوحيد الألوهية والإلزام به، كما قال الله عز وجل في سورة النمل: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:60].
هذا تقرير توحيد الربوبية، والمقصود من هذا السياق: {أإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، استفهام إنكار معناه أن الذي انفرد بالخلق والإعجاز، لماذا لا يفرد بالعبادة؟ فإذاً هذا التقرير ليس لأنهم منكرون له فيلزمون به، بل هم مقرون؛ لكن المقصود من ذلك الانتقال إلى الإلزام بالألوهية، {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:60] أي: يسوون بين الله وغيره.
ثم قال: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاًءَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النمل:61].
وهكذا يأتي في القرآن تقرير توحيد الربوبية من أجل الانتقال منه إلى الإلزام بالألوهية.
وكذلك العكس، فإنهم يقولون: توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، أي: أن من أقر بالألوهية فقد أقر بالربوبية ضمناً، لأنه لا يصلح أن يثبت الألوهية وينكر الربوبية، فمن يعبد الله وحده ويخصه بالعبادة لا يقول: إن لله شريكاً في خلق السماوات والأرض، ولكن من أقر بالربوبية قد ينكر الألوهية كما حصل من الكفار الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء الإلزام لهم بالألوهية كما تقدم.(527/11)
توحيد الأسماء والصفات
فالله واحد في ربوبيته، واحد في ألوهيته، وكذلك واحد في أسمائه وصفاته؛ فالله تعالى له أسماء حسنى وصفات عليا، ولكن هذه الأسماء والصفات إنما تعرف من الكتاب والسنة، فلا يضاف إلى الله شيء إلا إذا جاء في الكتاب والسنة، فالأسماء والصفات لابد من الدليل عليها، لأنها غيب، والغيب لا يعرف إلا عن طريق الوحي، فنثبت لله من الأسماء والصفات كل ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم على وجه يليق بكماله وجلاله، دون تمثيل أو تشبيه أو تكييف، ودون تحريف أو تعطيل أو تأويل، بل كما قال الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
فأثبت السمع والبصر بقوله: ((وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))، ونفى المشابهة بقول: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)).
فله سمع لا كالأسماع، وله بصر لا كالأبصار فيجب أن يكون توحيد الأسماء والصفات قائماً على أساس الإثبات مع التنزيه، لا الإثبات مع التشبيه، ولا التنزيه مع التعطيل، ولهذا كان أهل السنة والجماعة وسطاً بين المشبهة الذين أثبتوا وشبهوا، والمعطلة الذين قالوا: إن الله منزه عن صفات المخلوقين، فعطلوا الصفات اللائقة بالله عز وجل، فآل أمرهم إلى أن شبهوا الله بالمعدومات، أما أهل السنة والجماعة فإنهم أثبتوا ولم يعطلوا، ومع إثباتهم لم يشبهوا ولم يمثلوا، بل نزهوا، كما قال الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].(527/12)
أنواع التوحيد ثلاثة لا رابع لها
هذه أنواع التوحيد الثلاثة، وقد دل الكتاب العزيز عليها بالاستقراء؛ لأنه ليس هناك دليل يدل على هذا التقسيم، ولكن عرف بالاستقراء من نصوص الكتاب والسنة أنه ينقسم إلى ثلاثة أنواع: ربوبية، وألوهية، وأسماء وصفات، وليس هناك قسم رابع، وما يذكر من أن هناك أنواعاً من التوحيد تضاف إليها فغير صحيح؛ لأنها ترجع إليها ولا تخرج عنها، فالذين قالوا: هناك توحيد الاتباع، يقال لهم: إن الاتباع داخل في الألوهية؛ لأن التوحيد يقوم على ركنين: أن تكون العبادة خالصة لله، وأن تكون مطابقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإخلاص هو معنى: أشهد أن لا إله إلا الله، ومطابقة السنة هو معنى: أشهد أن محمداً رسول الله، وإذا اختل أحد هذين الشرطين لم يقبل العمل، فإن اختل الإخلاص رد العمل؛ لقول الله عز وجل في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه).
وإن أختل شرط المتابعة رد العمل، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
إذاً توحيد الاتباع لا يقال: إنه قسم من أقسام التوحيد، فيضاف إلى الأقسام الثلاثة.
وكذلك لا يقال: إن هناك توحيد الحاكمية وإنه يضاف إلى أنواع التوحيد الثلاثة، بل الحاكمية لها حالتان: فإما أن يراد بها طريق التشريع والحكم الكوني، فهذا يرجع إلى توحيد الربوبية، وإما أن يراد بها الأحكام الشرعية، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية المشتملة على الأحكام، فهذا يدخل في توحيد الألوهية؛ لأن العبادة ما عرفت إلا عن طريق الكتاب والسنة، والأحكام الشرعية ما عرفت إلا عن طريق الكتاب والسنة، فلا يقال: إنه قسم يضاف إلى الأقسام الثلاثة.
إذاً: فالاستقراء -وهو تتبع نصوص الكتاب والسنة- يبين أن أنواع التوحيد ثلاثة، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.(527/13)
ذكر أنواع التوحيد في سورة الفاتحة
سورة الفاتحة مشتملة على أنواع التوحيد الثلاثة، وسورة الناس مشتملة على أنواع التوحيد الثلاثة.
فقوله في سورة الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] يشتمل على أنواع التوحيد الثلاثة، فقوله ((الْحَمْدُ لِلَّهِ)).
فيه توحيد الألوهية؛ لأن فيه إسناد الحمد وإضافته إلى الله، وهو عبادة، وتوحيد الألوهية هو إفراد الله بالعبادة.
وقوله: ((لِلَّهِ)) هذا اسم من أسماء الله الحسنى، بل هو أعظم أسماء الله، بل هو الاسم الذي تنسب إليه الأسماء كما قال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف:180] ويخبر بالأسماء عنه فيقال: والله غفور رحيم، والله عزيز حكيم، فالله مبتدأ، وغفور خبر، فتأتي الأسماء مضافة إليه وتابعة له أو منسوبة إليه، وهذا هو توحيد الأسماء والصفات.
وقوله: ((رَبِّ الْعَالَمِينَ))، هذا توحيد الربوبية، والعالمون هم: كل من سوى الله، فالله تعالى ربهم الموجد لهم، المتصرف فيهم كيف يشاء، وأيضاً الرب من أسماء الله كما قال الله عز وجل: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58].
إذاً: الآية الأولى مشتملة على الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
وقوله: {الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] اسمان من أسماء الله يدلان على صفة من صفات الله وهي الرحمة، ففيه توحيد الأسماء والصفات، وأسماء الله عز وجل ليس فيها اسم جامد، بل كلها تدل على معانٍ، وكل اسم منها يشتق منه صفة، فالرحمن يدل على الرحمة، والرحيم يدل على الرحمة، والعزيز يدل على العزة، والحكيم يدل على الحكمة، والعليم يدل على العلم، والبصير يدل على البصر، والسميع يدل على السمع، والخبير يدل على الخبرة، وهكذا كل اسم يدل على صفته، لكن العكس لا يكون؛ لأن من صفات الله اليد والوجه، ولا يؤخذ منها أسماء؛ لأنها صفات ذاتية، ومن صفات الله الفعلية الاستهزاء والمكر والكيد، ولا يؤخذ منها أسماء، فلا يقال: مستهزئ ولا ماكر ولا كائد من أسماء الله.(527/14)
ليس الدهر من أسماء الله
وقد جاء عن بعض أهل العلم أنه قال: إن من أسماء الله الدهر، أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم: (يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار) ولكن هذا غير صحيح، والدهر اسم جامد، وقوله فيه: (وأنا الدهر) ليس معنى ذلك أنه اسم من أسمائه، وإنما هذا بيان أن من سب الدهر فقد سب الله؛ لأن الدهر هو الزمان، والزمان يتقلب، والله تعالى هو المقلب، ومن سب المقلَّب رجعت سبته إلى المقلَّب، ولهذا قال بعده: (بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)؛ لأن الدهر ليس فاعلاً متصرفاً، وإنما هو متصرف فيه.
فهذا هو معنى الحديث، وليس معناه أن الدهر اسم من أسماء الله؛ لأن أسماء الله كلها حسنى -ولا يقال: إنها حسنة فقط- بل هي حسنى أي: بالغة في الحسن نهايته وكماله.(527/15)
سر التنصيص على يوم الدين في سورة الفاتحة
وقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] يوم الدين هو: الجزاء والحساب يوم القيامة، والناس يجازون يوم القيامة بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر، والله تعالى مالك الدنيا والآخرة، ومالك كل شيء، فلماذا قيل: مالك يوم الدين مع أنه مالك الدنيا والآخرة؟ لأن ذلك اليوم هو الذي يظهر فيه الخضوع لرب العالمين من كل أحد، أما في الدنيا فقد وجد من يتكبر ومن يتجبر، بل قد وجد من قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ووجد من قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38].
أما الآخرة فليس هناك إلا الذل والخضوع لله عز وجل، ففي ذلك اليوم يظهر السؤدد، وهذا هو سر التنصيص على يوم الدين، والله أعلم.
ونظير هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد الناس يوم القيامة) مع أنه سيد الناس في الدنيا والآخرة، ولكن خص بالذكر يوم القيامة؛ لأنه يظهر فيه سؤدده على الخليقة كلها من أولها إلى آخرها، وذلك أنه يشفع الشفاعة العظمى التي تستفيد منها الخليقة كلها من أولها إلى آخرها، ولهذا قيل لمقامه ذاك: المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون.
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] توحيد ألوهية، وقدم المفعول للحصر، أي: نعبدك وحدك ولا نعبد معك غيرك، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] توحيد ألوهية؛ لأنه دعاء، والدعاء هو العبادة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6 - 7] الذين هم أهل التوحيد، {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] الذين جانبوا التوحيد، وكفروا بالله عز وجل.
فإذاً: هذه السورة مشتملة على أنواع التوحيد الثلاثة في مواضع متعددة.(527/16)
اشتمال سورة الناس على أنواع التوحيد الثلاثة
كذلك سورة الناس: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:1 - 6] مشتملة على أنواع التوحيد الثلاثة.
فالآية الأولى فيها كالآية الأولى في سورة الفاتحة، فقوله: ((أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)) فيه توحيد ألوهية؛ لأن الاستعاذة من توحيد الألوهية.
وقوله: ((بِرَبِّ النَّاسِ)) فيه توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات؛ لأن من أسماء الله الرب، ورب الناس معناه: خالق الناس وموجد الناس ومربي الناس بالنعم سبحانه وتعالى.
وقوله: {مَلِكِ النَّاسِ} [الناس:2] فيه توحيد الربوبية، أي: هو مالكهم وملكهم، وفيه أيضاً توحيد الأسماء والصفات؛ لأن من أسماء الله الملك.
وقوله: {إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:3] فيه توحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات؛ لأن من أسماء الله الإله.
فهذه أنواع التوحيد الثلاثة اشتملت عليها سور القرآن، ويتضح ذلك بأول سورة وآخر سورة في المصحف، الفاتحة والناس، وهما الفاتحة والخاتمة.
وعلى هذا فإن شهادة أن لا إله إلا الله تتضمن الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى واحد في ألوهيته، وواحد في ربوبيته، وواحد في أسمائه وصفاته، وواحد في العبادة، والخلق إنما خلقوا للعبادة، كما قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] فإن الرسل أرسلت للدعوة إلى توحيد العبادة، والكتب أنزلت حتى يعبد الله طبقاً لما أمر به.
والله تعالى إنما خلق الخلق ليؤمروا وينهوا، فقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أي: إلا لآمرهم وأنهاهم، أي: أنهم أمروا بالعبادة، ولو قدر الله عز وجل أن يعبدوه ما تخلف عن عبادته أحد، كما قال الله عز وجل: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13].
إذاً أول أركان الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله، وقد عرفنا ما يتعلق بها، وعرفنا أنها اشتملت على أنواع التوحيد الثلاثة، وأن أنواع التوحيد الثلاثة دل عليها استقراء نصوص الكتاب والسنة، وعرفنا التمثيل لذلك في سورة الفاتحة وسورة الناس.(527/17)
معنى شهادة أن محمداً رسول الله
أما شهادة أن محمداً رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فقد قال فيها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في الأصول الثلاثة هي: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، فهي تشتمل على هذه الأمور.
فشهادة أن محمداً رسول الله تقتضي أن يطاع في كل ما يأمر به، وأن ينتهى عن كل ما ينهى عنه، وأن يصدق بكل خبر يخبر به، وأن لا يعبد الله إلا طبقاً لما جاء به، فلا يعبد بالبدع والمنكرات والمحدثات، وإنما يعبد بالوحي الذي جاء به من عند الله كتاباً وسنة، فالعبادة لابد أن تكون خالصة لله، وأن تكون مطابقة لسنة رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ويدخل في ذلك محبته عليه الصلاة والسلام محبة تفوق محبة كل مخلوق، ولا يتقدم عليه أحد في المحبة من الخلق، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).
فوالدا الشخص اللذان كانا سبباً في وجوده وقد قاما بتنشئته وتربيته والإحسان إليه، حتى بلغ مبلغ الرجال وصار رجلاً سوياً، وكذلك أولاده الذين تفرعوا منه، وهو يحبهم ويشفق عليهم، لا يؤمن حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه منهم، وذلك لأن المنفعة التي حصلت من الوالدين هي أنهما كانا سبب وجوده وقاما بتنشئته، لكن المنفعة التي حصلت له بسبب الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم، وهي الهداية للصراط المستقيم، والخروج من الظلمات إلى النور، فصارت محبته تفوق محبة الوالدين والأولاد.
وقوله: (والناس أجمعين) يعم من كان للإنسان به علاقة ومن ليس له به علاقة من الناس، فلابد أن تكون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم في قلبه مقدمة على محبة كل من سواه من الناس، فهذا هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والله تعالى أعلم.(527/18)
الأسئلة(527/19)
أهمية الرجوع إلى أهل العلم
السؤال
هل يستفاد من حديث جبريل الذي سأل فيه النبي عن الإسلام والإيمان والإحسان أن للمسلمين مرجعية وهم العلماء، بينما في هذا الزمان لم يعد طلبة العلم فضلاً عن العامة يرجعون إلى العلماء وقت الفتن؟
الجواب
نعم.
حديث جبريل يدل على ذلك؛ لأن الناس الذين كانوا في العراق لما وجد القول بالقدر رجعوا إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: لعلنا نجد أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنسأله عما وجد في بلدنا، فكان أن وجدوا عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فهذا يدل على الرجوع إلى أهل العلم، والله تعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] والذي يرجع إليهم في أمور الدين، وعند حصول الأمور المنكرة التي فيها خروج عن الدين، والتي فيها انحراف عن الدين، هم أهل العلم الذين يبينون الأحكام الشرعية، ويبينون فساد الطرق المنحرفة عن الجادة وعن الصراط المستقيم.(527/20)
ذكر يحيى بن يعمر لمحاسن القدرية عند سؤال ابن عمر عن قولهم
السؤال
أشكل علي في حديث جبريل أنه لبيان بدعة القدرية ولكن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن ذكرا لـ ابن عمر محاسنهم من العبادة والاجتهاد في العلم، ولم ينكر ابن عمر ذلك، فهل في ذلك ما يدل على الموازنات؟
الجواب
لا يدل على ذلك، ولكن هذا يبين أن هؤلاء لم يكونوا منحرفين عن العبادة؛ لأنهم عندهم عبادة، وعندهم قراءة قرآن، لكن وجد منهم هذا الأمر المنكر، فالمقصود من ذلك حتى يعرف أن هذا الذي حصل لم يكن من أناس لا علاقة لهم بالدين ولا يشتغلون به، بل هم منتسبون إلى الدين، ولكنهم جاءوا بهذه البدعة، فلا يدل هذا على أنه لا يذكر مبتدع حتى تذكر حسناته قبل ذلك؛ لأن المقصود من هذا ليس ذكر الحسنات، وإنما المقصود من ذلك بيان أن هؤلاء ما جاء هذا الكلام منهم لأنهم بعيدون عن المسلمين، وليسوا على الإسلام، ولا يشتغلون بالقرآن ولا يشتغلون بالعلم، بل هم مجتهدون، ولكن البلاء جاء من الانحراف والبدعة التي حصلت لهم.
ومعلوم أن المهم في الأمر هو المسئول عنه، ولكن هذا تمهيد من أجل بيان حالهم، وأن لا يظن أنهم منحرفون في الأصل انحرافاً كلياً، بل عندهم شيء من الدين، ولكنهم أتوا بهذه البدعة الخبيثة.
والرسول صلى الله عليه وسلم لما استشارته المرأة وذكرت له اللذين خطباها وهما معاوية وأبو جهم، أجابها ببيان حالهما من حيث التزوج، فقال: (أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه) وما قال: معاوية كاتب الوحي، ومعاوية رجل ذكي، بل أتى بالشيء الذي يهمها، وهذان اللذان سألا ابن عمر رضي الله عنه أرادا أن يبينا أن هؤلاء ينتسبون للإسلام ويقرءون القرآن ويتقفرون العلم، ومع ذلك يقولون بهذه المقالة الخبيثة.(527/21)
حكم ذكر الأب باسمه الصريح
السؤال
هنا قول ابن عمر في حديث جبريل: حدثني عمر، هل يؤخذ منه جواز ذكر الأب باسمه صراحة؟
الجواب
الأصل أن الإنسان يذكر أباه بأبوته له، ويجوز ذكره في مثل هذه الحال باسمه، لكن عندما يخاطب أباه يخاطبه بالأبوة، ولا يخاطبه باسمه.(527/22)
حكم الاستدلال على التمثيل بتمثل جبريل في صورة بشر
السؤال
هل يستدل بحديث جبريل في مراتب الدين على جواز التمثيل، حيث إن جبريل عليه السلام تمثل بصورة بشر؟
الجواب
لا يدل على التمثيل، لأن التمثيل كذب، وأما هذا فمخلوق كان على هيئة تسد الأفق وله ستمائة جناح، وقد جاء بهذه الهيئة الحقيقية؛ لأن نفس الخلقة التي تسد الأفق تحولت إلى هذا، ولا يقال: هذه صورة جبريل وجبريل جالس في مكانه أو باق في مكانه على هيئته، وإنما هو نفسه هذا الخلق الكبير انكمش حتى صار على هذه الهيئة، وجاء كذلك من أجل أن يقدروا على أن يستفيدوا منه؛ لأنه لو جاء على هيئته العظيمة لما استطاعوا أن يستفيدوا منه، ولما طلب الكفار إنزال الملائكة أخبر الله تعالى بأنه لو أنزل ملكاً لجعله على هيئة رجل، حتى يتمكنوا من التفاهم معه.
فالاستدلال على التمثيل بهذا لا يجوز؛ لأن التمثيل كذب مخالف للواقع، ولأن الغالب فيه أنه كذب من أجل الإضحاك، والكذب إذا كان معه إضحاك يكون أسوأ وأسوأ.(527/23)
شرح سنن أبي داود [528]
مراتب الدين من خلال حديث جبريل ثلاثة: الإسلام، والإيمان، والإحسان، وأعظم المراتب وأكملها الإحسان: وهو استشعار حضور الله وعظمته في كل وقت وحين، ولا يصل لهذه المرتبة إلا من أكرمه الله ورفع قدره ومنزلته، وفي هذا الحديث فوائد جمة وغزيرة منها: بيان المقصود بأركان الإيمان، وما ينطوي تحته من المسائل والفوائد المهمة، وبيان معنى الإحسان وعلامات الساعة وغيره.(528/1)
تابع شرح حديث جبريل في مراتب الدين(528/2)
الصلاة من أعظم أركان الإسلام
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من تكلم في القدر بالبصرة معبد بن الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق الله لنا عبد الله بن عمر داخلاً في المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم، يزعمون ألا قدر، والأمر أنف؟ فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر! لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر.
ثم قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا نعرفه، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً.
قال: صدقت.
قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه! قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره.
قال: صدقت.
قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل.
قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان.
قال: ثم انطلق، فلبثت ثلاثاً ثم قال: يا عمر! هل تدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)].
حديث جبريل عليه السلام حديث عظيم مشتمل على أمور عظيمة مهمة، وقد مر جملة منه في الدرس الماضي حتى وصلنا فيه إلى سؤال جبريل عن الإسلام، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أجابه فقال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سببيلاً) وقد ذكرنا أن هذه الأركان الخمسة هي التي بني عليها الإسلام، وأن الشهادتين هما أساس لبقية الأركان، وشرحنا الشهادتين.
ثم أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلاة، ولهذا لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن ورسم له الخطة التي يسير عليها في الدعوة إلى الله عز وجل، قال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة)، فهي أهم الأركان، وهي أول شيء يدعى إليه بعد التوحيد، وقد جعلها تالية للشهادتين؛ لأنها أعظم الأركان بعد الشهادتين؛ ولأنها صلة وثيقة بين العبد وبين ربه حيث تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات.
وبقية الأركان ليست مثلها، فمنها ما يتكرر في السنة، ومنها ما يتكرر في العمر.
ومن المعلوم أن الصلاة يمكن أن يعرف بها من يكون ولياً من أولياء الله، ومن يكون بخلاف ذلك، لأنك إذا صحبت إنساناً تستطيع أن تكتشفه في خلال أربع وعشرين ساعة، فإن كان من المحافظين على الصلاة فهي علامة خير، وإن كان بخلاف ذلك فهي علامة شر، بخلاف الزكاة فإنها لا تجب إلا على الأغنياء، ولا تجب إلا في السنة، ولا تجب إلا بشروط، فلا يعرف بها المرء بسرعة.
والصيام لا يجب إلا شهراً في السنة، والحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة، وأما الصلاة فتجب في اليوم والليلة خمس مرات، فهي كما قال بعض أهل العلم: صلة وثيقة بين العبد وبين ربه؛ لأنه لا يفرغ من صلاة إلا وهو يفكر في الصلاة التي تليها، وهكذا خلال أربع وعشرين ساعة، فإنه لازم عليه وواجب عليه أن يأتي بهذه الصلوات الخمس التي فرضها الله عز وجل على عباده.
وأمر الصلاة عظيم، وشأنها كبير، وقد جاءت نصوص كثيرة تدل على عظم شأنها، وأنها علامة تميز بين المؤمن والكافر، فالحد الفاصل بين المرء وبين الكفر والشرك ترك الصلاة، كما جاءت أحاديث كثيرة تتعلق بفضلها وعظم شأنها، وكذلك صلاة الجماعة ووجوبها، وأن التخلف عنها من علامات النفاق.
ويليها الزكاة، وهي قرينتها في كتاب الله عز وجل ونفعها متعد؛ لأنها تتعلق بالإحسان إلى الفقراء والمساكين، ولكنها لا تجب في السنة إلا مرة واحدة، وبعد ذلك الصيام، وهو لا يجب في السنة إلا شهراً واحداً، والحج لا يلزم في العمر إلا مرة واحدة، وما زاد على ذلك فهو تطوع.(528/3)
العلاقة بين الإسلام والإيمان
وجبريل عليه السلام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ففسره بالأعمال الظاهرة التي هي الشهادتان وهي قول باللسان، والأركان الأخرى التي هي أعمال بالجوارح؛ من صلاة وزكاة وصيام وحج، وكلها أمور ظاهرة، ولهذا فإن الإسلام في الأصل هو الاستسلام لله، ومعنى ذلك: أن هذا الاستسلام يظهر على الجوارح.
ثم إنه سأله عن الإيمان، فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره).
وهذه هي أركان الإيمان الستة، وقد فسره بأمور باطنة، وهي تناسب المعنى اللغوي الذي هو التصديق، وهو ما يقوم بالقلب، فأضيف إلى الإسلام ما يناسب معناه اللغوي، وهو الاستسلام والانقياد، وأضيف إلى الإيمان ما يناسب معناه اللغوي وهو ما يقوم بالقلب من التصديق.
وكما هو معلوم أن الإيمان لابد أن يكون بالقلب وباللسان وبالعمل، ولكن عند اجتماعهما أعطي الإسلام ما يناسب المعنى اللغوي وهو الظاهر، وأعطي الإيمان ما يناسب المعنى اللغوي وهو ما يقوم بالقلب من التصديق، ومن المعلوم أن لفظ الإيمان والإسلام من الألفاظ التي إذا جمع بينهما في الذكر فرق بينهما في المعنى، وإذا انفرد أحدهما شمل المعاني المفرقة عند الاجتماع، وفي حديث جبريل لما كان السؤال عن الإسلام والإيمان وزع المعنى العام عليهما، فأعطي الإسلام الأمور الظاهرة، وأعطي الإيمان الأمور الباطنة، لكن إذا جاء لفظ الإسلام منفرداً مستقلاً، فإنه يشمل الأمور الظاهرة والباطنة، كما قال الله عز وجل: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فليس المقصود من ذلك الأمور الظاهرة فقط دون ما يقوم بالقلوب، وكذلك قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] ليس المقصود من ذلك ما جاء في حديث جبريل: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلخ) بل يدخل فيه أركان الإسلام وأركان الإيمان، وكذلك الإيمان عندما يأتي منفرداً يشمل الظاهر والباطن.
قوله: (أن تؤمن بالله) الإيمان بالله عز وجل يعني: الإيمان بوجوده، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، وقد مر ما يتعلق ببيان الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وهذا الركن الأول من أركان الإيمان مثل الركن الأول من أركان الإسلام؛ لأن ذاك أساس يتبعه كل ما وراءه، وهذا أساس يتبعه كل ما وراءه؛ فالإيمان بالله يتبعه ما وراءه، ولهذا جاءت الضمائر مضافة إليه: بالله ملائكته كتبه رسله، فهو الأساس وغيره تابع له، أي: أن الإيمان بالملائكة تابع للإيمان به، والإيمان بالرسل تابع للإيمان به، والإيمان بالكتب تابع للإيمان به، والإيمان باليوم الآخر تابع للإيمان به، والإيمان بالقدر تابع للإيمان به، ومن لم يؤمن بالله لا يؤمن بهذه الأمور.(528/4)
الإيمان بالملائكة
قوله: (أن تؤمن بالله وملائكته)، الإيمان بالملائكة أحد أصول الإيمان الستة، والملائكة عالم من العوالم التي خلقها الله عز وجل، وقد خلقهم من نور كما ثبت ذلك في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) والملائكة خلقهم الله عز وجل ذوي أجنحة، مثنى وثلاث ورباع، وجبريل له ستمائة جناح كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يطيرون بأجنحتهم، ويتحولون إلى صورة الإنسان كما جاء في أول الحديث، وكما جاء في قصة ضيوف إبراهيم، وفي مجيء جبريل إلى مريم بصورة بشر.
وهم {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، فهم مستسلمون منقادون دائماً وأبداً، وقد وكلوا بأعمال كثيرة، فمنهم الموكل بالوحي، ومنهم الموكل بالقطر، ومنهم الموكل بالموت، ومنهم الموكل بالجنة والنار، ومنهم الموكل بالحفظ والكتابة، ومنهم الموكل بالجبال، ومنهم الموكل بالأرحام، ويجب التصديق والإيمان بكل ما جاء في الكتاب وثبتت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخبار الملائكة.
وهم خلق كثير لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ومما يدل على كثرتهم الحديث الصحيح في البيت المعمور وهو في السماء السابعة، وقد جاء في الحديث: (أنه يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة، ثم لا يعودون إليه)، ومعنى هذا: أنه كل يوم يدخل سبعون ألفاً ولا يتاح لمن دخله أن يرجع إليه مرة أخرى، والحديث يدل على كثرتهم، وأنهم جند لا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى، وكذلك الحديث الذي فيه: (أن جهنم لها سبعون ألف زمام، وكل زمام معه سبعون ألف ملك يجرونها).
وكل إنسان معه حفظة وكتبة من الملائكة.
وقدم ذكرهم على غيرهم في الأصول الستة؛ لأنهم هم الذين يأتون بالوحي إلى الرسل؛ فهم الواسطة بين الله وبين رسله، ثم ذكر بعدهم الكتب؛ لأنهم ينزلون بالكتب، ثم جاء ذكر الرسل؛ لأنهم هم الذين تصل إليهم الكتب من الملائكة، فجاء الترتيب بذكر الإيمان بالملائكة؛ لأنهم الذين يأخذون عن الله، ثم الذي يأخذونه هو الكتب وينزلون بها، ثم الرسل الذين تنتهي الرسالة إليهم، حيث ينتهي الرسول الملكي إلى الرسول البشري فيبلغه ما أنزل عليه.
وقد جاء وصف الملائكة بالرسالة لا بالنبوة: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر:1] فوصفوا بأنهم رسل، وما وصفوا بأنهم أنبياء، وعلى هذا فإن الأصل في هذا الباب أن الإيمان بالملائكة من علم الغيب، وأنه لا يثبت فيهم إلا ما ثبت بالدليل، ولا يتكلم بشيء من غير علم؛ لأن علم الغيب لا يعرف إلا بالوحي.
فالإيمان بالله من علم الغيب؛ وإضافة شيء من الصفات والأسماء إليه، لا يثبت إلا عن طريق الوحي، ولا يعلمه الناس من تلقاء أنفسهم، والإيمان بالملائكة من الإيمان بالغيب؛ لأنهم لا يشاهدون ولا يعاينون، بل يكونون قريبين من الإنسان يكتبون ويحفظون، ومع ذلك لا يشاهدهم الناس، ومثلهم الجن الذين يكونون حول الإنس ولا يشاهدونهم ولا يعاينونهم، كما قال الله عز وجل: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27].(528/5)
الإيمان بالكتب
قوله: (وكتبه).
الكتب هي من كلام الله عز وجل، وكلام الله عز وجل لا ينحصر ولا ينتهي، لأنه لا بداية له ولا نهاية له، والمخلوقات كلها محصورة، ولهذا جاء في القرآن الكريم آيتان تدلان على سعة كلام الله وكثرته، وأنه لا يحاط به، وأن البحور الزاخرة لو تحولت مداداً يكتب به لنفدت البحور ولو ضوعفت أضعافاً مضاعفة؛ لأنها لو ضوعفت مع سعتها وكثرة مائها فهي محصورة، وكلام الله عز وجل لا ينحصر؛ قال الله عز وجل: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف:109]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27] فهاتان الآيتان الكريمتان دالتان على أن كلام الله لا ينحصر.
والقرآن من كلام الله، والتوراة من كلام الله، والإنجيل من كلام الله، والزبور من كلام الله، وكل كتاب أنزله الله عز وجل فهو من كلامه، وكل كلام سمعه منه ملك أو إنس فإنه من كلامه، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كلمه الله وأن موسى كلمه الله، فكل منهما كليم الله، وإذا دخل أهل الجنة فإنه يكلم أهل الجنة.
والإيمان بالكتب يكون بأن نصدق بما جاء في الكتاب والسنة من كتب أنزلها الله، وكذلك ما لم يذكر لنا؛ لأنه ليس كل كتاب قص علينا، وكل رسول قد أنزل الله عليه كتاباً كما قال الله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:25]، فنؤمن بالذي سمي باسمه، والذي لم يسم نؤمن به على سبيل الإجمال وإن لم نعرف اسمه، فالتوراة والإنجيل والزبور كلها كتب منزلة، فالزبور كتاب أنزله الله على داود، وكتاب أنزله الله على موسى وهو التوراة، وكتاب أنزله الله على عيسى وهو الإنجيل، وكذلك صحف إبراهيم وموسى، وهذه هي التي سميت في القرآن، وغيرها لم يسم، ونحن نؤمن بالجميع، ونقول: إن هذه الكتب من جملة كلام الله.
ونعلم أن هذه الكتب مشتملة على ما فيه الخير والسعادة لمن أنزلت عليه، وأن من أخذ بها فقد سعد، ومن أعرض عنها فقد خاب وخسر.(528/6)
الإيمان بالرسل
قوله: (ورسله) الإيمان برسل الله عز وجل وهم من البشر، أرسلهم الله عز وجل وأوحى إليهم، وأمرهم بالتبليغ، وقاموا بأداء ما كلفوا به على التمام والكمال، ودلوا أممهم على كل ما أمروا بتبليغه لهم، وما بعث الله من نبي إلا ودل أمته على خير ما يعلم لها، وحذرها من شر ما يعلم لها، كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ونحن نؤمن بمن سمي منهم على سبيل التفصيل، ومن لم يسم نؤمن به وإن لم نعرف اسمه، والله عز وجل ذكر في القرآن خمسة وعشرين، جاء ثمانية عشر منهم في سورة الأنعام، قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:83 - 86].
ويبقى بعدهم سبعة وهم: آدم وهود وشعيب وصالح ومحمد صلى الله عليه وسلم وذو الكفل وإدريس، وقد جاء سبعة عشر منهم في سورة الأنبياء.
هؤلاء الخمسة والعشرون جاء ذكرهم في القرآن، فنحن نؤمن بهم وبأسمائهم وهم الذين قصوا علينا، ونؤمن بغيرهم ممن لم يقص علينا.
ثم إن هناك رسلاً وهناك أنبياء، والفرق بين النبي والرسول كما قال بعض أهل العلم: أن الرسول هو الذي أوحي إليه بشريعة ابتداءً، وأنزل عليه الكتاب، وأمر بتبليغه، والنبي هو الذي أمر بأن يبلغ رسالة سابقة، ولم ينزل عليه كتاب، ولكنه كلف بأن يحكم بكتاب، أو أن يبلغ كتاباً.
وهذا مثل أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى الذين قال الله عنهم في سورة المائدة: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة:44] فقوله: ((الَّذِينَ أَسْلَمُوا)) صفة كاشفة، وهناك قال: إنهم يحكمون بالتوراة، والتوراة أنزلت على موسى، وإذاً هم مأمورون بأن يبلغوا التوراة، ولهذا فالنبي مرسل كما قال الله عز وجل: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ} [الزخرف:6] وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج:52] فوصف الرسول بأنه مرسل، والنبي بأنه مرسل، إلا أن هذا أرسل بكتاب وبشرع جديد أنزل عليه، وهذا يبلغ رسالة سابقة، ويحكم بكتاب سابق أنزل على من قبله ولم ينزل عليه.
وقد جاء في القرآن وصف بعض الرسل بأنهم أنبياء ورسل، كما جاء في حق نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41] وجاء: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64] فخاطبه الله بالنبوة، وخاطبه بالرسالة.
وجاء في حق موسى قول الله عز وجل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:51] وجاء في حق إسماعيل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54] فنبينا محمد عليه الصلاة والسلام أول ما نزل عليه الوحي لم يؤمر بالتبليغ، ثم نزلت سورة المدثر فصار رسولاً نبياً فهو قد نبئ بإقرأ وأرسل بالمدثر كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في الأصول الثلاثة، فيكون بذلك قد جمع بين النبوة والرسالة صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
والواجب هو التصديق والإيمان بكل ما جاء من أسمائهم، ومن الأخبار التي جاءت عنهم، ونحن لا نعرف ذلك إلا بالكتاب العزيز أو بالسنة.(528/7)
الإيمان باليوم الآخر
قوله: (اليوم الآخر) وهو الذي بعد اليوم الأول، أي: الدنيا، والحد الفاصل بين الدنيا والآخرة الموت، فكل من مات انتقل من الدنيا إلى الآخرة، وهذه الآخرة فيها حياة برزخية، وحياة بعد البعث، ولكنها كلها على طريقة واحدة من ناحية أنها دار جزاء وليست دار عمل، وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما ذكره البخاري عنه في كتاب الرقاق: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.
الحساب يبدأ بالموت، والعذاب يبدأ بالموت؛ لأن الإنسان يعذب في قبره، سواءً كان كافراً أو مسلماً استحق العذاب.
ويدل على عذاب الكفار في القبور قول الله عز وجل عن آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] وبالنسبة للمسلمين ما جاء في قصة الرجلين اللذين كان أحدهما لا يستبرئ من البول، وكان الثاني يمشي بالنميمة، وقد أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على سبب عذابهما في القبر، ووضع جريدتين على قبريهما، وقال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا).(528/8)
من الإيمان باليوم الآخر الإيمان بعذاب القبر ونعيمه
ويدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بعذاب القبر ونعيمه وما يجري فيه من الفتنة وسؤال الملكين، وأن الموفق إذا سئل عن ربه ودينه ونبيه فإنه يجيب، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، وأن الذي لم يوفق لا يجيب عن تلك الأسئلة، وأن الموفق يفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها ونعيمها، والمخذول يفتح له باب إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها، والنعيم أو العذاب يكون للروح والجسد جميعاً، وليس للروح وحدها، وذلك أن الإحسان حصل منهما جميعاً، والإساءة حصلت منهما جميعاً.
فتكون العقوبة أو النعيم على مجموع الأمرين؛ لأن الروح وحدها ما حصل منها إحسان وإساءة، والجسد وحده ما حصل منه إحسان وإساءة، وإنما حصلت الإساءة والإحسان بمجموع الروح والجسد.
ومن مات فإنه يبقى في قبره، ومن الناس من تأكله الأرض، ومنهم من لا تأكله وهم الرسل والأنبياء كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعذاب يصل إلى من يستحقه قبر أو لم يقبر، وما كان ذكر العذاب وإضافته إلى القبور إلا لأن الغالب أن الناس يقبرون، لكن من الناس من تأكله السباع، ومنهم من تأكله الحيتان في البحر، ومنهم من يحترق وتأكله النار ويصير رماداً، ولكن كل مستحق لعذاب القبر يصل إليه العذاب، وكل مستحق للنعيم يصل إليه النعيم، والله تعالى على كل شيء قدير، ولا دخل للعقول في ذلك؛ لأن عذاب القبر من أمور الغيب.
ولهذا لا يقال: إننا نفتح القبر ولا نجد فيه جنة ولا ناراً؛ لأن هذا شيء لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولا يعلمه الخلق، فكما أنك الآن عندك ملائكة وجن يحضرونك ومع ذلك لا تراهم ولا تشاهدهم، فكذلك أيضاً هذه الأمور لا تستطيع أن تصل إليها.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع) فهو صلى الله عليه وسلم يسمعه الله ما يجري في القبور، وغيره ممن يكون حوله لا يسمع، كما أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى بالناس صلاة الكسوف عرضت عليه الجنة والنار ورأى العناقيد المتدلية والصحابة الذين وراءه ما رأوا هذا الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سبحانه يطلع من شاء على ما شاء ويخفي ما شاء على من شاء.(528/9)
الإيمان بالبعث الجسماني وكيفيته
وعندما يبعث الناس من قبورهم فإن نفس الأجساد التي وضعت في القبور هي التي تعود، ولا تأتي أجساد جديدة غير التي وضعت في القبور؛ لأن الله تعالى يقول: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق:4] أي: فنحن نعيده، وقد جاء في النصوص ما يدل على كيفية البعث، ومنها قصة الرجل الذي أسرف على نفسه وأوصى بنيه بأن يحرقوه إذا مات ويذروا بعض رماده في البحر وبعضه في البر، وقال: لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فأمر الله عز وجل البحر أن يخرج ما فيه، والبر أن يخرج ما فيه، ثم أمر تلك الذرات، وكل ذرة وقعت في مكانها، حتى عاد الجسد كما كان.
ومثل ذلك قصة الطيور التي ذكرت في قصة إبراهيم، حيث أمره الله بأن يأخذ أربعة من الطيور فيجعلهن إليه، ثم يذبحهن ويقطعهن ويخلط اللحم بعضه ببعض حتى يصير كتلة واحدة، ثم يجعل على كل رأس جبل قطعة من هذه الكتلة، ثم يدعوهن فتنطلق كل ذرة وكل قطعة حتى تأتي إلى مكانها الذي يخصها من ذلك الطائر، حتى تعود الطيور على ما كانت عليه.
والأجساد نفسها هي التي تبعث، وهذا هو الذي تقتضيه حكمة الله، حيث إن الجسد الذي أساء هو الذي يعذب، والجسد الذي أحسن هو الذي ينعم، ولهذا قال الله عز وجل في القرآن: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]، معناه: أن الأجساد التي كانت في الدنيا هي التي تتكلم؛ لأنها شهدت بما عمل في الدنيا، ولو كانت أجساماً جديدة لما كانت تعرف شيئاً عن الدنيا، فكيف تشهد؟! وقال الله عز وجل: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21]، فإذاً: تلك الأجساد هي التي تعاد وهي التي تنعم وتعذب، ولا يخلق أجساداً جديدة فتعذب أو تنعم؛ لأن الأجساد الجديدة لا تعرف شيئاً عن الدنيا، والأجساد التي كانت موجودة في الدنيا هي التي أخبر الله بأنها تشهد.
وقولنا: إن الذي يبعث هو الذي كان في الدنيا، ليس معناه: أنهم ينبتون ويخلقون خلقاً جديداً لا علاقة له بالدنيا، نعم تنشق القبور عن أصحابها، ولكن نفس الجسد الذي كان في الدنيا يجمع الله تعالى بعضه إلى بعض، فيخرج من الأرض ما دخل فيها، كما قال الله عز وجل: ((قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ)) أي: فنحن نعيده، فإذا انشقت عنهم القبور خرجوا يمشون: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج:43] فهذه كيفية البعث.(528/10)
الإيمان بالحشر وما بعده
وأمور الآخرة أمور غيبية يجب التصديق بها دون أن يجعل الإنسان ذلك تابعاً لعقله، فإن الواجب على العقول التسليم والانقياد والاستسلام وعدم الاعتراض وعدم التردد في تصديق كل ما جاء عن الله وعن رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ثم الناس عندما يخرجون من قبورهم يذهبون إلى المحشر، ويجتمعون في صعيد واحد، من لدن آدم إلى الذين قامت عليهم الساعة، ويموج بعضهم في بعض، ويصيبهم شدة، ويبحثون عمن يشفع لهم إلى الله لفصل القضاء بينهم، حتى يحاسبوا ويذهبوا إلى منازلهم من الجنة أو النار، فيأتون إلى آدم أبي البشر فيعتذر، ثم إلى نوح فيعتذر، ثم إلى إبراهيم فيعتذر، ثم إلى موسى فيعتذر، ثم إلى عيسى فيعتذر، ثم إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها) ثم يتقدم ويشفع ويفتح الله عليه بالمحامد، فيقال له: (ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع).
وهذه هي الشفاعة العظمى، وهي التي تسمى: المقام المحمود؛ لأنه يحمده عليه الأولون والآخرون، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه؛ لأن الكل يستفيد من شفاعته، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة) فنص على يوم القيامة لأنه يظهر فيه السؤدد على الأولين والآخرين، وإلا فهو سيد الناس في الدنيا والآخرة، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
فيشفع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويأتي الله لفصل القضاء بين العباد، ثم يحصل الحساب، ثم يحصل وزن الأعمال، ثم يذهبون إلى الجنة والنار، والنار تكون في الطريق إلى الجنة، لأن الصراط منصوب على متن جهنم، والناس يمرون على الصراط، فمن كان من أهل النار وقع في النار، ومن كان من أهل السعادة تجاوز هذا الصراط، وذهب إلى الجنة التي هي وراء النار، وكل هذه أمور غيبية يجب الإيمان والتصديق بها، وعدم الاعتراض عليها، وعدم التردد في قبول شيء منها، وأنها حقيقة وأنها واقعة، وأنها لابد وأن توجد.
فأركان الإيمان كلها غيب؛ الإيمان بالله من علم الغيب، والإيمان بالملائكة من علم الغيب، والإيمان بالرسل من علم الغيب، والإيمان بالكتب من علم الغيب، والإيمان باليوم الآخر من علم الغيب، ولا يعرف الناس شيئاً منها إلا عن طريق الوحي من كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء الكتاب والسنة بهذه التفاصيل المتعلقة بالقبر وعذابه ونعيمه، وبالبعث وكيفيته، وبالحشر وما يجري فيه، ثم مجيء الله عز وجل لفصل القضاء ومحاسبة الناس، ثم بعد المحاسبة توزن الأعمال، ووزن الأعمال من أجل أن يعرف كل ما له وما عليه، والله عز وجل عالم بكل شيء، وعالم بالراجح والمرجوح، ولكن ذلك من أجل العباد أنفسهم حتى يعرفوا ما لهم وما عليهم، وليظهر عدل الله عز وجل فيهم، وأن من كان عنده حسنات فإنه لا ينقص منها شيء، ومن كان عنده سيئات فإنه لا يزاد عليها شيء، بل كل ما حصَّل من خير فسيجده أمامه، وما حصل من شر فسيجده أمامه، كما قال الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
وقال في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
والصراط منصوب على متن جهنم، والناس يمرون عليه، وهم متفاوتون في المرور عليه على حسب ما عندهم من الإيمان والأعمال الصالحة، فمنهم من يمر بسرعة البرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاود الخيل، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من تخطفه الكلاليب فيقع في النار، ولكن من وقع في النار وهو من أهل الإيمان فإنه لا يخلد فيها، بل لابد وأن يخرج منها ويدخل الجنة، ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين لا سبيل لهم إلى الخروج منها؛ لأن الجنة حرمت عليهم، والنار هي مقرهم، وهم متفاوتون فيها في الدركات.
ويدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالجنة والنار، وما في الجنة من النعيم المقيم، مما جاء بيانه في القرآن، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما في النار من العذاب الأليم الذي جاء بيانه في القرآن وسنة الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وكل ذلك يجب الإيمان والتصديق به، وأنه حق على حقيقته، وأن كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أخبار ذلك اليوم فإنه يقع طبقاً لما أخبر به عليه الصلاة والسلام.
ثم الإيمان بالقدر، وهو الركن السادس من أركان الإيمان، وقد مر الكلام فيه قريباً.(528/11)
معنى الإحسان في حديث جبريل
ثم سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
وهذا فيه بيان عظم شأن الإحسان، وأنه منزلة عالية رفيعة وأنه أعلى من الإسلام والإيمان؛ لأن فيه قدراً زائداً على ذلك، وهو أن الإنسان يعبد الله وكأنه واقف بين يديه، ومن كان كذلك فإنه يتقن عمله فيأتي به على الوجه الأكمل، ولا يحصل منه إخلال فيه.
والإحسان كما هو معلوم يكون في عمل الإنسان القاصر مثل الصلاة، فيصلي كأنه واقف بين يدي الله، فهو مقبل على صلاته، ومحافظ عليها وآت بكل ما يلزم فيها، وكذلك يكون في العمل المتعدي، وذلك بالإحسان إلى الناس بالقول أو بالمال، وذلك بإخراج الواجب والمستحب من المال في الزكاة والصدقات، وما إلى ذلك، ويكون أيضاً بالإحسان بالعلم، والدعوة إلى الخير، والتبصير بالحق والهدى، وتعليم العلم النافع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن هذا كله إحسان إلى من بذل له؛ لأنه يستفيد هدى، ويستفيد علماً نافعاً، يسير به إلى الله عز وجل على بصيرة.
ويكون الإحسان بالجاه في وجوه كثيرة، لكن كون الإنسان يأتي بمثل الصلاة، وهو مقبل على الله، ويستشعر بأنه بين يدي الله، فهذه درجة كاملة، ودرجة الكمال لا تحصل لكل أحد، ولا تتيسر لكل أحد.
وكذلك إذا لم يكن يراه فإنه يستشعر أن الله مطلع عليه، وأن الله تعالى رقيب عليه، وأنه لا تخفى عليه خافية، فكل حركاته وسكناته يراها الله تعالى، ويطلع عليها، فإن ذلك أيضاً يدفعه إلى العناية بالعمل، وإلى الإتيان بالعمل على الوجه المطلوب، ولهذا يقول العلماء: إن الإسلام والإيمان والإحسان هي درجات، فالمحسن هو مؤمن ومسلم، ودونه المؤمن فإنه مؤمن مسلم، ودونه المسلم، إذ ليس كل مسلم مؤمناً، وليس كل مؤمن يكون محسناً، أي: بالغاً هذه الدرجة التي جاء وصفها في هذا الحديث عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
والناس متفاوتون في الإيمان وفيما يقوم منه بقلوبهم وفي أعمالهم، وليسوا على حد سواء.(528/12)
شرح علامات الساعة من حديث جبريل
بعد ذلك سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة: (قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل).
أي: علمي وعلمك فيها سواء، والمعنى: أننا لا نعلم شيئاً من ذلك؛ لأن علم الساعة من الأمور التي اختص الله بها فلم يطلع عليها أحداً، فلا يعلم متى تقوم الساعة في أي سنة، وفي أي شهر من السنة، وفي أي يوم من الشهر إلا الله، نعم جاء في السنة ما يدل على أنها تقوم يوم الجمعة، فلا تكون في بقية الأيام، لكن في أي يوم من الشهر وفي أي سنة، لا يعلم ذلك إلا الله عز وجل، ولهذا جاء في الحديث: (خمس لا يعلمهن إلا الله: لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله).
وهذا يدلنا على أنه لا يعلم الغيب على الإطلاق إلا الله سبحانه وتعالى، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد أطلعه الله على كثير من الغيوب وأخفى عليه ما شاء من الغيوب، ومما أخفاه عليه قيام الساعة، ولهذا أجاب النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بهذا الجواب فقال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، وإنما أتى بهذا الجواب ليبين أنه هو الجواب الذي يصلح عند كل سؤال عن شيء لا يعلمه السائل ولا المسئول.
قوله: (أخبرني عن أماراتها).
الأمارات هي: العلامات، والساعة لها علامات قريبة من قيامها وهي العلامات الكبرى، وعلامات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلامات بعد ذلك وبين ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين) يعني: أن زمن بعثته قريب من الساعة.
وقد جاءت أحاديث تدل على أشراط الساعة، وقد مضى شيء من أشراطها، وهناك أشياء لم تمض، ولكنها لا تعتبر من أشراطها العظام.
وهناك أشراط عظام هي التي تكون بين يديها، مثل خروج الدجال وخروج المهدي، ونزول عيسى بن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها.
والرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الساعة في حديث جبريل أجاب بهذا الجواب، وفي مواضع أخرى أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان شيء من أماراتها، وكان يرشد إلى ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان من الاستعداد لها؛ فإنه صلى الله عليه وسلم سأله ذات مرة سائل فقال: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال له عليه الصلاة والسلام: وماذا أعددت لها؟ قال: أعددت لها حب الله ورسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب).
فلفت نظره إلى شيء أهم مما سأل عنه، وهو الاستعداد للساعة بالعمل الصالح الذي يجده إذا قامت الساعة، فهذا هو المهم، وليس المهم أن يسأل عن الساعة، فإن الساعة آتية وكل آت قريب، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله سبحانه وتعالى.
وهذا يدل على أن المهم في أمر المسلم أن يكون مشتغلاً بالأعمال الصالحة التي تقربه إلى الله عز وجل، ليجدها أمامه إذا قامت الساعة، كما قال الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8] وقال في الحديث القدسي: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
وجاء عليه الصلاة والسلام مرة رجل وهو بين أصحابه يحدثهم، فوقف وقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فأعرض عنه واشتغل مع أصحابه في الحديث الذي هو معهم فيه، ولما فرغ من الحديث مع أصحابه الذين كانوا معه قبل أن يأتي هذا السائل قال: (أين السائل عن الساعة؟ فقال: أنا يا رسول الله، قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، فهذا سأله عن الساعة فأجابه بشيء من أماراتها.
وأما جبريل فإنه سأله عن أمارات الساعة، وفي بعض الروايات أنه قال: (سأخبرك بشيء من أماراتها)، ثم إنه قال: (أن تلد الأمة ربتها -أو ربها-)، وفسر هذا بأن المراد منه أن يكثر السبي حتى يطأهن أسيادهن وحتى تلد الولد من سيدها فيكون بمنزلة سيدها وإن لم يكن هو سيدها، ولكنه بمنزلة السيد؛ لأنه ابنه وقائم مقامه، وأمهات الأولاد استيلادهن من أسباب عتقهن.
ومنهم من قال: إنها تلد من يكون سيداً لقومه أو سيداً للناس، ويكون مسئولاً، كأن يكون ملكاً أو تكون له سلطة فيكون راعياً وإماماً لكل هؤلاء ومنهم أمه.
ومنهم من قال: إن هذا إشارة إلى العقوق، وأنه يحصل أن الأمة تلد من يكون سيداً لها، أو يوصف بأنه سيد لها أو أنه ربها، بمعنى: أنه يتسلط عليها ويحصل منه شيء من الإيذاء ومن العقوق لأمه وكأنه بمنزلة من يكون مالكاً لها يتصرف فيها كيف يشاء، وهذا المعنى هو الذي رجحه الحافظ ابن حجر في فتح الباري وقال: إن هذه كلها صفات مذمومة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب بصفات مذمومة، وهذا مذموم، وكذلك كون الذين كانوا بعيدين عن المدن، وما عندهم إلا الجفاء والغلظة في بداوتهم ينتقلون إلى أن يتطاولوا في البنيان، فيقول: إن هذا الأمارات كلها من باب واحد، وهي تتعلق بالذم.
قوله: [(وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)] الحفاة هم الذين ليس على أرجلهم نعال، والعراة هم الذين لباسهم قليل، وليس معنى ذلك أنهم يمشون عراة ليس عليهم شيء، وإنما المعنى أنهم وإن كان عليهم ما يسترهم إلا أن ثيابهم تكون بالية، فهم بمثابة العاري لضعف حالهم ولقلة مالهم، فتجد الإنسان قد يملك ما يستر عورته، وقد يكون عنده أكثر من ذلك، لكنه لا يخرج عن كونه عارياً، بمعنى أن قلة ذات يده جعلته بهذا الوصف، ولا يعني ذلك أنهم يمشون عراة ليس عليهم شيء يغطون به سوءاتهم وعوراتهم.
والعالة: الفقراء، وهذا يرجع إلى الاثنين؛ لأن من شأن من يكون حافياً ويكون عارياً أن ذلك حصل له من أجل فقره.
فكلمة (العالة) يدخل تحتها ما تقدم من كونهم حفاة عراة.
قوله: (رعاء الشاء) أي: الذي كان شأنهم رعي الغنم والإبل في البادية، وليس عندهم إلا الجهل والجفاء والغلظة.
قوله: (يتطاولون في البنيان) أي يتحولون من محل البادية إلى أن يكونوا في الحاضرة وأن يكونوا بهذا الوصف الذي بينه الرسول صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والمعروف عن المتقدمين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أن منازلهم كانت بسيطة، وكان فيها تواضع وسهولة وليس فيها تكلف، وليست مكونة من أدوار كثيرة، وقد جاء في قصة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ونزوله ضيفاً عند أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ما يدل على أن بيته مكون من دورين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في الأسفل، وكان أبو أيوب في المكان الأعلى، ثم إنه قال: يا رسول الله تنتقل إلى المكان الأعلى، وأنا أكون في المكان الأسفل؛ لأن غرضه من ذلك ألا يكون فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يكون الرسول صلى الله عليه وسلم فوقه؛ ولكن الغالب أنهم كانوا يبنون من غير تكرر الأدوار.
وأيضاً يكون السقف قريباً، وقد ذكر بعض أهل العلم آثاراً تدل على هذا المعنى.(528/13)
حديث جبريل بيان لمراتب الدين
ثم إن جبريل مضى بعدما انتهت هذه الأسئلة، قال عمر: (فلبثنا ثلاثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، فقال عليه الصلاة والسلام: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).
وهذا فيه بيان أن كل ما مضى ذكره يدخل تحت الدين، فهناك أخبار وهناك أحكام، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت؛ كل هذه أحكام يفعلها الإنسان، وأركان الإيمان أمور تعتقد، وهي إخبار عن الله وعن ملائكته، وذلك من الغيب الذي يجب الإيمان به وكذلك الإيمان بالرسل والكتب واليوم الآخر والقدر، فكل ما جاء عنها وما يتعلق بها هي أخبار يجب التصديق بها.
والإحسان عمل، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالوصف الذي بينه.
وأما ما سأل به عن الساعة وعن أماراتها؛ فإن تلك من الأمور المغيبة التي يجب التصديق بها، وألا يتكلم فيها إلا بعلم؛ لأن العلامات والإخبار عن أمور مستقبلة هي من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يعرف شيء منه إلا ما جاء به الوحي عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة.
والحاصل أن حديث جبريل المشهور حديث عظيم مشتمل على أمور كثيرة مهمة وعلى أصول عظيمة في العبادات، وفيما يتعلق بما يقوم بالقلوب، وبما يقوم بالجوارح، وبما يقوم باللسان، وفيه إخبار عن أمور مغيبة لا تعرف إلا عن طريق الوحي.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) وقد أثنى العلماء على هذا الحديث وبينوا عظيم شأنه وأهميته، وأنه مشتمل على أصول عظيمة ولذا فإن الإمام مسلم رحمه الله صدر به صحيحه، فكان أول حديث عنده في كتاب الإيمان.(528/14)
تراجم رجال إسناد حديث جبريل في مراتب الدين
قوله: [حدثنا عبيد الله بن معاذ].
هو عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
هو معاذ بن معاذ العنبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا كهمس].
هو كهمس بن الحسن وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن بريدة].
هو عبد الله بن بريدة بن الحصيب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن يعمر].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عبد الله بن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[حدثني عمر بن الخطاب].
عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، رضي الله تعالى عنه وأرضاه وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(528/15)
الأسئلة(528/16)
معنى قول المعتزلة عليم بذاته
السؤال
ما معنى قول المعتزلة: عليم بذاته، قدير بذاته، سميع بذاته، وهل يفهم من ذلك أنهم يثبتون الصفات؟
الجواب
المعتزلة يثبتون الأسماء ولا يثبتون الصفات، فهم يقولون: سميع بلا سمع، ومعناه: أن اسمه سميع، ولكنه سميع بذاته، وليس بسمعه.(528/17)
تقدم الحساب في القبر على وزن الأعمال
السؤال
يقام يوم القيامة الميزان بالقسط، فلماذا يبدأ الحساب في القبر؟
الجواب
القبر كما هو معلوم فيه امتحان واختبار، وأما الميزان الذي هو لحصر الأعمال، ومعرفة الحسنات والسيئات، والوزن إنما يكون يوم القيامة، ولكن الجزاء يكون في القبر لمن كان مستحقاً لأن يجازى ويعذب في القبر.(528/18)
كل رسول قد نزل عليه كتاب من عند الله
السؤال
ذكرتم في التفريق بين النبي والرسول أن الرسول ينزل عليه كتاب بشريعة جديدة، ألا يشكل على ذلك سليمان، فهو رسول، ولمن ينزل عليه كتاب بشريعة؟ وكذلك آدم؟
الجواب
ما هو الدليل على أنه لم ينزل عليه كتاب؟ فإن عدم ذكر الكتاب الذي أنزل عليه لا يدل على أنه لم ينزل عليه كتاب، وقد جاء في القرآن أن كل رسول أنزل الله عليه كتاباً: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ)) والألف واللام في (الكتاب) للجنس وليست لكتاب معين؛ لأن الله ما أنزل على رسله كتاباً واحداً وإنما أنزل عليهم كتباً، ولهذا لفظ الكتاب يأتي كثيراً في القرآن ويراد به الجنس، كما أنه يراد به العهد الذهني مثل قول الله عز وجل: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2] أي: القرآن؛ لأن (أل) للعهد الذهني، يعني: الكتاب المعهود بالأذهان، وقول الله عز وجل: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ)) المراد به: الكتب لأن المراد به: الجنس.
وقول الله عز وجل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة:48] فالأول القرآن والثاني الكتب السابقة، وكلها بلفظ الإفراد إلا أن هذا للجنس وهذا للإفراد.
وكما قال الله عز وجل: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ} [البقرة:177] أي: الكتب، وكذلك قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} [النساء:136] وهو القرآن {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136] أي: الكتب.
وكذلك أيضاً يأتي الكتاب مضافاً إلى معرفة فيكون عاماً ويراد به الكتب، كما في قول الله عز وجل في آخر سورة التحريم: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم:12] على قراءة جمهور القراء (كتابه) وهي لا تخالف قراءة: ((وَكُتُبِهِ)) لأن الكتاب المقصود به الكتب؛ لأنه مفرد مضاف إلى معرفة فيكون عاماً.
فالحاصل أن الكتاب يأتي مفرداً محلى بالألف واللام، ويأتي مضافاً إلى معرفة فيراد به الجنس، ولا يراد به خصوص كتاب معين.
وأما آدم فهو نبي وهو رسول إلى أولاده، ونوح إنما أرسل بعدما حصل الشرك وتغيرت الفطرة، وأما آدم فإنه يعمل بما أوحى الله تعالى به إليه، وكذلك أبناؤه يعملون بما أوحي إليه به، ولا ينافي هذا ما جاء في حق نوح: {كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163] لأن نوحاً عليه السلام أرسل بعدما وجد الشرك، وأما في زمن آدم فلم يحصل الخروج عن الشيء الذي فطر الله الناس عليه، كما جاء في الحديث: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) وكما جاء في الحديث الآخر: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).(528/19)
ترتيب مشاهد يوم القيامة
السؤال
ما هو الترتيب الصحيح لمشاهد يوم القيامة: الشفاعة، والحوض، والميزان، وغيرها؟
الجواب
الحوض قيل: إنه في عرصات القيامة؛ لأن الناس يخرجون من قبورهم عطاشاً، فيأتون للحوض ليشربوا منه، فيذاد عنه من يذاد ويشرب منه من يشرب، والناس يجتمعون في صعيد واحد بعد أن يخرجوا من قبورهم ويذهبون إلى المحشر، ثم يأتي الله لفصل القضاء بينهم، ويحاسبهم على أعمالهم، ثم تنصب الموازين وتوزن الأعمال، ثم بعد ذلك يكون العبور على الصراط، والذهاب إلى الجنة أو النار، والنار في الطريق إلى الجنة، والصراط منصوب عليها، والناس يمرون عليه من فوق جهنم، فمن وقع فيها وقع، ومن سلمه الله تجاوز ودخل الجنة.(528/20)
كلام الشيخ ابن عثيمين على تعريف الإيمان بالتصديق
السؤال
أنكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح العقيدة الواسطية تعريف الإيمان لغة بالتصديق، وذكر أن آمن فعل متعد لغيره، وصدق متعد بنفسه، فنرجو التوضيح.
الجواب
لا أتذكر هذا التفصيل، لكن الإيمان في اللغة هو التصديق كما قيل.(528/21)
الجمع بين حديث (الدنيا ملعونه) وبين النهي عن سب الدهر
السؤال
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها) هل هذا يعتبر من سب الدهر؟
الجواب
ليس هذا من سب الدهر، وإنما هو بيان لحقارة الدنيا وضآلتها، وأنه لا خير فيها إلا ما كان على الطريقة الصحيحة كما قال: (إلا ذكر الله وما والاه).
وأكثر الناس هالكون، والناجون هم القليلون، قال الله عز وجل: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] فالشر واسع، والمهتدون قليلون، ولهذا يقول بعض أهل العلم: لا تغتر بطريق الشر ولو كثر السالكون، ولا تزهد في طريق الخير لقلة السالكين، فليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا كيف نجا!(528/22)
حكم الصلاة في الدور الثاني من المسجد النبوي
السؤال
بعض الناس لا يصلي في الدور الثاني في المسجد النبوي بحجة أنهم يكونون في مكان فوق قبر النبي صلى الله عليه وسلم، كما حصل من أبي أيوب الأنصاري عندما طلب من النبي أن يصعد إلى الدور الأعلى من بيته عندما نزل ضيفاً عليه في أول الهجرة فما رأيكم؟
الجواب
هذا ليس بصحيح؛ لأن سطح المسجد منه، وأبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه أراد ألا يكون النبي صلى الله عليه وسلم تحته في المنزل، وأما المسجد فسواء كان من دور أو دورين فالصلاة في أي دور هي صلاة في المسجد، والإنسان الذي يصلي في سطح المسجد حكمه مثل الذي يصلي في أسفل المسجد، فتكون صلاته بألف صلاة.(528/23)
شرح سنن أبي داود [529]
إن حقيقة الإيمان بالقدر أن يعرف المرء أن كل ما حصل له فلا سبيل إلى الخلاص منه، وأن كل ما أخطأه فلا سبيل إلى التحصل عليه، وكل هذه الأقدار التي قدرت على المخلوقين سبق وأن كتبت في اللوح المحفوظ، فقد خلق الله القلم وأمره بكتابة المقادير إلى قيام الساعة، وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن هذه الكتابة كانت قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فمن أنكر القدر وزعم أن لاوجود له فقد كفر بالدين، وفارق جماعة المسلمين.(529/1)
تابع ما جاء في القدر(529/2)
شرح حديث العمل على ما خلا ومضى من القدر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن عثمان بن غياث قال: حدثني عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن قالا: لقينا عبد الله بن عمر فذكرنا له القدر وما يقولون فيه، فذكر نحوه زاد قال: (وسأله رجل من مزينة أو جهينة فقال: يا رسول الله! فيم نعمل، أفي شيء قد خلا أو مضى أو في شيء يستأنف الآن؟ قال: في شيء قد خلا ومضى.
فقال الرجل أو بعض القوم: ففيم العمل؟ قال: إن أهل الجنة ييسرون لعمل أهل الجنة، وإن أهل النار ييسرون لعمل أهل النار)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث جبريل من طريق أخرى وفيه الزيادة أن رجلاً من مزينة أو من جهينة سأله عن القدر فقال: (أفي شيء قد خلا أو مضى أو في شيء يستأنف الآن؟ قال: في شيء قد خلا ومضى).
يعني: أن الناس يعملون في شيء سبق به علم الله وتقديره وكتابته ومشيئته، فقيل: (ففيم العمل؟) وهذا مثل ما جاء في حديث علي الذي مر قريباً وفيه أنهم قالوا: (أنتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: لا.
اعملوا فكل ميسر، أهل السعادة ييسرون للسعادة، وأهل الشقاوة ييسرون للشقاوة)، ومعنى ذلك: أن الناس لا يتركون العمل بناءً على أنه سبق القضاء والقدر بما هم صائرون إليه -فإن الله تعالى قدر ما هم صائرون إليه، وقدر الأسباب التي توصل إليه- بل يأخذون بالأسباب التي قدرها الله عز وجل، والغايات تأتي بعد وجود السبب الذي قدره الله عز وجل من العمل الصالح أو العمل السيئ، فمن عمل صالحاً انتهى إلى نهاية حسنة، ويسر لعمل أهل السعادة، ومن عمل بخلاف ذلك انتهى نهاية سيئة، ويسر لعمل أهل الشقاوة والعياذ بالله!(529/3)
تراجم رجال إسناد حديث العمل على ما خلا ومضى من القدر
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عثمان بن غياث].
عثمان بن غياث ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثني عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن].
هنا حميد بن عبد الرحمن يشارك يحيى بن يعمر في الرواية، والرواية السابقة هي من لفظ يحيى بن يعمر، وحميد بن عبد الرحمن الحميري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[لقينا عبد الله بن عمر].
عبد الله بن عمر مر ذكره.(529/4)
شرح حديث جبريل في مراتب الدين بزيادة (والاغتسال من الجنابة) في تفسير النبي للإسلام
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمود بن خالد حدثنا الفريابي عن سفيان قال: حدثنا علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن ابن يعمر بهذا الحديث يزيد وينقص قال: (فما الإسلام؟ قال: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة).
قال أبو داود: علقمة مرجئ].
أورد أبو داود حديث ابن عمر من طريق أخرى وفيه أنه فسر الإسلام (بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم شهر رمضان والاغتسال من الجنابة).
الاغتسال من الجنابة هي زيادة على ما جاء في الحديث، والحديث جاء فيه زيادات عن عمر وعن أبي هريرة، وكذلك عن غيرهم.
وإسناد هذا الحديث صحيح، رجاله كلهم ثقات، فإذاً هو صحيح، وهناك زيادات أخرى جاءت في طرق أخرى، وقد ذكر الحافظ ابن حجر تلك الزيادات التي جاءت في مختلف الأحاديث، وكذلك ابن رجب في شرح الحديث في جامع العلوم والحكم.(529/5)
تراجم رجال إسناد حديث جبريل في مراتب الدين بزيادة (والاغتسال من الجنابة) في تفسير النبي للإسلام
قوله: [حدثنا محمود بن خالد].
هو محمود بن خالد الدمشقي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الفريابي].
هو محمد بن يوسف الفريابي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا علقمة بن مرثد].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن بريدة].
وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن يعمر في هذا الحديث يزيد وينقص].
هو يحيى بن يعمر.
[قال أبو داود: علقمة مرجئ].
يعني: أنه ينسب إلى الإرجاء.(529/6)
شرح حديث جبريل في مراتب الدين مع زيادة: اتخاذ النبي مكاناً مرتفعاً يجلس عليه ليعرفه الغريب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن أبي فروة الهمداني عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي ذر وأبي هريرة قالا: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه قال: فبنينا له دكاناً من الطين، فجلس عليه وكنا نجلس بجنبتيه، وذكر نحو هذا الخبر، فأقبل رجل فذكر هيئته، حتى سلم من طرف السماط فقال: السلام عليك يا محمد قال: فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة وأبي ذر رضي الله تعالى عنهما، وما تقدم من طرق فهي لحديث عمر رضي الله تعالى عنه، وأما هذا فهو عن أبي ذر وعن أبي هريرة، وأبو هريرة خرج حديثه البخاري أيضاً كما خرجه مسلم؛ لأن حديث جبريل متفق عليه من حديث أبي هريرة، وهو من أفراد مسلم من حديث عمر، وقد شرح الحافظ ابن حجر حديث أبي هريرة شرحاً مطولاً في كتاب الإيمان، والإمام النووي رحمه الله لما ألف كتابه الأربعين النووية جعل أول حديث فيه أول حديث في البخاري، وثاني حديث فيه أول حديث في صحيح مسلم، فالحديث الأول والثاني هما أول ما في الصحيحين، فحديث عمر (إنما الأعمال بالنيات) أول حديث في صحيح البخاري، وحديث عمر الذي هو حديث جبريل أول حديث في صحيح مسلم.
قوله: [(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه)].
أي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه غير متميز عنهم، وإذا أتى شخص غريب لا يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم لم يميز من هو الرسول صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الجالسين، فعرض عليه أصحابه أن يبنوا له مكاناً مرتفعاً يجلس عليه حتى يعرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى لا يلتبس على الناس، فوافق على ذلك فبنوا له دكاناً، أي: دكة من الطين، وهو مكان مرتفع، فكان يجلس عليه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وجلوسه مع أصحابه بحيث لا يعرف يعد من تواضعه وكمال خلقه صلى الله عليه وسلم، فرأى أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم أن المصلحة أن يتميز حتى إذا أتى الغريب عرف الرسول صلى الله عليه وسلم من أول وهلة، فكان من شأنهم أن عرضوا عليه، وهذا من أدبهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فإنهم ما أقدموا على ذلك دون إذن، ولكنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الشيء وعرضوه عليه فأجابهم، فبنوا له دكاناً من الطين يجلس عليه وهم يجلسون حوله حتى يعرفه الغريب.
وفي هذا دليل على جواز كون المعلم يكون على مكان مرتفع كالكرسي أو غيره من أجل أن يكون بارزاً وأن يراه الجميع ويتمكنوا من الاستفادة منه.
قوله: [(حتى سلم من طرف السماط)].
يعني: المجلس، وهذا فيه دليل على أنه قد سلم، وأن ما جاء في بعض الروايات من عدم ذكر السلام لا يدل على عدمه؛ فيكون بعضهم ذكر ما لم يذكره الآخر، وأتى بما لم يأت به الآخر، فيكون كل ذلك معتبراً، ويكون كل ذلك ثابتاً مادام أنه جاء من طريق صحيح، فلا يقال: إن الرواية التي جاء فيها عدم ذكر السلام تدل على أن السلام لم يحصل، بل قد ثبت في بعض الطرق ما يدل على أن السلام قد وجد فيكون ذلك من فعل بعض الرواة إما لكونه لم يعرف ذلك، أو لكونه اختصر الحديث، فلم يذكر كل ما جاء فيه.
قوله: (فقال: السلام عليك يا محمد، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم)] جاء بلفظ: (السلام عليك يا محمد) ولا يبعد أن يكون سلم سلاماً عاماً، ثم سلم سلاماً خاصاً.(529/7)
تراجم رجال إسناد حديث جبريل في مراتب الدين مع زيادة: اتخاذ النبي مكاناً مرتفعاً يجلس عليه ليعرفه الغريب
قوله: [عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي فروة الهمداني].
هو عروة بن الحارث، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي ذر وأبي هريرة].
أبو ذر هو جندب بن جنادة رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وأبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(529/8)
الأسئلة(529/9)
حرية ابن الرجل من أمته
السؤال
أم الولد هل ابنها من سيدها يكون حراً، أم يكون مملوكاً لسيدها وينسب إليه؟
الجواب
ابن الرجل من أمته حر؛ لأنه يكون تبعاً لأبيه، بل إن أمه تعتق بسببه، أما الذي يمكن أن يكون عبداً فهو ابن الأمة إذا تزوجها الحر مضطراً إلى ذلك؛ لأنه يكون تبعاً لأمه إلا إذا اشترط الأب.(529/10)
لا يجوز بيع أم الولد
السؤال
أم الولد إذا باعها سيدها على القول بجواز بيعها، فهل يفوت عليها بذلك عتقها بعد موته؟
الجواب
الصحيح أنه لا يجوز بيع أمهات الأولاد، وإنما تبقى في ملكه ثم تعتق بعد موته ولا تكون ميراثاً لورثته.
ولهذا كانوا يعزلون عن الإماء مخافة أن تحمل؛ لأنها إذا حملت خرجت من كونها مالاً يتصرف فيه، لأنها أصبحت أم ولد وأم الولد لا تباع، وهم يريدون أن يستمتعوا بهن ويبيعوهن إذا احتاجوا إلى بيعهن.(529/11)
حكم القضاء عمن مات وعليه صوم
السؤال
توفيت والدتي وعليها صيام خمسة وعشرين يوماً أفطرتها من شهر رمضان؛ لأنها كانت مريضة، وقبل وفاتها أوصت أبناءها بصيام هذه الأيام، ولكن أبناءها أطعموا عن كل يوم مسكيناً، فهل نصوم عنها هذه الأيام لأنها أوصت بصيامها، أو نكتفي بالإطعام السابق؟
الجواب
إذا أفطرت هذه المرأة خمسة وعشرين يوماً، واستمر معها المرض حتى ماتت، فإنه لا قضاء عليها، ولا إطعام؛ لأنها ما تمكنت من القضاء ولم تفرط، أما إذا أفطرت أياماً من رمضان وشفيت بعد ذلك وتمكنت من القضاء ولكنها لم تقض فإنه يقضى عنها، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) ولا يكفي الإطعام الذي فعلوه عنها؛ لأن هذا دين عليها، وهذا شيء واجب عليها، وقد فرطت فيه؛ حيث تمكنت من القضاء ولم تقض.(529/12)
دعوة الصائم عند فطره
السؤال
قال صلى الله عليه وسلم: (إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد) هل المراد بكلمة (عند) هنا ما قبل الفطور، وهل هذا الدعاء معين أو أي دعوة؟
الجواب
معلوم أنه يدعو عندما يريد أن يفطر وأثناء البدء بإفطاره، فهذا هو المناسب لهذا الدعاء؛ لأن الفطر يحصل بكونه يأكل أول لقمة، لكن لا نعلم دعاءً معيناً عند الإفطار.(529/13)
حكم مناداة الرسول باسمه
السؤال
جاء في حديث أبي ذر وأبي هريرة قول جبريل: (السلام عليك يا محمد) فناداه باسمه، فهل جاء النهي عن ذلك؟
الجواب
معلوم أنه جاء في أحاديث كثيرة مناداة النبي باسمه، ولا أعلم حديثاً في النهي عن ذلك.(529/14)
تابع ما جاء في القدر(529/15)
شرح حديث (لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن أبي سنان عن وهب بن خالد الحمصي عن ابن الديلمي قال: (أتيت أبي بن كعب فقلت له: وقع في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي، قال: لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار).
قال: ثم أتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك.
قال: ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك.
قال: ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل ذلك].
سبق في باب القدر من سنن أبي داود بعض الأحاديث وآخر ما مضى حديث جبريل، وهنا حديث أبي بن كعب ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وقد جاء عبد الله بن فيروز الديلمي إلى أبي بن كعب وقال: (وقع في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي!).
فقال رضي الله عنه في جوابه على هذا: (لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم) ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي، ولكن قد جاء به الحديث مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أن الله عز وجل لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، وذلك أنهم يحصل منهم التقصير ويحصل منهم الخلل، فلا يتجاوز عنهم ما يحصل من أي أحد منهم، فيكون قد عذبهم وهو غير ظالم لهم.
قوله: [(ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم)] وذلك أن أعمالهم التي يعملونها لله عز وجل هي أيضاً من رحمة الله عز وجل بهم ومن توفيقه لهم، وما حصل منهم شيء من الأعمال الصالحة إلا بتوفيق الله عز وجل، فالفضل لله عز وجل أولاً وآخراً؛ لأنه هو المتفضل بهذه النعمة.
قوله: [(ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر)].
وذلك أن الإيمان بالقدر من أصول الإيمان، وقد سبق أن مر مثل ذلك عن عبد الله بن عمر بين يدي حديث جبريل.(529/16)
وجوب إيمان العبد بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه
قوله: [(وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك)].
هذا هو الإيمان بالقدر، ومعنى هذا: أن كل ما حصل لك لا سبيل إلى تخلصك منه؛ لأن الله تعالى قد قدره فلابد من أن يوجد، والشيء الذي أخطأك ولم يصبك لا يمكن أن يصيبك، وهذا هو معنى قول المسلمين: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) فقولهم: (ما شاء الله كان) مأخوذ من قوله: (وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك) أي أن الشيء الذي قدر الله أن يكون لابد من أن يوجد، والشيء الذي قدر ألا يكون لا سبيل إلى وجوده، فالشيء الذي يحصل لك ويقع لك لا يمكن أن يتخلف، والشيء الذي قدر ألا يحصل لك لا يمكن أن يكون، كما جاء في الحديث الآخر في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) والكلام الذي جاء هنا عن أبي بن كعب قد جاء أيضاً مرفوعاً، والصحابي الآخر قد حدث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبق أن مر بنا أن الحسن البصري رحمة الله عليه لما سئل عما حصل لآدم عليه الصلاة والسلام من الأكل من الشجرة قال: (لو أن آدم اعتصم ولم يأكل من الشجرةلم يكن له بد من ذلك)، وذلك لأن هذا الشيء الذي قدره الله لا بد منه، ولا يقال: إن هذا جبر، وإن العباد لا اختيار لهم، بل لهم اختيار ولهم مشيئة، وما يحصل منهم يكون بمشيئتهم وإرادتهم، ويقع الذي قدره الله عز وجل وقضاه، فيجتمع في ذلك إرادة العبد حصول الشيء الذي قد حصل له، وكون ذلك الذي حصل منه لا يخرج عما قدره الله وقضاه كما قال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29].
فلا يمكن أن يحصل من العبد شيء ما لم يقدره الله، بل الذي قدره الله عز وجل له سبب يؤدي إليه، والمقدر غاية تأتي نتيجة لهذا السبب، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له كما في الحديث المتقدم: (أنتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون إلى عمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة).
ولهذا فإن القدر لابد فيه من أمرين: مشيئة من العبد، ومشيئة من الله عز وجل، وهذا في الشيء الذي للعبد فيه إرادة ومشيئة، أما الشيء الذي ليس للعبد فيه إرادة ولا مشيئة فإنما يقع بقضاء الله وقدره، وذلك مثل حركة المرتعش، وأما الأفعال الاختيارية كالأكل والشرب والسفر والذهاب والإياب والبيع والشراء وغير ذلك، فإنها تحصل بمشيئته وإرادته.(529/17)
كيف يعرف الناس الشيء المقدر؟
ذكرت فيما مضى أن الناس لا يعرفون المقدر إلا بأمرين: الأمر الأول: الوقوع، فكل شيء وقع فقد قدر؛ لأنه لا يقع إلا ما قدر، (ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن): فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئت إن لم تشأ لم يكن والأمر الثاني: أن يحصل الإخبار من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عن أمر مستقبل، فإن هذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم لابد أن يقع، وكل شيء يقع لابد أن يكون مقدراًَ، ومن ذلك إخباره عن الدجال، وعن خروج يأجوج ومأجوج، وعن نزول عيسى بن مريم، وغير ذلك من الأمور التي تقع بين يدي الساعة وما حصل قبل ذلك، وما حصل بعد زمنه بوقت يسير مثل قوله صلى الله عليه وسلم عن الحسن: (إن الله سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).
فإن هذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حق وصدق لابد أن يوجد، ويعتقد بأنه سبق به القضاء والقدر؛ لأنه لا يقع في الوجود إلا ما هو مقدر.(529/18)
كفر غلاة القدرية الذين ينكرون القدر
قوله: [(ولو مت على غير هذا لدخلت النار)].
أي: إذا كان منكراً للقدر، وقد سبق أن الغلاة من القدرية الذين ينكرون العلم قد قال العلماء بتكفيرهم، وأما الذين أثبتوا العلم لله عز وجل، ولكنهم قالوا: إنهم ينزهون الله عن أن يقدر المعاصي ويريدها فقد اختلف العلماء في تكفيرهم.
قوله: [ثم أتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك، قال: ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك، قال: ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك].
يعني: أن الصحابة الثلاثة الأولين ذكروا ذلك من غير إسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن هذا من الأمور التي لا تقال من قبل الرأي، وأيضاً فإن زيد بن ثابت الذي جاء ذكره آخراً قد رفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون مرفوعاً من هذا الصحابي، وموقوفاً من أولئك الذين تقدموا، فهو إذاً ثابت عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(529/19)
متى يسأل الإنسان أكثر من عالم؟
وجاء في بعض طرق هذا الحديث أن كل صحابي كان يجيبه ثم يحيله على أخيه، ولم يسأل هذا السؤال أكثر من واحد من تلقاء نفسه، أخرجه ابن ماجة هكذا، وذكره الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله في كتابه الجامع الصحيح في القدر.
ولعل هذا أيضاً وقع منه حتى يتأكد من زوال ما في قلبه من اللبس، لكن فيما يتعلق بالأمور التي هي أحكام شرعية لا يحيل العالم إلا إذا اجتهد في الجواب وقد رجا أن يكون عند غيره دليل، مثل ما جاء عن أبي موسى في قصة الميراث لما أفتى ثم قال للسائل: واذهب إلى ابن مسعود فسيتابعني، فقال ابن مسعود: قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين إلخ الحديث.
فإذا كان العالم غير مطمئن للجواب فإنه يحيل على غيره، وأما إذا ذهب المستفتي إلى من يثق بعلمه ودينه فأفتاه فلا يكثر الأسئلة؛ لأنه قد يحصل له الجواب على اجتهادات مختلفة فيتشوش، وأما إذا كان الأمر يحتاج إلى استثبات مثل قصة هذا الرجل الذي وقع في نفسه شيء من القدر، وهو يريد أن يتحقق من زوال ما في نفسه منه؛ فله ذلك، ولهذا سأل أكثر من واحد واتفقوا على شيء واحد يجعله يكون مطمئناً لما أجيب به، وهذا إنما هو تبصير وبيان لشيء وقع في نفسه مما يتعلق بالقدر.(529/20)
تراجم رجال إسناد حديث (لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
سفيان هو الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سنان].
هو سعيد بن سنان، وهو صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن وهب بن خالد الحمصي].
وهب بن خالد الحمصي ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن ابن الديلمي].
هو عبد الله بن فيروز، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أتيت أبي بن كعب].
أبي بن كعب رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ثم أتيت عبد الله بن مسعود].
هو عبد الله بن مسعود الهذلي، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ثم أتيت حذيفة بن اليمان].
حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ثم أتيت زيد بن ثابت].
زيد بن ثابت رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(529/21)
شرح حديث أول ما خلق الله القلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا جعفر بن مسافر الهذلي حدثنا يحيى بن حسان حدثنا الوليد بن رباح عن إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي حفصة قال: قال عبادة بن الصامت لابنه: (يا بني! إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب.
قال: ربِّ وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من مات على غير هذا فليس مني)].
أورد أبو داود حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه أنه قال لابنه: (يا بني! إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك) وهذا مثل ما تقدم في الحديث السابق الذي جاء عن جماعة من الصحابة، ثم إنه ذكر بعد هذا الذي قاله لابنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب.
قال: ربَّ وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة).
قوله: [(اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة)] هذا يبين ما ذكره أولاً لابنه من أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، أي: أن الذي قدره الله عز وجل وكتبه في اللوح المحفوظ من أن كذا سيصيب هذا الشخص، أو يخطئ هذا الشخص، فالذي أصابه لابد له منه ولا يمكن التخلص منه، والذي أخطأه لا سبيل إلى حصوله؛ لأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وفي الحديث دليل على إثبات القدر وعلى الكتابة، لأن القلم لما خلقه الله عز وجل قال له: (اكتب قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة)، وقد جاء في بعض الأحاديث الصحيحة ما يدل على أن هذه الكتابة كانت قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
واستدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على أن القلم هو أول المخلوقات في هذا العالم، ومنهم من قال: إن العرش كان قبله؛ لأنه جاء في الحديث الذي فيه الكتابة قوله: (كتب الله مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) فيكون قوله: (إن أول ما خلق الله القلم) معناه: أنه من أول ما خلقه الله.
ومنهم من قال: إن العرش كان موجوداً من قبل أن يكتب القضاء والقدر، وقبل أن يخلق القلم الذي أمر بكتابة المقادير التي قدرها الله عز وجل حتى تقوم الساعة.
ورجح ابن القيم رحمه الله في النونية أنه العرش فقال: والناس مختلفون في القلم الذي كتب القضاء به من الديان هل كان قبل العرش أو هو بعده قولان لأهل العلم مشهوران والحق أن العرش قبل لأنه قبل الكتابة كان ذا أركان قوله: [قال عبادة بن الصامت لابنه: (يا بني! إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك)].
معناه: أن الإيمان بالقدر وحقيقته وكون الإنسان متصفاً بالإيمان به، إنما يكون بمعرفة أن كل ما حصل للإنسان فإنه لا سبيل إلى السلامة منه، وأن كل شيء أخطأه لا سبيل إلى حصوله، وعلى هذا فلابد من الإيمان بالقدر، وأن كل شيء مقدر لابد من أن يكون، وأن ما قدر الله أن يكون فإنه يكون طبقاً لما أراد، وما قدر ألا يكون فإنه لا يمكن أن يكون.
قوله: [(من مات على غير هذا فليس مني) يعني: أن من مات على عدم الإيمان بالقدر، أو على إنكار القدر فليس مني.(529/22)
تراجم رجال إسناد حديث أول ما خلق الله القلم
[حدثنا جعفر بن مسافر الهذلي].
هو جعفر بن مسافر الهذلي أبو صالح، وهو صدوق ربما أخطأ، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا يحيى بن حسان].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا الوليد بن رباح].
وهو صدوق، أخرج له أبو داود.
[عن إبراهيم بن أبي عبلة].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن أبي حفصة].
وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[قال عبادة بن الصامت].
عبادة بن الصامت رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(529/23)
شرح سنن أبي داود [530]
لقد خلق الله هذا الإنسان مفطوراً على توحيده، وأخذ منهم الميثاق على عبوديته وتمجيده، بعد أن استخرجهم ن ظهر آدم أبيهم، وشهدوا بذلك على أنفسهم، ثم إن من المشاهد المحسوس، والمعلوم الملموس: أن القدر لا يحتج به عند المعايب والذنوب، وإنما يحتج به عند المصائب والكروب، وعلى هذا حمل حديث المحاجاة بين موسى وآدم عليهما السلام.(530/1)
تابع ما جاء في القدر(530/2)
شرح حديث أبي هريرة في محاجة آدم وموسى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا سفيان، ح: وحدثنا أحمد بن صالح المعنى حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار سمع طاوساً يقول: سمعت أبا هريرة يخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (احتج آدم وموسى، قال موسى: يا آدم! أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة! فقال آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده، تلومني على أمر قدره علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ فحج آدم موسى).
قال أحمد بن صالح عن عمرو عن طاوس سمع أبا هريرة].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه في محاجة آدم وموسى عليهما الصلاة والسلام.
ومن المعلوم أن القدر لا يجوز الاحتجاج به على ترك أمر، ولا على فعل نهي، فالإنسان إذا حصلت منه معصية بأن ترك مأموراً وعوتب على ذلك فلا ينفعه أن يقول: هذا شيء مقدر، وكذلك إذا قيل له: لماذا زنيت؟ لا ينفعه أن يقول: هذا شيء مقدر، بل يعاقب العقوبة التي يستحقها ويقال: أذنبت ذنباً وهو مقدر وهذه عقوبتك وهي مقدرة، وكل شيء بقضاء وقدر.
وهذا الحديث فيه المحاجة بين آدم وموسى عليهما الصلاة والسلام وأن موسى قال لآدم ما قال، وأجابه آدم بأن هذا شيء قد كتبه الله عليه قبل أن يخلق، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (فحج آدم موسى)، يعني: غلبه بالحجة.
ففي الحديث أن آدم احتج بالقدر على المعصية، وقد أجيب عن هذا الحديث وتوجيهه -مع أنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي- بجوابين: أحدهما ذكره ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو: أن الاحتجاج بالقدر إنما هو على المصيبة التي جاءت نتيجة للذنب، وترتبت على الذنب، وليس على الذنب والمعصية، فهو ما لامه على المعصية، وإنما لامه على الأمر الذي تبع المعصية، وهو المصيبة التي حلت به وبذريته بأن أخرجوا من الجنة، والتي جاءت نتيجة للذنب، قالوا: والقدر يحتج به على المصائب ولا يحتج به على المعائب.
والتوجيه الثاني: وقد ذكره ابن القيم نفسه، قال: وهو أنه إذا كان الإنسان لم يتب من الذنب فإن احتجاجه بالقدر غير صحيح ولا يعتبر؛ لأنه مصر على الذنب وغير تائب منه، وأما إذا كان قد تاب منه فلامه لائم واحتج بالقدر، فعند ذلك يجوز، وفعل آدم عليه الصلاة والسلام هو من هذا القبيل؛ لأنه بعد التوبة.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله هذين التوجيهين في كتابه شفاء العليل بما يتعلق بالقضاء والقدر، وقد عقد باباً خاصاً لهذا الحديث والكلام عليه، وذكر كلام كثير من الناس، ومنها أقوال باطلة تتعلق بالقضاء والقدر وشرح هذا الحديث وبيان معناه، واختار هذين التوجيهين اللذين أحدهما لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية والثاني له، وهذا باب من أبواب ثلاثين أوردها في كتابه شفاء العليل.
قوله: [(فقال آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده)].
هذا فيه بيان أن موسى كليم الله، وأن الله تعالى اصطفاه بالكلام، وفيه دليل على أن التوراة هي مما خطه الله عز وجل بيده.
ومعلوم أن الكلام حصل أيضاً لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فهو كليم الرحمن كما أن موسى كليم الرحمن، وإبراهيم خليل الرحمن، ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن، فقد اجتمع فيه صلى الله عليه وسلم ما تفرق في غيره، فالخلة لإبراهيم والكلام لموسى، ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام له الوصفان: الخلة والتكليم.
وقد جاء في الحديث أيضاً أن آدم نبي مكلَّم.
قوله: [(وخط لك التوراة بيده)] لا يدل على أن التوراة مخلوقة؛ لأن كلام الله عز وجل مكتوب في اللوح المحفوظ، ولا يقال: إنه مخلوق؛ لأنه كلام الله الذي تكلم به وكتبه، فلا يقال: إن هذا الكتاب الذي هو من كلامه وخطه بيده يكون مخلوقاً، فكلام الباري غير مخلوق سواء تكلم به أو خطه، وكلام المخلوق مخلوق سواءً تكلم به أو خطه.
ووقعت هذه المحاجة في الحياة البرزخية قبل يوم القيامة، والله أعلم؛ لأنه من المعلوم أن الناس يموج بعضهم في بعض عندما يبعثون من قبورهم ويرى بعضهم بعضاً، ولهذا جاء في حديث الشفاعة أنهم يأتون إلى آدم وموسى وغيرهما يطلبون منهم أن يشفعوا في الانتهاء من الموقف، فالذي يبدو أنه قبل يوم القيامة؛ ومعلوم أن الأنبياء أجسادهم في قبورهم، ولكنهم يلتقون أرواحاً على صور أجسادهم مثل ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، فإنه لقيهم وصلى بهم في بيت المقدس.
قوله: [(قال: تلومني على أمر قدره علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟)].
وهذا كما هو معلوم تقدير آخر غير التقدير الأول الذي قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وابن القيم رحمه الله ذكر عدة تقديرات جاءت بها أحاديث، ومنها تقدير سنوي، وتقدير يومي، وهذا التقدير الذي جاء قبل خلق آدم، وذكر تقديرات أخرى.(530/3)
تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة في محاجة آدم وموسى
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا سفيان].
هو ابن عيينة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[المعنى عن سفيان بن عيينة].
الفرق بين الروايتين هو ذكر النسب؛ لأن الأول ما نسبه فقال: (حدثنا سفيان) فقط، وأما الثاني وهو أحمد بن صالح فقال: (حدثنا سفيان بن عيينة) فهذا هو سر التحويل وكونه أتى بالإسناد أولاً ثم أتى بتحويله.
[عن عمرو بن دينار].
عمرو بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمع طاوساً].
هو طاوس بن كيسان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت أبا هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
[قال أحمد بن صالح: عن عمرو عن طاوس سمع أبا هريرة].
يعني: أن أحمد بن صالح قال في روايته: عن عمرو عن طاوس سمع أبا هريرة.
وهناك قال: سمعت أبا هريرة، وفي الإسناد الأول: عن عمرو بن دينار سمع طاوساً يقول: سمعت أبا هريرة يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم.(530/4)
حديث عمر في محاجة آدم وموسى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن موسى قال: يا ربَّ! أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فأراه الله آدم فقال: أنت أبونا آدم؟ فقال له آدم: نعم.
قال: أنت الذي نفخ الله فيك من روحه، وعلمك الأسماء كلها، وأمر الملائكة فسجدوا لك؟ قال: نعم.
قال: فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال له آدم: ومن أنت؟ قال: أنا موسى.
قال: أنت نبي بني إسرائيل الذي كلمك الله من وراء الحجاب لم يجعل بينك وبينه رسولاً من خلقه؟ قال: نعم.
قال: أفما وجدت أن ذلك كان في كتاب الله قبل أن أخلق؟ قال: نعم.
قال: فبم تلومني في شيء سبق من الله تعالى فيه القضاء قبلي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: فحج آدم موسى فحج آدم موسى)].
وهذا الحديث مثل الذي قبله إلا أن فيه زيادة توضح أن موسى طلبه، وأنه لما لقيه سأله وذكر ما ذكر وإلا فإن المعنى واحد، وقد عرفنا التوجيه الذي ذكره ابن القيم عن نفسه وعن شيخه.
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب].
أحمد بن صالح مر ذكره، وابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني هشام بن سعد].
هشام بن سعد صدوق له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن زيد بن أسلم].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن عمر بن الخطاب].
عمر بن الخطاب أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(530/5)
شرح حديث (إن الله عز وجل خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله القعنبي عن مالك عن زيد بن أبي أنيسة أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني: (أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ)) قال: قرأ القعنبي الآية فقال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله! ففيم العمل؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تفسير قول الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172] فذكر الحديث، وهو من جنس الأحاديث السابقة فيما يتعلق بأن العمل مطلوب، وأن الناس لا يعرفون المقدر، وأن عندهم مشيئة وإرادة، وأن من اختار طريق السعادة فإنه ييسر لها، ومن اختار طريق الشقاوة فإنه ييسر لها، وينتهي الأول للجنة، وينتهي الآخر إلى النار.
والحديث ذكر الشيخ ناصر أنه صحيح، إلا قضية المسح باليد على ظهر آدم، وإلا فإن استخراج الذرية من ظهر آدم وتمييزهم إلى شقي وسعيد قد جاء في الأحاديث وفي تفسير هذه الآية، وقد ذكر العلماء في تفسيرها معنيين: أحدهما: هذا الذي جاء في الحديث.
والثاني: أن الله تعالى فطر الناس على التوحيد، فمنهم من يكون على هذا الشيء الذي فطر عليه، ومنهم من ينحرف عن الجادة.
ولكن قد جاء الحديث في بيان سبب نزولها، وأنهم استخرجوا من ظهر آدم.
فإن قيل: ما الحكمة من مسح ظهر آدم؟ فإننا نقول: الله تعالى أعلم! وهذه اللفظة كما عرفنا أن الشيخ ناصر قال إنها غير ثابتة، لكن جاء في بعض الطرق أنه ضرب كتفه اليمنى واستخرج كذا، وليس فيه ذكر المسح بالظهر، لكن الله عز وجل استخرج الذرية من الظهر، والله تعالى أعلم بالحكمة في ذلك.(530/6)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الله عز وجل خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية)
قوله: [حدثنا عبد الله القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن أبي أنيسة].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسلم بن يسار الجهني].
وهو مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[أن عمر بن الخطاب].
قد مر ذكره.
أما الاتصال بين مسلم بن يسار وعمر فسيأتي في الحديث الذي بعده أن فيه واسطة.(530/7)
حديث (إن الله عز وجل خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية) من طريق أخرى، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المصفى حدثنا بقية حدثني عمر بن جعثم القرشي حدثني زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مسلم بن يسار عن نعيم بن ربيعة قال: كنت عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه بهذا الحديث، وحديث مالك أتم].
أورد الحديث من طريق أخرى وأحاله على الطريق الأولى ثم ذكر أن حديث مالك أتم، وهو الذي ليس فيه ذكر نعيم بن ربيعة.
قوله: [حدثنا محمد بن المصفى].
محمد بن المصفى صدوق له أوهام، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا بقية].
هو بقية بن الوليد، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني عمر بن جعثم القرشي].
وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثني زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مسلم بن يسار عن نعيم بن ربيعة].
نعيم بن ربيعة مقبول، أخرج له أبو داود.
[كنت عند عمر بن الخطاب].
عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مر ذكره.(530/8)
شرح حديث (الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي حدثنا المعتمر عن أبيه عن رقبة بن مصقلة عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً، ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً)].
أورد أبو داود حديث أبي بن كعب أن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً، أي: أن الله قدر أنه يكون كافراً قال: (ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً) كما قال الله عز وجل: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} [الكهف:80] وعلى هذا فقد سبق القضاء والقدر بأن هذا طبع على هذه الحال، وهو دال على القدر، وعلى أن المقادير سبقت بكل ما هو كائن.(530/9)
تراجم رجال إسناد حديث (الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً)
قوله: [حدثنا القعنبي حدثنا المعتمر].
القعنبي مر ذكره، والمعتمر هو المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو سليمان بن طرخان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رقبة بن مصقلة].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا ابن ماجة فأخرج له في التفسير.
[عن أبي إسحاق].
هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن جبير].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[عن أبي بن كعب].
أبي بن كعب رضي الله عنه وقد مر ذكره قريباً.(530/10)
شرح حديث (أما الغلام فكان أبواه مؤمنين) وكان طبع يوم طبع كافراً
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمود بن خالد حدثنا الفريابي عن إسرائيل حدثنا أبو إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: حدثنا أبي بن كعب قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف:80] قال: وكان طبع يوم طبع كافراً)].
أورد أبو داود حديث أبي بن كعب من طريق أخرى في قول الله عز وجل: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف:80] وفيه قال: (وكان طبع يوم طبع كافراً).
أي: يوم قدرت المقادير قدر أنه كافر، وهذه الآية فيها مثال لما يذكره العلماء من العهد الذكري، أي: كون الألف واللام ترجع إلى معهود تقدم ذكره؛ لأنه قال قبل ذلك: {حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً} [الكهف:74] ثم قال هنا: ((وَأَمَّا الْغُلامُ)) فصارت (أل) في الغلام ترجع إلى (غلاماً) الذي مر ذكره، فيقال له: اللام للعهد الذكري.
ويأتي (أل) للعهد الذهني، أي ترجع إلى معهود في الأذهان مثل: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] فلم يتقدم له ذكر، ولكنه معهود في الأذهان أنه في القرآن.
ومن العهد الذكري قوله في سورة المزمل: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:15 - 16]؛ لأن (أل) في كلمة (الرسول) ترجع إلى (رسولاً) التي قبلها.(530/11)
تراجم رجال إسناد حديث (وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين) وكان طبع يوم طبع كافراً
قوله: [حدثنا محمود بن خالد].
هو محمود بن خالد الدمشقي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الفريابي].
هو محمد بن يوسف الفريابي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسرائيل].
هو ابن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: حدثنا أبي بن كعب].
قد مر ذكر الأربعة.(530/12)
شرح حديث (أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الصبيان فتناول رأسه فقلعه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن مهران الرازي حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الصبيان، فتناول رأسه فقلعه، فقال موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً} [الكهف:74] الآية)].
أورد أبو داود حديث أبي بن كعب وفيه كيفية قتل الغلام، وأنه أمسك رأسه وقلعه، أي: فقتله بذلك.(530/13)
تراجم رجال إسناد حديث (أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الصبيان فتناول رأسه فقلعه)
قوله: [حدثنا محمد بن مهران الرازي].
وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود.
[عن سفيان بن عيينة عن عمرو عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب].
وكل هؤلاء مر ذكرهم.(530/14)
الجمع بين كون الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً وبين حديث الفطرة
وطبع الغلام على الكفر لا يتعارض مع ما جاء في الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) فكون الغلام طبع كافراً ليس معنى ذلك أنه صغير ما بلغ الحلم، وأنه ما حصل له شيء يعرفه، فإن الأصل أن حديث الفطرة على عمومه، وكون هذا الغلام طبع كافراً معناه أنه قدر أنه يكون كافراً، وليس معنى ذلك أنه ما خلق على الفطرة، وأنه خارج عن الفطرة، فإن (كل مولود يولد على الفطرة) وهذا مولود، ولكن الانحراف هو الذي حصل للناس، كما قال الله عز وجل: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين).
يقول المحشي: قال المنذري: ولفظ البخاري ومسلم فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله، وفي لفظ للبخاري فأضجعه ثم ذبحه بالسكة، وفي كتاب الطبري أنه أخذ صخرة فثلغ بها رأسه، ثم قال: والجمع بينها متوجه، أي فيكون ضربه بالحجر أولاً فلم يقتله ثم اقتلع رأسه.(530/15)
الكلام في نبوة الخضر وموته
وينبغي أن يعلم أن مثل هذا يدل على أن الخضر نبي، وليس بولي فقط؛ لأن الأولياء لا يعرفون الحق إلا عن طريق الأنبياء، وهم تابعون للأنبياء، وأما الخضر فهو نبي، والمحاورة التي جرت بينه وبين موسى تدل على ذلك فقد قال: (أنا على علم من الله لا تعلمه، وأنت على علم من الله لا أعلمه) ثم قال: (علمي وعلمك إلى علم الله مثل ما أخذه الطائر من البحر بمنقاره).
وجاء في سورة الكهف أنه قال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82].
وأيضاً: معلوم أن موسى عليه الصلاة والسلام أفضل المرسلين بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبعد إبراهيم، فهو الذي يلي إبراهيم؛ لأن محمداً صلى الله عليه وسلم خليل كليم، وإبراهيم خليل، وموسى كليم، وإنما ذهب ليحصل من هذا العلم الذي أوحاه الله عز وجل إلى ذلك الرجل، والمحاورة التي بينهما وسياق الآيات من أولها إلى آخرها تدل على أنه نبي وأنه ليس بولي، ولهذا فإن الفتنة حصلت لكثير من الناس بالدعوى أنه ولي، وأنه يحصل من الولي مثل هذه الأمور، فغلوا في الأولياء واعتقدوا فيهم ما لا يجوز، وأنزلوهم المنازل التي لا يستحقونها، ودليلهم أن الخضر حصل منه ما حصل وهو ولي.
ثم أمر آخر يتعلق بالخضر وهو زعم بعض الناس أنه حي موجود، وأنه لم يمت، وهذا أيضاً غير صحيح؛ لأن النصوص تدل على أنه قد مات، وأنه لم يكن موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه قد جاء في القرآن {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء:34].
فلو كان الخلد لأحد لكان للنبي صلى الله عليه وسلم، فالقول بأن الخضر كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو بعده غير صحيح، ولو كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف لا يأتي إليه، وهو يجول ويصول في البلاد كما يقولون، ويقطع الدنيا، ويحضر في أماكن كثيرة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يناجي ربه في بدر ويقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض).
فلو كان الخضر موجوداً وهلكت العصابة فإن الله يعبد في الأرض حيث يعبده الخضر.
وكذلك جاء في الحديث أنه لا يبقى بعد مائة سنة نفس منفوسة على ظهر الأرض الآن، ومعنى ذلك: أنه بعد مضي مائة سنة من ذلك اليوم الذي تحدث فيه النبي صلى الله عليه وسلم الحديث سيموت كل من كان موجوداً على الأرض، فلو كان الخضر موجوداً في ذلك الوقت لمات قبل مضي مائة سنة، كما جاء بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالقول بأنه قد مات هو القول الذي تدل عليه الأدلة.(530/16)
الأسئلة(530/17)
يؤجر الإنسان على كل نفقة إلا البنيان الزائد عن الحاجة
السؤال
أتى في صحيح البخاري فيما ذكر أن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه، يقول البخاري رحمه الله تعالى في باب: تمني المريض الموت من كتاب المرضى: قال: حدثنا آدم قال: حدثنا شعبة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: (دخلنا على خباب نعوده وقد اكتوى سبع كيات، فقال: إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعاً إلا التراب، ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به، ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطاً له فقال: إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب).
يقول الحافظ ابن حجر: قوله: (ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطاً له) هكذا وقع في رواية شعبة تكرار المجيء، وهو أحفظ الجميع فزيادته مقبولة، والذي يظهر أن قصة بناء الحائط كانت سبب قوله أيضاً: (وإنا أصبنا من الدنيا ما لا نجد له موضعاً إلا التراب)، وقوله: (إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب)، أي: الذي يوضع في البنيان وهو محمول على ما زاد على الحاجة.
فما قولكم في هذا؟
الجواب
هذا محمول على ما كان من البناء زائداً عن الحاجة، أو كان من باب المفاخرة والمطاولة.(530/18)
حكم الصلاة إلى وجه إنسان
السؤال
ما حكم من صلى وجعل سترته رجلاً مقبلاً عليه بوجهه؟
الجواب
لا ينبغي هذا؛ لأن هذا يشوش عليه، ولكنه إذا لم يجد إلا هذا المكان فلا بأس أن يصلي وينظر إلى مكان سجوده، فيسلم من تشويشه إن شاء الله.(530/19)
حكم القول بتسلسل الحوادث في الماضي
السؤال
جاء في الحديث أن أول المخلوقات هو القلم، أليس في ذلك دليل على أن القول بتسلسل الحوادث في الماضي خطأ؟
الجواب
قالوا: إن القلم أول المخلوقات في هذا العالم المشاهد، فهذا العالم المشاهد هو الذي فيه الأولية بالنسبة للعرش أو بالنسبة للقلم، وأما ما قبل ذلك فالله عز وجل يخلق ما يشاء، والله تعالى أعلم بخلقه وما خلق، لكن هذا العالم المشاهد هو -كما جاء في هذا الحديث- ما يتعلق بخلق السماوات والأرض، والعرش قبل ذلك.(530/20)
المقادير المكتوبة إنما هي إلى يوم القيامة
السؤال
هل يفهم من قوله في حديث خلق القلم: (اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) أن المقادير التي كتبت إنما هي إلى يوم القيامة فقط؟
الجواب
الحديث يدل على أن الله قدر أن كل ما يجري حتى تقوم الساعة، ومعلوم أن ما يجري في الجنة والنار بعد أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار لا نهاية له، فالعذاب مستمر ويتجدد: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء:56]، وأهل الجنة منعمون إلى غير نهاية، والله أعلم.
ومعلوم أن اللوح المحفوظ له بداية ونهاية، وكل ما كتب فيه محدود ومعروف ومحصور، ولكن الجنة والنار وما يحصل فيهما من النعيم والعذاب، وما يحدثه الله وينشئه لأهليهما على مدى العصور والزمان الذي لا انقطاع له ولا نهاية، يدل على أنه مستمر.(530/21)
شرح سنن أبي داود [531]
إن الإيمان بالقدر أحد أصول الإيمان الستة، والقدر سر من أسرار الله عز وجل لا يجوز الخوض فيه، ولذلك لايجوز مجالسة أهل القدر، لما لهم من ضرر على من يجالسهم، وقد قدر الله تعالى أعمال العباد وآجالهم وأرزاقهم، وما يكونون عليه من السعادة أو الشقاوة، وهم في بطون أمهاتهم، وكل إنسان ميسر لما خلق له، ولا يفعل إلا ما شاءه الله وقدره؛ لأن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى، ولا يحتج بالقدر على المعاصي والغواية، فالهداية من فضل الله عز وجل والغواية من عدله.(531/1)
شرح حديث: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة ح وحدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان المعنى واحد، والإخبار في حديث سفيان عن الأعمش قال: حدثنا زيد بن وهب حدثنا عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملك فيؤمر بأربع كلمات: فيكتب رزقه وأجله وعمله، ثم يكتب شقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو قيد ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو قيد ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)].
سبق أن مر جملة من الأحاديث في باب القدر من سنن أبي داود وهذا حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هو من جملة تلك الأحاديث.
فقوله رضي الله عنه: [حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق] هذا ثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدح له بأنه صادق مصدوق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهذه الجملة اعتراضية بين قوله: [حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم] وبين الحديث: [(إن خلق أحدكم يجمع)] وقد قيل: إنها جملة حالية، وقال بعض الشراح: إن كونها اعتراضية أولى من كونها جملة حالية؛ لأن معنى الجملة الحالية أنه الصادق المصدوق في حال تحديثه لنا، ولكن إذا كانت جملة اعتراضية فالمعنى أنه متصف بهذا الوصف دائماً وأبداً، وأن هذا شأنه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه دائماً، وليس ذلك مقيداً بحال تحديثه إياهم.
قوله: [(إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً) أي: كل إنسان يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، أي: فيكون نطفة، وهي ماء مهين، فيمكث أربعين يوماً ثم يتحول إلى علقة، أي قطعة صغيرة من اللحم، ثم يتحول إلى مضغة بعد أربعين يوماً أخرى، فيكون على قدر ما يمضغه الآكل، أي يضعه في فمه، والمضغة هي الأكلة التي يضعها الآكل في فمه.
فإذا كملت هذه الأطوار الثلاثة يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويكون عند ذلك مكوناً من جسد وروح، ويكون قد تخلق وصار على هيئة إنسان.
قوله: [(ويؤمر بأربع كلمات: فيكتب رزقه وأجله وعمله، ثم يكتب شقي أو سعيد)] يعني أنه يكتب ما قدر الله عز وجل أن يكون له من رزق، سواءً كان مبسوطاً أو مضيقاً، ويكتب أجله، أي مدة حياته ومتى ينتهي أجله، وكذلك عمله الذي يعمله، وكذلك يكتب أنه شقي أو سعيد، فإما أن يكون من أهل السعادة أو من أهل الشقاوة.
وجاء في بعض الروايات أنه يقول: (ذكر يا رب أو أنثى؟) فيذكر له الحالة التي شاء الله تعالى أن يكون عليها من ذكورة أو أنوثة.
وهذا فيه إثبات القدر، ومعلوم أن التقدير قد حصل في اللوح المحفوظ، وهذا تقدير آخر؛ لأنه قد جاءت أحاديث في ذكر تقديرات أخرى غير التقدير الأول الذي حصل في اللوح المحفوظ، والذي في اللوح المحفوظ هو الأصل وغيره تابع له.
والمرء ينتهي إلى ما قدر له من السعادة أو الشقاوة، فيموت على ذلك، والعبرة بما مات عليه، وما قبل ذلك ليس هو المعتبر، فقد تكون الحال حسنة ثم تتغير إلى حال سيئة، فيختم له بالسوء، أو قد تكون الحال سيئة ثم يتحول إلى حال حسنة وينتهي أمره على أمر حسن، فالعبرة بالخواتيم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات: (وإنما الأعمال بالخواتيم).
وقد بين عليه الصلاة والسلام في آخر هذا الحديث أن من كان من أهل السعادة قد يعمل بعمل أهل النار طيلة حياته أو أكثر حياته، حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع، أي ما يكون بينه وبين الموت إلا شيء يسير، فيهتدي ويتوب إلى الله عز وجل ويعمل بعمل أهل الجنة، ثم يموت على حالة حسنة، ومن تاب تاب الله عليه، والتوبة تجب ما قبلها، فكل الذنوب التي حصلت من الإنسان إذا تاب منها في الحياة قبل أن يغرغر فإن التوبة تجبها.
وعلى العكس من ذلك من يعمل بعمل أهل الجنة ويستمر عليها أكثر حياته، ثم يدركه الخذلان فيرجع عن الحق والهدى، فيرتد أو ينحرف عن الجادة، فيختم له بخاتمة سيئة، ولكن إذا كان الانحراف عن طريق ردة فإنه ليس له إلا النار، وإذا كان الانحراف عن طريق معاصٍ أو بدع غير كفرية فإن أمره إلى الله عز وجل، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبه في النار على بدعته أو معصيته، ولكنه لابد أن يخرج من النار ويدخل الجنة، ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين هم أهلها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن العبرة بالنهاية، وأن من كان موفقاً حصل له التوفيق من الله عز وجل فيختم له به، ومن كان بخلاف ذلك حصل له الخذلان وختم له به.(531/2)
أقسام الناس بالنسبة للبدايات والنهايات
الناس بالنسبة للبدايات والنهايات ينقسمون إلى أربعة أقسام: قسم وفق بأن ولد في الإسلام، ونشأ في الإسلام، واستمر على الإسلام، ووفق للأعمال الصالحة ودام عليها حتى توفاه الله عز وجل، فتكون حياته كلها معمورة بالصلاح والتقى.
القسم الثاني الذي يقابله: وهو الذي ولد في الكفر، ونشأ على الكفر، واستمر على الكفر حتى مات عليه والعياذ بالله، فالبدايات سيئة والنهايات سيئة، والحياة كلها معمورة بالسوء، وبالكفر بالله عز وجل والإلحاد.
القسم الثالث: الذي تكون بداياته سيئة وماضيه سيئاً، ثم يحصل له أن يختم له عند النهاية بخير، كالذي عمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فسبق عليه الكتاب، فعمل بعمل أهل الجنة فدخلها، وهذا مثل السحرة الذين كانوا مع فرعون، والذين كانت حياتهم كلها سحر وكفر، وفي آخر الأمر: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70] ثم قتلوا وانتهوا على خير، فكانت حياتهم معمورة بالكفر والسحر والخبث، وعند اقتراب الأجل حصل لهم الاهتداء ودخلوا في الحق الذي جاء به موسى، وآمنوا برب هارون وموسى، ثم قتلوا وصارت نهايتهم طيبة.
القسم الرابع: من يكون في حياته على استقامة وعلى هداية، ثم يدركه الخذلان في الآخر عندما لم يبق على حياته إلا الشيء القليل، فيدركه الخذلان فيرتد عن الإسلام والعياذ بالله، ثم يموت على الردة، فيكون عمل بعمل أهل الجنة طيلة حياته، ولما لم يبق عليه إلا الشيء اليسير أدركه الخذلان وارتد عن الإسلام ومات على الردة، فيكون قد عمل بعمل أهل الجنة حتى لم يكن بينه وبينها إلا ذراع، فأدركه الخذلان فعمل بعمل أهل النار فدخلها.
فهذه أقسام الناس الأربعة بالنسبة للبدايات والنهايات: فمنهم من بدايته ونهايته طيبة، ومنهم من بدايته ونهايته سيئة، ومنهم من بدايته حسنة ونهايته سيئة، ومنهم من بدايته سيئة ونهايته حسنة، والعبرة إنما هي بالخواتيم والنهايات التي ينتهي إليها الإنسان.
والحديث فيه إثبات القدر، وأن كلاً سينتهي إلى ما قدر له من شقاوة وسعادة، وكل شيء قدره الله عز وجل سيأتي به الإنسان بإرادته ومشيئته التابعة لمشيئة الله عز وجل وإرادته.(531/3)
معرفة نوع الجنين ليس من علم الغيب
في الحديث أيضاً دليل على أن الملك يعرف الذكر من الأنثى بعدما ينفخ الروح ويسأل ربه أهو ذكر أم أنثى، فيعلم الملك بذلك، وهذا يدل على أنه يمكن أن يعرف الناس الحمل هل هو ذكر أو أنثى وهو في بطن أمه، وأن هذا لا يعتبر من علم الغيب؛ لأن الملك ما دام قد عرف ذلك وهو مخلوق من مخلوقات الله فقد خرج ذلك عن أن يكون من علم الغيب الذي اختص الله تعالى به، فهو مما يعلمه الناس، ولكن قبل هذه الحال عندما يكون الجنين ماء مهيناً فإنه لا يعلم ذلك إلا الله عز وجل، ولكن إذا سأل الملك ربه: أذكر أو أنثى؟ وقيل له ذلك فحصل علم المخلوق بذلك، فيمكن للبشر أن يعرفوا ذلك عن طريق الأجهزة التي يعرفون بها كونه ذكراً أو أنثى، ولا يقال: إن هذا من علم الغيب، أو إن هذا اطلاع على علم الغيب، أو كلام في علم الغيب؛ لأنه خرج عن أن يكون من علم الغيب بمعرفة الملك بذلك.(531/4)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر النمري].
حفص بن عمر النمري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا محمد بن كثير].
ح هي للتحول من إسناد إلى إسناد، ومحمد بن كثير هو العبدي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وكل من شعبة في الإسناد الأول وسفيان الثوري في الإسناد الثاني وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وهذا الوصف هو من ألفاظ التعديل العالية التي لا تحصل لكل أحد، ولا يظفر بها كل أحد، والذين وصفوا بها قليلون جداً.
[المعنى واحد والإخبار في حديث سفيان].
معناه أن الرواية بالمعنى، وأن ألفاظهم ليست متفقة في الألفاظ، ولكنها متفقة في المعنى، والإخبار هو في حديث سفيان الذي هو شيخه الثاني.
[عن الأعمش].
سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زيد بن وهب].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن مسعود].
عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من فقهاء الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(531/5)
الأسئلة(531/6)
حكم إسقاط الجنين قبل نفخ الروح
السؤال
هل يجوز إسقاط النطفة أو العلقة قبل نفخ الروح فيها قبل المائة وعشرين يوماً؟
الجواب
حصول الحمل ينبغي أن يفرح به، وأن يحرص عليه؛ لأن من مقاصد الشريعة المكاثرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم مكاثر بأمته الأمم يوم القيامة، وفي تكثير المسلمين تكثير من يعبد الله عز وجل، ومن يكون على هذا الدين الحنيف، وهذا أمر مطلوب لا ينبغي للإنسان أن يتأثر منه، أو يحاول التخلص منه بإجهاض أو غير ذلك، وإنما عليه أن يفرح.
وكم من الناس من يحرص على أن يحصل الحمل ولو مرة واحدة، ولا يتيسر له ذلك، بل قد يبذل كل ما يمكنه من أجل أن يظفر بهذا الشيء فلا يتيسر له ذلك، فالذي أكرمه الله عز وجل وجعله من أهل الإنجاب لا ينبغي أن يتساهل في ذلك، وأن يتهاون في ذلك، ولا ينبغي للإنسان أن يتعرض للنطفة أو يتعرض للحمل بإسقاطه، وإنما عليه أن يفرح به وأن يبقيه.
وبعض أهل العلم قال: يجوز أن يسقط مادام في الشهر الأول، ولكن الذي ينبغي أن يحرص على النسل، وألا يتهاون فيه ولا يتساهل.(531/7)
القدر الذي يكتبه الملك موافق لما في اللوح المحفوظ
السؤال
هل كتابة الملك تقدير آخر غير التقدير الموجود في اللوح المحفوظ أو هو موافق له؟
الجواب
الله أعلم! لكن الذي يبدو أنه موافق له.(531/8)
معنى حديث: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس)
السؤال
جاء في بعض الروايات: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس) فما معناه؟
الجواب
نعم.
ورد ذلك؛ لأن الناس لا يعرفون أحوال الناس إلا بالظاهر، ولا يعرفون البواطن، ولكن الناس يرون أنه عمل بعمل أهل الجنة على حسب ظاهره، وقد يظهر من الإنسان شيء وهو بخلاف ما يظهر، مثل شأن المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14].(531/9)
بشارة بإسلام امرأة عجوز قبل وفاتها بأيام
السؤال
أبشركم بشارة خير أن لي جدة عمرها تسعة وتسعون سنة وهي على الكفر في أمريكا، وقبل وفاتها بثلاثة أيام أسلمت ثم ماتت بعد ذلك.
الجواب
ما شاء الله! هذه بشارة طيبة، وهذه نهاية حسنة، وهذا مثال واضح من أمثلة القسم الذي يطابق ما كان عليه سحرة فرعون الذي كانت حياتهم كلها شر، وفي النهاية ختم لهم بخير وماتوا على خير، وهذه نرجو أن تكون قد ماتت على خير.(531/10)
شرح حديث: (كل ميسر لما خلق له)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن يزيد الرشك قال: حدثنا مطرف عن عمران بن حصين قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم، قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: كل ميسر لما خلق له)].
أورد أبو داود حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أَعُلِمَ أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم) يعني هل عُلِموا بأن سبق بذلك القضاء والقدر من الله تعالى، وقد فرغ من ذلك؟ قوله: [(قال: ففيم العمل؟)] أي إذا كان أهل الجنة قد علموا وأهل النار قد علموا ففيم العمل؟! فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن كلاً ميسر لما خلق له، والمطلوب من العباد أن يعملوا، وقد بين الله لهم طريق الخير وطريق الشر، والذي سيكون من أهل الجنة سيعمل بالأعمال التي توصله إلى الجنة، والذي يكون من أهل النار سيعمل ويختار بمشيئته وإرادته الأعمال التي توصله إلى النار، وهذا جاء في عدة أحاديث، ومنها حديث علي الذي سبق أن مر بنا، وفيه أنه قيل لرسول الله: (أنعمل في أمر خلا ومضى أم في شيء يستأنف؟ قال: في شيء خلا ومضى، قيل: ففيم العمل؟ قال: إن أهل الجنة ييسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ييسرون لعمل أهل النار)، وهذا يدلنا على أن الشقاوة والسعادة سبق بها القضاء والقدر.
ومر بنا حديث ابن مسعود الذي قبل هذا وفيه أنه يكتب: شقي أو سعيد، ومعلوم أن كتابة الشقاوة والسعادة قد حصلت قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وهذا تقدير بعد تقدير، وهو مطابق لذلك التقدير.(531/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (كل ميسر لما خلق له)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد، ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا حماد بن زيد].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد الرشك].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، والرشك هو لقب له.
[حدثنا مطرف].
مطرف بن عبد الله بن الشخير، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمران بن حصين].
عمران بن حصين رضي الله عنهما، وهو صحابي كنيته أبو نجيد، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(531/12)
شرح حديث: (لا تجالسوا أهل القدر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ أبو عبد الرحمن حدثني سعيد بن أبي أيوب قال: حدثني عطاء بن دينار عن حكيم بن شريك الهذلي عن يحيى بن ميمون الحضرمي عن ربيعة الجرشي عن أبي هريرة عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجالسوا أهل القدر، ولا تفاتحوهم)].
أورد أبو داود هذا الحديث في النهي عن مجالسة أهل القدر، ومثلهم عامة المبتدعة، وذلك حتى لا يتأثر المرء بهم، لكونه ضعيفاً في العلم، أو يغتر بعباراتهم أو أخلاقهم الحسنة، أو يغتر غيره به فيطمئن إليهم ونحو ذلك.
وقد جاء في حديث آخر: (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء، كمثل حامل المسك ونافخ الكير … إلخ) وقال في جليس السوء: (فإنه إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تشم منه رائحة خبيثة)، فمجالسة الأشرار فيها مضرة على من يجالسهم، ولهذا فإن الابتعاد عنهم والحذر منهم فيه سلامة، والاتصال بهم إذا حصل لدعوة أو توجيه وإرشاد فهذا أمرٌ مقصود حسن، وشيء طيب، ولكن مجالستهم والاحتكاك بهم واستماع كلامهم، قد يجعل الإنسان يُبتلى بأن يصيبه ما أصابهم من البلاء فينتقل إليه منهم، ولهذا كان في البعد عنهم السلامة.
قوله: [(ولا تفاتحوهم)] فسر بأن المفاتحة ألا يتحاكم إليهم، أي لا يرجع إليهم في الحكم؛ لأنهم أهل انحراف، وليسوا أهل استقامة، وفسر بأنهم لا يفاتحون بالمناظرة والمجادلة، وإنما يعرض عنهم، ولا يجالسهم؛ لأن المجالسة قد يترتب عليها حديث وكلام ومناظرة، وأخذ ورد، وقد يكون الإنسان ليس عنده قوة علمية يفحم بها الخصم، بل قد يبتلى بأن يعلق في ذهنه شيء من الشُبه التي ابتلي بها أولئك الذين ابتلوا بالقدر، لهذا قال: [(لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم)].(531/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تجالسوا أهل القدر)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو واحد من العبادلة الأربعة الذين إذا رووا عن ابن لهيعة قبلت روايتهم؛ لأنهم سمعوا منه قبل الاختلاط وهم: عبد الله بن يزيد هذا وعبد الله بن وهب وعبد الله بن مسلمة وعبد الله بن المبارك.
[حدثني سعيد بن أبي أيوب].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عطاء بن دينار].
وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي.
[عن حكيم بن شريك الهذلي].
وهو مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن يحيى بن ميمون الحضرمي].
وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن ربيعة الجرشي].
ربيعة الجرشي مختلف في صحبته، وثقه الدارقطني وغيره، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.
[عن عمر بن الخطاب] وهو الصحابي الجليل، ثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
وهذا الإسناد تساعي، فهو من أنزل الأسانيد عند أبي داود، ومعلوم أن أعلى الأسانيد عند أبي داود الرباعيات، أي: أن يكون بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة وأما مثل هذا الإسناد فهو من الأسانيد النازلة.
وهذا الحديث ضعفه الألباني، ولعله بسبب شريك بن حكيم الهذلي.(531/14)
شرح ما يتعلق بالقدر من مقدمة الرسالة للقيرواني(531/15)
مقدمة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، المبعوث رحمة للعالمين.
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، الذين حفظ الله بهم الملة وأظهر الدين، وعلى من اتبعهم بإحسان وسار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:(531/16)
عقيدة أهل السنة هي عقيدة النبي وأصحابه
عقيدة أهل السنة والجماعة تمتاز بالصفاء والوضوح والخلو من الغموض والتعقيد، وهي مستمدة من نصوص الوحي كتاباً وسنة، وكان عليها سلف الأمة، وهي عقيدة مطابقة للفطرة، ويقبلها العقل السليم الخالي من أمراض الشبهات، وذلك بخلاف العقائد الأخرى المتلقاة من آراء الرجال وأقوال المتكلمين، ففيها الغموض والتعقيد والخبط والخلط، وكيف لا يكون الفرق كبيراً والبون شاسعاً بين عقيدة نزل بها جبريل من الله إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبين عقائد متنوعة مختلفة خرج أصحابها المبتدعون لها من الأرض، وخلقهم الله من ماء مهين؟! فعقيدة أهل السنة والجماعة بدت وظهرت مع بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونزول الوحي عليه من ربه تعالى، وسار عليها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الكرام ومن تبعهم بإحسان، والعقائد الأخرى لا وجود لها في زمن النبوة، ولم يكن عليها الصحابة الكرام، بل قد ولد بعضها في زمانهم وبعضها بعد انقراض عصرهم، وهي من محدثات الأمور التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
وليس من المعقول ولا المقبول أن يحجب حق عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، ويدخر لأناس يجيئون بعد أزمانهم، فتلك العقائد لو كان شيء منها خيراً لسبق إليه الصحابة، ولكنها شر حفظهم الله منه، وابتلي به من بعدهم.
والحقيقة الواضحة الجلية أن الفرق بين عقيدة أهل السنة والجماعة المتلقاة من الوحي، وبين عقائد المتكلمين المبنية على آراء الرجال وعقولهم، كالفرق بين الله وخلقه، ومثل ذلك ما يكون به القضاء والحكم، فإنه يقال فيه: إن الفرق بين الشريعة الإسلامية الرفيعة المنزلة من الله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبين القوانين الوضعية الوضيعة التي أحدثها البشر كالفرق بين الله وخلقه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، فما بال عقول كثير من الناس تغفل عن هذه الحقيقة الواضحة الجلية فيما يُعتقد، والحقيقة الواضحة الجلية فيما يحكم به، فيستبدلون الذين هو أدنى بالذي هو خير؟ اللهم اهد من ضل من المسلمين سُبل السلام، وأخرجه من الظلمات إلى النور، إنك سميع مجيب!(531/17)
تميز عقيدة أهل السنة على غيرها من العقائد المحدثة
ألف علماء السنة قديماً وحديثاً مؤلفات توضح عقيدة أهل السنة والجماعة، منها ما هو مختصر، ومنها ما هو مطول، وكان من بين هذه المختصرات مقدمة الإمام ابن أبي زيد القيرواني المالكي لرسالته، ومقدمة رسالته هي على طريقة السلف، وهي مختصرة مفيدة، والجمع بين الأصول والفروع في كتاب واحد نادر في فعل المؤلفين، وهو حسن يجعل المشتغل في فقه العبادات والمعاملات على علمٍ بالفقه الأكبر، الذي هو العقيدة على طريقة السلف، وهي مع وجازتها وقلة ألفاظها تبين بوضوح العقيدة السليمة المطابقة للفطرة، المبنية على نصوص الكتاب والسنة، وهي شاهد واضح للمقولة المشهورة: (إن كلام السلف قليل كثير البركة، وكلام المتكلمين كثير قليل البركة).
ومن أمثلة ما في هذه المقدمة من النفي المتضمن إثبات كمال لله تعالى قوله في مطلع هذه المقدمة: (إن الله إله واحد لا إله غيره، ولا شبيه له، ولا نظير له، ولا ولد له، ولا والد له، ولا صاحبة له، ولا شريك له)، فإن هذه المنفيات عن الله عز وجل مستمدة من الكتاب والسنة، وهذا بخلاف النفي في كلام المتكلمين، فإنه مبني على التكلف، ومتصف بالغموض، ومن أمثلة ذلك قول صاحب العقائد النسفية: (ليس بعرض، ولا جسم، ولا جوهر، ولا مصور، ولا محدود، ولا معدود، ولا متبعض، ولا متجزئٍ، ولا متركبٍ، ولا متناه)، وهذه المنفيات لم ينص على نفيها كتاب ولا سنة، والواجب السكوت والإمساك عما لم يدل عليه دليل من الوحي، واعتقاد أن الله متصف بكل كمال، ومنزه عن كل نقص.
ومثل هذه السلوب لا يفهمها العوام، ولا تطابق الفطرة التي هم عليها، وهي من تكلف المتكلمين، وفيها غموض وتلبيس، ويتضح ذلك بالإشارة إلى واحد منها وهو نفي الجسم، فإنه يحتمل أن يراد به ذات مشابهة للمخلوقات، وعلى هذا الاحتمال يرد اللفظ والمعنى جميعاً؛ لأن الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
وإن أريد به ذات قائمة بنفسها، مباينة للمخلوقات، متصفة بصفات الكمال، فإن هذا المعنى حق، ولا يجوز نفيه عن الله.
وإنما يرد هذا اللفظ لاشتماله على معنى حق ومعنى باطل، وسيأتي في كلام المقريزي قوله عن الصحابة: (فأثبتوا رضي الله عنهم بلا تشبيه، ونزهوا من غير تعطيل، ولم يتعرض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا، ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت، ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى، وعلى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، سوى كتاب الله، ولا عرف أحد منهم شيئاً من الطرق الكلامية، ولا مسائل الفلسفة).
وسيأتي أيضاً في كلام أبي المظفر السمعاني قوله في بيان فساد طريقة المتكلمين: (وكان مما أمر بتبليغه التوحيد، بل هو أصل ما أمر به، فلم يترك شيئاً من أمور الدين أصوله وقواعده وشرائعه إلا بلغه، ثم لم يدع إلى الاستدلال بما تمسكوا به من الجوهر والعرض، ولا يوجد عنه ولا عن أحد من أصحابه من ذلك حرف واحد فما فوقه؛ فعرف بذلك أنهم ذهبوا خلاف مذهبهم، وسلكوا غير سبيلهم، لطريقٍ محدث مخترع لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم، ويلزم من سلوكه العود على السلف بالطعن والقدح، ونسبتهم إلى قلة المعرفة، واشتباه الطرق؛ فالحذر من الاشتغال بكلامهم، والاشتراك بمقالاتهم، فإنها سريعة التهافت، كثيرة التناقض).
وقول أبي المظفر السمعاني هذا أورده الحافظ ابن حجر في كتاب فتح الباري في شرح قول البخاري: (باب قوله الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67])، ونقل فيه عن الحسن البصري قال: (لو كان ما يقوله الجعد حقاً لبلغه النبي صلى الله عليه وآله وسلم).
والجعد بن درهم هو مؤسس مذهب الجهمية، ونسب الجهمية إلى جهم بن صفوان لأنه هو الذي أظهر هذا المذهب الباطل ونشره، وأقول كما قال الحسن البصري رحمه الله: لو كان ما يقوله الأشاعرة وغيرهم من المتكلمين حقاً، لبلغه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد رأيت أن أشرح هذه المقدمة شرحاً يزيد في جلائها ووضوحها، ويفصل المعاني التي اشتملت عليها، ورأيت أن أمهد لهذا لشرح بذكر عشر فوائد في عقيدة السلف، وقد نظم الشيخ أحمد بن مشرف الأحسائي المالكي المتوفى (سنة 1285هـ) مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني نظماً بديعاً سلساً، رأيت من المناسب إثباته مع نص المقدمة قبل البدء بالشرح، وقد سميت هذا الشرح: (قطف الجنى الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني).
وأسأل الله عز وجل أن ينفع به كما نفع بأصله، وأن يوفق المسلمين للفقه في دينهم، والسير على ما كان عليه سلفهم في العقيدة والعمل، وأن يوفقني للسلامة من الزلل، ويمنحني الصدق في القول والإخلاص في العمل، إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(531/18)
الإيمان بالقدر
قال ابن أبي زيد: (والإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره، وكل ذلك قد قدره الله ربنا، ومقادير الأمور بيده، ومصدرها عن قضائه، علم كل شيء قبل كونه، فجرى على قدره، لا يكون من عباده قول ولا عمل إلا وقد قضاه، وسبق علمه به: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، يضل من يشاء فيخذله بعدله، ويهدي من يشاء فيوفقه بفضله، وكل ميسر بتيسيره إلى ما سبق من علمه وقدره، من شقي أو سعيد، تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد، أو يكون لأحد عنه غنى، أو يكون خالق لشيء إلا هو، رب العباد، ورب أعمالهم، والمقدر لحركاتهم وآجالهم).
شرح: الإيمان بالقدر أحد أصول الإيمان الستة المبينة في حديث جبريل المشهور، فإنه سأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) أخرجه مسلم في صحيحه، وهو أول حديث في كتاب الإيمان، الذي هو أول كتب صحيحه، وجاء في إسناده أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حدث به عن أبيه للاستدلال به على الإيمان بالقدر، عندما سأله يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري عن أناس وجدوا في العراق ينكرون القدر، وأن الأمر أنف، فقال للسائل: (فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر)، ثم حدث بالحديث عن أبيه، وحديث جبريل عن عمر من أفراد مسلم، وقد اتفق الشيخان على إخراجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(531/19)
أدلة القدر من الكتاب والسنة
ثانياً: جاء في القرآن آيات كثيرة، وفي السنة أحاديث عديدة، تدل على إثبات القدر: قال الله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقال: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51]، وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22].
وأما السنة فقد عقد كل من الإمام البخاري والإمام مسلم في صحيحيهما كتاباً للقدر اشتمل على أحاديث عديدة في إثبات القدر، ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان).
وروى مسلم بإسناده إلى طاوس أنه قال: أدركت أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقولون: كل شيء بقدر، قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس، أو الكيس والعجز).
والعجز والكيس ضدان، فنشاط النشيط وكسل الكسول وعجزه، كل ذلك بقدر، قال النووي في شرح الحديث: ومعناه أن العاجز قد قدر عجزه، والكيس قد قدر كيسه.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول الله! أفلا نتكل؟! فقال: اعملوا فكل ميسر، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل:5 - 6] إلى قوله: {لِلْعُسْرَى} [الليل:10]) رواه البخاري ومسلم من حديث علي رضي الله عنه.
والحديث يدل على أن أعمال العباد الصالحة مقدرة، وتؤدي إلى حصول السعادة وهي مقدرة، وأعمالهم السيئة مقدرة، وتؤدي إلى الشقاوة وهي مقدرة، والله سبحانه وتعالى قدر الأسباب والمسببات، وكل شيء لا يخرج عن قضاء الله وقدره، وخلقه وإيجاده.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، وهذا الحديث شرحه الحافظ ابن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، وهو الحديث التاسع عشر من الأربعين النووية.(531/20)
مراتب القدر
ثالثاً: الإيمان بالقدر له أربع مراتب لابد من اعتقادها: المرتبة الأولى: علم الله الأزلي في كل ما هو كائن، فإن كل كائن قد سبق به علم الله أزلاً، ولا يتجدد له علم بشيء لم يكن عالماً به أزلاً، وقد سبق إيضاح هذه المرتبة عند الكلام على صفة علم الله في الفقرة رقم سبعة.
الثانية: كتابة كل ما هو كائن في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء) رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
الثالثة: مشيئة الله وإرادته، فإن كل ما هو كائن إنما حصل بمشيئة الله، ولا يقع في ملك الله إلا ما أراده الله، فما شاءه الله كان، وما لم يشأ لم يكن، قال الله عز وجل: {َإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117]، وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29].
الرابعة: إيجاد كل ما هو كائن وخلقه بمشيئة الله وفقاً لما علمه أزلاً، وكتبه في اللوح المحفوظ، فإن كل ما هو كائن من ذوات وأفعال هو في خلق الله وإيجاده، كما قال الله عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، وقال {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].(531/21)
كيف يعلم الخلق بما هو مقدر
رابعاً: ما قدره الله وقضاه، وكتبه في اللوح المحفوظ، هو من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ويمكن أن يعلم الخلق ما هو مقدر بأحد أمرين: الأمر الأول: الوقوع؛ فإذا وقع شيء عُلم بأنه مقدر، لأنه لو لم يقدر لم يقع، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
الثاني: حصول الإخبار من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أمور تقع في المستقبل، مثل إخباره عن الدجال، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مريم، وغيرها من الأمور التي تقع في آخر الزمان، فهذه الأخبار تدل على أن هذه الأمور لابد أن تقع، وأنه سبق بها قضاء الله وقدره، ومثل إخباره عن أمور تقع قرب زمانه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذلك ما جاء في حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر والحسن إلى جنبه، ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول: ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين) رواه البخاري، وقد وقع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في عام واحد وأربعين للهجرة، حيث اجتمعت كلمة المسلمين وسمي عام الجماعة، والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فهموا من هذا الحديث أن الحسن رضي الله عنه لن يموت صغيراً، وأنه سيعيش حتى يحصل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الصلح، وهو شيء مقدر علم الصحابة به قبل وقوعه.(531/22)
الله خالق كل شيء ومقدره
خامساً: قوله: (والإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وكل ذلك قد قدره الله ربنا) جاء في حديث جبريل: (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره).
والله سبحانه خالق كل شيء ومقدره، قال الله عز وجل: ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ))، وقال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، فكل ما هو كائن من خير وشر، هو بقضاء الله وقدره، ومشيئته وإرادته.
وأما ما جاء في حديث علي رضي الله عنه، في دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الطويل، وفيه: (والخير كله في يديك، والشر ليس إليك) رواه مسلم، فلا يدل على أن الشر لا يقع بقضائه وخلقه، وإنما معناه أن الله لا يخلق شراً محضاً لا يكون لحكمة، ولا يترتب عليه فائدة بوجه من الوجوه.
وأيضاً: الشر لا يُضاف إليه استقلالاً، بل يكون داخلاً تحت عموم كما قال الله عز وجل: ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ))، وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، فيتأدب مع الله بعدم نسبة الشر وحده إلى الله، ولهذا جاء فيما ذكره الله عن الجن تأدبهم بنسبة الخير إليه، وذكر الشر على البناء للمجهول: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10].(531/23)
الفرق بين المشيئة والإرادة الإلهيتين
سادساً: من مراتب القدر الأربع -كما مر قريباً- مشيئة الله وإرادته، والفرق بين المشيئة والإرادة: أن المشيئة لم تأت في الكتاب والسنة إلا لمعنىً كوني قدري، وأما الإرادة فإنها تأتي لمعنى كوني ومعنى ديني شرعي.
ومن مجيئها لمعنى كوني قدري قوله تعالى: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34]، وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125].
ومن مجيء الإرادة لمعنى شرعي، قول الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6].
والفرق بين الإرادتين: أن الإرادة الكونية تكون عامة فيما يحبه الله ويسخطه، وأما الإرادة الشرعية فلا تكون إلا فيما يحبه الله ويرضاه، والكونية لابد من وقوعها، والدينية تقع في حق من وفقه الله، وتتخلف في حق من لم يحصل له التوفيق من الله.
وهناك كلمات تأتي لمعنىً كوني وشرعي، منها: القضاء، والتحريم، والإذن، والكلمات، والأمر، وغيرها ذكرها ابن القيم وذكر ما يشهد لها من القرآن والسنة في كتابه ((شفاء العليل)) في الباب التاسع والعشرين منه.(531/24)
ما قدره الله لا بد من وقوعه
سابعاً: ما قدره الله وقضاه، وكتبه في اللوح المحفوظ، لابد من وقوعه، ولا تغيير فيه، ولا تبديل، كما قال الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (رفعت الأقلام، وجفت الصحف).
وأما قول الله عز وجل: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، فقد فسر بأن ذلك يتعلق بالشرائع، فينسخ الله منها ما يشاء، ويثبت ما يشاء، حتى ختمت برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، التي نسخت جميع الشرائع قبلها.
وفسر بالأقدار التي هي في غير اللوح المحفوظ، كالذي يكون بأيدي الملائكة، وانظر ((شفاء العليل)) لـ ابن القيم في الأبواب الثاني والرابع والخامس والسادس، فقد ذكر في كل باب تقديراً خاصاً بعد التقدير في اللوح المحفوظ.
وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)، أخرجه الترمذي وحسنه، وهو في السلسلة الصحيحة للألباني، فلا يدل على تغيير ما في اللوح المحفوظ، وإنما يدل على أن الله قدر السلامة من الشرور، وقدر أسباباً لتلك السلامة، والمعنى: أن الله دفع عن العبد شراً، وذلك مقدر بسببٍ يفعله وهو الدعاء، وهو مقدر، وكذلك قدر أن يطول عمر الإنسان، وقدر أن يحصل منه سبب لذلك، وهو البر وصلة الرحم.
فالأسباب والمسببات كلها بقضاء الله وقدره، وكذلك يقال في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه) رواه البخاري ومسلم.
وأجل كل إنسان مقدر في اللوح المحفوظ، لا يتقدم عنه ولا يتأخر، كما قال الله عز وجل: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11]، وقال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، وكل من مات أو قتل فهو بأجله، ولا يقال كما قالت المعتزلة: إن المقتول قطع عليه أجله، وإنه لو لم يقتل لعاش إلى أجل آخر، فإن كل إنسان قدر الله له أجلاً واحداً، وقدر لهذا الأجل أسباباً، فهذا يموت بالمرض، وهذا يموت بالغرق، وهذا يموت بالقتل، وهكذا.(531/25)
لا يحتج بالقدر على المعاصي
ثامناً: لا يجوز الاحتجاج بالقدر على ترك مأمور، ولا على فعل محظور، فمن فعل معصية لها عقوبة مقدرة محددة شرعاً، واعتذر عن فعله بأن ذلك قدر؛ فإنه يعاقب بالعقوبة الشرعية، ويقال له: إن معاقبتك بهذه العقوبة قدر.
وأما ما جاء في حديث محاجة آدم وموسى في القدر، فليس من قبيل الاحتجاج بالقدر على فعل معصية، وإنما هو احتجاج على المصيبة التي كانت بسبب المعصية، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (احتج آدم وموسى فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة، فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، ثم تلومني على أمر قدر عليَّ قبل أن أخلق، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فحج آدم موسى مرتين).
وقد عقد ابن القيم في كتابه ((شفاء العليل)) الباب الثالث للكلام على هذا الحديث، فذكر ما قيل في معناه من أقوال باطلة، وذكر الآيات التي فيها احتجاج المشركين على شركهم بالقدر، وأن الله أكذبهم؛ لأنهم باقون على شركهم وكفرهم، وما قالوه هو من الحق الذي أريد به باطل، ثم ذكر توجيهين لمعنى الحديث، أولهما لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية، والثاني من فهمه واستنباطه، فقال: (إذا عرفت هذا، فموسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم على ذنب قد تاب منه فاعله، فاجتباه بعده وهداه واصطفاه، وآدم أعرف بربه من أن يحتج بقضائه وقدره على معصيته، بل إنما لام موسى آدم على المصيبة التي نالت الذرية بخروجهم من الجنة، ونزولهم إلى دار الابتلاء والمحنة، بسبب خطيئة أبيهم، فذكر الخطيئة تنبيه على سبب المصيبة، والمحنة التي نالت الذرية، ولهذا قال له: (أخرجتنا ونفسك من الجنة) وفي لفظ: (خيبتنا) فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، وقال: إن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة بقدره قبل خلقي، والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب، أي: أتلومني على مصيبة قدرت عليَّ وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة، هذا جواب شيخنا رحمه الله.
وقد يتوجه جواب آخر: وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه، وترك معاودته، كما فعل آدم فيكون في ذكر القدر من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها، ما ينتفع به الذاكر والسامع، لأنه لا يدفع بالقدر أمراً ولا نهياً، ولا يبطل به شريعة، بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوة، يوضحه أن آدم قال لموسى: (أتلومني على أن عملت عملاً كان مكتوباً عليَّ قبل أن أخلق)؟! فإذا أذنب الرجل ذنباً ثم تاب منه توبة وزال أمره، حتى كأن لم يكن فأنبه مؤنب عليه ولامه، فحسن منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك ويقول: هذا أمر كان قد قدر عليَّ قبل أن أخلق، فإنه لم يدفع بالقدر حقاً ولا ذكر حجة له على باطل، ولا محذور في الاحتجاج به.
وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج به ففي الحال والمستقبل، بأن يرتكب فعلاً محرماً أو يترك واجباً، فيلومه عليه لائم، فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيبطل بالاحتجاج به حقاً ويرتكب باطلاً، كما احتج المصرون على شركهم فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148]، وقالوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20]، فاحتجوا به مصوبين لما هم عليه، وأنهم لم يندموا على فعله، ولم يعزموا على تركه، ولم يقروا بفساده، فهذا ضد احتجاج من تبين له خطأ نفسه، وندم وعزم كل العزم على ألا يعود، فإذا لامه لائم بعد ذلك قال: كان ما كان بقدر الله.
ونكتة المسألة: أن اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعاً فالاحتجاج بالقدر باطل.(531/26)
أهل السنة وسط بين القدرية والجبرية
تاسعاً: قوله: (تعالى أن يكون في ملكه مالا يريد، أو يكون لأحد عنه غنىً، خالقاً لكل شيء إلا هو، رب العباد ورب أعمالهم، والمقدر لحركاتهم وآجالهم).
الظاهر أن في قوله: (خالقاً لكل شيء إلا هو) سقطاً يدل عليه ما قبله، تقديره: وأن يكون خالقاً لكل شيء إلا هو، وفي هذه الجمل كلها رد على القدرية الذين يقولون: إن العباد يخلقون أفعالهم، وإن الله لم يقدرها عليهم، فإن مقتضى قولهم هذا أن أفعال العباد وقعت في ملك الله، وهو لم يقدرها، وأنهم بخلقهم لأفعالهم مستغنون عن الله، وأن الله ليس خالقاً لكل شيء، بل العباد خلقوا أفعالهم.
والله سبحانه وتعالى خالق العباد وخالق أفعال العباد، فهو خالق الذوات والصفات، كما قال الله عز وجل: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد:16]، وقال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62]، وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].
ويقابل نفات القدر فرقة ضالة هم الجبرية الذين سلبوا عن العبد الاختيار، ولم يجعلوا لهم مشيئة وإرادة، وسووا بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية، وزعموا أن كل حركاتهم بمنزلة حركات الأشجار، وأن حركة الآكل والشارب والمصلي والصائم كحركة المرتعش، ليس للإنسان فيها كسب ولا إرادة، وعلى هذا فما فائدة إرسال الرسل وإنزال الكتب؟! ومن المعلوم قطعاً أن للعبد مشيئة وإرادة، يحمد على أفعاله الحسنة ويثاب عليها، ويذم على أفعاله السيئة ويعاقب عليها، وأفعاله الاختيارية ينسب إليه فعلها وكسبها، وأما الحركات الاضطرارية كحركة المرتعش، فلا يقال: إنها فعل له، وإنما هي صفة له، ولهذا يقول النحويون في تعريف الفاعل: هو اسم مرفوع يدل على من حصل منه الحدث، أو قام به، ومرادهم بحصول الحدث الأفعال الاختيارية التي وقعت بمشيئة العبد وإرادته، ومرادهم بقيام الحدث ما لا يقع تحت المشيئة، كالموت والمرض والارتعاش ونحو ذلك، فإذا قيل: أكل زيد وشرب وصلى وصام، فزيد فيها فاعل حصل منه الحدث، الذي هو الأكل والشرب والصلاة والصيام، وإذا قيل: مرض زيد أو مات زيد أو ارتعشت يده، فإن الحدث ليس من فعل زيد، وإنما هو وصف قام به.
وأهل السنة والجماعة وسط بين الجبرية الغلاة في الإثبات، والقدرية النفاة، فأهل السنة أثبتوا للعبد مشيئة، وأثبتوا للرب مشيئة عامة، وجعلوا مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله، كما قال الله عز وجل: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28 - 29].
فلا يقع في ملك الله ما لم يشأه الله، بخلاف القدرية القائلين: إن العباد يخلقون أفعالهم، ولا يعاقب العباد على أشياء لا إرادة لهم فيها ولا مشيئة كما هو قول الجبرية.
وبهذا يجاب عن السؤال الذي يتكرر طرحه وهو: هل العبد مسير أو مخير؟ فلا يقال: إنه مسير بإطلاق، ولا مخير بإطلاق، بل يقال: إنه مخير باعتبار أن له مشيئة وإرادة، وأعماله كسب له يثاب على حسنها ويعاقب على سيئها، وهو مسير باعتبار أنه لا يحصل منه شيء خارج عن مشيئة الله وإرادته وخلقه وإيجاده.(531/27)
الهداية من فضل الله والغواية من عدله
قوله: (يضل من يشاء فيخذله بعدله، ويهدي من يشاء فيوفقه بفضله، فكل ميسر بتيسيره إلى ما سبق من علمه وقدره من شقي أو سعيد).
هداية كل مهتدٍ وضلال كل ضال كل ذلك حصل بمشيئة الله وإرادته، والعباد قد بين الله لهم طريق السعادة وطريق الضلالة، وأعطاهم عقولاً يميزون بها بين النافع والضار، فمن اختار طريق السعادة فسلكه انتهى به إلى السعادة، وقد حصل ذلك بمشيئة العبد وإرادته التابعة لمشيئة الله وإرادته، وذلك فضل من الله وإحسان، ومن اختار طريق الضلالة وسلكه انتهى به إلى الشقاوة، وقد حصل ذلك بمشيئة الله وإرادته التابعة لمشيئة الله وإرادته، وذلك عدل من الله سبحانه، قال الله عز وجل: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10] أي طريقي الخير والشر، وقال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3]، وقال: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17].
والهداية هدايتان: هداية الدلالة والإرشاد، وهذه حاصلة لكل أحد.
وهداية التوفيق، وهي حاصلة لمن شاء الله هدايته.
ومن أدلة الهداية الأولى قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] أي: إنك تدعو كل أحد إلى الصراط المستقيم.
ومن أدلة الهداية الثانية قول الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
وقد جمع الله بين الهدايتين في قوله: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25]، فقوله: ((وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ)) أي كل أحد، فحذف المفعول لإرادة العموم، وهذه هي هداية الدلالة والإرشاد، وقوله: ((وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) أظهر المفعول لإرادة الخصوص، وهي هداية التوفيق.(531/28)
مناظرة أبي إسحاق الإسفرائيني وعبد الجبار المعتزلي في القدر
أورد شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة الشمس حكايتين توضحان فساد مذهب المعتزلة في باب القضاء والقدر، فقال: ولما تناظر أبو إسحاق الإسفرائيني مع عبد الجبار المعتزلي قال عبد الجبار: سبحان من تنزه عن الفحشاء! وقصده أن المعاصي كالسرقة والزنا بمشيئة العبد دون مشيئة الله؛ لأن الله أعلى وأجل من أن يشاء القبائح في زعمهم، فقال أبو إسحاق: كلمة حق أريد بها باطل، ثم قال: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء! فقال عبد الجبار: أتراه يخلقه ويعاقبني عليه؟! فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبراً عليه؟! أأنت الرب وهو العبد؟ فقال عبد الجبار: أرأيت إن دعاني إلى الهدى وقضى علي بالردى، أتراه أحسن إليَّ أم أساء؟ فقال أبو إسحاق: إن كان الذي منعك منه ملكاً لك فقد أساء، وإن كان له فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل! فبهت عبد الجبار، وقال الحاضرون: والله ما لهذا جواب! وجاء أعرابي إلى عمرو بن عبيد وقال: ادع الله لي أن يرد لي حمارةً سرقت مني، فقال: اللهم إن حمارته سرقت ولم ترد سرقتها فارددها عليه، فقال الأعرابي: يا هذا! كف عني دعاءك الخبيث، إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد! انتهى ما يتعلق بالقدر، وهذا هو الذي كتبناه عن القدر في شرح مقدمة كتاب الرسالة لـ ابن أبي زيد القيرواني.(531/29)
شرح سنن أبي داود [532]
قد قدر الله مصير كل إنسان وهو في بطن أمه، أهو إلى السعادة أم الشقاوة؟ وقد جاءت أحاديث تبين مصير ذراري المسلمين والمشركين، وقد شرحها العلماء وبينوا المقصود بها وجمعوا بين ما هو متعارض في الظاهر منها.
وكذلك مصير أهل الفترة كأبوي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأكمل بيان وأحسنه.(532/1)
ما جاء في ذراري المشركين(532/2)
شرح حديث (الله أعلم بما كانوا عاملين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ذراري المشركين.
حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين)].
قوله رحمه الله تعالى: [باب في ذراري المشركين] الذراري: الذرية والنسل، والمقصود: حكمهم في الدنيا وحكمهم في الآخرة، أما حكمهم في الدنيا فهم تبع لآبائهم، ولهذا يحصل التوارث بينهم، ويدفنون في مقابرهم، وأما في الآخرة فقد اختلف فيهم على أقوال عديدة، أظهرها أنهم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم بما كانوا عاملين).
وقد قيل في معنى الحديث: إنهم يمتحنون يوم القيامة، وعلى ضوء هذا الامتحان يتبين هل هم من أهل السعادة أو من أهل الشقاوة، ولهذا كان
الجواب
( الله أعلم بما كانوا عاملين) أي إذا امتحنوا في يوم القيامة، فإن النتيجة أو المصير يكون تبعاً لنتيجة ذلك الامتحان، فيسدد من يسدد، ويخذل من يخذل، كما لو كان الأمر حاصلاً في الدنيا.
وهذا هو أظهر ما قيل في ذراري المشركين بالنسبة للآخرة، وهذا القول رجحه جماعة من أهل العلم، منهم ابن القيم في تهذيب السنن، وابن كثير في تفسيره، وشيخنا محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان عند تفسيره قوله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].
وقد قيل: إنهم يكونون في الجنة، وقيل: إنهم يكونون في النار، وقيلت أقوال أخرى، وقد ذكر ابن القيم في تهذيب السنن ثمانية أقوال، وثامنها أنهم يمتحنون يوم القيامة، وأنهم يصيرون إلى ما كان ينتهي إليه ذلك الامتحان، وقال: إنه جاء في ذلك أحاديث يشد بعضها بعضاً.
والذين قالوا بعدم الامتحان قالوا: إن الآخرة دار جزاء وليست دار تكليف.
ولكن هذا لا ينافي كونهم يمتحنون يوم القيامة، ويتبين أهل السعادة وأهل الشقاوة، فإنه يحصل هذا التكليف كما جاء ما يدل عليه، وتكون النتيجة طبقاً لنتيجة هذا الامتحان.
وعلى هذا فالقول الصحيح في معنى قوله: [(الله أعلم بما كانوا عاملين)] أي الشيء الذي يعملونه إذا امتحنوا، ويحتمل أن يكون المراد به: الله أعلم بما كانوا عاملين لو عاشوا، ومعلوم أن هذا مما لا يكون، والله تعالى يعلم ما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، مثلما جاء في قصة الغلام الذي قتله الخضر، قال: (ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً).(532/3)
تراجم رجال إسناد حديث (الله أعلم بما كانوا عاملين)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو عوانة].
الوضاح بن عبد الله اليشكري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بشر].
هو جعفر بن إياس بن أبي وحشية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن جبير].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وهم: ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وابن عمرو بن العاص، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد وأنس وجابر وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين.(532/4)
شرح حديث: (هم من آبائهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بقية ح وحدثنا موسى بن مروان الرقي وكثير بن عبيد المذحجي قالا: حدثنا محمد بن حرب المعنى عن محمد بن زياد عن عبد الله بن أبي قيس عن عائشة قالت: (قلت: يا رسول الله! ذراري المؤمنين؟ قال: هم من آبائهم.
فقلت: يا رسول الله! بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين.
قلت: يا رسول الله! فذراري المشركين؟ قال: من آبائهم، قلت: بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين).
هذا حديث عائشة رضي الله عنها يتعلق بذراري المسلمين وذراري الكفار، وفي كل منهما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم بما كانوا عاملين) ومعلوم أن الحكم واحد في الدنيا، فحكم أولاد الكفار تابع للكفار، فيتوارثون ويدفنون في مقابرهم، وأولاد المسلمين يصلى عليهم ويدعى لهم ويدفنون في مقابر المسلمين، ويحصل التوارث بينهم.
وأما بالنسبة للآخرة فقد ذكرنا ما يتعلق بأولاد المشركين، وأما بالنسبة لأولاد المسلمين فالمشهور عند أهل السنة أنهم في الجنة، ولهذا جاء ما يدل على أنهم أفراط يشفعون لمن سبقوه ولآبائهم وأمهاتهم.
وقد جاء في بعض الأحاديث ما يدل على عدم الجزم بذلك، وهو حديث عائشة الذي سيأتي، حيث قال: (إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم)، وهذا قال فيه جماعة من أهل العلم: المقصود بذلك أنه لا يجزم ولا يقطع لأحد بجنة أو نار، وإنما يقال فيهم ما يقال في حق المؤمنين: إنه لا يقطع لهم بجنة، ولكن يرجى لهم ذلك.
قوله: [هم من آبائهم] يعني أنهم تبع لهم، وأما في الدنيا فالأمر واضح، وأما في الآخرة فأولاد الكفار يمتحنون، وأولاد المسلمين تبع لهم كما تقدم.(532/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (هم من آبائهم)
قوله: [حدثنا عبد الوهاب بن نجدة].
وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا بقية].
بقية بن الوليد، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ح وحدثنا موسى بن مروان الرقي].
وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وكثير بن عبيد المذحجي].
وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[قالا: حدثنا محمد بن حرب].
محمد بن حرب الحمصي الأبرش، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن زياد].
وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن أبي قيس].
ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديقة، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(532/6)
شرح حديث: (إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن طلحة بن يحيى عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم بصبي من الأنصار يصلي عليه، قالت: قلت: يا رسول الله! طوبى لهذا لم يعمل شراً ولم يدر به، فقال: أوغير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم).
هذا الحديث هو الذي تقدمت الإشارة إليه، والمقصود من ذلك ألا يقطع بالجنة لأحد بعينه.
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
سفيان هو الثوري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن طلحة بن يحيى].
طلحة بن يحيى التيمي، وهو صدوق يخطئ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عائشة بنت طلحة].
وهي ثقة أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة أم المؤمنين].
قد مر ذكرها.(532/7)
شرح حديث: (كل مولود يولد على الفطرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه، كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء؟ قالوا: يا رسول الله! أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه)].
قوله: [(يولد على الفطرة)] الجمهور من أهل السنة على أن المقصود بالفطرة الإسلام، وأن الكفر طارئ، لأن الكفار هم الذين يسعون في نقل أبنائهم من الفطرة التي فطرهم الله عليها إلى ما يضادها وما يخالفها وهو غير الإسلام، ولهذا قال: [(فأبواه يهودانه وينصرانه)] أي: يعلمانه اليهودية والنصرانية، وينقلانه من الفطرة التي هو عليها إلى دين اليهود ودين النصارى.
ومما يدل على أن المقصود بالفطرة الإسلام قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه عن ربه: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) يعني: صرفتهم، والشياطين مثل اليهود والنصارى الذين يصرفون أولادهم عن الفطرة التي فطرهم الله عليها.
إذاً: المقصود بالفطرة الإسلام، وأن الناس خلقوا لا يعرفون إلا الإسلام، وأنهم لو عاشوا لما صار عندهم إلا هذا، ولكنهم إذا حرفوا وصرفوا عن هذا الذي فطرهم الله عليه يحصل تحولهم من الحق إلى الباطل، ومن الإسلام إلى الكفر.
قوله: [(كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء)].
جمعاء: يعني أنها سليمة مجتمعة الخلق، ليس فيها عيوب، ثم الناس بعد ذلك يحصل منهم الإضرار بها، وقطع أذنها، فيكونون قد نقلوها من الحالة التي خلقها الله سبحانه وتعالى عليها وهي السلامة وتمام الخلق، إلى هيئة أخرى وإلى حالة أخرى، وكذلك الذين خلقهم الله حنفاء على الإسلام وفطرهم عليه يخرجون عنه بفعل آبائهم وأمهاتهم والذين يضلونهم ويصرفونهم عن الحق، فهذا فيه توضيح أن الذي على الفطرة على سلامة وعلى استقامة، وأن الحيوان الذي يولد وينشأ يكون على استقامة حتى يكون من أهله أنهم يحدثون فيه ما يحدثون من العيوب.
قوله: [(قالوا: يا رسول الله! أفرأيت من يموت وهو صغير)].
يعني: قبل أن يصرف ويحرف لأنه قال: (فأبواه يهودانه وينصرانه)، وإذا كان مثلاً من أولاد المشركين فما هودوه ولا نصروه، ولكن نقلوه عن الفطرة التي هو عليها إلى دين آخر من أديان أهل الكفر.
قوله عليه الصلاة والسلام: [(الله أعلم بما كانوا عاملين)] هذا مثل الجواب الذي سئل فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين) يعني أنهم يمتحنون يوم القيامة، وعلى ضوء نتيجة الامتحان يكون الانقسام.(532/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (كل مولود يولد على الفطرة)
قوله: [حدثنا القعنبي].
عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزناد].
هو عبد الله بن ذكوان وكنيته أبو عبد الرحمن المدني، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعرج] هو عبد الرحمن بن هرمز المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.(532/9)
شرح أثر مالك في الرد على القدرية
[قال أبو داود: قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع: أخبرك يوسف بن عمرو أخبرنا ابن وهب قال: سمعت مالكاً قيل له: إن أهل الأهواء يحتجون علينا بهذا الحديث، قال مالك: احتج عليهم بآخره: (قالوا: أرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين)].
ذكر المصنف عن مالك أن أهل الأهواء -وهم القدرية- يحتجون بهذا الحديث، ويقولون إن الإنسان يولد على الفطرة، وإن أبواه يهودانه وينصرانه، ومعناه أن الشر يوجده آباؤه، وهم الذين ينقلونه من طور إلى طور ومن حال إلى حال، فهم الذين يخلقون هذه الأفعال، فقال: احتج عليهم بآخره: (قالوا: أرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين) أي: الذي قدره الله عز وجل بأنه سيحصل منهم إذا حصل لهم الامتحان.(532/10)
تراجم رجال إسناد أثر مالك في الرد على القدرية
قوله: [قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع].
الحارث بن مسكين، ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرك يوسف بن عمرو].
وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا ابن وهب].
عبد الله بن وهب المصري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت مالكاً].
مر ذكره.(532/11)
معنى صيغة: (قرئ عليه وأنا أسمع)
الحارث بن مسكين يحدث عنه النسائي فيقول أيضاً: قرئ عليه وأنا أسمع، ومعلوم أن (حدثنا) يؤتى بها في الغالب لما سمع من لفظ الشيخ، و (أخبرنا) لما قرئ على الشيخ وهو يسمع، ويعبر عنه أيضاً بهذه العبارة التي هي: (قرئ عليه وأنا أسمع)، وهي واضحة في المقصود، وأنه عرض عليه وأن القارئ غيره، وليس هو، ولو كان هو يقرأ فيقول: (أخبرنا)، وهذا فيه أن غيره يقرأ وهو يسمع، وهذا من طرق التحمل، فـ أبو داود أخبر بالذي قد حصل، وأن هذا حصل من الذي يقرأ على الحارث بن مسكين وهو يسمع، فتحمل كما تحمل الحاضرون الذين يسمعون والقارئ وغيرهم.
لكن النسائي استخدم هذه الصيغة مع الحارث بن مسكين لأنه كانت هناك وحشة حصلت بينهما، فمنعه من الحضور في مجلسه، فكان يختبئ ويسمع ويقول: (قرئ عليه وأنا أسمع) وذلك حتى يكون صادقاً، ولا يقول: (أخبرني)؛ لأنه ما أراد إخباره، ولكنه يأتي بعبارة هو صادق فيها، أما أبو داود فلا نعلم أنه جرى بينه وبين الحارث بن مسكين شيء.(532/12)
أثر حماد بن سلمة في تفسير حديث: (كل مولود يولد على الفطرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا حجاج بن المنهال سمعت حماد بن سلمة يفسر حديث: (كل مولود يولد على الفطرة) قال: هذا عندنا حيث أخذ الله عليهم العهد في أصلاب آبائهم، حيث قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]].
أورد أبو داود هذا الأثر عن حماد بن سلمة، وهو أن المقصود بالفطرة الميثاق الذي أخذه الله على العباد، ولا تنافي بين هذا وهذا، أعني أخذ عليهم العهد وخلقهم مفطورين على التوحيد، ثم يحصل صرفهم عن ذلك بفعل الآباء والأمهات الذين يهودونهم وينصرونهم.(532/13)
تراجم رجال إسناد أثر حماد بن سلمة في تفسير حديث: (كل مولود يولد على الفطرة)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا حجاج بن المنهال].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت حماد بن سلمة].
ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.(532/14)
شرح حديث: (الوائدة والموءودة في النار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا ابن أبي زائدة حدثني أبي عن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوائدة والموءودة في النار) قال: يحيى بن زكريا: قال أبي: فحدثني أبو إسحاق أن عامراً حدثه بذلك عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم].
ذكر أبو داود حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(الوائدة والموءودة في النار)] فالوائدة الأمر فيها واضح بأنها كافرة قتلت ابنتها، وابنتها تكون تابعة لها في أحكام الدنيا.
وقوله: [(الموءودة في النار)] كونه يجزم بأنها في النار وهي صغيرة فيه إشكال، ولكن فسر أو حمل على أنها كانت كبيرة بالغة، وكانت كافرة، فتكون من أهل النار لتكليفها، وأما قبل البلوغ فالأمر كما ذكرنا أنهم يمتحنون يوم القيامة.
وأما من بلغت حد البلوغ وكفرت أو بقيت على كفرها، فإن حكمها حكم الكفار الذين نشئوا على الكفر ومضت حياتهم وهم في الكفر.
وقد قيل: إن الألف واللام ليستا للاستغراق حتى يقال: كل موءودة في النار ولو كانت صغيرة، بل يحمل على ما إذا كانت كبيرة، قالوا: ويدل عليه أنه جاء في بعض الروايات أنه سئل عن امرأة وأدت بنتها فذكر الحديث، فيكون المقصود من ذلك قضية معينة، وتكون تلك الموءودة من أهل النار، ويحمل على أنها بالغة، ولا يحمل على أنها صغيرة لم تصل إلى حد البلوغ؛ لأن القلم مرفوع عمن لم يبلغ.(532/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (الوائدة والموءودة في النار)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن أبي زائدة].
يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبي].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عامر].
عامر بن شراحيل الشعبي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: قال رسول الله].
هذا مرسل، لأن الشعبي تابعي وقال فيه: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم] لكنه جاء من طريق أخرى عن ابن أبي زائدة وفيه بيان الواسطة بين الشعبي والرسول صلى الله عليه وسلم وأنه تابعي وصحابي وهما علقمة وابن مسعود.
[قال يحيى بن زكريا: قال أبي: فحدثني أبو إسحاق].
أبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن عامراً حدثه عن علقمة].
علقمة هو علقمة بن قيس الكوفي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن مسعود].
عبد الله بن مسعود الهذلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد فقهاء الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(532/16)
شرح حديث: (أبي وأبوك في النار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن أنس: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: أبوك في النار، فلما قفى قال: إن أبي وأباك في النار)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: [(أين أبي؟ قال: أبوك في النار، فلما قفى قال له: إن أبي وأباك في النار)]، وهذا يدل على أن أهل الفترة الذين كانوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من كان منهم على عبادة الأوثان فإنه يكون في النار، ولا يقال: إنهم ما بلغتهم الرسالة؛ لأن دين إبراهيم كان موجوداً، وهناك أناس كانوا على دين إبراهيم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتحنث على دين إبراهيم.
وهذا يدل على أن والد الرسول صلى الله عليه وسلم في النار، كما أخبر بذلك رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه في هذا الحديث، وهو حديث صحيح، وقد ورد في صحيح مسلم.
وأما ما قيل: إن الله أحيا أبوي الرسول وأنهما أسلما؛ فهذا لم يثبت، وجمهور أهل العلم على خلاف ذلك، وما قال به إلا بعضهم، وليس هناك دليل صحيح ثابت يدل على ذلك، وإنما الذي ثبت هو هذا الحديث الصحيح عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(532/17)
ذكر كلام صاحب عون المعبود في مصير والد النبي
قال في عون المعبود: قال النووي رحمه الله تعالى: فيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين.
وكل ما ورد بإحياء والديه صلى الله عليه وآله وسلم وإيمانهما ونجاتهما أكثره موضوع مكذوب مفترى، وبعضه ضعيف جداً لا يصح بحال؛ لاتفاق أئمة الحديث على وضعه وضعفه كـ الدارقطني والجوزقاني وابن شاهين والخطيب وابن عساكر وابن ناصر وابن الجوزي والسهيلي والقرطبي والمحب الطبري وفتح الدين بن سيد الناس وإبراهيم الحلبي وجماعة، وقد بسط الكلام في عدم نجاة الوالدين العلامة إبراهيم الحلبي في رسالة مستقلة له، والعلامة علي القاري في شرح الفقه الأكبر وفي رسالة مستقلة، ويشهد لصحة هذا المسلك هذا الحديث الصحيح، والشيخ جلال الدين السيوطي قد خالف الحفاظ والعلماء المحققين وأثبت لهما الإيمان والنجاة، فصنف الرسائل العديدة في ذلك، منها ((رسالة التعظيم والمنة في أن أبوي رسول الله في الجنة)) قلت: العلامة السيوطي متساهل جداً لا عبرة بكلامه في هذا الباب، ما لم يوافقه كلام الأئمة النقاد، وقال السندي: من يقول بنجاة والديه صلى الله عليه وآله وسلم يحمله على العم، فإن اسم الأب يطلق على العم، مع أن أبا طالب قد ربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيستحق إطلاق اسم الأب من تلك الجهة.
انتهى).
يقصد بهذا أن حديث: [(إن أبي وأباك في النار)] يحمل فيه الأب على عمه أبي طالب، يريدون ألا يكون المقصود أباه الحقيقي الذي هو عبد الله، وإنما المقصود عمه، وعمه مات على الشرك وقد أدركه الإسلام، ولكن لم يؤمن به، وكان يعرف أن ما عليه الرسول حق، ولكن ابتلي بعزة الآباء والأجداد ومات على ذلك، كما جاء الحديث أنه لما كان في مرض موته جاءه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: (يا عم! قل: لا إله إلا الله؛ كلمة أحاج لك بها عند الله)، فكان عنده بعض الجلساء ممن هم كفار فقالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فكان آخر ما قاله: هو على ملة عبد المطلب، ومات على هذه العقيدة التي كان عليها، وهي الكفر وعبادة الأوثان.
فبعض الناس أراد أن يقول: إن المراد بالأب في هذا الحديث هو العم، ولكن الأصل أن الأب هو الأب، وإن كان قد يطلق على العم أباً كما جاء في القرآن في سورة البقرة: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة:133]، مع أن إسماعيل عم يعقوب، لأنه أخو إسحاق وليس أباه، ولكن يطلق عليه أنه أب، ولكن هذا جاء تبعاً ولم يكن استقلالاً، فالحاصل أن الأصل هو الحمل على الأصل، ولا يحمل على غيره.
ثم قال صاحب عون المعبود بعدما ذكر كلام السندي في حمله على العم: وهذا أيضاً كلام ضعيف باطل، وقد ملأ مؤلف تفسير روح البيان تفسيره بهذه الأحاديث الموضوعة المكذوبة، كما هو دأبه في كل موضع من تفسيره إيراده للروايات المكذوبة، فصار تفسيره مخزن الأحاديث الموضوعة.
وقال بعض العلماء: التوقف في الباب هو الأسلم.
وهو كلام حسن.
والله أعلم.
الدليل يدل على خلاف ما ذكره، وهو الجزم بما ثبت في صحيح مسلم بالنسبة لأبيه، وبالنسبة لأمه فقد جاء أيضاً في الصحيح سبب نزول قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:113]، أنه استأذن ربه أن يزور قبر أمه فأذن له، واستأذنه أن يستغفر لها فلم يأذن له، فنزل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:113].
وهناك حديث صحيح رواه الشيخ الألباني في صحيح الجامع: (العم والد)، بل جاء في الحديث المتفق عليه: (أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه) ويعني أنه والده من حيث الإكرام والتقدير والمنزلة، وإلا فهو من الحواشي وليس من الأصول، لأنه شارك أباه في جده، وجاء في القرآن إطلاق الأبوة عليه ولكنه أب تبعاً وليس استقلالاً، فهو بمنزلة الوالد مثل الخالة بمنزلة الأم، أي من ناحية التقدير والاحترام والتوقير والإكرام والإحسان، وهو من الحواشي في الميراث والإخوة أقرب منه، لأن الإخوة شاركوا الميت في أبيه، وأما العم فإنما شارك أباه في جده، وهو طبقة أخرى غير الطبقة القريبة.
ثم قال: قال المنذري: وهذا الرجل هو حصين بن عبيد والد عمران بن حصين، وقيل: هو أبو رزين لقيط بن عامر العقيلي).
يعني الرجل الذي سأل الرسول وقال: [(يا رسول الله! أين أبي؟ فقال: أبوك في النار، فلما قفى قال: إن أبي وأباك في النار)].(532/18)
تراجم رجال إسناد حديث (أبي وأبوك في النار)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد هو ابن سلمة مر ذكره.
[عن ثابت].
ثابت بن أسلم البناني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس رضي الله عنه خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا الإسناد من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود رحمه الله.(532/19)
شرح حديث: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك: [(إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)].
وذلك لبلوغه منه مبالغ خفية، فهي يجري منه مجرى الدم، بمعنى أنه يمازجه ويخالطه، ويوسوس له ويغويه ويضله، فهو يدخل فيه، ويكون فيه، وقيل: إنه لكثرة إغوائه ووسوسته له كان مثل الدم الذي هو جزء من أجزائه، والذي به حياته.
وأما مناسبة ذكر هذا الحديث في هذا الباب الذي هو باب في ذراري المشركين، فلا يظهر لي فيه شيء.
ورجال إسناد الحديث مر ذكرهم كلهم في الحديث السابق.(532/20)
شرح حديث: (لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني أخبرنا ابن وهب أخبرني ابن لهيعة وعمرو بن الحارث وسعيد بن أبي أيوب عن عطاء بن دينار عن حكيم بن شريك الهذلي عن يحيى بن ميمون عن ربيعة الجرشي عن أبي هريرة عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم) الحديث].
أورد أبو داود حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد مر ذكره في آخر الباب الذي قبل هذا: [(لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم)] أي: لا تجالسوهم لأنه يصيبكم بسبب مجالستهم الضرر.
وقوله: [(ولا تفاتحوهم)] فسر بمعنيين كما عرفنا فيما مضى، أي: لا تتحاكموا إليهم، أو: لا تفاتحوهم بالمخاصمة والمناظرة؛ لأنهم ضرر على من يختلط بهم، ومن يناظرهم، والمقصود الابتعاد منهم، ويتحمل أن تكون المفاتحة هي التحاكم إلى علمائهم، أو المقصود بذلك النهي عن مناظرتهم.(532/21)
تراجم رجال إسناد حديث: (لاتجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم)
قوله: [حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني].
أحمد بن سعيد الهمداني صدوق، أخرج له أبو داود.
[أخبرنا ابن وهب].
عبد الله بن وهب المصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني ابن لهيعة].
عبد الله بن لهيعة المصري، وهو صدوق اختلط، وحديثه أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[وعمرو بن الحارث].
عمرو بن الحارث المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وسعيد بن أبي أيوب].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن دينار].
وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي.
[عن حكيم بن شريك الهذلي].
وهو مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن يحيى بن ميمون].
وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن ربيعة الجرشي].
مختلف في صحبته، وثقه الدارقطني وغيره، وحديثه أخرجه أصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي مر ذكره.
[عن عمر بن الخطاب].
أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(532/22)
الأسئلة(532/23)
دخول الجني في الإنسي
السؤال
قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، هل في الحديث دليل على دخول الجني في الإنسي؟
الجواب
نعم.
هو يدل على ذلك، وقال تعالى: {كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275].(532/24)
حكم من ينكر حديث: (إن أبي وأباك في النار)
السؤال
ما رأيك فيمن ينكر هذا الحديث الذي في مسلم: (إن أبي وأباك في النار) بحجة كيف يكون والد النبي صلى الله عليه وسلم في النار؟
الجواب
العواطف ليست دليلاً يستدل به، وإنما يستدل بالأدلة الشرعية، وهذا الحديث ثبت في صحيح مسلم وفي غيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه.(532/25)
حكم تفسير الوائدة بالطبيبة في حديث (الوائدة والموءودة في النار)
السؤال
ما مدى صحة هذا القول: الوائدة هي الطبيبة التي تعطي الدواء لقتل الجنين في بطن الأم كما يفعله الأطباء الآن، وهذا يسمى بالوأد السري، والموءودة هي الأم التي تفعل ذلك الفعل المحرم، أي: تساعد على قتل جنينها، وهذا معنى حديث: (الوائدة والموءودة في النار)؟
الجواب
ليس معنى الحديث ما ذكر في السؤال، وإنما هو في وائدة دفنت بنتها بالفعل، وموءودة دفنت في الأرض، وهي التي سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض أهل العلم في تفسير الوائدة: هي التي تباشر الوأد، أي أن أمها ما وأدتها ولكنها طلبت من يئدها، فتكون الوائدة هي المباشرة، والموءودة هي الموءود لها، وهي الأم، وإنما قالوا هذا فراراً من أن تكون الموءودة في النار إذا فسرت بالطفلة الصغيرة، ولكن هذا التأويل ليس بالمستقيم، لأن الكلام في وائدة وموءودة سئل عنهما في واقعة حدثت كما ذكره بعض أهل العلم، وقالوا: إن المقصود أنها كانت كبيرة، وأنها مشاركة لأمها في الكفر.(532/26)
قول ابن باز في أطفال المشركين
السؤال
يقول الشيخ ابن باز رحمه الله في فتوى عن أطفال المشركين: الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم وقفت على فتوى أخرى يقول فيها: إنهم في الجنة، فأيهما المتأخر؟
الجواب
أنا لا أعلم عن الشيخ ابن باز أنه يقول: إنهم في الجنة، ولكن كما جاء في الحديث: (الله أعلم ما كانوا عاملين)، هذا هو الجواب الذي أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عنهم، وكونهم في الجنة يحتاج إلى دليل، والقول بأنهم يمتحنون ثم ينقسمون إلى قسمين هو القول الصحيح.(532/27)
حكم ذراري المشركين الذين ماتوا قبل إسلام آبائهم
السؤال
ما القول في ذراري المشركين الذين ماتوا قبل إسلام آبائهم، هل يمتحنون أو يلحقون بآبائهم بعد الإسلام؟
الجواب
الذين ماتوا في حال كفر آبائهم لا يقال إنهم أولاد مسلمين، لأنهم كانوا أولاد كفار في الوقت الذي ولدوا فيه وماتوا فيه، والإسلام كان متأخراً، وإنما الذين في الجنة أولادهم الذين ولدوا وهم على الإسلام.(532/28)
سبب تعبد النبي بدين إبراهيم قبل البعثة
السؤال
كيف كان يتعبد صلى الله عليه وسلم على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ألم تنسخ شريعة إبراهيم بشرائع من بعده من الرسل؟
الجواب
لم يأت شيء يدل على نسخها، بل الرسل بعده هم على ما كان عليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام من أصل الدين وهو العبادة، ولكن الاختلاف بينهم في الأحكام والتشريعات العملية، قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، وأما الدين فهو واحد، ودين إبراهيم هو الحنيفية، وكانت ذريته عليه من بعده، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث بالحنيفية التي كان عليها إبراهيم.(532/29)
امتحان من لم تبلغهم الرسالة
السؤال
هل يمتحن الأقوام الذين لم تبلغهم الرسالة أو لم يأتهم رسول أو نبي؟
الجواب
الأقوام الذين ما بلغتهم الرسالة يمتحنون، مثل الذين خلقوا مجانين ونشئوا مجانين.(532/30)
حكم غسل المسلم قبة قبر والده النصراني
السؤال
رجل أسلم وأهله باقون على الكفر، وجدته تطلب منه أن يذهب معها إلى المقبرة ليغسل قبة قبر ولدها، أي: والد هذا الرجل المسلم، وهذه من عادة النصارى، فما الحكم؟
الجواب
ليس له ذلك.(532/31)
حكم صرف الوكيل مال الصدقة في غير ما عين له
السؤال
امرأة من فلسطين أعطت أحد المعتمرين مبلغاً من المال، وقالت له: إذا وصلت إلى مكة أو المدينة فاشتر بهذا المبلغ مصاحف، وضعها في المسجدين أو في أحدهما، وعند وصوله قيل له: إن المصاحف هنا متوافرة فوق الحاجة والحمد لله، والأولى أن تصرف المال لصالح الفلسطينيين فهم أحوج إليه من غيرهم، فهل هذه الفتوى صحيحة؟
الجواب
صاحب الحق هو الذي يُرجع إليه في تصريف حقه، وصرفه في الجهة التي يريد، وإذا كانت صاحبة الحق لا تعلم فيمكن أن يفاتحها، وأن يقول لها: إن المصاحف متوافرة في المسجدين ولا يكون فيهما مصاحف من جهة أخرى، فإن أردت جعلت هذا المال صدقة وإن شئت رددته إليك لتصرفيه أنت في بلدك.(532/32)
أهل الفترة يكونون في كل زمان
السؤال
هل أهل الفترة لهم وقت محدود أم أنهم باقون إلى يوم القيامة؟
الجواب
ما بين النبي والنبي من الزمن يقال له: فترة، ولكن هناك ناس قد تبلغهم الرسالة وناس لا تبلغهم، فمن بلغته الرسالة مثل الذين كانوا يعبدون الأوثان ودين إبراهيم موجود فهم معذبون، والذين ما بلغتهم الرسالة ولا عرفوا شيئاً عن الرسالات السابقة، في أي زمان كان، فإنهم يمتحنون يوم القيامة؛ لأنهم ما بلغتهم الرسالة.(532/33)
ثواب المشتركين في العتق
السؤال
جماعة اشتركوا في عتق عبد، فهل يحصل لهم الثواب؟
الجواب
كل له ثواب على قدر ما حصل منه من العتق، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أعتق عبداً كان فكاكه من النار، ومن أعتق جاريتين كانتا فكاكه من النار)، فالفكاك يكون لشخص بشخص، وعضو بعضو، والمرأتان بمنزلة الرجل فيما يتعلق بالعتق، وكذلك في أمور أربعة أخرى غيرها، وهي: العقيقة والشهادة والدية والميراث، فهذه خمس خصال تكون المرأة فيها على النصف من الرجل.(532/34)
الدعاء للطفل الميت
السؤال
ما هو الدعاء الصحيح للطفل الميت؟
الجواب
يقول: ((اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وشاهدنا وغائبنا، ولجميع موتانا)) يعني: سواء كان الميت صغيراً أو كبيراً، هذا دعاء ورد للصغير وللكبير، ويدعى لوالديه بالرحمة والمغفرة، وقد جاء في الحديث أنه يصلى عليه ويدعى لوالديه بالرحمة والمغفرة.(532/35)
حكم زيارة قبور المشركين
السؤال
هل في إذن الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بزيارة قبر أمه دليل على جواز زيارة قبور المشركين؟
الجواب
نعم، لأن المقصود تذكر الآخرة فقط، فزيارة قبور الكفار من أجل تذكر الموت، وأما زيارة المسلمين فهي من أجل تذكر الموت ومن أجل الدعاء لهم، ففيه مصلحة ترجع للزائر والمزور، وأما بالنسبة لزيارة الكفار فالمصلحة للزائر فقط، والمزور لا مصلحة له فيها.
وهذا إذا دعا الزائر للميت المسلم، أما إذا دعاه وطلب منه ما لا يطلب إلا من الله، فلن يستفيد الميت شيئاً، والحي يتضرر، لأنه أشرك بالله حيث عبد معه غيره ودعا غيره.(532/36)
حكم إفساد صوم القضاء بالجماع
السؤال
امرأة كانت تقضي صيام رمضان في هذه الأيام، فجامعها زوجها في يوم منها، فهل تأثم بذلك؟ وماذا عليها؟
الجواب
لا يجوز له أن يجامعها ما دام صومها عن فرض، وإذا حصل الجماع فقد فسد الصوم عليها، وعليها أن تقضي يوماً آخر مكانه، وليس عليها كفارة، لأن الكفارة إنما هي لشهر الصيام، ولنفس الصيام في زمنه، وأما القضاء فلا يعامل معاملة الأصلي.(532/37)
حكم ترك طواف الإفاضة في الحج
السؤال
ذهبت للحج وأنا جاهل بمناسك الحج، وكان معي بعض الأصدقاء فسعينا، ثم ذهبنا إلى عرفة وذهبت إلى جبل الرحمة، وعند عودتي لم أعرف مكان أصدقائي، وبعد المغرب ذهبت مزدلفة وأخذت منها سبع حصوات، ومشيت إلى منى ورميت الجمرة الكبرى، وذهبت إلى مكة وطفت طوافاً بنية الوداع، ثم ذهبت بعدها إلى جدة فهل الكفارة علي أم على أصدقائي الذين تركوني؟
الجواب
طواف الإفاضة ركن من أركان الحج، والتفاصيل فيما يلزمه من الكفارات تحتاج إلى أن نعرف ما ترك بالتحديد حتى نعرف كم عليه من كفارة، ولكن ما تركه من أركان الحج يجب عليه أن يؤديه، وإذا كان عنده زوجة وقد جامعها، فإنه يكون عليه فدية، وهي شاة يذبحها بمكة ويوزعها على فقراء الحرم؛ لأنه جامعها قبل التحلل الثاني، لأن التحلل الثاني لا يكون إلا إذا أتى بالطواف ومعه السعي، وهو قد ترك الطواف وأتى بالسعي، فيجب عليه أن يذهب إلى مكة ويطوف طواف الإفاضة، ويذبح شاة في مكة ويوزعها على فقراء الحرم إن كان متزوجاً وقد جامع زوجته في هذه الفترة.(532/38)
حكم التكبر على المتكبر
السؤال
ما حال حديث: (التكبر على المتكبر صدقة)؟
الجواب
لا نعرف حديثاً في هذا، والتكبر غير مطلوب، فلا يتكبر الإنسان.(532/39)
حكم دفن المسلم في مقابر المشركين
السؤال
هل يجوز دفن المسلم في مقبرة الكفار إذا كان في بلد كفر؟
الجواب
لا يجوز أن يدفن المسلم في مقابر الكفار، وإنما يدفن في مقابر المسلمين، أو في مكان ليس مقبرة كفار.(532/40)
اعتقاد خلود كل كافر في النار
السؤال
هل يتعين على المسلم أن يعتقد أن كل كافر خالد في النار بعينه أم الواجب معرفة ذلك على وجه العموم؟
الجواب
كل من مات على الكفر فإنه خالد مخلد في النار أبد الآباد؛ لهذا كان بعض العلماء مثل ابن كثير إذا أتى الرجل بشيء مكفر ولم يعرف خاتمته، فإنه يعلق ذلك بالوفاة على الكفر، كما ذكر في ترجمة أبي نصر الفارابي في البداية والنهاية، فإنه نقل عنه أنه لا يقول بحشر الأجساد، وإنما يقول: تبعث الأرواح، فقال ابن كثير: فعليه -إن كان مات على ذلك- لعنة رب العالمين!(532/41)
حكم عقائد الأشاعرة
السؤال
هل يصح أن يقال: إن الأشاعرة ليسوا أصحاب عقائد فاسدة؟
الجواب
لا يصح، بل عقيدتهم فاسدة باطلة، وليست عقيدتهم عقيدة أهل السنة والجماعة، وإنما هي عقيدة وجدت بعد زمن الصحابة بمدة طويلة، ولا يمكن أن يكون هناك عقيدة صحيحة حجبت عن الصحابة وادخرت للأشاعرة ولا لغير الأشاعرة، بل هي باطلة، والحق هو الذي كان عليه الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم.(532/42)
حكم السكوت على خطأ المخالف خشية الفرقة
السؤال
ما نصيحتك لمن يقول: الرد على المخالف يسبب الفرقة بين المسلمين، ولكن الواجب السكوت على الخطأ حتى تجتمع كلمة المسلمين؟
الجواب
هذا باطل، والحق أن الخطأ يُبين ويوضح، ولا يترك، وأما السكوت حتى لا يسبب الفرقة فيقال: الفرقة حصلت بالمخالفات والخروج عن الجادة، والواجب هو بيان الحق، والرد على المبطل، وإذا كان الذي حصل منه الخطأ ليس من أهل البدع وإنما هو من أهل السنة فإنه يناصح ويرفق به، ويكون المقصود هو الإصلاح.(532/43)
شرح سنن أبي داود [533]
يثبت أهل السنة صفات الله تعالى الواردة عن طريق الوحي دون تشبيه ولا تأويل، وقد خالف المبتدعة في ذلك فنفوا صفات الله وعطلوها، وقد رد عليهم العلماء بما يبين بطلان مذهبهم المخالف لما كان عليه السلف الصالح.(533/1)
الجهمية(533/2)
شرح حديث: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: من خلق الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الجهمية.
حدثنا هارون بن معروف حدثنا سفيان عن هشام عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في الجهمية] أي: في بيان فساد مذهبهم، وما ورد من النصوص في الرد عليهم، والجهمية منتسبون إلى الجهم بن صفوان، وعندهم بدع مختلفة، وهم ينفون عن الله الأسماء والصفات، ومذهب الجهمية كان موجوداً قبل الجهم، فإن الذي أسسه هو الجعد بن درهم، وكان ذلك في عصر التابعين، وقد سبق أن ذكرت أن الحافظ ابن حجر نقل عن الحسن البصري أنه قال: (لو كان ما يقوله الجعد حقاً لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم) يعني ما جاء عنه من البدع التي أحدثها وتبعه على ذلك غيره، وقد جاء الجهم بن صفوان وأظهر هذا المذهب ونشره، فنسب إليه الجهمية، فهؤلاء هم الجهمية الذين عقد أبو داود رحمه الله هذا الباب في كتاب السنة من كتابه السنن لبيان الرد عليهم.
وقد أورد في ذلك حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد شيئاً من ذلك فليقل: آمنت بالله)].
وجاء في بعض الروايات: (فلينته) أي: ليقف عند هذا الحد ولا يتجاوز، والمعنى: فليصل إلى أن الله تعالى هو الخالق وكل من سواه مخلوق، ولا يتجاوز ذلك إلى مثل هذا السؤال الباطل الذي يقذفه الشيطان على بعض الناس، وفي بعض الروايات أنه قال: (فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، ففي الحديث: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، وهو يوسوس للإنسان، ويشوش عليه، ويأتيه بالوساوس التي تمر على خاطره، فإذا جاءت على خاطره فعليه أن يدفعها وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وليقل: آمنت بالله، ولا يسترسل مع الشيطان ووساوسه وما يلقيه عليه، فإن ذلك يؤدي به إلى الضرر، فليعرض عن هذه الوساوس ويشتغل بغيرها مما هو حق، فيشتغل بقراءة القرآن أو بذكر الله عز وجل، أو ما إلى ذلك من الأشياء التي هي من الحسنات ومن الأعمال الصالحة.
وهذه الخواطر والوساوس لا تؤثر على الإنسان إذا هجمت عليه هجوماً؛ لكن عليه أن يعرض عنها، والإنسان عندما تنقدح في ذهنه هذه الأمور ويستثقلها ويستعظمها فهذه علامة خير فيه.(533/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تزال الناس يتساءلون حتى يقال: من خلق الله)
قوله: [حدثنا هارون بن معروف].
ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود.
[حدثنا سفيان].
سفيان هو ابن عيينة، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام].
هشام بن عروة، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.(533/4)
طريق أخرى لحديث: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: من خلق الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عمرو حدثنا سلمة -يعني ابن الفضل - حدثني محمد -يعني: ابن إسحاق - حدثني عتبة بن مسلم مولى بني تميم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكر نحوه، قال: (فإذا قالوا ذلك فقولوا: {اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]، ثم ليتفل عن يساره ثلاثاً، وليستعذ من الشيطان)].
يعني: أن هذه الأمور إذا حصلت له فإنه يقول: {اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] يذكر الله عز وجل ويعظمه، وينصرف عن تلك الأشياء التي خطرت له، فالله واحد لا شريك له، وهو المتفرد بالخلق والإيجاد، وهو الذي يملك النفع والضر، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو الخالق لكل شيء سبحانه وتعالى، وهو الصمد الذي هو مستغنٍ عن كل من سواه، وكل من عداه فهو مفتقر إليه، ولا يستغني عن الله طرفة عين.
فيستحضر هذه المعاني العظيمة، التي تدل على وحدانية الله عز وجل، وعلى تفرده بالخلق والإيجاد، وعلى كمال غناه وفقر كل أحد إليه، وأنه لا يستغني عن الله طرفة عين، وفي ذلك الابتعاد عن هذا الذي يلقيه الشيطان في ذهن الإنسان، من مثل هذه الأمور السيئة التي من الصعوبة على الإنسان أن يتلفظ بها، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (سئل عن الرجل يجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به؟ قال: وقد وجدتم ذلك؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان) يعني: كون الإنسان يستعظم هذه الأمور ويصعب عليه أن يتكلم بها، فهذا يدل على إيمانه.
لكن من يسهل عليه أن يتكلم بمثل هذه الأمور، أو تأتي شبه فيطلقها ويتبناها ويدعو إليها، فهذا هو الذي أصابه البلاء من الشيطان، بحيث أغواه في الداخل، ثم تجاوز الحد إلى أن أظهر ذلك وتبناه ودعا إليه.
قوله: [({اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:2 - 4])].
فهو لكونه صمداً غني عن كل من سواه، ثم أتى بعد ذلك ما يوضح ويبين استغناء الله عز وجل فقال: ({لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]) فنفى عنه الأصول والفروع والنظراء الذين يشابهونه ويماثلونه وينادّونه، وإنما هو واحد في ذاته وفي صفاته، لا شريك له في الخلق والإيجاد، ولا شريك له فيما يختص به مما يتصف به من الصفات، ولا شريك له في العبادة، بل هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له.
فقوله: [(((لَمْ يَلِدْ)) [الإخلاص:3])] نفي للفروع، [(((وَلَمْ يُولَدْ)) [الإخلاص:3])] نفي للأصول، [({وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4])] نفي للأشباه والنظراء.(533/5)
تراجم رجال إسناد الطريق الأخرى لحديث: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: من خلق الله)
قوله: [حدثنا محمد بن عمرو].
محمد بن عمرو الرازي، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة.
[حدثنا سلمة -يعني: ابن الفضل -].
صدوق كثير الخطأ أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة في التفسير.
[حدثني محمد -يعني ابن إسحاق -].
محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني عتبة بن مسلم مولى بني تميم].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن أبي سلمة بن عبد الرحمن].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
قد مر ذكره.(533/6)
شرح حديث الأوعال
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا الوليد بن أبي ثور عن سماك عن عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب قال: (كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال: ما تسمون هذه؟ قالوا: السحاب، قال: والمزن؟ قالوا: والمزن، قال: والعنان؟ قالوا: والعنان، -قال أبو داود: لم أتقن العنان جيداً- قال: هل تدرون ما بعد ما بين السماء والأرض؟ قالوا: لا ندري، قال: إن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء فوقها كذلك، حتى عد سبع سماوات، ثم فوق السابعة بحراً بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم الله تبارك وتعالى فوق ذلك)].
أورد أبو داود حديث العباس بن عبد المطلب، ومحل الشاهد منه في باب الرد على الجهمية نفاة الصفات أن الله تعالى فوق العرش، فإنه لما ذكر هذا الحديث بطوله، قال في آخره بعد أن ذكر العرش: [(والله فوق ذلك)] يعني فوق العرش.
وفوقية الله عز وجل وعلوه قد جاءت في آيات كثيرة، فهو عز وجل متصف بالعلو بأنواعه الثلاثة: علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات.
وجاء في الآيات والأحاديث الكثيرة أن الله تعالى فوق العرش، وأنه قد استوى على العرش، وأن الملائكة تعرج إليه، وكل ذلك يدل على علو الله عز وجل، وقد ذكر بعض أهل العلم أن أدلة علو الله عز وجل تبلغ ألف دليل من الكتاب والسنة، لكثرتها وتنوعها.
وهذا الحديث فيه رجل ضعيف، فهو حديث ضعيف؛ ولكن الأمر الذي أورده أبو داود من أجله وهو ما يتعلق بعلو الله عز وجل وفوقيته ثابت بالآيات الكثيرة والأحاديث المتواترة، فقد جاء الاستواء على العرش في سبع آيات من كتاب الله.
قوله: [(كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) البطحاء هي المحصب، وهو مسيل واد فيه دقاق الحصباء فقيل له: المحصب، وهو في مكة.
قوله: [(فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال: ما تسمون هذه؟ قالوا: السحاب، قال: والمزن؟ قالوا: والمزن، قال: والعنان؟ قالوا: والعنان)].
هذه كلها أسماء للسحاب، قال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:69]، {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [البقرة:164].
قوله: [(قال: هل تدرون ما بعد ما بين السماء والأرض؟)].
بعد ما بين السماء والأرض التي فيها ذلك السحاب، فالسحاب يكون في هذا العلو الذي بين السماء والأرض، كما قال الله عز وجل: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [البقرة:164].
قوله: [(إن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة)].
يعني: مسيرة ثلاث وسبعين سنة أو اثنتين وسبعين سنة أو إحدى وسبعين سنة، يعني: أن المسافة بعيدة وشاسعة تقطع بهذه السنين.
قوله: [(ثم السماء فوقها كذلك، حتى عد سبع سماوات)].
يعني: أن ما بين كل سماء إلى سماء مثل هذا المقدار.
قوله: [(ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء)].
الأوعال من الحيوانات المتوحشة التي مما تكون في البر، وهو من الصيد، وهذا الوصف يخالف ما وصف به الملائكة بأنهم: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1].
قوله: [(ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء)].
أي أن سمك العرش كذلك.
والحديث كما أسلفت فيه رجل ضعيف، فهو غير ثابت، ولكن الأمر الذي سيق الحديث من أجله وهو كون الله تعالى فوق العرش ثابت، وفي ذلك رد على الجهمية الذين يقولون: إن الله ليس فوق العرش، ويقولون: إنه في كل مكان، أو يقولون: إنه لا داخل العالم ولا خارج العالم، فإن قوله: [(فوق العرش)] يدل على خلاف ما قالوه وعلى إبطال ما قالوه.(533/7)
تراجم رجال إسناد حديث الأوعال
قوله: [حدثنا محمد بن الصباح البزاز].
محمد بن الصباح البزاز ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الوليد بن أبي ثور].
هو ضعيف، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن سماك].
سماك بن حرب، وهو صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عميرة].
هو مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن الأحنف بن قيس].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن العباس بن عبد المطلب] عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(533/8)
ذكر ما نقله السندي في شرح حديث الأوعال والتعليق عليه
قال السندي في حاشيته على ابن ماجة (الأوعال جمع وعل، والمراد أن الملائكة على صورة الأوعال، (ثم الله فوق ذلك) تصويراً لعظمته سبحانه وتعالى وفوقيته على العرش بالعلو والعظمة والحكم، لا الحلول والمكان انتهى.
هذه العبارة غير صحيحة، فالله تعالى بذاته وصفاته فوق عرشه، وهو كما يليق به، ولا يجوز أن يتكلم في أمور أخرى ما جاء إثباتها ولا نفيها في الكتاب والسنة، والله عز وجل عظيم الذات وعظيم القدر، وعلي الذات وعلي القدر وعلي القهر، وكل هذه الصفات لله سبحانه وتعالى وهو متصف بها، وهو سبحانه وتعالى بذاته فوق عرشه كما صرح بذلك علماء أهل السنة، ومنهم ابن أبي زيد القيرواني في مقدمة رسالته فإنه قال: فوق العرش المجيد بذاته؛ لكن كيفية استوائه على عرشه لا يبحث عنها، كما قال الإمام مالك رحمة الله عليه لما سأله سائل: كيف استوى؟ قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول.
فالاستواء معلوم لأن الناس خوطبوا بكلام يفهمونه، والاستواء معروف أنه العلو والارتفاع، ولهذا فسروه بالعلو والارتفاع، فمعنى أن الله استوى على عرشه أنه ارتفع عليه وعلا عليه، لكن كيفية هذا هي التي لا تعلم، ولهذا فإن أهل السنة يعتقدون التفويض في الكيف دون التفويض في المعنى، بخلاف المبتدعة الذين هم إما مفوضة يقولون: الله أعلم بمراده، فلا يعرفون معنى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، ومعنى ذلك أن الناس خوطبوا بكلام لا يفهمون معناه، وإما مؤولة.
والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فهموا معنى ما خوطبوا به؛ ولم يسألوا عن المعنى لأنهم عارفون بالمعنى، ولكن السؤال عن الكيفية هو الذي لا يجوز.
قال في الحاشية: ولقد كتب الشيخ زاهد الكوثري في مقالاته مقالة باسم الصورة والأوعال، ونقل عن ابن العربي قوله: أمور تلقفت عن أهل الكتاب ليس لها أصل في الصحة.
ونحن نقول: حديث الأوعال لم يثبت، ولكن ما يتعلق بعلو الله عز وجل واستوائه على عرشه قد أثبته أهل السنة والجماعة وتأوله من تأوله من المبتدعة، وزاهد الكوثري هو من هؤلاء المبتدعة الذين انحرفوا عن الجادة وعن الصراط المستقيم، وصار عنده كلام كثير في النيل من أهل السنة ولمزهم والتعرض لهم، فهو فيما يتعلق بالعقيدة منحرف وليس من أهل السنة والجماعة، بل هو من ألد أعداء أهل السنة والجماعة.(533/9)
طريق ثانية لحديث الأوعال وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن أبي سريج أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد ومحمد بن سعيد قالا: أخبرنا عمرو بن أبي قيس عن سماك بإسناده ومعناه.
ذكر المصنف هذا الحديث بإسناد آخر، فقال عندما وصل إلى سماك: [بإسناده ومعناه].
قوله: [حدثنا أحمد بن أبي سريج].
أحمد بن أبي سريج هو أحمد بن الصباح بن أبي سريج، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد].
ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[ومحمد بن سعيد].
ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن عمرو بن أبي قيس].
صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن سماك].
مر ذكره.
وفيه عبد الله بن عميرة الذي هو مقبول.(533/10)
طريق ثالثة لحديث الأوعال وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حفص حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن طهمان عن سماك بإسناده ومعنى هذا الحديث الطويل].
ثم ذكر حديث الأوعال بإسناد ثالث وأحال على الإسناد الأول، وأنه بإسناده ومعناه، وكله عن سماك عن عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس.
قوله: [حدثنا أحمد بن حفص].
أحمد بن حفص بن عبد الله، وهو صدوق أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثني أبي].
هو حفص بن عبد الله، وهو صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا إبراهيم بن طهمان].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سماك].
قد مر ذكره.(533/11)
شرح حديث أطيط العرش بالله تعالى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الأعلى بن حماد ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار وأحمد بن سعيد الرباطي قالوا: حدثنا وهب بن جرير -قال أحمد: كتبناه من نسخته.
وهذا لفظه- قال: حدثنا أبي، سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: (يا رسول الله! جهدت الأنفس، وضاعت العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك! أتدري ما تقول؟ وسبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟ إن عرشه على سماواته لهكذا -وقال بإصبعه مثل القبة- مثل القبة عليه، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب).
قال ابن بشار في حديثه: (إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته) وساق الحديث.
وقال عبد الأعلى وابن المثنى وابن بشار: عن يعقوب بن عتبة وجبير بن محمد بن جبير عن أبيه عن جده، والحديث بإسناد أحمد بن سعيد هو الصحيح، وافقه عليه جماعة منهم يحيى بن معين وعلي بن المديني، ورواه جماعة عن ابن إسحاق كما قال أحمد أيضاً، وكان سماع عبد الأعلى وابن المثنى وابن بشار من نسخة واحدة فيما بلغني].
أورد أبو داود حديث جبير بن مطعم النوفلي رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: [(جهدت الأنفس، وضاع العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا؛ فإننا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك)] فلما قال: [(نستشفع بالله عليك)] قال عليه السلام: [(ويحك! أتدري ما تقول؟ وسبح الرسول صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك!)].
أي: وإنما الاستشفاع يكون من المخلوق، حيث يطلب منه أن يشفع مثلما يشفع النبي صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا، بأن يطلب منه الدعاء فيدعو ويجيب الله دعوته، وفي الآخرة تطلب منه الشفاعة عندما يكون الناس في الموقف فيشفع، وكذلك يشفع في الخروج من النار، وشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنواع متعددة، فالشفاعة تكون من الأدنى إلى الأعلى أما أن يشفع الأعلى عند الأدنى فلا، والقول بأن الله عز وجل يستشفع به على خلقه قول خطير وأمر عظيم، ولهذا سبَّح النبي صلى الله عليه وسلم مستعظماً ومتعجباً، وقال: [(شأن الله أعظم من ذلك)].
ثم ذكر أنه فوق عرشه، وأن عرشه فوق مخلوقاته، وقال: [(إنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب)] والرحل هو الخشب الذي يجعل على البعير ويركب عليه الراكب، وإذا كان الراكب ثقيلاً فإنه يصير له صوت من ثقل الراكب عليه.
وهذا الحديث الذي فيه أن العرش يئط بالله عز وجل غير صحيح، وفي إسناده من هو متكلم فيه، ولكن الشيء الذي ساقه أبو داود من أجله -وهو أن الله تعالى فوق عرشه- قد جاء في آيات كثيرة وأحاديث عديدة عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والحجة بها دونه، ويكفي ما ورد مما صح عما لم يصح.
يقول الخطابي: هذا الكلام إذا أجري على ظاهره كان فيه نوع من الكيفية، والكيفية عن الله وصفاته منفية، فعقل أن ليس المراد منه تحقيق هذه الصفة، ولا تحديده على هذه الهيئة، وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله وجلاله سبحانه، وإنما قُصد به إفهام السائل من حيث يدركه فهمه، إذ كان أعرابياً جلفاً لا علم له بمعاني ما دق من الكلام، وبما لطف منه عن درك الإفهام، وفي الكلام حذف وإضمار، فمعنى قوله: (أتدري ما الله؟) معناه: أتدري ما عظمة الله وجلاله؟) وأقول: هذا كلام لا حاجة إليه، والحديث كما هو معلوم غير ثابت، وأما كون الله تعالى فوق عرشه فإنه ثابت في الآيات الكثيرة والأحاديث المتواترة.(533/12)
تراجم رجال إسناد حديث أطيط العرش
قوله: [حدثنا عبد الأعلى بن حماد].
هو لا بأس به، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[ومحمد بن المثنى].
محمد بن المثنى أبو موسى الزمن، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[ومحمد بن بشار].
محمد بن بشار الملقب بندار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[وأحمد بن سعيد الرباطي].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[قالوا: حدثنا وهب بن جرير].
وهب بن جرير بن أبي حازم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبي].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[يحدث عن يعقوب بن عتبة].
وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم].
وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
محمد بن جبير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جده].
وهو جبير بن مطعم النوفلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
قوله: [وقال عبد الأعلى وابن المثنى وابن بشار: عن يعقوب بن عتبة وجبير بن محمد بن جبير].
ساق أبو داود إسناد الحديث على لفظ الشيخ الأخير أحمد بن سعيد الرباطي، وفيه أن يعقوب بن عتبة يروي عن جبير بن محمد، وأنه تلميذه، وأما الثلاثة الشيوخ الأول فإنهم أتوا بالواو بدل (عن) فصار جبير بن محمد مع يعقوب بن عتبة يرويان عن محمد بن جبير.
قوله: [والحديث بإسناد أحمد بن سعيد هو الصحيح] معناه أن الصحيح هو ما جاء عن أحمد بن سعيد وهو أن يعقوب بن عتبة يروي عن جبير بن محمد بن جبير بلفظ (عن)، وهي صيغة أداء، وليس فيه لفظ الواو التي هي صيغة عطف، ثم ذكر ما يؤيد ذلك، وهو أن أناساً آخرين رووه كما رواه أحمد بن سعيد، بل إن محمد بن إسحاق قد رواه عنه أناس آخرون كما رواه أحمد بن سعيد الرباطي، قال أبو داود: [وافقه عليه جماعة، منهم يحيى بن معين وعلي بن المديني ورواه جماعة أن ابن إسحاق كما قال أحمد أيضاً].
فأيد أبو داود لفظ أحمد بن سعيد بوجوه هي: أولاً: أن يحيى بن معين وغيره قد وافقوه، ورووه بعن كما رواه هو.
ثانياً: أن محمد بن إسحاق رواه عنه أناس آخرون كما رواه أحمد بن سعيد أي بصيغة (عن).
ثم أضاف إلى ذلك أن رواية الشيوخ المخالفين لـ أحمد بن سعيد كائنة من نسخة واحدة، ولهذا جاء اتفاقهم على ذكر الواو، قال: [وكان سماع عبد الأعلى وابن المثنى وابن بشار من نسخة واحدة فيما بلغني].(533/13)
شرح حديث وصف أحد ملائكة العرش
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما.
قوله: [(أذن لي)] الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قال: أذن لي، فالآذن له هو الله، كما أنه إذا قال: أمرت ونهيت، فالآمر والناهي هو الله، وأما الصحابة إذا قالوا: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا، فالآمر والناهي لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)].
أي: فإذا كان ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه سبعمائة عام، فكيف ببقية جسمه؟ أي فهو على ضخامة عظيمة لا يعلم كنهها وقدرها إلا الله سبحانه وتعالى.
وقد ذكر هذا الحديث في هذا الباب لأنه يتعلق بإثبات العرش، والله تعالى فوق العرش.(533/14)
تراجم رجال إسناد حديث وصف أحد ملائكة العرش
قوله: [حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله حدثني أبي].
مر ذكرهما.
[حدثنا إبراهيم بن طهمان].
مر ذكره أيضاً.
[عن موسى بن عقبة].
موسى بن عقبة المدني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن المنكدر].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
وهو أحد الصحابة السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(533/15)
شرح حديث وضع النبي أصبعيه على عينه وأذنه لإثبات صفتي السمع والبصر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا علي بن نصر ومحمد بن يونس النسائي المعنى قالا: حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ حدثنا حرملة -يعني ابن عمران - حدثني أبو يونس سليم بن جبير مولى أبي هريرة قال: سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]، إلى قوله تعالى: {سَمِيعًا بَصِيرًا}، قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه)، قال أبو هريرة: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ويضع أصبعيه) قال ابن يونس: قال المقرئ: يعني أن الله سميع بصير، يعني أن لله سمعاً وبصراً.
قال أبو داود: وهذا رد على الجهمية].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58]، ويضع إبهامه على أذنه والأصبع التي تليها على عينه، أي: أنه يبين السمع والبصر، ولكن ليس في ذلك تشبيه، وإنما هو بيان للسمع والبصر، وأن الله تعالى سميع بصير.
ومعلوم أن الله عز وجل له سمع وبصر، لا كالأسماع والأبصار، وللمخلوقين أسماع وأبصار معروفة مشاهدة معاينة، وما يضاف إلى الله عز وجل من السمع والبصر يختلف عما يضاف إلى المخلوقين من السمع والبصر، وإنما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ليبين إثبات السمع والبصر لله تعالى، وليس في ذلك شيء سوى هذا، ولهذا قال في آخره نقلاً عن المقرئ: [يعني أن لله سمعاً وبصراً].
قوله: [وفي ذلك رد على الجهمية] أي الذين ينفون صفتي السمع والبصر عن الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل جمع بين إثبات السمع والبصر وتنزيهه عن المشابهة، فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فأثبت السمع والبصر ونفى المشابهة.
فالتشبيه أن يقول الإنسان: لله سمع كسمعي وبصر كبصري، وأما أن يقول: سمع لا كالأسماع وبصر لا كالأبصار، فهذا ليس فيه تشبيه.
وليس لأحد الآن إذا روى هذا الحديث أن يصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد يفعل ذلك من لا يفهم، فيترتب على ذلك المحذور الذي هو التشبيه، أو تصور التشبيه، ولا نفصل فنقول: إن كان بين طلبة علم يعرفون جاز ذلك، بل نقول: يكفي قراءة الحديث، فإنه واضح في تحديد المراد.(533/16)
تراجم رجال إسناد حديث وضع النبي أصبعيه على عينه وأذنه
قوله: [حدثنا علي بن نصر].
علي بن نصر هو الجهضمي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[ومحمد بن يونس النسائي].
وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حرملة -يعني ابن عمران -].
وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثني أبو يونس سليم بن جبير مولى أبي هريرة].
وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي.
[سمعت أبا هريرة].
قد مر ذكره.(533/17)
نقل كلام صاحب عون المعبود في شرح حديث وضع النبي أصبعيه على عينه وأذنه
ذكر صاحب عون المعبود في شرح هذا الحديث كلاماً نفيساً فقال: قال الإمام الخطابي في معالم السنن: وضعه أصبعيه على أذنه وعينه عند قراءته: ((سَمِيعًا بَصِيرًا)) معناه: إثبات صفة السمع والبصر لله سبحانه، لا إثبات العين والأذن، لأنهما جارحتان والله سبحانه موصوف بصفاته منفياً عنه ما لا يليق به من صفات الآدميين ونعوتهم، ليس بذي جوارح ولا بذي أجزاء وأبعاض: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
انتهى.
ورد عليه بعض العلماء فقال: قوله: لا إثبات العين والأذن إلى آخره، ليس من كلام أهل التحقيق، وأهل التحقيق يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، ولا يبتدعون لله وصفاً لم يرد به كتاب ولا سنة، وقد قال تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، وقال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]).
فقد ورد إثبات العين لله عز وجل، وأما الأذن فلم يرد فيها إثبات ولا نفي، فلا يجوز التكلم فيها لا إثباتاً ولا نفياً؛ لأن هذا شيء غير معلوم ولم يأت به نص، ومعلوم أن صفات الله عز وجل وما يضاف إليه هو من علم الغيب ولا يتكلم في الغيب إلا عن طريق الوحي، ولم يأت وحي بذكر الأذن، فلا يجوز إثباتها ولا نفيها؛ لأن الله تعالى أعلم بذاته وصفاته، فلا يضاف إليه شيء ما ورد، ولا ينفى عنه شيء لا يعلم عنه هل هو متصف به أو غير متصف به؛ لأن الله تعالى بيَّن من صفاته ما بين وسكت عما سكت عنه.
وقوله: ليس بذي جوارح ولا بذي أجزاء وأبعاض؛ كلام مبتدع مخترع لم يقله أحد من السلف لا نفياً ولا إثباتاً، بل يصفون الله بما وصف به نفسه ويسكتون عما سكت عنه، ولا يكيفون ولا يمثلون ولا يشبهون الله بخلقه، فمن شبه الله بخلقه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله تشبيهاً، وإثبات صفة السمع والبصر لله حق كما قرره الشيخ.
انتهى كلامه.
قلت: ما قاله هو الحق، وما قاله الخطابي ليس من كلام أهل التحقيق، وعليك أن تطالع كتاب الأسماء والصفات للبيهقي، وإعلام الموقعين، واجتماع الجيوش، والكافية الشافية، والصواعق المرسلة، وتهذيب السنن كلها لـ ابن القيم رحمه الله، وكتاب العلو للذهبي، وغير ذلك من كتب المتقدمين والمتأخرين.(533/18)
نقل كلام الحافظ ابن حجر في الكلام على الصفات
فائدة: قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: أخرج أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر.
ومن طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سئل: كيف استوى على العرش؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، وعلى الله الرسالة، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم.
وأخرج البيهقي بسند جيد عن الأوزاعي أنه قال: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله على عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته.
وأخرج الثعلبي من وجه آخر عن الأوزاعي أنه سئل عن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] فقال: هو كما وصف نفسه.
وأخرج البيهقي بسند جيد عن عبد الله بن وهب قال: كنا عند مالك فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، كيف استوى؟ فأطرق مالك فأخذته الرحضاء، ثم رفع رأسه، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، كما وصف به نفسه، ولا يقال: كيف؟ وكيف عنه مرفوع، وما أراك إلا صاحب بدعة، أخرجوه! وفي رواية عن مالك: والإقرار به واجب، والسؤال عنه بدعة.
وأخرج البيهقي من طريق أبي داود الطيالسي قال: كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحددون ولا يشبهون، ويروون هذه الأحاديث ولا يقولون: كيف؟ قال أبو داود: وهو قولنا، قال البيهقي: وعلى هذا مضى أكابرنا.
وأسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني أنه قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفصيل، فمن فسر شيئاً منها وقال بقول جهم فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه وفارق الجماعة؛ لأنه وصف الرب بصفة لا شيء.
هذا هو تفسير الجهمية الذي نتيجته وصف الله بأنه لا شيء، ومعناه أن النهاية أن يقال: إنه لا وجود للذات، لأن الصفات قد نفيت عنها.
فالتفسير الذي ذمه محمد بن الحسن هو تفسير الجهمية، وليس بيان المعنى وتوضيح المعنى.
قال: ومن طريق الوليد بن مسلم قال: سألت الأوزاعي ومالكاً والثوري والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها الصفة، فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الشافعي أنه يقول: لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل، فنثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
وأسند البيهقي عن أبي بكر الضبعي أنه قال: مذهب أهل السنة في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] قال: بلا كيف.
والآثار فيه عن السلف كثيرة، وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل.
وقال الترمذي في الجامع عقب حديث أبي هريرة في النزول: وهو على العرش كما وصف به نفسه في كتابه، كذا قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من الصفات.
وقال في باب فضل الصدقة: تثبت هذه الروايات ونؤمن بها ولا نتوهم ولا يقال: كيف؟ كذا جاء عن مالك وابن عيينة وابن المبارك أنهم قالوا: أمروها بلا كيف، وهذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية فأنكروها وقالوا: هذا تشبيه! وقال إسحاق بن راهويه: إنما يكون التشبيه لو قيل: يد كيد، وسمع كسمع.
وقال في تفسير المائدة: قال الأئمة نؤمن بهذه الأحاديث من غير تفسير، منهم الثوري ومالك وابن عيينة وابن المبارك.
وقال ابن عبد البر: أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنة، ولم يكيفوا شيئاً منها، وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فقالوا: من أقر بها فهو مشبه.
وقال إمام الحرمين: اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الله تعالى.
هذه العبارة المنقولة عن إمام الحرمين في تفويض المعاني إلى الله غير صحيحة، بل المعاني معلومة، ومعلوم أن السمع غير البصر، والبصر غير الاستواء، والاستواء غير الكلام، وكل هذه المعاني فهمها الصحابة؛ لأنهم خوطبوا بالقرآن وهو بلغتهم، ولم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن تلك المعاني لأنهم قد فهموها، فلا يفوض المعنى ولكن يفوض الكيف.
قال إمام الحرمين: والذي نرتضيه رأياً وندين الله به عقيدة اتباع سلف الأمة؛ للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة، فلو كان تأويل هذه الظواهر حتماً لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عهد الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع.
انتهى.
وقد تقدم النقل عن أهل العصر الثالث، وهم فقهاء الأمصار كـ الثوري والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم، وكذا من أخذ عنهم من الأئمة، فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة؟! انتهى كلام الحافظ رحمه الله.
وهذا الكلام الأخير الذي ذكره الحافظ بعد كلام إمام الحرمين كلام عظيم جميل لو سلم من الأمور الأخرى التي جاءت في الفتح من ذكر أمور غير واضحة تدل على أنه ليس ثابتاً على عقيدة مستقرة فيما يتعلق بالأسماء والصفات.(533/19)
الأسئلة(533/20)
علاقة الجعد بن درهم بلبيد بن الأعصم
السؤال
هل صحيح أن الجعد بن درهم يرجع نسبه إلى لبيد بن الأعصم الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
لا أعرف أنه يرجع إليه، ولكن الذي أعرف أنه أخذ عقيدته عن لبيد بن الأعصم، أي أنه أخذ هذا المذهب عن اليهود، وهذا هو الذي ذكره بعض أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام.(533/21)
المسافة بين كل سماء وسماء
السؤال
قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: (إن ما بعد ما بينهما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة) أي بين كل سماء وسماء، ألا يعارض هذا ما روي أن بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام؟
الجواب
بلى يعارضه، لكن حديث الأوعال غير ثابت، أو يقال: جاء ذكر السبعين على سبيل التكثير.(533/22)
مقياس المسافة بين السماوات
السؤال
هل المقصود بالمسافة المذكورة بين السماوات في الحديث هي التي يقطعها الإنسان برجله أو على الدابة؟
الجواب
الناس كانوا يعرفون سير الدواب، وكان التقدير بذلك في الغالب لا بسير الأقدام؛ لأن الأقدام لا يحصل بها قطع المسافات الشاسعة وإنما يكون على الدواب.
وهذه المسافات الشاسعة قطعها الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة ذهاباً وإياباً حين عرج به إلى السماء صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، حتى وصل إلى ما فوق السماوات وكلمه ربه وفرض عليه الصلوات الخمس، وهذا يدل على كمال قدرة الله سبحانه وتعالى، وأن الله عز وجل أقدر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن رفعه إليه وتجاوزها في ليلة واحدة؛ لأنه ذهب في الليل ورجع في الليل صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وأيضاً هذا من الأمور الغيبية، وهذا يدل على كمال قدرة الله سبحانه وتعالى.
وأيضاً: قد حصل لسليمان بن داود عليه الصلاة والسلام من الملك ما لم يحصل لغيره، ولا يكون لأحد من بعده، وذلك أن الله تعالى سخر له الريح، وسخر له الجن والإنس والطير، حتى أتي إليه العرش الذي كان في اليمن قبل أن يرتد إليه طرفه وهو بالشام، قال الله: {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل:39 - 40]، وهذا شيء لم يحصل في هذا الزمان الذي ظهر فيه التقدم في الصناعة، ولن يصلوا إلى ذلك أبداً؛ لأن هذا الذي حصل لسليمان ملك أعطاه الله له ولن يعطيه أحداً من بعده، وهذا من كمال قدرة الله سبحانه وتعالى.(533/23)
حكم تفسير صفة الاستواء بالجلوس
السؤال
هل يصح أن يفسر الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] بالجلوس؟
الجواب
الاستواء أكثر ما ورد فيه أنه الارتفاع والعلو، وقد جاء عن السلف أربع كلمات في معناه وهي: علا، وارتفع، وصعد، واستقر.
فهذه الأربع الكلمات هي التي جاءت عن السلف، وقد ذكرها ابن القيم في نونيته، ولكن أكثر ما جاء عنهم التعبير بعلا وارتفع، لكن هذا العلو وهذا الارتفاع لا يعلم كنهه وكيفيته؛ لأن الذات لا تعلم كيفيتها فكذلك صفاتها لا تعلم كيفيتها، كما يقول بعض العلماء: الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أننا نثبت لله ذاتاً لا تشبه الذوات، فيجب علينا أن نثبت له صفات لا تشبه الصفات، لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات.(533/24)
شرح سنن أبي داود [534]
أهل السنة والجماعة يثبتون رؤية الله تعالى في الآخرة، وهي أعظم نعيم في الجنة للمؤمنين، وقد ثبتت بالنصوص القرآنية المحكمة والأحاديث المتواترة، وإنما ينكرها المبتدعة من الجهمية والمعتزلة والخوارج وغيرهم ممن يأخذون بالمتشابه ويتركون المحكم.(534/1)
رؤية الله عز وجل(534/2)
شرح حديث جرير بن عبد الله في الرؤية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرؤية.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير ووكيع وأبو أسامة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، جلوساً، فنظر إلى القمر ليلة البدر، ليلة أربعة عشرة، فقال: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ هذه الآية: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:130]).
قوله: [باب في الرؤية] أي في رؤية الله عز وجل، وكون المؤمنين يرونه بأبصارهم يوم القيامة، والرؤية حق، فإنها ثابتة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه تدل على ثبوت الرؤية في الدار الآخرة.
وأما بالنسبة للدنيا فقد شاء الله عز وجل ألا يُرى، وادخر للمؤمنين رؤيته إلى الدار الآخرة؛ لأن رؤيته تكون أعظم نعيم لأهل الجنة، فجعلت في دار النعيم، ولم يجعلها الله عز وجل في الدنيا، ولو شاء لفعل، فرؤيته في الدنيا ممكنة ولكنه شاء أن يجعلها في الدار الآخرة، وأن تكون غيباً يستعد الموفقون له بالأعمال الصالحة التي توصلهم إلى ذلك النعيم، فإن أعلاه وأكمله النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى.
وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) وهو حديث أخرجه مسلم في صحيحه، وهو يدل على أن رؤية الله عز وجل لا تحصل في الدنيا، وأن الله تعالى شاء ألا يُرى إلا في الآخرة.(534/3)
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا
أما بالنسبة لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام فقد اختلف في رؤيته لربه ليلة المعراج، ولكن القول الصحيح الذي دلت عليه الأدلة أنه لم يره، ويكون داخلاً في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا)، أو: (إنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت)، فالراجح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، ولما سئل عليه الصلاة والسلام: هل رأيت ربك؟ ما قال: نعم.
رأيت ربي! ولكنه قال: (رأيت نوراً)، وفي رواية أنه قال: (نور أنى أراه؟) يعني أنه إنما رأى نور الحجاب الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، فهذه الأدلة تدل على أنه ما رأى ربه، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه لبين ذلك، وقال: نعم رأيت ربي.
وجاء في حديث صحيح أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه في المنام، أما في اليقظة فلا.(534/4)
الحكمة من تأخير رؤية الله إلى الآخرة
الرؤية هي النعمة العظيمة والفائدة الكبيرة، ولم يجعلها الله لأحد في الدنيا حتى تبقى غيباً، وحتى يستعد كل مسلم للظفر بها والحصول عليها، كما أن أمور الآخرة قد أخفاها الله عز وجل عن الناس ولم يطلعهم عليها ولا على ما في الجنة من النعيم، ولما صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الكسوف عرضت عليه الجنة وهو يصلي بالناس، ورأى عناقيد العنب متدلية فمد يده ليتناول قطفاً منها، وكان الصحابة وراءه يصلون، فرأوا يده الكريمة تمتد ولم يروا الذي مدت إليه، ثم إنه عرضت عليه النار فرجع القهقرى ولم يعرفوا لماذا فعل ذلك، ولما فرغ سألوه عن ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (مددت يدي لآخذ عنقوداً من العنب ثم تركت، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا).
وقد شاء الله عز وجل أن تكون أمور الآخرة غيباً، وألا تكون علانية؛ لأنها لو كانت علانية لم يتميز من يؤمن بالغيب ممن لا يؤمن بالغيب.(534/5)
ذكر بعض الأدلة القرآنية على الرؤية
أهل السنة والجماعة قد أجمعوا واتفقوا على ثبوت رؤية الله عز وجل في الدار الآخرة، وخالف في ذلك بعض المبتدعة فقالوا: إن الله لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة.
ومما جاء في القرآن الكريم دالاً على ثبوت الرؤية لله عز وجل، قوله سبحانه وتعالى في سورة القيامة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، فإن (ناضرة) الأولى من النضرة وهي البهجة والسرور، أي أن وجوههم فيها نضرة وجمال، وفيها إضاءة وإشراق، كما قال الله عز وجل: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24].
وقوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]، هي من النظر، وهي معداة بإلى، أي أنها تنظر إلى ربها، والنظر إذا عدي بإلى فإنه يكون بالأبصار، وإذا عدي بفي فإنه يكون بالتفكر والاعتبار كما في قوله: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185] أي: يتفكروا ويعتبروا.
وكذلك جاء في القرآن الكريم قول الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] أي الكفار، قال الشافعي رحمة الله عليه: فلما حجب هؤلاء في حال السخط، دل على أن أولياءه يرونه في حال الرضا.
وقال الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وقد جاء في السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله، كما في صحيح مسلم من حديث صهيب رضي الله تعالى عنه.
وكذلك قول الله عز وجل: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، فإن هذه الآية تدل على أنه يُرى لكنه لا يحاط به رؤية، كما أنه يعلم ولا يحاط به علماً، فالناس يعلمون عن الله عز وجل ولكن لا يحيطون به علماً، وكذلك المؤمنون يرونه في ولا يحيطون به رؤية، فنفي الإدراك شيء خاص، وهو قدر زائد على الرؤية، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، فإذا نفي الإدراك الذي هو الإحاطة، فإن نفيه لا يستلزم نفي الأعم الذي هو الرؤية، فإن الله تعالى يرى ولا يدرك.
ومن أهل العلم من قال: إن قوله: ((لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) أي: في الدنيا، فهي لا تدركه في الدنيا، وإنما تدركه في الآخرة.(534/6)
الرد على منكري الرؤية
قوله تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) هو مما يستدل به أهل البدع الذين ينفون الرؤية عن الله مطلقاً في الدنيا والآخرة، وهم المعتزلة والخوارج والجهمية وغيرهم من المبتدعة الذين يأخذون المتشابه ويتركون المحكم، ومن المحكم قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]، فإنه دليل صريح على إثبات الرؤية.
وكذلك يستدلون بقول الله عز وجل: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143])) [الأعراف:143].
فموسى لما سمع كلام الله اشتاق إلى رؤيته، وطمع فيها فسألها، فقال له الله: ((لَنْ تَرَانِي)) أي: في الدنيا، وموسى عليه الصلاة والسلام ما سأل الله أمراً مستحيلاً لا يتصور حصوله، ومن المستحيل أن يكون موسى عليه الصلاة والسلام لا يعلم أن رؤيته تعالى مستحيلة ثم يسألها، وإنما سأل أمراً ممكناً وليس مستحيلاً، ولكن منعه الله مما سأل لكونه عز وجل شاء ألا يرى إلا في الدار الآخرة.
وأيضاً: أبصار الناس في هذه الحياة ليس عندها القدرة أمام تجلي الله عز وجل والنظر إليه، ولو أراد عز وجل لأعطاهم من القدرة في الدنيا ما يتمكنون به من رؤيته؛ ولهذا يعطيهم القدرة في الدار الآخرة.
ثم أيضاً علق ذلك على استقرار الجبل مكانه أمام تجلي الله عز وجل، ولكنه اندك، وإذا اندك الجبل مع صلابته وقوته ولم يثبت أمام تجلي الله عز وجل، فالإنسان الذي هو من لحم ودم وعظام أولى ألا يثبت، قال تعالى: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]، وعلى هذا فإن الآية لا تدل على نفي الرؤية عن الله عز وجل مطلقاً، وإنما تدل على النفي في الدنيا، وأما بالنسبة للآخرة فهي ثابتة بالآيات الواضحة الجلية، وبالأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بلغ عدد الصحابة الذين رووها عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ما يقرب من ثلاثين صحابياً، وقد أورد ذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه ((حادي الأرواح)) وذكر أسماء الصحابة أولاً، ثم سرد أحاديثهم.(534/7)
معنى تشبيه رؤية الله برؤية القمر ليلة البدر
أورد أبو داود رحمه الله بعض الأحاديث في رؤية الله عز وجل في الدار الآخرة، فأورد أولاً حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
قوله: [كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوساً، فنظر إلى القمر ليلة البدر] يعني: في ليلة من الليالي، وبين ذلك بأنه ليلة أربع عشرة من الشهر، وهي إحدى ليالي الإبدار؛ لأن ليالي الإبدار هي في الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، حيث يكون القمر فيها مستديراً، ويكون ضوءه شديداً، وتستمر الإضاءة أكثر الليل.
قوله: [فقال: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا لا تضامُّون في رؤيته)] معناه: لا تتزاحمون على رؤيته، فلا يلتصق بعضكم ببعض وينضم بعضكم إلى بعض ليراه كل أحد، فإنكم كلكم ترونه، ومما يوضح ذلك ويقربه أن ذلك كما ترون هذا القمر.
وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية وليس للمرئي بالمرئي، فليس تشبيهاً لله بالقمر، وإنما هو تشبيه لرؤية الله عز وجل التي تحصل في الآخرة بهذه الرؤية المحققة التي تحصل لكل أحد منكم، فهو من قبيل إثبات الرؤية وتشبيهها بالرؤية، وليس من قبيل تشبيه المرئي بالمرئي.
وفي بعض الروايات: (لا تُضَامُون في رؤيته) أي: لا يحصل الضيم لأحد منكم بأن لا تحصل له الرؤية، فرؤية الله عز وجل حاصلة للجميع في الآخرة كما أن رؤية القمر حاصلة في الدنيا، أي أنه يراه سبحانه وتعالى في الآخرة كل من شاء سبحانه أن يراه.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى عمل من الأعمال الصالحة التي هي من أسباب تحصيل الثواب الجزيل، الذي أعلاه وقمته النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى، فقال: (فإن استطعتم ألا تغلبوا) معناه: إن استطعتم ألا يغلبكم أحد، وذلك بأن تكونوا من السابقين إلى الإتيان بهاتين الصلاتين: صلاة قبل غروب الشمس وصلاة قبل طلوعها، ومقصوده بذلك العصر والفجر، وكل الصلوات مطلوبة، ولكن هاتان الصلاتان نص عليهما لأنه يحصل فيها اجتماع الملائكة، كما ثبت في الصحيح: (يتعاقبون فيكم ملائكة في الليل وملائكة في النهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر) فيشهدهما الملائكة الذين يبدءون والذين ينتهون، فالذين يأتون يحضرون هذه الصلاة، والذين سيصعدون وقد انتهت مهمتهم يحضرون هذه الصلاة، فتجتمع المجموعتان من الملائكة المتعاقبة في هاتين الصلاتين.
ثم إن هاتين الصلاتين جاء التنصيص عليهما؛ لأن الفجر تكون في آخر الليل، عندما يكون الناس قد طاب لهم الفراش، ولذ لهم المنام، لاسيما إذا كان في الشتاء، فيكونون في مكان دافئ، والإنسان الذي يوفقه الله عز وجل يترك هذا الذي يعجبه وترتاح إليه نفسه من الدفء، ويسعى إلى الصلاة، ليحصِّل الأجر والثواب، ولهذا جاء في أذان الفجر: الصلاة خير من النوم، أي: الصلاة خير من النوم الذي طاب لكم وارتحتم إليه واستغرقتم فيه.
والعصر تكون في آخر النهار، أي وقد تعب الناس وكدحوا في الأعمال، فالذي لا يبالي ولا يهمه شأن الصلاة يمكن أن ينام ويتركها.(534/8)
تراجم رجال إسناد حديث جرير بن عبد الله في الرؤية
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ووكيع].
وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأبو أسامة].
أبو أسامة حماد بن أسامة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسماعيل بن أبي خالد].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قيس بن أبي حازم].
وهو ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو الذي قيل عنه: إنه تيسر له أن يروي عن العشرة المبشرين بالجنة أو غالبية العشرة المبشرين بالجنة.
[عن جرير بن عبد الله].
جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(534/9)
شرح حديث أبي هريرة في الرؤية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه أنه سمعه يحدث عن أبي هريرة قال: قال ناس: (يا رسول الله! أنرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة؟ قالوا: لا، قال: هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة؟ قالوا: لا، قال: والذي نفسي بيده! لا تضارون في رؤيته إلا كما تضارون في رؤية أحدهما)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة وهو مثل الذي قبله، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم سأله أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم: (أنرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحاب؟)، يعني ليس هناك سحاب يمنع من رؤيتها، بل هي واضحة جلية، وذلك في منتصف النهار.
قوله: [(هل تضارون)] يعني: هل يضر بعضكم بعضاً من أجل أن تتمكنوا من رؤيتها، أم أن كلاً يراها دون أن يكون بحاجة إلى أن يزاحم غيره بحيث يتضرر به بسبب الازدحام؟ والمعروف أنهم يرون الشمس إذا لم يكن دونها سحاب بسهولة ويسر، وبدون تعب ومشقة، وبدون مضرة تحصل لأحد؛ لأنها في السماء، وهي آية من آيات الله، وإذا كان هذا في مخلوق من مخلوقات الله، فأولى أن يرى الله عز وجل وهو الخالق لكل شيء ولا يتضرر الناس في رؤيته.
وكذلك القول بالنسبة للقمر ليلة البدر ليس في سحاب، فهذا الحديث كالذي قبله فيه تشبيه الرؤية بالرؤية، وليس تشبيه المرئي بالمرئي.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرر لهم هذا الشيء وأخبرهم أنه لا يحصل لهم تضار في رؤية الشمس ولا رؤية القمر، أقسم وقال: (والذي نفسي بيده لا تضارون في رؤيته)، ومعناه: أن رؤية الله في الآخرة محققة لكم كما أن رؤيتكم للشمس والقمر في الدنيا محققة.
وهذا من كمال بيانه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، لأنه أثبت لهم الرؤية بهذا التمهيد الذي يتضح به الأمر، لأنهم لما سألوه عنها سألهم: هل يضارون في رؤية الشمس في الظهيرة؟ وهل يضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ ولما تقرر لهم أن هذا أمر محقق، قال: إن رؤيتكم لله عز وجل أمر محقق، كما أن هذا الذي تشاهدونه وتعاينونه أمر محقق، وهو عليه الصلاة والسلام أكمل الناس بياناً وأفصحهم لساناً.(534/10)
تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة في الرؤية
قوله: [حدثنا إسحاق بن إسماعيل].
وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا سفيان].
سفيان بن عيينة المكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهيل بن أبي صالح].
وهو صدوق، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، ورواية البخاري عنه مقرونة.
[عن أبيه].
أبو صالح السمان، وهو ذكوان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق، رضي الله عنه وأرضاه.(534/11)
شرح حديث أبي رزين في الرؤية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد، ح وحدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة المعنى، عن يعلى بن عطاء عن وكيع -قال موسى: ابن عدس - عن أبي رزين -قال موسى: العقيلي - قال: قلت يا رسول الله، أكلنا يرى ربه، قال ابن معاذ: مخلياً به يوم القيامة؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال: (يا أبا رزين! أليس كلكم يرى القمر، قال ابن معاذ: ليلة البدر مخلياً به؟ -ثم اتفقا- قلت: بلى، قال: فالله أعظم، قال ابن معاذ: قال: فإنما هو خلق من خلق الله، فالله أجل وأعظم)].
أورد أبو داود حديث أبي رزين العقيلي رضي الله عنه، أنه قال: قلت يا رسول الله! أكلنا يرى ربه قال ابن معاذ: مخلياً به يوم القيامة؟ يعني أن في رواية ابن معاذ زيادة: (مخلياً به يوم القيامة) أي: رؤية مستقلة، وليس معنى ذلك أنه لا يشاركه أحد في الرؤية، ولكنه يراه كل أحد وهو في موقعه وفي مكانه، كما أن القمر يراه كل أحد وهو في مكانه، فيراه وهو خال وحده، ويراه ومعه غيره، وإذا كانوا مع بعض لا يتزاحمون، ويراه المسافر في الفلاة، ويراه الذي يكون نازلاً في البر، والذي يكون في المدن أو في أي مكان؛ لأنه فوق الجميع.
قوله: [(وما آية ذلك في خلقه؟)] أي: ما علامة هذه الرؤية في خلق الله عز وجل؟ وهذا السؤال فيه بيان أنه طلب منه أن يوضح له ذلك بمثال من آيات الله عز وجل، ومن آيات الله عز وجل الليل والنهار والشمس والقمر، فالشمس والقمر هما من آيات الله الدالة على كمال قدرته، فطلب آية من آيات الله الكونية، والآية هي العلامة، فهو يريد أن يعرف علامة في الخلق ومثالاً يوضح أن رؤية الله يوم القيامة تتحقق كما يتحقق الشيء الذي يضرب به المثل، فالنبي صلى الله عليه وسلم بيَّن ما يحصل لهم في القمر، وأنه يراه كل أحد مخلياً به، وكذلك تكون رؤية الله يوم القيامة، بل قد قال ما يوضح أنها أولى فقال: (فالله أعظم).(534/12)
تراجم رجال إسناد حديث أبي رزين في الرؤية
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد بن سلمة بن دينار البصري، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[وحدثنا عبيد الله بن معاذ].
هو عبيد الله بن معاذ العنبري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
معاذ بن معاذ العنبري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن يعلى بن عطاء].
وهو ثقة أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن وكيع، قال: موسى: ابن عدس].
أي: موسى بن إسماعيل الذي هو الشيخ الأول، والمعنى أنه نسبه فقال: وكيع بن عدس، وأما عبيد الله بن معاذ فقد قال: (عن وكيع) فقط، ولم ينسبه، فـ أبو داود لما ذكر رواية الشيخين ذكر الذي نسبه والذي لم ينسبه.
ووكيع بن عدس مقبول، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبي رزين قال موسى: العقيلي].
وهو لقيط بن صبرة العقيلي، وهو صحابي، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
وموسى نسب أبا رزين هنا فقال: العقيلي، كما نسب وكيعاً، وأما ابن معاذ فإنه لم ينسبهما، وهذا فيه بيان دقة المحدثين، وأن الشخص إذا حصل منه تميز في شيء فإنهم ينبهون على ذلك.(534/13)
شرح سنن أبي داود [535]
أهل السنة والجماعة يثبتون صفة اليد لله تعالى، وكذا صفة النزول إلى السماء الدنيا، ولم ينكر هاتان الصفتان إلا المبتدعة من الجمهية وغيرهم.
وقد رد أهل السنة على المبتدعة بالحجج البينة والنقول السلفية الصحيحة.(535/1)
الرد على الجهمية(535/2)
شرح حديث (يطوي الله السماوات يوم القيامة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرد على الجهمية.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء أن أبا أسامة أخبرهم عن عمر بن حمزة قال: قال سالم: أخبرني عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين، ثم يأخذهن -قال ابن العلاء: بيده الأخرى- ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟).
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب في الرد على الجهمية، وقد سبق قبل ذلك باب في الجهمية، والموضوع واحد، وقد جاء هذا الباب في نسخة صحيحة كما ذكر صاحب عون المعبود، وفي غالب النسخ لا يوجد هذا الباب، ولكن إذا حذف هذا الباب على ما هو في أكثر النسخ، فإن الأحاديث التي فيه لا تناسب باب الرؤية، بل هي تتعلق بالرد على الجهمية، قال: ولعل هذا من عمل النساخ، يعني التقديم والتأخير، وإلا فإن الترجمة مكررة مع السابقة، وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بالجهمية وبيان فساد مذهبهم، وكان أغلب ما جاء في ذلك من النصوص يتعلق بعلو الله عز وجل وفوقيته واستوائه على عرشه؛ فإن الجهمية ينكرون صفات الله عز وجل ويؤولونها، وهذان الحديثان اللذان أوردهما المصنف في هذا الباب يتعلقان بموضوع صفات الله عز وجل، وهما مثل ما تقدم في الباب الذي سبق، وهو باب في الجهمية.
أورد أبو داود رحمه الله حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى).
الطي ضد البسط، وفي قوله: (ثم يأخذهن بيده اليمنى) إثبات اليد لله عز وجل، وإثبات أن لله يدين، فهنا ذكر اليد اليمنى، ثم قال: (بيده الأخرى).
وقد جاء في القرآن الكريم أن لله يدين، قال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]، فلله عز وجل يدان حقيقيتان، وهما من صفاته الذاتية القائمة بذاته سبحانه وتعالى.
والواجب هو الإيمان والتصديق بسائر الصفات على طريقة واحدة، وهي أن يثبت لله عز وجل كل ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تشبيه ومن غير تعطيل، بل هو إثبات مع التنزيه، على حد قول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فأثبت السمع والبصر في قوله: ((وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))، ونفى المشابهة في قوله: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))، والله تعالى لا يشبه أحداً من خلقه، وصفاته ثابتة له كما يليق به سبحانه وتعالى، ولا يجوز نفيها عنه، ولا تحريفها ولا تعطيلها.
فالحديث فيه إثبات اليدين لله سبحانه وتعالى، والجهمية ينكرون ذلك، ويؤولون كل الصفات الثابتة.
قوله: [(ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)] في ذلك اليوم لا يكون هناك تجبر ولا تكبر، لأن التجبر والتكبر إنما يكونان في الدنيا، أما في ذلك اليوم فيكون الجميع خاضعين لله عز وجل، وقد سبق أن أشرت قريباً إلى أن قول الله عز وجل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، فيه نص على ملكه يوم الدين مع أنه مالك كل شيء، لأن ذلك اليوم هو اليوم الذي يخضع فيه الجميع لرب العالمين، فلا يوجد تكبر وتجبر، ولهذا قال هنا: (أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) أي الذين كانوا كذلك في الدنيا.
قوله: [(ثم يطوي الأرضين، ويأخذهن بيده الأخرى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) الله هو المالك لكل شيء، والسماوات والأرض كلها ملك الله، والدنيا والآخرة كلها ملك الله، والله تعالى هو الخالق وما سواه مخلوق، وهو المتصرف في كل شيء سبحانه وتعالى.(535/3)
تراجم رجال إسناد حديث (يطوي الله السماوات يوم القيامة)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء].
عثمان بن أبي شيبة مر ذكره، ومحمد بن العلاء هو أبو كريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن أبا أسامة أخبرهم عن عمر بن حمزة].
أبو أسامة مر ذكره، وعمر بن حمزة ضعيف، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[قال: قال سالم].
سالم هو ابن عبد الله بن عمر، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عبد الله بن عمر].
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث فيه ضعف، ولكن قد جاء من طريق أخرى، وهو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعناه في القرآن أيضاً.(535/4)
شرح حديث (ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعن أبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه في النزول، وأحاديث النزول متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تدل على علو الله عز وجل، وتدل على أنه ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، وأنه ينادي فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟ والمقصود من إيراد الحديث هنا هو ذكر النزول، وهو من صفات الله عز وجل الفعلية؛ لأنه متعلق بالمشيئة والإرادة، أما الصفات الذاتية فلا تتعلق بمشيئة ولا إرادة.
والنزول كغيره من الصفات يقال فيها: كل ما هو ثابت لله في الكتاب والسنة يجب إثباته على الوجه اللائق بكماله وجلاله، ولا يسأل عن كيفيته، لأن الذات لا تعرف كيفيتها، فلا يعرف كيفية الصفات التي تتصف بها، والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أننا نثبت لله ذاتاً لا تشبه الذوات، ولا نسأل عن كيفيتها، فكذلك نثبت له الصفات على الوجه اللائق بكماله وجلاله دون أن نسأل عن الكيفية ودون أن يحصل تشبيه، ودون أن يحصل تنزيه يؤدي إلى التعطيل، وإنما هو تنزيه مع الإثبات الذي يكون مطابقاً لما جاء في قول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
وإذا كانت الذات لا يعلم كنهها، فلا يعلم كيفية نزولها، والله عز وجل فوق العرش، وينزل كما يليق به، ومعلوم أن المخلوقات لا تحوي الله عز وجل، وأنه لا يكون حالاً في المخلوقات، ولا تكون المخلوقات حالة فيه، وإنما نثبت كل ما جاء في الكتاب والسنة على ما يليق بالله، دون أن نبحث عن الكنه والكيفية.
ذكر عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال لشاب عندما سمعه يتكلم في ذات الله وصفاته ويشبهها: صف لي طائراً بثلاثة أجنحة، كيف ركب الثالث؟ فسكت الشاب.
فقال له: كيف بخلقٍ من خلق الله وهو جبريل له ستمائة جناح، كيف ركبت؟ فسكت الشاب، فقال ابن مهدي: كيف تتكلم في ذات الله؟ قيل: فتاب الشاب من التشبيه! وهذا الأثر رواه اللالكائي، وهو مثال طيب، فإذا كان هذا مخلوق من مخلوقات الله عز وجل، جاء وصفه بأن له هذه الأجنحة، ومع ذلك لا يعرف الإنسان كيف ركبت؛ لأنه لا يعرف ذات الملك حتى يعرف اتصافه بتلك الصفة، والله عز وجل أخفى عن الناس الملائكة وكيفيتهم، وإذا رأوهم فإنما يرونهم بصورة البشر، كما جاءوا إلى إبراهيم وإلى لوط، وجاء جبريل إلى مريم، وجاء إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام بصورة رجل من أصحابه، وبصورة رجل غير معروف، ورآه النبي صلى الله عليه وسلم على الكيفية التي خلقه الله عليها، وله ستمائة جناح قد سد الأفق، وقد رآه فوق السماوات عندما عرج به إلى السماء صلى الله عليه وسلم؛ فإذا كان هذا في مخلوق من مخلوقات الله، فالواجب أن يسكت عن التفكير في كيفية ذات الله سبحانه وتعالى.(535/5)
تراجم رجال إسناد حديث (ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا)
قوله: [حدثنا القعنبي].
عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة فقيه، وهو من صغار التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة بن عبد الرحمن].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عبد الله الأغر].
هو سلمان الأغر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، وقد مر ذكره.(535/6)
الأسئلة(535/7)
تسمية يد الله الأخرى باليسرى
السؤال
هل تصح تسمية اليد الأخرى لله سبحانه باليسرى أو بالشمال؟
الجواب
جاء في صحيح مسلم تسميتها بالشمال، قال: (ويأخذ الأرضين بشماله) فلا يمنع من ذلك؛ لأن كونها شمالاً قد جاء به الحديث، ولا يعني أن فيها نقصاً عن اليمين، بل الأمر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلتا يديه يمين) أي: كل منهما في غاية الكمال، وليست إحداهما أكمل من الأخرى كما في المخلوقين، حيث تكون اليد اليمنى أكمل من الأخرى.(535/8)
مكان الناس يوم تطوى السماوات والأرض
السؤال
أشكل عليَّ في حديث: (أن الله يطوي السماوات يوم القيامة، ويطوي الأرضين) أين يكون الخلق من الإنس والجن والملائكة في ذلك الوقت؟
الجواب
الله على كل شيء قدير، فهم حيث شاء الله عز وجل أن يكونوا.(535/9)
الجمع بين النزول والاستواء على العرش
السؤال
يقول أهل الأهواء: إذا تحقق النزول إلى سماء الدنيا، كيف يتحقق الاستواء على العرش، فهل العرش سيكون خالياً؟
الجواب
الله عز وجل فوق العرش، فهو مستوٍ على عرشه وفوق خلقه، وذاته لا نعرف كيفيتها، فلا نعرف كيفية استوائه ولا نعرف كيفية نزوله، ولكن لا يقال: إنه بنزوله تحويه السماوات، فالله أعظم وأجل من أن يحويه شيء من خلقه، وإذا كانت السماوات والأرضون على ضخامتها كالخردلة أمام عظمة الله عز وجل فلا يقال: إنه يحويه شيء من مخلوقاته، والذات لا يعلم كنهها وصفاتها إلا الله، ولكن كل ما ثبت وكل ما ورد يثبت ولا يبحث عن الكيفية، ولا يقال: إن العرش يخلو منه إذا نزل، بل الله فوق العرش وينزل.(535/10)
هل يستمر النزول لله بانتقال ثلث الليل الآخر
السؤال
إن ثلث الليل الآخر يختلف بالنسبة من مكان إلى مكان، فهل معنى ذلك أن الله يكون دائماً في نزول؟
الجواب
ثلث الليل الآخر هو الوقت الذي يتجلى فيه الله عز وجل، وينزل فيه ويقول: من يسألني فأجيبه؟ ومعنى ذلك أن ثلث الليل الآخر في أي مكان هو الوقت الذي فيه نزول الله عز وجل، ويشرع للإنسان أن يسأل الله عز وجل، وأن يستغفره، ولا يقال: إن هذا النزول لمكان معين، وإن الباقين لا نصيب لهم؛ لأن كلاً عنده ليل ونهار، وعنده آخر الليل، ومن استراح في نومه وفي ليله، فإنه يقوم في ثلثه الآخر، وهو الوقت الذي ينزل الله عز وجل فيه، ويقول: من يسألني فأجيبه؟ من يستغفرني فأغفر له؟(535/11)
معنى انتهاء البصر في حديث (حجابه النور)
السؤال
جاء في الحديث: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) فهل يعني هذا أن هناك من خلقه من لا يصل إليه هذا البصر؟
الجواب
ليس كذلك، بل معناه أن كل شيء من خلقه يذهب؛ لأن بصر الله عز وجل نافذ في كل شيء، ولا يغيب عنه شيء، وهذا بيان أن الحجاب من النور لو كشف لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، وليس معنى ذلك أن هناك شيئاً يحجب عن الله، وأن الله تعالى لا يراه، فإن الله تعالى يرى كل شيء، ويسمع كل شيء، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.(535/12)
معنى الدعاء بلذة النظر إلى وجه الله من غير مضرة
السؤال
ما معنى هذا الدعاء: (اللهم ارزقني لذة النظر إلى وجهك الكريم، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة)؟
الجواب
يعني ألا يحصل له ضر أو مضرة ولا فتنة مضلة في الدنيا تكون سبباً في المنع من الوصول إلى هذه النعمة العظيمة، وهي لذة النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى، فيسأل الإنسان لذة النظر؛ لأن لذة النظر هي أكبر نعيم يكون لأهل دار النعيم، (من غير ضراء مضرة) يعني في الحياة الدنيا، (ولا فتنة مضلة) تكون سبباً في عدم الوصول إلى هذه النعمة كما ذكرنا.(535/13)
السيد من أسماء الله
السؤال
هل السيد اسم من أسماء الله؟
الجواب
نعم هو من أسماء الله، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (السيد الله).(535/14)
رؤية الله في عرصات القيامة
السؤال
هل يرى الخلق ربهم يوم القيامة؟
الجواب
اختلف العلماء في الرؤية على ثلاثة أقوال: منهم من قال: إنه في العرصات يراه المؤمنون والكافرون والمنافقون.
ومنهم من قال: يراه المنافقون والمؤمنون دون الكافرين.
ومنهم من قال: يراه المؤمنون دون الكافرين والمنافقين.
فهي ثلاثة أقوال، وقد ذكرها ابن القيم في حادي الأرواح، ورجح أن الكل يراه، ولكن هذه الرؤية ليس فيها تنعم، وإنما فيها من يتنعم وفيها من يتضرر، فهي مثل الكلام، فالكلام من الله يكون فيه تنعم، ويكون فيه توبيخ وتقريع، قال الله عز جل: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، فإن قوله: {اخْسَئُوا فِيهَا} [المؤمنون:108] كلام سمعوه، ومع ذلك ما تلذذوا به ولا استفادوا، وإنما أنبوا وقرعوا، وتكليمه للمؤمنين فيه مسرة ولذة، فكذلك رؤيته تعالى.(535/15)
شرح سنن أبي داود [536]
القرآن كلام الله، والكلام صفة من صفاته، فهو يتكلم متى شاء وكيف شاء بحرف وصوت يسمعه من يشاء، ولا يجوز أن يقال: إنه مخلوق، وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على أن القرآن الكريم كلام الله تعالى.(536/1)
القرآن كلام الله(536/2)
شرح حديث جابر في إثبات صفة الكلام
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في القرآن.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا إسرائيل حدثنا عثمان بن المغيرة عن سالم عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس في الموقف، فقال: (ألا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي)].
القرآن هو من كلام الله عز وجل، وكلام الله عز وجل لا ينحصر ولا يتناهى؛ لأن الله عز وجل لا بداية له فلا بداية لكلامه، ولا نهاية له فلا نهاية لكلامه.
وقد جاء في القرآن ما يبين ذلك في آيتين من سورة الكهف وسورة لقمان، ففي سورة الكهف قوله الله عز وجل: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109]، وفي سورة لقمان: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27].
فهاتان الآيتان تدلان على أن كلام الله تعالى لا يتناهى ولا ينحصر؛ لأن المتكلم لا بداية له ولا نهاية له فإذاً لا حصر لكلامه، وقد أوضح الله عز وجل في هاتين الآيتين ما يبين عدم تناهي كلامه، بكون البحور الزاخرة والمحيطات الواسعة لو أنها كانت حِبراً ومداداً يكتب به كلام الله، ثم ضوعفت أضعافاً مضاعفة؛ فإن ذلك المداد سينفد وينتهي دون أن تنتهي كلمات الله، فقوله: ((قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي)) أي: مداداً يكتب به، ((لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ)) يعني: ولا تنفد، لأن كلام الله عز وجل لا ينفد، ((وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا))، والآية الثانية: ((وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ)) يعني: يضاعفه أضعافاً مضاعفة، ((مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ)) يعني: لو كتب كلام الله عز وجل بهذه البحور المضاعفة والأقلام، ما نفدت كلمات الله، ونفدت الأقلام والبحور! والقرآن هو من كلامه، والكتب التي أنزلها على المرسلين هي من كلامه، والقرآن من أوله إلى آخره -من الفاتحة إلى الناس- يكتب بمحبرة صغيرة، لكن البحور كلها لو كانت حبراً لنفدت ولا ينفد كلام الله عز وجل؛ لأنه لا حصر له ولا نهاية.
ثم إن الله عز وجل متكلم بلا بداية، لم يكن غير متكلم ثم تكلم، بل كلامه متعلق بمشيئته وإرادته، فهو يتكلم إذا شاء، متى شاء، كيف شاء، يقول العلماء: إن كلام الله قديم النوع حادث الآحاد، بمعنى أنه متكلم في الأزل بلا ابتداء، ولكن لا يقال إن كلامه كله في الأزل، وإنه لا يتعلق بالمشيئة والإرادة، بل هو متعلق بالمشيئة والإرادة، والله عز وجل كلم موسى في زمانه، وقد سمع موسى كلام الله من الله، فطمع في الرؤية فسألها، وأخبر بأنها لا تحصل في الحياة الدنيا، ولهذا يقال له: كليم الرحمن، والله عز وجل يقول: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164].
وكلم الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء في زمانه، ويكلم الله أهل الجنة إذا دخلوا الجنة، فإذاً كلامه لموسى هو من آحاد كلامه الذي لا حصر له ولا نهاية، وكلامه لمحمد صلى الله عليه وسلم هو من آحاد كلامه.
ومعنى حادث الآحاد أنه يحصل وفقاً لمشيئته وإرادته في أي زمن.
وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، فهم يثبتون أن الله تعالى يتكلم، وكلامه الألفاظ والمعاني، ليس كلام الله الألفاظ دون المعاني، ولا المعاني دون الألفاظ، بل هو مجموع الأمرين؛ ولهذا فالقرآن معجز بلفظه ومعناه.
ولا يقال: إنه مخلوق خلقه الله في مكان وخرج من ذلك المكان كما تقول المعتزلة، بل الكلام بدأ من الله وظهر من الله، وقد سمعه جبريل من الله عز وجل، وسمعه موسى من الله عز وجل، وسمعه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الله عز وجل، وأهل الجنة يسمعون كلام الله عز جل إذا دخلوا الجنة.
والقرآن يطلق ويراد به القرآن المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويطلق ويراد به القراءة، كما في قول الله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18] أي اتبع قراءته، يعني: إذا قرأه جبريل عليك فاستمع، و {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة:16]، فإنه سيكون محفوظاً عندك، ولن يفوتك منه شيء، فما عليك إلا أن تصغي وتسمع ولا تحرك لسانك به استعجالاً من أجل أن تحفظه، فكان عليه الصلاة والسلام بعد ذلك ينصت إلى جبريل عندما يلقي عليه القرآن، ثم يكون قد حفظه، ولم يفته منه شيء.
وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم) أي: زينوا القراءة بأصواتكم، لأن هذا هو الذي يملكه الناس، وهو تحسين الصوت، ومن المعلوم أن الصوت فعل القارئ والكلام كلام البارئ، فإذا قرأ الإنسان من القرآن، فهناك ملفوظ وهناك تلفظ، فالملفوظ هو كلام الله عز وجل وهو غير مخلوق، والتلفظ هو فعل العبد وكسبه وقراءته وفعله وهو المخلوق؛ لأن حركات الإنسان في القراءة مخلوقة، لأنها فعل المخلوق، والله عز وجل خلق الخلق وخلق أفعالهم، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، فهو خالق الذوات، وخالق الصفات التي تكون بالذوات، وخالق الأفعال.
إذاً: قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (زينوا القرآن بأصواتكم) يعني زينوا القراءة، لا القرآن، فإنه في غاية الزين، وفي غاية الكمال، وفي غاية الحسن، وفي غاية الوضوح، ولكنك تزين القراءة التي هي فعلك وكسبك.
فالمعتزلة يقولون: إن الله خلق القرآن في محل وبدأ كلامه من ذلك المحل.
وأما الأشاعرة فإنهم يقولون: إن كلام الله معنى قائم بالنفس لا يسمع منه، وما يوجد في المصاحف إنما هو عبارة عن كلام الله وليس كلام الله.
وأما أهل السنة والجماعة فيقولون: القرآن المحفوظ في الصدور، والمحفوظ في السطور، أي محفوظ في المصاحف بالكتابة، هو كلام الله عز وجل لفظه ومعناه، والله تعالى تكلم به، وسمعه جبريل من الله، ونزل به على محمد رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم بلغه للناس، وقد حفظه الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
والمعتزلة استدلوا بأدلة من القرآن، وهي شبه وليست أدلة في الحقيقة، مثل قول الله عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، قالوا: والقرآن شيء فيكون مخلوقاً.
وهذا كلام باطل؛ لأن عموم كل شيء إنما هو بحسبه، فالله عز وجل خالق كل شيء مخلوق، والقرآن ليس مخلوقاً حتى يكون من جملة المخلوقات، لأن صفات الله عز وجل يقال لها شيء، وليست مخلوقة، وإنما الخلق هو نتيجة الصفة كما قال الله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]، فكن كلام، والذي يكون هو المخلوق، ورحمة الله عز وجل صفة قائمة بذاته، والجنة هي من آثار تلك الصفة وهي مخلوقة، والمطر من آثار الرحمة وهو مخلوق، فإذاً هناك صفة وهناك آثار للصفة، فالصفة قائمة بالله، ولا يصح أن يقال: مخلوقة، وأما آثارها فإنها من خلق الله سبحانه وتعالى.
أورد أبو داود رحمه الله حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله الله عز وجل كان يعرض نفسه في الموقف، أي في الحج وفي مجامع الناس، وكذلك في غير ذلك، ويقول: (ألا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي)، ومحل الشاهد أنه قال: (كلام ربي) الذي هو القرآن، فالقرآن هو من كلام الله عز وجل، فهو يريد أن يبلغه وقريش قد منعته من تبليغه.
وأبو داود رحمه الله أورد بعض الأحاديث التي فيها إضافة الكلام إلى الله، والأصل في الإضافة الحقيقة، وليس المجاز.
وقد قام عليه الصلاة والسلام وهو بمكة بتبليغ ما أمر به من التبليغ، وأوذي أشد الإيذاء، ولكن الله عز وجل شاء أن يبقى في مكة، وأن يكون انتقاله من مكة إلى المدينة، وكان قد عرض عليه أحد الدوسيين قوم أبي هريرة، وهو الطفيل أن يذهب معه إلى بلاده، وذكر له أن منعة وعندهم قوة، وأنهم سيقومون بنصرته وتأييده، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمره بأن يقوم بالدعوة في بلده، وذلك لأن الله تعالى شاء أن تكون هجرته من مكة إلى المدينة، وأن يكون انتقاله إلى المدينة، وليس إلى بلد آخر.(536/3)
تراجم رجال إسناد حديث جابر في إثبات صفة الكلام
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا عن إسرائيل].
هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عثمان بن المغيرة].
ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن سالم].
سالم بن عبد الله بن عمر، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنه، صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(536/4)
شرح حديث عائشة في إثبات صفة الكلام
قال المصنف رحمه الله تعال: [حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله عن حديث عائشة رضي الله عنها، وكلٌّ حدثني طائفة من الحديث قالت: ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يتلى].
أورد أبو داود حديث عائشة، وهو قطعة من حديث طويل في قصة الإفك، فاختصره أبو داود هنا وأشار إلى طوله وإلى كثرته بالرواة الأربعة الذين رووه عن عائشة وأن كل واحد عنده ما ليس عند الآخر، وكلٌّ حدَّث بطائفة منه، ولم يميز الزهري كلام هذا من هذا، ولكن كلهم ثقات، وكلهم خرَّج لهم أصحاب الكتب الستة.
وقد أتى أبو داود بالعبارة التي هي محل الشاهد من ذلك الحديث الطويل، وهو قول عائشة: ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يتلى؛ لأن قولها: (يتكلم الله) إشارة إلى آيات الإفك التي جاءت في سورة النور، فإنها كلام الله عز وجل.
وعبرت بقولها: (يتكلم الله فيّ) أي بهذا الذي نزل على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكلام الذي فيه براءتها، وكانت رضي الله عنها قد قالت: وكنت أتمنى أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه رؤيا يبرئني الله بها، أي: لأن رؤيا الأنبياء وحي.
وقد استعظمت أو استكثرت على نفسها أن الله تعالى يتكلم فيها بكلام يتلى، ولكن نزل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11]، إلى آخر العشر الآيات، وإنما كانت ترجو وتتمنى أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه رؤيا يبرئها الله بها، وهذا من تواضعها، كما هو شأن أولياء الله، حيث يحصل لهم الكمال ومع ذلك يتواضعون لله عز وجل، ولهذا فإن ابن القيم رحمه الله في كتابه ((جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام)) ترجم عند ذكر الآل لأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، فترجم لكل واحدة بترجمة مختصرة، وأشار إلى شيء من فضائلها ومناقبها، وكان مما ذكره من ترجمة عائشة أن أشار إلى تواضعها لله عز وجل وأنها قالت هذا الكلام الذي ذكره أبو داود، وقال: أين هذا من بعض الناس يصوم يوماً في الشهر، ثم يقول: أنا كذا وأنا كذا، أو يصلي ركعتين في الليل ويقول: أنا كذا وأنا كذا، يستعظم عمله ويستكثره، وهي تقول هذه المقالة رضي الله عنها لما أكرمها الله عز وجل بنزول براءتها بآيات تتلى من كتاب الله.
فأولياء الله عز وجل أعطاهم الله تعالى الكمال وأعطاهم ما أعطاهم من الرفعة والمنزلة، ولم يزدهم ذلك إلا تواضعاً لله عز وجل، كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، وهم مع إحسانهم ومع ما أكرمهم الله عز وجل به من توفيق إلى الخير يخشون الله عز وجل، ويرون أن ما عملوه من أعمال لا يعتبر شيئاً، كما جاء عن الفاروق رضي الله عنه لما طعن وكان في مرض موته، وجاءه والناس يزورونه، فجاء إليه شاب، وأثنى عليه وقال: هنيئاً لك يا أمير المؤمنين، صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، وولي أبو بكر من بعده فقمت معه، وكنت سنده وعضده، ثم وليت الخلافة وحصل منك كذا وكذا، ثم شهادة في سبيل الله! فقال عمر رضي الله عنه: وددت أن أنجو كفافاً لا عليَّ ولا لي! ثم إن هذا الغلام لما ولى فإذا ثوبه يمس الأرض، فقال: ردوا عليَّ الغلام، ثم قال له: ارفع ثوبك يا ابن أخي! فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك! فهو على ما فيه من شدة الوجع لم يمنعه ذلك من أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وفي أمرٍ من الأمور التي يقول بعض الناس الذين لم يوفقوا فيما يقولون: إن الشريعة لباب وقشور، وهذا من القشور.
ونحن نقول: كلها لباب وليس فيها قشور، ولكنها متفاوتة، فليست الأحكام واحدة، وليست متساوية، لكن لا يجوز أن يوصف شيء منها بأنه قشور، وتقسيمها إلى لباب وقشور من الكلام السيئ، ومن الكلام القبيح!(536/5)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة في إثبات صفة الكلام
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
سليمان بن داود المهري المصري وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
[أخبرنا عبد الله بن وهب].
عبد الله بن وهب المصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس بن يزيد].
يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: أخبرني عروة بن الزبير].
عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وسعيد بن المسيب].
وهو أيضاً أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعلقمة بن وقاص].
علقمة بن وقاص الليثي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعبيد الله بن عبد الله].
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الثقفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وقد جاء في هذا الإسناد ثلاثة من الفقهاء السبعة المشهورين في عصر التابعين: عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أما علقمة بن وقاص الليثي فهو ثقة، وهو الذي روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حديث: (إنما الأعمال بالنيات)، وقد تفرد بروايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر، وتفرد بروايته عن عمر علقمة بن وقاص الليثي، وهو من كبار التابعين، وتفرد به عن علقمة محمد بن إبراهيم التيمي وهو من أوساط التابعين، وتفرد به عن محمد بن إبراهيم التيمي يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو من صغار التابعين، ثم انتشر بعد يحيى بن سعيد الأنصاري حتى بلغ الذين رووه عنه سبعين راوياً أو ما يقرب من السبعين.
[عن حديث عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وأبو سعيد، وأنس، وجابر، وأم المؤمنين عائشة، ستة رجال وامرأة واحدة، رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين.(536/6)
شرح حديث عامر بن شهر في إثبات صفة الكلام
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسماعيل بن عمر أخبرنا إبراهيم بن موسى أخبرنا ابن أبي زائدة عن مجالد عن عامر -يعني الشعبي - عن عامر بن شهر قال: كنت عند النجاشي فقرأ ابن له آية من الإنجيل، فضحكت، فقال: أتضحك من كلام الله؟!].
هذا يعتبر أثراً لأنه ليس فيه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما هو كلام النجاشي، والمقصود منه أن الكلام إذا أضيف إلى الله عز وجل فالمقصود به كلامه الذي تكلم به، ومنه التوراة والإنجيل والزبور، وصحف إبراهيم وموسى، فالكتب التي أنزلها الله هي من جملة كلامه، وكلام الله كما عرفنا لا ينحصر ولا ينتهي.
ومحل الشاهد من هذا أنه قال: أتضحك من كلام الله؟! فهذا أثر من النجاشي أضاف فيه الإنجيل إلى الله.(536/7)
تراجم رجال إسناد حديث عامر بن شهر في إثبات صفة الكلام
قوله: [حدثنا إسماعيل بن عمر].
إسماعيل بن عمر مقبول، أخرج له أبو داود.
[أخبرنا إبراهيم بن موسى].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن أبي زائدة].
يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجالد].
مجالد بن سعيد، وهو ليس بالقوي، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عامر -يعني الشعبي -].
وهو عامر بن شراحيل الشعبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عامر بن شهر].
عامر بن شهر رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج له أبو داود.
والشيخ الألباني صحح هذا الأثر؛ لكن الإسناد فيه إسماعيل بن عمر الذي هو مقبول، وفيه مجالد وهو ليس بالقوي.(536/8)
شرح حديث تعويذ الحسنين بكلمات الله التامة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين: (أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة، ثم يقول: كان أبوكم يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق).
قال أبو داود: هذا دليل على أن القرآن ليس بمخلوق].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ الحسن والحسين فيقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة، ثم يقول: كان أبوكم يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق)، ثم قال أبو داود: [هذا دليل على أن القرآن ليس بمخلوق].
ومحل الشاهد من هذا أنه قال: (أعيذكما بكلمات الله التامة)، ومن المعلوم أنه لا يستعاذ بمخلوق؛ لأن الاستعاذة إنما تكون بالخالق بذاته وصفاته، وأما المخلوق فلا يستعاذ به، فكونه استعاذ بالكلمات يدل على أن كلام الله غير مخلوق، وأن القرآن ليس مخلوقاً لأنه من جملة الكلام، ثم إن الاستعاذة عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى.
قوله: (أعيذكما بكلمات الله) كلمات الله تكون كونية وتكون شرعية، وكلمات الله الكونية هي ما قدَّره الله تعالى وقضاه ولابد أن يحصل، وكلمات الله الشرعية منها القرآن الذي أنزله الله على رسوله الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهنا نعلم أن القرآن ليس بمخلوق؛ لأن القرآن من كلمات الله وكلمات الله غير مخلوقة.
وقوله: (بكلمات الله التامة) جاء في القرآن قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] فهي صدق في الأخبار وعدل في الأوامر والنواهي والأحكام، فكل خبر جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فهو صدق وحق، فيجب أن تمتثل الأوامر وتجتنب النواهي.
قوله: (ومن كل شيطان وهامة).
يعني أي شيطان وهامة، والمقصود بالهامة ذوات السموم، مثل العقارب والحيات التي فيها شدة الإيذاء، وقد يحصل الموت بسبب سمها.
قوله: [(ومن كل عين لامة)].
فسر بأنه يراد بذلك ما يحصل من العين بسبب الحسد الذي يكون من بعض الناس، حيث يحسد فإذا وقعت عينه على شيء جعل الله عز وجل فيها من الشر والضرر ما ينتقل إلى المحسود، فيحصل له الضرر.
قوله: [(ثم يقول: كان أبوكم يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق)].
أبوكم هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهو أبو العرب؛ لأن العرب من ذرية إسماعيل، وهو يخاطب العرب بقوله: (كان أبوكم).
وإسماعيل هو ابن إبراهيم، وهو الذي منه العرب، وإسحاق بن إبراهيم هو أبو يعقوب الذي منه اليهود والنصارى، ولذلك يقال لهم: بنو إسرائيل، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
وتعويذ الأولاد بمثل هذا سنة.(536/9)
تراجم رجال إسناد حديث تعويذ الحسنين بكلمات الله التامة
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
منصور بن المعتمر الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المنهال بن عمرو].
وهو صدوق، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن سعيد بن جبير].
وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(536/10)
شرح حديث ابن مسعود في إثبات صفة الكلام
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن أبي سريج الرازي وعلي بن الحسين بن إبراهيم وعلي بن مسلم قالوا: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله قال: قال رسول الله عليه وسلم: (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، حتى إذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم، قال: فيقولون: يا جبريل! ماذا قال ربك؟ فيقول: الحق، فيقولون: الحق الحق)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه.
قوله: (إذا تكلم الله بالوحي).
هذا هو محل الشاهد، أي أن الوحي من كلام الله عز وجل، وأنه يتكلم به، وأنه يسمع منه، ولذلك قال: (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة).
قوله: (كجر السلسلة على الصفا).
والسلسلة هي الحلقات من الحديد المرتبط بعضها ببعض، والصفا: هو الحجر الأملس، فإنها إذا جرت على الصفا سمع لها صوت متقطع بسبب سحبها عليه، وهو يسمى الصلصلة.
قوله: (فيصعقون) أي: فيصيب أهل السماوات غشي وصعق، ولا يزالون كذلك حتى يأتي جبريل بالوحي من الله عز وجل فيفيقون ويقولون: (ماذا قال ربك؟ فيقول: الحق، فيقولون: الحق الحق) يعني: أنه قال الحق.
ومحل الشاهد من إيراد الحديث قوله: (إذا تكلم الله بالوحي)، فإن هذا فيه إضافة الكلام إلى الله عز وجل، وأنه يتكلم بالوحي، وأنه يسمعه منه جبريل وينزل به على من أرسله الله إليه؛ سواء كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو من قبله من الرسل؛ لأن جبريل هو الموكل بالوحي.(536/11)
تراجم رجال إسناد حديث ابن مسعود في إثبات صفة الكلام
قوله: [حدثنا أحمد بن أبي سريج الرازي].
وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[وعلي بن الحسين بن إبراهيم].
وهو صدوق، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[وعلي بن مسلم].
وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبو معاوية].
محمد بن حازم الضرير الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأعمش].
وهو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسلم].
مسلم بن صبيح أبو الضحى، وهو مشهور بكنيته، ومعرفة كنى المحدثين من أنواع علوم الحديث، وفائدتها ألا يظن الشخص الواحد شخصين إذا ذكر مرة باسمه ومرة بكنيته، فالذي لا يعرف أن أبا الضحى هو مسلم بن صبيح إذا جاءه أبو الضحى في إسناد، وجاءه في إسناد آخر مسلم بن صبيح يظن هذا شخصاً وهذا شخصاً.
[عن مسروق].
مسروق بن الأجدع، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله].
عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من فقهاء الصحابة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(536/12)
الأسئلة(536/13)
ما يلزم من القول بأن القرآن مخلوق
السؤال
ماذا يلزم من القول بأن القرآن مخلوق؟
الجواب
معنى ذلك أنه من جملة المخلوقات، وأنه مضاف إلى الله إضافة تشريف، لا إضافة صفة إلى موصوف؛ لأن المضاف إلى الله عز وجل نوعان: إضافة معاني وإضافة أعيان، فإضافة المعاني هي من إضافة الصفة للموصوف، وإضافة الأعيان من إضافة الخلق إلى الخالق، كعبد الله وبيت الله وناقة الله، فكلام الله من جنس عبد الله وناقة الله عند المعتزلة، أي أنه من إضافة المخلوق إلى الخالق، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون: هو من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ لأن الله عز وجل هو الخالق، وهو الرازق، وهو سبحانه بذاته وصفاته الخالق ومن سواه المخلوق، فكلامه من جملة صفاته وهي ليست مخلوقة، بل إن الخلق يكون بالكلام كما قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ} [النحل:40]، فقوله: (كن) كلام يكون به الخلق.
وهناك لوازم باطلة على قول المبتدعة: إنه مخلوق، فيلزم أن جبريل ما سمعه من الله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم ما سمعه من الله، وموسى ما سمعه من الله، والملائكة لم يسمعوه من الله، وأن الكلام الذي حصل إنما خلق في مكان وظهر من ذلك المكان، ولهذا يقولون: إن كلام الله عز وجل خلقه الله في الشجرة، وظهر الكلام من الشجرة، ولم يظهر من الله! ومعلوم أن الذي يتكلم به هو الذي قال: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، وما قالت الشجرة: إني أنا الله رب العالمين، يقول بعض أهل العلم: إذا كانت الشجرة هي التي ظهر منها الكلام، فما هي الميزة الذي تميز بها موسى؟ بل يكون الذي سمع من الملائكة أحسن ممن سمع الشجرة.(536/14)
تفسير كلمات الله بحمده
السؤال
هل يصح تفسير: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف:109] بأن المراد بكلمات الله هي حمد الله والثناء عليه؟
الجواب
لا يصح، لأن السياق يتحدث عن كلام الله عز وجل الذي بدأ منه، لا عن كلام الناس، لأن الناس -كما هو معلوم- لابد أن ينتهي كلامهم؛ لأن كل إنسان له بداية ونهاية وكلامه محصور، ولكن كلام الله عز وجل الذي هو صفة من صفاته وهو الذي لا ينحصر، وأما كونه سبحانه يمدح ويثنى عليه ويذكر ويسبح ويهلل ويكبر وغير ذلك، فلا يقال: إن هذا هو المراد؛ لأن هذا إنما هو فعل المخلوقين، والمخلوقون كلامهم محصور؛ لأن الإنسان مهما طال عمره فكلامه محصور، والخلق له بداية ونهاية، وينحصر كلام الخلق كلهم من أولهم إلى آخرهم، لكن كلام الله عز وجل لا ينتهي؛ لأنه لا بداية له ولا نهاية له، وأما الخلق فكلامهم له بداية وله نهاية، وهو مدون معروف.(536/15)
معنى كون كلام الله قديم النوع حادث الآحاد
السؤال
كيف يكون كلام الله حادثاً، بينما تقول الجهمية: إذا قلتم: حادث فهو مخلوق، فنرجو توضيح مقولة الجهمية التي جعلت الأشاعرة يقولون: إن كلام الله لا يتجزأ، وقالوا بأن القرآن عبارة عن كلام الله؟
الجواب
كلام الله عز وجل لا حصر له ولا بداية له ولا نهاية له، وهو قديم النوع حادث الآحاد، بمعنى أن الكلام الذي حصل لموسى لم يكن في الأزل، فالله يخاطب موسى فيقول: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144]، وذلك عندما جاء موسى لميقاته وسمع كلام الله من الله، أي أن هذا الكلام من الله عز وجل حصل في زمن موسى، وتكلم الله به في زمن موسى، فكلام الله صفة قائمة بنفسه، يتكلم بصوت يسمع تابع لمشيئته وإرادته، وقد سمعه موسى من الله في زمن موسى، وليس كل ما حدث يكون مخلوقاً، بل ما حدث للمخلوقات فهو مخلوق، لكن كلام الله عز وجل الذي يتعلق بمشيئته وإرادته لا يقال: إنه مخلوق، بل هو من جملة كلامه الذي لا حصر له ولا بداية له، فهو قديم النوع، لم يكن متكلماً ثم تكلم، بل هو متكلم بلا ابتداء، لكن لا يقال: إن كل كلامه مضى في الأزل، وإن الله لا يتكلم بمشيئته ولا إرادته.
وهو حادث الآحاد، فإنه كلم موسى في زمنه، وكلم محمداً صلى الله عليه وسلم في زمن محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وهو يكلم أهل الجنة إذا دخلوا الجنة.
ففرق بين صفة من صفاته متعلقة بمشيئته وإرادته، تحصل في زمان فيسمعها من أراد الله أن يسمعها، وبين خلق خلقه الله عز وجل الذي هو نتيجة للكلام بحيث يقول الله للشيء: كن، وهو كلام يظهر منه ويبدأ منه، فيكون المخلوق الذي شاءه الله عز وجل والذي أراد أن يكون بكن، كما قال الله عز وجل: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:47].
فالقول بأنه حادث الآحاد معناه أنه كلم موسى في زمانه فسمع كلام الله من الله، ولا يقال: إن كلام الله الذي سمعه موسى لم يسمعه في زمانه وإنما هو كلام أزلي.(536/16)
حكم الاستعانة بصفات الله
السؤال
وردت الاستعاذة بكلمات الله، وهي من الصفات؛ فهل يجوز الاستعانة بصفات الله كقول العامة: يا قوة الله؟
الجواب
الصفات لا تدعى ولا تنادى، فلا يقال: يا قوة الله حَقِقي لي كذا، يا يد الله أعطيني كذا، يا سمع الله حقق لي كذا، يا بصر الله حقق لي كذا، وإنما يقول: يا عزيز أعزني، يا كريم أكرمني، يا لطيف الطف بي، يا قوي قوني، وهكذا، أي: يدعى الله بأسمائه ولا تدعى الصفات ولا تخاطب ولا يطلب منها شيء، ولكن يستعاذ بكلمات الله؛ لأن الاستعاذة بكلمات الله استعاذة بالله، والاستعاذة بصفات الله استعاذة بالله.(536/17)
حكم الحلف بالقرآن
السؤال
هل يجوز القسم بالقرآن أو وضع اليد على القرآن عند القسم؟
الجواب
يجوز القسم بالقرآن؛ لأن القرآن من كلام الله، ولكن كون الإنسان يقسم بعموم الصفة ويقول: وكلام الله.
هو الأولى؛ لأن القرآن من جملة كلام الله، والتوارة من كلام الله، والإنجيل من كلام الله، فإذا قال: وكلام الله فهو أحسن، مثلما يقول: وعزة الله، وجلال الله، وسمع الله، وبصر الله، وحياة الله، وقوة الله، هذا هو الذي الذي ينبغي.
والقرآن إذا أقسم به فهو إقسام بكلام الله، ولكن لا يقسم بالمصحف؛ لأن المصحف فيه قرآن وغير قرآن، فالمصحف فيه ورق، وفيه حبر، وفيه غلاف، وهي مخلوقة، وفيه كلام الله الذي هو القرآن.(536/18)
حكم الحلف برب القرآن
السؤال
هل يصح القسم بالقول: ورب القرآن؟
الجواب
لا يجوز ذلك، لأن هناك احتمالين: احتمال أن يكون المقصود بالرب أنه الخالق، والاحتمال الآخر أن يكون المقصود بالرب الصاحب، ومن أجل الاحتمال الباطل فإنه يحلف بالله عز وجل أو يحلف بالقرآن أو يحلف بكلام الله، دون أن يقال: ورب القرآن؛ لأن فيه احتمالاً باطلاً، هذا هو الأولى.
وإذا أريد به المعنى الصحيح فإنه يترك؛ حتى لا يتوهم الباطل.
وإضافة الرب إلى الصفة مثل (رب العزة) ورد في قوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ} [الصافات:180]، فإن العزة صفة من صفات الله عز وجل، والمقصود بذلك صاحب العزة، وليس المقصود خالق الصفة التي هي صفته، فصفة الله عز وجل غير مخلوقة، أو يراد به العزة المخلوقة التي خلقها الله في الناس والتي أوجدها فيمن يكون عزيزاً في الناس.(536/19)
الرد على من يدعو إلى ترك الرد على منكري الصفات
السؤال
كيف نرد على من يقول: إن البحث في مسألة القرآن مخلوق أو غير مخلوق ونحوه من المباحث في تأويل الصفات أو إنكارها قد ذهبت ومات أصحابها، فلماذا تتحدثون عنها؟
الجواب
هذا الكلام غير صحيح، فلكل قوم وارث، فالمعتزلة لا يزالون موجودين، ويوجد من يقول الآن: القرآن مخلوق ويؤلف في ذلك، وهناك كتاب مؤلف حديثاً ومؤلفه لا زال يمشي على الأرض حياً، وهو يقول: إن القرآن مخلوق، فإذا ذهبوا فقد بقي وراثهم، ولكل قوم وارث.(536/20)
معنى قوله تعالى: (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث)
السؤال
ما هو التفسير الصحيح لقوله سبحانه: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} [الشعراء:5]؟
الجواب
الإحداث هو في نزوله، أي نزوله محدث، والله تعالى تكلم به عند إنزاله؛ لأن جبريل سمعه من الله وجاء به، فهو داخل تحت حادث الآحاد.(536/21)
حكم وصف القرآن بأنه حادث
السؤال
هل يصح أن يقال: إن القرآن حادث؛ لأن الله تكلم به في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا قبله؟
الجواب
القرآن موجود في اللوح المحفوظ؛ لكن لا يقال: إن الله تكلم به في الأزل، وإن كلام الله كله حصل في الأزل، فالله عز وجل تكلم بالقرآن وكتبه في اللوح المحفوظ، وأنزله إلى بيت العزة في السماء الدنيا كما جاء ذلك عن ابن عباس، وفي كل هذه الأمور هو كلام الله عز وجل، لكن لا يقال: إن كلام الله عز وجل كله قديم أزلي، وإنه لا يتعلق بمشيئة وإرادة، وإنه لا يتكلم إذا شاء كيف يشاء؛ لأن هذا خلاف النصوص؛ قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]، فالتكليم حصل بعد المجيء للميقات، وسمع موسى كلام الله من الله، ولهذا قال عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، وهذا الكلام الذي كلم الله به موسى قد كتب في اللوح المحفوظ من قبل؛ ولكن الكتابة لا تنافي أنه يتكلم به عند إنزاله وعند حصوله.(536/22)
حكم قول داود الظاهري القرآن محدث غير مخلوق
السؤال
جاء في ترجمة داود الظاهري في السير وطبقات الشافعية وغيرها: أن السلف نقموا عليه قوله: إن القرآن محدث، ولما حكى الذهبي في السير مذاهب الناس في القرآن، قال: وقال داود وطائفة: إن القرآن محدث ولكنه غير مخلوق.
فما مرادهم بقولهم: إن القرآن محدث؟
الجواب
لا أدري ما يضاف إلى داود، وإذا قال: إنه محدث بمعنى أن الله عز وجل تكلم به متى شاء أن يتكلم به، فهذا الكلام صحيح؛ لكن إذا قصد أنه محدث بمعنى مخلوق فلا، والظاهرية ظاهرية في الفروع، ومؤولة في الصفات، ولو عكسوا لكان خيراً لهم، أي: لو أخذوا بالظاهر وأجروا الصفات على ظاهرها على ما يليق بالله عز وجل، وأخذوا في الفروع بالقياس وألحقوا النظير بالنظير؛ لكان هذا أولى، فهذا الكلام الذي قاله الذهبي عن داود أنه قال: محدث غير مخلوق، لا أدري ما المقصود به، وهل هو كلام الذهبي نفسه أو أنه كلام الظاهرية، فإذا كان من كلام الذهبي بمعنى أنه تكلم به وأنه من الحادث ولا يوصف بأنه مخلوق؛ فهذا كلام صحيح.(536/23)
شرح سنن أبي داود [537]
من عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات الشفاعة لأهل الكبائر يوم القيامة، ولم ينكرها إلا المبتدعة من الخوارج والمعتزلة، والشفاعة لها أنواع عديدة أعظمها شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الخاصة به.
وكذلك يؤمنون بالبعث وبالصور، وبخلق الجنة والنار، وقد وردت الأحاديث النبوية دالة على ذلك.(537/1)
الشفاعة(537/2)
شرح حديث (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الشفاعة.
حدثنا سليمان بن حرب حدثنا بسطام بن حريث عن أشعث الحداني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)].
وأنكر الشفاعة لأهل الكبائر المعتزلة والخوارج فقالوا: إنهم مخلدون في النار، والأحاديث ترد عليهم.
الشفاعة في الأصل هي: طلب شخص من آخر أن يشفع له في تحصيل خير، وذلك أن الشافع يضم صوته إلى طالب الحق فيكونان شفعاً بعد أن كان الطالب مفرداً، ويكون طلبه قد عزز وأيد وسوعد في الوصول إلى ما يريد.
وهي: طلب الخير للغير، حيث يطلب إنسان من غيره أن يطلب خيراً له، فيفعل.
والشفاعة شفاعتان: شفاعة محمودة، وشفاعة مذمومة.
فالشفاعة المحمودة هي التي تكون في الدنيا بطلب الإنسان فيما يقدر عليه، ليحصل خيراً دنيوياً أو أخروياً.
وفي الآخرة بالطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يشفع في الموقف، أو في الخروج من النار، أو في دخول الجنة، أو في غير ذلك من أنواع الشفاعة، وهي تحصل من النبي صلى الله عليه وسلم وغيره بالنسبة للخروج من النار، وأما بالنسبة لفصل القضاء فهي خاصة به صلى الله عليه وسلم.
وأما الشفاعة المذمومة المحرمة فهي مثل ما يطلبه الكفار من آلهتهم، وما يطلب من غير الله عز وجل مما لا يجوز الطلب منه، كالطلب من الأموات بأن يشفعوا.
والشفاعة لها أنواع عديدة: منها الشفاعة العظمى: وهي من خصائص نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فإنه اختص بها، وذلك أن الناس إذا كانوا في الموقف ماج بعضهم في بعض، فيبحثون عمن يشفع لهم إلى ربهم، ليأتي لفصل القضاء بينهم، فيأتون آدم عليه الصلاة والسلام ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم يطلبوها من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
والشفعاء الذين قبل نبينا محمد عليه الصلاة والسلام يعتذرون، وكل واحد يحيلهم إلى من بعده، فإذا وصلت إلى عيسى اعتذر وأحال إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فيتقدم ويشفع، ويشفعه الله عز وجل، ويأتي لفصل القضاء بين عباده ويحاسب الناس، ويذهبون إلى منازلهم من الجنة أو النار.
وهذه الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود، وهي عامة للبشر كلهم من أولهم إلى آخرهم، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الدال عليها: (أنا سيد الناس يوم القيامة)، ثم بين السبب في ذلك وذكر هذه الشفاعة.
وإنما كان سيدهم وخص يوم القيامة بذكر السيادة؛ لأنه يظهر في ذلك اليوم سؤدده على الجميع، حيث يشفع للجميع، ويستفيد الجميع من شفاعته من لدن آدم إلى الذين قامت عليهم الساعة، ولهذا يقال لها المقام المحمود؛ لأنه مقام يحمده عليه الأولون والآخرون، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وأيضاً من شفاعاته صلى الله عليه وسلم التي اختص بها: شفاعته في عمه أبي طالب في أن يخفف عنه العذاب، فصار أخف أهل النار عذاباً، وهو يرى أنه ليس هناك أحد أشد منه، وذلك أنه خفف عنه العذاب فكان في ضحضاح من نار، أو له نعلان من نار يغلي منهما دماغه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم شفع له فخفف عنه العذاب فصار في ضحضاح من نار، ولولا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لكان في الدرك الأسفل من النار مع الكفار الذين هم أمثاله.
وقد قال الله عز وجل: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] أي: الكفار، وهذا الحديث يدل على حصول النفع لـ أبي طالب، ولكن هذه شفاعة خاصة تستثنى من هذا النفي في قوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48].
ثم إن النفع الذي استثنى من هذه الآية إنما هو في التخفيف، وأما الإخراج فإنها باقية على عمومها فلا يخرج كافر من النار ويدخل الجنة، بل الكفار باقون في النار أبد الآباد، ولكنها نفعت في التخفيف.
فإذاً يكون الجمع بين ما ورد في القرآن من قوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] وبين ما جاء من شفاعته لـ أبي طالب أن هذه شفاعة خاصة أخرجت من ذلك العام، ولكن بالنسبة للتخفيف وليس للإخراج.
والأوضح أن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي طالب تكون مخصصة لقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36]، فإن هذه دالة على أن الكفار لا يخفف عنهم من عذابها، وقد جاءت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أبي طالب ودلت على حصول التخفيف، وتكون تلك الآية عامة وهذا الحديث مخصصاً.
ثم إن هناك شفاعة ثالثة: وهي الشفاعة بالخروج من النار لمن دخلها من المؤمنين: وهذه تكون من النبي صلى الله عليه وسلم ومن غيره، وليست خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن قد أعطي كل نبي دعوة مستجابة كما جاء في الحديث، وكل نبي دعا بها، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ادخرها لتكون شفاعة لأمته يوم القيامة، وذلك بالإخراج من النار.
وقد وردت الأحاديث الكثيرة المتواترة في خروج أهل الكبائر من النار، وأنهم يبقون فيها ما شاء الله أن يبقوا، ثم يخرجون بشفاعة الشافعين، ولو شاء الله أن يعفو عنهم فلا يدخلوها فإنهم لا يدخلونها، ولكن من دخلها فإنه لا يخلد فيها وإنما يخرج منها بعد ما يمضي عليه الفترة التي شاء الله أن يمضيها فيها.
وما جاء في بعض الآيات والأحاديث من التخليد لأصحاب الكبائر، مثلما جاء في ذكر الخلود في حق من قتل عمداً، وكذلك الحديث الذي ثبت في الصحيح أن من قتل نفسه بحديدة فإنه يجأ نفسه بتلك الحديدة خالداً مخلدً في نار جهنم أبداً، ومن تردى من شاهق فإنه يكون كذلك في نار جهنم، ومن قتل نفسه بسم فهو يتحسى ذلك السم خالداً مخلداً في جهنم كذلك، فإن ما جاء من ذلك يحمل على الخلود النسبي؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
فكل ذنب دون الشرك هو تحت مشيئة الله إن شاء عفا عن صاحبه فلم يدخله النار، بل يدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء أدخله النار وعذبه فيها، ولكنه لابد من أن يخرج منها بعد أن يطهر وبعد أن يعذب على الجرم الذي حصل منه، وهو المعصية التي أدخله الله تعالى بها النار.
فهذه هي طريقة أهل السنة والجماعة في أصحاب الكبائر.
وأهل السنة يقولون عن أهل الكبائر: إنهم مؤمنون ناقصو الإيمان، فلا يعطونهم الإيمان الكامل ولا يسلبون عنهم مطلق الإيمان، هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فهو ما ذكرناه.
وهناك شفاعة رابعة: وهي الشفاعة لمن استحق النار أن لا يدخلها، وقد ذكر ابن القيم في تعليقه على تهذيب السنن للمنذري أنه لم يجد نصاً يدل على هذه الشفاعة.
وهي معروفة عند أهل العلم يذكرونها من جملة الشفاعات، وقد ذكر بعض أهل العلم دليلاً عليها، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم على الصراط: (اللهم سلم سلم) فإن هذه شفاعة بأن يسلم من استحق النار من دخولها؛ لأنه إذا لم يسلم فإنه يقع في النار؛ لأن الناس يمرون على الصراط في طريقهم إلى الجنة فمن كان من أهل النار وقع فيها، ومن نجاه الله عز وجل تجاوزها بسرعة أو ببطء على حسب ما جاء في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأنه على قدر الأعمال، فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالخيل، ومنهم من يزحف زحفاً، وهكذا.
وهناك شفاعة خامسة: وهي الشفاعة في استفتاح الجنة، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أول الأمم دخولاً إلى الجنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (وأنا أول شافع وأول مشفع)، فهو أول من يتقدم للشفاعة، وأول من يشفعه الله عز وجل بعد التقدم للشفاعة.
ومن أنواع الشفاعة: الشفاعة في رفع الدرجات في الجنة، من درجة أدنى إلى درجة أعلى.
وقد ذكر الله عز وجل في القرآن أن الذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان فإن الله تعالى يلحق بهم ذريتهم ويرفعهم إلى درجاتهم وإلى منازلهم بحيث يكونون مع من هو أعلى درجة.
وكما في زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنهن يرفعن معه في درجته؛ لأنهن زوجاته في الدنيا والآخرة رضي الله عنهن وأرضاهن.
والحاصل أن من كان في درجة في الجنة أنزل فإن الله تعالى يرفعه إلى درجة أعلى.
فهذه جملة من أنواع الشفاعة التي ذكرها العلماء.
ذكر أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته فيخرجون من النار إذا دخلوها، وقد ذكرت أن الأحاديث كثيرة متواترة في ذلك، ومنها الحديث الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل نبي دعوة مستجابة دعا بها على قومه، وإنني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة).
فقوله صلى الله عليه وسلم هنا في حديث أنس (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) معناه: أنها تحصل لهم يوم القيامة وأنه يشفع.
ومن المعلوم أن الشفاعة تكون بأمرين: بإذن الله للشافع أن يشفع، وبرضاه عن المشفوع، كما قال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26].(537/3)
تراجم رجال إسناد حديث (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
هو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا بسطام بن حريث].
وهو ثقة أخرج له أبو داود.
[عن أشعث الحداني].
أشعث بن عبد الله الحداني، وهو صدوق أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد من أعلى الأسانيد عند أبي داود؛ لأنه رباعي.(537/4)
شرح حديث الشفاعة للجهنميين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن الحسن بن ذكوان حدثنا أبو رجاء حدثني عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيدخلون الجنة، ويسمون الجهنميين)].
أورد أبو داود حديث عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميين)، أي: أنهم كانوا في جهنم أو جاءوا من جهنم، وهذا ليس ذماً لهم، وإنما نسبوا إليها؛ لأنهم كانوا فيها ثم خرجوا منها، فيكون هذا الذي حصل لهم نعمة عظيمة ومنة كبيرة، حيث انتقلوا من العذاب الذي في جهنم إلى النعيم الذي في الجنة.
وهذا الحديث من أدلة شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، كما يخرجون بشفاعة الشافعين الذين هم غير النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الشفاعة ليست من خصائصه صلى الله عليه وسلم.(537/5)
تراجم رجال إسناد حديث الشفاعة للجهنميين
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري، ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد القطان البصري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن بن ذكوان].
وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا أبو رجاء].
أبو رجاء العطاردي، وهو عمران بن ملحان، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عمران بن حصين].
عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي كنيته أبو نجيد، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(537/6)
شرح حديث (إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه: (أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون)، وهذا ليس بواضح في الشفاعة؛ لأنه ليس فيه شيء يدل على الشفاعة، ولكنه كما قال بعض أهل العلم: إن من خرج من النار بالشفاعة فإنه يدخل الجنة.
والحديث إخبار عمن دخل الجنة من أول وهلة، ولم يكن هناك شفاعة، وقد يكون دخلها بعد أن عذب في النار، وقد حصلت له شفاعة، فإذا كان في الذين خرجوا من النار ودخلوا الجنة، فإنهم يكونون قد تنعموا في الجنة بعد أن عذبوا في النار، مثلما جاء الحديث الذي قبل هذا: أنهم يسمون الجهنميين؛ لأنهم خرجوا من النار وقد عذبوا فيها.(537/7)
تراجم رجال إسناد حديث (إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة أخرج له البخاري وأصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
وهو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سفيان].
وهو طلحة بن نافع وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(537/8)
ذكر البعث والصور(537/9)
شرح حديث عبد الله بن عمرو (الصور قرن ينفخ فيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ذكر البعث والصور.
حدثنا مسدد حدثنا معتمر قال: سمعت أبي قال: حدثنا أسلم عن بشر بن شغاف عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله وسلم قال: (الصور قرن ينفخ فيه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: باب في البعث والصور.
والبعث هو: إخراج الناس من القبور، وانتقالهم من حياة البرزخ إلى الحياة الباقية؛ لأن الدور ثلاث: دار الدنيا، ودار الآخرة، والبرزخ الذي بين الموت وبين البعث، فهو من ناحية الجزاء تابع للآخرة؛ لأن ما بعد الموت كله جزاء والعمل ينتهي بالموت.
وأما من ناحية الحياة في البرزخ فإنها تختلف عن حياة الآخرة وتختلف عن حياة الدنيا، وهي حياة حقيقية لا يعلمها إلا الله عز وجل.
وقد مر في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم، وأول من ينشق عليه القبر)، يعني: فأول قبر ينشق عن صاحبه قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأول الناس خروجاً من قبره نبينا محمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فإذاً هذا هو البعث.
والبعث يكون بالنفخ في الصور، والصور قرن ينفخ فيه كما جاء في هذا الحديث، فبالنفخة الأولى يحصل الموت، ثم بالنفخة الثانية يحصل البعث: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، فهناك نفخة الموت ونفخة البعث، وهناك نفخة الفزع التي ستكون قبل ذلك، وهي التي تكون في نهاية الدنيا، حيث يصغي الإنسان ليتاً ويرفع ليتاً، أي: يذهل ويستمع، ثم تأتي النفخة التي هي نفخة الموت، وبعد ذلك تأتي النفخة التي هي نفخة البعث ونفخة الحياة.
وعندما يحصل النفخ في الصور مرة ثانية يقوم كل من كان ميتاً من أول الدنيا إلى آخرها، ويخرج من قبره إذا كان مقبوراً، ويأتي من الأماكن التي صار فيها إذا لم يقبر، وذلك فيما إذا أكلته الحيتان أو احترق أو تقطع وتمزق في الماء، وغير ذلك من الأحوال التي هي غير الدفن في القبور، فإن الناس يبعثون، وكل منهم تعود أجزاء جسده إلى ما كانت عليه، ويخرج إلى الحياة الباقية التي تكون بعد البعث، ثم بعد ذلك في الجنة أو في النار.(537/10)
تراجم رجال إسناد حديث عبد الله بن عمرو (الصور قرن ينفخ فيه)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد مر ذكره.
[حدثنا معتمر].
معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت أبي].
سليمان بن طرخان، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أسلم].
أسلم وهو أسلم العجلي ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن بشر بن شغاف].
وهو ثقة أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عبد الله بن عمرو].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، صحابي ابن صحابي، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين.(537/11)
شرح حديث (كل ابن آدم تأكل الأرض إلا عجب الذنب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل ابن آدم تأكل الأرض إلا عجب الذنب، منه خلق وفيه يركب)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة: (كل ابن آدم تأكل الأرض إلا عجب الذنب، منه خلق ومنه يركب).
وعجب الذنب هو جزء من الإنسان يكون أول ما يخلق منه، ثم عند البعث يبنى عليه، فتأتي الذرات التي ذهبت وتجتمع ويكون أول ما يكون خلقاً وتركيباً، هو عجب الذنب، والمقصود بالتركيب عودة الجسم إلى ما كان عليه، بعد ما دفن في قبره وأكلته الأرض.
وبعد تركيب الجسد يحصل البعث، فيخرج الناس من قبورهم بنفس الأجساد التي كانت في الدنيا، حتى تلقى الجزاء وتلقى النعيم والعذاب، بل هي في القبر أيضاً قد حصل لها النعيم أو العذاب.
والمقصود من الحديث: أن فيه ذكر البعث في قوله: (منه يركب) يعني: أنه يعاد خلقه، وأن كل ذرة من الذرات تأتي إلى مكانها، وأول شيء يكون هو عجب الذنب وأن غيره يأتي ويتبعه.(537/12)
تراجم رجال إسناد حديث (كل ابن آدم تأكل الأرض إلا عجب الذنب)
قوله: [حدثنا القعنبي].
عبد الله بن مسلمة بن قعنب، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزناد].
وهو عبد الله بن ذكوان المدني، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعرج].
وهو عبد الرحمن بن هرمز المدني، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة] عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.(537/13)
خلق الجنة والنار(537/14)
شرح حديث (لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في خلق الجنة والنار.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: أي رب! وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها.
ثم حفها بالمكاره، ثم قال: يا جبريل! اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: أي رب! وعزتك لقد خشيت ألا يدخلها أحد.
قال: فلما خلق الله النار، قال: يا جبريل! اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: أي رب! وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفها بالشهوات ثم قال: يا جبريل! اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: أي رب! وعزتك لقد خشيت ألا يبقى أحد إلا دخلها)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة: باب خلق الجنة والنار.
أي: أنهما قد خلقتا وأنهما موجودتان الآن، فقد سبق خلقهما، وذلك أن الله عز وجل خلقهما وأوجدهما فأعد الجنة لأوليائه وأعد النار لأعدائه الذين كفروا به وأشركوا معه غيره.
ولا يقال: إنهما لا تخلقان إلا يوم القيامة، عندما يأتي وقت الانتفاع بها، كما قاله المعتزلة، وقالوا: إن خلقهما قبل ذلك ليس فيه فائدة ولا مصلحة؛ لأنها تبقى مدداً طويلة معطلة لا يستفيد منها أحد.
وقد جاءت الأحاديث دالة على خلقهما ووجودهما، ومن حكمه خلقهما: الترغيب والترهيب، وأن على الإنسان أن يسعى لتحصيل هذه الجنة التي خلقها الله، وأن يسعى إلى التخلص من النار التي خلقها الله عز وجل وأوجدها، وكذلك أيضاً التنعيم في الجنة والتعذيب في النار، فإنهما موجودان قبل يوم القيامة، وذلك أن الإنسان في قبره منعم في نعيم الجنة أو معذب بعذاب النار؛ لأن كل من مات قامت قيامته، وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء، فهو يجازى على عمله في قبره، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وهو إما منعم وإما معذب.
وقد جاء في القرآن ما يدل على ذلك في قصة آل فرعون، حيث قال الله عز وجل: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46] ثم قال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]: فهذا يدل على أن آل فرعون معذبون في النار قبل يوم القيامة، فإذا قامت الساعة انتقلوا من عذاب شديد إلى عذاب أشد.
وجاء في الحديث: أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، وجاء: أن نسمة المؤمن في حواصل طير يعلق في الجنة ويأكل من ثمارها.
فالتنعيم حاصل للروح وللجسد فيصل إليهما ما شاء الله عز وجل أن يصل من نعيم أو عذاب.
فالفائدة حاصلة بالنسبة للجنة والمضرة حاصلة بالنسبة للنار قبل يوم القيامة.
والأحاديث في خلق الجنة والنار كثيرة، ومنها الحديث الذي أورده أبو داود هنا قال: (لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: أي رب! وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها).
يعني: لما فيها من المرغوبات واللذات.
قوله: [(ثم حفها بالمكاره ثم قال: يا جبريل! اذهب فانظر إليها فذهب وعزتك لقد خشيت ألا يدخلها أحد)].
يعني: لما حفت به من المكاره، فلا يصبر الناس على المكاره والتعب والنصب والمشقة؛ لأن طريق الجنة فيه تعب ونصب، ولا يحصل ذلك إلا بأنواع الصبر الثلاثة: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على أقدار الله المؤلمة.
فالجنة لما حفت بالمكاره صار الوصول إليها ليس كالحال قبل أن تكون محفوفة بالمكاره؛ لأنه ليس كل الناس يصبر على المكاره، ولهذا قل من يدخل الجنة وكثر من يدخل النار، ولهذا يقول بعض السلف: لا تغتر بطريق الشر لكثرة السالكين، ولا تزهد بطريق الخير لقلة السالكين، فإنه ليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا كيف نجا! قوله: [(فلما خلق الله النار قال: يا جبريل! اذهب فانظر إليها، فذهب إليها فنظر فيها ثم جاء فقال: أي رب! وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها)].
أي: لأنه خلقها دون أن تحف بالشهوات، فلا يدخلها أحد لشدتها وعظم هولها، وليس هناك أحد يقدم على أن يكون من أهلها، فلما حفت بالشهوات رجع إليه وقال: خشيت ألا ينجو منها أحد، وذلك لكثرة من يقدم على الشهوات، ويفضل الشهوة العارضة واللذة العاجلة، ويغفل عن العاقبة الوخيمة وعن المضرة الكبيرة التي تترتب على ذلك.
فحفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات، فطريق الجنة فيه المتاعب والمشاق وطريق النار فيه الشهوات التي من أرخى لنفسه العنان فيها وانقاد للشيطان وللنفس الأمارة بالسوء فإنه ينتهي إلى النار، وينتهي إلى الهاوية والعياذ بالله.
والمقصود من ذلك: أن الجنة والنار قد وجدتا وأنهما موجودتان الآن، ولا يقال: إنهما إنما يخلقان يوم القيامة؛ لأن وجودهما قبل ذلك يكون بدون انتفاع وبدون تضرر، بل الانتفاع حاصل والتضرر حاصل قبل يوم القيامة، كما قد عرفنا ذلك.
ومما يدل على وجود الجنة والنار حديث الكسوف الذي فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليه الجنة والنار وهو يصلي، فمد يده في الصلاة ليتناول عنقوداً من العنب، ثم إنه ترك، ولما فرغ من صلاته ذكر أنه عرضت عليه الجنة ورأى عناقيد العنب متدلية فأراد أن يأخذ عنقوداً، ولو أخذه لأكلوا منه ما بقيت الدنيا.
وعرضت عليه النار فتكعكع ورجع القهقرى لما رآها، وهذا يدل على وجودها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى شيئاً موجوداً.
وهذا يدلنا على أن على الإنسان أن يؤمن بالغيب وأن يصدق بكل ما جاءت به الأخبار، سواء أدرك ذلك أم لم يدركه، وسواء عقل ذلك أم لم يعقله.(537/15)
تراجم رجال إسناد حديث (لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد بن سلمه بن دينار البصري، ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن عمرو].
محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
وقد مر ذكره.(537/16)
الأسئلة(537/17)
الحلف بصفات الله
السؤال
هل في قول جبريل: (وعزتك) هذا دليل على الحلف بصفات الله؟
الجواب
هذا دليل على الحلف بصفات الله، فيحلف بأسماء الله وصفاته ولا يحلف بغيره، ولهذا قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، المقصود من ذلك أن يكون الحلف بالخالق بأسمائه وصفاته؛ لأن الله تعالى بذاته وصفاته الخالق وكل ما سواه مخلوق، فيحلف بالخالق ولا يحلف بالمخلوق.(537/18)
تناقض المعتزلة في قولهم بفناء النار وخلود أهل الكبائر فيها
السؤال
هل يمكن أن نرد على المعتزلة بالتناقض في كلامهم حيث إنهم يقولون: إن الجنة والنار تفنيان ثم يقولون: إن أهل الكبائر مخلدون فيها؟
الجواب
أنا لا أعرف عن المعتزلة أنهم يقولون بأن النار تفنى، وإذا كانوا يقولون بهذا فهم مخطئون في البداية والنهاية، مخطئون في البداية لكونهم قالوا: إن الجنة والنار إنما تخلقان يوم القيامة ولا تخلقان قبل ذلك، والنصوص قد جاءت بأنهما مخلوقتان قبل ذلك، ومخطئون في النهاية حيث قالوا: تفنى النار، وقد جاءت النصوص بأن الجنة والنار باقيتان إلى غير نهاية، وأما العصاة فإنهم يخرجون من النار ويدخلون الجنة، فإذا كانوا يقولون بالفناء فهم مخطئون فيما يتعلق بالجنة والنار من جهتين.(537/19)
مدى صحة القول بأن للكفار ناراً وللعصاة ناراً
السؤال
ما مدى صحة القول بأن النار ناران: نار الكفار تبقى أبد الآبدين، والنار التي يدخلها أهل الكبائر إذا خرجوا منها فنيت، هل هذا التقسيم صحيح؟
الجواب
ذكر هذا ابن القيم في كتابه الوابل الصيب في الكلم الطيب قال: الدور ثلاث: دار الطيب المحض، ودار الخبث المحض، ودار جمعت بين خبث وطيب، قال: فالجنة دار الطيب المحض، والنار التي فيها الكفار دار الخبث المحض؛ لأن الكفار باقون فيها إلى غير نهاية، والنار التي فيها العصاة هي التي يكون فيها من جمع بين خبث وطيب ويخرجون من المكان الذي هم فيه ويبقى مكانهم ليس فيه أحد، فـ ابن القيم في كتابه الوابل الصيب قسم هذا التقسيم.(537/20)
من مات فقد قامت قيامته
السؤال
ذكرتم أن من مات فقد قامت قيامته، هل هو حديث؟
الجواب
لا أعلم حديثاً في هذا؛ لكن هذا هو الواقع؛ لأن القيامة بالنسبة لكل أحد هي بموته، فإذا مات انتهى من الدنيا وانتقل إلى الآخرة، والقيامة التي تكون عند نهاية الدنيا تكون بالنفخ في الصور؛ لأن الساعة تطلق على الموت وعلى البعث، فمن إطلاقها على الموت: (إن من شرار الناس من تأتيهم الساعة وهم) يعني: الذين تقوم عليهم الساعة فيموتون عند النفخ في الصور، ومن إطلاقها على القيام من القبور ما جاء في القرآن: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، أي: يوم يحصل البعث.(537/21)
التوفيق بين رؤية جبريل للجنة وأن فيها ما لا عين رأت
السؤال
هل هناك تعارض بين الحديث الذي جاء في وصف الجنة: أن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، والحديث الذي يدل على أن جبريل رأى الجنة وما فيها من النعيم، وأن آدم كان يسكن في الجنة، فإنه رأى نعيمها، فكيف يقال: إن فيها ما لا عين رأت؟
الجواب
كون جبريل وآدم رأيا الجنة لا ندري هل رأيا كل ما فيها؟ والمقصود: أن فيها من النعيم ما لا يعرفه الناس وما لا يدركه الناس وفيها ما يعرفون أسماءه وأنواعه، ولكن الفرق بين ما في الدنيا وما في الآخرة -مثلما قال ابن عباس -: إنه ليس في الدنيا ما يشبه ما في الجنة إلا الأسماء، فاللذة موجودة، ولكن فرق بين لذة ما في الدنيا ولذة ما في الآخرة، فالناس يعرفون العنب ويعرفون الرمان، فعنب الجنة فيه عناقيد، أما عناقيد الجنة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أشرت إليه آنفاً: (ولو أخذت منه عنقوداً لأكلتم منه ما بقيت الدنيا).(537/22)
الشفاعة لمن لم يعمل خيراً قط
السؤال
في بعض ألفاظ حديث الشفاعة أنها تكون لمن لم يعمل خيراً قط، فهل يدل هذا على انتفاء عمل الجوارح من الإيمان حتى الصلاة؟
الجواب
معلوم أن هذا من أحاديث الوعد، وأحاديث الوعد لا يجوز للإنسان أن يعول عليها ويترك أحاديث الوعيد، وإنما يأخذ بنصوص الوعد والوعيد، فيكون خائفاً راجياً، لا يغلب جانب الخوف، ولا يغلب جانب الرجاء، حتى يحصل الخير ويسلم من الشر، وحتى يعمل عملاً صالحاً ويبتعد عن الأعمال المحرمة، وإذا كان في آخر الدنيا فإنه يغلب جانب الرجاء حتى لا يحصل له قنوط ويأس عند الموت، بل يحسن الظن بالله عز وجل، ويرجو ثواب الله سبحانه وتعالى.
فهذا الذي جاء في بعض الأحاديث: أنه ما عمل خيراً قط قد يكون عمل أشياء ولكنها ذهبت لمن يستحقها من الدائنين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ ثم قال: المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وحج، ويأتي وقد شتم هذا وضرب هذا وسفك دم هذا، فيعطى لهذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من سيئاتهم وطرح عليه، ثم طرح في النار)، فتكون عنده أعمال ولكنها ذهبت لغيره.
أما تارك الصلاة فقد جاء في كفره أحاديث.(537/23)
من أسماء الله الطيب ويجوز التكني به
السؤال
هل الباعث من أسماء الله؟ وكذلك الطيب؟ وهل يجوز التكني بأبي الطيب؟
الجواب
لا أذكر نصاً خاصاً في اسم الباعث.
أما الطيب فقد ورد في صحيح مسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً).
ويجوز أن يسمى الإنسان الطيب، وأن يكنى بأبي الطيب؛ لأن من أسماء الله ما يسمى بها غيره، ومنها ما لا يسمى به سواه سبحانه وتعالى، فمما يسمى به غيره: الرءوف والرحيم والسميع والبصير تطلق على المخلوق كما قال الله عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، والمقصود بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عز وجل: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2]، وكذلك العزيز وكذلك الكريم، لكن ما يضاف إلى الله عز وجل يختص به وما يضاف إلى المخلوقين يختص بهم، وهناك أسماء لا تطلق إلا على الله مثل: الله والباري والصمد والرحمن وغيرها.(537/24)
معنى شفاعة أرحم الراحمين
السؤال
في صحيح البخاري: (ولم يبق إلا شفاعة أرحم الراحمين)، فهل معنى ذلك أنه يجوز أن يقال: إن الله تعالى يشفع؟
الجواب
الشفاعة كما هو معلوم أنها كون الغير يشفع عند غيره، وهذا لا يحصل لله عز وجل، فهو تعالى لا يشفع عند غيره، بل غيره يشفع عنده، وقد سبق أن مر الحديث الذي قال فيه: (ويحك إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه)، فلا أعرف هذه اللفظة، وإنما المقصود من ذلك ما يحصل من العفو والتجاوز، وإلا فإن الله تعالى هو الذي يشفع عنده، ولا تكون الشفاعة منه عند غيره.(537/25)
شروط الشفاعة وكيف تتفق مع الشفاعة لأبي طالب
السؤال
ذكرتم أن للشفاعة شرطين: إذن الله للشافع ورضاه عن المشفوع، وذكرتم شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمه أبي طالب، فهل معنى ذلك أن الله رضي عن أبي طالب؟
الجواب
لا يوجد رضا عن أبي طالب؛ لأنه معذب، ولكن الذي حصل هو التخفيف وهذان الشرطان إنما هما في الغالب، وإلا فإن أبا طالب ليس مرضياً عنه، بل هو كافر وليس بعد الكفر ذنب، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
وأيضاً: حصلت له الشفاعة للتخفيف مع بقائه في النار على حال هو فيها أخف أهل النار، ويرى أنه ليس هناك أحد أشد منه عذاباً، والعياذ بالله.(537/26)
الحكمة من الشفاعة
السؤال
ما هي الحكمة من الشفاعة، أي: لماذا نحتاج إلى شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لدخول الجنة، ولا يخرجنا الله بنفسه من النار بدون شفاعة؟
الجواب
قدر الله سبحانه وتعالى أن يحصل إكرام للشافع وفائدة للمشفوع، وأن تكون الشفاعة هي الوسيلة إلى هذه الغاية، فيكون في ذلك إكرام للشافع وإظهار لفضله ومنزلته، مثلما حصل بالنسبة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الشفاعة العظمى، فإنه ظهر فيها إكرامه وسؤدده وفضله على الجميع، وحصل له المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون، فهي من الأشياء التي يرفع الله تعالى بها من يشاء، ويستفيد بتلك الشفاعة من يشاء، فيحصل للمشفوع له خير، ويحصل للشافع إكرام ببيان منزلته وعلو مكانته.(537/27)
نفخ إسرافيل في الصور
السؤال
هل ثبت أن إسرافيل هو الذي ينفخ في الصور؟
الجواب
لا نعلم نصاً واضحاً في هذا، لكن بعض العلماء يذكر هذا مثلما ذكره ابن كثير في تفسير سورة الأنعام، فإنه ذكر أنه جاء في الصحيح، لكن لا نعلم نصاً في أن إسرافيل هو الذي ينفخ في الصور، وهو من المشهورين في الملائكة، وقد ذكر بعض أهل العلم في حديث توسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه بربوبيته لجبريل وميكائيل وإسرافيل أن ذلك لأن هؤلاء موكلون بأنواع الحياة، فجبريل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب، وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأبدان، وإسرافيل موكل بنفخ الصور الذي به الحياة بعد الموت، لكن لا أعلم نصاً في هذا.(537/28)
متى تكون نفخة الموت
السؤال
متى تكون نفخة الموت هل بعد النار التي تحشر الناس إلى أرض المحشر أو قبل ذلك؟
الجواب
تكون بعد ذلك؛ لأن هذه النفخة لا تكون لمن كان حياً، والنار التي تخرج هي تخرج روح كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى أناس لا خير فيهم هم شرار الخلق وعليهم تقوم الساعة، ولهذا لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله، ومعناه: أن الأخيار قد ذهبوا، والريح اللينة التي تقبض كل مؤمن ومؤمنة حصلت قبل ذلك، والنفخ يحصل به موت من كان حياً، والذين كانوا أحياء في ذلك الوقت هم شرار الخلق كما جاء ذلك في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(537/29)
مدى صحة القول بوجود ثقوب في الصور
السؤال
هل صحيح أن الصور فيه ثقوب بعدد أرواح الخلائق؟
الجواب
هذا شيء من علم الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله، وإذا جاء فيه نص فيمكن أن يتكلم فيه، وإلا فليس هناك سوى السكوت.(537/30)
شرح سنن أبي داود [538]
من عقائد أهل السنة والجماعة الإيمان بمواقف الآخرة، ومن ذلك حوض النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرده المؤمنون، ويذاد عنه الذين غيروا وبدلوا.
والمبتدعة ينكرون الحوض ويعتقدون فيه اعتقادات باطلة مخالفة لما جاء في السنة من صفته، وغير ذلك مع تواتر أحاديث الحوض عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(538/1)
الحوض(538/2)
شرح حديث ابن عمر (إن أمامكم حوضاً ما بين ناحيتيه كما بين جرباء وأذرح)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الحوض.
حدثنا سليمان بن حرب ومسدد قالا: حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أمامكم حوضاً ما بين ناحيتيه كما بين جرباء وأذرح)].
الحوض هو حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يرده الناس يوم القيامة وهم عطاش، فيشرب منه من يشرب، ومن شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً، ومنهم من يذاد عنه ويمنع مع شدة حاجته إليه، وتكون ذنوبه ومعاصيه هي التي حالت بينه وبين ذلك.
وقد اختلف فيه هل يكون قبل الصراط أو بعد الصراط؟ فجاء عن بعض أهل العلم أنه يكون بعد الصراط، والكثيرون قالوا: إنه قبل الصراط، وهو الأقرب؛ لأن الذين يذادون عنه لو كان بعد الصراط فإنهم لا يتجاوزون إليه حتى يذاودون عنه بل يقعون في النار، وعلى هذا فالذود إنما يناسب أن يكون قبل الصراط، والله أعلم.
وأورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن أمامكم حوضاً ما بين ناحيتيه كما بين جرباء وأذرح).
وهذا فيه إثبات الحوض للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أمام الناس، وأنه واسع.
وجرباء وأذرح هي من بلاد الشام، وهي متقاربة، وجاء في بعض الروايات أنه قال: (ما بين المدينة وجرباء وأذرح)، فتكون المسافة على هذا كما بين المدينة إلى جرباء وأذرح فتكون بعيدة، وعلى ما جاء في هذه الرواية هي كما بين جرباء وأذرح، فتكون غير بعيدة.
وقد جاءت التقادير عن النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ متعددة، منها ما هو واسع جداً، ومنها دون ذلك، وجاء في الأحاديث الصحيحة أيضاً أن طوله وعرضه سواء، وأن زواياه سواء، وعلى هذا فيكون مربعاً.
ولكن كل الأحاديث تدل على أن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضاً، وأنه يورد عليه الحوض، وأنه يذاد عنه أناس فلا يشربون، وأناس يشربون ولا يظمئون بعد ذلك أبداً.
وأحاديث الحوض متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر ابن القيم في (تهذيب السنن) أنها جاءت عن أربعين صحابياً وسماهم، وذكر الحافظ ابن حجر في (الفتح) أنهم يبلغون الخمسين أو يزيدون عن الخمسين صحابياً.(538/3)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر (إن أمامكم حوضاً ما بين ناحيتيه كما بين جرباء وأذرح)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومسدد].
مسدد بن مسرهد البصري، ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[قالا: حدثنا حماد بن زيد].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب].
أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.(538/4)
شرح حديث زيد بن أرقم (ما أنتم جزء من مائة ألف جزء ممن يرد عليّ الحوض)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي حمزة عن زيد بن أرقم قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلنا منزلاً فقال (ما أنتم جزء من مائة ألف جزء ممن يرد عليَّ الحوض).
قال: قلت: كم كنتم يومئذ؟ قال: سبعمائة أو ثمانمائة].
أورد أبو داود حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنتم جزء من مائة ألف جزء ممن يرد عليَّ الحوض).
وهذا يدل على كثرة الواردين على الحوض، وقد سأل أبو حمزة زيداً: كم كنتم يومئذ؟ قال: سبعمائة أو ثمانمائة.
يعني أن الذي يردون الحوض على رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرون، وأن نسبة هؤلاء إنما هي شيء يسير ممن عداهم.(538/5)
تراجم رجال إسناد حديث زيد بن أرقم (ما أنتم جزء من مائة ألف جزء ممن يرد عليّ الحوض)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر النمري].
حفص بن عمر النمري ثقة، أخرج له البخاري أبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن مرة].
عمرو بن مرة الجملي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي حمزة].
وهو طلحة بن يزيد الأيلي، وثقه النسائي، وأخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن زيد بن أرقم].
زيد بن أرقم رضي الله عنه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(538/6)
شرح حديث أنس (هل تدرون ما الحوض؟ فإنه نهر وعدنيه ربي في الجنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري حدثنا محمد بن فضيل عن المختار بن فلفل قال: سمعت أنس بن مالك يقول: (أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة، فرفع رأسه متبسماً، فإما قال لهم وإما قالوا له: يا رسول الله! لم ضحكت؟ فقال: إنه أنزلت عليَّ أنفاً سورة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] حتى ختمها، فلما قرأها قال: هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل في الجنة، وعليه خير كثير، عليه حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب).
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
قوله: [(أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة)] أي: نام نوماً يسيراً.
قوله: [(فرفع رأسه متبسماً)] والمقصود من ذلك أنه كان يوحى إليه، وقام متبسماً.
قوله: [(فإما قال لهم وإما قالوا له)] أي: إما بدءوه بالسؤال أو بدأهم بالإخبار عن الذي قد حصل له، فذكر على أنهم بدءوه فقالوا: (لم ضحكت؟) أي: ما الذي أضحكك يا رسول الله؟ وأرادوا أن يعرفوا السبب الذي حصل من أجله ذلك، وهم يعلمون أنه يوحى إليه في مثل هذه الحالة، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك لأمر حسن وسار قد حصل، ثم أخبرهم عليه الصلاة والسلام.
قوله: [(إنه أنزلت علي آنفاً سورة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]).
أي: نزلت في هذه الإغفاءة، وقد قرأ عليهم: بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1 - 3]، ثم قال عن الكوثر: (فإنه نهر وعدنيه ربي في الجنة عليه خير كثير، عليه حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب).
أي أن آنيته عدد نجوم السماء، وهذا يدل على أن الكوثر نهر في الجنة، وأن فيه حوضاً، وجاء في بعض الأحاديث الصحيحة بيان أن الحوض يصب فيه ميزابان من الجنة، وعلى هذا فيكون الكوثر في الجنة والحوض في عرصات القيامة، وهو يمد ويصل إليه الماء من ذلك النهر الذي في الجنة.
وعلى هذا فيكون الحوض شيئاً والكوثر شيئاً آخر وليسا شيئاً واحداً، والكوثر هو الأصل والحوض فرع منه، والكوثر في الجنة والحوض إنما هو في عرصات القيامة، والماء الذي في الحوض جاء من الكوثر كما جاء في ذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث فيه دليل على أن: (بسم الله الرحمن الرحيم) من السورة، وبعض أهل العلم يقول إن بسم الله الرحمن الرحيم من القرآن، وهي فاصلة بين كل سورتين ما عدا الأنفال والتوبة، فإنهما ليس بينهما: (بسم الله الرحمن الرحيم).
قوله: [(ترد عليه أمتي يوم القيامة)] والمقصود بالأمة هنا أمة الإجابة بلا شك، وهناك أناس ارتدوا يردون عليه فيذادون عنه، وجاء في بعض الروايات أنه قال: (فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، والمقصود بذلك الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقاتلهم الصديق ومات من مات منهم على الردة، فهؤلاء هم الذين يذادون عن الحوض.
وهذا الحديث رواه أنس بن مالك، فيكون من مراسيل الصحابة؛ لأن السورة مكية، ومعلوم أن مراسيل الصحابة حجة، ولاشك أن الشيء الذي ما شهده الصحابي إنما أخذه عن صحابي آخر، وإذا جاء عنهم شيء مضاف إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام سواء كان مما أدركوه أو مما لم يدركوه فإنه يعتبر ثابتاً، ونسبته إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام صحيحة؛ لأنه إما أن يكون أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنه أخذه عن الصحابة الذين شاهدوه وعرفوه.(538/7)
تراجم رجال إسناد حديث أنس (هل تدرون ما الحوض؟ فإنه نهر وعدنيه ربي في الجنة)
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هناد بن السري أبو السري، وهو ثقة أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن فضيل].
محمد بن فضيل بن غزوان، وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المختار بن فلفل].
وهو صدوق له أوهام، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[سمعت أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا الإسناد من الأسانيد العالية عند أبي داود، فإنه من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود.(538/8)
شرح حديث أنس في رؤية الكوثر ليلة المعراج
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عاصم بن النضر حدثنا المعتمر قال: سمعت أبي قال: حدثنا قتادة عن أنس بن مالك قال: (لما عرج بنبي الله صلى الله عليه وسلم في الجنة -أو كما قال- عرض له نهر حافتاه الياقوت المجيَّب -أو قال المجوف- فضرب الملك الذي معه يده فاستخرج مسكاً، فقال محمد صلى الله عليه وسلم للملك الذي معه: ما هذا؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك الله عز وجل)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وفيه إثبات الكوثر بالسنة، وهو ثابت في القرآن، وفيه شيء آخر وهو كونه مخلوقاً وموجوداً؛ لأنه عندما رأى الجنة رأى فيها الكوثر.
وأتى بهذا الحديث في بحث الحوض من أجل التلازم الذي بين الحوض وبين الكوثر، لأن الماء الذي في الحوض يكون من الكوثر.
قوله: [(فضرب الملك الذي معه يده فاستخرج مسكاً)].
يعني استخرج مسكاً من أرض هذا النهر.
قوله: [(فقال محمد صلى الله عليه وسلم للملك الذي معه: ما هذا؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك الله عز وجل).
أي: هذا النهر هو الكوثر الذي أعطاك الله عز وجل في قوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1 - 3].(538/9)
تراجم رجال إسناد حديث أنس في رؤية الكوثر ليلة المعراج
قوله: [حدثنا عاصم بن النضر].
وهو صدوق أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا المعتمر].
المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت أبي].
سليمان بن طرخان، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
وقد مر ذكره.(538/10)
شرح حديث أبي برزة في الحوض
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم: حدثنا عبد السلام بن أبي حازم أبو طالوت قال: شهدت أبا برزة دخل على عبيد الله بن زياد فحدثني فلان -سماه مسلم - وكان في السماط، فلما رآه عبيد الله قال: إن محمديكم هذا الدحداح، ففهمها الشيخ فقال: ما كنت أحسب أني أبقى في قوم يعيروني بصحبة محمد صلى الله عليه وسلم! فقال له عبيد الله: إن صحبة محمد صلى الله عليه وسلم لك زين غير شين، ثم قال: إنما بعثت إليك لأسألك عن الحوض، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فيه شيئاً؟ فقال له أبو برزة: نعم، لا مرة ولا ثنتين ولا ثلاثاً ولا أربعاً ولا خمساً، فمن كذب به فلا سقاه الله منه، ثم خرج مغضباً].
أورد أبو داود حديث أبي برزة الأسلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جاء إلى عبيد الله بن زياد أمير الكوفة، وكان طلب أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليسأله عن حديث الحوض، فجاء إليه أبو برزة وكان قد طلبه أن يأتي من أجل هذا الغرض.
قوله: [إن محمديكم].
يعني: نسبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، أي أنه صحابي، والرجل طلب واحداً من الصحابة.
فقوله: [إن محمديكم هذا الدحداح] أي: إن محمديكم هو هذا الدحداح، والدحداح هو السمين القصير، يقصد أبا برزة رضي الله عنه.
قوله: [ففهمها الشيخ فقال: ما كنت أظن أني أبقى في قوم يعيروني بصحبة محمد صلى الله عليه وسلم] وهذا أخذه من قوله: (إن محمديكم).
قوله: [إن صحبة محمد صلى الله عليه وسلم لك زين غير شين] يعني: أنها خير وليس فيها شر ولا ذم، وأراد بذلك أن يعتذر وأن يبين ما ذكره من الصحبة والتعيير بها الذي فهمه أبو هريرة.
قوله: [ثم قال: إنما بعثت إليك لأسألك عن الحوض، سمعت رسول الله يذكر فيه شيئاً؟ فقال: نعم، لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثاً ولا أربعاً ولا خمساً].
أي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبته ويحدث به مرات كثيرة، ويذكر أن هناك حوضاً ترده أمته.
ثم قال أبو برزة بعد ذلك: فمن كذب به فلا سقاه الله منه، أي: فمن كذب بذلك الحوض فلا سقاه الله منه، ثم خرج مغضباً رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
والحديث في إسناده رجل مجهول وهو الذي يحدث عن أبي برزة، وكان أبو طالوت يقول: (شهدت أبا برزة دخل) ولكنه لا يعرف شيئاً عن الذي جرى، وإنما حدثه به شخص حضر ذلك المجلس، ولكن الحوض ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، والألباني صحح الحديث، ومعلوم أن فيه هذا المجهول أو هذا المبهم، ولكنه صححه من أجل الطرق والشواهد الأخرى التي هي في معناه.(538/11)
تراجم رجال إسناد حديث أبي برزة في الحوض
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد السلام بن أبي حازم أبو طالوت].
وهو ثقة أخرج له أبو داود.
[فحدثني فلان -سماه مسلم -].
أي: يقول عبد السلام: فحدثني فلان ومسلم الذي سماه هو مسلم بن إبراهيم شيخ أبي داود، وفلان هذا يقول الحافظ ابن حجر: إنه عم عبد السلام، ولم أقف على اسمه ورمز له بـ (د)، أي: أخرج له أبو داود.
[شهدت أبا برزة] أبو برزة الأسلمي نضلة بن عبيد، صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وقد كثر السؤال عن قول بعض العلماء وخاصة صديق حسن خان: إن أبا داود عنده إسناد ثلاثي، واستدل بهذا الحديث، لكن نقول: لو كان عبد السلام حدث عن أبي برزة بالذي حصل لكان ثلاثياً، لكنه أخبر عمن شهد ذلك، وهو قد أدرك الصحابي ولكنه لم يرو عنه، وإنما رآه دخل على عبيد الله بن زياد، والذي حدثه بالحديث رجل آخر، ومعنى ذلك أنه رباعي، لأن هذا المبهم هو الثالث، فيكون أبو داود قد حدث عن مسلم بن إبراهيم وهو عن أبي طالوت، ثم بعد ذلك هذا الرجل المبهم، وهذا المبهم يحكي ما جرى بين أبي برزة وابن زياد فيكون الإسناد رباعياً وليس بثلاثي.(538/12)
شرح كلام القيرواني في الحوض للشيخ العباد(538/13)
تواتر أحاديث الحوض وصفة الحوض
قال ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله تعالى: [والإيمان بحوض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ترده أمته لا يظمأ من شرب منه، ويذاد عنه من بدل وغير].
أحاديث حوض نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أورد البخاري رحمه الله في باب: في الحوض من كتاب الرقاق من صحيحه منها تسعة عشر طريقاً، وذكر الحافظ في (الفتح) أن الصحابة فيها يزيدون على خمسين صحابياً، ذكر خمسة وعشرين منهم نقلاً عن القاضي عياض، وثلاثة عن النووي، وزاد عليهما قريباً من ذلك فزادوا على الخمسين صحابياً.
وأورد الإمام ابن كثير في كتاب النهاية أحاديث الحوض عن أكثر من ثلاثين صحابياً، ذكرها بأسانيد الأئمة الذين خرجوها غالباً، ومما جاء في صفة حوض النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منها فلا يظمأ أبداً)، رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
ورواه مسلم في صحيحه ولفظه: (حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء، وماؤه أبيض من الورق، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، فمن شرب منه فلا يظمأ بعده أبداً).
وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (يشخب فيه ميزابان من الجنة، من شرب منه لم يظمأ، عرضه مثل طوله، ما بين عمان إلى أيلة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل).(538/14)
بيان من يذاد عن الحوض
ومن الناس من يذاد عن ورود الحوض: فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن رجال منكم ثم ليختلجن دوني فأقول: يا ربي أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، والمراد بهؤلاء الأصحاب أناس قليلون ارتدوا بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قتلوا على أيدي الجيوش المظفرة التي بعثها أبو بكر الصديق رضي الله عنه لقتال المرتدين.
والرافضة والحاقدون على الصحابة يزعمون أن الصحابة ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا نفراً يسيراً منهم، وأنهم يذادون عن الحوض، والحقيقة أن الرافضة هم الجديرون بالذود عن حوض رسول الله صلى الله وآله وسلم؛ لأنهم لا يغسلون أرجلهم في الوضوء بل يمسحون عليها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ويل للأعقاب من النار)، أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وليست فيهم سيما التحجيل التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء)، أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).(538/15)
طعن حسن بن فرحان المالكي في الصحابة
وقد نبت في هذا الزمان نابتة يزعم أنه من أهل السنة وهو ليس منهم، بل هو على طريقة الرافضة الحاقدين على الصحابة، وهو حسن بن فرحان المالكي، نسبة إلى بني مالك في أقصى جنوب المملكة، وقد كتب رسالة سيئة بعنوان: ((الصحابة بين الصحبة اللغوية والصحبة الشرعية)) زعم فيها أن الصحابة هم المهاجرون والأنصار قبل الحديبية فقط، وأن كل من أسلم وهاجر بعد الحديبية فليس له نصيب في الصحبة الشرعية، وأن صحبتهم كصحبة المنافقين والكفار! فأخرج بذلك الكثيرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وفي مقدمتهم العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وابنه عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، رضي الله تعالى عنه وعن أبيه وعن الصحابة أجمعين.
كما أخرج أبا موسى الأشعري وأبا هريرة وخالد بن الوليد وغيرهم ممن لا يحصون، وهو قول محدث في القرن الخامس عشر لم يسبقه إليه إلا شاب حديث السن مثله اسمه عبد الرحمن بن محمد الحكمي.
ومما جاء في كتابه السيئ إنكار القول بعدالة الصحابة، وزعمه أن أكثر الصحابة يذادون عن حوض الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه يؤمر بهم إلى النار، وأنه لا ينجو منهم إلا القليل مثل همل النعم.
وبهذا يتبين مماثلته للرافضة الحاقدين على الصحابة.(538/16)
الرد على المالكي الطاعن في الصحابة
وقد رددت عليه في كتاب بعنوان ((الانتصار للصحابة الأخيار في رد أباطيل حسن المالكي))، ومما جاء في الكتاب مما يتعلق بالذود عن الحوض ما يلي: السابع -أي من وجوه الرد في إنكاره عدالة الصحابة- قوله: ومن الأحاديث في الذم العام قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث الحوض في ذهاب أفواج من أصحابه إلى النار، فيقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أصحابي أصحابي؟ فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك)، الحديث متفق عليه، وفي بعض ألفاظه في البخاري: (فلا أرى ينجو منكم إلا مثل همل النعم)، فيأتي المعارض بالثناء العام بعد هذا الذم العام، فكيف تجعلون للصحابة ميزة وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا ينجو منهم إلا القليل، وأن البقية يؤخذون إلى النار؟ وقال عن هذا الحديث أيضاً كما أخبر النبي صلى الله وآله وسلم: أنه لا ينجو من أصحابه يوم القيامة إلا القليل مثل همل النعم، كما ثبت في صحيح البخاري كتاب الرقاق؟ ويجاب عنه: بأن لفظ الحديث في صحيح البخاري في كتاب الرقاق عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (بينا أنا نائم فإذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم! فقلت: أين؟ قال: إلى النار إلى النار، والله قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى.
ثم إلى زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم! قلت: أين؟ قال: إلى النار، والله قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى.
فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم).
قال الحافظ في شرحه: قوله: (بينا أنا نائم) كذا بالنون للأكثر وللكشمهيني: (قائم) بالقاف، وهو أوجه، والمراد به قيامه على الحوض يوم القيامة، وتوجه الأولى بأنه رأى في المنام في الدنيا ما سيقع له في الآخرة.
وقال أيضاً: قوله: (فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم) يعني: من هؤلاء الذين دنوا من الحوض وكادوا يردونه فصدوا عنه.
وقال أيضاً: والمعنى: أنه لا يرده منهم إلا القليل، لأن الهمل في الإبل قليل بالنسبة لغيره.
واللفظ الذي ورد في الحديث: (فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم) أي: من الزمرتين المذكورتين في الحديث، وهو لا يدل على أن الذين عرضوا عليه هاتان الزمرتان فقط، والمالكي أورد لفظ الحديث على لفظ خاطئ لم يرد في الحديث، وبناءً عليه حكم على الصحابة حكماً عاماً خاطئاً فقال فيه: وفي بعض ألفاظه في البخاري: (فلا أرى ينجوا منكم إلا مثل همل النعم) فجاء بلفظ: (منكم) على الخطاب بدل: (منهم) وبناء عليه قال: كيف تجعلون للصحابة ميزة وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه لا ينجو منهم إلا القليل، وأن البقية يؤخذون إلى النار؟ وقال: كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه لا ينجو من أصحابه يوم القيامة إلا القليل مثل همل النعم، كما ثبت في صحيح البخاري كتاب الرقاق.
وهذا كذب على الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإنه لم يخبر أن أصحابه لن ينجو منهم إلا القليل، ولعل هذا الذي وقع من المالكي حصل خطأً لا عمداً.
وأما ما جاء في بعض الأحاديث من: (أنه يذاد عن حوضه أناس من أصحابه وأنه يقول: أصحابي؟ -وفي بعض الألفاظ: أصيحابي_ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، فهو محمول على القلة التي ارتدت منهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقتلوا في ردتهم على أيدي الجيوش المظفرة التي بعثها أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وإذا كان مصير أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى النار، وأنه لا ينجو منهم إلا القليل مثل همل النعم بزعم هذا الزاعم، فليت شعري ما هو المصير الذي يفكر به المالكي لنفسه؟! نسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بالله من الخذلان! بل إن الصحبة الشرعية بزعم المالكي لم تحصل إلا للمهاجرين والأنصار قبل صلح الحديبية، ومن بعدهم ليسوا من الصحابة بزعمه، وعلى هذا فإنه لا ينجو من الصحابة إلا القليل مثل همل النعم، والبقية يؤخذون إلى النار، فهذا يعم الصحابة الذين كانوا قبل الحديبية، فإذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذين هم خير هذه الأمة لا يسلمون من النار، فمن الذي يسلم منها؟! بل إن اليهود والنصارى لم يقولوا في أصحاب موسى وعيسى مثل هذه المقالة القبيحة.
وقد ذكر شارح الطحاوية أن اليهود والنصارى فضلوا على الرافضة بخصلة وهي: أنه إذا قيل لليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وإذا قيل للنصارى: من خير أهل ملتهم؟ قالوا: أصحاب عيسى، وإذا قيل للرافضة: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد.
وهذا يبين لنا منتهى السوء الذي وقع فيه المالكي، وأن من يسمع أو يطلع على كلامه في الصحابة يتهمه في عقله، أو يستدل به على منتهى خبثه وحقده على خير هذه الأمة، لاسيما أن زعمه أن العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله رضي الله عنهما ليسا من الصحابة، وزعمه أن أكثر الصحابة إلا قليل منهم مثل همل النعم يؤخذون إلى النار.
وأيضاً: إذا كان أكثر الصحابة إلا قليل منهم يؤخذون إلى النار في زعم هذا الزاعم والكتاب والسنة لم يصلا إلى هذه الأمة إلا عن طريق الصحابة، فهم الواسطة بين الناس وبين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ فأي حق وهدى يكون بأيدي المسلمين؟! فإن القدح في الناقل قدح في المنقول.
قال أبو زرعة الرازي المتوفي (سنة 264هـ) رحمه الله: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة.
(الكفاية) للخطيب البغدادي.
وسأكشف أباطيله الأخرى التي اشتمل عليها كتابه ((قراءة في كتب العقائد)) وأدحضها إن شاء الله تعالى في كتابي: ((الانتصار لأهل السنة والحديث في رد أباطيل حسن المالكي)).
انتهى.(538/17)
الأسئلة(538/18)
تأليف المالكي في الطعن في الشيخ محمد بن عبد الوهاب والرد عليه
السؤال
يذكر البعض أن المالكي ألف كتاباً في الطعن في شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب؟
الجواب
نعم، له كتاب خاص بهذا، وقد تكلم فيه كلاماً قبيحاً سيئاً، وهذا ليس بمستغرب ممن طعن في الصحابة وهم خير هذه الأمة، فلا يسلم منه من بعدهم من باب أولى، كالشيخ محمد بن عبد الوهاب، فالرجل يقول في الصحابة المقالات القبيحة التي لا يقولها اليهود والنصارى في أصحاب موسى وعيسى، فمن باب أولى ومن السهل أن يتكلم في الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما تكلم فيمن قبله مثل ابن تيمية وابن القيم وابن كثير والذهبي، وفي أهل السنة من زمن الصحابة إلى عصرنا هذا، وقد تكلم في الشيخ محمد ومن كان على طريقة الشيخ محمد من العلماء حتى العصر الحاضر، فهو في منتهى السوء، وقد رد عليه الشيخ ربيع المدخلي في كتابه عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب بكتاب مفيد سماه: ((دحر افتراءات أهل الزيغ والاغتياب عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أباطيل حسن المالكي))، وهو لم يطبع.(538/19)
الرد على المالكي في الطعن في الصحابة من كلامه
السؤال
ألا يمكن الاحتجاج على المالكي بمقالته، فإنه احتج بحديث عند البخاري بزعمه وهو من رواية أبي هريرة فلا يصح احتجاجه؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه ليس بصحابي عنده، فهو غير عدل؟
الجواب
على كلٍ أقول: الإنسان المبطل يأتي بالشيء الذي يريد، وأما الشيء الذي لا يريده فإنه لا يأتي به، وهو أتى بشيء كذب فيه، لأن اللفظ الذي بنى عليه الحكم لا يوجد في البخاري، وإنما هو الحقد والخبث الذي يكون في النفوس.(538/20)
الرافضة يدعون أن الصحابة يذادون عن الحوض ولا يؤمنون به
السؤال
كيف يقول الرافضة إن الصحابة لا يردون الكوثر وهم أصلاً لا يؤمنون بالكوثر، بل يقولون: إن الكوثر في القرآن هي فاطمة؟
الجواب
الرافضة لهم مقالات قبيحة يقولونها في أمور أخرى، وأما هذا الموضع بالذات فلا أدري عن حقيقة قولهم فيه، وعندهم تحريف للقرآن وذلك بتفسيره بأمور لا يدل عليها لا من حيث اللغة ولا من حيث المعنى أيضاً.(538/21)
الراجح في مكان الحوض
السؤال
ما هو الراجح في مكان الحوض؟
الجواب
الذي يبدو -والله أعلم- أنه في عرصات القيامة قبل الصراط.(538/22)
حكم تأسيس معهد خاص بالنساء وسكنهن فيه
السؤال
ما حكم تأسيس معهد إسلامي خاص بالبنات يسكنَّ فيه بعيداً عن أهلهن مع الأمن، ولا يذهبن إليه ولا يعدن منه إلا مع محرم، وهو في أيام الإجازة فقط، هل هذا العمل يعد من الأعمال البدعية؟
السؤال
لا يعد هذا من الأعمال البدعية إذا كان النساء في محل خاص بهن، وفيه أكلهن ودراستهن، ولا يخرجن من هذا المكان إلا مع محارمهن، وفيه الأمور التي يحتجن إليها، ولا يحتجن إلى الخروج، لأن المنع إنما جاء عن السفر: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم)، وكونها تذهب وتجيء مع ذي محرم لا بأس به، وهو مطابق لما جاء في الحديث.
فعندما تكون المرأة في مكان آمن وفي مكان خاص بحيث لا ترى الرجال ولا يرونها ولا تختلط بأحد، وإنما يدخل أهلها إذا أرادوا ثم يخرجونها مثل إدخالهم إياها إلى المدرسة ثم إخراجها منها، فلا بأس.(538/23)
كلام ابن رجب في معنى: (لم يعملوا خيراً قط)
السؤال
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه ((التخويف من النار)) شرحاً لقوله عليه الصلاة والسلام: (لم يعملوا خيراً قط) أي: لم يعملوا شيئاً مما هو من أفعال الجوارح، لكنهم يخرجون من النار بشيئين: الأول: قول اللسان، وهو نطقهم بالشهادتين، الثاني: عمل القلب، وهو التوحيد.
فما رأي فضيلتكم في هذا التفسير؟ وهل من يقول به يعد من المرجئة؟
الجواب
هذا كلام مستقيم، ولكن ما يتعلق بأعمال الجوارح وأنها كلها منفية وأنه لا يؤثر ذهابها؛ هذا غير صحيح، أعني إذا كان المقصود أن الجوارح ليس لها عمل أصلاً، بل الصحيح أن من أعمال الجوارح الصلاة، وتركها كفر كما جاءت الأحاديث بذلك عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(538/24)
القضاء على من أفطر لمرض لا يرجى برؤه
السؤال
أختي أفطرت رمضان العام الماضي بسبب عملية صمام القلب، وعندما تصوم تتعب ولن تقدر أن تقضي تلك الأيام، فماذا عليها؟
الجواب
إذا كان يمكنها القضاء في المستقبل فإنها تقضي في المستقبل، وتطعم عن كل يوم مسكين إذا قضت بعد دخول رمضان آخر، وذلك إذا كان المرض مما يرجى برؤه، وأما إذا كان هذا المرض لا يرجى برؤه فإنها تطعم عن كل يوم مسكيناً ولا قضاء عليها.(538/25)
حكم لبس الدبلة للرجال والنساء
السؤال
ما حكم لبس الدبلة للرجال والنساء، سواء كانت مكتوباً عليها أم لم يكتب عليها شيء؟
الجواب
هذه من الأمور التي وفدت على المسلمين واستوردوها من أعدائهم، فلا يجوز استعمالها من أجل الزواج إذا حصلت الخطبة، ولا أن يضع كل واحد في أصبعه خاتماً يسمونه الدبلة، فهذه من الأمور المحدثة المنكرة التي يقلد فيها المسلمون أعداءهم فيما يضر ولا ينفع.(538/26)
حكم وصف أبي بكر بالضعف بالنسبة لعمر
السؤال
ألقى أحد الأساتذة محاضرة عن آراء الناس في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال الأستاذ أثناء محاضرته: كان أبو بكر رضي الله عنه ليناً جداً في الإمارة، وأيضاً ضعيفاً بالنسبة لـ عمر رضي الله عنه، فما رأيكم فيما قال؟
الجواب
يجب أن تكون الألسنة نظيفة عند الكلام على أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك يجب أن تكون القلوب سليمة ليس فيها شيء من الأذى والقذر، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطة: ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل شيء فيه احتمال أو إيهام تنقص فإن البعد عنه مطلوب.
فكون أبي بكر رضي الله عنه ليناً هذا لاشك فيه، ولكنه في بعض المواقف كان أشد وأعظم من عمر، وذلك في مسألة قتال المرتدين، فإنه وقف وقفة شجاعة حتى إن عمر جاء وراجعه للقتال في ذلك، ولكنه قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، ثم قال عمر: فما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.
وهذا معناه أن عمر رأى أن هذا موقف شجاع.
والحاصل أنه كان عنده لين، وعمر عنده شدة، وقد كان عمر محموداً في شدته وأبو بكر محموداً في لينه، ولا يقال إن أحدهما مذموم.
فالتعبير بأنه ضعيف أمام عمر لا يصلح، وإذا أراد الإنسان بذلك التنقص فلاشك أنه كلام قبيح، والذي ينبغي هو تنظيف الألسنة والقلوب من أن يكون فيها شيء لا يليق بحق أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما بالنسبة لـ عمر رضي الله عنه فخلافته طالت وبلغت مقدار خلافة أبي بكر خمس مرات، لأن أبا بكر تولى سنتين وأشهراً، وعمر رضي الله عنه تولى عشر سنوات وأشهراً، فحصل فيها خير كثير، وحصل فيها فتوحات عظيمة، وقضى على الدولتين العظميين في ذلك الزمان: دولة الفرس ودولة الروم، والرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم في النزع من البئر فيها: (أن أبا بكر نزع ذنوباً أو ذنوبين، ثم نزع عمر حتى استحالت غرباً، قال: فلم أر عبقرياً يفري فرية، حتى ضرب الناس بعطن)، ومعنى ذلك أنه اتسعت رقعة البلاد الإسلامية في خلافته ودخل الناس في دين الله، وقضي على الدولتين العظميين في ذلك الزمان.
فالحاصل أن كل شيء لا ينبغي في حق الصحابة ليس للإنسان أن يتلفظ به، وكذلك إذا كان الكلام موهماً أو محتملاً، بل يأتي بالكلام الواضح الجلي الذي فيه الثناء والمدح للجميع، ولا يأتي بشيء فيه احتمال.(538/27)
إسناد أول خطبة نبوية
السؤال
نقل بعضهم من تاريخ الطبري الجزء الثاني خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول جمعة جمعها بالمدينة ويريد أن تنظر في السند، فيقول ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب حدثني سعيد بن عبد الرحمن الجمحي أنه بلغه عن خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أول جمعة صلاها في المدينة في بني سالم بن عوف: (الحمد لله أحمده وأستعينه إلخ)
الجواب
قوله: (بلغني عن خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم) هناك مسافة شاسعة بين سعيد بن عبد الرحمن الجمحي وبين زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال عنه في التقريب: من ولد عامر بن حذيم، أبو عبد الله المدني قاضي بغداد، صدوق له أوهام، وأفرط ابن حبان في تضعيفه، من الثامنة، مات سنة ست وسبعين، له اثنتان وسبعون، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
فأنت ترى أنه من الطبقة الثامنة، أي أنه بعد طبقة صغار التابعين بثلاث طبقات، لأن طبقة صغار التابعين هي الطبقة الخامسة، وهو بعد طبقة صغار التابعين بثلاث طبقات، ومعناه أن هناك مسافة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون في هذا الحديث انقطاع طويل، فهو معضل.(538/28)
يذاد عن الحوض كل من غير وبدل
السؤال
هل الذين يذادون عن الحوض هم أهل البدع فقط أم أن من أهل السنة من يذاد عن الحوض؟
الجواب
الذي جاء أن الذين يذادون هم الذين أحدثوا وغيروا وبدلوا، ومعلوم أن هناك من أحدث كفراً، وهناك من أحدث بدعاً ومحدثات، ومعلوم أن الذين ارتدوا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم يذادون عن حوضه وذلك لكفرهم، والحديث بعمومه يدل على أن الإحداث والتغيير سبب للذود عن الحوض، لكن من ذيد عنه وهو مسلم فإنه يدخل الجنة، ولا أعلم شيئاً يدل على أنه يذاد عنه أحد من أهل الجنة، ولكن اللفظ يدل بعمومه على أن الكفار وغير الكفار ممن أحدثوا وبدلوا يذادون.(538/29)
شرح سنن أبي داود [539]
جاءت الأحاديث الكثيرة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثبات سؤال القبر وعذابه ونعيمه، من فتح نافذة للجنة أو النار، وتعرض الموتى لطيب الجنة، أو نتن جهنم، وكل بحسب عمله وصلاحه، وكل هذا غيب أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم به، فيجب الإيمان به وعدم إنكاره، وأهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك ويعتقدونه، ويؤمنون بأن المرء يسأل في قبره عن ثلاث: عن ربه ودينه ونبيه، فمن ثبت في الحياة على دين الله ثبته الله في الجواب عن هذه الأسئلة.(539/1)
المسألة في القبر وعذاب القبر(539/2)
شرح حديث البراء في سؤال القبر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المسألة في القبر وعذاب القبر.
حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن المسلم إذا سئل في القبر فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذلك قول الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27])].
هذه الترجمة معقودة لمسألتين: مسألة السؤال في القبر، ومثل ذلك أيضاً نعيم القبر؛ لأن القبر فيه نعيم وعذاب، ولكن الشيء الذي ورد وتكرر في الأحاديث ذكر عذاب القبر، وكل ذلك حق ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمسألة في القبر هي السؤال عن الرب والدين والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فالسؤال يكون عن هذه الأمور الثلاثة، فالذي يوفقه الله عز وجل يأتي بالجواب السديد، ويأتي بالجواب المنجي، فيقول: إن الله ربه، وإن الإسلام دينه، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم نبيه، أو يقول: أشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ومن كان بخلاف ذلك وأدركه الخذلان، أو حصل له العذاب، فإنه يقول: ها ها لا أدري، فلا يجيب بالجواب الذي ينفعه، وإنما يأتي بالجواب الذي يضره.
والسؤال في القبر هو لإظهار عدل الله عز وجل، وكون الإنسان ينعَّم بإحسانه وبإيمانه، ويعذب بمعصيته وعدم إيمانه، وليس ذلك ليعلم الله شيئاً كان غير معلوم له، بل هو عالم قد علم أزلاً كل شيء سبحانه وتعالى، ولكن ليظهر للإنسان عدل الله عز وجل، وأن الإنسان يثاب على إحسانه ويعاقب على إساءته، وأن الإنسان إنما يؤتى من قبل نفسه.
والسؤال في القبر هو مثل مسألة الميزان، فإن ذلك يرجع إلى إظهار عدل الله عز وجل، وأن الإنسان لا يبخس في شيء، فلا ينقص من الحسنات ولا يزاد من السيئات، ولا يعاقب بذنب لم يحصل منه، ويثاب بشيءٍ قد حصل منه وبشيءٍ لم يحصل منه فضلاً من الله عز وجل وإحساناً.
كما أن الله عز وجل ينشئ خلقاً بعدما يدخل أهل الجنة الجنة ويبقى فيها فضلة، ويدخلهم الجنة فضلاً من الله عز وجل، وأما النار فلا يدخلها إلا من يستحقها، فالفضل من الله عز وجل يحصل بسبب وبغير سبب، والسبب الذي حصل والمسبب هو من فضل الله عز وجل أيضاً، لأن الله تعالى وفق للسبب والمسبب، ولو لم يوفق الله الإنسان ما حصل منه السبب الذي يفضي به إلى العاقبة الطيبة وإلى النتائج الطيبة، فالكل يرجع إلى فضل الله عز وجل، فهي من الله ابتداءً وانتهاء، فهو الذي تفضل بحصول السعادة وبحصول النعيم، وهو الذي تفضل بالتوفيق لحصول الأسباب التي تفضي إلى ذلك وهي الأعمال الصالحة.
ويحصل بدون فعل شيء من العبد، بمعنى: أن الله تعالى يخلق أقواماً ما كان لهم وجود من قبل، ثم يدخلهم الجنة ويسكنهم إياها وذلك فضل من الله سبحانه تعالى، وأما النار فلا يعذب بها إلا من عمل أعمالاً توصله إليها سواء كانت كفراً أو معاصي، وقد جاءت الأحاديث في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأورد أبو داود رحمه الله تعالى جملة منها، وأما أحاديث عذاب القبر فهي كثيرة جداً قد بلغت حد التواتر، وجاءت على أحوال متعددة، فمنها ما هو في بيان العذاب، وبعضها في كيفية العذاب، وبعضها في سبب العذاب، وكذلك في التعوذ من عذاب القبر.
أورد أبو داود حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المسلم إذا سئل في القبر فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فذلك قول الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27]).
يعني: أن هذا التثبيت في الآخرة وذلك بأن يثبت عند السؤال، وهو يثبت في الدنيا على سلوك طريق الحق والنجاة، وعلى سلوك الصراط المستقيم، وذلك بإعطاء العبد خير زاد وأفضل زاد يكون في هذه الحياة الدنيا وهو زاد التقوى.
وكل سفر لابد فيه من زاد، فسفر الدنيا يحتاج إلى زاد، وذلك أن الإنسان يحمل ما يحتاج إليه من النقود حتى لا يحتاج إلى الناس، وأما الآخرة فالزاد إليها هو تقوى الله عز وجل والاستقامة على أمره سبحانه.
وقوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27].
أي بالتزام الحق في الحياة الدنيا، وبحصول الجواب السديد عندما يسألون في القبر، فيجيب بالأسئلة السديدة التي نتائجها وعواقبها حميدة.
وفي الحديث بيان أن السنة تبين القرآن، فإن هذا الحديث يبين أن هذا هو القول الثابت في الآخرة، وأن الله يثبت المؤمن في الآخرة وذلك بأن يأتي بهذا الجواب السديد، وهذا التثبيت في الآخرة مبني على الثبات في الدنيا على الصراط المستقيم، وعلى سلوك المنهج القويم، وهو الإيمان بالله والالتزام بما جاء عن الله وعن رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27].(539/3)
تراجم رجال إسناد حديث البراء في سؤال القبر
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
هو هشام بن عبد الملك الطيالسي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علقمة بن مرثد].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعد بن عبيدة].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن البراء بن عازب].
وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(539/4)
شرح حديث أنس في عذاب القبر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا عبد الوهاب بن عطاء الخفاف أبو نصر عن سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك قال: (إن نبي الله صلى الله عليه وسلم دخل نخلاً لبني النجار فسمع صوتاً ففزع فقال: من أصحاب هذه القبور؟ قالوا: يا رسول الله! ناس ماتوا في الجاهلية، فقال: تعوذوا بالله من عذاب النار ومن فتنة الدجال.
قالوا: ومم ذاك يا رسول الله؟! قال: إن المؤمن إذا وضع في قبره أتاه ملك فيقول له: ما كنت تعبد؟ فإن اللهُ هداه قال: كنت أعبد الله، فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله، فما يسأل عن شيء غيرها.
فينطلق به إلى بيت كان له في النار، فيقال له: هذا بيتك كان لك في النار، ولكن الله عصمك ورحمك، فأبدلك به بيتاً في الجنة، فيقول: دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي، فيقال له: اسكن! وإن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك فينتهره، فيقول له: ما كنت تعبد؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: لا دريت ولا تليت! فيقال له: فما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: كنت أقول ما يقول الناس، فيضربه بمطراق من حديد بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعها الخلق غير الثقلين).
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال.
(إن نبي الله صلى الله عليه وسلم دخل نخلاً لبني النجار فسمع صوتاً ففزع).
وهذا الصوت هو عذاب القبر.
قوله: [(من أصحاب هذه القبور؟ قالوا: يا رسول الله! ناس ماتوا في الجاهلية)].
أي أن السبب الذي جعله يسأله أنه سمع الصوت الذي أفزعه وهو صوت الذين يعذبون في قبورهم، وهذا كما جاء في القرآن: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، فينتقلون من عذاب شديد إلى عذاب أشد وأعظم، وإلا فإنهم معذبون ما داموا في قبورهم بعذاب النار، حيث يفتح لهم باب إلى نار فيأتيهم من حرها وسمومها، ولكنهم إذا بعثوا انتقلوا إليها ووضعوا فيها فإن العذاب يكون أشد من ذاك الباب الذي كان يفتح عليهم، ويصل إليهم منه حرها وسمومها وهم في قبورهم.
فسبب الحديث وجود هذا الصوت الذي أفزعه صلى الله عليه وسلم، وهو لأصحاب تلك القبور الذين هم كفار، وكانوا قد قبروا في الجاهلية.
قوله: [(فقال: تعوذوا بالله من عذاب النار، ومن فتنة الدجال)] ذكر النار لأن عذاب النار موجود في القبر، والإنسان يتعوذ بالله من عذاب النار الذي يكون في القبر أو في نفس النار، والعذاب وإن لم يكن قد أضيف إليه العذاب في هذا الحديث فقد أضيف إليه في أحاديث كثيرة، لكن هذا يدل على أن عذاب القبر الذي سمعه هو من عذاب النار.(539/5)
سؤال القبر يكون عن ثلاثة أمور
قوله: [(إن المؤمن إذا وضع في قبره أتاه ملك، فيقول له: ما كنت تعبد؟ فإن اللهُ هداه قال: كنت أعبد الله.
فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله، فلا يسأل عن شيء غيرها).
ثم أخبر أن المؤمن إذا وضع في قبره أتاه ملك فسأله: ما كنت تعبد؟ فيقول: أعبد الله، ويسأل عن الرسول، فيجيب بالجواب الحسن، وأنه رسول الله، وأنه آمن به، فلا يسأل غيرها، أي أن هذا هو موضع
السؤال
الرب والنبي.
ولكن جاء في بعض الأحاديث أنه يسأل عن ثلاثة أمور: الرب، والدين، والنبي صلى الله عليه وسلم، ولا تنافي، فإن ما جاء في الأحاديث من ذكر الاثنين داخل تحت الثلاثة أو هو من جملة الثلاثة، فيكون العدد الأصغر داخلاً في العدد الأكبر أو من جزئيات العدد الأكبر، والثلاثة كلها ثابتة في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالسؤال في القبر يكون عنها.(539/6)
تبشير المؤمن بالنجاة من العذاب في قبره
قوله: [(فينطلق به إلى بيت كان له في النار فيقال له: هذا بيتك كان لك في النار، ولكن الله عصمك ورحمك فأبدلك به بيتاً في الجنة)].
أي: ثم ينطلق به إلى بيت كان في النار ويقال: هذا مقعدك لو لم تؤمن، ولكن الله عصمك ووفقك فأبدلك به هذا البيت، فصرت من المسلمين، لأنك لو لم تكن مسلماً وكنت على الكفر لكنت في هذا المكان، لأن الكفار مكانهم في النار، وكل كافر له مكان في النار، ولكن من وفقه الله عز وجل وهداه ودخل في دين الله عز وجل فإنه يرى هذا المكان ثم يرى ذلك المكان؛ وذلك ليكون أعظم في سروره وفرحه وابتهاجه؛ لأنه إذا رأى المكان الذي سلم منه يزداد سروراً إلى سروره بسلامته من ذلك المكان الذي فيه العذاب، وحصول توفيقه بأن صار من أهل ذلك المكان الذي هو في الجنة والذي فيه النعيم المقيم.
قوله: [(فيقول: دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي، فيقال له: اسكن)].
أي: ليس لك ذلك، والمعنى أن الإنسان لا يرجع إلى الدنيا ولا يخبر أهل الدنيا بما حصل له، فالإنسان لا يخرج من قبره إلا عند البعث والنشور، ولكنه لفرحه أراد أن يبشر أهله، ولكن يقال له: اسكن، أي: فيما أنت فيه من هذا النعيم.(539/7)
انتهار الكافر في القبر وتعذيبه
قوله: [(وإن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك فينتهره، فيقول له: ما كنت تعبد؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: لا دريت ولا تليت)].
وهذا دعاء عليه بصيغة الخبر، أو هو إخبار عما حصل، ومعنى ذلك أنك لا دريت، ولا تبعت غيرك ممن سلكوا طريق السعادة إذا لم تدر.
ومعلوم أنه لا يعذب أحد إلا بعد إقامة الحجة عليه، وهذا الجواب لا يعني أنه ما عرف الحق أو ما بلغه الحق، لأنه لا يعذب إلا عند بلوغ الحق، كما قال الله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وهذا قد بلغته الرسالة، ولكنه اختار طريق الضلالة والكفر واستمر على ذلك حتى مات، فيقال: (لا دريت) أي ما حصل منك الدراية التي تنفعك والتي تفيدك، ولا تليت غيرك في الخير، بل تبعت غيرك في الشر.
قوله: [(فيقال له: فما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: كنت أقول ما يقول الناس)].
أي: ويسأل عن الرجل -وهو محمد صلى الله عليه وسلم- وماذا كان يقول فيه؟ فيقول: كنت أقول ما يقول الناس.
والمقصود بالناس هنا هم الذين ما وفقوا، وإلا فإن الذين وفقوا يشهدون بأنه رسول الله ويؤمنون به ويصدقونه ويتبعونه، ولكنه يقول ما يقول الناس الذين خذلوا كما خذل وتبعهم في الضلالة، أو تبع أبويه إذا كانا سبباً في غوايته وإضلاله، كما قال عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه).
قوله: (فيضربه بمطراق من حديد بين أذنيه).
يعني يضربه بمطرقة من حديد على رأسه، (فيصيح صيحة يسمعها الخلق غير الثقلين) يعني: إلا الجن والإنس الذين هم مكلفون؛ لأنهم لو علموا ما يجري في القبور لتغير حالهم، وهذا شيء مشاهد في الدنيا، فإن الناس إذا كان عندهم مريض يتألم ويئن فإنهم لا يهدءون ولا يرتاحون ولا يستسيغون أكل الطعام، وهم يحسون بالتألم الذي يحصل لذلك الإنسان بسبب شدة المرض الذي أصابه، فكيف بحصول عذاب في القبر.
وقد شاء الله عز وجل أن ينقسم الجن والإنس إلى فريق في الجنة وفريق في السعير، وشاء أن تكون أمور الآخرة غيباً، وأن يكون ما يجري في القبر غيباً، وألا يكون علانية؛ ليتميز من يؤمن بالغيب ممن لا يؤمن به.
وغير الثقلين كالملائكة وكالحيوانات والبهائم يسمعون ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم سمع ذلك، ولهذا جاء في أول الحديث أنه سمع العذاب ففزع.(539/8)
تراجم رجال إسناد حديث أنس في عذاب القبر
قوله: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري].
وهو صدوق أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الوهاب بن عطاء الخفاف أبو نصر] صدوق ربما أخطأ، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سعيد].
سعيد بن أبي عروبة، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(539/9)
شرح حديث أنس في عذاب القبر بزيادة يسيرة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سليمان حدثنا عبد الوهاب بمثل هذا الإسناد نحوه، قال: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم، فيأتيه ملكان فيقولان له فذكر قريباً من الحديث الأول، قال فيه: وأما الكافر والمنافق فيقولان له، -زاد المنافق- وقال: يسمعها من وليه غير الثقلين)].
أورد الحديث من طريق أخرى عن أنس، وهو مثل الذي قبله لكنه ذكر فيه ملكين والأول ذكر فيه ملكاً، ولا تنافي بينهما، فيمكن أن يأتيا جميعاً ويحصل السؤال من واحد منهما والضرب من الآخر أو العكس، ويمكن أن يراد بالملك أيضاً الجنس، والحاصل أنه لا تنافي بين ذكر ملك وذكر ملكين، فإن العدد الأصغر يدخل في الأكبر.
قوله: [(إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم)].
وهذا يدل على أن الإنسان وهو في قبره تعاد إليه روحه وتحصل المسائلة من الملكين، وأنه يسمع قرع نعال الذين قبروه إذا انصرفوا، وهذا لا يدل على أن كل ما يجري خارج القبر يعلم به صاحب القبر، وأن أصحاب القبور يسمعون كل شيء، بل يثبت ما ثبت ويسكت عما لم يثبت، وقد ثبت هذا الذي جاء في الحديث، أما غير ذلك من الأمور الأخرى فإنها لا تثبت ولا تنفى، وإنما ترد إلى علم الله عز وجل ويقال: الله أعلم.
وأما أن ينفى كل شيء وقد صح به الحديث، أو يثبت كل شيء ولم يصح به الحديث؛ فهذا غير صحيح، وإنما يثبت ما ثبت ويسكت عما لم يثبت، فهذه هي الطريقة الصحيحة فيما يتعلق بسماع الأموات، ولهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا يدري ما أحدث المبدلون والمغيرون بعده، فهو في قبره صلى الله عليه وسلم وما عرف الشيء الذي حصل منهم بعده.
وأيضاً هذا الحديث لا ينافي ما جاء من أنه لا يمشى بالنعل في المقبرة كما في قصة صاحب السبتيتين: أن الرسول رأى رجلاً يمشي وعليه نعلان فقال: (يا صاحب السبتيتين! انزعهما) فإنه لا تنافي بين هذا وهذا، فإن المقبرة لا يمشى فيها بين القبور بالنعال، إلا إذا كان هناك أمر يقتضى ذلك، كأن تكون رمضاء أو يكون بها شوك أو غير ذلك، ويتحرز الماشي من أن يطأ قبراً، ويكون مشيه بين القبور وليس على شيء من القبور.
ويكون المشي بين القبور بالنعال فيما إذا كان هناك ممرات مخصصة في داخل المقابر من أجل أن ينفذ منها إلى القبور.
قوله: [(فيأتيه ملكان)].
اسم هذين الملكين: منكر ونكير، جاء هذا في حديث صحيح أو حسن.
قوله: [(فيقولان له فذكر قريباً من الحديث الأول، قال فيه: وأما الكافر والمنافق فيقولان له -زاد المنافق- وقال يسمعها من وليه غير الثقلين)].
ذكر في الرواية الأولى أنه يسمعها الخلق غير الثقلين، وسيأتي أنه يسمعه من بين المشرق والمغرب، أي أن قوله هنا: (يسمعها من وليه) لا يدل على أن السماع خاص بمن هم قريبون منه من غير الثقلين، بل جاء أنه يسمعها من بين المشرق والمغرب إلا الثقلان، فيكون المقصود من ذكر الذين يلونه أنهم أقرب وأنهم يسمعون أكثر مما يسمع غيرهم، ولا يقال إن ذكر من وليه ينافي ما ذكر من سماع غيرهم.(539/10)
شرح حديث البراء بن عازب في أسئلة القبر للمؤمن والكافر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير، ح وحدثنا هناد بن السري حدثنا أبو معاوية -وهذا لفظ هناد - عن الأعمش عن المنهال عن زاذان عن البراء بن عازب قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رءوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر، مرتين أو ثلاثاً.
زاد في حديث جرير هاهنا: وقال: وإنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين حين يقال له: يا هذا من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ قال هناد: قال: ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ قال: فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت.
زاد في حديث جرير: فذلك قول الله عز وجل: ((يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا)) [إبراهيم:27] الآية.
ثم اتفقا قال: فينادي مناد من السماء: أن قد صدق عبدي؛ فافرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، وألبسوه من الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، قال: ويفتح له فيها مد بصره.
قال: وإن الكافر، فذكر موته قال: وتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فينادي مناد من السماء: أن كذب، فافرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، قال: فيأتيه من حرها وسمومها، قال: ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه.
زاد في حديث جرير قال: ثم يقيض له أعمى أبكم، معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار تراباً، قال: فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين، فيصير تراباً! قال: ثم تعاد فيه الروح)].
أورد أبو داود حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه الطويل الذي فيه بيان ما يجري في القبر من السؤال ومن النعيم والعذاب.
قوله: [(خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رءوسنا الطير)].
أي: أن اللحد ما كان جاهزاً حتى يوضع الميت فيه، وكانوا لا يزالون يحفرون اللحد، واللحد يحفر في أسفل القبر إلى جهة القبلة بحيث لا يكون الميت تحت فتحة القبر.
فلما جاءوا والأمر كذلك جلس الرسول صلى الله عليه وسلم وجلسوا حوله ينتظرون، وكان مع الرسول صلى الله عليه وسلم عود ينكت به مثل المهموم الذي ينكت ويخط في الأرض، ثم إنه أخبرهم وذكرهم بما يجري في القبر.
قوله: [(وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر، مرتين أو ثلاثاً)].
وهذا فيه إثبات عذاب القبر والأمر بالاستعاذة منه، وقد ذكرنا أن الأحاديث جاءت في بيان عذاب القبر من وجوه عديدة، وقد بلغت التواتر.
قوله: [(زاد في حديث جرير ها هنا: وقال: وإنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين حين يقال له: يا هذا! من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟)].
وهذا يدل على أن الإنسان يسأل في قبره فور دفنه، ولهذا ذكر أنه يسمع قرع نعالهم إذا ولوا مدبرين حين يقال له: من ربك؟ إلخ وقوله: [(حين يقال له: يا هذا! من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟)].
هذه هي الأسئلة الثلاثة التي تكون في القبر، وهي السؤال عن الرب، وعن النبي، وعن الدين.
وقد ألف فيها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كتاب الأصول الثلاثة وأدلتها، وهو خاص بأسئلة عذاب القبر؛ لأن الأصول الثلاثة هي معرفة العبد ربه ودينه ونبيه، وتلك الرسالة قيمة لا يستغني عنها أحد لا عامي ولا طالب علم؛ لأنها مشتملة على هذه الأمور الثلاثة التي يسئل عنها في القبر بالأدلة.
وعندما يسأل الميت هذه الأسئلة ويجيب بتلك الأجوبة السديدة فإنه يقال له: كيف عرفت ذلك؟ فيقول: أنه قرأ كتاب الله وآمن وصدف بما فيه، فيفتح له باب من الجنة، فيأتيه من روحها ونعيمها، ويوسع له في قبره حتى يكون مد بصره، وهذا كلها من أمور الغيب التي يجب التصديق بها، والإيمان بأن ذلك حق.
ثم ذكر الكافر وأنه يفتح له باب من النار، فيأتيه من حرها وسمومها، أي: من عذاب النار وحرها وسمومها.
وهذا فيه دليل على أن عذاب النار يحصل لأصحاب القبور، وأن من كان مستحقاً لعذاب القبر وصله عذاب القبر في حياته البرزخية.
والعذاب يكون للروح وللجسد؛ لأن الإحسان حصل من الروح والجسد، والإساءة حصلت من الروح والجسد، فالعذاب يكون للروح والجسد، والنعيم يكون للروح والجسد، والجسد بدون الروح لم يحصل منه عمل، والروح بدون الجسد لم يحصل منها عمل، لكن باجتماع الروح والجسد حصلت الأعمال الصالحة التي يحصل الثواب عليها للروح والجسد، وحصلت الأعمال السيئة التي يكون العقاب عليها لمجموع الروح والجسد.(539/11)
عذاب القبر ونعيمه غيب يجب التسليم به
إن المؤمن يفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها ونعيمها، ويوسع له في قبره مد بصره، أي: فيكون في سعة، وهذا من أمور الغيب، لأن القبور كما هو مشاهد تختلف عما جاء في هذا، ولكن أمور الغيب يجب التصديق بها سواء عرف الكنه والحقيقة أو لم تعرف، ومعلوم أن هذه الأمور لا تعرف، لكن الإنسان لا يجعل إيمانه مبنياً على مشاهدة ومعاينة، فيقول: ما رأيته صدقت به وما لم أره لا أصدق به! فهذا لا يجوز؛ لأن المؤمن من شأنه أن يكون مصدقاً لكل ما جاء الخبر به عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، أدركه عقله أو لم يدركه، والإسلام لا يأتي بما تحيله العقول، ولكنه يأتي بما تحار فيه العقول ولا تدركه، فتلك أمور خفية وأمور واقعة وحاصلة والناس لا يشاهدونها ولا يعاينونها، ولو فتح الإنسان القبر ما رأى نعيماً يأتي من الجنة، ولكن لا ينفي ذلك، لأن الخبر جاء بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فيجب التصديق به.
وقد وجد مما يوضح ذلك في الحياة الدنيا أن الجسد والروح تتنعمان، وكذلك يحصل لهما العذاب في الحياة الدنيا، ويكون الأشخاص متقاربين ومن حولهم لا يدرك ما حصل لهذا من العذاب ولهذا من النعيم، وذلك عندما يكونوا نائمين، ثم يحصل لهذا في نومه نعيم وراحة وأنس وسرور، والآخر بجواره يحصل له عذاب في نومه، ويحصل له حزن وخوف وذعر، وكل واحد لا يعلم ما بصاحبه، والناس الذين يكونون بجوارهما أيضاً لا يدركون الشيء الذي قد حصل لكل منهما، فهذه أمور مشاهدة في الحياة الدنيا تحصل للروح وللجسد، والنوم أخو الموت؛ لأنه يحصل للإنسان في نومه من هذه الأمور مثل ما يحصل له في موته وفي قبره من نعيم أو عذاب، فهذا مثال يوضح ما يجري في القبور، والناس لا يدركون كنهه وحقيقته في هذه الحياة الدنيا.
قوله: [(قال: ويفتح له فيها مد بصره)].
أي: أن قبره يوسع ويكون حيث ينتهي بصره، ومعلوم أن القبور بالنسبة لما يعقله الناس متجاورة ومتلاصقة، لكن أمور الآخرة غيب كما عرفنا، فهذا يفتح له باب إلى الجنة، وهذا يفتح له باب إلى النار، وهذا يوسع له في قبره، وهذا يضيق عليه في قبره حتى تختلف أضلاعه، والله على كل شيء قدير، والواجب التصديق، وهذا من الإيمان بالغيب الذي مدح الله أهله، والغيب هو كل ما غاب عن الأبصار مما لا يعرف إلا بالشرع، قال تعالى في مدح أهله والثناء عليهم: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1 - 3]، فجعل من أول صفات المؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب، وليس إيمانهم مبنياً على مشاهدة ومعاينة.(539/12)
سؤال الكافر في القبر وعذابه فيه
قوله: [(قال: وإن الكافر -فذكر موته- قال: وتعاد روحه في جسده)] الروح تعاد إلى الجسد عند السؤال، ولها اتصال بالجسد وانفصال منه، وتكون على صورة طير كما جاء في الحديث: (أن نسمة المؤمن على صورة طير تعلق بالجنة، وأرواح الشهداء في أجواف طير خضر)، وهذا يدلنا على أن الروح تنعم وحدها، وأيضاً تنعم متصلة بالجسد، والعذاب والنعيم للروح والجسد كما عرفنا.
قوله: [(ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري)].
أي أنه يسأل عن ربه فيخبر بأنه ليس عنده جواب، وأنه لا يدري ماذا يقول.
قوله: [(فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فينادي مناد من السماء: أن كذب، فافرشوه من النار، وألبسوه من النار)].
كذب لأنه بلغته الرسالة، وبلغه العلم عن الرب والدين والنبي، ومع ذلك بقي على كفره، فيكون كاذباً أنه لا يدري، بل كان عالماً في الحياة الدنيا، ولكن الاستكبار والخذلان الذي حصلا له منعاه من الإيمان بالله عز وجل، والدخول في الدين، والشهادة بالألوهية لله عز وجل، والنبوة للرسول صلى الله عليه وسلم، فهو كاذب فيما يقول، وإلا فقد وصله العلم والخبر عن الله وعن الدين وعن النبي.
ولهذا يؤتى له بالفراش من النار، والفراش هو الذي يكون تحته، ويلبس من النار، أي يكون له لباس من النار.
قوله: [(وافتحوا له باباً إلى النار)].
فيأتيه من حرها وسمومها، فيكون معذباً فيها وهو في قبره، كما قال الله عز وجل: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].
قوله: [(ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه)].
وهذا مقابل المؤمن الذي وسع له في قبره حتى صار مد بصره، فهذا أفرش من الجنة، وهذا أفرش من النار، وهذا ألبس من الجنة وهذا ألبس من النار، وهذا فتح له باب من الجنة وهذا فتح له باب إلى النار، وهذا يوسع له قبره حتى يكون مد بصره، وهذا يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه والعياذ بالله! قوله: [(زاد في حديث جرير قال: ثم يقيض له أعمى أبكم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار تراباً)].
ومن تعذيبه أيضاً أنه يضرب بهذه المرزبة التي لو ضرب بها الجبل لكان هذا حاله، ولذلك قال: (فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين، فيصير تراباً، قال: ثم تعاد فيه الروح).(539/13)
تراجم رجال إسناد حديث البراء بن عازب في أسئلة القبر للمؤمن والكافر
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح: وحدثنا هناد بن السري].
هناد بن السري أبو السري، ثقة أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو معاوية].
محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وهذا لفظ هناد عن الأعمش].
والأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المنهال].
منهال بن عمرو، وهو صدوق أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن زاذان].
وهو صدوق أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن البراء بن عازب].
البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي ابن صحابي، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(539/14)
شرح حديث البراء في سؤال القبر من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا الأعمش حدثنا المنهال عن أبي عمر زاذان قال: سمعت البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فذكر نحوه].
ثم ذكر الحديث من طريق أخرى، وأحال على ما سبق وأنه نحوه.
قوله: [حدثنا هناد بن السري حدثنا عبد الله بن نمير].
عبد الله بن نمير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأعمش حدثنا المنهال عن أبي عمر زاذان قال: سمعت البراء].
وقد مر ذكرهم.(539/15)
الأسئلة(539/16)
عذاب القبر غير خاص بهذه الأمة
السؤال
هل السؤال في القبر خاص بهذه الأمة؟
الجواب
الأحاديث وردت بأنه يسأل عن هذا الرجل، والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن قول الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] يدل على أن الناس في قبورهم يسألون ويفتنون، وهي ليست خاصة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن هذه الأمة هي التي تسأل عن نبيها محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الذي رسالته عامة إلى الثقلين؛ لكن الآية بعمومها تدل على أن التثبيت يحصل في الدنيا وفي الآخرة، ومعلوم أن ذلك لمن حصل منه الإيمان، سواء كان من هذه الأمة أو من غيرها.(539/17)
حكم من ينكر عذاب القبر
السؤال
ما حكم من ينكر عذاب القبر؟
الجواب
معلوم أن إنكار عذاب القبر إنكار لشيء معلوم بالأحاديث الكثيرة المتواترة عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فالذي يكون عالماً به يخشى عليه أن يكون كافراً؛ لأن هذا مما تواترت به الأحاديث وجاءت وجاء به القرآن في قوله عز وجل: ((النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا))، فعذاب القبر ثابت في هذه الآية الكريمة في حق آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].
فالذي ينكر عذاب القبر فهو منكر لما جاء في القرآن، فتقام عليه الحجة ويبين له ما جاء في القرآن وما جاء في السنة، وإذا أصر على ذلك فالذي يظهر أنه يكون كافراً، لأنه مكذب بما جاء في القرآن، ومكذب بما جاء في السنن المتواترة.(539/18)
حصول العذاب لغير المقبورين
السؤال
قوله صلى الله عليه وسلم هنا في الحديث: (إن المسلم إذا سئل في القبر) هل له مفهوم؟
الجواب
ذكر القبر هنا ليس له مفهوم من ناحية أنه لا يسأل إلا من كان مقبوراً، بل كل واحد يسأل، ولكن ذُكر القبر لأن الغالب على الناس أنهم يقبرون، والحالات الأخرى التي هي غير الدفن في القبور ليست بشيء بالنسبة لمن يدفن، وذلك كمن تأكله السباع، أو يغرق في البحر، أو تأكله الحيتان، أو يحترق بالنار ولا يبقى له رفات، فلا يقال إن هذا يسلم من عذاب القبر، فإن عذاب القبر سيصل إلى من يستحقه وإلى من هو أهل له، سواء قبر أو لم يقبر، والله عز وجل على كل شيء قدير، فهو قادر أن يوصل العذاب إلى من يستحقه وإن لم يقبر.
وأمور البرزخ تختلف عن أمور الدنيا، فعلى الإنسان أن يؤمن بما جاء به الوحي ويؤمن بالغيب وإن لم يدرك الكنه والحقيقة، ولا يكون الإنسان مؤمناً بالمشاهدة والمعاينة فقط، بل عليه الإيمان بالغيب، ولهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ما يجري في القبور من العذاب تسمعه البهائم، وقد سمعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخفى الله ذلك عن الجن والإنس، ولو ظهر لهم ذلك وأدركوا ما يجري في القبور من الأهوال لما تدافنوا.
وأيضاً: شاء أن يكون من الناس من يؤمن بالغيب، ومنهم من لا يؤمن إلا بالمشاهدة والمعاينة ولا يؤمن بالغيب، فشاء الله أن تكون أمور الآخرة غيباً، وأن يكون ما يجري في القبر غيباً، حتى يتميز من يكون موفقاً ومن يكون مخذولاً، ولو حصل للناس ما يجري في الآخرة لما صار الناس إلى هذا الانقسام الذي شاءه الله من شقي وسعيد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع)، كما ثبت في صحيح مسلم، ولو سمعوا ما يجري في القبور لأصابهم الذعر والخوف وقد يحصل لهم الموت ولا يدفن بعضهم بعضاً لكثرة من يموت بسبب ذلك، فالله عز وجل شاء أن يخفى هذا على الناس وأن يتميز من يؤمن بالغيب ومن لا يؤمن بالغيب، ولهذا فإن البهائم والحيوانات تسمع بما يجري في القبور من العذاب، والجن والإنس لا يسمعون، كما جاء في بعض الأحاديث.
فالحاصل أن العذاب يصل إلى كل من يستحقه سواء قبر أو لم يقبر، ولا يقال: كيف يصل إليه وقد تفرقت أجزاؤه في البحر أو في البر؟ فإن الله على كل شيء قدير، وأمور الآخرة تختلف عن الدنيا، والواجب التصديق بكل ما جاء به القرآن والسنة من كل غيب، وعدم التردد في ذلك.
ومعلوم أيضاً أن من دفن فإن الأرض تأكله وتذهب أجزاؤه فيها، والله يعيد تلك الأجزاء من التراب: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:2 - 3]، وقال الله عز وجل: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق:4]، يعني: فنحن نستخرجهم من الأرض، فجميع الذرات التي اختلطت بالتراب يستخرجها الله تعالى، ويعود الجسم كما كان، كما جاء في قصة الرجل الذي أسرف على نفسه وقال لأولاده: (إذا أنا مت فأحرقوني وذروا نصف الرماد في البر ونصفه في البحر، فأخشى إن قدر الله علي أن يعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، ففعلوا، فأمر الله عز وجل البحر بأن أخرج ما فيه، والبر أخرج ما فيه، حتى عادت كل ذرة إلى مكانها).
ثم أيضاً لو فتح القبر لم نر جنة ولا ناراً، مع أن الجنة والنار موجودتان، وقد أري رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة والنار في صلاة الكسوف، ورأى العناقيد المتدلية، ومد يده، ورأى الصحابة يده تمتد ولم يروا ما مدت إليه؛ لأنهم ما رأوا الجنة، ولما عرضت عليه النار تكعكع ورجع القهقرى، ولما فرغ من صلاته سألوه فقال: (عرضت علي الجنة فرأيت عناقيد العنب متدلية، ومددت يدي لآخذ عنقوداً منها ثم تركته، ولو أخذت منه لأكلتم منه ما بقيت الدنيا)، ولكن الله شاء أن تكون أمور الآخرة غيباً ولا تكون علانية؛ ليتميز من يؤمن ومن لا يؤمن، ومن يكون من أهل الشقاء ومن يكون من أهل السعادة.(539/19)
انقطاع عذاب القبر ودوامه
السؤال
هل عذاب القبر دائم أم على حسب عمل الإنسان في الدنيا؟
الجواب
منه ما هو دائم ومنه ما هو غير دائم، فالدائم كما جاء في القرآن في الكفار: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] أي: فهم في عذاب مستمر، وإذا بعثوا انتقلوا من عذاب شديد إلى عذاب أشد، وأما في حق العصاة فلا يقال إنه دائم، فقد يمكن أن يحصل للإنسان نصيبه من العذاب في القبر وبعد ذلك يسلم، ولهذا فإن من مكفرات الذنوب ومن الأشياء التي يحصل بها التخلص من عذاب جهنم: عذاب القبر، فالإنسان يعذب في قبره فيكون ذلك هو نصيبه من العذاب، ثم بعد ذلك يدخل الجنة، وأيضاً: ورد ما يدل على التخفيف، كما جاء في قصة القبرين اللذين مر بهما الرسول صلى الله عليه وسلم وهما يعذبان في ذنبين: فأحدهما كان لا يستبرئ من البول، والثاني كان يمشي بالنميمة، ثم أخذ جريدة رطبة وشقها نصفين، ووضع على كل قبر جريدة وقال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا).
وهذا الذي جاء في الحديث من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لأحد بعده أن يضع زهوراً أو أن يضع شيئاً من الأشياء الرطبة أو النبات على قبر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم العذاب في القبر وعلم سبب العذاب، وغيره لا يعلم من يعذب ومن ينعم.(539/20)
عذاب القبر ونعيمه جزء من نعيم الجنة أو عذاب النار
السؤال
هل نعيم القبر وعذابه جزء من نعيم الجنة وعذاب النار؟
الجواب
نعم، فقد جاء في الحديث أنه يفتح للمؤمن باب إلى الجنة فيأتيه من روحها ونعيمها، والكافر يفتح له باب إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها.(539/21)
فتنة القبر للموحد العاصي
السؤال
هل يمكن أن يجيب المسلم عن أسئلة القبر مع كونه كان مقصراً في الدنيا مع سلامة توحيده؟
الجواب
نعم، فالجواب يوفق له من كان مؤمناً، وأما من كان كافراً أو منافقاً فهذا لا يجيب بالجواب الحسن أبداً.
والذين ليس لهم إلا النار وليس لهم إلا العذاب هم المنافقون والكفار، وأما غيرهم من العصاة فيدخلون تحت مشيئة الله، فقد يتجاوز عن العاصي من عذاب القبر ومن عذاب النار، والله تعالى أعلم.
والذي يعذب في القبر بالنميمة هو مسلم ولم يكن كافراً؛ لأنه لو كان كافراً لعذاب بعذاب الكفر، والتخفيف إنما يكون لمن يعذب بسبب ذنب، والجواب في القبر يرجى أن يحصل من كل مسلم؛ لكن لا يقال إن من أجاب بالجواب السديد يسلم من عذاب النار، وأن كل المسلمين الذين ليسوا منافقين ولا كفاراً لا يعذبون في القبر، بل يمكن أن يتجاوز الله عنهم فلا يعذبون في القبر ولا في النار، ويمكن أن يعذبوا بعذاب القبر ويكفيهم عن عذاب النار، ويمكن أن يحصل لهم عذاب القبر وعذاب النار، مثل أصحاب الكبائر الذين يدخلون في النار ثم يخرجون منها بشفاعة الشافعين، وبعفو أرحم الراحمين.(539/22)
لا يسأل الأنبياء في قبورهم
السؤال
هل يسأل الأنبياء في القبر؟
الجواب
الأنبياء -كما هو معلوم- هم الذين يسأل المكلف عنهم في القبور.(539/23)
الحكمة من كون الملك الذي يعذب الكافر في القبر أعمى أبكم
السؤال
ما الحكمة من كون الملك الذي يعذب الكافر في قبره أعمى أبكم؟
الجواب
قالوا: يكون أعمى أبكم حتى لا يرحمه؛ لأنه إذا كان يرى أو يسمع فقد يكون فيه شيء من الرحمة، ولكنه إذا كان لا يرى ولا يسمع فإنه يحصل منه العذاب، وليس عنده مجال للرحمة.(539/24)
مدى صحة القول بأن عذاب القبر يستمر أربعين ليلة
السؤال
نجد في بعض الكتب: أن عذاب القبر يستمر أربعين ليلة، فهل يصح هذا؟
الجواب
لا نعلم شيئاً يدل على هذا، فهذه أمور غيبية لا يجوز الكلام فيها إلا بدليل.(539/25)
الدعاء للميت بعد دفنه جماعياً
السؤال
عندنا في البلاد إذا مات شخص يقوم أحد العلماء بعد دفنه ويدعو له والباقون يؤمنون، فهل هذه الطريقة صحيحة أم لا؟
الجواب
الطريقة الصحيحة أن يدعو كل واحد للميت بأن يثبته الله عز وجل وأن يغفر له؛ هذا هو الذي ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما أن يأتي واحد ليدعو والناس يؤمنون فلا.(539/26)
حكم تلقين الميت في القبر
السؤال
في بعض البلاد بعد أن يدعو الناس للميت يخاطبه أحدهم: يا فلان! إذا سئلت عن كذا فأجب بكذا؟
الجواب
هذا شيء مع كونه غير صحيح لا فائدة من ورائه، لأن الإجابة عن أسئلة القبر لا تنبني على التلقين وأنه يقال له: اعمل كذا ولا تعمل كذا، فهذا أمر قد انتهى، والجواب إنما يكون سديداً بتثبيت الله عز وجل.(539/27)
كشف عذاب القبر لبعض الناس
السؤال
ما قولكم فيما يروى عمن كشف له عن بعض عذاب القبر، كمن رأى قبراً يعذب صاحبه بعذاب معين، ومثل هذا موجود في كتب ابن القيم وغيره؟
الجواب
إذا صح ذلك أو ثبت فإنه ممكن، وهو شيء موجود يمكن أن يطلع عليه، لكن ليس كل خبر يذكر يصدق، فقد تروى أخبار وليس لها أساس.(539/28)
حكم التقليد في الاعتقاد
السؤال
استدل بعض أهل العلم بحديث فتنة القبر وعدم إجابته على أنه لا يجوز التقليد في الأمور العقدية، والشاهد منه قوله: (سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته)، فهل هذا صحيح؟
الجواب
هذا وارد في التقليد في الشر، فالذي يجيب بأنه سمع الناس يقولون شيئاً فقاله إنما هو فيما يتعلق بالكفر: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] فهذه هي الطريقة التي كانوا عليها.(539/29)
الدفن في البقيع لا يشفع للإنسان
السؤال
من كان مستحقاً للعذاب في القبر لكنه دفن في جنة البقيع، فهل يسلم لبركة المكان؟
الجواب
جاء عن أحد الصحابة أن البلاد لا تقدس أهلها، وإنما يقدس الإنسان عمله.
ولو دفن في البقيع شخص كافر أو منافق فهل ينفعه كونه دفن في البقيع؟
الجواب
لا ينفعه ذلك، وإنما ينفع الإنسان إيمانه وعمله الصالح، والمهم في الأمر أن يقدم الإنسان لنفسه عملاً صالحاً يلقاه، وسواء دفن في البقيع أو في غير البقيع، وأما أن يبتعد عن الله ثم يقول إن البقيع يشفع له، فهذه أماني كاذبة، وهذا من تلاعب الشيطان بالإنسان.
وقول السائل: (جنة البقيع) هذه من تعبير بعض عوام العجم، فهم يقولون: هذه جنة البقيع.(539/30)
تخفيف العذاب عن الميت بالصدقة عنه
السؤال
هل الصدقة عن الميت تؤثر في تخفيف العذاب عنه في قبره مثلاً؟
الجواب
يرجى ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة).(539/31)
وضع الميت في صندوق في السواحل
السؤال
في بلادنا يوجد بعض الأماكن التي تقع في ساحل البحر إذا حفروا قبراً وجدوا الماء قريباً جداً، فلجئوا إلى إدخال الميت في صندوق ثم يضعونه في قبره، فما الحكم؟
الجواب
الذي ينبغي أن يدفن في مكان بعيد من البحر إن أمكن ذلك، وأما إذا كانت الأرض كلها كذلك، وكان الأمر يقتضي ذلك، فلا بأس.(539/32)
معنى صلاة الميت في قبره
السؤال
جاء عند ابن ماجة وصححه الشيخ الألباني رحمه الله (أن الشمس تمثل للمسئول عند الغروب في قبره، فيقول للملكين: دعاني أصلي! فيقولان: ستفعل) فما المراد بالصلاة هنا؟
الجواب
الله تعالى أعلم، لكن الصلاة هنا قد تكون بمعنى الدعاء، كما جاء في الحديث أن موسى عليه السلام يصلي في قبره كما ثبت في الصحيح، فإذا ثبت ما ذكره السائل فيمكن أن يكون من هذا القبيل.(539/33)
تخصيص ليلة النصف من شعبان بفضيلة
السؤال
هل توجد فضيلة لليلة النصف من شعبان ويومها؟
الجواب
ليلة النصف من شعبان لم يرد فيها شيء ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإنسان عليه أن يكون دائماً وأبداً على صلة بالله وأن يعبد الله عز وجل دائماً، فلا يخص شيئاً من الليالي والأيام إلا وفقاً للدليل، وإذا لم يأت دليل يدل على تخصيص بعض الليالي وبعض الأيام فإن على الإنسان أن يتقيد بما جاء في النصوص، فلا يحدث شيئاً ولا يعمل شيئاً لم تأت به النصوص عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولم يثبت في ليلة النصف من شعبان شيء.
ولشيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه رسالة اشتملت على أربع رسائل: رسالة الاحتفال بالنصف من شعبان، والاحتفال بالإسراء والمعراج، والاحتفال بالمولد النبوي، ورؤيا خادم الحجرة، وهي الرؤيا المكذوبة التي تروج بين حين وآخر، وهي مشتملة على الباطل والكذب.
فهذه الرسائل الأربع طبعت تحت عنوان التحذير من البدع، وقد ذكر أن ليلة النصف من شعبان لم يثبت فيها سنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، والإنسان عليه أن يكون متبعاً وألا يكون مبتدعاً، فالشيء الذي ورد يأخذ به، والذي لم يرد يمسك عنه، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وقال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).(539/34)
من الذي ينفخ في الصور
السؤال
ذكرتم أنه لم يرد نص في أن إسرافيل هو الذي ينفخ في الصور، وقد بحثت فيما بين يدي من المصادر فوقفت على ما يلي: أولاً: في حديث الصور الطويل تسمية الذي ينفخ في الصور بأنه إسرافيل.
ثانياً: روى الطبراني في الأوسط تسميته أيضاً بإسرافيل، وقال الهيثمي: إسناده حسن.
ثالثاً: في كتاب العظمة لـ أبي الشيخ بن حيان رويت آثار عن بعض السلف بأنه إسرافيل.
رابعاً: قال الطبري في تفسيره: تظاهرت الروايات عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه إسرافيل؟
الجواب
قال ابن كثير في التفسير عند تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:73] إنه لا يعلم وجوده في الصحيح، وأما حديث الصور فمعلوم أن فيه كلاماً، وأما هذا الذي ذكره عند الطبراني في الأوسط فنحتاج إلى معرفة مكانه منه؛ حتى يُعرف هل هو ثابت أو غير ثابت، فأنا لا أعلم شيئاً فيما يتعلق بأن إسرافيل ينفخ في الصور، وهو معروف مشهور عند الناس، ومشهور في كتب أهل العلم أنه إسرافيل.
وأيضاً كما قلت في التعليل في توسل النبي صلى الله عليه وسلم بربوبية الله جبريل وميكائيل وإسرافيل يذكر بعض أهل العلم أنهم موكلون بأنواع الحياة الثلاث، وأن إسرافيل موكل بالنفخ في الصور، ولكن الشأن في الحديث الذي يثبت في ذلك.(539/35)
شرح سنن أبي داود [540]
الميزان من أمور يوم القيامة الثابتة بالكتاب السنة، فقد وردت الآيات والسنن بوزن الأعمال؛ لإقامة الحجة على الناس، وإظهار عدل الله، ولذا فلا ينكره إلا الضلال التاركين للسنة.
والدجال من علامات الساعة الكبرى ويكون خروجه آخر الزمان لورود الأحاديث الصحيحة بذلك، وما من نبي إلا حذر قومه منه، وقد ذكر فيه نبينا عليه الصلاة والسلام ما لم يذكره نبي قبله.(540/1)
ذكر الميزان(540/2)
شرح حديث عائشة في ذكر الميزان
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ذكر الميزان.
حدثنا يعقوب بن إبراهيم وحميد بن مسعدة أن إسماعيل بن إبراهيم حدثهم قال: أخبرنا يونس عن الحسن عن عائشة (أنها ذكرت النار فبكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قالت: ذكرت النار فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحداً: عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أو يثقل، وعند الكتاب حين يقال: {هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] حتى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه أم في شماله أم من وراء ظهره، وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم).
قال يعقوب: عن يونس، وهذا لفظ حديثه].
أورد أبو داود باب في الميزان، والميزان هو الذي توزن به أعمال العباد، وتعرف به مقاديرها من حيث الرجحان وعدمه، والميزان له كفتان كما جاء في حديث البطاقة والسجلات.
والوزن إنما هو لإظهار عدل الله عز وجل، وأن كلاً يجازى بما يستحقه، وأنه لا يظلم بحيث ينقص من حسناته أو يزاد في سيئاته، وليس الوزن من أجل أن يعلم الله الراجح من المرجوح، فإن الله تعالى عالم بكل شيء.
وبعض الفرق الضالة أنكرت الميزان من جهة العقل فقالوا: إن الميزان يحتاج إليه البقال، والناس هم الذين يحتاجون إلى معرفة الراجح والمرجوح، والله عز وجل لا يحتاج إلى ذلك، لعلمه بكل شيء، وهذا هو البلاء الذي حصل لمن ابتلي من المبتدعة، بأن قاس الله على خلقه، ففر من إثبات شيء ثابت بحجة أن ذلك يكون فيه مشابهة، مع أن الله عز وجل لا يشبه شيئاً من خلقه، وما يضاف إلى الله عز وجل فإنه على ما يليق به، وما يضاف إلى المخلوقين فعلى ما يليق بهم، والوزن إنما هو من أجل العباد، وليس من أجل شيء يرجع إلى الله سبحانه وتعالى.
وقد جاءت الآيات في كتاب الله والأحاديث في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثبتة لذلك، ومن ذلك حديث البطاقة والسجلات الذي يدل على أن له كفتين، ومن ذلك قول الله عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].
وفي آخر حديث في صحيح البخاري عن أبي هريرة: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماء والأرض).
وعلى هذا فالوزن ثابت في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها (أنها ذكرت النار فبكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قالت: ذكرت النار فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة)؟ والحديث من رواية الحسن عن عائشة بالعنعنة وهو مدلس، ولا أدري هل روايته عن عائشة متصلة أو غير متصلة، لكن سواء روى عنها أم لم يرو فما دام أن ذلك بالعنعنة وهو مدلس فإن ذلك يقدح في الرواية.
وأيضاً من ناحية المعنى وأنهم لا يذكرون أهليهم، فهم من حين يخرجون من قبورهم وهم في أمر يذهل بعضهم عن بعض، ولهذا جاء في الحشر أنهم يخرجون حفاة عراة غرلاً، قالت عائشة رضي الله عنها: (الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: الأمر أعظم من أن يهمهم ذلك) يعني: أنهم لا يفكرون بالشهوات واللذات وما كان يجري في الدنيا من فتنة الرجال بالنساء والنساء بالرجال؛ لأنهم في حال أكبر من أن يفكروا بهذا الأمر، فهذا كما هو معلوم مما ينسيهم أهليهم، فكل مشغول بنفسه وكل يقول: نفسي نفسي! وأيضاً أولو العزم من الرسل كل واحد منهم يقول في ذلك الموقف: نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، ولا يشفع! فقصْرُه نسيان الأهل على هذه المواقف الثلاثة مع أن الذهول موجود من حين الموقف يدل على أن في المتن نكارة، والإسناد فيه تدليس.(540/3)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة في ذكر الميزان
قوله: [حدثنا يعقوب بن إبراهيم].
يعقوب بن إبراهيم الدورقي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، وكذلك هو ومحمد بن بشار ومحمد بن المثنى من صغار شيوخ البخاري، وهم من شيوخ أصحاب الكتب الستة، وقد مات الثلاثة في سنة واحدة، وهي سنة مائتين واثنتين وخمسين، أي قبل وفاة البخاري بأربع سنوات.
[وحميد بن مسعدة].
صدوق أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[أن إسماعيل بن إبراهيم].
إسماعيل بن إبراهيم ابن علية، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا يونس].
يونس بن عبيد، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
الحسن بن أبي الحسن البصري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال يعقوب: عن يونس، وهذا لفظ حديثه].
أي أن يعقوب عندما ساق الإسناد ذكر أن ابن علية عنعن عن يونس، أي: أن لفظ الإخبار إنما هو لـ حميد بن مسعدة، وأما لفظ المتن فلـ يعقوب.(540/4)
الأسئلة(540/5)
ذكر ما يوزن يوم القيامة
السؤال
ما هو الذي يوزن يوم القيامة؟
الجواب
توزن الأعمال وتوزن الصحائف، وقيل أيضاً: إنه يوزن الإنسان نفسه، كما جاء في قصة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن ساقه أثقل من جبل أحد.(540/6)
هل تتعدد الموازين
السؤال
هل هو ميزان واحد أم أنها موازين متعددة؟
الجواب
الله أعلم، لكن كما هو معلوم أن الله على كل شيء قدير، والمهم أن الوزن يحصل سواء كان الميزان واحداً أو متعدداً، وكونه واحداً أيضاً ليس فيه إشكال، كما أن الله عز وجل يسأل الناس واحداً واحداً، ومعلوم أن أمور الآخرة تختلف عن أمور الدنيا.
وقوله تعالى: ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ)) وقوله: ((خَفَّتْ مَوَازِينُهُ)) لا تعني أنه لا بد وأن تكون الموازين جمعاً؛ لأنه من الممكن أن يكون واحداً ممكن، فليس ذلك بمستحيل من ناحية العقل.(540/7)
كيف توزن الأعمال
السؤال
كيف يوزن العمل مع أنه أمر معنوي؟
الجواب
تقلب الأعراض أعياناً فتوزن، وهذا مثل الكلام الذي هو صفة للإنسان وليس له جرم، ولكن الله تعالى يقلب الأعراض ويجعلها أعياناً تقبل الوزن.(540/8)
وزن أعمال الكفار
السؤال
هل توزن أعمال الكفار مع العلم بأنهم من أهل النار، أم أنها توزن فقط لإقامة الحجة عليهم؟
الجواب
معلوم أن الكفار ليس لهم حسنات حتى توضع في كفة والسيئات في كفة، والذي يحصل لهم هو الحساب، وذلك أنهم يقررون عليها ويقال: عملت كذا وحصل منك كذا وكذا، وفي ذلك زيادة تبكيت وتقريع لهم.
وقد جاء في القرآن: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:103]، والكفار هم الذين يخلدون في النار، وأما من ناحية الوزن والمقابلة بين كفة وكفة فليس عندهم حسنات حتى تكون في الكفة الثانية.(540/9)
الترتيب بين الصراط والميزان والحوض
السؤال
ما هو الترتيب الصحيح بين الصراط والميزان والحوض؟
الجواب
الذي يبدو أن الحوض في عرصات القيامة قبل الميزان، والميزان يكون بعد الحساب، والحساب يكون في إنهاء الموقف الذي يموج فيه الناس بعضهم في بعض ويستشفعون، ويأتي الله عز وجل لفصل القضاء بينهم بالحساب، وعندما يثبت العمل ويكون جاهزاً فعند ذلك يأتي الوزن من أجل أن يوقف العباد على عدل الله عز وجل، وبعد الميزان الصراط؛ لأن الصراط ليس بعده إلا النار أو الجنة، وهو فوق النار، ومن جاء على ظهره يريد العبور إلى الجنة فإنه يقع في النار إذا كان من أهلها، وإذا كان ممن وفقه الله فإنه يتجاوز الصراط على الكيفية التي يتفاوت الناس فيها بالسير على الصراط، وذلك حسب أعمالهم، وعلى هذا فالحوض أولاً، والميزان بعده، والصراط بعد ذلك، وذكر بعضهم لترتيبها لفظ: (حمص).(540/10)
للميزان كفتان لا لسان
السؤال
هل للميزان كفتان ولسان؟ الشيخ: أما أن له لساناً فلا أعلم ذلك؛ لأن الإنسان لا يعرف عن ذلك شيئاً، وإنما له كفتان كما جاء في حديث البطاقة والسجلات.(540/11)
الدجال(540/12)
شرح حديث أبي عبيدة في ذكر الدجال
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الدجال حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن خالد الحذاء عن عبد الله بن شقيق عن عبد الله بن سراقة عن أبي عبيدة بن الجراح قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه لم يكن نبي بعد نوح إلا وقد أنذر الدجال قومه، وإني أنذركموه، فوصفه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لعله سيدركه من قد رآني وسمع كلامي! قالوا: يا رسول الله! كيف قلوبنا يومئذ أمثلها اليوم؟ قال: أو خير)].
أورد بعد ذلك أبو داود باباً في الدجال، والدجال: هو إنسان من بني آدم يخرج في آخر الزمان، ويكون ذلك قرب قيام الساعة في زمن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، ويكون موجوداً قبل أن ينزل عيسى، ويكون أيضاً في زمن المهدي، فقد جاء في الحديث أن عيسى بن مريم يصلي وراء إمام المسلمين، وقد جاء في بعض الأحاديث أنه المهدي، ثم بعد ذلك يخرج الدجال ويقتله عيسى بباب لد، فهو من علامات الساعة التي تكون في آخر الزمان، وهو فتنة عظيمة، ويأتي الناس بأمور عجيبة غريبة فيفتنون به، وقد أعطي القدرة على الانتقال، فجاء أن سيره في الأرض كالغيث استدبرته الريح، ويطوف المدن ولا يمنع من شيء منها إلا من مكة والمدينة، ويأتي الناس بجنة ونار، وناره جنة وجنته نار، ولا يستطيع دخول المدينة بل تمنعه الملائكة من دخولها، وجاء في الحديث أنها ترجف ثلاث رجفات فيخرج إليه كل كافر وكافرة وكل منافق ومنافقة، ويتبعونه.
وقد جاء فيه أحاديث كثيرة متواترة في الصحيحين وفي غير الصحيحين، وقد جاء أن الأنبياء حذروا أممهم منه، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته منه، وجاء عنه أحاديث تدل على أنه قريب جداً، وقد جاء أنه قال: (إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه، وإلا فكل امرئ حجيج نفسه)، ولعل هذا كان قبل أن يعلم أن وقته متأخر؛ لأنه جاء عنه عليه الصلاة والسلام نصوص تدل على تأخر وقته، وعلى وجود أمور تقع قبل وقته، فما جاء من الأحاديث يحمل على أنه لم يكن قد أوحي إليه بالوقت الذي يخرج فيه بالتحديد، ولكنه قريب، فقد أخبر عليه السلام أنه بعث والساعة كهاتين، والدجال من علامات الساعة، ولكن جاء في بعض الأحاديث ما يدل على قربه، وأنه قد يخرج وهو فيهم، وقد يخرج وهو ليس فيهم، وجاءت بعد ذلك نصوص تدل على أنه لا يخرج وهو فيهم، وإنما يكون في وقت متأخر، وأن عيسى هو الذي يتولى قتله، ويكون ذلك في أمور ليست متصلة بزمانه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وأورد أبو داود حديث أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح رضي الله تعالى عنه.
قوله: [(إنه لم يكن نبي بعد نوح إلا وقد أنذر الدجال قومه)].
يعني: أنذرهم فتنة الدجال.
قوله: [(وإني أنذركموه، فوصفه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لعله سيدركه من قد رآني وسمع كلامي)].
معناه: أنه قد يخرج في زمن قريب، وأن الذين رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبوه قد يدركونه ويرونه، وهذا يشبه الحديث الذي قال: (إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه، وإلا فكل امرئ حجيج نفسه).
قوله: [(قالوا: يا رسول الله! كيف قلوبنا يومئذ، أمثلها اليوم؟ قال: أو خير)].
أي: كيف تكون قلوبنا يوم خروج الدجال من ناحية الثبات؛ لأنه إذا جاء بالفتنة فإن بعض الناس سيتأثر ويتغير ما في نفسه، لأنه يرى أموراً مذهلة.
وهنا أشار إلى أن قلوبهم مثل الآن أو خير، أي: أنهم سيثبتون ولا يحصل لهم الافتتان به، فلا يصدقونه ويتبعونه، وقد أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم عن أخباره، وأن جنته نار وناره جنة.
والحديث ضعفه الألباني؛ ففي إسناده عبد الله بن سراقة قال البخاري: إنه لم يسمع من أبي عبيدة.(540/13)
تراجم رجال إسناد حديث أبي عبيدة في ذكر الدجال
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد بن سلمة بن دينار البصري، ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن خالد الحذاء].
خالد بن مهران الحذاء، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن شقيق].
وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن سراقة].
عبد الله بن سراقة وثقه العجلي، وقال البخاري: إنه لم يسمع من أبي عبيدة، أخرج له أبو داود والترمذي.
الملقي: [عن أبي عبيدة بن الجراح].
أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح رضي الله تعالى عنه، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(540/14)
شرح حديث ابن عمر في ذكر الدجال
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مخلد بن خالد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله، فذكر الدجال فقال: إني لأنذركموه، وما من نبي إلا قد أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومه، ولكني سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه: تعلمون أنه أعور وأن الله ليس بأعور)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم خطب الناس وحذرهم من فتنة الدجال، وذكر لهم أنه ما من نبي إلا وقد أنذره قومه، وأنه صلى الله عليه وسلم سيقول فيه قولاً ما قاله نبي قبله، ومعنى ذلك أن الله تعالى قد أعطاه من العلم ما لم يعطه أحداً قبله من الأنبياء الذين أنذروا أقوامهم إياه، فإنه قد وصفه لهم في حديثه هذا أنه أعور والله عز وجل ليس بأعور، وهو يدعي الألوهية، ومع ذلك فهو يحمل شاهداً يدل على كذبه، وهو أنه لا يستطيع أن يغير هذا الأمر الذي فيه من التشويه والهيئة القبيحة.
والحديث يدل على أن هذا الكلام الذي جاء في آخر الحديث والذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه به ليس مما كان عند الأنبياء السابقين، وإنما أطلعه الله عز وجل عليه.
وهو يدل أيضاً على وصف الله عز وجل بأن لله عينين، وهو من الأدلة التي يستدل بها أهل السنة والجماعة على إثبات العينين لله عز وجل، لأنه قال: (إن ربكم ليس بأعور)، والعور هو ألا يكون معه إلا عين واحدة، والله عز وجل له عينان.(540/15)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر في ذكر الدجال
قوله: [حدثنا مخلد بن خالد].
مخلد بن خالد الشعيري، وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم].
سالم بن عبد الله بن عمر، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(540/16)
الأسئلة(540/17)
إذا أدرك الصحابة الدجال فإنهم لن ينخدعوا به
السؤال
هل يفهم من قول الصحابة رضي الله عنهم في حديث الدجال: (كيف قلوبنا يومئذ أمثلها اليوم؟) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أو خير) أن من يدرك الدجال من المؤمنين فقلوبهم خير من قلوب الصحابة؟
الجواب
لا؛ لأن الكلام والخطاب للصحابة، ومعناه: أنكم إذا أدركتموه فأنتم تسلمون منه وقلوبكم يكون فيها من الثبات ومن اليقين ما يجعلكم لا تنخدعون به ولا تتبعونه.(540/18)
بناء المقابر في البلاد التي يقرب الماء فيها من السطح
السؤال
المقابر في بلادنا في وسط المزارع، ولذلك فإن مستوى الماء بعد متر من الحفر فيقوم الناس ببناء القبور بالطوب وبعضهم يجعلونها أعلى من الأرض بمتر أو مترين، فهل يجوز مثل هذا؟
الجواب
المناسب أن تكون القبور في أماكن ليس فيها ماء، وعلى الناس أن يبحثوا عن أماكن بعيدة من الماء فيدفنوا الموتى فيها، فإن عسر ذلك واقتضى الأمر جعل الميت في شيء من أجل ألا يذهب في الماء فلا بأس به، وأما كونه يرفع البنيان كمثل المقصورة ويدفن الميت كذلك فإن هذا من أسباب الفتن التي تجعل الناس يفتنون بالموتى ويعظمونهم.(540/19)
تزاور الأرواح في القبور
السؤال
هذا يسأل عن أحاديث تزاور الأرواح، فيذكر أن الشيخ الألباني صحح أو حسن حديث تزاور الأرواح، وأثبت ابن تيمية رحمه الله حديث تزاور الأرواح في القبور في الفتاوى الكبرى، فما رأيكم؟
الجواب
أنا لا أعلم عن ذلك شيئاً.(540/20)
ضمة القبر للمؤمن ليست من قبيل العذاب
السؤال
ماذا تقولون في ضمة القبر التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو نجا منها أحد لنجا منها سعد) هل هذه الضمة تساوي ضمة الكافر أم لا؟
الجواب
لا يمكن أن يكون كذلك؛ لأن سعد بن معاذ قد اهتز لموته عرش الرحمن، ومع ذلك ينجو منها، ولذا فالذي يبدو -والله أعلم- أنها ليست بعذاب في حق مثله.
فالكافر يضيق عليه القبر حتى تختلف أضلاعه ويعذب بذلك، وأما المؤمن الذي هو دون سعد بن معاذ وغيره من الصحابة فيفسح له في قبره.(540/21)
وصف ملكي القبر بالسواد والزرقة
السؤال
ورد في حديث ثابت: (أن من صفات في القبر أنهما أسودان أزرقان)؟
الجواب
لا أعلم ثبوت هذا، ولكن أقول: إذا ثبت ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم قلنا به، فالناس لا يعرفون ولا يعتقدون إلا ما تثبتت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه أمور غيبية، فنقتصر فيها على ما جاء في الوحي.(540/22)
سؤال الشهيد والمرابط في القبر
السؤال
ورد أن الشهداء لا يفتنون في القبور، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (كفى ببارقة السيوف فوق رأسه فتنة)، وكذا ورد في المرابط أنه: (يؤمن الفتان)؟
الجواب
هذا لا يدل على أنهم لا يسألون، ويمكن أنه يؤمن من فتن أخرى غير أمر السؤال، وأما السؤال فهو كما ذكر عن ابن تيمية أن المكلفين يسألون في قبورهم ولا يستثنى من ذلك إلا الأنبياء، وفيهم خلاف كما قال.(540/23)
حكم إعطاء مدير المؤسسة للموظف مالاً دون إذن المالك
السؤال
أنا أعمل لدى إحدى المؤسسات وأستلم راتباً شهرياً، وكان في المحل مدير يعطيني كل يوم عشرة ريالات دون أن يعلم صاحب المحل، فهل هذه العشرة الريالات حلال أم حرام علماً بأن هذه الفلوس بلغت ثلاثة آلاف وستمائة خلال عامين؟
الجواب
يرجع السائل إلى الذي كان يعطيه الفلوس ويسأله: هل يعطيه بإذن من المالك أم بغير إذن؟ فإن كان بإذن فهو يستحقها، وإن كان بغير إذن فهو لا يستحقها، وعليه إرجاعها إلى مال صاحب المحل أو التحلل منه.(540/24)
العقيقة عن المولود بعد ست سنوات من ولادته
السؤال
لي طفلة عمرها ست سنوات ولم أعق عنها، فهل يجوز لي أن أتصدق الآن بذبيحة في مكة؛ علماً أني جئت هنا للعمرة؟
الجواب
نعم.
يعق عنها الآن، وله أن يتصدق بهذه الذبيحة في مكة وإن كان من غير أهل مكة.(540/25)
حكم السعي بين الصفا والمروة على مركوب
السؤال
أنا مصاب بمرض الدوالي في ساقي وأخاف من المضاعفات وأنا ذاهب للعمرة ولا أستطيع أن أسعى بين الصفا والمروة على رجلي، فهل يجوز لي أن أستخدم عجلة؟ وهل تلزمني الفدية إن فعلت ذلك؟
الجواب
له أن يركب العربيات التي تستخدم للسعي بين الصفا والمروة إذا كان يتضرر من المشي، وليس عليه فدية إذا فعل ذلك، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].(540/26)
إغلاق باب الاجتهاد
السؤال
القول بأن باب الاجتهاد مغلق، هل قاله أحد من السلف؟ وماذا يلزم على هذا القول؟
الجواب
هو مغلق عن الذين ليس عندهم علم، وأما من عنده قدرة فليس مغلقاً دونه.(540/27)
أول ما خلق الله
السؤال
ما الراجح في الأولية: خلق العرش أم القلم؟
الجواب
بعض أهل العلم يقول: إن القلم هو الأول؛ لحديث: (أول ما خلق الله القلم).
ومنهم من يقول: إن العرش أول مخلوق، وإن قوله: (إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب) معناه أنه أول ما خلقه قال له: اكتب، أي فلم تبق فترة بين خلقه وأمره بالكتابة.
وقد ذكر ابن القيم الخلاف في النونية، ورجح أن العرش متقدم، قال: والناس مختلفون في القلم الذي كتب القضاء به من الديان هل كان قبل العرش أو هو بعده قولان لاهل العلم مشهوران والحق أن العرش قبل لأنه قبل الكتابة كان ذا أركان(540/28)
شرح سنن أبي داود [541]
جاء الإسلام لجمع كلمة المسلمين وتوحيدهم تحت ظل إمام يحكمهم ويقيم دين الله فيهم، وقد أمر الله ورسوله بطاعته والصبر على أذاه، ونهيا عن عصيانه والخروج عليه ما صلى، بل جاء الأمر بقتل من يفرق كلمة المسلمين.
وعلى المسلم إذا رأى من أميره منكراً أن ينكره عليه بالطريقة المشروعة التي تحقق المصلحة ولا تؤدي إلى ضرر أو مفسدة.(541/1)
قتل الخوارج(541/2)
شرح حديث ذم مفارقة الجماعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قتل الخوارج.
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير وأبو بكر بن عياش ومندل عن مطرف عن أبي جهم عن خالد بن وهبان عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في قتل الخوارج].
والخوارج: هم فرقة من فرق الضلال خرجوا على علي رضي الله تعالى عنه لما حصل التحكيم بين أهل العراق وأهل الشام، وقالوا: لا حكم إلا لله، وانحازوا إلى مكان معين يقال له: حروراء، فأرسل إليهم علي رضي الله عنه ابن عباس فناظرهم، ورجع من رجع منهم وبقي من بقي منهم، وبعد ذلك حصل قتالهم من علي رضي الله عنه؛ لأنهم خرجوا عليه، وصاروا منحازين، وتكلموا في علي وفي غيره من الصحابة بسبب التحكيم.
وقد جاءت الأحاديث في قتالهم وفي فضل ذلك، وجاء في بعض الأحاديث أنه قال: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق).
وقد حصل ذلك من علي رضي الله عنه، فإنه قاتلهم وصار بهذا الحديث هو الأولى بالحق من معاوية، ومعاوية رضي الله عنه مجتهد، والمجتهد المصيب له أجران والمجتهد المخطئ له أجر واحد، وكلهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والواجب محبة الجميع، وتوليهم، والدعاء لهم، وذكرهم بما يليق بهم، وحفظ الألسنة والقلوب من أن يكون فيها شيء لا يليق في حقهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي ذر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه).
ومعناه: أن من فارق جماعة المسلمين وخرج عليهم فإنه يكون بذلك قد ضل وتاه؛ والربقة قيل: هي ما يوضع في رقبة البعير من أجل حفظه وربطه به، أو تربط الدابة به حتى لا تذهب وتضيع، وإذا انفلتت تلك الربقة التي ربطت بها فإنها تضيع وتذهب عن صاحبها، فيكون الذي خرج من الجماعة بمثابة تلك الدابة التي كانت محاطة بسياج الجماعة، ولما خرجت صارت عرضة للضياع وللتلف.
وهذا لا يدل على الكفر؛ ولكن يدل على أن من خرج وقاتل فإنه يستحق أن يقاتل، أما من شذ أو خرج عن جماعة المسلمين بتكوينه جماعة أو حزباً، فإنها تعمل الاحتياطات التي تمنع من شره.(541/3)
تراجم رجال إسناد حديث ذم مفارقة الجماعة
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
زهير بن معاوية، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأبو بكر بن عياش].
وهو ثقة أخرج له البخاري ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[ومندل].
وهو مندل بن علي العنزي، وهو ضعيف، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن مطرف].
مطرف بن طريف، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي جهم].
سليمان بن الجهم، ثقة أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن خالد بن وهبان].
وهو مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن أبي ذر].
جندب بن جنادة رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث في إسناده رجل مجهول، وله شواهد تدل على ما دل عليه من التحذير من الخروج عن الجماعة.(541/4)
شرح حديث الصبر على الولاة إذا استأثروا بالفيء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا مطرف بن طريف عن أبي الجهم عن خالد بن وهبان عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنتم وأئمة من بعدي يستأثرون بهذا الفيء؟ قلت: إذن والذي بعثك بالحق! أضع سيفي على عاتقي ثم أضرب به حتى ألقاك أو ألحقك، قال: أولا أدلك على خير من ذلك؟ تصبر حتى تلقاني)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنتم وأئمة من بعدي يستأثرون بهذا الفيء)، يعني: ما حالكم معهم وما موقفكم منهم؟ ومعلوم أنه قد جاءت الأحاديث الكثيرة في الصبر عند الأثرة، وأن الإنسان لا يقدم على شيء فيه مضرة من أجل حظ فاته من حظوظ الدنيا، أو أنه استؤثر عليه بشيء من أمور الدنيا، والرسول صلى الله عليه وسلم أوصى الأنصار رضي الله عنهم بأن يصبروا، (وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالسمع والطاعة، فكان أصحابه يبايعونه على الطاعة في عسرهم ويسرهم، ومنشطهم ومكرههم، وعلى أثره عليهم).
أي أن يستأثر بالمال دونهم فلا يدعوهم ذلك إلى الخروج وإحداث فتن تترتب عليها أضرار لا حد لها، فإن الأمن والاطمئنان خير من فوات شيء يريد بعض الناس أن يكون له.
فالواجب السمع والطاعة وعدم الخروج وعدم إيجاد أي شيء يحدث الفتن والقلاقل ويفرق الجمع، ويخل بالأمن، ولو فات الإنسان شيء من حظوظ الدنيا.
قوله: (يستأثرون بهذا الفيء).
والفيء: هو ما يؤخذ من الكفار بدون قتال، وحكمه أن يصرف في مصالح المسلمين، وإذا حصل بقتال فإنه غنيمة، والغنيمة تقسم أخماساً: أربعة أخماس منها تكون للغانمين، وخمس يكون للمصارف التي ذكرها الله عز وجل بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] الآية.
قوله: [(تصبر حتى تلقاني)].
أي: تصبر حتى الموت، وهذا لا يدل على أن الأموات يتلاقون في البرزخ، ولكن كما جاء في الأنصار: (فاصبروا حتى تلقوني على الحوض).
قوله: [(قلت: إذن والذي بعثك بالحق! أضع سيفي على عاتقي، ثم أضرب به حتى ألقاك أو ألحقك)].
معناه: أي أنه سيقاتل من حصل منه ذلك، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشده إلى ما هو خير من ذلك، وهو ما يكون فيه السلامة، وعدم حصول الشيء الذي فيه مضرة، فقال له: (أولا أدلك على خير من ذلك؟ تصبر حتى تلقاني) يعني: أن الإنسان يصبر ولو حصل له ما حصل من المضرة، أو فاته ما فاته من المصالح، وذلك حتى ينتقل من هذه الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة ولم تحصل منه فتن وأمور يترتب عليها إضرار بالعامة، وحصول اختلال الأمن الذي لا يقر للناس معه قرار، ولا يهدأ لهم بال، ولا يطيب لهم عيش، ولا يأمنون على أنفسهم، ولا يستريحون في بيوتهم.
ولهذا جاءت الأحاديث الكثيرة في الصبر على جور الولاة وتحريم الخروج عليهم ولو كانوا جائرين، لما يترتب على الخروج من أضرار تفوق جورهم، وذلك بما يحصل بسبب ذلك من الفتن واختلال الأمن، وأن الناس لا يأمنون على أنفسهم ولا على أموالهم ولا على أعراضهم.
وقد يقال: هل قوله: (أولا أدلك على خير من ذلك؟) فيه إرشاد إلى ما هو أفضل مع جواز الخروج؟
و
الجواب
لا يدل على ذلك؛ لأن النصوص واضحة في النهي عن الخروج، وهذا أخذ بالمشتبهات، والواجب هو الأخذ بالأمور الواضحة الجلية التي فيها تحريم الخروج على الولاة ولو كانوا جائرين، أو استأثروا بالمال، ولكن هذا فيه الإرشاد إلى ما فيه السلامة وإلى ما هو خير للإسلام والمسلمين، وهو الصبر وعدم الخروج.(541/5)
تراجم رجال إسناد حديث الصبر على الولاة إذا استأثروا بالفيء
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا زهير حدثنا مطرف بن طريف عن أبي الجهم عن خالد بن وهبان عن أبي ذر].
وقد مر ذكر هذا الإسناد.
والحديث ضعفه الألباني، ولعله من جهة خالد بن وهبان، وهذا الحديث ليس له شواهد من ناحية ذكر الخروج والإرشاد إلى ما هو خير منه، بخلاف الحديث الذي قبله.
ومعنى هذا الحديث مشتبه من حيث المقارنة بين الصبر والخروج بالتفضيل، وهذا مخالف لما جاء في النصوص الأخرى الواضحة الجلية التي فيها أن الصبر هو المطلوب، وأنه ليس هناك مفاضلة بين شيئين أحدهما أولى من الآخر، وينبغي لو صح هذا الحديث أن يحمل على الواضح.(541/6)
شرح حديث النهي عن مقاتلة الولاة ما صلوا
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد وسليمان بن داود المعنى، قالا: حدثنا حماد بن زيد عن معلى بن زياد وهشام بن حسان عن الحسن عن ضبة بن محصن عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ستكون عليكم أئمة تعرفون منهم وتنكرون، فمن أنكر -قال أبو داود قال هشام: بلسانه- فقد برىء، ومن كره بقلبه فقد سلم، ولكن من رضي وتابع.
فقيل: يا رسول الله! أفلا نقتلهم؟ -قال ابن داود: أفلا نقاتلهم؟ - قال: لا، ما صلوا)].
أورد أبو داود حديث أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ستكون عليكم أئمة تعرفون منهم وتنكرون).
يعني: ترون أموراً معروفة حسنة وأموراً منكرة، فعندهم خير وشر، وأمور محمودة وأمور مذمومة، وأمور هي حق وأمور هي باطل.
قوله: [(فمن أنكر -قال أبو داود قال هشام: بلسانه- فقد برئ)].
الإنكار يكون على الأمر المنكر، وأما الأمر المحمود فليس فيه إشكال، وإنما الكلام في المنكر الذي يحصل منهم، فمن أنكر بلسانه، يعني: وذلك بالطريقة المشروعة التي تترتب عليها مصلحة ولا تترتب عليها مضرة، فلا يكون ذلك الإنكار على المنابر، أو بطريقة التشهير، أو الكلام في المجامع مما يترتب عليه تهييج الغوغاء وحصول الفتن، فإن هذا ليس من النصح ولا من الصواب.
والإنسان لا يرضى لنفسه بهذا الشيء، فلو حصل منه أخطاء فإنه لا يحب أن تعلن وأن تذكر على المنابر أو في المجامع، فإذا كان عند الإنسان خطأ فإنه يحب أن ينصح سراً، وأن ينكر عليه سراً، ولا يحب أن ينكر عليه علانية.
وإذا كان الأمر كذلك فعلى الإنسان أن يعامل الناس بمثل ما يحب أن يعاملوه به؛ للحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه في حديث طويل، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، ثم قال: وليأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه).
وجاء عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنهم كلموه في شأن عثمان رضي الله عنه فقال لهم: أترون أني لا أكلمه إلا وأنتم تسمعون؟ لقد كلمته.
يعني: أنه كلمه على وجه لا يترتب عليه ضرر ولا مفسدة.
والحاصل أن المنكر ينكر بالطريقة التي تفيد، لا بالطريقة التي تزيد الطين بلة، وتسبب الفتن والقلاقل وتهيج الغوغاء.
قوله: [(فقد برئ)].
يعني: أنه أدى ما عليه.
قوله: [(ومن كره بقلبه فقد سلم)].
وذلك حيث لم يتمكن من التنبيه والإنكار باللسان، ولم يذكر الإنكار باليد في هذا الحديث.
قوله: [(ولكن من رضي وتابع)].
أي: فهذا هو الذي يأثم؛ لكونه تابع على المنكر وأقره وحصل منه الرضا بالمنكر، فهذا يأثم ويصير شريكاً للحاكم في الإثم.
قوله: [(فقيل: يا رسول الله أفلا نقتلهم؟ -قال ابن داود: أفلا نقاتلهم؟ - قال: لا، ما صلوا)].
أي أن سليمان بن داود قال: (أفلا نقاتلهم؟)، وقال مسدد: (أفلا نقتلهم؟).
فالقتل قد يحصل من الإنسان في الخفاء، وأما القتال فتكون فيه مناصبة وبروز وإظهار.
والمعنى أنه لا يجوز أن يحصل القتل الذي هو الاغتيال أو الإتيان بالخفاء، ولا يجوز أن تحصل المقاتلة بأن يظهر وينصب نفسه ويقاتل الوالي أو الإمام؛ فإن كل ذلك لا يجوز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا ما صلوا)، أي: إذا كانوا يصلون فلا يجوز الخروج عليهم، ولا يجوز قتلهم ولا مقاتلتهم.
وهذا من أوضح الأدلة التي يستدل بها على كفر تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الآخر: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان)، وهنا قال: (لا، ما صلوا)، فدل على أن ترك الصلاة من الكفر الواضح الذي عند الناس فيه من الله برهان؛ لأنه جعل ذلك في مقابل قوله: (إلا أن تروا كفراً بواحاً)، فكأنه هنا ذكر مثالاً للكفر البواح الذي فيه من الله برهان، وهو كونهم لا يصلون، فإذا كانوا يصلون فإنه لا يخرج عليهم، وإذا كانوا يصلون لا فإنه يجوز الخروج عليهم.
ولكن كما قلت: إذا وجد الكفر فلا يجوز الإقدام على الخروج إلا إذا عرف بأنه ستترتب عليه مصلحة، ولا تحصل مفسدة أكبر وأعظم من تلك المفسدة التي يراد التخلص منها؛ لأنه قد يترتب على ذلك إزالة الخارجين، ويترتب على ذلك فتن وأمور لا تحمد، فلا تكون هناك فائدة ولا مصلحة.
وقد يقال: هل يصح تفسير: (ما صلوا) بإبقائهم على شعيرة الصلاة بين المسلمين وإقامة المساجد، أي: ما لم يمنعوا الناس من الصلاة؟ فنقول: ليس هذا معناه؛ لأن كلمة (صلوا) ترجع إلى فعلهم، أي: ما كانوا من المصلين، وليس معنى ذلك أنهم تركوا الناس ولم يمنعوهم وإن كانوا في أنفسهم لا يصلون.
وفي رواية أخرى: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)، ومعلوم أن الأمير إذا حضر فهو الذي يصلي بالناس، ويكون من شأنه أن يكون هو الإمام، وقد كان الأمراء والولاة هم الذين يصلون بالرعية كما كان أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة هم الذين يتولون الصلاة، ويقومون بها.(541/7)
تراجم رجال إسناد حديث النهي عن مقاتلة الولاة ما صلوا
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري، ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[وسليمان بن داود].
سليمان بن داود أبو الربيع الزهراني، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد بن زيد].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معلى بن زياد].
وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[وهشام بن حسان].
هشام بن حسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ضبة بن محصن].
وهو صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي.
[عن أم سلمة].
هند بنت أبي أمية رضي الله عنها وأرضاها، وهي أم المؤمنين، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(541/8)
شرح حديث النهي عن مقاتلة الولاة ما صلوا من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة قال: حدثنا الحسن عن ضبة بن محصن العنزي عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، قال: (فمن كره فقد برىء، ومن أنكر فقد سلم).
قال قتادة: يعني: من أنكر بقلبه ومن كره بقلبه].
وهذا كما هو معلوم عند من لا يتمكن من الإنكار باللسان، وإلا فإنه إذا حصل الإنكار باللسان على الوجه المشروع، والذي لا تترتب عليه مضرة فإن هذا هو المطلوب، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه)، فإنه إذا تمكن من الإنكار باللسان لم يكف الإنكار بالقلب، ولا بد من الإنكار بالقلب لمن لا يتمكن من الإنكار باللسان.(541/9)
تراجم رجال إسناد حديث النهي عن مقاتلة الولاة ما صلوا من طريق أخرى
قوله: [حدثنا ابن بشار].
هو محمد بن بشار الملقب بندار، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معاذ بن هشام].
معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، وهو صدوق ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبي].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الحسن عن ضبة بن محصن العنزى عن أم سلمة].
وقد مر ذكر الثلاثة.(541/10)
شرح حديث الأمر بقتل من يفرق أمر المسلمين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة عن زياد بن علاقة عن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ستكون في أمتي هنات وهنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان)].
أورد أبو داود حديث عرفجة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون في أمتي هنات وهنات وهنات) أي: أمور منكرة وفتن.
قوله: [(فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جميع فاضربو بالسيف كائناً من كان) يعني: أن الخارج على الأئمة يدفع ولو قضي عليه؛ لأنه لو ترك لأخل بالأمن ولأضر بالمسلمين، فإذا كان لا يندفع إلا بالمقاتلة فإنه يقاتل، وإذا كان يندفع بغير ذلك فإنه يفعل معه الشيء الذي يكف شره وأذاه.
وهذا يدلنا على حرص الإسلام على جمع الكلمة، ووحدة الصف، وعدم الفوضى، وعلى أن الأمن فيه مصلحة عظيمة والناس بحاجة إليه، وأن كل من يسعى للإخلال به فإنه يوقع به العقاب الذي يستحقه ولو كان ذلك بالقتل أو القتال.(541/11)
تراجم رجال إسناد حديث الأمر بقتل من يفرق أمر المسلمين
قوله: [حدثنا مسدد عن يحيى].
يحيى هو ابن سعيد القطان البصري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زياد بن علاقة].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عرفجة].
عرفجة بن شريح، وهو صحابي، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.(541/12)
الأسئلة(541/13)
الإنكار على ولي الأمر
السؤال
هل لكل أحد أن ينكر على ولي الأمر؟
الجواب
نعم إذا تمكن بالطريقة المشروعة له، ولكن من الواضح الجلي أنه ليس كل واحد يتمكن من ذلك، ولكن الإنسان إذا أمكنه أن يصل إلى ولي الأمر وينصحه بالطريقة المشروعة، أو يكتب له، أو يتصل به أو بمن يوصل إليه النصح، فله ذلك.(541/14)
حكم الخوارج والفرق بين الخوارج والبغاة
السؤال
هل الخوارج كفار؟ وما الفرق بين البغاة والخوارج؟
الجواب
جاء عن علي رضي الله عنه: أنه لما سئل عن الخوارج أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا.
والفرق بين البغاة والخوارج: أن البغاة قد يكون عندهم هدف الحصول على السلطة والخروج على الإمام، وأما الخوارج فعندهم معتقدات أخرى غير هدف الخروج على الولاة، كالتكفير بالكبيرة والتخليد لصاحبها في النار، وأن شأنه شأن الكفار الذين يبقون فيها أبد الآباد.(541/15)
وجود الخوارج في عصرنا
السؤال
هل للخوارج في عصرنا وجود؟
الجواب
نعم الخوارج موجودون، ولكل قوم وارث، فكل فرق الضلال المختلفة موجودة، فالحق له وراث والباطل له وراث.(541/16)
لا يجوز الخروج على الولاة إلا مع الكفر البواح وعدم الضرر
السؤال
ذكر بعض أهل العلم أنه لا يستحق اسم الإمام أو الحاكم أو ولي الأمر إلا من كان محكماً للشرع، وأما الحاكم بالقوانين الوضعية فلا يسمى حاكماً، فهل هذا التقسيم ينافي قوله في الحديث: (كيف أنتم وأئمة من بعدي)؟ وأيضاً: هناك من يخرج على الحكام بحجة أنهم لا يحكمون الشريعة، ويقول: يجوز الخروج عليهم ولا تنطبق فيهم هذه الأحاديث؟
الجواب
أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة بأنه لا يخرج إلا في حال الكفر البواح الذي عند الناس فيه من الله برهان، فهذا هو الذي يسوغ الخروج، وأما غيره فلا خروج معه، وهذا الشرط مذكور في قوله: [(لا إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان)، فهذا هو الحد الفاصل الذي يميز بين جواز الخروج وحرمته.
وحتى إذا وجد الكفر البواح الذي عند الناس فيه من الله برهان فلا يجوز الخروج إلا إذا علم بأن المصلحة ستحقق بدون أن تحصل مضرة أكبر، أي: أن الكافر لو تسلط على الناس فقد أذن بالخروج عليه والتخلص منه، لكن إذا كان الخروج عليه سيؤدي إلى مفسدة أكبر وإلى ضرر أكبر على المسلمين فإن تركه حتى يتمكن المسلمون ويصير عندهم القدرة على التخلص منه بدون ضرر أمر مطلوب، فالأمر ينظر فيه إلى عدم وجود ضرر أكبر من ضرر الصبر عليه، وإذا ترتب عليه ضرر أكبر فإنه يرتكب أخف الضررين في سبيل التخلص من أشدهما.
قوله: [(يستأثرون بهذا الفيء)].
وهناك أحاديث تأتي فيها صيغة التفضيل لشيء على شيء مع أنه لا مقارنة بين المفضل والمفضل عليه، وذلك مثل: الصلاة خير من النوم، فإنه لا مقارنة بين الصلاة والنوم، ولكن النوم لما كان عند هؤلاء لذيذاً قيل لهم: ما تدعون إليه وفيه مشقة عليكم خير مما تستأنسون به وترتاحون له من الإخلاد إلى النوم وإلى الفراش الوثير، وليس المقصود أن هذا جائز وهذا جائز، فإنه لا يجوز للإنسان أن يبقى في منامه بدون صلاة، بل عليه أن يقوم وأن يهب من فراشه.
ومما جاء من صيغ المفاضلة ولا يقصد معناه قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان:24].
ومن ذلك قول الشاعر: ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا(541/17)
شرح سنن أبي داود [542]
جاء الإسلام بجمع الكلمة على إمام، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن أقوام يأتون بعده، يخرجون على إمام المسلمين بالسيف، ووصفهم بالاجتهاد في العبادة، والفساد في العقيدة، حيث يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان، ويكثرون من الصلاة والصيام، وقراءة القرآن، وأن فيهم رجلاً مثدون اليد هو علامة عليهم.
وقد توعدهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب وذمهم، وأمر بقتالهم، وذكر الفضل العظيم في ذلك، مما جعل علياً رضي الله عنه يقدم قتالهم على قتال أهل الشام.(542/1)
قتال الخوارج(542/2)
شرح حديث أن من علامة الخوارج مودن اليد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قتال الخوارج.
حدثنا محمد بن عبيد ومحمد بن عيسى المعنى، قالا: حدثنا حماد عن أيوب عن محمد عن عبيدة: أن علياً ذكر أهل النهروان فقال (فيهم رجل مودن اليد أو مخدج اليد أو مثدون اليد، لولا أن تبطروا لنبأتكم ما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم قال: قلت: أنت سمعت هذا منه؟ قال: إي ورب الكعبة!)].
أورد أبو داود باباً في قتال الخوارج، وكان الباب الماضي في قتل الخوارج، والقتل كما هو معلوم يكون بدون قتال، وأما القتال فإنه على الذين برزوا وسلوا السيوف وأرادوا المقاتلة.
فالقتال يكون من الجانبين، والقتل يكون من جانب واحد عندما يقتضي الأمر ذلك، ولا يندفع الشر إلا به.
وهنا أورد أبو داود رحمه الله عدة أحاديث في قتال الخوارج أولها حديث علي رضي الله عنه أنه ذكر أهل النهروان فقال: (فيهم رجل مودن اليد أو مخدج اليد أو مثدون اليد)].
والنهروان: هو محل الموقعة التي حصلت بينه وبين الخوارج، والتي قتل فيها الكثير منهم.
والمودن اليد: قصيرها، أي: أن يده قصيرة، وفي طرفها قطعة من اللحم لها حلمة كلحمة ثدي المرأة، فهذه صفة لرجل منهم.
قوله: [(لولا أن تبطروا لنبأتكم ما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم)].
أي: أنه خاف عليهم البطر، وهو أن يحصل منهم تجاوز للحد في قتالهم من أجل أن يستأصلوهم ولا يبقوا على أحد منهم؛ لأنه ورد وعد عظيم في قتالهم، ولكن إذا حصل منهم أن تركوا وكفوا واستسلموا فإنه يمسك عنهم، فلعلهم أن يرجعوا.
قوله: [(قلت: أنت سمعت هذا منه؟ قال: إي ورب الكعبة)].
أراد عبيدة السلماني أن يتحقق من علي أنه سمع هذا منه، فأقسم علي رضي الله عنه برب الكعبة على أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.(542/3)
تراجم رجال إسناد حديث أن من علامة الخوارج مودن اليد
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد].
محمد بن عبيد بن حساب، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[ومحمد بن عيسى].
محمد بن عيسى الطباع ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا حماد].
وهو حماد بن زيد، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب].
أيوب بن أبي تميمة السختياني، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد].
محمد بن سيرين، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيدة].
عبيدة بن عمرو السلماني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن علياً].
علي رضي الله عنه، أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(542/4)
شرح حديث أبي سعيد في قتال الخوارج
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن أبيه عن ابن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري قال: (بعث علي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة في تربتها، فقسمها بين أربعة: بين الأقرع بن حابس الحنظلي ثم المجاشعي، وبين عيينة بن بدر الفزاري، وبين زيد الخيل الطائي، ثم أحد بني نبهان، وبين علقمة بن علاثة العامري، ثم أحد بني كلاب، قال: فغضبت قريش والأنصار وقالت: يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا؟! فقال: إنما أتألفهم.
قال: فأقبل رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناتئ الجبين، كث اللحية، محلوق، قال: اتق الله يا محمد! فقال: من يطيع الله إذا عصيته؟ أيأمنني الله على أهل الأرض ولا تأمنوني؟ قال: فسأل رجل قتله أحسبه خالد بن الوليد، قال: فمنعه، قال: فلما ولى قال: إن من ضئضىء هذا أو في عقب هذا قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم قتلتهم قتل عاد)].
أورد بعد ذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (بعث علي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة في تربتها).
يعني: في ترابها ما نقيت ولا صفيت.
قوله: [(فقسمها بين أربعة)] يعني ممن أسلموا حديثاً يريد أن يتألفهم على الإسلام، ويريد أن يثبت الإيمان في قلوبهم وأن يقوى إيمانهم؛ حتى يسلم بإسلامهم الفئام الكثيرة من الناس الذين يتبعونهم على ما هم عليه من الحق أو الباطل.
فيريد أن يحسن إسلامهم، حتى يسلم أولئك الذين يتبعونهم في الشر، فيكونون تابعين في الخير، فحصل في نفوس القرشيين والأنصار من ذلك شيء وقالوا: يعطي هؤلاء ويدعنا، فبين صلى الله عليه وسلم السبب الذي أعطاهم من أجله؛ وهو أنه يتألفهم على الإسلام حتى يتبعهم الفئام الكثيرة من الناس.
وهذا من حرصه صلى الله عليه وسلم على هداية الناس، وعلى خروجهم من الظلمات إلى النور؛ فإنه أعطى هؤلاء المتبوعين من أجل أن يحسن إسلامهم، ومن أجل أن يتبعهم أتباعهم في الخير كما كانوا يتبعونهم من قبل بالشر.
ثم أنه جاء رجل غائر العينين، ناتئ الوجنتين، كث اللحية، محلوق الرأس، وقال: اتق الله يا محمد! فرد عليه الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: (من يطيع الله إذا عصيته؟!) أي: إذا لم أتقه أنا فمن يطيعه؟! ومعلوم أن الناس الذين يطيعون الله إنما حصلت لهم هذه الفائدة من اتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرهم على منهاجه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وقوله: [(أيأمنني الله على أهل الأرض ولا تأمنوني؟!)].
يعني: يأمنني الله بأن بعثني إليهم، وجعلني أدعوهم إلى الهدى، وإلى الخروج من الظلمات إلى النور، ولا تأمنوني أنتم فيما يكون بين يدي أقسمه على حسب المصلحة، وعلى حسب الفائدة التي ترجع للإسلام والمسلمين؟! قوله: [(محلوق)] ومن أوصاف الخوارج أنهم يتميزون بحلق الرءوس، ومعلوم أن حلق الرءوس يمكن أن يكون من غيرهم، ولا يلزم أن يكون كل من حلق رأسه خارجياً، ولكن هذا شأنهم وهذه طريقتهم، أنهم يلتزمون التحليق، ولكن الحلق يمكن أن يحصل من غيرهم ولا يقال الفاعل ذلك: إنه خارجي؛ لأنه جاء في بعض الأحاديث ما يدل عليه؛ وهو أنه رأى صبياً قد حلق بعض رأسه وترك بعضه فقال: (احلقه كله أو دعه كله)، فيدل هذا على جواز الحلق، وعلى أنه سائغ.
قوله: [(قال: فسأل رجل قتله، أحسبه خالد بن الوليد)].
أي: سأل خالد قتل هذا الرجل الذي قال هذا الكلام للرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه صلى الله عليه وسلم منعه من ذلك.
قوله: [(فلما ولى قال: إن من ضئضىء هذا أو في عقب هذا قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم)].
أي: إن من نسله قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ومعناه أن عندهم عبادة، وعندهم قراءة للقرآن، ولكنه لا يجاوز تراقيهم؛ لما ابتلوا به من الانحراف عن الجادة والخروج عن المنهج القويم والصراط المستقيم، والمراد بذلك: الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
قوله: [(يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان)].
أي: هذا شأنهم، قد خرجوا على الإمام وقاتلوه؛ لأنه رأى التحكيم، وقالوا: لا حكم إلا لله، وهي كما قال علي: كلمة حق أريد بها باطل! فيكون شأنهم أنهم يتجهون بالقتل إلى أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان.
قوله: [(فإن أنا أدركتهم قتلتهم قتل عاد)].
ومعلوم أن الله أهلك عاداً بالريح، والمقصود من ذلك أن يستأصلهم ويقضي عليهم إذا أدركهم، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأنه تقتلهم أولى الطائفتين بالحق، وقد قتلهم علي رضي الله عنه.(542/5)
تراجم رجال إسناد حديث أبي سعيد في قتال الخوارج
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
سعيد بن مسروق الثوري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي نعم].
وهو عبد الرحمن بن أبي نعم، وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد الخدري].
سعد بن مالك بن سنان الخدري، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(542/6)
شرح حديث أنس وأبي سعيد في قتال الخوارج
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي حدثنا الوليد ومبشر -يعني ابن إسماعيل الحلبي - بإسناده عن أبي عمرو قال: -يعني الوليد - حدثنا أبو عمرو قال: حدثني قتادة عن أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية لا يرجعون حتى يرتد على فوقة، هم شر الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أولى بالله تعالى منهم.
قالوا: يا رسول الله! ما سيماهم؟ قال: التحليق)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما، وهو يتعلق بالخوارج وقتالهم.
قوله: [(سيكون في أمتي اختلاف وفرقة)].
وهذا الافتراق والاختلاف قد حصل بين أهل العراق وأهل الشام، فأهل العراق مع علي رضي الله عنه وهو خليفة المسلمين، وأهل الشام مع معاوية رضي الله عنه الذي أراد أن يقتص من قتلة عثمان أولاً، وكان علي رضي الله عنه رأى أن المصلحة، أن يتم اتفاق الكلمة أولاً، ثم بعد ذلك يتصرف بالتصرف المطلوب أو الذي ينبغي، وكل وقف عند رأيه، وحصلت الفرقة واستمر الأمر على ذلك حتى حصل الاتفاق بجمع الكلمة على يد الحسن بن علي رضي الله عنه، الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إنه سيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق).
قوله: [(قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل)].
أي: يحسنون القول ويسيئون الفعل، فالقول مثل القراءة، ولكن يسيئون الفعل، بكونهم خرجوا على الإمام ونابذوا المسلمين وتصدوا لهم وقاتلوهم.
قوله: [(يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية لا يرجعون حتى يرتد على فوقة)].
الفوق بضم الفاء موضع الوتر من السهم.
وهذا تعليق بالمحال فإن ارتداد السهم على الفوق محال، ورجوعهم إلى الدين أيضاً محال.
وهذه إشارة إلى شدة تمسكهم بالباطل وإصرارهم عليه، وتمكنه من نفوسهم حيث يعتقدون أنهم على حق وهم على باطل كما قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8].
قوله: [(هم شر الخلق والخليقة)].
ومعلوم أن الكفار الذين يقاتلون المسلمين قد وصفهم الله بقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22].
ولاشك أنهم شر الخليقة باتفاق المسلمين وأنه لا نصيب لهم في الإسلام؛ أما الخوارج فأمرهم مشكوك فيه، ولكن هذا كله يدل على خبثهم وعلى منتهى قبحهم، وعلى حصول الضرر الكبير منهم للمسلمين؛ وذلك أنهم يشغلون الناس عن قتال الكفار وعن الجهاد في سبيل الله، مثلما حصل بالنسبة لـ أبي بكر رضي الله عنه حين شغله قتال مانعي الزكاة عن الفتوحات، فلما قضى عليهم، اتجه إلى تجهيز الجيوش للفرس وللروم.
قوله: [(طوبى لمن قتلهم وقتلوه)].
يعني: هذا يدل على فضل قتالهم وعلى فضل من قتلوه.
قوله: [(يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء)].
كانوا يقولون: لا حكم إلا لله، وقوله: [(يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء)] يوضح الجملة التي سبق أن مرت: (يحسنون القيل ويسيئون الفعل)، لأنه قال هنا: (يدعون إلى كتاب الله)، وهذا من أحسن القول، ولكن حقيقتهم أنهم (ليسوا منه في شيء)، يعني: أنهم من حيث التطبيق ومن حيث التنفيذ ليسوا منه في شيء.
فهم يسيئون العمل، وذلك بالخروج على الأئمة وافتتانهم بآرائهم الفاسدة، وأفكارهم المنحرفة الشاذة.
قوله: [(من قاتلهم كان أولى بالله منهم)].
وهذا من جنس الأمثلة التي مر ذكرها قريباً، أي أنهم يظنون أنهم على حق، ومن قاتلهم فهو أولى بالله منهم.
قوله: [(قالوا: يا رسول الله! ما سيماهم؟ قال: التحليق)].
يعني: علامتهم حلق الرءوس، أي: التزام ذلك، وكونهم يعرفون بذلك.
لكن كما عرفنا أنه ليس معناه أن من حلق رأسه فهو منهم، بل قد يكون من غيرهم، وذلك سائغ شرعاً.(542/7)
تراجم رجال إسناد حديث أنس وأبي سعيد في قتال الخوارج
قوله: [حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي].
نصر بن عاصم الأنطاكي لين الحديث أخرج له أبو داود.
[حدثنا الوليد].
هو الوليد بن مسلم، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومبشر - يعني ابن إسماعيل -].
مبشر بن إسماعيل، وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عمرو].
أبو عمرو الأوزاعي وهو: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي، مر ذكره.
[عن أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك].
أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، مر ذكره.
وأنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(542/8)
شرح حديث أنس في ذكر التسبيد من سيما الخوارج
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه قال: (سيماهم التحليق والتسبيد، فإذا رأيتموهم فأنيموهم).
قال أبو داود: التسبيد: استئصال الشعر].
هذا الحديث الذي أورده أبو داود رحمه الله يتعلق بالحديث الذي قبله، وقد أحال في هذه الرواية على ما مضى وقال: [نحوه] أي: نحو الحديث المتقدم فيما يتعلق بالمتن، وأشار إلى أنه يوجد هنا اختلاف عما تقدم، وذلك في قوله: (سيماهم التحليق والتسبيد) فقوله: (سيماهم التحليق)، مر فيما مضى، يعني: أن هذه علامتهم التي يعرفون ويتميزون بها، وأنهم يحلقون رءوسهم ويستأصلون حلقها.
وقد مر أن هذه العلامة لا تعني أنه لا يجوز حلق الرأس، بل يجوز حلقه ويجوز تركه، وقد دل على ذلك الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه لما رأى صبياً قد حلق بعض رأسه وترك بعضه قال: احلقوه كله أو دعوه كله).
والتسبيد: هو استئصال الشعر.
وقوله: [(فإذا لقيتموهم فأنيموهم)].
الإنامة المقصود بها: القتل؛ لأن الإنسان إذا قتل فإنه يقع على الأرض كالنائم، وذلك ليسلم الناس من شرهم، ومعلوم أن النوم هو أخو الموت، وقد جاء في الحديث: (النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون)، وقد جاء في القرآن: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42]، يعني: والتي لم تمت يتوفاها في منامها.
قال أبو داود: [التسبيد: استئصال الشعر].
أي: هذا هو تفسير التسبيد الذي جاء معطوفاً على التحليق.(542/9)
تراجم رجال إسناد حديث أنس في ذكر التسبيد من سيما الخوارج
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(542/10)
شرح حديث علي في فضل قتال الخوارج
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثنا الأعمش عن خيثمة عن سويد بن غفلة قال: قال علي رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً، فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإنما الحرب خدعة.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.
قوله: [قال علي رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه].
يعني: أنه يتحرز في حديثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحتاط ويتوقى أن يزل بذكر شيء لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يحافظ على نصه ويأتي به كما تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(542/11)
معنى الخدعة في الحرب
قوله: [فإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإنما الحرب خدعة].
(خدعة) فيها عدة لغات: فهي بفتح الخاء وإسكان الدال، ويقال: بضم الخاء وفتح الدال.
وفيها غير ذلك.
والمعنى: أن الإنسان قد يوري في أمور تحتاج الحرب فيها إلى تورية، بأن يظهر للأعداء أشياء غير مطابقة للواقع من ناحية ما عند الناس من القوة، سواء كانت حسية أو معنوية، ولكنه يأتي بكلام لا يكون واضحاً جلياً في أنه مخالف للواقع وغير مطابق له.
ومعلوم أن التورية يكون الإنسان فيها صادقاً؛ لأنه يقول كلاماً يريد به شيئاً وغيره يفهم غير ذلك.
وهذا مما يحصل في الحرب من إظهار القوة وإن كان هناك شيء من الضعف، مثلما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء، حين جلس الكفار في الجهة التي هي خلف الحجر ينظرون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يطوفون، فكان بعضهم يقول لبعض: يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب، يعني: أنهم هزال ضعاف، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يرملوا في الأشواط الثلاثة الأول، حتى إذا كانوا بين الركن والحجر الأسود لم يرملوا، بل يمشون ليحصل لهم شيء من الراحة بعد هذا الرمل، والمقصود من ذلك إظهار قوتهم لأعدائهم الذين قالوا تلك المقالة، حتى عاد بعضهم يحدث بعضاً ويقول: هذا الكلام الذي قلتموه غير صحيح، وذلك بعدما رأوهم يرملون.
وكان هذا أول مشروعية الرمل، ثم إنه بعد ذلك شرع للناس حتى يتذكروا أن المسلمين كان فيهم ضعف ثم إن الله تعالى أعز الإسلام وأهله؛ ولهذا رمل الرسول صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع من الحجر إلى الحجر، في الأشواط الثلاثة.
فمعنى كون الحرب خدعة: أن الإنسان يأتي بكلام أو بفعل يفهم منه الأعداء خلاف ما يحبونه وما يريدونه من ضعف المسلمين ومن عدم قوتهم.
والتورية أيضاً تجوز في غير الحرب، وذلك في الأمور التي يُحَتاجُ فيها إلى التورية.(542/12)
الخوارج حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام
قوله: [سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام)].
ما تقدم عنه رضي الله عنه كان تمهيداً لبيان حرصه على رواية ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرصه على أدائه كما سمعه، وأن سقوطه من السماء أهون عليه من أن يكذب على رسول صلى الله عليه وسلم، بل هو يتحرز ويتحرى ويحتاط، ويأتي بالكلام الذي يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحسن وجه، وعلى أتم وجه، احتراماً لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرصاً على أدائه كما سمعه من رسول الله عليه الصلاة والسلام، فبين بعد ذلك هذا الكلام الذي سمعه في الخوارج.
وحدثاء الأسنان هم صغار الأعمار، أي أنهم شبان، ووصفهم بأنهم حدثاء الأسنان معناه أنهم ما تقدمت بهم السن حتى يجربوا الأمور كما جربها وعرفها من تقدم به العمر، فإن الشباب يحصل في بعضهم شيء من التسرع أو الإقدام على أشياء تكون عاقبتها غير محمودة؛ وذلك لأنه ما حصل عندهم الثبات في الرأي، والثبات في الحق.
ووصفهم أيضاً بأنهم سفهاء الأحلام، وذلك مأخوذ من السفه، والأحلام هي العقول، قال تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الطور:32].
قوله: [(يقولون من قول خير البرية)].
هذا يوضح معنى ما سبق فيما تقدم من الأحاديث: (يحسنون القيل ويسيئون الفعل)، فهم يتكلمون كلاماً حسناً أو كلاماً جميلاً, وهو أن عندهم اشتغالاً بالقرآن، وعناية بالقرآن، ولكن حصل لهم الانحراف عن فهم القرآن، فصاروا بلاء على أهل الإسلام وحرباً لأهل الإسلام؛ ولهذا حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منهم وبين فضل قتالهم، وأن قتلهم فيه أجر عظيم وثواب جزيل من الله سبحانه وتعالى.
وخير البرية هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم يقولون من قوله، وكذلك يقرءون القرآن، ويشتغلون بقراءته.
وقوله: [(يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)].
قد مر معناه.
قوله: [(فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة)].
الخطاب هنا للصحابة ومن يأتي بعدهم، وهذا فيه بيان فضيلة قتلهم، وأن من قتلهم يؤجر على ذلك لأنه ساعد في القضاء على فتنة قامت على الإسلام والمسلمين.(542/13)
تراجم رجال إسناد حديث علي في فضل قتال الخوارج
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
سفيان بن سعيد الثوري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأعمش].
سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خيثمة].
خيثمة بن عبد الرحمن، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سويد بن غفلة].
وهو مخضرم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وسويد بن غفلة كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: إنه قدم إلى المدينة في اليوم الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يصدق عليه أن يقال: كاد أن يكون صحابياً، فليس ما بينه وبين الصحبة إلا شيئاً يسيراً؛ لأنه قدم المدينة والناس ينفضون أيديهم بعد دفن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكان معمراً، وقد ذكر في ترجمته أنه كان يصلي بالناس التراويح في رمضان وعمره مائة وعشرون سنة، وذكر مثل هذا في ترجمة المعرور بن سويد، قالوا: إنه بلغ مائة وعشرين سنة، وكان أسود شعر الرأس واللحية، وهما -أي: سويد بن غفلة والمعرور بن سويد - قد أدركا الجاهلية والإسلام ولم يلقيا النبي عليه الصلاة والسلام.
وقريب منها ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة في تعريف الصحابي أنه من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، ومات على الإسلام.
قال: وهل يلحق به من رآه بعد أن توفي وقبل أن يدفن، كما ذُكِر أن أبا ذؤيب الهذلي الشاعر حصل له ذلك؟ قال: هذا محل خلاف، وإن صح- يعني هذا الخبر- فالأوجه أنه لا يعتبر صحابياً؛ لأنه إنما يعتبر صحابياً من رآه في حياته عليه الصلاة والسلام.
[قال علي].
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو رابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة.
فإن قيل: هل يجوز قتل الخوارج بدون إذن الإمام؟ ف
الجواب
لا يجوز القتل بدون إذن الإمام؛ لأن القتل يسبب القتل، ولكن القتل بطريقة مشروعة هو المشروع، أما القتل باغتيالات وبأمور فيها تعد وتجاوز، هذا يؤدي إلى اختلاط الأمور، وليس كل إنسان يفهم الخارجي ويميزه عن غيره، فقد يتهم شخص شخصاً أو جماعة ويزعم أنهم خوارج، فلذلك إنما يكون الأمر بالقتل من الإمام حيث يرى المصلحة في القتل والقتال.(542/14)
شرح حديث زيد بن وهب في قتال الخوارج
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق عن عبد الملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل قال: أخبرني زيد بن وهب الجهني أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي عليه السلام الذين ساروا إلى الخوارج، فقال علي عليه السلام: أيها الناس: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليست قراءتكم إلى قراءتهم شيئاً، ولا صلاتكم إلى صلاتهم شيئاً، ولا صيامكم إلى صيامهم شيئاً، يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم، وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية.
لو يعلم الجيش يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم، لنكلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلاً له عضد وليست له ذراع، على عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض)! أفتذهبون إلى معاوية وأهل الشام، وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذارريكم وأموالكم؟ والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس، فسيروا على اسم الله.
قال سلمة بن كهيل: فنزلني زيد بن وهب منزلاً منزلاً حتى مر بنا على قنطرة، قال: فلما التقينا، وعلى الخوارج عبد الله بن وهب الراسبي فقال لهم: ألقوا الرماح وسلوا السيوف من جفونها، فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء.
قال: فوحشوا برماحهم، واستلوا السيوف، وشجرهم الناس برماحهم، قال: وقتلوا بعضهم على بعضهم، قال: وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان، فقال علي عليه السلام: التمسوا فيهم المخدج، فلم يجدوا.
قال فقام علي رضي الله عنه بنفسه حتى أتى ناساً قد قتل بعضهم على بعض، فقال: أخرجوهم.
فوجدوه مما يلي الأرض، فكبر وقال: صدق الله وبلغ رسوله.
فقام إليه عبيدة السلماني فقال: يا أمير المؤمنين! والله الذي لا إله إلا هو لقد سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو! حتى استحلفه ثلاثاً وهو يحلف].(542/15)
اجتهاد الخوارج في العبادة وانحرافهم عن الجادة
أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه، وهو يتعلق بقتال الخوراج أيضاً، وفيه أن زيد بن وهب الجهني كان في الجيش الذين كانوا مع علي رضي الله عنه الذين ساروا إلى الخوارج، وقد كان يحدث بذلك سلمة بن كهيل، فذكر أن علياً رضي الله عنه خطب الناس وقال: أيها الناس! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن، ليست قراءتكم إلى قراءتهم شيئاً).
وهذا من جنس ما جاء في بعض الروايات: (تحقرون صلاتكم عند صلاتهم، وقراءتكم عند قراءتهم)، ومعناه أن هذا الذي يعمله المسلمون الذين هم على السنة، وعلى طريقة صحيحة من العبادة قليل إذا قورن بما عند الخوارج من اجتهاد في العبادة، ولذلك يحقر الناس صلاتهم إلى صلاة الخوارج، وصيامهم إلى صيامهم، وأعمالهم إلى أعمالهم، ومعناه: أنهم مجتهدون في العبادة، ولكنهم منحرفون عن الجادة، بعقائدهم الفاسدة، وبشبههم الباطلة، وفهمهم للقرآن على غير حقيقته، وخروجهم على جماعة المسلمين وقتالهم، وكونهم يحسنون القول ويسيئون الفعل، ولذلك خطب علي رضي الله عنه وأرضاه بالناس وبين لهم أحوال هؤلاء وقال: إنه يرجو أن يكون هؤلاء هم الذين أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يكون هو الذي وفق لقتالهم.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أنه هو الذي وفق لقتالهم، حيث قال: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق) وقد قاتلهم علي رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الحديث فيه بيان قتلهم وانتصاره عليهم، فقد قتل الكثيرين منهم حتى صاروا أكواماً بعضهم فوق بعض، ولم يُصَب من المسلمين إلا رجلان.
قوله: [(يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم، وهو عليهم)].
أي: أنهم يفهمونه على غير وجهه، فهم كما قال الله عز وجل: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8]، فهم يظنون أنهم على شيء وهم بخلاف ما ظنوا؛ يظنون أنهم على حق وهم على باطل؛ للشبه التي عرضت لهم، وللباطل الذي أشربته قلوبهم.
قوله: (لا تجاوز صلاتهم تراقيهم)] تقدم في الأحاديث السابقة: (لا تجاوز قراءتهم) وتقدم: (لا يجاوز إيمانهم) وذكر هنا الصلاة، والصلاة من الإيمان، والمراد أنهم يعملون أعمال الجوارح ولكن الاعتقاد فاسد؛ وهذا يوضح معنى قول الله عز وجل في سورة الغاشية: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4]؛ لأنهم أهل عبادة، وأهل نصب، وأهل تعب، ولكنهم والعياذ بالله ليسوا على هدى، وإنما هم على ضلالة، ولذلك جاء في الحديث أنهم كلاب النار.(542/16)
عظيم الأجر لمن قاتل الخوارج
قوله: [لو يعلم الجيش يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن العمل].
أي: لنكلوا عن الأعمال الأخرى، وصار اشتغالهم بهم، وفي بعض النسخ: (لاتكلوا على العمل) أي لاتكلوا على هذا العمل، وهو قتال الخوارج؛ لأنهم حصلوا الأجر العظيم بذلك فيتكلون عليه، وهذا مثلما جاء في بعض الأحاديث من التحذير من إخبار الناس ببعض الأمور التي قد تجعلهم يتركون العمل، ومن ذلك ما جاء في حديث معاذ الذي ذكر فيه حق الله على العباد، وحق العباد على الله، قال: أفلا أبشر الناس؟ قال: (لا تبشرهم فيتكلوا).
وهذا فيه بيان أن على الإنسان ألا يغتر بكونه عمل شيئاً مما يتعلق بالوعد، ويغفل جانب الوعيد، وإنما عليه أن يُعمل أحاديث الوعد وأحاديث الوعيد، فيكون خائفاً راجياً؛ لأن بعض الناس يتجه إلى أحاديث الوعد -كما فعلت المرجئة- ويهمل جانب الوعيد، وبعض الناس يتجه إلى أحاديث الوعيد -كما فعلت المعتزلة والخوارج- ويهمل جانب الوعد، والواجب هو الاعتدال والتوسط، فأهل السنة والجماعة يأخذون بأحاديث الوعد والوعيد، فيعملون بجميع النصوص.(542/17)
صفة الرجل الذي هو علامة على الخوارج
قوله: [وآية ذلك أن فيهم رجلاً له عضد وليست له ذراع، على عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض].
يعني: علامة هؤلاء الخوارج الذين يقاتلون ويقتلون أن فيهم رجلاً له عضد وليست له ذراع، أي أن ذراعه غير موجودة، ولكن له عضد في رأس عضده لحمة كحلمة ثدي المرأة، وعليه شعرات بيض.
فلما وقع قتالهم وقتلهم علي رضي الله عنه أمر أن يبحث عن هذا الشخص الذي هو علامة على الخوارج، وأنهم هم الذين عناهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فبحثوا عنه فلم يجدوا، فقام بنفسه وصار يبحث حتى وجد كوماً من القتلى بعضهم فوق بعض، فأمر بأن يزاح بعضهم عن بعض حتى وجدوه أسفلهم مما يلي الأرض، فكبر عند ذلك فرحاً وسروراً.
وهذا يدل على مشروعية التكبير في حال الفرح لا التصفيق مثلما يفعله بعض الناس، فالتكبير هو الذي جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثلما فعل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لما أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن قال: (أني أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة.
فكبروا! قال: نصف أهل الجنة.
فكبروا!) أي قالوا: الله أكبر، فرحاً وسروراً.
ولما أشيع أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، وكان عمر في مزرعة له، جاء وبحث عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى وجده في مكان مرتفع معتزلاً نساءه، فدخل عليه وسأله: (أطلقت نساءك يا رسول الله؟! فقال: لا، فكبر عمر) أي قال: الله أكبر؛ فرحاً وسروراً؛ لأن هذه الإشاعة التي أشيعت غير صحيحة.
وهنا كبَّر علي رضي الله عنه ثم قال: (صدق الله وبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم) وهذا يدلنا على أن ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو من عند الله، وأن السنة من عند الله، وليست من عند الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه وحي غير متعبد بتلاوته كالقرآن، وإلا فإن القرآن من الله، وهو كلامه، والسنة هي من الله عز وجل معنى، واللفظ هو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مبلغ عن الله سبحانه وتعالى، كما قال: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
فقول علي رضي الله عنه: (صدق الله وبلغ رسوله)؛ لأن ما ذكره عن الرجل المخدج ليس موجوداً في القرآن، وإنما جاء في السنة، أي فالرسول صلى الله عليه وسلم بلغ ما أوحى إليه من عند الله عز وجل.
ومما يوضح ذلك أيضاً الحديث الذي جاء فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يغفر للشهيد كل شيء) ثم إنه قال: (إلا الدين سارني به جبريل آنفاً) يعني أن هذا الاستثناء جاء به جبريل وساره به، معنى ذلك أنه من عند الله وليس من عنده عليه الصلاة والسلام.(542/18)
تقديم علي قتال الخوارج على قتال معاوية وأهل الشام
قوله: [أفتذهبون إلى معاوية وأهل الشام، وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذارريكم وأموالكم؟].
يريد من ذلك أن هؤلاء هم الذين يقاتلون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيهم ما قال، وأيضاً: لو ذهب الناس إلى الشام لقتال معاوية وتركوا هؤلاء لخلفهم هؤلاء في ذارريهم وفي أهليهم ولأفسدوا.
قوله: [والله! إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم].
يعني الذي قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال، فهو يرجو أن يكونوا هم هؤلاء الذي هو بصدد قتالهم.
قوله: [فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس].
أي: من إساءة العمل أنهم يسفكون الدم الحرم، ويغيرون في سرح الناس، والسرح هي البهائم التي تذهب في الصباح مع الرعاة، يعني: أنهم يغيرون على الإبل أو الغنم التي تسرح فيأخذونها.
قوله: [فسيروا على اسم الله].
يعني على بركة الله، مستعينين بالله ومتوكلين عليه، وهذا يدل على ابتداء الأعمال بذكر الله، وأن العامل يستحضر الله عز وجل ويذكر ربه سبحانه وتعالى؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أوصاه بتقوى الله وقال: (اغزوا باسم الله، قاتلوا من كفر بالله) كما في الحديث الطويل الذي رواه مسلم عن بريدة بن حصيب.(542/19)
وصف المعركة التي وقعت بين علي والخوارج
قوله: [قال سلمة بن كهيل: فنزلني زيد بن وهب منزلاً منزلاً].
يعني: بعدما ذكر كلام علي رضي الله عنه وخطبته وما حصل منه، قص عليه القصة من حين خرجوا إلى أن وصلوا إلى الخوارج وقاتلوهم.
قوله: [حتى مر بنا على قنطرة].
يعني: وهم في طريقهم إلى الخوارج.
قوله: [قال: فلما التقينا، وعلى الخوارج عبد الله بن وهب الراسبي].
يعني: فلما التقى علي رضي الله عنه بجيشه مع الخوارج، وكان أميرهم عبد الله بن وهب الراسبي.
قوله: [قال لهم: ألقوا الرماح، وسلوا السيوف من جفونها، فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء، قال: فوحشوا رماحهم].
هذه وصية من رئيس الخوارج لأصحابه بأن يلقوا الرماح -أي: يرموها- ويسلوا السيوف لقتال المسلمين؛ لأنه يخاف أن يكون هناك تفاهم من غير قتال كما وقع يوم حروراء، فهو يريد من أصحابه أن يسلوا السيوف حتى تكون في متناول أيديهم ولا يشتغلوا بالرماح، وإنما يمشون بالسيوف حتى يصلوا إلى المسلمين.
فألقوا رماحهم، وسلوا سيوفهم أخذاً بوصيته، فرماهم أصحاب علي رضي الله عنهم وأرضاهم بالرماح قبل أن يصلوا إليهم، ثم التحموا معهم وقتلوا منهم المقتلة العظيمة، ولم يصب من المسلمين إلا اثنان كما ذكر في هذا الحديث.
ومعنى: (وحشوا برماحهم) أي: أنهم تركوها وأخذوا السيوف، فاستعمل المسلمون الرماح، فأصابوهم قبل أن يصلوا إليهم، ولما وصلوا إليهم التحموا معهم واستأصلوهم، ولذلك قال: (وشجرهم الناس برماحهم).
أي: أصابهم الناس برماحهم.
قوله: [وقتلوا بعضهم على بعضهم].
أي: حتى ركب بعضهم فوق بعض لكثرة القتلى، فصاروا أكواماً.
قوله: [قال: وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان].
أي: من أصحاب علي رضي الله عنه.
قوله: [فقال علي رضي الله عنه: التمسوا فيهم المخدج].
أي: لما انتهى الأمر ووضعت الحرب أوزارها، وانتصر علي رضي الله عنه ومن معه عليهم، أمر بأن يبحث عن هذا المخدج الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب العضد الذي ليس له ذراع، وفيه تلك اللحمة التي في طرفها حلمة كلحمة ثدي المرأة، وعليها شعيرات بيض.
فالتمسوه فلم يجدوه، فقام علي رضي الله عنه بنفسه حتى أتى ناساً قد قتل بعضهم على بعض فقال: أخرجوهم.
فوجدوه مما يلي الأرض، فكبر، وقال: صدق الله وبلغ رسوله.
قوله: [فقام إليه عبيدة السلماني فقال: يا أمير المؤمنين! والله الذي لا إله إلا هو لقد سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو! حتى استحلفه ثلاثاً، وهو يحلف].
وعبيدة السلماني من أصحابه، وهو من المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، ولم يروا النبي صلى الله عليه وسلم فاستحلف علياً قال: والله الذي لا إله إلا هو إنك سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ حتى كرر ذلك ثلاثاً، يريد من ذلك أن يسمع الناس بهذا الخبر، وأن عملهم هذا على صواب، وأنهم الجيش الذين ورد الوعد له بالأجر العظيم من الله، وأن هذا الشخص الذي رأوه بالكيفية التي وصفها علي قبل أن يروه، قد وجد طبقاً لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالمقصود من استحلاف عبيدة علياً وتكرار ذلك ثلاثاً أن يسمع الناس، وحتى يتحقق الأمر لكثير من الناس بهذا التكرار.(542/20)
تراجم رجال إسناد حديث زيد بن وهب في قتال الخوارج
قوله: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق].
الحسن بن علي وعبد الرزاق مر ذكرهما.
[عن عبد الملك بن أبي سليمان].
صدوق له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سلمة بن كهيل].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني زيد بن وهب الجهني].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[فقال علي عليه السلام].
علي رضي الله عنه، وقد مر ذكره.(542/21)
شرح حديث أبي الوضيء في قتال الخوارج
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد بن زيد عن جميل بن مرة قال: حدثنا أبو الوضيء قال: قال علي عليه السلام: اطلبوا المخدج -فذكر الحديث- فاستخرجوه من تحت القتلى في طين.
قال أبو الوضيء: فكأني أنظر إليه حبشي عليه قريطق، له إحدى يدين مثل ثدي المرأة، عليها شعيرات مثل شعيرات التي تكون على ذنب اليربوع].
أورد الحديث من طريق أخرى، وفيه أن علياً طلب المخدج فوجدوه تحت القتلى في طين، ومعناه أن الأرض فيها رطوبة، وأن هذا في الأسفل، وغيره فوقه.
قوله: [قال أبو الوضيء: فكأني أنظر إليه حبشي].
أي أنه كان معهم.
قوله: [عليه قريطق].
القريطق هو القباء، وهو نوع من اللباس.
قوله: [له إحدى يدين مثل ثدي المرأة، عليها شعيرات مثل شعيرات التي تكون على ذنب اليربوع].
في الطريق الأول قال: (عليه شعيرات بيض) وهنا قال: (شعيرات مثل الشعيرات التي تكون على ذنب اليربوع) يعني أنها طويلة، مثل التي تكون في ذنب اليربوع، وهو من دواب البر، وهو قصير اليدين طويل الرجلين، يشبه الفأر ولكنه صيد وحلال، وأيضاً: طريقته في حفر الجحر تختلف عن غيره من الحيوانات؛ ولهذا يقولون في تعريف النفاق إنه مأخوذ من نافقاء اليربوع؛ لأنه يكون في جحر له بابان، باب واضح، وباب خفي تكون عليه قشرة من تراب، وإذا جاءه عدو من جهة الباب المفتوح خرج من الباب الثاني، بأن ينفض التراب الذي في الجهة الثانية ويهرب.
فالذين يصيدونه يعرفون طريقة جحره؛ ولهذا يبحثون عن النافقاء أولاً، ثم يأتونه من الجحر، ويدخلون عليه شيئاً يحركه، فإذا خرج أمسكوا به.(542/22)
تراجم رجال إسناد حديث أبي الوضيء في قتال الخوارج
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد].
محمد بن عبيد بن حساب، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد بن زيد].
حماد بن زيد بن درهم البصري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جميل بن مرة].
وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[حدثنا أبو الوضيء].
وهو عباد بن أسيد، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[قال علي عليه السلام].
علي رضي الله عنه، وقد مر ذكره.(542/23)
شرح أثر أبي مريم في صفات الرجل المخدج
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا بشر بن خالد حدثنا شبابة بن سوار عن نعيم بن حكيم عن أبي مريم قال: إن كان ذلك المخدج لمعنا يومئذ في المسجد نجالسه بالليل والنهار، وكان فقيراً، ورأيته مع المساكين يشهد طعام علي رضي الله عنه مع الناس، وقد كسوته برنساً لي.
قال أبو مريم: وكان المخدج يسمى نافعاً ذا الثدية، وكان في يده مثل ثدي المرأة، على رأسه حلمة مثل حلمة الثدي، عليه شعيرات مثل سبالة السنور.
قال أبو داود: وهو عند الناس اسمه حرقوس].
أورد أبو داود هذا الأثر عن أبي مريم وهو قيس المدائني الثقفي، وهذا الأثر يبين فيه أنه رأى ذلك الشخص وأنه كان يعرفه، وأنه كان يجلس معهم في المسجد، وأنه كان فقيراً يحضر طعام علي رضي الله عنه فيأكل مع الناس، وأنه كساه برنساً، ثم وصف يده وذراعه، وأن فيه اللحمة التي عليها شعيرات مثل سبال السنور: أي: القط، وهي شعرات طويلة تكون في وجهه.
وهذا أثر يقال له مقطوع؛ لأنه ينتهي إلى أبي مريم، والمقطوع: هو ما انتهى متنه إلى من دون الصحابي؛ لأن المتن إذا انتهى إلى الصحابي فهو موقوف، وإذا انتهى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مرفوع، وإذا انتهى إلى من دون الصحابي فهو مقطوع، وهذا وصف للمتن، وهو غير المنقطع؛ لأن المنقطع من صفات الإسناد، وأما المقطوع فهو من صفات المتن.(542/24)
تراجم رجال إسناد أثر أبي مريم في صفات الرجل المخدج
قوله: [حدثنا بشر بن خالد].
وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شبابة بن سوار].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نعيم بن حكيم].
وهو صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في رفع اليدين وأبو داود والنسائي في خصائص علي.
[عن أبي مريم].
وهو قيس المدائني الثقفي، وهو مجهول، أخرج له البخاري في رفع اليدين وأبو داود والنسائي في الخصائص.
وهذا الأثر ضعيف، من جهة أن الشخص الذي ينتهي إليه الإسناد مجهول.(542/25)
شرح سنن أبي داود [543]
إن أحكام الشريعة الإسلامية بنيت على مراعاة مصالح العباد في العاجل والآجل، من ذلك أنها أجازت لمن هجم عليه اللصوص أو قطاع الطرق أن يقاتل دون ماله، إذا كان اللصوص لا يندفعون إلا بالقتال.(543/1)
قتال اللصوص(543/2)
شرح حديث عبد الله بن عمرو في قتال اللصوص
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قتال اللصوص.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان قال: حدثني عبد الله بن حسن قال حدثني: عمي إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في قتال اللصوص]، واللصوص هم السراق الذين يسطون على الناس ويهجمون عليهم، ويبتزون أموالهم منهم، فهؤلاء يمنعون من أخذ الأموال، وإذا كانوا لا يندفعون إلا بالقتل فإنهم يقتلون، وإذا اعتصموا وصاروا يقاتلون فإنهم يقاتلون حتى يقتلوا ويتخلص منهم، وذلك إذا لم يمكن القبض عليهم ومنعهم من الاعتداء على الناس، وتطبيق الأحكام الشرعية عليهم.
وإذا هجموا على أحد فإنه يدافعهم، فإذا قتل أحداً منهم فإنه قتل بحق، وإن قتل فهو شهيد، أي: في ثواب الآخرة، ولكنه في أحكام الدنيا لا يعامل معاملة الشهيد، وإنما يعامل معاملة غيره من المسلمين، بمعنى أنه يغسل ويصلى عليه، بخلاف الشهداء فإنهم لا يغسلون ولا يصلى عليهم؛ ولهذا أورد النووي رحمه الله في رياض الصالحين باباً ذكر فيه جماعة من الأحاديث التي تتعلق بالشهداء غير شهداء المعركة، فقال: باب ذكر جماعة من الشهداء في ثواب الآخرة.
وأورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد).
يعني: من سطا عليه لصوص وأرادوا أن يأخذوا ماله فله أن يدفعهم بالأخف فالأخف، فإن لم يندفعوا إلا بالقتل فله ذلك، وإذا قتل فقتله بحق، وإن قتلوه فهو شهيد؛ لأنه يقاتل بحق، وأولئك قتلوا بالباطل، وإن قتلوا فهم مقتولون بفعلهم المنكر، وفاعلون الشيء الذي به يستحقون القتل.(543/3)
تراجم رجال إسناد حديث عبد الله بن عمرو في قتال اللصوص
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد القطان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
سفيان الثوري، وقد مر ذكره.
[حدثني عبد الله بن حسن].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[حدثني عمي إبراهيم بن محمد بن طلحة].
وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عمرو].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(543/4)
شرح حديث سعيد بن زيد في قتال اللصوص
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا أبو داود الطيالسي وسليمان بن داود -يعني أبا أيوب الهاشمي - عن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن طلحة بن عبد الله بن عوف عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد)].
أورد أبو داود حديث سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل دون ماله فهو شهيد) وهذا مثل الذي قبله.
قوله: [(ومن قتل دون أهله، أو دون دمه، أو دون دينه، فهو شهيد)].
يعني إذا أراد أحد أن يعتدي على أهله، فمنع من ذلك، أو حال بين المعتدين وبين ما يريدون فقتلوه، فإنه يكون شهيداً؛ لأنه قتل وهو يدافع على عرض أهله، ودون الوقوع في أهله، سواء زوجته أو قريبته، وكذلك إذا قتل دون دينه، أي: لأمر يتعلق بدينه مثل قتال الخوارج؛ لأنه قتل دفاعاً عن الدين.(543/5)
تراجم رجال إسناد حديث سعيد بن زيد في قتال اللصوص
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هارون بن عبد الله الحمال البغدادي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو داود الطيالسي].
وهو سليمان بن داود الطيالسي، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[وسليمان بن داود يعني أبا أيوب الهاشمي].
سليمان بن داود الهاشمي ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد وأصحاب السنن.
[عن إبراهيم بن سعد].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر].
وهو مقبول، أخرج له أصحاب السنن.
[عن طلحة بن عبد الله بن عوف].
وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن سعيد بن زيد].
سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد العشرة المبشرين بالجنة.(543/6)
الأسئلة(543/7)
الجمع بين حديث (من قتل دون ماله) وحديث (كن كخير ابني آدم)
السؤال
كيف يجمع بين حديث: (من قتل دون ماله فهو شهيد)، وحديث: (كن كخير ابني آدم)؟
الجواب
أنا لا أعرف مدى صحة هذا الحديث: (كن كخير ابني آدم) فلا أعرف عنه شيئاً، لكن الإنسان إذا دافع عن ماله أو عن أهله فهي مدافعة بحق، فإن قَتَل فهو على حق، وإن قُتِل فهو على حق ويكون شهيداً.(543/8)
حكم قصة التحكيم بين علي ومعاوية
السؤال
هل خبر القصة المطولة التي نقلها صاحب العون في قضية التحكيم بين علي ومعاوية رضي الله عنهما صحيحة؛ حيث ذكر أنه حصلت مكيدة من عمرو بن العاص؟
الجواب
قضية المكيدة أو الذي قيل إنه حصل بين أبي موسى الأشعري وهو من جانب علي رضي الله عنه، وبين عمرو بن العاص وهو من جانب معاوية رضي الله تعالى عنه، وأنهما اتفقا على أن كلاً منهما يخلع صاحبه، وأن عمرو بن العاص طلب من أبي موسى أن يبدأ، فبدأ فخلع علياً، ثم إن عمرو بن العاص لم يخلع معاوية، هذا كلام غير صحيح، وقد ذكر ابن العربي بطلانه في العواصم من القواصم، وهو لا يليق بالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، إذ كيف يتفقان على شيء فيتقدم أحدهما لتنفيذ ما اتفقا عليه ويغدر الآخر فلا يفعل ذلك؟!(543/9)
حكم التفجيرات التي يقوم بها بعض الشباب باسم الدين
السؤال
بعض الشباب يقاتلون الحكام ويقومون بالتفجيرات في البلاد الإسلامية وغيرها، وقد رأيت الناس فيهم على قسمين: قسم يقول: هؤلاء خوارج، مع أنهم ليس عندهم عقائد الخوارج الأخرى، وقسم يقول: هؤلاء أبطال مجاهدون صدعوا بالحق، مع أن فعلهم هذا على خلاف ما عند علماء السنة، فنرجو منكم القول الفصل فيهم؟
الجواب
حصول الفتن، وإيجاد القلاقل، وإخلال الأمن، وحصول الاضطرابات والفوضى، هذا ليس من الإسلام في شيء، ومعلوم أن مثل هذه الأعمال هي من هذا القبيل، ولا يحصل من ورائها إلا المضرة للمسلمين.
وأهل السنة والجماعة طريقتهم ومنهجهم أن الوالي إذا كان عنده أخطاء وأمور محرمة فإنه لا يعمل معه مثل هذه الأعمال التي تخل بالأمن، وإنما يصبر على ما يحصل منه من الجور، وعلى ما يحصل منه من الأمور غير المحمودة، ومن قواعد الشريعة: ارتكاب أخف الضررين في سبيل التخلص من أشدهما، ومعلوم أن بقاء الناس على ما هم عليه مع وجود الجور ومع وجود الخلل والنقص أخف ضرراً من الفوضى والاضطرابات التي يحصل معها فساد الأمور، ويحصل معها أن الناس لا يأمنون على أرواحهم، بل ينتظرون الموت بين لحظة وأخرى، فمعلوم أن هذه ليست من الإسلام في شيء، وليست مما جاء به الإسلام، وإنما جاء الإسلام بمنع من مثل هذه الأعمال السيئة.(543/10)
حكم قتل الشرطة للخارجين على النظام الحكومي
السؤال
في بلدنا حرب وقتال بين النظام الحاكم والخوارج الذين خرجوا على الحاكم، فإذا حدث اشتباك بين رجال الأمن وهؤلاء الذين خرجوا على الحاكم هل يكون في قتلهم أجر، أم أن هذه فتنة وشر؟
الجواب
هذه لاشك أنها فتنة وشر، والقتل لا يكون إلا إذا لم يندفع المعتدون إلا بالقتل، وأما إذا أمكن القبض عليهم وإيداعهم السجون، ومنعهم من الاعتداء على الناس، فهذا هو المطلوب؛ لأنه أخف الضررين، ولكن إذا لم يندفع إلا بالقتل فإنه يجوز القتل، ومن قتلهم وقد قاموا بالفتن فهو محق.(543/11)
حكم خروج ابن الأشعث على الأمويين
السؤال
هل يصح أن يقال: إن عبد الرحمن بن الأشعث الخارج في زمن الخليفة عبد الملك بن مروان داعية فتنة؟ وماذا تقولون إذا كان الأمر كذلك لمن يعتبره تابعياً جليلاً وصادعاً بالحق؟
الجواب
لاشك أن الخروج على الإمام والوالي لا يحصل منه إلا الفتن والضرر، وليس في مصلحة ولا فائدة.(543/12)
حكم المظاهرات الشعبية
السؤال
ما حكم المظاهرات التي هي من أجل تحقيق مصالح الأمة؟ وهل هي نوع من الخروج؟
الجواب
هي نوع من السفه والفوضى.(543/13)
حكم الكلام على مخالفات الحكام في المنابر
السؤال
هل يعتبر الكلام على المنابر ببعض المخالفات التي تصدر من الحكام خروجاً عليهم، لا سيما ما يتعلق بالإخلال بالعقيدة كالسماح للمنصرين بالعمل، وتشييد الكنائس، والدعوة إلى تقارب الأديان؛ علماً بأن الخطيب يذكر ذلك لئلا يغتر الجهال والعوام بفعل السلطان، فهل يعد ذلك خروجاً عن الحاكم؟
الجواب
العوام لا يقدمون ولا يؤخرون، والتقديم والتأخير إنما هو عند السلطان، والمصلحة بمراجعة السلطان والاتصال به، وأما بالنسبة للعوام فإنهم لا يستفيدون شيئاً من هذا ولا يقدمون ولا يؤخرون.(543/14)
حكم الانقلاب الأبيض على الحاكم
السؤال
هل أحاديث النهي عن الخروج تشمل ما يعرف الآن بالانقلاب الأبيض، أي: خلع الحاكم بالقوة دون إراقة دماء؟
الجواب
بين الرسول صلى الله عليه وسلم الحكم الشرعي في ذلك وأنه لا يكون إلا مع الكفر البواح الذي عند الناس فيه من الله برهان، وأما غير ذلك فإنه غير سائغ.(543/15)
حكم عزل الحاكم
السؤال
إذا عزل الحاكم وامتنع عن تسليم الحكم فما الحكم؟ وكيف يتعامل معه؟
الجواب
لا يسوغ عزل الحاكم، وليس للناس إلا أن يسمعوا ويطيعوا إذا لم يحصل منه الكفر، وعليهم أن يناصحوه، وأما كونهم يعزلونه ثم يمتنع فتحصل فوضى، فهذا لا يصلح، فإذا كان العزل ضرورياً وأمكن القيام به بدون أضرار ومفاسد فهذا شيء آخر، ولكن كونه يقف في صف وهم يقفون في صف ويحدث قتال وفتن، فهذا ليس بطريق صحيح.(543/16)
حكم من لم يقر بطاعة الولاة
السؤال
هل يقال: من خرج على حكام هذه البلاد، بمعنى أنه رفض أن يسمع لهم فيما يأمرون به في غير معصية الله؛ هل يقال إنه من الخوارج، لاسيما أنه أبعد من هذه البلاد؟
الجواب
لاشك أن الإنسان الذي تحصل منه فتن، وتحصل منه الرغبة في التخلص من الولاة، أنه قد سلك طريقة الخوراج، فهذا هو منهج الخوارج، فهم يريدون التخلص من الولاة وأن تكون الولاية لهم، أو تكون لغيرهم ولو كانت بأسوأ وبأشد وأبعد عن الحق والهدى.
فالذي يحصل منه الفتن والتأليب على الولاة، ونشر الفوضى, لاشك أنه يعمل عمل الخوارج.
وما أكثر من يحصل منه ذلك، ثم يظهر اسمه يوماً من الأيام، أو أسبوعاً أو أسبوعين أو شهراً أو شهرين ثم يكون بعد ذلك في سلة المهملات.(543/17)
حكم الدعوة للخروج على الحكّام بالقوانين الوضعية
السؤال
ما قولكم في الحركات المعاصرة التي تتبنى الخروج على الأنظمة التي تحكم بالقوانين الوضعية، مع أن الأصل في حكامهم الإسلام، فهل هؤلاء خوارج أم أنهم أنهم متأولون، أم أنهم على الحق لأنهم خرجوا لإقامة شرع الله؟
الجواب
الواجب عليهم أن ينصاحوا من كان ولياً للأمر، وأن يسعوا في نصحه ما دام أنه ليس بكافر، وأنه إنما حكم القوانين مع علمه بأنه مخطئ، وأن هذا العمل غير سائغ، ولكنه قد يكون ابتلي بتركة ورثها وهو مغلوب على أمره في كونه لا يستطيع التغيير، فلا يخرج على وال حصل بوجوده أمن الناس واطمئنانهم، ثم أيضاً ماذا سيحقق هؤلاء الذين سيخرجون؟! وهل عندهم السلامة في معتقداتهم وأفكارهم وآرائهم؟(543/18)
نصيحة للشباب الذين يسبون الحكام
السؤال
يوجد شباب في الجامعة يوزعون أشرطة فيها السبُّ للحكام، والتهييج عليهم والتعريض بهم، فما هي نصيحتكم؟
الجواب
إذا كان هذا صحيحاً فعلى هؤلاء الشباب أن يتقوا الله عز وجل، وأيضاًَ على من يعلم أعيانهم وأشخاصهم ألا يسكت عليهم، وإنما يبلغ أمرهم إلى المسئولين حتى يوقفوهم عند حدودهم.(543/19)
نصيحة للدعاة الذين يتهمون العلماء بالمداهنة، ويهيجون الناس على الحكام
السؤال
هل من نصيحة توجهونها إلى الدعاة الذين يهيجون الناس على ولاتهم، ويتهمون العلماء بالمداهنة وأنهم لا علم لهم بالواقع؟
الجواب
هذا الأمر من الفتن، وهو من الغرور ومن البلاء الذي يحصل للناس، أعني: أنهم يشغلون أنفسهم بمتابعة الإذاعات والصحف والمجلات، وليس عندهم وقت ليشتغلوا بالعلم النافع والعمل الصالح، ثم بعد ذلك يتكلمون في حق من بذل نفسه لنفع الناس وتعليمهم وهدايتهم، وإفتاء الناس في أمور دينهم، فيتكلمون عليه لكونه ما اشتغل في الشيء الذي شغلهم، فهؤلاء لو اشتغلوا في الذي اشتغلوا فيه بقي الناس بدون هداة وبدون مراجع يرجعون إليهم في معرفة أمور الدين.
فعلى هؤلاء أن يتقوا الله، وأن يشتغلوا بالعلم النافع الذي يقربهم إلى الله عز وجل، والأعمال الصالحة التي تنفعهم عند الله عز وجل، وألا يشغلوا أنفسهم بمتابعة الإذاعات المختلفة، وإشغال أنفسهم بالتحليلات التي قد تكون في كثير من الأحيان خاطئة، ثم بعد ذلك يصفون من لا يشغل نفسه بذلك بأنه لا يفقه للواقع، ولا شك أن هذا من مكر الشيطان بهم، ومن جنايتهم على أنفسهم، نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق.(543/20)
شرح سنن أبي داود [544]
مكارم الأخلاق من الأمور التي حض عليها الدين الإسلامي، ومن الأوصاف التي دعت الشريعة إلى التحلي بها، فمن أوتي الخلق الحسن فقد أوتي الخير كله.
ولا تذكر مكارم الأخلاق إلا واقترن بها اسم النبي صلى الله عليه وسلم، أحسن الناس خلقاً، من أدبه الإله ورباه، وبكل خلق حسن حباه، من جالسه سعد بمجالسته، ومن رافقه نعم بمرافقته، ومن صحبه ارتاح لصحبته، ثبت الله قلبه وسدد كلامه، وحفظ له عينه ولسانه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(544/1)
ما جاء في الحلم وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم(544/2)
شرح حديث (كان رسول الله من أحسن الناس خلقاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الأدب.
باب في الحلم وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم.
[حدثنا مخلد بن خالد الشعيري حدثنا عمر بن يونس حدثنا عكرمة -يعني: ابن عمار - قال: حدثني إسحاق -يعني: ابن عبد الله بن أبي طلحة - قال: قال أنس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً، فأرسلني يوماً لحاجة فقلت: والله! لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قابض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك فقال: يا أنيس اذهب حيث أمرتك، قلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله، قال أنس: والله لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعت: لم فعلت كذا وكذا؟ ولا لشيء تركت: هلا فعلت كذا وكذا)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: كتاب الأدب، والأدب المراد به: الأخلاق المحمودة التي يرغب فيها، والمذمومة التي يحذر منها، وكثير من المؤلفين للكتب الجامعة يجعلون من جملة ما تشتمل عليه كتبهم هذا الكتاب الذي هو كتاب الأدب، والإمام البخاري رحمه الله له كتاب في كتابه الجامع الصحيح باسم كتاب الأدب، وله كتاب مستقل اسمه كتاب الأدب المفرد، وأتى بكلمة المفرد ليميز عن الكتاب الذي في داخل الصحيح، فإذا قيل: أخرجه البخاري في كتاب الأدب بدون التقييد بالمفرد فإنه ينصرف إلى الكتاب الذي هو ضمن الصحيح التي تبلغ كتبه سبعة وتسعين كتاباً، وهو كتاب الأدب، وله كتاب مستقل مؤلف خاص باسم كتاب الأدب المفرد، وهو كتاب مستقل بالتأليف ومفرد عن غيره، وليس داخل كتاب كما هو الشأن في كتاب الأدب الذي هو أحد كتب الجامع الصحيح.
ثم أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة: [باب في الحلم وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم].
الحلم كما هو معلوم هو: ضبط النفس وعدم الغضب، فيكون الإنسان عنده التحمل والصبر بحيث لا يحصل منه الغضب الذي قد يترتب عليه أمور غير محمودة، ولهذا فالحلم محمود، وهو من الخصال المحمودة، ومن الآداب الحميدة.
قوله: [وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم].
هو من عطف العام على الخاص؛ لأن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم يدخل فيها الحلم فهو حليم عليه الصلاة والسلام.
وقد أورد أبو داود في ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد خدمه عشر سنين، وجاء في هذه الرواية سبع أو تسع سنين، والمعتبرة هي رواية التسع، ولا تنافي بينها وبين رواية العشر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان قدومه إليها في ربيع الأول، وكانت وفاته أيضاً في ربيع الأول عليه الصلاة والسلام، فمدة بقائه في المدينة عشر سنوات صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وفي أثناء السنة التي قدم فيها عرضت أم سليم على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخدمه ابنها أنس رضي الله عنه، فصار خادماً للنبي صلى الله عليه وسلم، وخدمه قريباً من عشر سنوات، فمن قال: تسع سنوات فقد حذف الكسر، ومن قال: عشر سنوات فقد جبر الكسر، أي: أن المدة فوق التسع ودون العشر؛ لأنه لم يستكمل عشر سنوات، فمدة بقاء النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة عشر سنوات من حين قدمها إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم، وأنس رضي الله عنه لم يكن خادمه من أول يوم، وإنما بدأت خدمته له بعد فترة من تلك السنة، وعلى هذا فالأمر دائر بين التسع والعشر، فمن قال: عشراً جبر الكسر، ومن قال: تسعاً حذف الكسر.
وقد ذكر أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله في حاجة فقال -يعني في نفسه-: والله لن أفعل، وفي نفسه أنه يريد أن يفعل، وذلك أنه كان صغيراً غير مكلف، فلم يكن قوله ذاك معصية للرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه غير مكلف وكان صغيراً رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ثم أيضاً في القصة ما يشعر بذلك، فقد وجد الصبيان ووقف معهم، وكان قد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فما شعر إلا والرسول صلى الله عليه وسلم آخذ به من ورائه، فالتفت إليه فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا أنيس! اذهب حيث أمرتك)، فذهب رضي الله تعالى عنه، فكونه وجد الصبيان فانشغل بالنظر إليهم والوقوف معهم هذا يوضح الحالة التي كان عليها، وأنه كان صغيراً، وعلى هذا فكونه قال: إنه لا يذهب يدل أن السبب في ذلك هو صغره.
ثم قال أنس: (لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعت: لما فعلت كذا وكذا؟ ولا لشيء تركت: هلا فعلت كذا وكذا).
قوله: [(فما علمت قال لشيء فعلته: لما فعلت كذا وكذا؟)] يعني: أنه ما أنكر عليه الفعل، ولا أنكر عليه عدم الفعل بأن قال: (هلا فعلت كذا وكذا)، وهذا من كمال أخلاقه ورفقه ولينه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهذا الكلام يقوله من باشر خدمته صلى الله عليه وسلم، وتشرف بخدمته مدةً تبلغ عشر سنوات تقريباً وهو صغير، فكان يخبر عن حاله مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه مع كونه صغيراً وقد يحصل منه أمور لا ترتضى من ناحية أنه قد يتأخر أو قد يحصل منه شيء لا ينبغي، فما كان يعاتبه عليه الصلاة والسلام، وما كان يقول له في أي أمر: لم فعلت كذا وكذا؟ يعني: منكراً عليه، ولا قال لشيء لم يفعله: هلا فعلت كذا وكذا.(544/3)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله من أحسن الناس خلقاً)
قوله: [حدثنا مخلد بن خالد الشعيري].
مخلد بن خالد الشعيري ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا عمر بن يونس].
عمر بن يونس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عكرمة يعني: ابن عمار].
هو عكرمة بن عمار، وهو صدوق يغلط، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني إسحاق يعني: ابن عبد الله بن أبي طلحة].
هو إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال أنس].
أنس هو عمه لأمه؛ لأن عبد الله بن أبي طلحة هو أخو أنس من أمه، وهذا ابن أخيه من أمه، وإسحاق يروي عن عمه لأمه؛ لأن عبد الله بن أبي طلحة هو ابن أم سليم، وأم سليم هي أم أنس، فهو أخوه لأمه.
وأنس بن مالك رضي الله عنه خادم الرسول عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(544/4)
شرح حديث (خدمت النبي سنين بالمدينة وأنا غلام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا سليمان يعني: ابن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: (خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين بالمدينة، وأنا غلام ليس كل أمري كما يشتهي صاحبي أن أكون عليه، ما قال لي فيها: أف قط، وما قال لي: لم فعلت هذا؟ أو ألا فعلت هذا)].
أورد المصنف حديث أنس رضي الله عنه من طريق أخرى، وفيه: أنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين في المدينة، وأنه ما قال له يوماً: أف، ومعناه: أنه لم يتضجر من شيء فعله وهو لا يريد أن يفعله، أو شيء لم يفعله وهو يريد أن يفعله.
قال أنس: (وما قال لي: لم فعلت هذا؟) لأمر فعله يعاتبه ويؤنبه، ولا قال: (ألا فعلت هذا) لأمر لم يفعله.(544/5)
تراجم رجال إسناد حديث (خدمت النبي سنين بالمدينة وأنا غلام)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا سليمان يعني: ابن المغيرة].
هو سليمان بن المغيرة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وجملة (يعني: ابن المغيرة) جاء بها من دون التلميذ، وذلك إما من أبي داود أو من دون أبي داود، وأما عبد الله بن مسلمة القعنبي فإنه لما روى عن شيخه اكتفى بكلمة سليمان ولم يزد عليها، ولكن دون التلميذ وهو أبو داود أو من دون أبي داود أراد أن يبين من هو هذا الشخص الذي المهمل، فكون الشخص لا ينسب وإنما يذكر بدون نسبه هذا يقال: مهمل، وهو من أنواع علوم الحديث، فأراد من دون التلميذ أن يبين من هو هذا المهمل فجاء بكلمة (يعني)، وزادها حتى لا يظن أن هذا كلام التلميذ، ولو قيل: حدثنا سليمان بن المغيرة فسيفهم أن هذا لفظ التلميذ، لكن لما جاء بكلمة (يعني) عرف أن التلميذ ما قال: ابن المغيرة، وإنما قالها من دون التلميذ وأراد بذلك أن يوضح من هو هذا الشيخ الذي ذكر مهملاً غير منسوب، ولهذا فكلمة (يعني) فعل مضارع لها قائل وفاعل، ففاعلها ضمير مستتر يرجع إلى التلميذ، وهو عبد الله بن مسلمة القعنبي الذي قال: سليمان، وأما قائل: ابن المغيرة فهو من دون التلميذ، هو قائل (يعني)، وأما فاعل (يعني) فهو ضمير مستتر يرجع إلى التلميذ.
[عن ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مر ذكره.
وهذا الإسناد من أعالي الأسانيد عند أبي داود، وهي الرباعيات، فبين أبي داود وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام فيها أربعة أشخاص: عبد الله بن مسلمة، سليمان بن المغيرة، وثابت البناني، وأنس بن مالك.(544/6)
شرح حديث الأعرابي الذي جبذ النبي بردائه فحمر رقبته
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا أبو عامر حدثنا محمد بن هلال أنه سمع أباه يحدث قال: قال أبو هريرة وهو يحدثنا: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس معنا في المجلس يحدثنا، فإذا قام قمنا قياماً حتى نراه قد دخل بعض بيوت أزواجه، فحدثنا يوماً فقمنا حين قام، فنظرنا إلى أعرابي قد أدركه فجبذه بردائه فحمر رقبته -قال أبو هريرة: وكان رداءً خشناً-، فالتفت فقال له الأعرابي: احمل لي على بعيري هذين فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لا، وأستغفر الله! لا، وأستغفر الله! لا، وأستغفر الله! لا أحمل لك حتى تقيدني من جبذتك التي جبذتني، فكل ذلك يقول له الأعرابي: والله لا أقيدكها فذكر الحديث، قال: ثم دعا رجلاً فقال له: احمل له على بعيريه هذين: على بعير شعيراً وعلى الآخر تمراً، ثم التفت إلينا فقال: انصرفوا على بركة الله)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة الأعرابي الذي جاء ومعه بعيران، وأراد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه حمل بعيريه من الطعام، وكان عليه صلى الله عليه وسلم رداء خشن فجبذه -أي: جره- حتى أثرت جذبته في جسد الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أحمر المكان الذي حصلت الجبذة فيه، فالتفت إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم فقال له: احمل لي على بعيري فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك وإنما من مال المسلمين، يعني: يريد أنه يحمل هذا من بيت المال، وأنه لا يريد منه صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا من الجفاء سواء في القول أو الفعل، فالجبذ فيه جفاء، والقول فيه جفاء.
قوله: [فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا، وأستغفر الله! لا، وأستغفر الله! لا، وأستغفر الله!)].
يعني: أنه لا يحمل له من ماله ولا من مال أبيه، وإنما الحمل هو من بيت المال.
والرسول دائماً يستغفر الله عز وجل ويطلب منه المغفرة، وهذا هو المشرع للناس من أمته الذين هم تبع له ويقتدون به عليه الصلاة والسلام.
قوله: [(لا أحمل لك حتى تقيدني من جبذتك التي جبذتني)].
أي: طلب أن يقيده من تلك الجبذة التي جبذه بها وأثرت فيه، وهذا من كمال أخلاقه عليه الصلاة والسلام، فقد أسيء إليه ومع ذلك يداعبه ويقول له: مثل هذا الكلام.
والأعرابي يأبى أن يقيده، وهذا لا شك أنه من الجفاء أيضاً.
والحديث فيه ضعف من جهة أن بعض رواته متكلم فيه، لكن قصة الجبذة وكونه صلى الله عليه وسلم حصل له الجفاء من بعض الأعراب فهذا ثابت، وثبت تبسمه وضحكه صلى الله عليه وسلم وإحسانه إلى من حصل منه ذلك، واغتفاره له، وأما هذه القصة ففي إسنادها من هو متكلم فيه.
وفي أول الحديث: (أنهم كانوا يجلسون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قام وذهب قاموا)، يعني: انفض المجلس، وليس المقصود من ذلك أنهم يقومون له صلى الله عليه وسلم لا في حال دخوله وإقباله ولا في حال قيامه، وإنما كانوا يستقبلونه وكانوا يحترمونه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره أن يقوموا له، وقد جاء أنهم كانوا لا يقومون للنبي صلى الله عليه وسلم لما يعلمون من كراهيته صلى الله عليه وسلم لذلك، والقيام للرجل كما هو معلوم جاء ما يدل على منعه، وأما القيام إلى الرجل من أجل استقباله أو معانقته أو إكرامه ومصافحته، فهذا لا بأس به ولا مانع منه، وإنما الممنوع كونه يقوم ويجلس فقط احتراماً وتوقيراً لمن دخل أو لمن يريد أن يخرج، وأما إذا كان هناك استقبال أو مصافحة أو معانقة فإنه يكون قائماً.
قوله: [(فكل ذلك يقول له الأعرابي: والله لا أقيدكها، فذكر الحديث قال: ثم دعا رجلاً فقال له: احمل له على بعيريه هذين: على بعير شعيراً، وعلى الآخر تمراً)].
يعني: حقق له ما يريد بأن تمل على بعير شعيراً وعلى الآخر تمراً.
قوله: [(ثم التفت إلينا فقال: انصرفوا على بركة الله تعالى)].
يعني: كانوا واقفين وكانوا يرونه ويرون الأعرابي الذي حصل منه ذلك الفعل، فقال صلى الله عليه وسلم: (انصرفوا على بركة الله).(544/7)
تراجم رجال إسناد حديث الأعرابي الذي جبذ النبي بردائه فحمر رقبته
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هو هارون بن عبد الله الحمال البغدادي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو عامر].
أبو عامر العقدي، وهو عبد الملك بن عمرو، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن هلال].
محمد بن هلال صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أنه سمع أباه].
أبوه هو هلال بن أبي هلال المدني مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[قال: قال أبو هريرة].
أبو هريرة، هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو أكثر السبعة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(544/8)
ما جاء في الوقار(544/9)
شرح حديث (إن الهدي الصالح جزء من النبوة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الوقار.
حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا قابوس بن أبي ظبيان أن أباه حدثه قال: حدثنا عبد الله بن عباس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة)].
أورد أبو داود (باب في الوقار)، والوقار هو: الثبات وعدم العجلة والتسرع، وأنلمرء يكون له هيبة ويكون له سمت حسن، فهذا هو الوقار؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) أي: يأتون وعليهم الهدوء والسكينة والوقار، ولا يكون عندهم تسرع، فالوقار صفة حسنة وخلق كريم، ويقابله العجلة والتسرع وعدم الثبات والرزانة.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة).
أي: أن هذه الخصال من الأخلاق الكريمة التي هي من أخلاق وصفات الأنبياء وآداب الأنبياء، وأتباع الأنبياء مطلوب منهم أن يقتدوا بالأنبياء، وأن يأخذوا بالصفات الكريمة التي تأتي عن الأنبياء، وكل صفات الأنبياء كريمة، وكل ما يأتي عنهم فهو كريم، ولكن المقصود أنهم يتبعونهم، ويسيرون على منهاجهم ومنوالهم، ويقتدون بهم في أخلاقهم وأفعالهم وسمتهم وهديهم ووقارهم عليهم الصلاة والسلام، فالهدي الصالح هو الطريقة الصالحة.
ويقال: هدي الرجل: حاله ومذهبه، أي: الحالة والطريقة التي هو عليها.
والسمت: الهيئة الحسنة, والوقار والسكينة الذي يكون فيه.
قوله: [(والاقتصاد)].
الاقتصاد: هو التوسط في الأمور والاعتدال، وعدم الإفراط والتفريط، فالاقتصاد يكون في العمل، ويكون في المطعم والمشرب، وكل ذلك من الأمور المطلوبة، والإنسان عليه أن يكون وسطاً بين الإفراط والتفريط، فلا يكون مفرِّطاً ولا مفرِطاً، وكذلك في العمل لا يكون مفرطاً بحيث يكثر من العمل حتى يمل، ولا مهملاً بحيث لا يكون منه عمل، وإنما يكون متوسطاً معتدلاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل)، ولهذا قيل: اقتصاد في عبادة خير من اجتهاد في بدعة، إذ إن العبادة وإن كان العمل فيها قليلاً فإنه ينفع صاحبه، والاجتهاد في البدعة يضر صاحبه ولو كان قليلاً أو كثيراً.
قوله: [(جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة)] يعني: أنه من أخلاق وصفات الأنبياء.
وأما ذكر هذا العدد على وجه التخصيص فلا أدري ما وجهه.(544/10)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الهدي الصالح جزء من النبوة)
قوله: [حدثنا النفيلي].
هو عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية، وهوثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا قابوس بن أبي ظبيان].
قابوس بن أبي ظبيان فيه لين، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[أن أباه حدثه].
أبوه ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث فيه قابوس وفيه لين، ومعلوم أن كلمة (فيه لين) أخف من كلمة (لين)، والحديث صححه الألباني فلا أدري هل له شواهد، أو أن وصفه بأن فيه ليناً لا يؤثر.(544/11)
ما جاء فيمن كظم غيظاً(544/12)
شرح حديث (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله عز وجل على رءوس الخلائق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من كظم غيظاً.
حدثنا ابن السرح حدثنا ابن وهب عن سعيد -يعني: ابن أبي أيوب - عن أبي مرحوم عن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله عز وجل على رءوس الخلائق يوم القيامة؛ حتى يخيره الله من الحور العين ما شاء).
قال أبو داود: اسم أبي مرحوم: عبد الرحمن بن ميمون].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب من كظم غيظاً] أي: في فضل من كظم غيظاً، وكظم الغيظ هو الصبر وحبس الغيظ بحيث لا يظهره فيحصل منه الغضب، بل يتحمل ويصبر ويخفي ذلك الشيء فلا يظهره، والغضب يترتب عليه أمور خطيرة وأمور غير حسنة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن الغضب لما يترتب عليه من الأمور الضارة والسيئة.
وأورد أبو داود حديث معاذ بن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق يوم القيامة؛ حتى يخيره من الحور العين ما شاء)، وهذا يدل على فضل من كظم غيظاً، وذلك أنه يدعى على رءوس الخلائق فيعرفون حصول هذه الخصلة الطيبة التي بها حصل هذا الأمر الطيب وهو كونه يختار من الحور العين ما شاء؛ إكراماً وجزاءاً له على كظم غيظه، وكظم الغيظ يحصل معه السلامة من الشرور التي تنشأ عن الغضب، وهي أمور محذورة، وكظم الغيظ يحول ويمنع دون الوقوع في تلك الأمور المحذورة، فهذا دال على فضل من كظم غيظاً.(544/13)
تراجم رجال إسناد حديث (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله عز وجل على رءوس الخلائق)
قوله: [حدثنا ابن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد يعني: ابن أبي أيوب].
سعيد بن أبي أيوب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي مرحوم].
قال أبو داود: اسمه عبد الرحمن بن ميمون وفي طبعة محمد عوامة أنه في بعض النسخ عبد الرحمن، وفي بعض النسخ الأخرى عبد الرحيم، وهو الصواب.
قال في التقريب: [عبد الرحيم بن ميمون المدني أبو مرحوم، نزيل مصر، صدوق زاهد من السادسة، مات سنة ثلاث وأربعين وقيل: اسمه يحيى.
أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجة.
[عن سهل بن معاذ].
سهل بن معاذ لا بأس به، وهي بمعنى: صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبيه].
أبوه صحابي أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.(544/14)
شرح حديث (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه ملأه الله أمناً وإيماناً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا عبد الرحمن يعني: ابن مهدي عن بشر -يعني: ابن منصور - عن محمد بن عجلان عن سويد بن وهب عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه، قال: (ملأه الله أمناً وإيماناً) لم يذكر قصة: (دعاه الله)، زاد: (ومن ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه -قال بشر: أحسبه قال:- تواضعاً كساه الله حلة الكرامة، ومن زوج لله تعالى توجه الله تاج الملك)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يسم لا هو ولا ابنه الراوي عنه، وهو نحو الذي قبله، ولكن فيه (ملأه الله أمناً وإيماناً) يعني: أنه قال: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه ملأه الله أمناً وإيماناً) بدل: (دعاه الله عز وجل على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء)، وهذا لأنه كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه فهذا هو العمل في الدنيا، والجزاء في الآخرة في الحديث الأول: (دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين) وهنا قال: (ملأه الله أمناً وإيماناً).
قوله: [زاد: (ومن ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه -قال بشر: أحسبه قال:- تواضعاً، كساه الله حلة الكرامة)].
وهذا الذي ورد هنا إن كان المقصود (بالجمال) الشهرة أو الشيء الذي فيه تكلف وزيادة وإسراف فهذا مذموم، وإن كان المراد به أنه جمال متوسط ليس فيه تجاوز، وليس فيه إسراف فإن ذلك أمر محمود ومطلوب، وقد ثبت في صحيح مسلم: (إن الله جميل يحب الجمال)، وجاء في ذلك أحاديث عديدة، ولكن كما هو معلوم أن الاعتدال والتوسط في الأمور هو المطلوب.
قوله: [(ومن زوج لله تعالى توجه الله تاج الملك)].
يعني: زوج شخصاً من أجل صلاحه وتقواه، وفعل ذلك من أجل الله عز وجل: (توجه الله تاج الملك) يعني: جزاءً في الآخرة.
والحديث ضعيف؛ لأن في إسناده ذلك الرجل المبهم وهو ابن ذلك الصحابي، وفيه أيضاً الراوي عن ابن الصحابي فيه كلام.(544/15)
تراجم رجال إسناد حديث (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه ملأه الله أمناً وإيماناً)
قوله: [حدثنا عقبة بن مكرم].
عقبة بن مكرم ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا عبد الرحمن يعني: ابن مهدي].
عبد الرحمن بن مهدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بشر يعني: ابن منصور].
بشر بن منصور صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن محمد بن عجلان].
محمد بن عجلان صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سويد بن وهب].
سويد بن وهب مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن رجل من أبناء الصحابة].
وهو مبهم لم يسم، فالمبهم هو الذي يأتي في سند الحديث ويقال: رجل أو امرأة، وأما إذا قيل: فلان، دون أن يقال: ابن فلان، فهذا يقال له: مهمل، مثل: سليمان بن المغيرة الذي مر بنا، ومثل: عبد الرحمن بن مهدي هنا، حيث قال: عبد الرحمن يعني: ابن مهدي، فالتلميذ لم ينسبه، فيقال له: مهمل، وأما إذا ذكر بوصف كونه رجلاً أو امرأة فإن هذا يقال له: مبهم، وهو غير معروف العين.
[عن أبيه].
وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.(544/16)
شرح حديث (ما تعدون الصرعة فيكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن عبد الله أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الصرعة فيكم؟ قالوا: الذي لا يصرعه الرجال، قال: لا، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما تعدون الصرعة فيكم؟ قالو: الذي لا يصرعه الرجال) يعني: الذي يصرع الرجال ولا يصرعه الرجال، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب) يعني: هذا هو الصرعة في الحقيقة، وإن كان فيما يتعلق بقوة الجسم والنشاط والغلبة وكونه يغلب غيره هو صرعة أيضاً، ولكن الصرعة في الحقيقة الذي يملك نفسه عند الغضب، وقد جاء في بعض الروايات: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) يعني: الذي يقدر على أن يملك نفسه وهو الذي يكظم غيظه كما مر قريباً، فيتحمل ويصبر ولا يندفع عند الغضب فيسترسل ويحصل منه أمور لا تحمد عقباها سواءً كانت قولية أو فعلية.
فالصحابة رضي الله عنهم لما سألهم قالوا: الذي يصرع الرجال، يعني: أنه قوي، فالرسول صلى الله عليه وسلم بين أن الصرعة على الحقيقة -وإن كان ذاك صرعة-: (الذي يملك نفسه عند الغضب)؛ ولذلك جاء في بعض الروايات: (ليس الشديد بالصرعة) يعني: ليس الشديد بالصرعة في الحقيقة، وإن كان هو صرعة، (ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)، فهذا هو الصرعة في الحقيقة.
وهذا من جنس بعض الألفاظ التي تأتي والمقصود بها بيان من هو المتصف بهذا الوصف على الحقيقة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، وإنما المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه) يعني: هذا هو المسكين حقاً؛ لأن الذي يمد يده هذا وإن كان مسكيناً إلا أنه حصل شيئاً عن طريق مد اليد، لكن المسكين على الحقيقة الذي ليس عنده شيء يأكله، ولا يمد يده للناس، ولا يفطن الناس له فيتصدقون عليه، فيبقى في قلة ذات يد، ويبقى غير واجد لما يحتاج إليه، هذا هو المسكين حقاً، فهذا من جنسه.
وكذلك قوله: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس عندنا الذي لا درهم له ولا متاع)، فهذا هو مفلس في الدنيا فليس عنده درهم ولا متاع، ولكن المفلس في الحقيقة هو المفلس في الآخرة، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وحج، ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)، وكذلك ما جاء في الحديث: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها).(544/17)
تراجم رجال إسناد حديث (ما تعدون الصرعة فيكم)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
هو عبد الله بن محمد، وهو أخو عثمان بن أبي شيبة الذي يأتي ذكره كثيراً عند أبي داود، وأما أبو بكر فوجوده في رواة أبي داود بالنسبة لأخيه قليل.
وأبو بكر بن أبي شيبة هو الشخص الذي لم يرو مسلم في صحيحه أكثر مما روى عنه، إذ روى عنه أكثر من ألف وخمسمائة حديث، وهو أعلى رقم ذكر أن الإمام مسلم رواه عن شيخ من شيوخه، ويليه أبو خيثمة زهير بن حرب، فإنه روى عنه أكثر من ألف ومائتين حديث، وأبو بكر بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا أبو معاوية].
أبو معاوية محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم التيمي].
هو إبراهيم بن يزيد التيمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ويوافقه في الاسم واسم الأب إبراهيم النخعي، فاسمه إبراهيم بن يزيد النخعي، وهذا إبراهيم بن يزيد التيمي، وإبراهيم النخعي هو الذي يأتي ذكره كثيراً في الروايات، وإذا جاء إبراهيم غير منسوب سواءًَ كان في كتب الفقه أو في كتب الحديث فإنه يراد به النخعي، كما جاء في بعض الروايات: قال إبراهيم: [كانوا يضربوننا على اليمين والعهد ونحن صغار]، فإذا جاء إبراهيم في كتب الفقه أو في كتب الحديث مهملاً فإن المراد به إبراهيم النخعي.
[عن الحارث بن سويد].
الحارث بن سويد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله].
هو عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله تعالى عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(544/18)
ما يقال عند الغضب(544/19)
شرح حديث (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجده من الغضب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يقال عند الغضب.
حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير بن عبد الحميد عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال: (استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فغضب أحدهما غضباً شديداً حتى خيل إلي أن أنفه يتمزع من شدة غضبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجده من الغضب، فقال: ما هي يا رسول الله؟! قال: يقول: اللهم! إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، قال: فجعل معاذ يأمره، فأبى ومحك، وجعل يزداد غضباً)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب ما يقال عند الغضب]، أي: ما يقال من أجل أن يمنع الغضب أو يخفف الغضب أو ينهي الغضب، وذلك هو الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، فهناك أقوال، وهناك أفعال تكون عند الغضب، فالأقوال: هي الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والأفعال: هي أن يتوضأ الإنسان، وإذا كان قائماً أن يجلس، وإذا كان جالساً أن يضطجع، أو يقوم ويخرج ويترك المكان الذي وقع فيه الخصام والنزاع الذي حصل بسببه الغضب، فكل هذه الأمور تفعل عند الغضب وهي تخلص من الأمور السيئة التي تترتب على الغضب، فالإنسان قد يخرج عن شعوره ويتكلم بكلام شديد وقاس، وقد يخرج منه شيء وهو لا يشعر بسبب إفراطه في الغضب.
فالمقصود من الترجمة أنه عند الغضب يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويفعل أيضاً أفعالاً أخرى تخفف من وطأة الغضب وشدته أو تنهيه.
وأورد أبو داود حديث معاذ رضي الله عنه أن رجلين استبا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحد يسب الآخر، فجعل أحدهما يشتد غضبه حتى كاد أنفه يتقطع من الغضب، يعني: أنه أحمر وجهه وانتفخ وصار على هيئة سيئة جداً حتى كان أنفه أن يتمزق أو يتقطع من شدة الغضب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجد، قالوا: ما هي يا رسول الله؟! قال: يقول: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم) لأن الغضب من الشيطان فكون الإنسان يسترسل مع الغضب فإنه يحصل منه كلام أو فعل لا تحمد عاقبته؛ ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجل قال: (أوصني، قال: لا تغضب، فردد مراراً، قال: لا تغضب) وذلك لما يترتب على الغضب من الأمور الخطيرة والأمور السيئة التي لا تحمد عقباها سواءً كانت قولية أو فعلية، وقد يهذي بشيء لا يعقله بسبب تمكن الغضب منه واستيلائه عليه، وقد يصل به الحال إلى أنه لا يعقل ما يقول والعياذ بالله، فجعل معاذ يأمره بأن يقولها، وهو مصر ومشتد في غضبه، ولم يحصل منه فعل ما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليه، وأنه لو قاله لذهب عنه ما يجد.
والحديث في إسناده انقطاع، ولكنه صحيح من حيث الجملة؛ لأن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإن ذلك ينفعه، وهو من الأسباب التي تخفف وطأة الغضب على الإنسان.(544/20)
تراجم رجال إسناد حديث (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجده من الغضب)
قوله: [حدثنا يوسف بن موسى].
يوسف بن موسى صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[حدثنا جرير بن عبد الحميد].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الملك بن عمير].
عبد الملك بن عمير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن أبي ليلى].
عبد الرحمن بن أبي ليلى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معاذ بن جبل].
معاذ بن جبل رضي الله عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة، والحديث فيه انقطاع بين عبد الرحمن وبين معاذ رضي الله تعالى عنه، ولكن جاءت أحاديث أخرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معناه، وهو كون الإنسان يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فيكون ذلك من أسباب انتفاء غضبه، وطرد الشيطان عنه، وسلامته من الغضب.(544/21)
شرح حديث (إني لأعرف كلمة لو قالها هذا لذهب عنه الذي يجد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عدي بن ثابت عن سليمان بن صرد قال: (استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل أحدهما تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعرف كلمة لو قالها هذا لذهب عنه الذي يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقال الرجل: هل ترى بي من جنون؟)].
أورد أبو داود حديث سليمان بن صرد وهو مثل قصة الرجل الذي قبله، وهو أنه غضب وأحمرت عيناه وانتفخت أوداجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه الذي يجد) فقيل له فيها: هل ترى بي من جنون، يعني: حتى أقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فاستولى عليه الغضب وتمكن منه حتى صار لا يأخذ بما يقال له، ولا يدري ما يقول، وهذا بمعنى الحديث الذي قبله، والحديث الذي قبله فيه انقطاع، وحديث سليمان بن صرد هذا شاهد له؛ لأنه بمعناه وهو صحيح.(544/22)
تراجم رجال إسناد حديث (إني لأعرف كلمة لو قالها هذا لذهب عنه الذي يجد)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عدي بن ثابت].
في بعض الطبعات جاء في السند (حدثنا معاوية) بدل (حدثنا أبو معاوية) وهو خطأ، والصحيح ما أثبتناه هنا.
عدي بن ثابت ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن صرد].
سليمان بن صرد رضي الله عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(544/23)
شرح حديث (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو معاوية قال حدثنا داود بن أبي هند عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبي ذر أنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع)].
أورد أبو داود حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، وإن كان جالساً فليضطجع)، لأنه إذا كان قائماً فقد يؤدي ذلك إلى أن يتصرف بالانتقال والحركة والتقدم والتأخر؛ بسبب الهيجان، ولكنه إذا كان جالساً فإنه يكون أخف مما إذا كان قائماً، ولكنه أيضاً إذا اشتد به الغضب وهو جالس فيضطجع؛ لأن هيئة اضطجاعه أخف من هيئة جلوسه؛ لأن هيئة الجلوس يكون معها القدرة والنشاط والتمكن من الفتك، أو القيام بأفعال غير محمودة، ولكنه إذا اضطجع فإن ذلك يخف في حقه، وهذه من الطرق الفعلية التي يكون بها التخلص من شدة الغضب، وعدم الوقوع فيما لا تحمد عاقبته بسبب الغضب.(544/24)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، الإمام الفقيه.
[حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند].
داود بن أبي هند ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي حرب بن أبي الأسود].
أبو حرب بن أبي الأسود ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي ذر].
هو أبو ذر جندب بن جنادة رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(544/25)
شرح حديث (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس) من طريق أخرى، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن داود عن بكر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا ذر بهذا الحديث).
قال أبو داود: هذا أصح الحديثين].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى مرسلة؛ لأن بكر بن عبد الله المزني تابعي وهو الذي أسند الحديث إلى رسول الله وأرسله، ولم يذكر الصحابي، وقال أبو داود: إن هذا الطريق أصح من الطريق السابق، ولكن الحديث صحيح بالمرسلة وبالمتصلة.
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
هو وهب بن بقية الواسطي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن خالد].
هو خالد بن عبد الله الطحان الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن داود عن بكر].
داود مر ذكره.
وبكر بن عبد الله المزني تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو الذي ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمته في (تهذيب التهذيب) كلمة عظيمة حيث قال: إياك من الكلام ما إن أصبت فيه لم تؤجر، وإن أخطأت فيه أثمت، وهو سوء الظن بأخيك.
أي: إن أصبت لم تحصل الأجر على كونك ظننت بأخيك شيئاً، ولكنك إن أخطأت فإنك تأثم؛ لأنك ظننت به شيئاً ليس فيه، فتكون آثماً لظنك الذي ظننته فيه وهو ليس فيه.(544/26)
شرح حديث (إن الغضب من الشيطان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا بكر بن خلف والحسن بن علي المعنى، قالا: حدثنا إبراهيم بن خالد حدثنا أبو وائل القاص قال: دخلنا على عروة بن محمد السعدي فكلمه رجل فأغضبه، فقام فتوضأ، ثم رجع وقد توضأ، فقال حدثني أبي عن جدي عطية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)].
أورد أبو داود حديث عطية بن عروة السعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من نار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ).
معناه: أن هذا من الوسائل التي يكون بها تخفيف الغضب؛ لأن الغضب من الشيطان، والشيطان خلق من نار، والنار يطفئها الماء، فكون الإنسان يتوضأ فإنه يخفف من وطأة الغضب عليه.
فهناك جملة من الأشياء التي تمنع من الغضب، كالجلوس لمن كان قائماً، والاضطجاع لمن كان جالساً، والوضوء، وكذلك كون الإنسان يخرج ويترك المكان الذي فيه المخاصمة والمشادة والمنازعة.(544/27)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الغضب من الشيطان)
قوله: [حدثنا بكر بن خلف].
بكر بن خلف صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود وابن ماجة.
[والحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا إبراهيم بن خالد].
إبراهيم بن خالد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا أبو وائل القاص].
أبو وائل القاص وثقه ابن معين، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[دخلنا على عروة بن محمد السعدي].
عروة بن محمد السعدي مقبول، أخرج له أبو داود.
[حدثني أبي].
أبوه هو محمد بن عطية، صدوق، أخرج له أبو داود.
[عن جدي عطية].
عطية صحابي، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
والحديث في إسناده هذا الرجل المقبول، ولكن معناه صحيح.(544/28)
الأسئلة(544/29)
الجمع بين قوله (اذهب حيث أمرتك) وقوله (ما قال لي لشيء لم أفعله لم لم تفعل كذا؟)
السؤال
قوله في الحديث الأول: (يا أنيس! اذهب حيث أمرتك) ألا يعارض قول: أنس في آخره: (ما قال لي لشيء لم أفعله: لم لم تفعل كذا؟ أو لشيء فعلته: لم فعلت كذا؟)؟
الجواب
هذا بيان أن هذا هو الغالب على فعله صلى الله عليه وسلم، ولكنه هنا أمره بأمر وأكده عليه فقال: (اذهب حيث أمرتك) فهو أولاً أمره، ثم قال: (اذهب حيث أمرتك)، فهو تأكيد للأمر السابق، فقد كان صغيراً وشاهد الصبيان يلعبون فوقف عندهم.(544/30)
النهي عن تذكير الغضبان بالله إذا خشي منه التمادي
السؤال
في بعض الأحيان عندما يغضب بعض الناس فيقول له أخوه: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو أي دعاء آخر، أو يذكره بالله، ربما سب الله أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم.
فهل الأولى عدم قول ذلك للشخص الغاضب حتى لا يتسبب بما هو أعظم؟
الجواب
نعم، إذا كان هذا معروفاً عنه فإنه لا يقال له ذلك؛ لأن هذا يؤدي إلى ما هو أخطر، فعندما يؤمر بالمعروف يأتي بأنكر المنكر، وهو كونه يسب الله، فإذا كان هذا شأنه فإنه لا يقال له شيء، وإذا كان هذا يزيد الطين بلة، ويزيد الشر شراً فإنه لا يقال له شيء من ذلك، والله تعالى يقول: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]، فسب آلهة المشركين هو من أحق الحق، ولكنه إذا كان يؤدي إلى أبطل الباطل وهو سب الله فإنهم لا يسبون؛ لئلا يسب الله.(544/31)
جزاء المرأة في الآخرة عند كظمها لغيظها
السؤال
إذا كانت الكاظمة للغيظ امرأة فهل تخير من الحور العين كما جاء في حق الرجل؟
الجواب
الحور العين هن أصلاً نساء، ولكنها لا شك أنها إذا دخلت الجنة فهي تنسى كل شيء في الدنيا، كما جاء في الحديث: (أنه يؤتى بأنعم أهل الدنيا فيغمس في النار غمسة، ثم يقال له: هل مر بك خير؟ فيقول: ما مر بي خير قط) أي: أنه ينسى كل النعيم الذي جاءه في الدنيا، وعكسه من حصل له البؤس والفقر والفاقة، فإنه يغمس في الجنة غمسة حتى ينسى كل شيء، فهي إذا دخلت الجنة فإنها تكون في خير عظيم، وتكون زوجة لزوجها إذا كانت حالهما في الدنيا حسنة، وقد جاء في الحديث أن الزوجة إذا كان لها عدة أزواج في الدنيا فإنها تكون لآخرهم.(544/32)
حقيقة التفاضل بين الحور العين
السؤال
هل هناك تفاضل بين الحور العين، حيث قال: (يخيره من الحور العين)؟
الجواب
الحديث يشعر بأن بينهن تفاضل، والمفضول فيهن فاضل، فكونه يخيره لا شك من وجود تفاضل، ولهذا فإن الله لما ذكر في سورة الرحمن صفات الحور العين والزوجات التي تكون في الآخرة، ذكر كذلك حصول التفاوت بين الجماعة الأولى والجماعة الثانية، فقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] وجاء في وصف هاتين الجنتين: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، وبعدها قال: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن:70] {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72]، وكل ما يكون في الجنتين الأخيرتين هو دون ما في الجنتين السابقتين.(544/33)
شرح سنن أبي داود [545]
إن النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين جاء بالرحمة والخير والتيسير فندب أمته إلى اختيار أيسر الأمور في كثير من مجالات الحياة، فدعاهم إلى العفو والصفح بدل الانتقام، وإلى الحلم على العبيد والخدم والنساء، بل الشدة والغلظة، كما دعاهم إلى الرفق بالآخرين وعدم التشهير بهم إذا كان منهم خطأ، وأن يختار الناصح أحسن الألفاظ حتى لا يثير المنصوح أو يشهر به، ثم جعل صلى الله عليه وسلم الحياء هو أساس الخير وروح الأخلاق.(545/1)
التجاوز في الأمر(545/2)
شرح حديث (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين إلا اختار أيسرهما)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التجاوز في الأمر.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى فينتقم لله بها)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في التجاوز في الأمر].
معنى ذلك الأخذ بالأيسر، والتسامح فيه، وعدم الأخذ بما هو شاق، وقد أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، وما انتقم لنفسه صلى الله عليه وسلم قط، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله عز وجل).
ففيه: أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ما عرض له أمران أحدهما فيه مشقة والآخر فيه سهولة ويسر إلا اختار الأيسر والأسهل، إلا إذا كان ذلك الأيسر فيه إثم فإنه أبعد الناس عنه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وكذلك ما انتقم لنفسه، بمعنى أنه يسيء إليه من يسيء فيصفح ويتجاوز، ولا يقابل الإساءة بأن يعاقب عليها، بل يعفو ويصفح صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فهو لا ينتقم لنفسه، ولكنه ينتقم إذا كان ذلك الشيء يتعلق بالله عز وجل، وهذا يدلنا على كمال خلقه صلى الله عليه وسلم، وعلى شفقته على أمته وحرصه عليها، وعلى ابتعاده عن كل شيء يكون فيه مشقة وضرر عليها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يختار الأيسر في الأمرين الحاصلين اللذين لا بد من أخذ واحد منهما.
وقد ذكر صاحب عون المعبود معنى ذلك حيث قال: (قال القاضي: ويحتمل أن يكون تخييره صلى الله عليه وسلم هاهنا من الله تعالى فيخيره فيما فيه عقوبتان، أو فيما بينه وبين الكفار من القتال وأخذ الجزية، أو في حق أمته في المجاهدة في العبادة، أو الاقتصاد).
كان صلى الله عليه وسلم يخير بين القتال وبين أخذ الجزية، وأخذ الجزية أيسر من القتال؛ لأن أخذ الجزية فيه مصلحة؛ وهي أنهم يبقون تحت حكم الإسلام، وتطبق أحكام الإسلام بينهم، فيكون في مشاهدتهم لأحوال المسلمين، وفي تطبيق أحكام الإسلام ما يكون سبباً في دخولهم في الإسلام، بخلاف كونه يقاتلهم ويستأصلهم، فإن ذلك فيه مضرة وقد تفوت هذه المصلحة التي تحصل بأخذ الجزية، وهي أسهل من القتال لما يترتب عليها من التمكن من الدخول في الإسلام بعد مشاهدة حسنها وفائدتها ومصلحتها.
وكذلك يخير بين عقوبتين فإنه يختار أيسرهما وهي الأخف.
وكذلك في حق أمته في المجاهدة في العبادة أو الاقتصاد، أي: الاجتهاد في العبادة والإكثار منها، أو الاقتصاد والتوسط وعدم الإكثار، ومعلوم أن الإكثار الذي يحصل معه الملل ثم الانقطاع ليس بمحمود، ولكن القليل الذي يدوم ويتمكن من الإتيان به والمداومة عليه هو الذي فيه المصلحة؛ ولهذا ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل)؛ لأن قليلاً تداوم عليه، خير من كثير تنقطع عنه، والإنسان إذا اجتهد في وقت من الأوقات، ثم كسل وحصل له الملل وترك العمل نهائياً فهذا سيئ، ولكن كونه يأتي بشي قليل ويداوم ويستمر عليه على مدى الأيام فإن هذا أولى، كأن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فهذا أفضل من أن يصوم شهراً أو شهرين ثم يتعب ويترك، وكذلك كونه يكثر من العبادة فيمل ويترك فهذا سيئ، وخير منه أن يحافظ على شيء قليل محدد يداوم عليه.
قوله: [(ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً)].
(ما لم يكن إثماً) هذا يكون فيما بينه وبين الناس، يعني: التخيير في أمور تجري بينه وبين الناس.
قوله: [(فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى فينتقم لله بها)].
يعني: أنه يتجاوز عن حقه ويصفح، ولا ينتقم لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرمات الله فإنه ينتقم لله عز وجل وليس لنفسه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(545/3)
تراجم رجال إسناد حديث (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين إلا اختار أيسرهما)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
ابن شهاب هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة بن الزبير].
هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وهي الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(545/4)
شرح حديث (ما ضرب رسول الله خادماً ولا امرأة قط)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة عليها السلام قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادماً ولا امرأةً قط)].
أورد المصنف حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ضرب خادماً ولا امرأةً قط) وذلك لكرم أخلاقه ولسماحته ولحسن معاشرته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فإنه لم يحصل منه أن ضرب خادماً من الخدم الذين يخدمونه، ولم يضرب أحداً من زوجاته عليه الصلاة والسلام، بل كان رفيقاً رحيماً سمحاً يحب الرفق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وهذا يدل على كمال أخلاقه عليه الصلاة والسلام، مع أنه قد يحصل من الخدم مخالفات وأمور يستحق بعضهم أن يعاقب عليها، ولكن شأنه وطريقته الرفق والتسامح والتجاوز في الأمور صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(545/5)
تراجم رجال إسناد حديث (ما ضرب رسول الله خادماً ولا امرأة قط)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري مر ذكره.
[عن عروة عن عائشة].
عروة وعائشة مر ذكرهما.(545/6)
شرح حديث (أمر نبي الله أن يأخذ العفو من أخلاق الناس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله يعني: ابن الزبير في قوله: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف:199] قال: (أمر نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس)].
أورد أبو داود أثر عبد الله بن الزبير في قول الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وفسره بأن يأخذ العفو من أخلاق الناس، يعني: ما كان حسناً من أخلاق الناس فإنه يؤخذ، وما كان سيئاً فإنه يتجاوز عنه ويصفح عنه.(545/7)
تراجم رجال إسناد حديث (أمر نبي الله أن يأخذ العفو من أخلاق الناس)
قوله: [حدثنا يعقوب بن إبراهيم].
هو يعقوب بن إبراهيم الدورقي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي].
محمد بن عبد الرحمن الطفاوي صدوق يهم، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه عن عبد الله يعني: ابن الزبير].
أبوه هو عروة بن الزبير وقد مر ذكره.
وعبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه الصحابي الجليل، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة وهم: عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين.
وحديث عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أخرجه أصحاب الكتب الستة.(545/8)
ما جاء في حسن العشرة(545/9)
شرح حديث (كان النبي إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل ما بال فلان يقول؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في حسن العشرة.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبد الحميد يعني: الحماني حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟)].
أورد المصنف هذه الترجمة: [باب في حسن العشرة] أي: المعاشرة والمعاملة للناس، وكان عليه الصلاة والسلام أحسن الناس خلقاً.
وقد أورد أبو داود حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حصل من الشخص شيء يحتاج إلى أن ينبه عليه فإنه لا ينبه عليه على الملأ، ويقول: ما بال فلان يقول كذا وكذا؟ فهو يمكن أن يكلمه فيما بينه وبينه، ولكنه من أجل أن يبين للناس الطريقة الصحيحة في مثل هذا الحادث أو في مثل هذا الأمر الذي عرض، دون أن يعرفوا الشخص الذي حصل منه ذلك الشيء الذي هو السبب في إيراد الكلام، فما كان يقول: ما بال فلان يقول كذا وكذا؟ والناس يسمعون، وإنما يقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟) ولا يسمي الشخص.
وفي هذا مصلحة للشخص نفسه؛ لأنه داخل في الخطاب وهو يعرف أنه حصل منه هذا المحذور، وغيره يعلم أن ذلك لا يصلح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكره.
والمقصود من ذلك تعميم الفائدة ومعرفة الجميع للحكم الشرعي في هذه المسألة التي حصل فيها ذلك الشيء الذي لا يسوغ ولا يجوز، مثلما جاء في قصة بريرة وأسيادها الذين قالوا: إنهم يبيعونها ولكن بشرط أن يكون لهم الولاء، حيث كاتبوها وأرادت عائشة أن تدفع لهم الشيء الذي تحملته لهم، وتكون هي التي تعتقها، فشرطوا هذا الشرط فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، إنما الولاء لمن أعتق).(545/10)
تراجم رجال إسناد حديث (كان النبي إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل ما بال فلان يقول؟)
[حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا عبد الحميد يعني: الحماني].
هو عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني، وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري ومسلم في المقدمة وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسلم].
هو مسلم بن صبيح أبو الضحى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسروق].
هو مسروق بن الأجدع، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة رضي الله عنها مر ذكرها.(545/11)
حكم التصريح باسم الشخص إذا كان شره شائعاً
والحديث فيه دلالة على عدم مشروعية ذكر اسم المردود عليه، وتشهيره عند الناس، لكن إذا كان قد حصل منه أمور منكرة، وقد كتبها ودونها، وانتشر كتابه وظهر منه ذلك، فإنه يذكر اسمه ويذكر كتابه حتى يعرف الكتاب الذي فيه السوء فيحذر.(545/12)
شرح حديث (أن رجلاً دخل على رسول الله وعليه أثر صفرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا حماد بن زيد حدثنا سلم العلوي عن أنس: (أن رجلاً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يواجه رجلاً في وجهه بشيء يكرهه، فلما خرج قال: لو أمرتم هذا أن يغسل ذا عنه).
قال أبو داود: سلم ليس هو علوياً، كان يبصر في النجوم وشهد عند عدي بن أرطاة على رؤية الهلال فلم يجز شهادته].
ثم أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلاً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة، يعني: زعفران، وسواء كان ذلك في جسده أو في ثوبه، ومعلوم أن التزعفر لا يصلح للرجال، كما سبق أن مر ذلك في أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قلما يواجه شخصاً بشيء يكرهه، فلما خرج طلب ممن حوله أن يأمروه أن يزيل هذا الخلوق، أو يزيل هذه الصفرة عنه.
والمقصود أنه قلما يواجه شخصاً بشيء يكرهه، وأنه أمرهم أن يخبروه بذلك الأمر الذي أراد أن يخبره به.
والحديث في سنده سلم العلوي هذا، وهو ضعيف، لذا فالحديث ليس بثابت عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(545/13)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رجلاً دخل على رسول الله وعليه أثر صفرة)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة].
هو عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد بن زيد].
هو حماد بن زيد بن درهم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سلم العلوي].
سلم العلوي ضعيف، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي في عمل اليوم والليلة.
قال أبو داود: سلم لم يكن علوياً كما هو المتبادر من النسبة؛ لأنه إذا قيل علوي فمعناه أنه ينسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنه من ذريته، كما ينسب العباسي إلى العباس، فالمشهور فيمن ينتسب إلى علي أن يقال عنه: علوي، وبين أن هذه النسبة ليست كما يتبادر إلى الذهن، وإنما يقال له: العلوي؛ لأنه كان ينظر للعلو، يعني: في النجوم، ومثل هذا يقال له: نسبة إلى أدنى مناسبة، إذ هي ليست نسبة واضحة؛ لأن النسبة منها ما يكون واضحاً ويتبارد إلى الذهن، ومنها ما يكون بعيداً ولا يتبادر إلى الذهن، مثل هذا الذي قيل له: العلوي؛ لأنه ينظر إلى العلو، وهذا شيء غير متبادر إلى الذهن.
ومثل ذلك: خالد الحذاء تلقيبه بـ الحذاء لم يكن لكونه يصنع الأحذية أو يبيعها، وإنما لأنه كان، يجلس عند الحذائين فقيل له: الحذاء، وهي نسبة غير متبادرة إلى الذهن.
وكذلك يزيد بن صهيب الفقير فلقب الفقير يتبادر إلى الذهن أنه لكونه فقيراً، ولكنه سمي بذلك لأنه كان يشكو فقار ظهره، وهي نسبة ليست مما يتبادر إلى الذهن، فكذلك العلوي هنا هو من هذا القبيل.
قوله: [عن أنس].
أنس رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود: سلم ليس هو علوياً كان يبصر في النجوم، وشهد عند عدي بن أرطأة على رؤية الهلال فلم يجز شهادته].
هو نفسه ضعيف لا يحتج بحديثه وقد ردت شهادته بسبب شيء فيه، ولكن عموماً هو ضعيف، والضعيف كما هو معلوم حديثه غير معتمد.(545/14)
كلام محمد عوامة في نسبة سلم العلوي وسبب رد شهادته
وهناك معنىً آخر ذكره محمد عوامة في حاشيته وهو أنه كان حاد البصر، ويرى الهلال قبل الناس، ولذلك ردت شهادته.
فيقول: على حاشية نسخة حاء بخط الحافظ يوسف بن خليل، وإملاء الملك المحسن قال أحمد بن يوسف: سلم العلوي ليس هو من ولد علي بن أبي طالب كما قال أبو داود وأما هو فمنسوب إلى بني علي بن سود، وهو معروف بهم، وقول أبي داود: يبصر في النجوم سهو منه.
وذكر صاحب عون المعبود أنه كان يسبق الناس، وكونه يسبق الناس إذا كان المقصود بأنه يرى الهلال ليلة ترائي الهلال والناس ما رأوه فهذا ممكن، وهو المشاهد والواقع؛ لأنه ما كل يرى الهلال أول ليلة، فبعض الناس لا يراه إلا بعد ليلتين، مما يعني أن الناس ليسوا على حد سواء.
قال محمد عوامة: كان يبصر الهلال قبل الناس بيوم لشدة بصره، وهو معروف بذلك، وقيل: إنه كان يبصر النجوم كالدلاء لحدة بصره.
ولقد قال له أنس بن مالك: يا سلم خل بين الناس وبين هلالهم حتى يروه.
وهو ضعيف.
فهو حديد يبصر النجوم، لا يبصر في النجوم، بمعنى أنه كان منجماً.
انتهى.
بينما أبو داود يقول: ويبصر في النجوم.
فكونه يبصر النجوم، المقصود: أنه يرى النجوم في العلو، ولهذا قالوا: علوي نسبة إلى العلو.(545/15)
شرح حديث (المؤمن غر كريم، والفاجر خب لئيم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا نصر بن علي أخبرني أبو أحمد حدثنا سفيان عن الحجاج بن فرافصة عن رجل عن أبي سلمة عن أبي هريرة ح وحدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني حدثنا عبد الرزاق أخبرنا بشر بن رافع عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رفعاه جميعاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن غر كريم، والفاجر خب لئيم)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن غر كريم، والفاجر خب لئيم).
ويجوز في (خب) فتح أوله وكسره.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن غر) أي أنه لا يشغل نفسه بتتبع الأمور التي يكون فيها مضرة، أو الأمور التي ليست حسنة فيشغل نفسه بها.
وقوله: (كريم)؛ لأن كرمه هو الذي يدفعه إلى أنه لا يشغل نفسه بمثل هذه الأمور بعكس الفاجر فإنه خَب أو خِب، بمعنى أنه يقدم على أشياء فيها فساد وفيها مضرة؛ لأن نفسه تشتهي ذلك وتميل إليه، فيكون لؤمه هو الذي دفعه إلى أن يقدم على شغل نفسه بأمور محذورة فيها فساد ومضرة، وقد يكون معنى قوله: (خب) أنه يجتهد في الشيء الذي فيه مضرة مثلما يقال: خَبَّ، بمعنى: أقدم وأسرع، أو من التخبيب الذي هو الإفساد، مثل: تخبيب المرأة على زوجها، فيكون المؤمن عنده غفلة عن الأمور التي لا حاجة إليها، وينشغل بما هو أهم منها، والفاجر بعكس ذلك.(545/16)
تراجم رجال إسناد حديث (المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم)
قوله: [حدثنا نصر بن علي].
هو نصر بن علي الجهضمي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني أبو أحمد].
أبو أحمد الزبيري هو محمد بن عبد الله بن الزبير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحجاج بن فرافصة].
الحجاج بن فرافصة صدوق يهم، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن رجل عن أبي سلمة].
هذا الرجل مبهم، ولكن جاء في الرواية الثانية أنه يحيى بن أبي كثير فيكون قد عرف.
وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق.
[ح وحدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني].
ثم قال: ح وهي للتحول من إسناد إلى إسناد.
ومحمد بن المتوكل العسقلاني صدوق له أوهام كثيرة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا بشر بن رافع].
بشر بن رافع ضعيف الحديث، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن يحيى بن أبي كثير].
هو يحيى بن أبي كثير اليمامي، وهو الذي يروي عن أبي سلمة، وقد مر ذكره.
[عن أبي سلمة عن أبي هريرة].
أبو سلمة وأبو هريرة مر ذكرهما.
[رفعاه جميعاً].
يعني: ذكراه مرفوعاً.(545/17)
شرح حديث (إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه الناس لاتقاء فحشه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد قال حدثنا سفيان عن ابن المنكدر عن عروة عن عائشة قالت: (استأذن رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بئس ابن العشيرة، أو بئس رجل العشيرة! ثم قال: ائذنوا له، فلما دخل ألان له القول، فقالت عائشة: يا رسول الله! ألنت له القول وقد قلت له ما قلت؟! قال: إن شر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة من ودعه -أو تركه- الناس لاتقاء فحشه)].
أرود أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع صلى الله عليه وسلم باسمه قال: (بئس رجل العشيرة، أو بئس ابن العشيرة).
وهذا فيه ذم له، ولما دخل ألان له القول، فلما خرج قالت عائشة: يا رسول الله، إن فلاناً قلت فيه كذا وكذا، ثم ألنت له القول، تعني: أنه ما حصل منه شيء يطابق الذي قاله عنه في الأول، وإنما ألان له القول، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن شر الناس منزلةً عند الله من ودعه الناس اتقاء فحشه) أي: تركه الناس اتقاء فحشه، أو اتقاء شره، وذلك كإنسان يكون عند بذاءة في اللسان وعنده تطاول على الناس، فالناس يحرصون على أن يتخلصوا منه، ولا يدخلون معه في مصادمات؛ لأنه يؤذيهم، وقد بذل نفسه للإيذاء فما يكون من الناس إلا أن يلينوا له القول لاتقاء شره، فبدلاً من أن يحصل منهم أمر يدفعه إلى أن يتطاول عليهم ويؤذيهم ويسبهم ويفحش في القول فيهم، يلينوا له القول من أجل أن يتقوا شره؛ لأن سلامة الناس من شره أمر مقصود.(545/18)
تراجم رجال إسناد حديث (إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه الناس لاتقاء فحشه)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا سفيان].
سفيان هو ابن عيينة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن المنكدر].
هو محمد بن المنكدر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة عن عائشة].
عروة وعائشة مر ذكرهما.(545/19)
كلام المنذري في اسم الرجل الذي استأذن على النبي
قوله: [(استأذن رجل)].
هذا الرجل مبهم غير معين، لكن جاء عن بعض أهل العلم أنه واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المنذري: هذا الرجل هو عيينة بن حصن الفزاري، وقيل: هو مخرمة بن نوفل الزهري والد المسور.
وعيينة بن حصن مر ذكره قريباً، وجاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه ليتألفه على الإسلام، وكان حديث عهد بالإسلام، وقيل: مخرمة والد المسور بن مخرمة، وكان عنده شيء من الشدة، وقد سبق ذكره في بعض الأحاديث، حين كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوزع أقبية، فجاء مخرمة يريد أن يكون له نصيب منها هو وابنه، فقال لابنه المسور: ادخل فادعه ليخرج إلي، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه قباء يقلبه فقال له: إنا خبأنا هذا لك، أو ادخرنا هذا لك.(545/20)
جواز غيبة الرجل من أجل التحذير من شره
والحديث فيه دلالة على أن ذكر الإنسان بما فيه من فحش من أجل أن يحذر لا بأس به، وهذا مما هو سائغ، فهو قال هذا الكلام من أجل أن يعرف الناس حاله، وأن يكونوا على علم به، والغيبة كما هو معلوم محرمة، ولكنها تجوز في أمور معينة ذكرها العلماء.(545/21)
الفرق بين المداراة والمداهنة
وفعل النبي مع هذا الرجل فيه شيء من المداراة.
وهناك فرق بين المداراة والمداهنة، فالمدارة كما هو معلوم لا يترتب عليها ترك حق، أو إيجاد باطل، أما المداهنة فيمكن أن يكون فيها سكوت عن باطل أو عن أمر منكر أو إقرار لأمر غير سائغ.(545/22)
شرح حديث (أن رجلاً استأذن على النبي فقال النبي بئس أخو العشيرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بئس أخو العشيرة! فلما دخل انبسط إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه، فلما خرج قلت: يا رسول الله، لما استأذن قلت: بئس أخو العشيرة، فلما دخل انبسطت إليه!! فقال: يا عائشة إن الله لا يحب الفاحش المتفحش)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، وفيه: (إن الله لا يحب الفاحش المتفحش) يعني: الذي يأتي بالفاحش من القول، أو الفحش من الكلام ويواجه به.(545/23)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رجلاً استأذن على النبي فقال النبي بئس أخو العشيرة)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة بن دينار، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن عمرو].
هو محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة عن عائشة].
أبو سلمة وعائشة مر ذكرهما.(545/24)
شرح حديث (إن من شرار الناس الذين يكرمون اتقاء ألسنتهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عباس العنبري حدثنا أسود بن عامر حدثنا شريك عن الأعمش عن مجاهد عن عائشة في هذه القصة قالت: (فقال: - تعني النبي صلى الله عليه سلم- يا عائشة! إن من شرار الناس الذين يكرمون اتقاء ألسنتهم)].
أورد أبو داود حديث عائشة من طريق أخرى وفيه: (إن من شرار الناس الذين يكرمون اتقاء ألسنتهم).
يعني: لا يكون الإكرام من القلب، أو لأن هذا يستحقه، وإنما من أجل السلامة من شره، وكما يقولون: (قطع لسانه) بحيث لا يتكلم بأمر منكر، كأن يكون معروفاً بالهجو وبالإقذاع في القول وفي الكلام، وإذا حصل منهم أن تهاونوا في أمره أنشأ فيهم قصيدة إذا كان شاعراً مقذعاً، أو تكلم فيهم بكلام بذيء.(545/25)
تراجم رجال إسناد حديث (إن من شرار الناس الذين يكرمون اتقاء ألسنتهم)
قوله: [حدثنا عباس العنبري].
هو عباس بن عبد العظيم العنبري، وهوثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا أسود بن عامر].
أسود بن عامر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شريك].
هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الأعمش].
الأعمش مر ذكره.
[عن مجاهد].
هو مجاهد بن جبر المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة مر ذكرها.(545/26)
شرح حديث (ما رأيت رجلاً التقم أذن رسول الله فينحي رأسه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن منيع حدثنا أبو قطن أخبرنا مبارك عن ثابت عن أنس قال: (ما رأيت رجلاً التقم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه، وما رأيت رجلاً أخذ بيده فترك يده حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (ما رأيت رجلاً التقم أذن النبي صلى الله عليه وسلم) معناه: أنه يسر في أذنه بكلام، أي: يقرب فمه من أذنه للمسارة والكلام الذي لا يراد أن يسمعه الحاضرون.
فيقول أنس: إنه ما رأى أحداً التقم أذن النبي صلى الله عليه وسلم فيؤخر رأسه حتى يكون ذلك هو الذي يؤخر فمه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرب رأسه والرجل يقرب فمه إلى أذنه فيبقى النبي على هذه الحال حتى ينهي المتكلم حاجته وبغيته، ثم يرجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هيئته من الانتصاب الذي كان قبل إمالة الرأس من أجل المسارة، وهذا من كمال أخلاقه عليه الصلاة والسلام.
وهو يدل أيضاً على جواز المسارة فيما إذا كان الإنسان في مجلس، وكان أحدهم يريد أن يتحدث معه ولا يتمكن من أن ينفرد به أو يذهب به إلى مكان آخر.
قوله: (وما رأيت رجلاً أخذ بيده فترك يده حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده).
معناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يسحب يده، وإنما يبقي يده حتى يكون ذاك الرجل هو الذي ينتهي، وهذا من كمال أخلاقه عليه الصلاة والسلام.(545/27)
تراجم رجال إسناد حديث (ما رأيت رجلاً التقم أذن رسول الله فينحي رأسه)
قوله: [حدثنا أحمد بن منيع].
أحمد بن منيع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو قطن].
أبو قطن هو عمرو بن الهيثم، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا مبارك].
هو مبارك بن فضالة، وهو صدوق يدلس ويسوي، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس مر ذكره.(545/28)
قول الألباني في صحة حديث أنس وحديث عائشة
حديث أنس صحيح.
ولا يضر تدليس مبارك بن فضالة، وقد صححه الشيخ الألباني، لكن لا أدري هل صححه بسبب وجود شواهد أو لشيء آخر.
والشيخ الألباني ضعف إسناد الحديث الذي قبله: (يا عائشة إن من شرار الناس الذين يكرمون اتقاء ألسنتهم)، حيث قيل: إن مجاهداً لم يسمع من عائشة، لكن المحشي يذكر أن رواية مجاهد عن عائشة موجودة في الصحيحين.
وسند الحديث فيه شريك عن الأعمش عن مجاهد عن عائشة، وكلهم لا بأس بهم ما عدا شريكاً ففيه كلام.(545/29)
ما جاء في الحياء(545/30)
شرح حديث (أن النبي مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الحياء.
حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه فإن الحياء من الإيمان)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في الحياء].
والحياء خصلة كريمة تدفع إلى البعد عن الرذائل وإلى فعل الخصال الحميدة، وهذا هو الحياء المحمود.
أما الحياء الذي هو خجل وضعف، فهو غير محمود، مثل الحياء الذي يمنع الإنسان من طلب العلم، فهذا ضعف وليس حياء، وهو غير محمود، وإنما المحمود هو الذي يدفع إلى ترك الأشياء المنكرة والمستكرهة حياء من الله عز وجل، وهو الذي يعد من الإيمان، والنبي صلى الله عليه وسلم قال للذي كان يعظ أخاه في الحياء: (دعه فإن الحياء من الإيمان)، والحياء شعبة من شعب الإيمان كما جاء في الحديث الآخر: (الإيمان بضع وستون شعبة -أو بضع وسبعون شعبة- أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).(545/31)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء)
قوله: [حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله].
مر ذكر الثلاثة الأولين، وأما سالم فهو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهو الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(545/32)
شرح حديث (الحياء خير كله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن إسحاق بن سويد عن أبي قتادة قال: كنا مع عمران بن حصين رضي الله عنهما وثم بشير بن كعب فحدث عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الحياء خير كله، أو قال: الحياء كله خير) فقال بشير بن كعب: إنا نجد في بعض الكتب أن منه سكينة ووقاراً، ومنه ضعفاً، فأعاد عمران الحديث، وأعاد بشير الكلام، قال: فغضب عمران حتى احمرت عيناه وقال: ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن كتبك، قال: قلنا: يا أبا نجيد إيه إيه!].
أورد أبو داود حديث عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما: أنه كان في مجلس وفيه بشير بن كعب، فحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحياء كله خير) أو (الحياء خير كله) يعني: الحياء المحمود، والحياء الشرعي الذي يمنع من الوقوع في المحرمات، ويبعث على الإتيان بالأمور المشروعة، والأمور المطلوبة، فقال بشير: إنا نجد في الكتب أن منه سكينة ووقاراً، وأن منه ضعفاً، فأعاد عمران بن حصين الحديث قال: (الحياء خير كله) يعني: أنه كله خير لا يستثنى منه شيء، فأعاد بشير الكلام الذي قاله، وهو تقسيم الحياء إلى قسمين كما ينسبه إلى بعض الكتب، فقال عمران: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن كتبك؟! قيل: إن إنكاره لكونه يقابل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بكلام آخر من أخبار الأولين ومن أخبار بني إسرائيل، أو من الكتب المتقدمة التي تحكي مثل هذه الأمور، فأنكر عليه ذلك.
وقيل: إنه أنكره من أجل أنه قال: إن فيه ضعفاً، وقد قال: (الحياء خير كله) وهذا يدل على أنه لا استثناء فيه، وأنه كله خير، بينما بشير قسمه إلى ما يكون سكينة ووقاراً، وما يكون ضعفاً.
ويمكن أن يكون إنكاره عليه من أجل الاثنين؛ لأن الضعف ليس من الحياء الشرعي، فالحياء الذي يحول بين صاحبه وبين تحصيل أمر مقصود يعود عليه بالمنفعة والفائدة الكبيرة، ليس من الحياء الشرعي، وإنما هذا من الخور ومن الضعف وعدم الشجاعة.
قوله: [يا أبا نجيد إيه إيه].
يعني: يكفي، وقد أبلغت وأديت ما عليك بكونك نبهته.
وقيل: إنهم قالوا: إنا ما نعلم عنه إلا خيراً، يعنون بشير بن كعب.(545/33)
تراجم رجال إسناد حديث (الحياء خير كله)
[حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسحاق بن سويد].
إسحاق بن سويد صدوق، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبي قتادة].
هو تميم بن نذير العدوي، وهو ثقة، وقيل: له صحبة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[كنا مع عمران بن حصين].
هو عمران بن حصين رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنيته: أبو نجيد، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(545/34)
شرح حديث (إذا لم تستح فافعل ما شئت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا شعبة عن منصور عن ربعي بن حراش عن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فافعل ما شئت)].
أورد أبو داود حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فافعل ما شئت).
ومعناه: أن الإنسان إذا لم يكن عنده حياء فإنه يفعل ما يشاء؛ لأنه ما عنده وازع، ولا عنده شيء يمنعه، والإنسان إذا كان عنده حياء فإنه يمنعه من أن يقدم على أمور محرمة وأمور لا تنبغي.
قوله: [(إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى)] يعني: أن هذا الكلام مما جاء عند الأنبياء السابقين، وأن الحياء مما جاء عند الرسل وعند الأمم، وأن الحياء محمود، وأنه كان موجوداً في الأمم السابقة، فهو مما أدركه الناس من كلام النبوة الأولى.
قوله: [(فاصنع ما شئت)] إما: أن يكون معناه: افعل ما شئت؛ لأنك ليس عندك مانع، وليس عندك رادع من الحياء.
وقيل: إنه على سبيل التهكم، وليس المقصود أنه يفعل.
وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا أورده النووي في الأربعين النووية، واختاره من بين الأحاديث التي اختارها، وهي من جوامع كلم الرسول صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(545/35)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا لم تستح فافعل ما شئت)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن شعبة].
شعبة هو شعبة بن الحجاج الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن المعتمر الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ربعي بن حراش].
ربعي بن حراش ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي مسعود].
هو عقبة بن عمرو الأنصاري رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(545/36)
الأسئلة(545/37)
الاعتماد على حديث (ما خير النبي بين أمرين إلا اختار أيسرهما) في تتبع الرخص في الفتاوى
السؤال
في حديث عائشة: (ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما) هل إذا اختلف العلماء في حكم فإن للإنسان أن يأخذ بالأيسر عملاً بهذا الحديث؟
الجواب
لا، ليس هذا مما يدخل تحت الحديث، والإنسان لا يبحث في كلام العلماء ويختار الذي تميل إليه نفسه ويشتهيه، وإنما عليه إذا كان عنده علم ومعرفة أن يبحث حتى يصل إلى الراجح، وإذا لم يكن عنده علم ومعرفة فإنه يسأل شخصاً يثق بعلمه ودينه، ثم يأخذ بكلامه، ولا يستفتي أناساً متعددين من أجل أن يتخير في الفتاوى التي يحصلها من هذا وهذا، فيبحث عن الشيء الذي يعتبر أيسر.(545/38)
حكم مداراة أهل الانحراف إذا خشي الإنسان شرهم
السؤال
إذا كان الإنسان يعيش بين بعض الناس ولهم انحرافات منهجية، وإذا باشرهم وضحك في وجوههم، وقلبه يبغضهم، وعند الناس يذمهم، فهل هذا الفعل من باب حديث: (بئس أخو العشيرة)؟
الجواب
نعم، إذا كانوا عندهم بذاءة، وشر وكان يخشى منهم فيمكن، ولكن إذا كانوا ليسوا بهذه الصورة، وليسوا بهذه الصفة، وكانوا مأموني الجانب، فعليه أن يناصحهم فيما يرى أنهم مخطئون فيه.(545/39)
ضرورة معرفة حال من وقع في بدعة قبل المبادرة في الرد عليه والتشهير به
السؤال
هل يصح أن أطلق لساني في المبتدع أم أكتفي بذكر أنه مبتدع وأبين الدليل على ذلك؛ لأن الغيبة تقدر بقدرها؟
الجواب
الإنسان فيما يتعلق بالمتقدمين والذين سلفوا ليس عنده إلا كلام العلماء فيهم، وأما فيمن تأخر فهذا يتوقف على ما يكتبه هذا الشخص من أنواع الفحش وأنواع البدع، والتفنن فيها، والإكثار منها، فكل شيء بحسبه، وكل شيء بقدره، فإذا كان عنده أمور من هذا فهو يبين حاله، وأنه عنده بدع في كذا وفي كذا، وأنه عنده ضلال في كذا وفي كذا، ويعدد البدع من أجل أن تحذر وتعلم.
وأما إذا كان من أهل السنة وحصل منه أخطاء فإن الذي ينبغي مناصحته ليرجع عن خطئه، ويبين له وجه الصواب في ذلك، ولا ينابذ أو يبالغ في النكير عليه، بل الواجب العدل والتوسط في الأمور، والإنسان الذي عنده نقص وهو من أهل السنة يسدد ويبين له نقصه، ويطلب منه الرجوع عن ذلك، وقد يكون قال شيئاً من هذه الأشياء بسبق لسان، أو حصل منه وهو ذاهل عنه، ولو نبه عليه لتنبه.
وأحوال الناس عند الكلام تختلف كما هو معلوم؛ لأن الإنسان قد يصدر منه كلام -لاسيما إذا كان يتكلم وليس الكلام محرراً- لم يكن على باله، ويكون مخطئا فيه غير مصيب، ولكنه لو نبه عليه لتنبه، ولو ذكر لتذكر بأن هذا غلط، وبادر إلى تلافيه وتداركه.(545/40)
ترك عمل المنكر لمجرد خشية اطلاع الناس عليه ليس من الإيمان
السؤال
إذا ترك أحد الشر حياء من الناس، فهل يعد هذا من الإيمان؟
الجواب
لا، كون الإنسان يريد الشر ولا يفعله حتى لا يذمه الناس معناه أن عنده طوية خبيثه، وأنه إذا تمكن من أن يصل إلى الشر والناس لا يرونه فلن يقصر عنه؛ لأنه يخشى الناس، وعليه أن يخشى الله سبحانه وتعالى الذي هو مطلع عليه ورقيب عليه، والذي بيده كل شيء، وهو الذي بيده الثواب والعقاب، ولا شك إن الإنسان لابد أن يكون عنده حياء من الله وحياء من الناس، ولا يكون شأنه أنه إذا سلم من كلام الناس لا يبالي، بل هناك شيء أعظم من هذا وهو اطلاع الله عز وجل عليه، ومراقبته له، فعليه أن يكون متقياً لله عز وجل في جميع أحواله، وأن يترك الشر من أجل أنه شر، طاعة لله عز وجل ورغبة في الثواب من الله سبحانه وتعالى.(545/41)
الحياء يمنع من الكلام الفاحش
السؤال
هل يعد الكلام الفاحش من عدم الحياء؟
الجواب
لا شك أن الحياء يمنع من الكلام الفاحش.(545/42)
النهي عن الزعفران والعصفر للرجال في اللباس والطيب
السؤال
النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على ذاك الرجل الذي عليه أثر صفرة، فهل كل لون أصفر يدخل في ذلك؟
الجواب
جاء النهي عن التزعفر والتعصفر، أي: استعمال الزعفران والعصفر فيما يتعلق باللباس أو الطيب.(545/43)
حكم أداء العمرة عمن مات وهو تارك للصلاة
السؤال
زوجة فقدت زوجها منذ ستة عشر عاماً، حيث كان هذا الزوج يعمل في بلاد الكفر، فمات عندما سقط به مصعد البناء، وهي قد نذرت أن تؤدي عنه عمرة، مع أنه كان لا يصلي، فهل يجوز لها أن تقوم بأداء هذه العمرة؟
الجواب
إذا كان تاركاً للصلاة ولا يصلي أبداً، فلا تعتمر عنه؛ لأن من لا يصلي كافر كما قال عليه الصلاة والسلام: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) وقال: (بين المسلم وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة) وقال في حق الأمراء الذين سئل صلى الله عليه وسلم عن الخروج عليهم فقال: (لا، ما صلوا).(545/44)
إطلاق لقب الإمام على من عنده أخطاء عقدية
السؤال
هل يجوز إطلاق لقب الإمام على من كان لديه بعض الأخطاء العقدية؟
الجواب
إذا كان من أهل السنة، وقد اشتهر بهذا اللقب، وعلمه عظيم، ونفعه كثير، فلا بأس بإطلاقه؛ لأنه من أئمة أهل السنة، وأخطاؤه تكون مغمورة في جنب صوابه وخيره وعظيم نفعه.(545/45)
الحكم على الحديث الضعيف الذي له شواهد تقويه
السؤال
إذا وجدنا حديثاً إسناده ضعيف، ولكن له شواهد تقويه، فهل نقول: إن هذا الحديث صحيح، أو نقول: سنده ضعيف ومعناه صحيح؟
الجواب
إذا كان الضعف يسيراً محتملاً يتقوى، فالشواهد إذا كانت قريبة منه فإنه يشد بعضها بعضاً، ويكون الحديث حسناً لغيره، هذا إذا كان متوقفاً فيه، أما إذا كان حسناً لذاته، ثم جاءت أسانيد أخرى تقويه، فإنه ينتقل من كونه حسناً لذاته إلى كونه صحيحاً لغيره، لأنه ثابت بالطريق التي هو منها حسن، ورجاله لا يقل الواحد منهم عن أن يكون صدوقاً، وأما إذا كان الضعف فيه بسبب جهالة أحد رواته أو كونه مستور الحال أو سيئ الحفظ، ثم جاء شيء مثله يقويه، فهذا يضم بعضه إلى بعض فيكون حسناً لغيره؛ لأنه متوقف فيه، ولا يعول عليه بمجرد المجيء به من طريق واحد، ولكن جاءت طرق متعددة يشد بعضها بعضاً، فيرتفع من كونه متوقفاً فيه إلى كونه حسناً لغيره.(545/46)
حكم قول: فال الله ولا فالك
السؤال
اشتهر على ألسنة العامة قولهم: فال الله ولا فالك، فما حكم ذلك؟
الجواب
إذا كان المقصود به أن الفأل من الله، فلا بأس.(545/47)
حكم أخذ علوم النحو والبلاغة وغيرها ممن يعتقد عقائد الأشاعرة
السؤال
هل يجوز أن نتلقى العلم عن مشايخ يعتقدون عقائد الأشاعرة، علماً بأنهم علماء في علوم كثيرة مثل النحو والبلاغة والفقه، وقد جرت العادة في بلدنا أن تتلقى هذه العلوم في الصغر؟
الجواب
إذا وجد الإنسان غيرهم ممن هو من أهل السنة فلا يعدل عنه إليهم، وأما إذا لم يجد إلا هؤلاء ويؤمن عليه فيما يتعلق بالعقيدة، وإنما يكون أخذه عنهم في الأمور التي يتقنونها، ولا يخشى عليه الضرر في العقيدة، ولا يتكلمون في العقيدة، ولا مجال للكلام فيها ودعت الحال إلى ذلك، فلا بأس.(545/48)
حكم افتتاح جلسات تعليم القرآن وختمها بالدعاء
السؤال
امرأة تعلم القرآن فتفتتح الحلقة بالدعاء وتؤمن الطالبات، وتنهي الحلقة كذلك بالدعاء وتؤمن الطالبات، فهل هذا جائز؟
الجواب
الانتهاء بالدعاء ممكن؛ فالناس عندما يجتمعون في مجلس أو في قراءة قرآن ويدعون في الآخر لا بأس بذلك، لكن كونهم يبدءون المجلس بالدعاء ثم يقرءون فما أعلم شيئاً في هذا، ولكن كون الدعاء يصير في النهاية هو المناسب.(545/49)
كيفية قضاء الصلوات الفائتة
السؤال
امرأة احترقت في بعض أعضائها فمنعها الطبيب من استعمال الماء، فلجهلها مكثت عشرة أيام لم تصل، فماذا يجب عليها الآن؟
الجواب
عليها أن تصلي هذه الأيام التي تركتها، ولكن ليس كما يفعله بعض الناس إذا كان عليه صلوات فائته يذهب يقضي العصر مع العصر، والمغرب مع المغرب، والعشاء مع العشاء، والفجر مع الفجر وهكذا، وإنما يقضيها متصلة كل يوم بصلواته، ثم ينتقل إلى اليوم الثاني بصلواته، ثم اليوم الثالث بصلواته ما لم يجد تعباً ومشقة، فإذا احتاج إلى راحة فيستريح ولا بأس، وأما أن يؤخر القضاء فيصلي الصلاة مع الصلاة فهذا غير صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نام عن صلاة ونسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك).(545/50)
مفارقة أهل السنة للمخالفين في العقائد
السؤال
هل يصح أن يقال: إنه ليس كل خلاف يفرقنا، سواء كان الخلاف في الفروع أو في العقيدة؟
الجواب
ليس هذا على إطلاقه، نعم الخلاف في الفروع والأمور التي هي محل اجتهاد موجود من قديم الزمان، فقد اختلف الصحابة واختلف من بعدهم، واختلافهم لا يترتب عليه شيء من التباغض أو التنافر، وإنما هي مسألة تتبع الدليل وتتبع الفهم في الدليل، ووضوح الدليل وعدم وضوحه، أو صحته وعدم صحته، أو ثبوته وعدم ثبوته.
وأما فيما يتعلق بالعقائد فلا يقال: الخلاف فيها لا يفرقنا، وإلا فما الفرق بين أهل السنة والمبتدعة؟ ما الفرق بين الفرقة الناجية التي قال عنها صلى الله عليه وسلم: (هي الجماعة) وقال: (من كان على ما أنا عليه وأصحابي) والفرق الأخرى التي أخبر النبي أنها من أهل النار، وأخبر أنهم كلهم سواء لا فرق بين هذا وهذا؟ إن هناك فرقاً شاسعاً بين أهل السنة وغيرهم، وأهل الفرق أيضاً متفاوتون، ففيهم القريب وفيهم البعيد، وفيهم من هو أشد سوءاً، وفيهم من هو أخف، والكل مخالفون لأهل السنة.(545/51)
حكم الزيارة مع وجود بعض المعاصي عن المزور
السؤال
عندما أزور بعض أرحامي وأقاربي أجد عندهم التلفاز، وفي بعض الأحيان يحتوي هذا الجهاز على موسيقى، فإذا أمرتهم بإغلاقه لا يرضون، فماذا أفعل معهم؟
الجواب
اذهب إليهم في الأوقات التي لا يستعملون فيها التلفاز، إذا كان هناك أوقات لا يستعملون فيها التلفاز.
وهم أيضاً ينبغي عليهم من حسن المعاشرة ومن الأدب ألا يواجهوا الإنسان بما يكره أو يجعلوا عنده الشيء الذي يكرهه، وعليه أن يناصحهم إذا كانوا قد ابتلوا به، أو على الأقل ألا يستعملوه إلا فيما ينفع.(545/52)
شرح سنن أبي داود [546]
إن حسن الخلق من الخصال التي ترتقي بصاحبها إلى أعلى المراتب في الدنيا والآخرة، فمن حسن خلقه كان له من المكانة مثل الصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يرقد، وما من عمل من أعمال الدنيا أثقل في الميزان من حسن الخلق، وقد تعهد النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب الخلق الحسن ببيت في أعلى الجنة، كما أخبر أن أقرب الناس منه منزلة يوم القيامة وأحبهم إليه من حسن خلقه، ونهى عن سيء الأخلاق، كالترفع والتعالي على الآخرين، وكثرة المدح الذي يؤدي إلى فتنة الممدوح، ويولد في نفسه العجب والغرور.(546/1)
ما جاء في حسن الخلق(546/2)
شرح حديث: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في حسن الخلق.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب -يعني: الإسكندراني - عن عمرو عن المطلب عن عائشة رحمها الله قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله هذه الترجمة: [باب في حسن الخلق].
وكتاب الأدب الذي نحن في صدد الكلام فيه كله يتعلق بالأخلاق والآداب، سواء ما كان منها مرغب فيه، أو ما كان منها مرهب ومحذر منه، وهنا حسن الخلق لفظ عام يشمل الأخلاق الكريمة والمعاملة الطيبة للناس، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما سأله بعض الصحابة أن يوصيه قال: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن).
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)، ومعلوم أن الصائم القائم عنده تعب ومشقة في كونه يقوم الليل ويصلي الصلوات التي يتطوع فيها لله عز وجل، وكذلك يصوم النهار، فإن ذلك فيه مشقة عليه، ومعلوم أن الأجر حاصل للصائم القائم؛ لأنه يجاهد نفسه في القيام بهذه الأمور التي فيها مشقة وتعب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)، والطريق إلى الجنة لا بد فيه من تعب ونصب، ولا بد فيه من مشقة، فصاحب حسن الخلق يكون في درجة هؤلاء، وذلك أن أولئك يجاهدون أنفسهم، وهذا يجاهد نفسه في معاملة الناس المعاملة الطيبة، فيخالقهم بالأخلاق الحسنة، فكونه يروض نفسه ويجاهدها على ذلك فإنه يحصل بذلك درجة الصائم القائم الذي أتعب نفسه وفعل تلك الأمور التي فيها مشقة على النفس، فيكون الصائم القائم بتعبه ونصبه ومشقته له أجر عظيم، وكذلك الذي يجاهد نفسه في مخالقة الناس بخلق حسن، ويعاملهم معاملة طيبة، فإنه يحصل من الأجر مثل أجر الصائم القائم.
والحديث فيه ترغيب في حسن الخلق، وبيان فضله، وعظيم أجره عند الله عز وجل.(546/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)
قوله: [حدثنا قتيبة].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يعقوب يعني: الإسكندراني].
هو يعقوب بن عبد الر حمن الإسكندراني، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن عمرو].
هو عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، وهو ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المطلب].
هو المطلب بن عبد الله بن حنطب، وهو صدوق كثير التدليس والإرسال، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن عائشة].
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(546/4)
شرح حديث: (ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي وحفص بن عمر قالا: حدثنا ح وحدثنا ابن كثير أخبرنا شعبة عن القاسم بن أبي بزة عن عطاء الكيخاراني عن أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق).
قال أبو الوليد قال: سمعت عطاء الكيخاراني.
قال أبو داود: وهو عطاء بن يعقوب وهو خال إبراهيم بن نافع، يقال: كيخاراني وكوخاراني].
أورد أبو داود حديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق)، وهذا فيه إثبات الميزان، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وهو يدل على عظيم شأن حسن الخلق وثوابه عند الله عز وجل، وأنه من أثقل ما يكون في الميزان عندما توزن الأعمال؛ لأنه من أجل وأفضل الأعمال.(546/5)
تراجم رجال إسناد حديث (ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق)
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
هو هشام بن عبد الملك، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحفص بن عمر].
هو حفص بن عمر النمري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[قالا: حدثنا ح وحدثنا ابن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقد ذكر التحويل بعد ذكر الصيغة، وذلك أن الأولين عبرا بحدثنا، وأما الأخير فعبر بأخبرنا، والأخير هو محمد بن كثير، وبعض العلماء يقولون: إن (حدثنا) لما سمع من لفظ الشيخ، وهي مثل سمعت، وأما (أخبرنا) فهي لما قرئ على الشيخ وهو يسمع، ومن العلماء من لا يفرق بينهما، ويأتي بحدثنا وأخبرنا فيما سمع من الشيخ وفيما قرئ على الشيخ وهو يسمع، فإن هذا كله يقال له: تحديث ويقال له: إخبار، ولكن أبا داود رحمه الله ذكر التحويل بعد ذكر الصيغة لبيان الفرق بين الصيغة التي أتى بها الأولان والصيغة التي أتى بها الشيخ الثالث، وهذا يدل على العناية والدقة في المحافظة على الألفاظ، والإتيان بصيغة الراوي كما جاءت.
[أخبرنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن القاسم بن أبي بزة].
القاسم بن أبي بزة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء الكيخاراني].
عطاء الكيخاراني ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي.
[عن أم الدرداء].
أم الدرداء هي هجيمة، وهي تابعية ثقة، أخرج حديثها أصحاب الكتب الستة، أما أم الدرداء الصحابية فاسمها خيرة، وليس لها رواية، وإنما الرواية هي لـ أم الدرداء الصغرى التي هي تابعية، واسمها هجيمة، وهي ثقة أخرج حديثها أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الدرداء].
هو عويمر رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو الوليد قال: سمعت عطاء الكيخاراني].
يعني: أبو الوليد في روايته جاء عن القاسم بن أبي بزة: سمعت في روايته سمعت عطاء الكخاراني، وأما رواية حفص بن عمر فإنه قال: عن القاسم عن عطاء.
[قال أبو داود: وهو عطاء بن يعقوب].
وقيل: هو عطاء بن نافع، وعطاء بن نافع هو الذي له رواية عند أبي داود، وأما عطاء بن يعقوب فما رمز له في التقريب إلا لـ مسلم، وليس له رواية عند أبي داود.
[وهو خال إبراهيم بن نافع، يقال: كيخاراني وكوخاراني].
يعني أن هذه النسبة تقال بالياء كيخاراني وبالواو كوخاراني، فإذا جاء الكيخاراني أو الكوخاراني فهو شيء واحد.(546/6)
ثقل حسن الخلق في الميزان ومقارنته بثقل الإيمان
وهنا ترد مسألة وهي: أليس التوحيد هو أثقل في الميزان من حسن الخلق؟ فنقول: معلوم أن الإيمان هو الأصل والأساس وكل شيء تابع له، وقد جاء في بعض الأحاديث: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان) وكذلك حديث: (والحمد لله تملأ الميزان)، فالتوحيد لا شك أنه هو الأساس، وهو الذي به بتميز المسلم عن الكافر، وبه يصير المرء من أهل الإيمان لا من أهل الكفر، ولكن فيما يتعلق بالأمور التي يتعامل الناس بها والتي في غير التوحيد، والتي هي من الأعمال الزائدة عن الأصل، فحسن الخلق من أثقل ما يكون في الميزان فيما يتعلق بهذه الأعمال.(546/7)
شرح حديث: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عثمان الدمشقي أبو الجماهر قال: حدثنا أبو كعب أيوب بن محمد السعدي قال: حدثني سليمان بن حبيب المحاربي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)].
أورد أبو داود حديث أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله تعالى عنه، وفيه بيان فضيلة حسن الخلق، وأن تحسين الإنسان لخلقه يوصله إلى الدرجات العالية في الجنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة أصناف من الناس: فمنهم من يكون في ربض في الجنة وفي أدناها، ومنهم من يكون في وسطها، ومنهم من يكون في أعلاها، ومعلوم أنه كما أن النار دركات بعضها تحت بعض، فالجنة درجات بعضها فوق بعض، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الذي يحسن خلقه يكون له بيت، والبيت هنا هو القصر في الجنة، وقوله: (أنا زعيم) يعني: أنا ضامن وكفيل وملتزم بأن من فعل كذا فله كذا، وهو نظير قول الله عز وجل: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72] يعني: أنا ملتزم بحمل البعير لمن أتى بصواع الملك، ((وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ)) يعني: بهذا الذي وعدت به، وهذا الجعل الذي جُعل فأنا ملتزم به، والمعنى هنا: أنا كفيل وضامن لمن فعل هذا الفعل أن يكون له بيت في الجنة.
قوله: [(أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً)] يعني: المجادلة التي تؤدي إلى الخصومة والشقاق والوحشة، فالإنسان يبتعد عنها حتى تسلم القلوب، وحتى تصفى النفوس.
قوله: [(وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً)].
فعلى الإنسان أن يعود نفسه على الصدق والبعد عن الكذب، فمن ترك الكذب ولو كان عن طريق المزح فإنه موعود بهذا الوعد الكريم وهو بيت في وسط الجنة.
قوله: [(وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)].
وهذا محل الشاهد من إيراد الحديث، وفيه بيان منزلة حسن الخلق، وهذه المنزلة العالية، ويدل على فضله وعلى أهميته.(546/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً)
قوله: [حدثنا محمد بن عثمان الدمشقي أبو الجماهر].
محمد بن عثمان الدمشقي ثقة، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثنا أبو كعب أيوب بن محمد السعدي].
أبو كعب أيوب بن محمد السعدي صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثني سليمان بن حبيب المحاربي].
سليمان بن حبيب المحاربي ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود وابن ماجة.
[عن أبي أمامة].
أبو أمامة هو صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث من الرباعيات، وهي من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(546/9)
الرد على أهل البدع ليس من الجدال المنهي عنه
إن الرد على المبتدعة ليس من الجدال المنهي عنه، بل هو من الواجب الذي لا بد منه، فالباطل إذا ظهر لا بد أن يبين بطلانه؛ حتى يندحر، وحتى يظهر الحق لأهل الحق، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18].
كما أن منطوق الحديث ليس فيه ما يدل على جواز الكذب حال المزاح، وإنما يبين أنه حتى في هذه الأمور التي يتساهل الناس فيها فإن الشرع لا يتساهل فيها.(546/10)
شرح حديث: (لا يدخل الجنة الجواظ ولا الجعظري)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة قالا: حدثنا وكيع عن سفيان عن معبد بن خالد عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة الجواظ ولا الجعظري) قال: والجواظ: الغليظ الفظ].
أورد أبو داود حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة الجواظ ولا الجعظري).
والجواظ: هو الذي عنده فظاظة وعنده غلظة، وعنده قسوة وجفاء، والجعظري، فسر بعدة تفسيرات، منها: أنه الذي ينتفخ بما ليس فيه، أي: كالمتشبع بما لم يعط، والذي يظهر بالشيء وهو ليس من أهله، ويكون فيه شيء من التكبر أو التعالي دون أن يكون عنده سبب ذلك، وهو مثل: العائل المستكبر الذي ما عنده الأسباب التي تجعله يستكبر، وكونه يستكبر مع كونه عائلاً هذا يدل على منتهى السوء، وإن كان الاستكبار قبيح ممن عنده الأسباب وممن ليست عنده الأسباب، ولكن حصوله ممن ليس عنده شيء يدل على منتهى سوئه.
قوله: [قال: والجواظ: الغليظ الفظ].
قيل: هو الضخم والذي فيه غلظة وفظاظة.(546/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يدخل الجنة الجواظ ولا الجعظري)
قوله: [حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة].
أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة هما أخوان، وهما ثقتان، وكل منهما أخرج له الشيخان، وكل منهما روى له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، فـ الترمذي ما خرج لهما، والنسائي خرج لـ أبي بكر في السنن، وخرج لأخيه عثمان بن أبي شيبة في عمل اليوم والليلة، وقد جمع بينهما هنا في هذا الإسناد، وقد يظن أن التقديم معتبر، وأن الأول هو الأكبر، بينما العكس هو الصحيح فـ عثمان هو الأكبر، وهذا الترتيب ليس له اعتبار؛ لأنه سيأتي بعد قليل حديث رواه عنهما وقدم عثمان على أبي بكر، فإذاً التقديم والتأخير ليس له اعتبار عند أبي داود فيما يتعلق بهذين الأخوين.
وأبو بكر هو ممن أكثر له مسلم، بل لم يرو مسلم في صحيحه أكثر من روايته عن أبي بكر بن أبي شيبة؛ ولهذا قل أن تمر بصفحة من صفحات صحيح مسلم، إلا وفيها: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وقد ذكر أن الأحاديث التي رواها مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ألف وخمسمائة حديث وزيادة، فهو أكثر من روى مسلم عنه من شيوخه.(546/12)
اختصاص كتابي الزهرة والخلاصة بذكر عدد الأحاديث المروية للصحابة ولشيوخ البخاري ومسلم
بالنسبة لعدد الأحاديث التي عند البخاري ومسلم فهناك كتاب ينقل عنه الحافظ ابن حجر في (تهذيب التهذيب) إذا أراد ذكر رجل من شيوخ البخاري ومسلم وعدد ما رويا عنه من أحاديث، فيقول: قال في (الزهرة): أخرج له البخاري كذا، وأخرج له مسلم كذا، يعني عدد الأحاديث له عند البخاري كذا، وعدد الأحاديث له عند مسلم كذا، فهذا من المظنة التي يعرف بها عدد أحاديث الرجل عند البخاري وعند مسلم، وهذا خاص بشيوخ الشيخين البخاري ومسلم، وأما فيما يتعلق بالصحابة فالأحاديث التي رواها كل صحابي في الكتب الستة يذكرها صاحب (خلاصة تذهيب الكمال) فهو عندما يترجم للصحابي يقول في آخر ترجمته: له كذا حديث، يعني: في الكتب الستة، اتفقا -أي: البخاري ومسلم - على كذا، وانفرد البخاري بكذا، وانفرد مسلم بكذا.
وكتاب (الزهرة) لا يذكر عدد أحاديث كل شيوخ الشيخين، لكن ممن ذكر عدد أحاديثهم عند الإمام البخاري وعند الإمام مسلم الراوي الذي سبق وذكرناه وهو أبو بكر بن أبي شيبة.(546/13)
تابع تراجم رجال إسناد حديث: (لا يدخل الجنة الجواظ ولا الجعظري)
قوله: [حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وإذا جاء وكيع يروي عن سفيان غير منسوب فالمراد به الثوري.
[عن معبد بن خالد].
معبد بن خالد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حارثة بن وهب].
حارثة بن وهب رضي الله عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(546/14)
حكم تفسير وتأويل أحاديث الوعيد
قوله: [(لا يدخل الجنة)].
من أهل العلم من قال: إن أحاديث الوعيد تبقى على هيبتها وعلى رهبتها؛ ليحصل الانزجار بها، والأصل ألا يشتغل بتأويلها وتفسيرها، ومن أهل العلم من فسرها حتى لا يستدل بها الخوارج والمعتزلة على أن أصحاب الكبائر لا يدخلون الجنة، وأنهم من أهل النار، ففسرها بعض أهل العلم: أنهم لا يدخلونها في أول من دخلها، وليس معنى ذلك أنهم لا يدخلونها أبداً؛ لأن الذين لا يدخلون أبداً هم الكفار، وأما غير الكفار فلا بد من دخولهم الجنة، ومن دخل النار من أهل المعاصي مهما بلغت تلك المعاصي وهي دون الشرك فإنه لا بد من خروجهم من النار وإدخالهم الجنة.
إذاً: من العلماء من رأى ألا يتعرض لها بتفسير، وأن تبقى على رهبتها وهيبتها، ومنهم من قال: إنها تفسر بأن المقصود أنهم لا يدخلونها في أول الأمر مع من يدخلها من أول وهلة، فيبقون في النار فترة يعذبون فيها، ثم يخرجون منها ويدخلون الجنة.(546/15)
كراهية الرفعة في الأمور(546/16)
شرح حديث: (حق على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كراهية الرفعة في الأمور.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن أنس: (كانت العضباء لا تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسابقها فسبقها الأعرابي، فكأن ذلك شق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: حق على الله عز وجل ألا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في كراهية الرفعة في الأمور]، يعني: في الأمور الدنيوية، وأما الأمور الأخروية فالرفعة فيها مطلوبة، والاشتغال والمنافسة فيها مطلوبة، فالرفعة في أمور الدنيا ليست هي المعتبرة، وإنما المعتبر هو الرفعة في أمور الآخرة؛ ولهذا الإنسان ينظر إلى من هو دونه ولا ينظر إلى من هو فوقه في أمور الدنيا؛ لأنه لو نظر إلى من فوقه فسيحصل منه ازدراء لنعمه الله عليه، وعدم الاعتراف بفضل الله عز وجل عليه، ولكنه إذا رأى نفسه في خير وأن هناك من هم دونه وما حصلوا الذي حصل فإنه يعرف قدر نعمة الله عليه، وأما بالنسبة لأمور الآخرة فلا بد فيها من المنافسة، ولا بد فيها من الجد والاجتهاد، ولا بد فيها من بذل الوسع، وهذا أمر مطلوب لكن على وجه لا يحصل معه ملل أو انقطاع، وإلا فإن المنافسة والمسابقة في الخير من الأمور المطلوبة، وكلما ارتقى الإنسان من حال إلى حال أحسن فإن هذا مطلوب، والإنسان يتحول من السيئ إلى الحسن، ومن الحسن إلى الأحسن؛ ولهذا قالوا في الحج المبرور: إن علامة الحج المبرور أن الإنسان إذا نظر إلى حاله قبل الحج وحاله بعد الحج يرى أنه تحول من حال سيئة إلى حال حسنة، ومن حال حسنة إلى حال أحسن، فهذه علامة بر الحج، فأمور الآخرة لا بد فيها من طلب أعالي الأمور ومن المنافسة، ولا بد فيها من المسابقة في الخيرات، وهذا أمر مطلوب جاءت به نصوص الكتاب والسنة، وأما أمور الدنيا فالرفعة فيها تكون وقتية وتنتهي؛ ولهذا جاء في الحديث: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) يعني: لا ينفع صاحب الحظ حظه عندك، وإنما ينفعه العمل الصالح، فكرهت الرفعة في الأمور الدنيوية؛ لأن الرفعة فيها يعقبها زوال أو هبوط ونزول، فصاحب الجاه قد يكون جاهه مؤقتاً ما دام في وظيفته وفي مسئوليته، ولكنه إذا ذهب عن الوظيفة ذهب جاهه معه، أما في أمور الآخرة وفي أمور طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يكون في جميع الأحول على حال مرضية، وعلى حال مطلوبة، وجاهه يبقى ولا يذهب بذهاب العمل والمنزلة التي حصلها من الدنيا؛ لأن تلك إنما هي من أمور الآخرة، وأمور الآخرة باقية، وأما أمور الدنيا فإنها تنتهي، ويعقبها نزول وهبوط.
وأورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كانت العضباء لا تسبق).
أي: أن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقال لها: العضباء، وقيل: سميت بذلك بسبب خرم أو قطع في أذنها، وكانت لا تسبق، أي: أنها سباقة.
قوله: [(فجاء أعرابي على قعود)] القعود: هو الجمل المتوسط الذي لم يكبر كثيراً، وإنما من حين صلح أن يركب، قيل: يكون قعوداً إلى أن يبلغ عمره ست سنوات، ثم يقال له: جمل، والقعود لا يكون إلا ذكراً.
قوله: [(فسابقها فسبقها)].
لما سبقها هذا القعود تأثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم سبقت، وسبقها ذلك الأعرابي بقعوده، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق على الله عز وجل ألا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه) معناه: إن الدنيا لا بد فيها من الانحطاط، ولا بد فيها من الهبوط، ولا يبقى إلا ما أريد به وجه الله عز وجل، والأعمال الصالحة هي التي تبقى للإنسان، ولهذا جاء في الحديث: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً ومتعلماً) (فحق على الله عز وجل ألا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه) فهذا الذي حصل يحتمل أن المقصود به أن هذه الناقة حصل لها ارتفاع وسبق، ثم غلبت، وهذا الذي غلبها أيضاً سيحصل له أن يُغلب، وهذا شأن أمور الدنيا، بخلاف أمور الآخرة فإنها من ارتفاع إلى ارتفاع، ومن علو إلى ما هو أعلى.(546/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (حق على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو ابن سلمة بن دينار البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا الإسناد من الأسانيد العالية عند أبي داود، وهو من الأسانيد الرباعية.(546/18)
شرح حديث: (حق على الله ألا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي قال: حدثنا زهير قال حدثنا حميد عن أنس بهذه القصة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن حقاً على الله عز وجل أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه)].
أورد أبو داود الحديث السابق من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، إلا أن الأول عن ثابت والثاني عن حميد.
قوله: [حدثنا النفيلي].
هو عبد الله بن محمد النفيلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حميد].
هو حميد بن أبي حميد الطويل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس مر ذكره.
وهذا أيضاً رباعي، وهو من الأسانيد العالية عند أبي داود.(546/19)
معنى قوله: (حق على الله)
ومعنى قوله في الحديث: (حق على الله) أن الله عز وجل قضى أن أمور الدنيا لا بد فيها من النزول بعد الرفعة، وكما هو معلوم أن هذا هو شأن الدنيا، وهذه هي أحوال الإنسان نفسه، فإنه يرتفع ويكون في قوة وشباب ونشاط ثم يبدأ بالهبوط والنزول حتى يهرم ويضعف، فهو قبل كان ضعيفاً، ثم صار قوياً، ثم يحصل له ضعف.
وجاء في الحديث الأول: (حق على الله) أي: جرت عادته غالباً، وفي الحديث الثاني: (إن حقاً على الله تعالى) أي: أمراً ثابتاً عليه.
وهذا يعني أن الله عز وجل قد قضى بهذا، وأن هذا كائن وحاصل.(546/20)
كراهية التمادح(546/21)
شرح حديث: (إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كراهية التمادح.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن همام قال: (جاء رجل فأثنى على عثمان في وجهه فأخذ المقداد بن الأسود تراباً فحثا في وجهه، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)].
ثم أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في كراهية التمادح]، والمقصود بذلك المدح الذي يكون بغير حق، أو يحصل به تضرر الممدوح، وذلك بكونه يؤثر ذلك فيه فيزهو ويتكبر ويترفع، وأما المدح بالحق من أجل أن يتبع الإنسان، ومن أجل أن يوافق الإنسان على ما هو عليه من الخير، وعلى ما فيه من الأعمال الطيبة، فإن هذا لا بأس به بشرط ألا يحصل هناك ضرر على الإنسان، فيذكر الإنسان بخير من أجل الاقتداء به، ومن أجل الترغيب وتحفيز الناس ليكونوا مثله ويتابعوه؛ ولهذا لما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصدقة جاء رجل بصرة كبيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها)، وهذا مدح لهذا الشخص الذي سبق إلى الخير، واقتدى به الناس وتابعوه، فإذا كان المدح لا يحصل من ورائه مضرة، وإنما المقصود منه الفائدة والمصلحة، وأن يقتدى به ويؤتسى به، ويذكر ويثنى عليه، ويمدح بما هو فيه من أجل أن يتابع، فإن هذا أمر مطلوب ولا بأس به، وفي ذلك تحفيز للهمم إلى أن يكون المخاطبون مثل ذلك الذي مدح وأثني عليه، وأما إذا كان لأمور دنيوية، أو لطلب حظوظ دنيوية، أو كان بغير حق، فإن هذا غير محمود بل هو مذموم.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث ابن الأسود رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً مدح عثمان رضي الله تعالى عنه وكان المقداد حاضراً، فأخذ تراباً وحثاه عليه، وقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)، والمقداد رضي الله عنه فهم الحديث على ظاهره، ومن أهل العلم من قال: إن المقصود من ذلك أن المادح من أجل الدنيا أو من أجل حظوظ دنيوية لا يحصل إلا الخيبة، وأنه لا يعطى شيئاً إذا مدح من أجل الدنيا؛ لأنه لا يستحق، والمقصود من ذلك مثل قوله: (وللعاهر الحجر) في قصة الزاني، وأنه لا يحصل ولداً بسبب زناه، (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) فيكون المقصود من ذلك أن له الخيبة.
ثم قوله: (فحثا في وجهه التراب) ليس المقصود من ذلك أنه يحثوه على وجهه بحيث يدخل في عينيه، وإنما في جهته واتجاهه.(546/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن منصور].
منصور هو منصور بن المعتمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم].
هو إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو المراد إذا جاء ذكره مهملاً غير منسوب في كتب الحديث أو كتب الفقه، أي: سواء كان في الأسانيد أو في الفقه؛ لأنه هو المشهور في الفقه وفي الحديث.
[عن همام].
هو همام بن الحارث النخعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[فأخذ المقداد بن الأسود].
المقداد بن الأسود رضي الله عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(546/23)
شرح حديث: (إذا مدح أحدكم صاحبه لا محالة فليقل: إني أحسبه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو شهاب عن خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه: (أن رجلاً أثنى على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: قطعت عنق صاحبك ثلاث مرات، ثم قال: إذا مدح أحدكم صاحبه لا محالة فليقل: إني أحسبه كما يريد أن يقول، ولا أزكيه على الله)].
أورد أبو داود حديث أبي بكرة، وهو نفيع بن الحارث رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً مدح رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قطعت عنق صاحبك) يعني: أنك أهلكته؛ لأن قطع العنق يكون به الهلاك، فكذلك الإنسان إذا مدح مدحاً قد يلحق به ضرراً فإنه قد يصيبه الهلاك بذلك، أي: الهلاك المعنوي، فكما أن الهلاك الحسي يكون بقطع الرأس، فكذلك الهلاك المعنوي يكون بالمدح الذي يؤدي به إلى الغرور ونحوه.
قوله: [(إذا مدح أحدكم صاحبه لا محالة فليقل: إني أحسبه كما يريد أن يقول، ولا أزكيه على الله)].
يعني: إذا أراد الإنسان أن يمدح أخاه وكان لا بد من المدح فليقل: (أحسبة كما يريد أن يقول) يعني: يذكر الشيء الذي يريد أن يصفه به، أو يذكر الصفات التي هي فيه.
قوله: [(ولا أزكيه على الله)] يعني: هكذا يظهر لي، والناس لهم الظاهر وقد تكون البواطن بخلاف ذلك، فلا يزكي على الله أحداً؛ لأنه سواء كان بالنسبة لواقعه أثناء الكلام فيه، أو بالنسبة للنهاية والمآل، فكل ذلك لا يعلمه إلا الله عز وجل، وهو الذي يعلم أن المدح يكون في محله أو في غير محله، فهذا في النهايات و (الأعمال بالخواتيم) كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.(546/24)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا مدح أحدكم صاحبه لا محالة فليقل: إني أحسبه)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو شهاب].
هو عبد ربه بن نافع الحناط، هو صدوق يهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن خالد الحذاء].
هو خالد بن مهران الحذاء، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن أبي بكرة].
عبد الرحمن بن أبي بكرة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو نفيع بن الحارث وهو مشهور بكنيته أبي بكرة، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(546/25)
شرح حديث: (قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا بشر -يعني: ابن المفضل - حدثنا أبو مسلمة سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن مطرف قال: قال أبي: (انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال: السيد الله تبارك وتعالى، قلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً، فقال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن الشخير رضي الله تعالى عنه قال: (انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا) أي: كانوا يخاطبوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (أنت سيدنا، فقال: السيد الله) أي: السؤدد على الحقيقة إنما هو لله عز وجل؛ لأنه المتصف بذلك على الإطلاق، فهو الذي الخلق خلقه، والملك ملكه، وهو المتفضل بكل النعم، وهو الذي يتصرف في الخلق كيف يشاء، وهو صاحب السؤدد على الحقيقة، وغيره ممن حصل سؤدداً إنما هو سؤدد ناقص وغير كامل؛ ولهذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن نفسه بأنه سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، وهو سيدهم في الدنيا والآخرة صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ولكن السؤدد الذي يليق بالإنسان للرسول صلى الله عليه وسلم منه الحظ الأكبر والنصيب الأوفر، وأما السؤدد الكامل على الحقيقة فهو لله عز وجل؛ ولهذا قال: (السيد الله) أي: الله هو المتصف بهذا على الحقيقة، وهذا لا يعني ألا يقال لغيره عز وجل: سيد؛ لأن النبي نفسه قال: (أنا سيد ولد آدم)، فأخبر عن نفسه بأنه سيد، وقال عن سعد بن معاذ سيد الأوس: (قوموا إلى سيدكم)، وجاءت نصوص تدل على إطلاق ذلك على المخلوق، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لحمايته جناب التوحيد، ولحرصه على ألا يحصل غلو يؤدي إلى محذور أرشد عليه الصلاة والسلام وبين أن السيد هو الله، وأن السؤدد الحقيقي إنما هو لله سبحانه وتعالى.
قوله: [(قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً)].
يعنون: الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو أعظمهم فضلاً وطولاً، والمعنى: أنه أعظمهم عطاءً وجوداً وكرماً وإحساناً، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} [النساء:25] أي: غنى، وقولهم: (وأعظمنا طولاً) أي: عطاءً وإحساناً وجوداً وكرماً عليه الصلاة والسلام، وهذه صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ويدارسه القرآن، كما جاء في الحديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن أجود بالخير من الريح المرسلة) صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [(فقال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم)].
يعني: القول المناسب الذي ليس فيه محذور، وهذا ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)، ولهذا فإن من أحسن ما يوصف به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقال: عبد الله ورسوله، فهو عبد لا يُعبد، ورسول لا يكذب، بل يطاع ويتبع، وقد أرشد إلى هذا صلوات الله وسلامه وبركاته عليه لما نهى عن إطرائه فقال: (إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنه سيد الخلق، وهو سيد ولد آدم، والسؤدد الذي يليق بالمخلوق له الحظ الأوفر والنصيب الأكبر منه، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، لكن المقصود من ذلك هو تحذيره صلى الله عليه وسلم من أي شيء يفضي إلى الإطراء، ويفضي إلى الغلو فيه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه؛ ولهذا نجد أن الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم في روايتهم للأحاديث الكثيرة لا يأتي على ألسنتهم: قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، ومن المعلوم أن المحدثين يحافظون على لفظ الحديث حين يأتون به، ولا ينقصون منه شيئاً، بل إنهم يميزون بين عبارة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) وعبارة: (قال النبي صلى الله عليه وسلم)، فهنا عبر بالنبي وهناك عبر بالرسول، ومعناهما واحد، ولكن هذا كله محافظة منهم على الألفاظ، وعناية في الإتيان باللفظ الذي أتى به الراوي، فلو كانوا يأتون بكلمة سيدنا لما حذفت، ولأتي بها في هذه الكتب الكثيرة التي هي بالآلاف؛ ولهذا نجد في هذا الزمان من كون بعض الناس لا يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ويقول: سيدنا، ولا يذكر أحداً من الصحابة إلا ويقول: سيدنا، وهذا ليس من طريقة ولا من منهج السلف، فإننا نجد أن كتب الحديث ليس فيها ذلك، وهم أحرص الناس على الخير، وأعظم الناس تعظيماً للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يأتون بالرواية على هذه الصيغة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا) أو (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا) أو (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا) أو (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا) أو (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا) أو (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا) وهكذا، فالذي لا يلتزم قول: (سيدنا) عند ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقال: إن هذا حصل منه هضم لجنابه، أو نقص في حقه؛ لأن سلف هذه الأمة هذه طريقتهم، وهذا هو منهجهم، وهذه الأحاديث الموجودة -وهي ألوف المؤلفة- وليس فيها: (قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا) كما يفعله بعض الناس في هذا الزمان، فهذا غير مطلوب، وإنما يجب تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وتوقيره ومحبته، واعتقاد أنه سيد الخلق وأفضلهم، ولكن على الإنسان أن يكون متبعاً في ذلك، ويكون على منهج السلف، وعلى طريقة السلف من الصحابة ومن سار على منوالهم، ولا يقال: إن الذي لا يلتزم بكلمة (سيدنا) لا يعرف قدر الرسول صلى الله عليه وسلم.(546/26)
تراجم رجال إسناد حديث: (قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان)
سقوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا بشر يعني: ابن المفضل].
بشر بن المفضل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو مسلمة سعيد بن يزيد].
أبو مسلمة سعيد بن يزيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي نضرة].
هو المنذر بن مالك بن قطعة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن مطرف].
هو مطرف بن عبد الله بن الشخير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال أبي].
أبوه صحابي، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.(546/27)
شرح سنن أبي داود [547]
إن من أعظم الصفات التي ينبغي على المسلم أن يتصف بها: الرفق، فهو دليل على حسن الأخلاق وكرم الطباع، كما أنه داع من دواعي الألفة والمحبة، ووسيلة لنشر الخير وتبليغه إلى جميع الناس.
ومن الصفات العظمية التي يطلب من المسلم التحلي بها: شكر صانعي المعروف وفاعلي الخير، والثناء عليهم بما هم أهله.(547/1)
ما جاء في الرفق(547/2)
شرح حديث (إن الله رفيق يحب الرفق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرفق.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن يونس وحميد عن الحسن عن عبد الله بن مغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في الرفق].
والمراد بالرفق الرفق في الدعوة إلى الله عز وجل، وفي النصح، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكل هذا مطلوب فيه الرفق، وكذلك معاملة الناس تكون بالرفق.
وأورد أبو داود حديث عبد الله بن المغفل رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)، والعنف ضد الرفق.
قوله: (إن الله رفيق) يدل على أن من أسماء الله الرفيق، وهو يحب الرفق، مثل: (إن الله جميل يحب الجمال) ومثل (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، فهو رفيق يحب الرفق.
قوله: [(ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)].
يعني: أن الذي يرفق في الأمور فإنه يحصل الخير، ويحصل من النفع ما لا يحصل بالعنف والشدة والقسوة والغلظة، وقصة الأعرابي الذي جاء وبال في المسجد معروفة، فقام الصحابة ليزجروه وينهروه؛ لأن فعله هذا شيء عظيم، ولأن المسجد لا يبال فيه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يتركوه، فالرسول صلى الله عليه وسلم رفق به؛ لأنه لو قام حين زجروه لملأ ثيابه، وملأ جسده، ولتناثرت قطرات البول في المسجد، فيحتاج إلى أن تطهر كل البقعة التي مر عليها؛ لأن النجاسة وصلت إليها، ولكن مادام أنه قد بدأ بالبول فبقاؤه في مكانه يجعل مكان النجاسة محصوراً، وبعد ذلك يطهر هذا المكان الذي علم بأنه تنجس، فالرسول أمرهم بأن يتركوه، ثم إن الرجل تأثر من هذا الذي حصل من الزجر، وأعجبه هذا الذي حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرفق، ولهذا جاء أنه قال: اللهم! اغفر لي ولمحمد ولا تشرك في رحمتنا أحداً.(547/3)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الله رفيق يحب الرفق)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن يونس].
يونس هو يونس بن عبيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحميد عن الحسن].
الحسن هو الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن مغفل].
عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(547/4)
شرح حديث (إن الرفق لم يكن في شيء قط إلا زانه، ولا نزع من شيء قط إلا شانه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان وأبو بكر ابنا أبي شيبة ومحمد بن الصباح البزاز قالوا: حدثنا شريك عن المقدام بن شريح عن أبيه قال: (سألت عائشة عن البداوة فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدو إلى هذه التلاع، وإنه أراد البداوة مرة فأرسل إلي ناقة محرمة من إبل الصدقة، فقال لي يا عائشة: ارفقي فإن الرفق لم يكن في شيء قط إلا زانه، ولا نزع من شيء قط إلا شانه).
قال ابن الصباح في حديثه: محرمة يعني: لم تركب].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سئلت عن البداوة فقالت: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى بعض هذه التلاع) والتلاع: هي الأماكن التي يكون فيها الماء، وينزل من علو إلى سفل، فيقال: تلعة للماء إذا كان في الجبل ثم ينزل إلى مكان منخفض، فكان يذهب أحياناً، والرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى البادية، لكن الذي هو غير سائغ أن يترك الإنسان الحاضرة ويذهب للبادية، فيصير من أهل البوادي، ويصير من أهل الفلاة بدل ما كان من أهل الحاضرة، وأما الذهاب في بعض الأحيان للبادية فلا يجعل الإنسان بدوياً، كما أن البدوي لو جاء للمدينة ومكث يوماً أو يومين أو ثلاثة فلا يقال: إنه حضري، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يخرج أحياناً.
وقد كان أئمة اللغة يخرجون لأخذ الكلام العربي من الأعراب ومن البوادي، ويدونون ذلك في كتبهم، فلم يخرجوا بذلك عن كونهم من أهل الحضر إلى كونهم من أهل البادية، بل إن يعقوب عليه الصلاة والسلام لما ذكر الله عز وجل أنه جاء من البدو ليس معنى ذلك أنه كان في البادية، ولكنه ذهب إلى البادية؛ لأن الرسل كلهم من الحاضرة وليسوا من البادية، كما قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109]، فالرسل من أهل القرى وليسوا من البادية، وما جاء من قوله: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100] هو من جنس ما ذكرنا من أن الإنسان يخرج إلى البادية في بعض الأحيان، ولا يخرج إليها ليفارق الحاضرة ويكون بدوياً.
قوله: [(سألت عائشة عن البداوة فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدو إلى هذه التلاع)].
يعني: يخرج إلى هذه التلاع.
قوله: [(وإنه أراد البداوة مرة فأرسل إلي ناقة محرمة من إبل الصدقة)].
أي: أنه أراد أن يذهب إلى البادية مرة من المرات فأرسل إليها ناقة محرمة، يعني: غير ذلول، وغير مدربة على الهدوء والسير، وإنما يكون في ركوبها صعوبة؛ ولهذا يقال: يركب الصعب والذلول، فالصعب ضد الذلول، والذلول: المذللة، والصعب: التي يصعب قيادها.
قوله: [(يا عائشة ارفقي، فإن الرفق لم يكن في شيء قط إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه)] يعني: ارفقي بها، وهذا يدل على عظم شأن الرفق وأهميته، والترغيب فيه، والحث عليه، وأنه فيه الفوائد بخلاف العنف فإنه يأتي بعكس ما هو مطلوب.(547/5)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الرفق لم يكن في شيء قط إلا زانه، ولا نزع من شيء قط إلا شانه)
قوله: [حدثنا عثمان وأبو بكر ابنا أبي شيبة].
هذا الإسناد فيه تقديم عثمان على أبي بكر، وكما قلت من قبل فإن التقديم والتأخير لا يدل على الكبر، فإن عثمان أكبر، ومع ذلك قدم أبا بكر في بعض الأحيان، وقدم عثمان هنا في هذا الإسناد.
[ومحمد بن الصباح البزاز].
محمد بن الصباح البزاز ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شريك].
هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن المقدام بن شريح].
المقدام بن شريح ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو شريح بن هانئ، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[سألت عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها مر ذكرها.
قوله: [قال ابن الصباح في حديثه: محرمة يعني: لم تركب].
هذا: تفسير لكلمة محرمة، يعني: أنها ليست مذللة، وما ألفت الركوب عليها؛ ولهذا فإنها تكون فيها صعوبة، فهي إذا كانت لم تركب فإنها تحتاج إلى وقت لتكون على الحال المطلوبة من السهولة واليسر، وترك النفور الذي كانت متصفة به من قبل.(547/6)
حكم استخدام إبل الصدقة لمن لا تحل له الصدقة
وفي الحديث دلالة على أن إبل الصدقة يمكن استخدامها بالنسبة لـ عائشة، ومعلوم أن عائشة لا تحل لها الصدقة أو الزكاة، لكن جاء في هذا الحديث: (فأرسل إلي ناقة محرمة من إبل الصدقة).
وكان المقصود من ذلك أنها ستركب عليها وستذهب إليه، فهذا يدل على جوازه، والركوب غير التملك وغير البيع، وغير كونها تتصرف فيها كيف تشاء، إنما المقصود أعطاها إياها من أجل أنها تذلل، أي: من أجل تمرينها، وعائشة وإن كانت لا تستحقها إلا أن في ذلك إصلاح لتلك الناقة.
ومثل ذلك ما جاء في قصة الرجل الذي كان يسوق بذمته إلى الحج وقال: إنها هدي، فأمره النبي أن يركبها وهو يعلم أنها هدي، وهذا معناه أنه جاز استخدامها، وهنا أيضاً يمكن أن يكون المقصود أن تعودها وتذللها لتصير سهلة القياد، ويكون في ذلك مصلحة لمن يستحقها.(547/7)
شرح حديث (من يحرم الرفق يحرم الخير كله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن تميم بن سلمة عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله)].
أورد أبو داود حديث جرير رضي الله عنه، وهو يدل على عظم شأن الرفق حيث قال: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله) أي: أنه لا يحصل خير من وراء العنف، وإنما يحصل منه الضرر.(547/8)
تراجم رجال إسناد حديث (من يحرم الرفق يحرم الخير كله)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية].
أبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ووكيع عن الأعمش].
الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن تميم بن سلمة].
تميم بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عبد الرحمن بن هلال].
عبد الرحمن بن هلال ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن جرير].
هو جرير بن عبد الله رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(547/9)
شرح حديث (التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عفان حدثنا عبد الواحد حدثنا سليمان الأعمش عن مالك بن الحارث قال الأعمش: وقد سمعتهم يذكرون عن مصعب بن سعد عن أبيه، قال الأعمش: ولا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة)].
أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة) يعني: التؤدة مطلوبة في كل شيء إلا في عمل الآخرة فإنه يبادر فيها، ويحرص عليها، ولا يتهاون فيها، ولا تترك الفرصة لاقتناء ما يعود على الإنسان بالخير.
قوله: [(التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة)].
يعني: أن أمور الدنيا يتأنى الإنسان ويتروى فيها، وأما بالنسبة لأمور الآخرة فلا يتأنى فيها، بل يقدم ويسارع، وهذا يدلنا على أن أمور الآخرة لا بد فيها من منافسة ومسابقة، ولا بد فيها من الجد والاجتهاد، ولا بد فيها من اغتنام الفرص وعدم التساهل، بخلاف أمور الدنيا فالإنسان يتأنى، وقد يكون في التأني الخير الكثير، بخلاف العجلة فإنه قد يترتب عليها شيء من الضرر، فأمور الدنيا التأني والتروي فيها لا شك أنه خير للإنسان.(547/10)
تراجم رجال إسناد حديث (التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة)
قوله: [حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح].
الحسن بن محمد بن الصباح ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عفان].
هو عفان بن مسلم الصفار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الواحد].
هو عبد الواحد بن زياد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سليمان الأعمش عن مالك بن الحارث].
الأعمش مر ذكره، ومالك بن الحارث ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والنسائي.
[قال الأعمش: وقد سمعتهم يذكرون عن مصعب بن سعد].
مصعب بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وإسناد الحديث صحيح، وعنعنة الأعمش لا تؤثر.
وقول الأعمش: وقد سمعتهم يذكرون عن مصعب بن سعد معناه: أن مالك بن الحارث وأناساً مع مالك بن الحارث ذكروه عن مصعب، ولم يذكر الأعمش عمن روى مالك بن الحارث وأقرانه هذا الحديث، فالواسطة بين مالك ومصعب غير مذكورة، إلا أنه جاء في المستدرك عن مالك عن مصعب، وهنا يوجد آخرون مع مالك.(547/11)
ما جاء في شكر المعروف(547/12)
شرح حديث (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في شكر المعروف.
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)].
قوله: [باب في شكر المعروف].
أي: أن الإنسان يشكر المعروف الذي يسدي إليه، ومعلوم أن كل خير فهو من الله سبحانه وتعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:18]، فكل خير حصل للإنسان فالله تعالى هو المتفضل به، ومن الخير الذي يتفضل الله به على من يشاء من عباده أن يسوق إليه إنساناً يسخره له ويلين قلبه له بحيث يحسن إليه، وهذا الإحسان هو في الحقيقة من الله عز وجل؛ لأن الله تعالى هو الذي وفق من أراد أن يحسن إليه للإحسان إليه، فهو سبحانه وتعالى متفضل بكل شيء، ولكن كما أن العبد فاعل باختياره، وأنه يحمد على ما يحصل منه من الخير، وكذلك يذم على ما يحصل منه من الشر، فإنه إذا حصل منه الإحسان فإنه يحمد على إحسانه وعلى معروفه، ويشكر على ذلك، والشكر لله عز وجل أولاً وآخراً؛ لأنه هو المتفضل بكل شيء، فهو يتفضل بالخير بسبب أحد من الناس، أو بدون أن يكون هناك سبب من أحد من الناس، فالكل بفضل الله عز وجل، والكل بإحسانه وجوده وكرمه سبحانه وتعالى، فعلى الإنسان أن يشكر الله عز وجل على كل النعم الظاهرة والباطنة؛ لأنها كلها من الله تقديراً وتوفيقاً، ومن ساق الله تعالى الخير على يديه لإنسان فإنه يشكره ويثني عليه ويدعو له، سواء كان هذا المعروف يتعلق بأمر دنيوي أو بأمر ديني.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)، ومعنى ذلك: أن الإنسان إذا كان من عادته أنه لا يبالي بالإحسان الذي يقع له من بعض الناس ولا يشكره، فإن هذا يجره إلى ألا يشكر الله عز وجل، وأن يستهين بالنعم التي حصلت له، فلا يشكر الخالق ولا يشكر المخلوق، بل يغفل عن ذلك ويسهو عنه، ولكنه إذا شكر من جعله الله سبباً، وكان من عادته أن يعرف المعروف لأهله، وأن يشكر صاحب المعروف على معروفه، فإنه يكون شاكراً لله عز وجل؛ ولهذا قال: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) أي: أن الذي لا يشكر الناس على إحسانهم، بل يقصر في ذلك؛ فإنه أيضاً يقصر في حق الله سبحانه وتعالى، فعلى الإنسان أن يشكر النعم التي حصلت له بسبب المخلوق الذي جعله الله سبباً في وصولها إليه، ويشكر النعم التي تحصل من الله عز وجل بغير سبب، فيحمد الله ويشكره على كل حال.(547/13)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الربيع بن مسلم].
الربيع بن مسلم ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن محمد بن زياد].
محمد بن زياد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة الذين عرفوا بكثرة الحديث، بل هو أكثر السبعة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه، وهذا الإسناد من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود.(547/14)
كيفية شكر الناس والفرق بينه وبين الحمد
شكر الناس يكون بالقول ويكون بالفعل ويكون بهما معاً، فيمكن أن يحسن الإنسان إلى من أحسن إليه، ويكافئ من أحسن إليه، ويدعو له، فيجمع له بين هذا وهذا.
ويمكن أن يحمد الإنسان من يسدي إليه خيراً، والحمد أعم من الشكر.(547/15)
شرح حديث أنس في الدعاء لصاحب المعروف والثناء عليه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن أنس: (أن المهاجرين قالوا: يا رسول الله! ذهبت الأنصار بالأجر كله، قال: لا، ما دعوتم الله لهم، وأثنيتم عليهم)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن المهاجرين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ذهبت الأنصار بالأجر كله، قال: لا، ما دعوتم لهم وأثنيتم عليهم) أي: أنكم بدعائكم لهم وثنائكم عليهم تحصلون الأجر؛ لأنكم عرفتم الفضل لأهل الفضل.
ومن المعلوم أن المهاجرين أفضل من الأنصار؛ لأن المهاجرين معهم الهجرة والنصرة، والأنصار معهم النصرة دون الهجرة، والله جمع للمهاجرين بينهما بقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] فوصفهم بأنهم مهاجرون ووصفهم بأنهم أنصار، وهم إنما تركوا بلادهم لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والجهاد معه، والدفاع والذب عنه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، لكن الأنصار كانوا أهل البلد وعندهم الأموال، فكانوا ينفقون، وأولئك تركوا أموالهم وبلادهم، ولا شك أن من أنفق من ماله فهو مأجور وهذا خير له.(547/16)
تراجم رجال إسناد حديث أنس في الدعاء لصاحب المعروف والثناء عليه
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة بن دينار، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا الإسناد أيضاً من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود.
وقولهم: (ذهبت الأنصار بالأجر كله) أي: بالبذل والعطاء والإنفاق، وليس معناه أن المهاجرين ليسوا أفضل منهم.(547/17)
شرح حديث (من أعطي عطاء فوجد فليجز به، فإن لم يجد فليثن به)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا بشر حدثنا عمارة بن غزية قال: حدثني رجل من قومي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعطي عطاء فوجد فليجز به، فإن لم يجد فليثن به، فمن أثنى به فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره).
قال أبو داود: رواه يحيى بن أيوب عن عمارة بن غزية عن شرحبيل عن جابر.
قال أبو داود: وهو شرحبيل، يعني: رجلاً من قومي، كأنهم كرهوه فلم يسموه].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(من أعطي عطاء فوجد فليجز به)].
يعني: وجد مالاً، أو وجد قدرة على أن يكافئ ويجزي به، فإنه يجزي به، بمعنى: أن من صنع إليه معروفاً فيكافئه الإنسان مقابل ما حصل منه من الإحسان، فيقابل الإحسان بالإحسان، فإذا كان واجداً، ذا قدرة مالية؛ فإنه يكافئه ويجزي به ذلك الذي أحسن إليه وأعطاه.
قوله: [(فإن لم يجد فليثن به)].
يعني: يثني على ذلك الذي أحسن إليه بعطائه ويشكره، وهذا هو المقصود من الترجمة، أن الإنسان يشكر، ومعلوم أن الثناء والدعاء يمكن أن يكون مع المكفاءة والعطاء، فالإنسان حتى إذا قدر على المبادلة والإحسان فإنه أيضاً يدعو مع ذلك ويشكر عليه ويثني عليه بذلك، لكن إذا لم يكن عند الإنسان شيء يقابل به، فلا أقل من الثناء والدعاء لمن حصل منه الإحسان إليه.
قوله: [(فمن أثنى به فقد شكره)].
أي: من أثنى على من أحسن إليه بهذه النعمة, فقد شكره.
قوله: [(ومن كتمه فقد كفره)].
أي: كفر هذه النعمة، ومعلوم أن كون الإنسان يشكو من أعطاه، هذا أمر واضح وليس فيه إشكال، وأما أن يخبر الناس أنه حصل له كذا وكذا، وأنه أعطي من فلان، فهذا إذا كان فيه مصلحة فيمكن له ذلك، وإن لم يكن هناك مصلحة، أو كان ذلك الذي أعطاه لا يريد منه أن يذكر ذلك لأحد، أو أن يعلن ذلك، فإنه يخفيه، ولكنه يشكر ويثني على ذلك الذي أحسن إليه.(547/18)
تراجم رجال إسناد حديث (من أعطي عطاء فوجد فليجز به، فإن لم يجد فليثن به)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا بشر].
هو بشر بن المفضل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عمارة بن غزية].
عمارة بن غزية لا بأس به، وهي بمعنى: صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني رجل من قومي].
هذا الرجل من قومه لم يذكر، ولكنه ذكر في الإسناد الثاني، وهو شرحبيل بن سعد، وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود وابن ماجة.
[عن جابر بن عبد الله].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، وهو صحابي بن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود: رواه يحيى بن أيوب].
يحيى بن أيوب صدوق ربما أخطأ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمارة بن غزية عن شرحبيل عن جابر].
الثلاثة مر ذكرهم.
[قال أبو داود: وهو شرحبيل يعني: رجلاً من قومي].
يعني: أن ابن غزية قال في الإسناد الأول: رجل من قومي، وفي هذا الإسناد قال: عن شرحبيل، وهذا هو ذاك.
قوله: [كأنهم كرهوه فلم يسموه].
يعني: فيه كلام فلم يسموه في الإسناد الأول.(547/19)
شرح حديث (من أبلي بلاء فذكره فقد شكره ومن كتمه فقد كفره)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن الجراح حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أبلى بلاء فذكره فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره)].
هذا مثل الذي قبله في الجملة من ناحية الذكر والشكر، وعدم الذكر والشكر.
قوله: [(من أبلي بلاء)].
أي: من أحسن إليه بإحسان، فذكر ذلك الإحسان وأثنى على صاحبه أو مدح صاحبه، أو حمده فقد شكره.
قوله: [(وإن كتمه فقد كفره)].
أي: كفر ذلك الإحسان، أو كفر هذه النعمة، وهو مثل الذي تقدم: (من وجد فليجز به، وإن لم يجد فليثن به، فمن أثنى به فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره)، فهذا مثل الجملة الأخيرة من الحديث السابق.
وكون الإنسان يذكر النعمة ويذكر صاحبها في نفسه أو فيمن له علاقة به، فهذا يكفي، أما إعلان ذلك في الناس وقوله: فلان أعطاني كذا وأعطاني كذا، فهذا لا يلزم؛ لأنه في هذه الحال قد يتسبب لذلك الشخص بالإحراج، بأن يؤتى إليه ويقال: أعطيت فلاناً فأعطنا.(547/20)
تراجم رجال إسناد حديث (من أبلي بلاء فذكره فقد شكره ومن كتمه فقد كفره)
قوله: [حدثنا عبد الله بن الجراح].
عبد الله بن الجراح صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود والنسائي في مسند مالك وابن ماجة.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سفيان].
هو طلحة بن نافع، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر رضي الله عنه مر ذكره.(547/21)
صيغ الشكر، وحق النبي والصحابة من الشكر على أهل الإسلام
الشكر القولي ليس له صيغة معينة، فيجوز بأي لفظ كان، كأن يقول: شكر الله لك، جزاك الله خيراً، لقد أحسنت، أحسن الله إليك، فكل هذا من الصيغ التي فيها شكر.
ومن المعلوم أن أعظم المنن علينا هي وصول هذا الدين غضاً طرياً بفضل الله، ثم بجهود السلف الصالح رحمهم الله، لاسيما الصحابة رضي الله عنهم الذين بلغوا دين الله تعالى.
وقد سبق أن ذكرنا أن الإحسان قد يكون دينياً وقد يكون دنيوياً، والدنيوي: كالإحسان بالمال، والديني: كالإحسان بالعلم، والدعوة إلى الخير، والتبصير بالهدى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا أجل الإحسان وأعظمه؛ لأن الإحسان في أمور الدنيا إنما هو زاد للحياة الدنيا، وأما الإحسان في الدين، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، والتبصير بالحق والهدى، فهذا فيه مساعدة وإعانة على الزاد الذي يتزود به في الآخرة، ومعلوم أن الحياة الدنيا لا بد لها من نهاية، والإنسان سيأخذ رزقه الذي كتبه الله له، سواء ساقه الله إليه بواسطة أو بغير واسطة، وأما بالنسبة للدين والتفقه في الدين ومعرفة الحق والهدى، والخروج من الظلمات إلى النور، فهذه أعظم النعم وأجلها؛ ولهذا كان حق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم -الذي ساق الله للمسلمين على يديه هذه النعمة- أعظم حق، ويجب أن تكون محبته فوق محبة كل محبوب من البشر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي دل الناس على الحق والهدى، وأخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور.
فالنعمة التي ساقها الله على يديه لا تماثلها نعمة، ولا تدانيها نعمة، بل إن الوالدين اللذين أحسنا إلى الإنسان، وكانا سبب وجوده، وقاما بتنشئته وبتربيته حتى بلغ مبلغ الرجال، حقهما دون حقه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)؛ لأن النعمة التي ساقها الله للناس على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم النعم، وأجل النعم، ولا تماثلها، ولا تساويها نعمة.
وبعد الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم الناس فضلاً وإحساناً إلى الناس أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، الذين هم الواسطة بين الناس وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، الذين تلقوا الكتاب والسنة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وبلغوهما إلى الناس، فكل خير حصل للناس إنما جاء عن طريق الصحابة، والناس ما عرفوا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عن طريق الصحابة، فهم الذين جمعوا القرآن، وهم الذين حفظوا السنة، وهم الذين نقلوا الكتاب والسنة وأدوهما إلى الناس، فكل من حفظ سنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وأداها إلى الناس فإن الله تعالى يثيبه مثلما يثيب من استفاد من هذه السنة.
وقبل ذلك فإن كل من حصل منه إحسان، أو معروف، أو تقوى وإيمان، فإن للنبي صلى الله عليه وسلم مثل أجور كل أمته من أولها إلى آخرها؛ لأنه هو الذي دلهم على الحق والهدى، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن دل على خير فله مثل أجر فاعله) وقال عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً) وعلى العكس من ذلك: (ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل إثم من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)، وعلى هذا فإن المحبة تكون للرسول صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي بينه عليه الصلاة والسلام، وهي المحبة التي تفوق محبة الوالدين، ومحبة الناس أجمعين.
وأما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يدعا لهم، ويشكرون ويذكرون بالجميل اللائق بهم، ولا يذكرون بسوء، وإنما يذكرون بالخير؛ لأن كل خير وصلنا فإنما هو عن طريق الصحابة، ومن قطع صلته بالصحابة فإن صلته بالرسول صلى الله عليه وسلم مبتوتة؛ لأنه لا يوصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة إلا عن طريق الصحابة؛ ولهذا كانوا أفضل هذه الأمة، وخير هذه الأمة، وكان أي واحد منهم أفضل من أي واحد يجيء بعدهم، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضلهم بقوله: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) فقرن الرسول صلى الله عليه وسلم الذين رأوه هم خير الناس، ثم قرن التابعين، ويليهم قرن أتباع التابعين.
والحاصل: أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد ساق الله هذا الخير الذي بعث نبيه صلى الله عليه وسلم به عن طريقهم، فإنهم يحبون ويدعا لهم، ويذكرون بالجميل اللائق بهم، وتنزه الألسنة والقلوب عن أن يكون فيها شيء مما لا ينبغي، بل تكون القلوب والألسنة سليمة في حقهم، فلا يكون في القلوب إلا المحبة والذكر الجميل اللائق بهم رضي الله عنهم وأرضاهم، والكف عما شجر بينهم، وألا يذكر منهم أحد إلا بأحسن الذكر؛ لأنهم هم الذين جعلهم الله واسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكرهم يكون بالدعاء لهم والثناء عليهم وذكرهم بالجميل اللائق بهم.(547/22)
شرح سنن أبي داود [548]
هناك جملة من الآداب حث عليها الإسلام ورغب فيها، ومنها: شكر الإنسان للمعروف المسدى إليه من غيره، وعدم الجلوس في الطرقات إلا لمن أدى حقها، وهناك آداب متعلقة بالمجالس والمجالسة ينبغي التأدب بها ومعرفتها كما وردت في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(548/1)
الجلوس في الطرقات(548/2)
شرح حديث أبي سعيد الخدري في حق الطريق على من جلس فيه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الجلوس في الطرقات.
حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن زيد يعني ابن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والجلوس بالطرقات، قالوا: يا رسول الله! ما بد لنا من مجالسنا نتحدث فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)].
قوله: [باب في الجلوس في الطرقات].
أي: أن ذلك لا يسوغ إلا بشرطه، وهو ما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يكن هناك بد من الجلوس في الطريق فعلى من يجلس أن يعطي الطريق حقه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حق الطريق لما سأله الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم عن ذلك، فينبغي البعد عن الجلوس في الطرقات، وإذا كان دعا الأمر إلى ذلك، ولم يكن هناك بد، فلا بد من إعطاء الطريق حقه، وهو الذي بينه النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد هذا.
قوله: [(غض البصر، وكف الأذى)].
أي: فلا ينظر إلى ما لا يجوز له النظر إليه، كالنظر إلى النساء، وكذلك كف الأذى عن الناس فلا يؤذيهم بقول ولا فعل.
قوله: [(ورد السلام)].
أي: عندما يسلم أحد يرد عليه؛ لأنهم جالسون، فالذي يأتي ماشياً ويبدأ بالسلام فيرد عليه الجالس؛ ولهذا قال: (ورد السلام) ولم يقل: ابتداء السلام؛ لأن الجالس هو الذي يسلَّم عليه، ولا يسلم هو على الناس، فإذا جاء أحد يمشي فلا يقول الجالس: السلام عليكم، وإنما الذي يمشي يقول: السلام عليكم، والجالس يرد السلام؛ ولهذا قال: (ورد السلام).
قوله: [(والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)].
فإذا حصل أمر يقتضي أن يوجه إلى خير، وأن يبصر بحق، فإنه يأمر بالمعروف، وكذلك إذا رئي أمر منكر، فإنه ينبه الذي حصل منه المنكر على ذلك، ويحذر من ذلك، ويخوف منه، فيكون هذا الجلوس فيه جلب مصلحة، ودفع مضرة، فغض البصر وكف الأذى فيه دفع للمضرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورد السلام من المنفعة والمصلحة التي أمر بها.
فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والجلوس في الطرقات) فدل هذا على أن الأصل هو ألا يجلس في الطرقات، ولكن إذا كان هناك حاجة إلى الجلوس كما في قولهم: (ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها) فعليهم أن يعطوا الطريق حقه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (فأعطوا الطريق حقه) ليلفت أنظارهم إلى أن يعرفوا حق الطريق، فهو لم يقل: افعلوا كذا وكذا، وإنما قال: (فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق؟)؛ لأنهم حينما سألوا عنه فإن هذا يكون أدعى إلى ثبوته وفهمه؛ لأن الشيء الذي يحصل له أمر يقتضيه، ويحصل له سبب كأن يكون مجملاً ثم يستفسر عن تفصيله، فإن ذلك التفصيل عندما يذكر للسائل ينتبه له، ويتهيأ له، ويكون على استعداد وتشوق لاستيعابه، وعدم فوات شيء منه.
فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)، وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام.(548/3)
تراجم رجال إسناد حديث أبي سعيد الخدري في حق الطريق على من جلس فيه
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد].
هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد يعني ابن أسلم].
زيد بن أسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن يسار].
عطاء بن يسار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد الخدري].
هو سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه، وهو مشهور بكنيته أبي سعيد، وبنسبته الخدري، وهو صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(548/4)
شرح حديث أبي هريرة في حق الطريق على من جلس فيه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا بشر يعني ابن المفضل حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة قال: (وإرشاد السبيل)].
أورد المصنف حديث أبي هريرة وهو مثل الذي قبله، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلوس في الطرقات، وأنهم قالوا: ما لنا بد من مجالسنا فقال لهم: (إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه)، ومما جاء عند أبي هريرة: (وإرشاد السبيل) أي: إذا احتاج أحد إلى معرفة الطريق فإنه يرشده، ويبصره بالطريق الذي يحتاج إلى سلوكه وإلى معرفته، فإذا كانوا جالسين وجاء أحد يريد أن يسلك طريقاً يوصله إلى بغيته، والطرق متعددة، ولا يدري الطريق الذي يوصله إلى بغيته، فإنه إذا سئل الجالس فعليه أن يرشده إلى الطريق، ويبين له السبيل، وهذا من حق الطريق.(548/5)
تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة في حق الطريق على من جلس فيه
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا بشر يعني ابن المفضل عن عبد الرحمن بن إسحاق].
عبد الرحمن بن إسحاق صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سعيد المقبري].
هو سعيد بن أبي سعيد المقبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة رضي الله عنه مر ذكره.(548/6)
شرح حديث عمر بن الخطاب في حق الطريق على من جلس فيه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن عيسى النيسابوري أخبرنا ابن المبارك أخبرنا جرير بن حازم عن إسحاق بن سويد عن ابن حجير العدوي قال: سمعت عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة قال: (وتغيثوا الملهوف وتهدوا الضال)].
أورد أبو داود حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو يتعلق بالقصة التي مرت عن أبي سعيد ثم عن أبي هريرة، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وتغيثوا الملهوف) أي: من حق الطريق أنه إذا كان هناك من يحتاج إلى إعانة ومساعدة فإنه يعينه ويساعده.
قوله: (وتهدوا الضال) أي: من ضل الطريق، وهو نظير الذي قبله في قوله: (وإرشاد السبيل) فإذا جاء الإنسان ليسأل عن طريق يوصله إلى مقصوده فيخبره، وأما الضال فهو الذي يكون الطريق الذي يريده وراءه، فيرشده إلى أنه قد تجاوزه، وهذا من إهداء السبيل، ولكنه على مفترق طرق ولا يدري أين يذهب فيخبرونه ويبصرونه، فقوله: (وإرشاد السبيل) وقوله: (وتهدوا الضال) معناهما متقارب.
فقوله: [(وتغيثوا الملهوف)].
الملهوف هو الذي وقعت له مصيبة، أو أراد التخلص من ظلم حصل له، أو اعتدى عليه أحد، فطلب منهم أن ويغيثوه.
وقوله: [(وتهدوا الضال)].
الضال: هو الذي ضل الطريق، ومعلوم أن الضلال يكون في الطريق، ويكون في الانحراف عن طريق الحق، فيكون عن الطريق الحسي، وعن الطريق المعنوي، كل هذا يقال له: ضلال، فمن ضل عن الحق والهدى يقال له: ضال، ومن ضل الطريق يقال له: ضال.
وهداية الضال هنا من جنس: (إرشاد السبيل).(548/7)
تراجم رجال إسناد حديث عمر بن الخطاب في حق الطريق على من جلس فيه
قوله: [حدثنا الحسن بن عيسى النيسابوري].
الحسن بن عيسى النيسابوري ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[أخبرنا ابن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك المروزي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا جرير بن حازم].
جرير بن حازم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسحاق بن سويد].
إسحاق بن سويد صدوق، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن ابن حجير العدوي].
ابن حجير العدوي مستور، أخرج له أبو داود.
[سمعت عمر بن الخطاب].
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الصحابي الجليل، أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(548/8)
حقوق الطريق واجبة
قوله صلى الله عليه وسلم: (وتغيثوا الملهوف) داخل تحت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي مر في حديث أبي سعيد، فإغاثة الملهوف إذا اعتدي عليه من إنكار المنكر.
وهذه الحقوق على الوجوب؛ لأنهم منعوا من الجلوس، ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه) فقد: رخص لهم في الجلوس عند الإتيان بهذه الأمور، وبدونها لا ترخيص لهم.
وإذا كان السائل عن الطريق الذي قد ضله من أهل البدع، وكان المكان الذي يقصده يقوده إلى بدعة فلا يبين له، وأما إذا كان يسأل عن بيت أو عن عمارة أو نحو ذلك، فلا بأس أن يبين له، أما إرشاده إلى مكان فيه بدعة ومعصية فهذا من التعاون على الإثم والعدوان.(548/9)
شرح حديث أنس في وقوف النبي في ناحية السكة لقضاء حاجة امرأة من المسلمين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع وكثير بن عبيد قالا: حدثنا مروان قال ابن عيسى قال: حدثنا حميد عن أنس قال: (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن لي إليك حاجة، فقال لها: يا أم فلان! اجلسي في أي نواحي السكك شئت حتى أجلس إليك، قال: فجلست فجلس النبي صلى الله عليه وسلم إليها حتى قضت حاجتها).
لم يذكر ابن عيسى: (حتى قضت حاجتها) وقال كثير: عن حميد عن أنس].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! لي إليك حاجة، فقال لها عليه الصلاة والسلام: اجلسي في أي السكك شئت حتى أقضي حاجتك، فجلست، فجاء إليها وقضى حاجتها) صلى الله عليه وسلم، وهذا دال على كمال أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وعلى تواضعه، وعلى إحسانه عليه الصلاة والسلام، فقد طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم قضاء حاجتها، فقال: (اجلسي في أي الطرق) ثم جاء وجلس معها، وقد أورده المصنف في هذه الترجمة التي تتعلق بالطريق، لبيان أن الجلوس في الطريق سائغ، ولكن مع كونه سائغاً يعطى حقه، والرسول صلى الله عليه وسلم جلس وإياها في إحدى السكك، أي: في إحدى الطرق، وهي تقص عليه حاجتها، وتبين له ما تريد منه، فقضى حاجتها صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن مثل ذلك لا يعتبر خلوة، فعندما يكون الطريق سالكاً ثم ينحاز رجل وامرأة، فتكلمه ويكلمها فلا بأس بذلك، ومعلوم أن هذا لا يكون إلا إذا لم يكن هناك ريبة، كما أن الأمر ليس على إطلاقه في أن يقف أي رجل مع أي امرأة، ولكن إذا كان الرجل معروفاً بالأمانة والصلاح، واحتاجت المرأة أن تسأله عن حاجة، ثم وقف معها لا ينظر إليها، ولكن يسمع كلامها ويجيبها فيما تريد فإن ذلك سائغ؛ لهذا الحديث الذي جاء عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(548/10)
تراجم رجال إسناد حديث أنس في وقوف النبي في ناحية السكة لقضاء حاجة امرأة من المسلمين
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع].
محمد بن عيسى بن الطباع ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[وكثير بن عبيد].
كثير بن عبيد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا مروان].
هو مروان بن معاوية الفزاري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقالوا عنه: إنه يدلس تدليس الشيوخ، وتدليس الشيوخ من أنواع التدليس، وهو أن يذكر الشيخ بما لا يعرف به، وهو يختلف عن تدليس الإسناد والذي هو: أن يروي المدلس عن شيخه ما لم يسمع منه بلفظ موهم للسماع، وهو التدليس المشهور والذي يغلب عند الكلام في التدليس وذكر المدلسين، أما تدليس الشيوخ فيكون بذكر الشيخ بغير ما اشتهر به، فيكون في ذلك صعوبة في معرفته، والشخص المعروف يكون غير معروف بسبب هذا التدليس.
[قال ابن عيسى: قال حدثنا حميد].
يعني أن ابن عيسى يقول: إن مروان قال: حدثنا حميد، يعني: أن بين مروان وبين حميد صيغة حدثنا من محمد بن عيسى، وأما كثير بن عبيد ففي إسناده: عن حميد.
[حدثنا حميد].
هو حميد بن أبي حميد الطويل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس رضي الله عنه وقد مر ذكره، وهذا من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود.
وقوله: [لم يذكر ابن عيسى: حتى قضت حاجتها، وقال كثير: عن حميد عن أنس].
معناه: أن المتن عند كثير بن عبيد أتم وأكمل؛ لأنه قال: (حتى قضت حاجتها)، وأما محمد بن عيسى فإنه لم يذكر هذه الزيادة؛ لأنه ساق السند على ابن عيسى والمتن على كثير بن عبيد.(548/11)
حكم خلوة الرجل بالمرأة لتعليمها وتدريسها
قد يستدل البعض بهذا الحديث على جواز تدريس الرجل للنساء من غير ستار بينه وبينهن كما يقع في بعض البلاد، ومثل هذا القول مردود، فالحديث لا يدل على ذلك؛ لأن هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم حصل لأمر اقتضى ذلك، وكان في طريق سالك، والأمر قد يدعو إلى ذلك في حق من يحتاج إليه من ولي أمر أو مفت أو نحوهم، وأما كونه يجلس مع النساء وينظر إليهن وينظرن إليه، فهذا لا يسوغ.
وكذلك قد يحصل من بعض النساء أن تستوقف العالم أو طالب العلم لتسأله، فإذا لم يكن في ذلك ريبة ولا محذور بحيث لا ينظر إليها، ولا يلقيها وجهه، وإنما يلقيها جانبه، ويسمع منها ثم يجيبها على سؤالها ثم يمضي دون أن يكون مستقبلاً لها ينظر إليها، فلا بأس بذلك.(548/12)
خطأ القول باختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالخلوة بالمرأة الأجنبية
واستدل بعضهم بهذا الحديث على أن من خصوصياته صلى الله عليه وسلم جواز الخلوة بالمرأة الأجنبية، إلا أن الحديث ليس فيه ما يدل على حصول الخلوة؛ لأن هذا الأمر كان في السكة حيث قال لها: (انظري أي السكك شئت) والسكك: هي الطرق، فلا خلوة في ذلك.
والنبي عليه الصلاة والسلام أبوته للعالمين مثل أمومة زوجاته للمؤمنين، وهذه الأبوة والأمومة دينية، ولا علاقة لها بالمحرمية ولا تجري أحكام المحارم عليها.(548/13)
شرح حديث أنس في وقوف النبي في ناحية السكة من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس (أن امرأة كان في عقلها شيء) بمعناه].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى وفي أوله: (أن امرأة كان في عقلها شيء) وهو بمعنى الحديث المتقدم، وفيه زيادة ذكر وصف هذه المرأة بأنه كان في عقلها شيء من الخلل والقصور، وقيل: إنما ذكر ذلك لكونها طلبت منه أن يجلس معها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم راعى شأنها وحقق لها ما تريد من أجل ضعفها.(548/14)
تراجم رجال إسناد الطريق الأخرى لحديث أنس في وقوف النبي في ناحية السكة
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا يزيد بن هارون].
هو يزيد بن هارون الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت].
حماد بن سلمة مر ذكره، وثابت مر ذكره.
[عن أنس].
أنس رضي الله عنه مر ذكره.(548/15)
ما جاء في سعة المجلس(548/16)
شرح حديث (خير المجالس أوسعها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في سعة المجلس.
حدثنا القعنبي حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموالي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خير المجالس أوسعها).
قال أبو داود: هو عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرة الأنصاري].
قوله: [باب في سعة المجلس].
أي: المجلس الذي يتخذ لجلوس الناس، وهذا يكون بحسبه، فعندما يتطلب الأمر كثرة الداخلين والخارجين والمجتمعين، فإنه يوسع حتى يكون كافياً، حتى لا يتفرق الناس في أماكن متعددة، وعندما لا يتطلب الأمر ذلك فإنه لا يلزم ولا يعتبر خير المجالس بالنسبة لكل أحد؛ لأن من الناس من يكون عنده مجال في أرضه ليتخذ مجلساً كبيراً ويقصده أناس كثيرون، ومن الناس من تكون أرضه قليلة ومحدودة، والذين يأتون إليه أناس قليلون.
إذاً: كل على حاله وعلى مقدار حاجته؛ لأن من لا يأتي إليه الناس بكثرة فإن سعة المجلس ليس من ورائها فائدة، وإنما الفائدة في حق من يكثر رواده، ويكثر المجتمعون عنده والقاصدون إليه؛ ولهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن: (خير المجالس أوسعها)؛ لأنها تكفي الناس عند اجتماعهم، ويكون بعضهم مع بعض.(548/17)
تراجم رجال إسناد حديث (خير المجالس أوسعها)
قوله: [حدثنا القعنبي حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموالي].
عبد الرحمن بن أبي الموالي صدوق ربما أخطأ، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري].
عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن أبي حاتم: ليست له صحبة، وهو ثقة، وقيل: له صحبة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري رضي الله عنه مر ذكره.
[قال أبو داود: هو عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرة الأنصاري].
هذا نسب عبد الرحمن بن أبي عمرة.(548/18)
ما جاء في الجلوس بين الظل والشمس(548/19)
شرح حديث أبي هريرة في النهي عن الجلوس بين الظل والشمس
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الجلوس بين الظل والشمس.
حدثنا ابن السرح ومخلد بن خالد قالا: حدثنا سفيان عن محمد بن المنكدر قال: حدثني من سمع أبا هريرة يقول: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم في الشمس -وقال مخلد في الفيء - فقلص عنه الظل وصار بعضه في الشمس وبعضه في الظل فليقم)].
قوله: [باب في الجلوس بين الظل والشمس].
أي: أنه لا ينبغي ولا يصلح أن يجلس الإنسان في ذلك المجلس لا ابتداءً ولا إذا كان عارضاً، وابتداء أي: لا يأتي ويتعمد أن يجلس بين الشمس والظل، وإنما يكون كله في الشمس أو كله في الظل، وذلك أن الجسد عندما يكون على هيئة واحدة إما حرارة أو برودة، فإنه يكون متوازناً، وأما إذا كان بعضه في الظل وبعضه في الشمس فإنه يتأثر بعضه فيحصل له برودة، وبعضه يحصل له حرارة، وهذا مضر، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى عدم فعل ذلك، وقد جاء أن الجلوس بين الشمس والظل هي جلسة الشيطان، هذا بالإضافة إلى ما يترتب على ذلك من المضرة للجسد لكون بعضه في الشمس وبعضه في الظل.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وهو يتعلق بإحدى الحالتين، فإذا كان الإنسان جالساً في الشمس، أو جالساً في الفيء أو الظل، ثم تقلص الظل بحيث صار بعضه في الشمس وبعضه في الظل، فإنه في هذه الحال يقوم وينتقل إما إلى الشمس أو إلى الظل، بحيث يكون كله في الشمس، أو يكون كله في الظل، ولا يستمر على الهيئة التي هو عليها؛ لأنها جلسة الشيطان؛ ولأن فيها هذا التفاوت الذي يكون للجسد مما قد يلحق به مضرة.
وقد جاء ما يشبه ذلك من حيث إنه لا بد من فعل أحد الأمرين، وألا يكون الإنسان بينهما، فقد جاء النهي عن أن يمشي الإنسان بالنعل الواحدة، وأن الإنسان إذا انقطع شسعه فإنه لا يمشي بالنعل الثانية حتى يصلحه، بل يخلع النعل الأخرى، وذلك حتى لا يختلف التوازن، فتكون رجل لها وقاية ورجل ليس لها وقاية.
ويشبه ذلك أيضاً ما يتعلق بالقزع الذي هو حلق بعض الرأس وترك بعضه، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحلقه كله أو تركه كله، فهذان مثالان يشبهان ما جاء في الحديث الذي معنا، وهو الجلوس بين الظل والشمس، وأن الإنسان ينبغي أن يكون كله في الظل أو كله في الشمس، وكذلك إما أن ينعل رجليه جميعاً، أو يحفيهما جميعاً، وكذلك لا يحلق بعض شعر رأسه ويبقي بعضه، وإنما يحلقه كله أو يتركه كله.
وجاء في رواية ابن السرح: (إذا كان أحدكم في الشمس) وفي رواية مخلد: (إذا كان أحدكم في الفيء فقلص عنه الظل).
والفيء هو الظل، فإذا كان جالساً كله في الشمس، ثم جاءه الظل فصار بعضه في الظل وبعضه في الشمس، أو كان في الفيء، ثم جاءت الشمس فصار بعضه في الظل وبعضه في الشمس.
والنهي عن الجلوس بين الظل والشمس على التحريم؛ لإخباره صلى الله عليه وسلم أنها قعدة الشيطان، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى القيام.(548/20)
تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة في النهي عن الجلوس بين الظل والشمس
قوله: [حدثنا ابن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[ومخلد بن خالد].
هو مخلد بن خالد الشعيري، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن المنكدر].
محمد بن المنكدر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني من سمع أبا هريرة].
وهذا فيه ذكر واسطة، ولكنه قد جاء في مسند الإمام أحمد أنه من طريق عبد الوارث بن سعيد العنبري عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة، ومحمد بن المنكدر ممن روى عن أبي هريرة وسمع منه فيكون متصلاً.
وأبو هريرة مر ذكره.(548/21)
شرح حديث أبي حازم في التحول من الشمس إلى الظل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن إسماعيل قال: حدثني قيس عن أبيه: (أنه جاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقام في الشمس، فأمر به فحول إلى الظل)].
أورد أبو داود حديث أبي حازم والد قيس بن أبي حازم رضي الله تعالى عنه: (أنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس في الشمس، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحويله إلى الظل) وهذا ليس فيه جلوس بين الظل والشمس؛ لأنه قال: في الشمس، وأنه أمر بتحويله إلى الظل، ولعل ذلك بسبب أن الشمس فيها حرارة وفيها مضرة عليه، فأمر أن يتحول إلى الظل، فليس هناك ارتباط واضح بين الترجمة وما جاء في هذه الحديث؛ لأنه ليس فيه أنه جلس بين الظل والشمس، وإنما جلس في الشمس، ويمكن أنه جلس في الشمس، ثم إن الظل في طريقه إليه، وقد يترتب على ذلك أن يكون بين الشمس والظل، فأمر أن يتحول إلى الظل الذي يؤمن معه أن يصبح مجلسه بين الظل والشمس، فهذا محتمل، وإلا فإن اللفظ واضح في أنه كان في الشمس، والرسول صلى الله عليه وسلم أمر بتحويله إلى الظل، وقد يكون الجو حاراً وأراد أن يحصل له ما حصل لغيره من الجلوس في الظل الذي فيه الراحة وعدم المضرة بحرارة الشمس والأرض.(548/22)
تراجم رجال إسناد حديث أبي حازم في التحول من الشمس إلى الظل
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى].
يحيى هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسماعيل].
هو ابن أبي خالد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني قيس عن أبيه].
هو قيس بن أبي حازم، وهو ثقة مخضرم، وهو الذي قيل فيه: إنه تيسر له أن يروي عن العشرة المبشرين بالجنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وأبوه صحابي أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود، وليس له إلا هذا الحديث.(548/23)
الأسئلة(548/24)
الانتقال من المكان وقت خطبة الجمعة إذا كان بين الظل والشمس
السؤال
إذا جلس أحد في صرح المسجد وقت خطبة الجمعة، وصار بين الظل والشمس، فهل يقوم والإمام يخطب؟
الجواب
نعم، عليه أن يقوم فيتقدم للظل إذا كان أمامه، أو يتأخر للشمس إذا كانت وراءه، أو العكس.(548/25)
الانتقال من المكان أثناء الصلاة إذا كان بين الظل والشمس
السؤال
إذا كان يصلي وصار بين الظل والشمس، فهل يتحرك أو يكمل صلاته؟
الجواب
إذا كان يصلي وأثناء ذلك جاءت الشمس، أو جاء الظل، فإن كان مطيلاً للصلاة ويقرأ كثيراً في صلاته، فإنه يتقدم أو يتأخر حتى يكون كله في الظل أو كله في الشمس، وإذا كانت صلاته ليست طويلة، وإنما يصلي ركعتين ركعتين، ويخفف في صلاته، فإنه إذا أنهى الركعتين يتحول.(548/26)
قياس المشي بين الظل والشمس على الجلوس بينهما
السؤال
هل يقاس المشي بين الظل والشمس على الجلوس بينهما؟
الجواب
لا يقاس، فإن كان إنسان يمشي بين الظل والشمس فلا يقاس عليه؛ لأن هذا ليس جلوساً، وإنما هو مرور ومشي، فإذا كان الطريق بين الظل والشمس فلا يبتعد عنه الناس ويذهبون يميناً ويساراً ويتركونه خالياً.(548/27)
حلاقة بعض الشعر من أجل الحجامة ليس من القزع
السؤال
إذا كانت الحلاقة لبعض الشعر من أجل الحجامة فهل هذا من القزع المنهي عنه؟
الجواب
ليس هذا من القزع.(548/28)
جمع الغترة وردها وراء الظهر من الكفت المنهي عنه
السؤال
هل صحيح أن جمع الغترة فوق الرأس أو ردها خلف الظهر في الصلاة يعتبر من كفت الثوب المنهي عنه؟
الجواب
الذي يظهر أن هذا منه؛ لأن الواجب على الإنسان أن يترك ثيابه ولا يجعلها وراءه، وهذه من جنس الثوب.(548/29)
لزوم الخروج من الحرم إلى الحل لمن أراد أداء العمرة مرة ثانية
السؤال
أريد أن أحرم من الميقات من أجل العمرة، وأريد أن أعتمر عن والدي المتوفى، فمن أين أحرم للعمرة الثانية؟
الجواب
العمرة المشروعة هي التي يأتي بها الإنسان من المواقيت، فإذا جاء الإنسان من بلده واعتمر لنفسه، ثم ذهب إلى المدينة أو إلى الطائف أو إلى الرياض ثم رجع إلى مكة، وأحرم بعمرة أخرى له أو لغيره، فله ذلك.(548/30)
حكم شكر الكافر على إحسانه
السؤال
هل يجوز شكر الكافر؟
الجواب
نعم، إذا حصل منه إحسان يشكر، ولكن شكره ينبغي أن يكون بالدعاء له بالهداية، وهذا أعظم وأهم شكر له.(548/31)
قوله: (ما دعوتم لهم وأثنيتم عليهم) لا يدل على ضرورة استمرار الدعاء
السؤال
هل يمكن أن يقال في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما دعوتم لهم وأثنيتم عليهم خيراً) بأن (ما) مصدرية ظرفية، بمعنى: مدة دعائكم لهم؟
الجواب
الذي يبدو أنها ليست مصدرية ظرفية وأن الأمر مقصور على استمرار الدعاء، وإنما المقصود إذا حصل الدعاء والثناء عليهم.(548/32)
صلاة التراويح مع من يفعل فيها بدعة رجاء أن يقلع عنها
السؤال
أريد أن أصلي صلاة التراويح مع أهل قريتي، ولكنهم قد أحدثوا شيئاً في الصلاة، حيث إنهم يقرءون الصلوات والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بعد كل ركعتين جماعة، فهل أصلي معهم؟
الجواب
إذا كان ذهابك إليهم سيكون سبباً في اتباعهم للسنة وتركهم للبدعة فعليك أن تحرص على أن تصلي معهم، وتبين لهم أن هذا غير سائغ، وتناصحهم حتى يتركوا هذا الذي هم واقعون فيه.(548/33)
حال حديث (ليس من البر الصيام في السفر)
السؤال
ما صحة حديث: (ليس من البر الصيام في السفر)؟
الجواب
هذا حديث صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقصود به: إذا كان هناك مشقة في الصيام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا في حق شخص حصلت له مشقة بسبب الصيام؛ ولهذا فإن الصيام في السفر له حالتان: إذا كان السفر فيه مشقة فإن الإفطار هو المتعين، وإذا كان ليس فيه مشقة، وليس على الإنسان مضرة في محافظته على الصيام، فإن المحافظة على الصيام أولى، وذلك أن الإنسان يكسب أداء الواجب في وقته، ولا يحمل نفسه ديناً قد يثقل أداؤه فيما بعد، وقد يفرط في أدائه، فهو يغتنم الفرصة، ويصوم مع الناس ما دام أن السفر لا يترتب عليه مضرة له، ولاسيما في هذا الزمان مع قصر المدة، والراحة في السفر، وقد يقضي السفر وهو نائم، أو متكئ وجالس على كرسيه، فلا فرق بينه وبين من كان جالساً في الغرفة لمدة ساعة، فاغتنام الفرصة والمحافظة على الصيام في وقته هو الذي ينبغي، وإذا كان يترتب عليه مشقة فالفطر هو المطلوب.(548/34)
حال حديث (الأنصار شعار والناس دثار)
السؤال
ما صحة حديث: (الأنصار شعار، والمهاجرون دثار)؟
الجواب
الحديث جاء بلفظ: (الأنصار شعار والناس دثار) والحديث متفق عليه، ومناسبته أن الأنصار رضي الله عنهم وجدوا في أنفسهم بعد قسمة غنائم حنين؛ لأنهم ما أعطوا شيئاً، إنما أعطي الذين أسلموا عام الفتح؛ لتألفهم على الإسلام؛ ولتقوية إسلامهم وتمكنهم من الإسلام، فوجد الأنصار في أنفسهم؛ لأنهم ما أصابوا الذي أصاب الناس، فتكلموا بكلام فيما بينهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فجمعهم في مكان، وتكلم معهم بكلام صار لهم خيراً وأفضل من المال؛ لأنه قال: (الأنصار شعار والناس دثار) أي: الأنصار مني بمنزلة الشعار، وهو الثوب الذي يلي الجسد، (والناس دثار) والدثار هو الثوب الذي وراءه، فالكلام هو في عامة الناس، وليس في المهاجرين.(548/35)
حكم من كفر الصحابة
السؤال
هل لا بد أن نطبق قاعدة قيام الحجة على من كفر الصحابة، أم أنه كافر بمجرد تكفيره للصحابة دون انتفاء الموانع؟
الجواب
الذي يكفر الصحابة عموماً لا شك أنه كافر، ولا يحتاج إلى أن تقام عليه حجة، وكيف تقام عليه حجة والدين كله مرفوض بتكفيره الصحابة؟! فهو ليس عنده دين أصلاً؛ لأن القرآن جاء عن طريق الصحابة، والسنة جاءت عن طريق الصحابة، فإذا كان الصحابة كفاراً فلا اعتبار بالقرآن ولا اعتبار بالسنة؛ لأن القدح في الناقل قدح في المنقول، فمن كفر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فإنه كافر، ولا يحتاج إلى أن تقام عليه الحجة.(548/36)
حكم الانتفاع بمال الكافر لبناء مسجد
السؤال
كافر أعطى المسلمين مالاً لبناء مسجد، فهل يجوز أن يأخذوا هذا المال؟
الجواب
إذا كانوا بحاجة إلى هذا المال فليأخذوه ولا بأس.(548/37)
حكم من ترك الصلاة الإبراهيمية في التشهد الأخير
السؤال
امرأة صلت في الحرم المكي صلاة الجمعة، ولا تعلم أن الصلاة ركعتين، فعندما جلس الإمام للتشهد أتت بالتحيات ولم تذكر الصلاة الإبراهيمية، ثم سلمت مع الإمام، فما حكم صلاتها؟
الجواب
الصلاة الإبراهيمية فيها خلاف بين أهل العلم، منهم من قال: إنها ركن من أركان الصلاة، ومنهم من قال: ليست بركن، والذي يظهر أن الأحوط والأولى أن تعيد الصلاة.(548/38)
حكم التحايل على الحكومات في دفع الضرائب
السؤال
عندنا الحكومة تأخذ الضرائب على التجارة، واختلفنا فمن قائل: إن إعطاءها إلى الحكومة حرام، ومن قائل: ينبغي أن تعطى، مستدلاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك)، فما حكم إعطائها إلى الحكومة، وما حكم التحايل لئلا تعطى؟ وهل حديث: (صاحب المكس في النار) صحيح؟
الجواب
إذا كانت الحكومة فرضت الضرائب على الناس فكما هو معلوم أن الناس ليس لهم بد من أن يدفعوها، وليس لهم خيار، وإذا كانوا مخيرين فلا يعطون الشيء الذي لا ينبغي أن يعطى، وأما إذا كان شيئاً ألزموا به فإنهم يفعلون ذلك، ومن كان مظلوماً فإنه سيقتص ممن ظلمه.(548/39)
وجوب الكف عن ذكر أخطاء الصحابة الكرام
السؤال
هل هناك فرق بين أن يعقد مجلس يذم فيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وبين أن تذكر أخطاء الصحابة ضرباً للمثل في معالجة قضية معينة أم أن الكل مذموم؟
الجواب
الكل مذموم، وحق الصحابة ألا يذكروا إلا بخير، ولا يذكروا بسوء أبداً، بل لابد أن تكون القلوب والألسنة سليمة، ولا تضرب الأمثال أو يؤتى بشيء فيه نيل من الصحابة من أجل ضرب المثل أبداً، وإنما يذكرون بالجميل، ويقول الإنسان خيراً أو يصمت، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) والذي ينبغي له ألا يصمت، وإنما يتكلم بالثناء والدعاء لهم رضي الله عنهم وأرضاهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى ساق لنا هذا الخير على أيديهم، فهم الواسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عرف الناس كتاباً ولا سنة إلا عن طريق الصحابة، فالصحابة رضي الله عنهم لا يصلح أن يذكروا بسوء أبداً، ولا يضرب بهم المثل بما لا يليق بهم، ولا أن يحصل ذمهم.(548/40)
ما جاء في التحلق(548/41)
شرح حديث (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وهم حلق فقال: ما لي أراكم عزين؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التحلق.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن الأعمش قال: حدثني المسيب بن رافع عن تميم بن طرفة عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وهم حلق فقال: ما لي أراكم عزين؟) حدثنا واصل بن عبد الأعلى عن ابن فضيل عن الأعمش بهذا قال: كأنه يحب الجماعة].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: [باب في التحلق]، والتحلق هو: الجلوس حلقاً، أن يجلس الناس متحلقين على هيئة الحلقة التي يكون لها محيط، ويكون الوسط خالياً.
وقد أورد أبو داود حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وهم حلق، فقال: ما لي أراكم عزين؟) أي: كأنه أنكر عليهم هذه الهيئة التي كانوا عليها، وقوله: (عزين) يعني: متفرقين حلقاً حلقاً.
والتحلق في المسجد إذا كان قبل الصلاة فهو غير سائغ؛ لأنه إذا أذن المؤذن فإن المطلوب أن يكون الناس صفوفاً، وأن يتموا الصف الأول فالأول، وأن يستعدوا للصلاة، فإذا كان هذا الأمر قبل الصلاة فمعلوم أن هذه الهيئة لا تنبغي، وأن المطلوب عندما يأتي الناس إلى المسجد في الصلاة وقد دخل الوقت فإنهم يتقدمون إلى الصف الأول حتى يملئوه، ثم ينشئون الصف الثاني حتى يملئوه، ثم الصف الثالث وهكذا، فيملئون كل صف وينتقلون إلى الصف الذي يليه، فلا ينبغي الجلوس على هذه الهيئة قبل الصلاة، وعلى الناس أن يجلسوا صفوفاً ينتظرون الصلاة، يقرءون القرآن أو يذكرون الله عز وجل، ولا يجلسون حلقاً، فإن هذا هو الذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (ما لي أراكم عزين).
وأما الجلوس في المسجد في غير وقت الصلاة حلقاً لتعليم العلم، وتكون الحلق متعددة هذا يدرس فناً وهذا يدرس فناً، وهذا يدرس علماً، وهذا يدرس علماً، فهذا لا بأس به، وقد كانت الحلقات في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم موجودة منذ زمن قديم، فهذا شيء لا بأس به وهو أمر مطلوب، وتحصيل العلم إنما يكون بالتدريس في المساجد، ولا يلزم أن يكون الناس حلقة واحدة، بل يمكن أن يكون الناس حلقاً، وأن يكونوا متعددين، وكل له شيء يريد أن يدرِّسه وأن يَدْرسه، فمثل ذلك لا بأس به، والذي يبدو -والله أعلم- أن الذي حصل هو أنهم كانوا متحلقين قبل الصلاة.
وقوله: (كأنه يحب الجماعة)، أي: عدم التفرق، ومعلوم أنه إذا كان الناس ينتظرون الصلاة فإنهم كما ذكرت يأتون إلى الصفوف ويملئونها الأول ثم الذي يليه ثم الذي يليه، وتفرقهم هذا التفرق لا ينبغي، وكذلك أيضاً ابتعادهم عن الصفوف الأول لا ينبغي، وإنما على الناس عندما يأتون إلى المسجد أن يتقدموا إلى الصفوف، وأن يبدءوا بالأول ثم الذي يليه ثم الذي يليه وهكذا.(548/42)
تراجم رجال إسناد حديث (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وهم حلق فقال: مالي أراكم عزين؟)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني المسيب بن رافع].
المسيب بن رافع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن تميم بن طرفة].
تميم بن طرفة ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن جابر بن سمرة].
جابر بن سمرة رضي الله عنه صحابي أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وقوله: [حدثنا واصل بن عبد الأعلى].
واصل بن عبد الأعلى ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن فضيل].
هو محمد بن فضيل بن غزوان، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش بهذا].
يعني: بهذا الإسناد.(548/43)
حكم التحلق قبل الصلاة
فيما يتعلق بالنهي عن التحلق قبل الصلاة معلوم أن الناس مطلوب منهم أن يكملوا الصف الأول فالأول، وألا يتأخروا، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله)، فالواجب هو المسابقة إلى الفضل، وإلى الصف الأول لمن دخل مبكراً، ثم الصف الذي يليه، ثم الذي يليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها).
ومما ينبغي أن ينبه عليه هنا: أنه قد جاء في الحديث أن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة غير سائغ، وأنه قد جاء النهي عنه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإذا دخل الناس المسجد يوم الجمعة فإنهم لا يتحلقون للعلم، ولا يشتغلون بالعلم ولا بغيره، بل يأتون إلى المسجد فيصلون ما أمكنهم أن يصلوا، ثم يجلسون يقرءون القرآن ويذكرون الله، وإذا دخل الخطيب سمعوا الخطبة وصلوا، وأما أن يشتغلوا بشيء قبل الصلاة بعلم أو تعلم أو حلق أو وعظ، فهذا قد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم النهي عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة.
وأما التحلق بعد الفجر يوم الجمعة فالذي يبدو أنه ليس فيه بأس إن شاء الله؛ لأن الناس كما هو معلوم في الغالب يجلسون بعد الصلاة ثم ينصرفون، ثم يأتون إلى المسجد، ومعلوم أنهم إذا جاءوا بعد طلوع الشمس شيئاً فشيئاً، فإن كل ذلك يكون قبل الصلاة، لكن بعد صلاة الفجر يبدو أنه لا بأس؛ لأن الناس غالباً يصلون وينصرفون إلى بيوتهم، ثم يأتون للجمعة.(548/44)
شرح حديث (كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم جلس أحدنا حيث ينتهي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن جعفر الوركاني وهناد أن شريكاً أخبرهم عن سماك عن جابر بن سمرة قال: (كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم جلس أحدنا حيث ينتهي)].
أورد أبو داود حديث جابر بن سمرة الذي يخبر فيه أنهم كانوا -أي: الصحابة- إذا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جلس أحدهم حيث ينتهي، أي: حيث ينتهي به المجلس، فيكون من سبق له المكان، وغيره يأتي فيجلس حيث ينتهي به المجلس، وهذه هي الهيئة التي كان الصحابة يفعلونها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من الآداب أن الإنسان يأتي ويجلس حيث ينتهي به المجلس.(548/45)
تراجم رجال إسناد حديث (كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم جلس أحدنا حيث ينتهي)
قوله: [حدثنا محمد بن جعفر الوركاني].
محمد بن جعفر الوركاني ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[وهناد].
هو هناد بن السري أبو السري، وهو ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[أن شريكاً أخبرهم] هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سماك].
هو سماك بن حرب، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن جابر بن سمرة].
جابر بن سمرة رضي الله عنه قد مر ذكره.
وهذا الإسناد من الرباعيات وهي من أعلى الأسانيد عند أبي داود رحمه الله.(548/46)
ما جاء في الجلوس وسط الحلقة(548/47)
شرح حديث (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من جلس وسط الحلقة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الجلوس وسط الحلقة.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا قتادة قال: حدثني أبو مجلز عن حذيفة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من جلس وسط الحلقة)].
أورد أبو داود باب الجلوس وسط الحلقة، أي: إذا كان الناس في حلقة مستديرين، ثم جاء واحد وجلس بينهم، فإن هذا قد حصل منه شيء لا ينبغي، وذلك أنه أولاً تخطى الرقاب، وأساء إلى الناس، ثم أيضاً يحجب من جاءوا قبله عن رؤية من أمامهم ممن سبقوا إلى الحلقة، فكون الإنسان يأتي ويجلس وسطهم فيه إساءة إلى الحاضرين بالتخطي أولاً، وبكونه يحجب الذين يكون أمامهم في جهة أخرى.
والحديث ضعيف؛ لأن فيه انقطاعاً بين أبي مجلز وبين حذيفة رضي الله تعالى عنه؛ لأنه لم يسمع منه، وقيل: إنه لم يدركه، وعلى هذا فهو غير ثابت، ولكن المعنى صحيح من جهة أنه عندما يكون الناس حلقة، ثم يتخطى إنسان هذه الحلقة ويجلس في وسطهم، لا شك أن هذا فيه شيء من عدم المعاملة الحسنة للناس، وإنما عليه أن يجلس في حلقة ثانية تكون وراء هذه الحلقة، اللهم إلا أن يكون ليس وراءهم إلا جدران، وأن هذه الحلقة ليس فيها مجلس إلا في الوسط، فإنه يمكن أن يكونوا حلقاً أخرى في الوسط، وإذا كان الأمر يستدعي جلوسهم ومجيئهم ودخولهم، فإن ذلك لا يتم إلا بهذه الطريقة، وهذا حيث يكونون عدداً فالأولون إما أن يتقدموا أو يتركوا الذين دخلوا يجلسون أمامهم؛ لأن مثل هذه الحالة لا يمكن فيها إلا مثل هذا، فإما أن يتقدم الأولون حتى يصيروا قريباً ممن يحدثهم، إذا كانوا بين يدي من يحدثهم، أو أنهم يبقون ولكن يتحلق الناس حلقاً أخرى في داخل تلك الحلقة، وهذا لا بأس به حيث يكون المكان لا يتسع للناس، وهم محتاجون إلى أن يدخلوا وأن يكونوا في هذا المكان، والمكان مفتوح لمن يدخل، فإذا زاد العدد على ما في المجلس فيمكن أن يجلس الناس في الوسط، وإذا أراد الذين سبقوا أن يتقدموا يتقدمون، وإن أرادوا أن يبقوا في أماكنهم ويتكئون على الجدران، فليتركوا الفرصة لمن جاء بعدهم فيجلس أمامهم.
وقوله: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن من جلس وسط الحلقة) هذا يدل على خطورته، ولكن الحديث لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.(548/48)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من جلس وسط الحلقة)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبان].
هو أبان بن يزيد العطار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبو مجلز].
أبو مجلز ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حذيفة].
حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(548/49)
ما جاء في الرجل يقوم للرجل من مجلسه(548/50)
شرح حديث أبي بكرة في النهي عن قيام الرجل للرجل من مجلسه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يقوم للرجل من مجلسه.
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن أبي عبد الله مولى آل أبي بردة عن سعيد بن أبي الحسن قال: (جاءنا أبو بكرة رضي الله عنه في شهادة، فقام له رجل من مجلسه فأبى أن يجلس فيه وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذا، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسح الرجل يده بثوب من لم يكسه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في الرجل يقوم للرجل من مجلسه، أي: أن الذي ينبغي للإنسان أنه إذا كان في مجلس ودخل داخل فإنهم يتفسحون ويوسعون المجلس، حتى يجلس الذي دخل في المكان الذي حصل مع التوسع، وأما كونه يقوم إنسان من مكانه أو يقام إنسان من مكانه فهذا هو الذي جاء النهي عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما المطلوب هو أن يوسع الناس بعضهم لبعض، بحيث يستوعبهم المكان حيث أمكن ذلك، وقد جاءت السنة بذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أمر عليه الصلاة والسلام أن يتفسحوا في المجالس، أي: يوسعوا، وأن ينضم بعضهم إلى بعض بحيث يجلس من دخل دون أن يقوم أحد ويذهب عن مكانه إلى مكان آخر أو إلى خارج المكان.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي بكرة أنه جاء في شهادة، أي: يؤدي شهادة كانت عنده، وأن رجلاً قام عنه ليجلس مكانه، فأبى أبو بكرة رضي الله عنه أن يجلس وقال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا) يعني: نهى عن أن يقوم إنسان ويجلس آخر مقامه، فلم يجلس أبو بكرة رضي الله عنه، وأخبر بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
والحديث فيه ضعف، ولكن قد جاءت أحاديث أخرى تدل على ما دل عليه، ومنها ما سيأتي بعد ذلك.
وقوله: (ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسح الرجل يده بثوب من لم يكسه) يعني: إذا كانت يده ملوثة بطعام أو غيره فلا يمسحها بثوب من لم يكسه، أي: من ليس له عليه ولاية، أما من له عليه ولاية مثل أن يكون ولده أو خادمه، أو غلامه، فهذا هو الذي يكسوه، ولكنه إذا كان كسا إنساناً وأحسن إليه، فليس من الأدب وليس من اللائق أن يحسن إليه ثم يسيء إليه؛ لكونه يمسح يده الملوثة بثوب ذلك الذي أحسن إليه، بل من تمام الإحسان أن يبقى على إحسانه إليه، وألا يحصل منه ذلك الشيء الذي قد يسيء إليه، وإنما يمسح بثوبه هو، أو يسمح بشيء آخر، وأما كونه يمسح بثوب غيره إذا كان ولده أو غلامه فالأمر في ذلك سهل، وهذا عندما تدعو الحاجة إليه؛ لأن مثل هؤلاء لا يتأثرون بمثل ذلك لو حصل، وأما إذا كان لم يسكه أصلاً، أو كساه إياه ولكنه ليس له عليه ولاية، فإن هذا من إتباع الإحسان بالإساءة؛ لأن هذا فيه شيء من الإساءة، وقد يتأثر الإنسان بذلك ويتضرر.
ولكن هذا الحديث كما هو معلوم ضعيف، والجملة الأولى منه جاء ما يدل عليها في أحاديث أخرى، وأما قضية المسح في الثوب فهو من هذه الطريق، والطريق فيها رجل متكلم فيه.(548/51)
تراجم رجال إسناد حديث أبي بكرة في النهي عن قيام الرجل للرجل من مجلسه
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد ربه بن سعيد].
عبد ربه بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أخو يحيى بن سعيد الأنصاري المدني المشهور.
[عن أبي عبد الله مولى آل أبي بردة].
أبو عبد الله مولى آل أبي بردة مجهول أخرج له أبو داود.
[عن سعيد بن أبي الحسن].
سعيد بن أبي الحسن هو أخو الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: جاءنا أبو بكرة].
هو أبو بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(548/52)
شرح حديث (جاء رجل إلى رسول الله فقام له رجل من مجلسه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة أن محمد بن جعفر حدثهم عن شعبة عن عقيل بن طلحة قال: سمعت أبا الخصيب عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام له رجل من مجلسه، فذهب ليجلس فيه فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قال أبو داود: أبو الخصيب اسمه زياد بن عبد الرحمن].
أورد أبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس، فدخل رجل، فقام رجل لذلك الداخل ليجلس مكانه، فنهاه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجلس فيه)، وهذا يدل على ما دل عليه حديث أبي بكرة المتقدم، فإن في الجزء الأول منه عدم موافقة أبي بكرة على الجلوس في ذلك المكان الذي قام عنه صاحبه، وكلا الحديثين يدل على أن هذا غير سائغ، وأن الذي ينبغي هو التفسح والتوسع في المجالس، حتى يجلس من يدخل حيث يمكنه الجلوس، فإذا كان الجلوس على الأرض، أو على كراسٍ ليس فيها فواصل، أو ليست فردية بحيث لا يجلس عليها إلا شخص واحد، فإنه يمكن التفسح فيها.(548/53)
تراجم رجال إسناد حديث (جاء رجل إلى رسول الله فقام له رجل من مجلسه)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[أن محمد بن جعفر حدثهم].
محمد بن جعفر هو الملقب بـ غندر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
شعبة قد مر ذكره.
[عن عقيل بن طلحة].
عقيل بن طلحة ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[قال: سمعت أبا الخصيب].
هو زياد بن عبد الرحمن، وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر، الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث فيه مقبول، ولكن له شواهد.(548/54)
حكم القيام عن المجلس للغير
القيام للغير إذا كان هناك أمر يقتضي ذلك، كأن يكون شخصاً كبيراً أو له منزلة فيقام له، ولكن حصول التفسح في ذلك حتى مع الكبير هو الأولى، ثم أيضاً صاحب المكان هو أحق بالمكان، فله أن يجلس الناس في الأماكن التي يريد، فليس الأمر لمن يتقدم ويأتي مبكراً، هذا إذا كان المجلس لإنسان، أما إذا كان المجلس مجلساً مباحاً ومجلساً عاماً، وليس خاصاً بأحد، فإن كل من دخل له حق الجلوس، أما إذا كان لجهة معينة سواء لشخص أو إدارة أو مؤسسة، فلهم أن يحجزوا الأماكن المقدمة ويجعلوها لأناس يختصونهم بها، ويقدمونهم فيها، فكونهم كلما جاء إنسان يقولون: اجلس هنا، ويقولون لهذا: اجلس هنا، هذا هو حقهم.
وأما أن يقوم الابن لأبيه ليجلس في مكانه إذا لم يوجد إلا هذا فليس فيه بأس؛ لأن الذي يترتب على هذا إذا كان المجلس قد امتلأ أن أباه سيجلس في الخارج، ومن إكرام الابن لأبيه أن يجلسه مكانه، وهذا لا بأس به، إلا فيما يتعلق بالشيء الذي فيه قربة فليس لأحد أن يقوم لأحد، فإذا كان في الصف الأول مثلاً فلا يصلح أنه يتركه لغيره، فالقرب إذا ظفر بها الإنسان فلا يتركها لغيره عليها.(548/55)
من يؤمر أن يجالس(548/56)
شرح حديث (ومثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من يؤمر أن يجالس.
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها، ومثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه، ومثل جليس السوء كمثل صاحب الكير إن لم يصبك من سواده أصابك من دخانه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب من يؤمر أن يجالس، أي: من يؤمر الإنسان أن يُجَالِسه، أي: أن يُجَالِس إنساناً، أو يقال: من يؤمر أن يُجَالَس، وهذا يقصد به المأمور به، وأما إذا كان المقصود به المجالِس الذي يوجه إليه الأمر فالمقصود: أنه مأمور بأن يجالِس غيره؛ لأن الذي يرغب في مجالسته يقال له: مجالَس، والذي يرغب في أن يجالس غيره ممن هم أخيار يقال له: مجالِس.
فهذه الترجمة المقصود بها: بيان من يؤمر بمجالستهم، والذين يرغب بالجلوس معهم، وصحبتهم ومخالطتهم؛ لأن مجالسة الأخيار تفيد خيراً للمجالس، ومجالسة الأشرار تفيد ضرراً للمجالس لهم.
وقد أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الذي ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أصناف من الناس، فقال: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب) أي: لها طعم وريح، (ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها حلو ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها).
وهذه أمثال ضربها الرسول صلى الله عليه وسلم لبيان تفاوت الناس في هذه الأمور، وأن من كان عنده القرآن فإنه جمع بين خصلتين محمودتين: إيمان وقراءة القرآن، وشبهه بالأترجة التي طعمها حلو، وريحها طيب، وشبه المؤمن الذي لا يقرأ القرآن بالتمرة التي طعمها طيب ولكن لا ريح لها، والفاجر الذي لا يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب، ولكن طعمها مر، والفاجر الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها.
ثم ذكر بعد ذلك الجليس الصالح والجليس السوء، وأن الجليس الصالح كحامل المسك، وحامل المسك إن لم يعطك أو تتزود منه، فإنك تجد منه رائحة طيبة، وتشم ريحاً طيبة، وعلى العكس من ذلك جليس السوء مثله مثل نافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك وإما أن يسودها فتصير وسخة، وإما على الأقل أن تشم منه رائحة كريهة، ومعنى ذلك: أن الضرر حاصل من جليس السوء، والضرر متفاوت، فإما إحراق ثياب، وإما تسويدها، وإما رائحة كريهة على الأقل.
فلا يعدم مجالس الأخيار من الفائدة الطيبة، ولا يعدم مجالس الأشرار من المضرة مع التفاوت في تلك المضرة.
والفاجر ليس بلازم أن يكون منافقاً، بل قد يكون من العصاة، أي: من أهل الفجور في المعاصي التي هي غير النفاق، فيكون فيه خصلتان ذميمتان: كونه ليس عنده رائحة طيبة، والطعم يكون مراً.(548/57)
تراجم رجال إسناد حديث (ومثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان عن قتادة عن أنس].
مسلم بن إبراهيم وأبان وقتادة مر ذكرهم، وأنس بن مالك رضي الله عنه خادم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا الإسناد من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود رحمه الله.(548/58)
إطلاق وصف الإيمان على المقصر في الأعمال
يؤخذ من الحديث إطلاق لفظة المؤمن على المقصر في بعض العمل؛ فقد ذكر المؤمن الذي لا يقرأ القرآن وسماه مؤمناً؛ لأن الإيمان كما هو معلوم يطلق على كمال الإيمان، ويطلق أيضاً على أصل الإيمان الذي هو الإسلام.
والمراد بقراءة القرآن: القراءة والتأمل فيه والتدبر والاتعاظ.(548/59)
شرح حديث (مثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى المعنى (ح) وحدثنا ابن معاذ حدثنا أبي: حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس عن أبي موسى رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام الأول إلى قوله: (وطعمها مر) وزاد ابن معاذ قال: قال أنس: وكنا نتحدث أن مثل جليس الصالح وساق بقية الحديث].
أورد أبو داود هذا الحديث عن أنس عن أبي موسى رضي تعالى عنهما، وهذه رواية صحابي عن صحابي، وهو مثل الأول، إلا أنه في آخره وقف عند الصنف الرابع من الأصناف الأربعة، وهو الفاجر الذي لا يقرأ القرآن والذي شبهه بالحنظلة التي طعمها مر ولا ريح لها.
وقوله: (وكان أنس يقول: وكنا نتحدث أن مثل الجليس الصالح) إلى آخره، يعني: أنه ليس بمرفوع، ولكن كما هو معلوم هذا الحديث ثابت عن أبي موسى الأشعري في صحيح البخاري وصحيح مسلم، وخاصة ما يتعلق بالجليس الصالح، وهو: (مثل الجليس الصالح كحامل المسك ومثل الجليس السوء كنافخ الكير).(548/60)
تراجم رجال إسناد الطريق الأخرى لحديث (مثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى].
مسدد مر ذكره، ويحيى هو ابن سعيد القطان وقد مر ذكره أيضاً.
[ح وحدثنا ابن معاذ].
هو عبيد الله بن معاذ، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
أبوه هو معاذ بن معاذ العنبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس عن أبي موسى].
قد مر ذكر الثلاثة الأولين، وأما أبو موسى فهو عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله تعالى عنه وهو صحابي جليل، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(548/61)
شرح حديث (مثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك) من طريق ثالثة وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن الصباح العطار حدثنا سعيد بن عامر عن شبيل بن عزرة عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الجليس الصالح) فذكر نحوه].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى عن أنس بن مالك وفيها قال: (مثل الجليس الصالح) وذكر نحوه، يعني: نحو الذي تقدم.
قوله: [حدثنا عبد الله بن الصباح العطار].
عبد الله بن الصباح العطار ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا سعيد بن عامر].
هو سعيد بن عامر الضبعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شبيل بن عزرة].
شبيل بن عزرة صدوق يهم، أخرج له أبو داود.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه قد مر ذكره.(548/62)
شرح حديث (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن عون أخبرنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح عن سالم بن غيلان عن الوليد بن قيس عن أبي سعيد أو عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي).
والمصاحبة هي محل الشاهد من الترجمة من جهة بيان من يصاحبه الإنسان ومن يجالس.
وقوله: (لا تصاحب إلا مؤمناً) أي: من يعرف بالإيمان والتقى، فمن كان كذلك فللإنسان أن يصاحبه ويرافقه ويجالسه؛ لأن الفائدة تعود عليه من وراء مجالسته.
وقوله: (ولا يأكل طعامك إلا تقي) أي: صاحب تقى، والمقصود من ذلك: أن الإنسان لا يدعو إلا أناساً طيبين، ولا يدعو أناساً ليسوا أتقياء، إلا إذا كان يريد من وراء ذلك استمالتهم وتوجيههم ودعوتهم وإصلاحهم ونصحهم، فإذا كان ذلك لهذه المصلحة فلا بأس في ذلك، وإلا فإن الأصل أن الإنسان تكون مجالسته ومخالطته ومآكلته مع أناس طيبين، وأما إذا كان يخالط أناساً فيهم سوء، ولا يكترث بذلك فإن ذلك يؤثر عليه، ولكن إذا كان من أجل أن يدعوهم وينبههم ويستميلهم ويذكرهم، ويسعى لإصلاحهم، فهذا مقصد طيب.
وقوله: (لا يأكل طعامك إلا تقي) المقصود بذلك أن يدعوه، وأما أن يحسن الإنسان إلى غيره ممن هو بحاجة إلى الإحسان، فإنه يحسن إلى التقي وغير التقي، لاسيما إذا كان هذا الإحسان يؤثر في غير التقي.(548/63)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي)
قوله: [حدثنا عمرو بن عون].
عمرو بن عون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك المروزي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حيوة بن شريح].
هو حيوة بن شريح المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم بن غيلان].
سالم بن غيلان ليس به بأس، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
وقولهم: (ليس به بأس)، هي بمعنى صدوق.
[عن الوليد بن قيس].
الوليد بن قيس مقبول، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد وأبو داود والترمذي.
[عن أبي سعيد].
هو سعد بن مالك بن سنان الخدري، وهو صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[أو عن أبي الهيثم عن أبي سعيد].
أي: أن الوليد يروي عن أبي سعيد ويروي عن أبي الهيثم عن أبي سعيد، وسواء كان هذا أو هذا فكله صحيح، يعني: سواء كان في السند واسطة أو غير واسطة.
وأبو الهيثم هو سليمان بن عمرو، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
والمقصود بهذا النهي: أن الإنسان لا يخالط ويصاحب إلا الأتقياء والمؤمنين؛ لأن مصاحبة الأشرار تعود على الإنسان بالمضرة.
وقوله: (ولا يأكل طعامك إلا تقي) أيضاً كذلك؛ لأن كونه يدعوهم ويأكل معهم فكأنه واحد منهم، ولا يكترث بمخالطتهم، وأنه ليس عنده فرق بين المخالطة وعدم المخالطة، لا شك أن هذا أمر سيئ، والمآكلة تؤدي إلى التآلف والمقاربة في القلوب، مع أنه يجب أن يكون هناك تنافر وبعد عن أصحاب المعاصي، إلا إذا كان المقصود التألف فهذا شيء آخر.
ودعوة أهل البدع في الولائم والأعراس إذا كانت من أجل استمالتهم ودعوتهم، فهذا لا بأس به وهذا إذا كانوا غير مشهورين بالبدع، وأما إذا كانوا مشهورين بالبدع، أو من أئمة البدع والداعين إليها، فالأولى للإنسان أن يبتعد عنهم، إذا كان لا يرجى رجوعهم وإقناعهم، وذلك كأناس متبوعين في البدعة، وهم محافظون عليها، فإذا لم يكن هناك مجال لإصلاحهم ورجوعهم، فعلى الإنسان أن يبتعد عنهم.(548/64)
شرح حديث (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن بشار حدثنا أبو عامر وأبو داود قالا: حدثنا زهير بن محمد قال: حدثني موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل) يعني: أن الإنسان إذا صار خليلاً ومصاحباً لإنسان فإنه يكون مثله في أخلاقه وفي صفاته وفي عبادته.
وقوله: (فلينظر أحدكم من يخالل) أي: أنه لا يختار إلا الخليل الطيب، ومن يكون عوناً له على الطاعة، ولا يختار خليلاً يكون عوناً له على المعصية، أو يجره إلى المعصية، أو يتسبب في انحرافه، وخروجه عن الجادة؛ لأن أغلب البلاء الذي يحصل لكثير من الناس إنما يأتي عن مخالطة الأشرار، واختيار الأخلاء والأصدقاء المستقيمين هو الذي ينفع؛ ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] فالمخاللة لأناس فيهم انحراف تسبب انحراف من يخاللهم ويصاحبهم، فعلى الإنسان أن يخالل من يكون مستقيماً، حتى يسلم في دينه وطاعته، وحتى يكون خليله عوناً له على طاعة الله عز وجل، ويزيده ثباتاً على ما هو عليه.(548/65)
تراجم رجال إسناد حديث (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)
قوله: [حدثنا ابن بشار].
هو محمد بن بشار الملقب بـ بندار البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو عامر].
هو أبو عامر العقدي عبد الملك بن عمرو، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأبو داود].
هو سليمان بن داود الطيالسي، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[قالا: حدثنا زهير بن محمد].
زهير بن محمد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثني موسى بن وردان].
موسى بن وردان صدوق ربما أخطأ، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه وقد مر ذكره.(548/66)
شرح حديث (الأرواح جنود مجندة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي حدثنا جعفر -يعني ابن برقان - عن يزيد -يعني ابن الأصم - عن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه قال: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأرواح جنود مجندة) أي: أنها جند من جنود الله الكثيرة التي خلقها الله تعالى وأوجدها، والإنسان يتكون من الروح والجسد، والروح مخلوق من مخلوقات الله، ولا يعلم كيفيتها وكنهها إلا الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا فإن الروح من جملة المخلوقات التي يكون بها حياة الإنسان، والناس لا يعرفون كنهها، ولا يعرفون كيفيتها ولا وصفها، ولا كيف هي، فهي خلق موجود به حياة الإنسان إذا نفخ فيه الروح دبت فيه الحياة، وإذا فارقته الروح فارق الحياة، ومع ذلك لا أحد يعرف كيفية هذه الروح.
وإذا كانت الروح مخلوق من مخلوقات الله، والناس لا يعرفون كيفيتها ولا كنهها، فالله عز وجل الذي هو الخالق له ذات متصفة بالصفات ولا يعلم الخلق كنهه، فإذا كان الناس يجهلون مخلوقاً من مخلوقات الله به حياتهم، فكيف يفكرون في ذات الله عز وجل، أو يبحثون عن ذات الله عز وجل، أو يكيفون ذات الله وصفاته؟! فالواجب عليهم أن يثبتوا لله عز وجل كل ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله على وجه يليق به دون تكييف أو تمثيل أو تشبيه، ودون تحريف أو تعطيل أو تأويل، بل على حد قول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
فإذا كانت الروح مخلوق من مخلوقات الله، وهم عاجزون عن إدراك كنهه وكيفيته، مع أنه فيهم، فإن الإنسان يتألف من الروح والجسد، ومع ذلك لا يعرف شكل هذه الروح، ولا كيفيتها، ولا يستطيع أن يصف هذه الروح، فكيف يجهل الإنسان الروح ثم يفكر في ذات الله، ويسأل عن كيفية الله عز وجل وكيفية صفاته؟! لا شك أن هذا من الأمور المحرمة المبتدعة؛ ولهذا جاء رجل إلى مالك بن أنس رحمه الله وسأله عن كيفية الاستواء قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
لأننا لا نعرف الذات ولا نعرف كيفية الصفة، ولكن معنى الصفة معروف، فاستوى بمعنى: علا وارتفع، لكن كيف علا وارتفع؟ الله تعالى أعلم.
فقوله: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) يعني: بعضها يأتلف مع بعض، وبعضها يختلف مع بعض، ولا شك أن هذا مشاهد معاين، فإننا نجد النفوس يميل بعضها إلى بعض، ويتعارف مع بعض، ونجد بعضها يبتعد عن بعض وينفر عن بعض، وقد قيل: إنها كذلك أيضاً قبل أن تدخل في الأجساد.
وأما كونها تتعارف بعد الدخول في الأجساد فهذا موجود وحاصل، ومعلوم أن الجسد وحده لا يوصف بحياة ولا يوصف بعلم وإدراك إلا إذا كانت الروح فيه، ومع ذلك الأرواح بأجسادها يكون بينها التعارف والتناكر.
فالأرواح قبل أن تدخل في الأجساد وحين كانت منفصلة عن الأجساد تكون متعارفة ومتناكرة، كما قال هذا بعض أهل العلم أخذاً بهذا العموم، والله تعالى أعلم.(548/67)
تراجم رجال إسناد حديث (الأرواح جنود مجندة)
قوله: [حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء].
هارون بن زيد بن أبي الزرقاء صدوق، أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
أبوه ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا جعفر يعني ابن برقان].
جعفر بن برقان صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد يعني ابن الأصم].
يزيد بن الأصم ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه وقد مر ذكره.
وقوله: [يرفعه].
هذه الكلمة هي بمعنى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كلمة (يرفعه) أو (ينميه) كلها بمعنى أنه يضيفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يقال: إن كون الراوي عبر بهذه العبارة لعله لم يضبط الصيغة التي عبر بها أبو هريرة وهل قال: يقول أو سمعت أو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فإذا عبر بكلمة يرفعه، فإنه يدخل فيها هذا وهذا؛ لأن كونه يضيفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: مرفوع، وسواء قال: سمعت، أو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكله بمعنى.(548/68)
ميل كل إنسان إلى من يوافقه
ووجه الاستشهاد بهذا الحديث ودخوله تحت الترجمة هو من جهة تعارف الأرواح وتناكرها؛ لأن كل إنسان يميل إلى من يوافقه، فالأخيار يميلون إلى الأخيار، والأشرار يميلون إلى الأشرار.
وهذا التعارف بين الأرواح يمكن أن يكون بعد دخولها في الأجساد، ويمكن أن يكون ذلك التعارف لمجموع الأمرين الروح والجسد، فيكون الإحسان والإساءة لهما، ولا يقال: إن هذا من الجسد دون الروح، وهذا من الروح دون الجسد، فإنه بعد أن تدخل الروح في الجسد يكون التعارف حاصلاً لمجموع الأمرين؛ لأن الإنسان هو إنسان بمجموع الأمرين؛ لأنه جسد وروح وأما بدون روح فمعناه: أنه ليس فيه حياة.
والحديث لا يدل على أنه لا لوم على العبد في ميله وحبه لشخص وكراهيته لآخر؛ لأنه كما هو معلوم التعارف متفاوت بين الناس، ومعلوم أن الإنسان يميل إلى من يماثله، وإن مال إلى غير من يماثله فإنه يتضرر.(548/69)
الأسئلة(548/70)
الحكمة من جواز زواج المسلم بالكتابية دون العكس
السؤال
هل هناك حديث: أن المرأة على دين زوجها؟
الجواب
لا نعلم حديثاً في هذا، وما هو معنى أن تكون على دين زوجها؟ هل تكون على دينه من ناحية أنها نصرانية وهو مسلم؟ فالمسلم يتزوج النصرانية، فدينه الإسلام ودينها الكفر، وإن كان المقصود به من ناحية أخلاقه أو نحو ذلك فقد توافقه في الأخلاق؛ ولهذا كان من حكمة إباحة الشريعة التزوج من أهل الكتاب أنهم أهل دين، وأن ذلك قد يكون سبباً في إسلام المرأة؛ لأن الرجل له قوامة عليها، وهي تحت إمرته، فله تأثير عليها، وأما العكس فإنه لا يجوز، فلا يجوز للكافر أو الكتابي أن يتزوج المسلمة؛ لأن علوه عليها قد يكون سبباً في ردتها وخروجها عن دين الإسلام إلى غيره.(548/71)
حكم التحلق قبل الصلاة
السؤال
ألا يكون إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على تفرق الصحابة بقوله: (ما لي أراكم عزين؟) هو من أجل أنهم جلسوا جماعات متفرقة، وليس الإنكار من أجل أنهم كانوا جالسين قبل الصلاة، وكأنه يعني: لماذا لا تكونون حلقة واحدة وتجتمعون؟
الجواب
حتى لو كان التحلق قبل الصلاة، وحتى لو كانوا حلقة واحدة فإنهم بهذا سوف يتركون الصفوف الأول، وهذا ليس بمطلوب، بل عليهم أن يصفوا ويكملوا الصف الأول ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، فسواء كانوا حلقة أو حلقاً فالنتيجة واحدة فيما يتعلق بما كان قبل الصلاة.(548/72)
النهي عن الجلوس وسط الحلقة
السؤال
ما هو الضابط في النهي عن الجلوس في وسط الحلقة: هل هو ألا يرضى أحد أن يُجلس أمامه في الوسط؟
الجواب
أولاً: الحديث الذي ورد في هذا غير صحيح، وقد ذكر العلماء أن الجالس وسط الحلقة حصل منه الخطأ من جهتين: من جهة أنه تخطى الناس حتى وصل إلى وسط الحلقة، ومن جهة أنه يحجب من يجلس أمامه عن الذين هم جالسون معه يحدثهم ويسمعون منه، فالإساءة حاصلة من جهتين.(548/73)
حكم إقامة الصغار من الصف الأول
السؤال
في بعض المساجد يبكر الصغار إلى المسجد إلى الصف الأول ولله الحمد، وهناك أناس كبار السن يأتون ويبعدونهم ويجلسون مكانهم، فهل ذلك جائز؟
الجواب
الذي ينبغي ألا يكون الصغار خلف الإمام، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).(548/74)
حكم إقامة الرجل لآخر من مجلسه الذي عرف به
السؤال
إذا داوم طالب على مكان من مقاعد الدراسة، وعرف بهذا المكان، وجاء طالب آخر فجلس مكانه، فهل له أن يقيمه وأن يجلس مكانه؟
الجواب
نعم، فإذا كان كل واحد له مكان مخصص، وجاء شخص إلى مكان آخر وجلس فيه فإن لصاحب المكان أن يطلب منه أن يقوم؛ لأن كل واحد له مكان مخصص، فكونه يترك مكانه ويجلس في مكان غيره ليس له ذلك إلا بإذنه إذا كان يملك الإذن، أما إذا كان أيضاً لا يملك الإذن لأن المسئولين أرادوا أن يكون كل واحد في مكانه، ويعرفونه برقمه الذي يكتب على مقعده، أو على اللوح الذي أمامه، ويكون كل واحد يعرف باسمه ورقمه، فأيضاً ليس له أن يتبادل هو وإياه، بل يجلس كل واحد في مكانه.
وكذلك إذا لم يكن هناك أرقام، ولكن كل واحد عرف مكانه، أو يكون أيضاً الجلوس بالترتيب، وقد رتبوا وكل يعرف مكانه، وقد ذكروا في البيان على حسب ترتيبهم، فيجلسون على حسب هذا الترتيب، أما إذا كان الأمر ليس فيه إلزام وأن لكل أحد أن يجلس في أي مكان يريد، فلكل إنسان أن يجلس حيث يشاء.(548/75)
فضل من يجلس حيث ينتهي به المجلس
السؤال
جاء في الحديث عن الثلاثة الذين دخلوا المسجد فوجدوا الحلقة: أن أحدهم جلس حيث انتهى به المجلس، والآخر وجد فرجة فسدها، فقال صلى الله عليه وسلم: (أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه) فأيهما أفضل؟
الجواب
لا شك أن الذي جاء وسبق وحصل المكان القريب من الرسول صلى الله عليه وسلم أولى من غيره، ولذلك استحيا وجلس وراء الناس، فهذا حصل الخير والسبق، وذاك جاء ووجد فرجة فما كان ليتركها ويجلس في مكان آخر، وإنما سد تلك الفرجة.(548/76)
حكم التحلق قبل صلاة الجمعة في غير المسجد
السؤال
هل النهي عن التحلق قبل صلاة الجمعة خاص بالمسجد، أو يدخل فيه حتى لو كان الدرس في مكان آخر غير المسجد؟
الجواب
الذي يبدو أنه في المسجد، وأما في غير المسجد فلا بأس، فإذا جلسوا يتذاكرون قبل أن يأتوا المسجد فلا بأس بذلك.(548/77)
ترجمة خطبة الجمعة قبل الصلاة لمن لا يفهمون العربية
السؤال
جرت العادة في بلدنا أنه في يوم الجمعة يأتي أحد طلبة العلم ويفسر الخطبة قبل الصلاة، حيث إن معظم الناس لا يفهمون العربية، والخطبة تكون باللغة العربية، فهل يدخل هذا في النهي عن التحلق قبل الجمعة؟
الجواب
الخطبة هي للجميع، ومعلوم أن الناس يأتون إلى الجمعة شيئاً فشيئاً، وإذا فسرت الخطبة قبل الصلاة فمعناها أن الناس لم يدركوها، ولكن يمكن أن تفسر بعد الصلاة، وبذلك يكون الكل قد حضر، وكل من يريد الفائدة قد وجدها، وأما إذا أتي بها قبل الصلاة، فبعض الناس قد يأتون ولا يحصلون شيئاً من الفائدة.(548/78)
حكم إخراج كفارة قضاء رمضان مجتمعة
السؤال
من كان عليه قضاء من رمضان وكفارة فهل يخرج الكفارة كل يوم بيومه، أم يخرجها مجتمعة؟
الجواب
يمكن أن يخرجها مجتمعة، وليس بلازم أن يخرجها كل يوم بيومه، بل يمكن أن يخرجها دفعة واحدة، قبل أو بعد أو في أثنائها، كل ذلك سائغ.(548/79)
حكم صيام من لم يعلم بدخول رمضان إلا بعد الفجر
السؤال
كان الهلال قد طلع في بلدي وأنا لا أعرف، وقد أكلت وشربت، وفي النهار بلغني الخبر، فاستفتيت أحد أساتذتي، فأمرني بالصيام والإمساك في ذلك اليوم، وألا أقضي، فهل هذا صحيح؟ وإذا كان خطأ: فهل يجب علي القضاء؛ لأن المسألة حدثت قبل أربع سنوات؟
الجواب
إذا ثبت الهلال في بلد، وبعض الناس لم يعلم به إلا في الصباح وبعد طلوع الفجر، فإنه لا يعتبر صيامه؛ لأنه لا بد من النية قبل طلوع الفجر، وإن لم يبلغ الخبر إلا بعد أن حصل الأذان فعلى الإنسان أن يمسك ويقضي، ولا ينفعه صيامه ولو لم يأكل؛ لأنه لا بد أن ينوي قبل طلوع الفجر، وأن يكون بلغه دخول الشهر قبل طلوع الفجر، فإذا لم يبلغه إلا بعد طلوع الفجر، فإنه لا يعتبر صام ذلك اليوم، ولو لم يأكل حتى بلغه الخبر، بل يجب عليه الإمساك والقضاء لذلك اليوم الذي لم يصمه.
وبالنسبة لرمضان تكفيه النية في أول ليلة، هذا هو الأصل، الأصل أنه عند دخول الشهر ينوي أن يصوم كل يوم، ويعزم على صيام الشهر، وكما هو معلوم أنه عندما يتسحر فإنه من أجل صيام ذلك اليوم، لكن كون الإنسان يبيت النية أول الشهر هذا كافٍ؛ لأنه لو نام مثلاً ولم يتسحر فإن صيامه صحيح؛ لأن النية موجودة عنده من أول الشهر.(548/80)
حكم من أخر قضاء صوم من رمضان حتى جاء رمضان الآخر
السؤال
من أخر قضاء صوم من رمضان بدون عذر حتى جاء رمضان الآخر فهل يكتفي بالقضاء؟
الجواب
لا، بل عليه القضاء وأن يطعم عن كل يوم مسكيناً.(548/81)
حكم زكاة الذهب المتخذ للزينة
السؤال
ما حكم الزكاة في الذهب الذي اتخذته المرأة للباس؟
الجواب
تجب فيه الزكاة؛ لعموم الأدلة التي وردت في زكاة الذهب والفضة؛ ولوجود بعض الأحاديث الخاصة في هذا الأمر كما في قصة المرأة صاحبة المسكتين التي قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (تزكين هذا؟) فدل هذا على أن الذهب والفضة يزكيان مطلقاً، سواء كانت للزينة أو لغير الزينة، وسواء كانت نقوداً أو غير نقود.(548/82)
حكم العمل في شركات التأمين
السؤال
هل يجوز العمل في شركة التأمين؟
الجواب
هناك تأمين تعاوني وتأمين مبني على الجهالة والغرر، ومعلوم أن التأمين التعاوني جائز، ولا بأس به، ولا بأس بالعمل فيه، وأما التأمين المحرم فالعمل فيه عمل بشيء محرم، ومن التعاون على الإثم والعدوان، وهو مثل العمل في البنوك الربوية.(548/83)
حكم بيع ساعة بساعة مع دفع الفارق
السؤال
اشتريت ساعة وعليها ضمان، فأصابها عطل، فذهبت بها إلى وكيلها لإصلاحها، فسألني عن كرت الضمان، فأخبرته أنه قد ضاع، فأخذ الساعة وقال لي: ادفع مائة وخمسين ريالاً، وسأعطيك ساعة جديدة مثلها، فما الحكم؟
الجواب
كونه أخذ الساعة التي فيها عطل وأعطاه ساعة جديدة ويدفع الفرق ليس في هذا بأس، فكونه يبيع ساعة بساعة، وبينهما فرق لا بأس بذلك.(548/84)
شرح سنن أبي داود [549]
من الآداب التي ينبغي على المسلم مراعاتها: التبشير وعدم التنفير، وعدم المراء والجدال، وأن يكون كلامه مفهوماً لا غموض فيه، وأن يحمد الله عز وجل ويثني عليه في بداية الكلام، وأن ينزل الناس منازلهم على حسب مراتبهم ومكانتهم.(549/1)
كراهية المراء(549/2)
شرح حديث (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كراهية المراء.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة حدثنا بريد بن عبد الله عن جده أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال: بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: باب في كراهية المراء.
والمراء: هو الجدال، والجدال يؤدي إلى التشاحن، وإلى كلام لا ينبغي، وأما المجادلة بالتي هي أحسن للوصول إلى الحق، فإن هذا سائغ ولا بأس به.
وقد أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث أحداً في بعض أمره) أي: في أمر من الأمور من أجل الدعوة إلى الله عز وجل، أو من أجل القيام بعمل يقوم به بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يوصيه بهذه الوصية فيقول: (بشروا ولا تنفروا) أي: بشروا بهذا الدين، وبتعاليمه والخير، وبما فيه من الهدى، ولا تنفروا عن الدين.
وقوله: (ويسروا) من التيسير وعدم التعسير، وقوله: (ولا تعسروا)، التعسير هو ضد التيسير، فيكون الإنسان في أعماله ميسراً غير معسر.
وإيراد الحديث تحت الترجمة التي هي: كراهية المراء؛ لأن التبشير والدعوة إلى الله عز وجل تكون بالحكمة، والحرص على إيصال الخير، وبيان أن هذا هو الطريق الصحيح والمسلك الصحيح، وليس بالمراء والجدال الذي يؤدي إلى الخصام والتشاحن، ويؤدي إلى العداوة والبغضاء، فلعل إيراد الحديث تحت هذه الترجمة هو من هذه الناحية، وهو أن التبشير وعدم التنفير هو الذي ينبغي عند الدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة، وأما إذا كان هناك مراء وجدال ومخاصمة فإنه يترتب على ذلك الوحشة وتنافر القلوب.(549/3)
تراجم رجال إسناد حديث (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا أبو أسامة].
هو حماد بن أسامة، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو ممن وافقت كنيته اسم أبيه، وهذا نوع من أنواع علوم الحديث، وفائدة معرفته: ألا يظن التصحيف فيما لو ذكر بكنيته مع اسمه في بعض الأحيان، ثم ذكر بنسبته، أي: باسم أبيه، فلا يظن أن هناك تصحيفاً إذا قيل: حماد بن أسامة، أو قيل: حماد أبو أسامة، فكل ذلك صحيح، ولا فرق بين هذا وهذا؛ لأنه هو حماد بن أسامة، وهو حماد أبو أسامة، فإذا ذكر بكنيته مع اسمه، أو ذكر بنسبته إلى أبيه مع اسمه، فهو شخص واحد، وفائدة معرفة ذلك ألا يظن التصحيف؛ لأن من لا يعرفه إلا بـ ابن أسامة إذا جاء حماد أبو أسامة يظن أن (أبو) مصحفة عن (ابن)، فهذا نوع من أنواع علوم الحديث، وهو يأتي في كثير من الرواة الذين تطابق كناهم أسماء آبائهم.
[حدثنا بريد بن عبد الله].
هو بريد بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جده أبي بردة].
جده هو أبو بردة بن أبي موسى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي موسى].
هو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، واسمه عبد الله بن قيس، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(549/4)
شرح حديث السائب (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا يثنون عليّ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان قال: حدثني إبراهيم بن المهاجر عن مجاهد عن قائد السائب عن السائب رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا يثنون علي ويذكروني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أعلمكم -يعني: به- قلت: صدقت بأبي أنت وأمي كنت شريكي فنعم الشريك، كنت لا تداري ولا تماري)].
أورد أبو داود حديث السائب بن أبي السائب المخزومي، وكان شريكاً للنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وأنه جاء إليه وقد أسلم، فجعلوا يثنون على السائب، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلمكم به)؛ لأنه كان شريكه، فقال السائب: (صدقت بأبي أنت وأمي، كنت شريكي فنعم الشريك، كنت لا تماري ولا تداري)، وهذا وصف للرسول صلى الله عليه وسلم في معاملته إياه، فإنه كان شريكه قبل البعثة، فوصفه السائب بهذا الوصف: أنه نعم الشريك، وكان لا يماري، أي: لا يخاصم وينازع ويجادل، ولا يداري، أي: لا يخالف ولا يمانع، فهو سائغ، وأخلاقه حسنة، وليس من النوع الذي يخالف ويمانع مع شريكه، وإنما كان سهلاً وصاحب خلق كريم، وهذا يدل على حسن أخلاقه صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها، فكان قبل أن يبعثه الله عز وجل على الأخلاق الكريمة وعلى الصفات الحميدة، وهذا من فضل الله عز وجل، إذ جعل نبيه صلى الله عليه وسلم على هذه الصفة التي كانوا يعرفونه بها قبل أن يبعثه الله عز وجل، وما حصل منهم بعد بعثته من العداء له-أي: من الكفار- إنما كان حسداً، وإنما كان اتباعاً لما كان عليه الآباء والأجداد، وإلا فإنه ما كان معروفاً عندهم إلا بالصدق والأمانة، وبالصفات الحميدة، والأخلاق الكريمة، فصلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وقوله: [عن السائب قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجعلوا يثنون علي).
جاء في بعض الروايات أنه جاء عام الفتح، فجعلوا يثنون على السائب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلمكم به) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شريكاً له قبل البعثة، فقال السائب: (نعم بأبي أنت وأمي)، وهذا ليس قسماً، وإنما هو فداء، أي: أنت مفدي بأبي وأمي، أو أفديك بأبي وأمي، وهذه كلمة تقال كثيراً يقولها الصحابة وغير الصحابة، فإنهم كانوا يقولون في حق النبي صلى الله عليه وسلم: فداه أبي وأمي، أو بأبي هو وأمي، أي: هو مفدي، وهذه كلمة تقال في تعظيمه صلى الله عليه وسلم، واحترامه وتوقيره، فهو مفدي بالآباء والأمهات؛ لأن فضله أعظم من فضل الآباء والأمهات على الناس، وذلك أن الله عز وجل ساق على يديه أعظم نعمة، وأجل نعمة، وهي نعمة الإسلام، ومعلوم أن نعمة الإسلام هي أجل النعم، وأعظمها، والأبوان لهما حقوق على الولد، وقد قاما بتنشئته وتربيته، وتعبا عليه حتى بلغ مبلغ الرجال، ولكن ما قام به الأبوان ليس شيئاً بالنسبة إلى ما حل بالمسلم بسبب النبي صلى الله عليه وسلم من الهداية التي ساقها الله للمسلمين على يديه؛ ولهذا جاء في الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) فصلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ثم إن السائب ذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم التي عرفها عنه بسبب المخالطة والمشاركة؛ لأنه كان شريكه فقال له: (إنك نعم الشريك، كنت لا تماري ولا تداري).(549/5)
تراجم رجال إسناد حديث السائب (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا يثنون عليَّ)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم بن المهاجر].
إبراهيم بن المهاجر صدوق لين الحفظ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن مجاهد].
هو مجاهد بن جبر المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قائد السائب].
قائد السائب لا يعرف اسمه، ولا حاله.
[عن السائب].
هو السائب بن أبي السائب، وهو صحابي أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
والحديث في إسناده قائد السائب وهو الذي ذكر بلقبه، ولم يذكر باسمه، ولا يعرف حاله، والألباني صححه، ولعله باعتبار أنه جاء مجاهد أنه كان يرويه عن السائب نفسه، فالحديث جاء عن عن قائد السائب عن السائب، وجاء من طريق أخرى عن السائب نفسه، وإلا فإن الرجل الذي يروي عن السائب في هذه الطريق مبهم لا يعرف اسمه ولا حاله، وبعض أهل العلم تكلم فيه من جهة أن أكثر الأسانيد فيها قائد السائب عن السائب نفسه، والألباني صححه، ولعله من أجل أن مجاهداً رواه عن السائب نفسه.
وقال الحافظ في ترجمة السائب في التقريب: وفي إسناد الحديث اضطراب.
أي: من ناحية أنه جاء بطرق معتددة، بعضها فيه ذكر مجاهد عن هذا، وبعضها السائب عن كذا، وهناك أيضاً ألفاظ أخرى، والحافظ في البلوغ ذكر من رواه، ولم يتكلم عليه بشيء، وإنما قال: رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة.(549/6)
حكم قول بأبي وأمي لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم
وقبر الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقال له: بأبي وأمي؛ لأن القبر مكان، والمقبور هو الذي يقال له: بأبي وأمي، وليس القبر.(549/7)
الهدي في الكلام(549/8)
شرح حديث (كان رسول الله إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الهدي في الكلام.
حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني حدثنا محمد -يعني ابن سلمة - عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن عمر بن عبد العزيز عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: باب الهدي في الكلام، أي: الذي ينبغي أن يكون عليه الإنسان في كلامه، في صفة كلامه وهيئته، هذا هو المقصود بالترجمة.
وقد أورد حديث عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء)، وهذا بيان للهيئة التي يكون عليها حين الكلام، فهيئته وهديه أنه كان حين يتكلم يكثر أن يرفع رأسه إلى السماء، ولكن الحديث فيه ضعف من جهة ابن إسحاق، فقد رواه بالعنعنة، وهو مدلس، وإذا روى بالعنعنة فإنه لا يعول على روايته، وهو لم يعب عليه إلا التدليس، فهو إذا ثبت تصريحه بالسماع والتحديث فإنه يكون حديثه حسناً لذاته، ولكن إذا روى بالعنعنة فإن ذلك علة قادحة في روايته.(549/9)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء)
قوله: [حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني].
عبد العزيز بن يحيى الحراني صدوق ربما وهم، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا محمد يعني ابن سلمة].
هو محمد بن سلمة الحراني، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن، وهذا في طبقة شيوخ شيوخ أبي داود، فإذا جاء محمد بن سلمة في طبقة شيوخ شيوخ أبي داود فالمراد به الحراني الباهلي، وإذا جاء في طبقة شيوخه محمد بن سلمة فالمراد به المرادي المصري، وهذا في طبقة شيوخ شيوخه، فهو الباهلي الحراني.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يعقوب بن عتبة].
يعقوب بن عتبة ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عمر بن عبد العزيز].
هو عمر بن عبد العزيز الخليفة المشهور، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يوسف بن عبد الله بن سلام].
يوسف بن عبد الله بن سلام اختلف في صحبته، فقيل: إنه صحابي صغير، وقيل: إنه ثقة، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه هو عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(549/10)
شرح حديث (كان في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتيل أو ترسيل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء حدثنا محمد بن بشر عن مسعر قال: سمعت شيخاً في المسجد يقول: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: (كان في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتيل أو ترسيل)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (كان في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ترتيل أو ترسيل) والترسيل: هو الترتيل، أي: كان كلامه كان يخرج مرتلاً، لا بسرعة، ولا ببطء شديد، وإنما كان كلامه ترتيلاً أو ترسيلاً، وهما بمعنى واحد، وكلمة (أو) هنا هي للشك، هل قال: ترتيل أو قال: ترسيل، ومعناهما واحد، والمقصود: أن كلامه كان يخرج مرتلاً ليس بسرعة، بحيث يفوت منه شيء، وإنما هو كلام مفهوم ويتمكن من تلقيه وتحمله وأخذه؛ لأنه كان عليه الصلاة والسلام يأتي به بهذه الهيئة وبهذه الصفة.(549/11)
تراجم رجال إسناد حديث (كان في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتيل أو ترسيل)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن بشر].
هو محمد بن بشر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسعر].
مسعر بن كدام ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت شيخاً في المسجد].
هذا الشيخ مبهم.
[يقول: سمعت جابر بن عبد الله].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه، وهو صحابي جليل، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث لا شك أن معناه صحيح، وهذه هي صفة كلامه وتكلمه صلى الله عليه وسلم، وأنه كان مرتلاً، ولكن الحديث فيه هذا الرجل المبهم الذي لم يسم، والألباني صحح الحديث، ولا أدري هل له شواهد أم لا، وأما من حيث المعنى فهو صحيح؛ لأنه جاء في الأحاديث ما يدل على أن هذا هو طريقة كلامه وقراءته صلى الله عليه وسلم.(549/12)
شرح حديث (كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاماً فصلاً يفهمه كل من سمعه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان وأبو بكر ابنا أبي شيبة قالا: حدثنا وكيع عن سفيان عن أسامة عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاماً فصلاً يفهمه كل من سمعه)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها الذي تبين فيه صفة كلامه صلى الله عليه وسلم، وأنه كان كلاماً فصلاً، لا يدخل بعضه في بعض، وأنما يفهمه كل من سمعه؛ لوضوحه وجلائه، وتفصيله إياه، فكان كلامه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه مفصلاً، أي: مبيناً واضحاً جلياً، يفهمه كل من سمعه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهذا الحديث هو بمعنى ما تقدم في الحديث السابق أنه كان في كلامه ترتيل أو ترسيل.(549/13)
تراجم رجال إسناد حديث (كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاماً فصلاً يفهمه كل من سمعه)
قوله: [حدثنا عثمان وأبو بكر ابنا أبي شيبة].
عثمان مر ذكره، وأبو بكر هو عبد الله بن محمد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[قالا: حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو الثوري، وقد مر ذكره، وإذا جاء وكيع يروي عن سفيان غير منسوب، فإن المراد به سفيان الثوري.
[عن أسامة].
هو أسامة بن زيد الليثي، وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والفقهاء السبعة في عصر التابعين هم: عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وخارجة بن زيد بن ثابت وسليمان بن يسار وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، هؤلاء الستة متفق على عدهم من الفقهاء السبعة، والسابع فيه ثلاثة أقوال: فقيل: هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وقيل: هو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وقيل: هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، فستة متفق على عدهم في الفقهاء السبعة في عصر التابعين في المدينة، والسابع فيه خلاف على ثلاثة أقوال، وعروة بن الزبير هو أحد الستة المتفق على عدهم في الفقهاء السبعة، وقد ذكرهم ابن القيم في أول كتابه إعلام الموقعين، وجعل السابع منهم أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وذكر بيتين من الشعر يجمعهما فقال: إذا قيل من في العلم سبعة أبحر روايتهم ليست عن العلم خارجة فقل هم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجة [عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(549/14)
شرح حديث (كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو توبة قال: زعم الوليد عن الأوزاعي عن قرة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم) أي: أنه كاليد الجذماء، أي: المقطوعة أو التي أصابها جذام، فلا فائدة فيها، ولا يستفيد صاحبها منها، وهذا يتعلق بالهدي في الكلام، أي: أنه يبدأ فيه بحمد الله عز وجل، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبدأ خطبه بالحمد لله عز وجل، والفاتحة بدأت بالحمد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وبعض سور القرآن بدأت بالحمد لله.
والحديث اختلف فيه، فمنهم من حسنه، ومنهم من ضعفه، والألباني ممن ضعفه.(549/15)
تراجم رجال إسناد حديث (كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم)
قوله: [حدثنا أبو توبة].
هو أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[قال: زعم الوليد].
(زعم) هنا بمعنى الخبر المحقق؛ لأن (زعم) تأتي في الخبر المحقق، وتأتي للذم، فإذا قيل: زعم فلان كذا وكذا في باب الذم، فالمراد أنه من الزعم الباطل، وهنا المقصود بها الخبر المحقق؛ لأنها تأتي في أحاديث وتأتي في أسانيد الحديث بهذا المعنى الذي هو الخبر المحقق.
والوليد بن مسلم الدمشقي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو أبو عمرو الأوزاعي، فقيه الشام ومحدثها، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن قرة].
هو قرة بن عبد الرحمن، وهو صدوق له مناكير، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.
[عن الزهري عن أبي سلمة].
الزهري قد مر ذكره، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو أحد الثلاثة الذين اختلف في عدهم من الفقهاء السبعة.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً.
والذين تكلموا في هذا الحديث تكلموا فيه من جهة قرة بن عبد الرحمن.(549/16)
ورود حديث (كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم) عن الزهري مرسلاً
[قال أبو داود: رواه يونس وعقيل وشعيب وسعيد بن عبد العزيز عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً].
يعني: أن هؤلاء خالفوا قرة وقرة خالفهم، فهؤلاء -وهم ثقات أثبات- خالفوه فرووه مرسلاً، وأما هو فرواه متصلاً، أي: أنه ذكر أبا سلمة وأبا هريرة بين الزهري وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما هؤلاء فرروا أن الزهري أضافه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والزهري من صغار التابعين، فهؤلاء رووه مرسلاً.
وقرة رواه متصلاً، وهو صدوق له مناكير، وأولئك ثقات.(549/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (كل كلام لايبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم) عن الزهري مرسلاً
قوله: [رواه يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي، وهو من المكثرين عن الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعقيل].
هو عقيل بن خالد بن عقيل المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وشعيب].
هو شعيب بن أبي حمزة الحمصي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وسعيد بن عبد العزيز].
هو سعيد بن عبد العزيز الدمشقي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.(549/18)
الهدي في الخطبة(549/19)
شرح حديث (كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الخطبة.
حدثنا مسدد وموسى بن إسماعيل قالا: حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في الخطبة، أي: الهدي في الخطبة، وما ينبغي أن يكون فيها، وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء)، والمقصود بالتشهد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، أو أشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن الخطب لابد فيها من ذكر الشهادتين: الشهادة لله بالإلوهية والوحدانية، ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وكذلك أيضاً لابد أن تبدأ بالحمد؛ فإن هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان يبدأ خطبه بالحمد.(549/20)
تراجم رجال إسناد حديث (كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء)
قوله: [حدثنا مسدد وموسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قالا: حدثنا عبد الواحد بن زياد].
عبد الواحد بن زياد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عاصم بن كليب].
عاصم بن كليب صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السن.
[عن أبيه].
أبوه هو كليب بن شهاب، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري في رفع اليدين وأصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة رضي الله عنه قد مر ذكره.(549/21)
تنزيل الناس منازلهم(549/22)
شرح حديث (أنزلوا الناس منازلهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في تنزيل الناس منازلهم.
حدثنا يحيى بن إسماعيل وابن أبي خلف أن يحيى بن اليمان أخبرهم عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب أن عائشة رضي الله عنها مر بها سائل فأعطته كسرة، ومر بها رجل عليه ثياب وهيئة فأقعدته فأكل، فقيل لها في ذلك، فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنزلوا الناس منازلهم).
قال أبو داود: وحديث يحيى مختصر.
قال أبو داود: ميمون لم يدرك عائشة].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: تنزيل الناس منازلهم، أي: أن كلاً ينزل منزلته التي تناسبه، فليس الناس كلهم على حد سواء، فمن الناس من يكون له شأن ومنزلة، سواء في العلم أو في غيره، فينزل المنزلة التي تليق به، وليس هو مثل سائر الناس، فكل يعامل بما يستحقه، وينزل المنزلة التي يستحقها.
وقد أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أنه جاءها رجل سائل فأعطته كسرة، وجاء آخر عليه هيئة جميلة فأقعدته وأكل، فقيل لها في ذلك، أي: كيف ميزت بين هذا وهذا؟ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنزلوا الناس منازلهم)، فهي أنزلت كلاً منزلته، لكن هذا الحديث غير صحيح، فلم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيه ميمون بن أبي شبيب وروايته عن عائشة مرسلة؛ كما قال أبو داود: ميمون لم يدرك عائشة.
وهذا معناه: أن روايته عنها مرسلة، ففي الحديث انقطاع، وقد قيل فيه: هو معروف بالإرسال، والحديث أيضاً في إسناده حبيب بن أبي ثابت وهو كثير التدليس والإرسال، وقد روى بالعنعنة، فالحديث فيه علل متعددة.
والإمام مسلم ذكر هذا الحديث في كتابه في المقدمة معلقاً فقال: وذكر عن عائشة أنها قالت: (أمرنا رسول الله أن ننزل الناس منازلهم).
ولم يذكره مسنداً، وإنما ذكره معلقاً بهذا الصيغة (ذكر)، ولكن معناه صحيح؛ إذ لا شك أن الناس ينزلون منازلهم، وليسوا كلهم بمنزلة واحدة، وهذا لا إشكال فيه.(549/23)
تراجم رجال إسناد حديث (أنزلوا الناس منازلهم)
قوله: [حدثنا يحيى بن إسماعيل].
يحيى بن إسماعيل مقبول، أخرج له أبو داود.
[وابن أبي خلف].
هو محمد بن أحمد، وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود.
[أن يحيى بن اليمان أخبرهم].
يحيى بن اليمان صدوق يخطئ كثيراً، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سفيان].
هو الثوري وقد مر ذكره.
[عن حبيب بن أبي ثابت].
حبيب بن أبي ثابت ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو كثير التدليس والإرسال.
[عن ميمون بن أبي شبيب].
ميمون بن أبي شبيب صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[أن عائشة].
عائشة رضي الله عنها قد مر ذكرها.
[قال أبو داود: وحديث يحيى مختصر].
يعني: يحيى الذي هو الشيخ الأول.(549/24)
شرح حديث (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصواف حدثنا عبد الله بن حمران أخبرنا عوف بن أبي جميلة عن زياد بن مخراق عن أبي كنانة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)].
أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم)، يعني: أنه إذا كان كبيراً يكرم ويحترم ويوقر لكبره، وقوله: (ذي الشيبة المسلم) أي: الذي قد شاب وصار من الكبار الذين تقدمت بهم السن، فإنه يكرم لسنه ولشيبته، (وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه)، الغالي فيه: هو المتجاوز للحد، ويكون ذلك بالتكلف والتنطع، أن يتكلف في قراءته أو يتكلف في معانيه، وكذلك الجافي عنه الذي يهمله ويهجره ولا يبالي، فالغالي والجافي ضدان، الغالي في جانب الإفراط والجافي في جانب التفريط، فهذا مفرِط وهذا مفرَّط، فالغالي مفرط؛ لأنه متجاوز للحد، والجافي مفرَّط؛ لأنه متساهل ومتهاون وغافل وغير مقبل عليه، وغير مشتغل بقراءته.
وقوله: (وإكرام ذي السلطان المقسط) المقسط هو العادل؛ لأن الإقساط هو العدل، وأما القسط فهو الجور، وهما ضدان متقابلان: القاسط والمقسط، فالقاسط مذموم، والمقسط محمود، قال الله عز وجل: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15] فالقاسطون هم الجائرون الظالمون، ويقابلهم المقسطون وهم العادلون.(549/25)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم)
قوله: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصواف].
إسحاق بن إبراهيم الصواف ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود.
[حدثنا عبد الله بن حمران].
عبد الله بن حمران صدوق يخطئ قليلاً، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي.
[أخبرنا عوف بن أبي جميلة].
هو عوف بن أبي جميلة الأعرابي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زياد بن مخراق].
زياد بن مخراق ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود.
[عن أبي كنانة].
هو أبو كنانة القرشي، وهو مجهول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود.
[عن أبي موسى الأشعري].
أبو موسى الأشعري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مر ذكره.
والحديث فيه هذا الرجل المجهول، وقد حسنه الألباني، ولا أدري ما وجه تحسينه، ولعله جاء من طريق غير هذا الطريق، أما هذا الطريق ففيه هذا المجهول، وفي ترجمته في تهذيب التهذيب ما زاد على أن قال: قال عنه ابن القطان: مجهول، ولم يذكر أقوالاً أخرى فيه.(549/26)
الأسئلة(549/27)
كيفية التكلف في قراءة القرآن
السؤال
كيف يكون التكلف في قراءة القرآن؟
الجواب
التكلف في قراءة القرآن يكون بزيادة الحد في تجويده وفي تمطيطه، وأن يأتي به الإنسان على وجه متكلف.(549/28)
بيان متى يقتصر في البسملة على قول: باسم الله ومتى تتم
السؤال
هل يقتصر في مسألة البسملة على باسم الله أو بسم الله الرحمن الرحيم؟
الجواب
فيه تفصيل: ففي المواضع التي ورد فيها باسم الله، مثل عند الذبح، فإنه لا يؤتى إلا بهذا المقدار، وأما المواضع التي ورد فيها بسم الله الرحمن الرحيم فإنه يؤتى بها، وهناك مواضع محتملة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (يا غلام! سم الله) فإنها محتملة لأن يقول: باسم الله، وأن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، وأما الأشياء التي وردت مثل: باسم الله والله أكبر، فيما يتعلق بالذبح، فإنه لا يؤتى إلا بهذا المقدار، ولا تكمل البسملة، فلا يقال: بسم الله الرحمن الرحيم، والله أكبر.
وعند الأكل والشرب إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم فلا بأس بذلك، وإن قال: بسم الله فيكفي.(549/29)
من حفظ القرآن بلا فهم هل يعد جافياً للقرآن؟
السؤال
الذي يحفظ القرآن دون معرفة لتفسيره هل يعتبر مفرطاً وجافياً فيه؟
الجواب
لا يعتبر مفرطاً ولا جافياً، ولكن عليه أن يعتني بمعرفة المعاني، ويمكنه أن يدرك شيئاً من ذلك بأن يكون عنده القرآن مع تفسير الشيخ ابن سعدي رحمه الله، فإنه مطبوع في مجلد، القرآن في وسط الصفحة، والتفسير في الحواشي، وعبارات الشيخ ابن سعدي رحمة الله عليه عبارات واضحة جلية سلسة، والإنسان إذا كان معه المصحف الذي في حواشيه التفسير فإنه يرجع إليه ويقف عنده ويجد الفائدة بنفس الصفحة التي يقرأ فيها، وهذا سهل ميسور بحمد الله لمن يريد الفائدة، وقد أنعم الله عليه بحفظ القرآن، فيشكر الله عز وجل على هذه النعمة، ويحافظ عليها، وفي نفس الوقت أيضاً يحرص على أن يتفقه، وأن يتدبر القرآن، وذلك بالرجوع إلى كلام المفسرين المعتبرين في التفسير، ومن أيسرها وأوضحها وأسهلها هذا التفسير الذي أشرت إليه، الذي يفهمه كل أحد: العوام والخواص؛ لأنه عبارات سلسة واضحة جلية، ليس فيها تعقيد ولا غموض، ولا ذكر أقوال، ولا ذكر اختلافات، ولا قال فلان كذا، ولا قال فلان كذا، وإنما يذكر التفسير بعبارات واضحة جلية.(549/30)
حكم تفدية أحد بالأب والأم غير النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل يفدى بالأب والأم أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
لا أعرف هذا إلا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يأتي ذكر تفديته بالأب والأم، ومعلوم أن الأب والأم لهما حق عظيم على الإنسان، وهما اللذان كانا سبب وجوده، وقاما بالتعب عليه، والسهر عليه، وتربيته وتنشئته، فليس أحد حصل منه الإحسان مثل إحسانهما إليه حتى بلغ مبلغ الرجال، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاء الحديث أن محبته يجب أن تفوق محبة الوالدين، ومحبة الناس أجمعين، ولا يقال هذا في حق أحد من الناس، فالإنسان يحترم والديه ويوقرهما، ولا أعلم شيئاً في التفدية بهما إلا في حق الرسول صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(549/31)
من فضائل عبد الله بن سلام رضي الله عنه
السؤال
هل عبد الله بن سلام رضي الله عنه من المؤلفة قلوبهم؟
الجواب
عبد الله بن سلام رضي الله عنه ممن تقدم إسلامه، وممن أقدم على الإسلام برغبة منه، وكان ذلك من أول ما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.(549/32)
حكم التهنئة بحلول شهر رمضان
السؤال
ما حكم التهنئة بحلول شهر رمضان؟
الجواب
لا أعلم بها بأساً، وهي مثل التهنئة بالعيد، والصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا لقي بعضهم بعضاً في العيد قالوا: تقبل الله منا ومنكم، ولا شك أن شهر رمضان مناسبة عظيمة يفرح بها، ويسر بها، ويحرص على اغتنامها؛ لأنها موسم من مواسم الآخرة، والناس يفرحون بهذا الموسم، ويدعو بعضهم لبعض، فينبغي أن تكون التهنئة بالدعاء، والكل يدعو بأن يوفق للصيام والقيام، وأن يأتي بما هو مشروع، سواء كان فرضاً كالصيام أو مستحباً كالقيام، فيدعو الكل بأن يوفق الله عز وجل الجميع لصيامه وقيامه على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى.(549/33)
حكم التهنئة بقول: كل عام وأنتم بخير
السؤال
مما اعتاد عليه الناس كلمة: كل عام وأنتم بخير، فما حكمها؟
الجواب
الدعاء أولى من أن يقال هذه الكلمة، فيقول: أرجو أن نكون كل عام ونحن بخير، فلو قال هذا فلا بأس، وأما قول: كل عام وأنتم بخير فهي كلمة ليس فيها دعاء والدعاء أولى.(549/34)
حكم ختم الخطابات بقول: ولك خالص الشكر ونحوها
السؤال
هناك ألفاظ تختم بها الخطابات والرسائل، كلفظ: ولك خالص الشكر، أو ولك خالص التحيات، فهل يجوز ذلك؟
الجواب
الذي ينبغي أن تختم الخطابات والرسائل بالسلام، فيقال: والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أو والسلام عليكم، هذا هو الذي ينبغي، وهذه هي التحية، وأما إذا قال: لك تحيتي، فتحيتي هي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لكن كونه يأتي بنص التحية أولى من أنه يأتي بلفظ التحية، أو لك تحيتي، فيقول: وعليكم السلام أو والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والكناية عن التحية لا أعلم شيئاً يمنعها، ولكن أن يأتي بالتحية نفسها، وهي نفس السلام الذي هو دعاء، هذا أولى من أن يأتي بهذا الخبر.
وأما قول: التحيات المباركات الطيبات فلا يجوز؛ لأن هذه الصيغة إنما جاءت في حق الله سبحانه وتعالى.(549/35)
هل زوجات أبي الزوجة محارم؟
السؤال
والد أمي متزوج من أربع، فهل أبي محرم لزوجات جدي الأربع أم لأم أمي فقط؟
الجواب
أبوك محرم لأم زوجته فقط، أما النساء الأخريات فهن أجنبيات منه؛ ولهذا يجوز أن يجمع بين ابنة الرجل وبين زوجته المطلقة أو المتوفى عنها؛ لأن زوجة والد امرأته أجنبية منه.(549/36)
رفع السبابة في التشهد
السؤال
هل ورد شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في رفع السبابة في التشهد عند المرور بلفظ الجلالة الله؟
الجواب
ورد ذلك عند التشهد، ولكنه جاء أنه يدعو بها، ومعلوم أن الدعاء يكون عندما يقول الإنسان: اللهم كذا، اللهم كذا، هذا هو الدعاء.(549/37)
حكم غسل اليدين بعد القيام من النوم قبل غمسهما في الإناء
السؤال
قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في وضوئه حتى يغسلها ثلاثاً، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) هل الأمر بغسل اليدين ثلاثاً للوجوب أم للندب؟
الجواب
الأمر للوجوب، ولهذا قال: (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)؛ لأنه قد تقع يده في مكان فيه نجاسة.(549/38)
فضل الصلاة في المسجد النبوي
السؤال
أتيت المدينة النبوية مسافراً، فهل تسقط عني صلاة النوافل ما دمت مسافراً وأنا أريد أن أحصل على فضل الصلاة في المسجد النبوي؟
الجواب
إذا كان الإنسان في المسجد النبوي فعليه أن يصلي الفرض، ويصلي ما أمكنه من النوافل؛ لأن هذه فرصة وغنيمة للإنسان؛ لأن الصلاة فيه بألف صلاة، وهو لا يتمكن من تحصيل هذه الغنيمة، فكونه يصلي ما أمكنه من النوافل، ليحصل بكل صلاة ألف صلاة ذلك خير كبير.(549/39)
حكم نقل زكاة الفطر من بلد إلى بلد
السؤال
هل يجوز أن تنقل صدقة الفطر من بلد إلى بلد آخر؟
الجواب
الأصل أن تكون في البلد الذي فيه الإنسان، وكل يخرج زكاته في بلده الذي هو فيه، سواء كان المكان الذي هو فيه بلده الأصلي أو أنه مسافر فيه، ولكن إذا وكل أحداً بحيث يقوم بدفع تلك الزكاة طعاماً لوقتها، فذلك سائغ، ولكن الأولى هو ما ذكرته أولاً أن كل إنسان يخرج زكاة بدنه -التي هي زكاة الفطر- في البلد الذي جاء الفطر وهو فيه، أو حصل الفطر -أي: انتهاء الشهر- وهو فيه.(549/40)
حكم قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة
السؤال
ما حكم قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة؟
الجواب
يستحب أن يقرأها هي و ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) والمعوذات.(549/41)
حكم العمرة عن الوالدين وهما حيان
السؤال
هل تجوز العمرة عن الوالدين وهم أحياء؟
الجواب
الأحياء لا يحج عنهم ولا يعتمر إلا في حالتين اثنتين: إحداهما: أن يكون المحجوج والمعتمر عنه هرماً كبيراً، لا يستطيع السفر والركوب، والثانية: أن يكون مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه، فإذا لم يكن من هذين الصنفين، فإنه لا يحج عنه ولا يعتمر ما دام على قيد الحياة، أما المتوفى فإنه يحج ويعتمر عنه مطلقاً.(549/42)
حكم العمرة في الشهر أكثر من مرة
السؤال
هل تجوز العمرة في الشهر أكثر من مرة؟
الجواب
لا أعلم شيئاً يمنع من ذلك، والحديث جاء في المتابعة بين العمرة والحج، وأن المتابعة تنفي الذنوب، وكون العمرة تحصل في شهر واحد مكررة ليس هناك مانع يمنع منها، ولا نعلم شيئاً يمنع منها، والأصل هو الجواز.(549/43)
حكم المرور بين يدي المصلي في المسجد النبوي
السؤال
يكثر الزحام في المسجد النبوي، ويصعب التحرز من المرور بين يدي المصلي فما الحكم؟
الجواب
من يصبر ولا يستعجل يتمكن من عدم المرور، وذلك أن الزحام ينفض في مدة لا تزيد عن عشر دقائق، ولكن بعض الناس يستعجل، فالأولى للإنسان أن يتريث، إلا إذا كان مضطراً لا يستطيع أن يصبر؛ كما لو كان سيذهب لقضاء الحاجة، ولو بقي لحصل ما لا تحمد عاقبته، فإنه على حسب حاله، ويكون معذوراً؛ لقوله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].(549/44)
حكم إعطاء الزكاة لمن لا يصلي
السؤال
إذا كان في القرية فقراء أو مساكين غير ملتزمين بالدين، ولا يصلون ولا يصومون، وفيها طلاب علم شرعي يلتزمون بالدين، فأيهم أولى بالزكاة؟
الجواب
إذا كان طلاب العلم فقراء، فلا شك أنهم هم الأولى، بل هذا هو المتعين؛ لأن الذي لا يصلي لا يصح أن يعطى من الزكاة.(549/45)
حكم شرب الدخان
السؤال
أريد قولاً فصلاً في الدخان أهو حرام أم مكروه؟
الجواب
الدخان حرام، والدخان كما هو معلوم إنما حصل في الأزمنة المتأخرة، وقد مضت قرون طويلة ولم يوجد فيها الدخان، والشريعة كما هو معلوم مستوعبة لكل ما يجد ويحصل من النوازل، وكذلك الأمور التي لا وجود لها في زمن التشريع هي مستوعبة لها، وذلك بعموماتها، وبقياسها، وقواعدها، فإنها تستوعب مثل هذه الأشياء التي تنزل وتقع ولم يكن لها وجود من قبل، ومن المعلوم أن الدخان فيه أدلة متعددة تدل على تحريمه منها: أولاً: أنه من الخبائث وليس من الطيبات، والله عز وجل ذكر من صفات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه يحل الطيبات ويحرم الخبائث، فإذا كان الدخان من الخبائث فهو محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخبائث.
ثانياً: الله عز وجل نهى عن قتل النفس فقال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، ومعلوم أن الدخان سبب في قتل النفس، وأنه يجلب الأمراض التي تؤدي إلى الهلاك، وتؤدي إلى الوفاة، ولذا فهو يدخل تحت هذا العموم.
ثالثاً: الشريعة جاءت بتحريم إضاعة المال، والنهي عن إضاعة المال، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان ينهى عن ثلاث: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) ولا شك أن بذل المال في الدخان إضاعة له؛ لأنه إضاعة في غير طائل، بل إضاعة في مضرة، ويمكن أن نذكر مثلاً يوضح مدى كونه من أشد ما يكون إضاعة للمال: لو أنك رأيت إنساناً معه نقود يمزقها ويرميها في الهواء، ماذا تقول له؟ وعمله هذا كيف يوصف؟ يوصف بأنه عمل سيئ، بل يتهم في عقله، ولكن هذا أهون من الذي يصرف الأموال في الدخان؛ لأن هذا ضيع نقوده فقط، وجسده لم يضره شيء، فإذا اشترى بالنقود دخاناً واستعمله، فمعنى ذلك: أنه أضاعه في مضرة، إذاً: الذي مزقها أحسن حالاً من هذا، وهذا أسوأ حالاً من ذاك الذي يمزق ولا يشتري بها دخاناً؛ لأن الذي مزقها وأتلفها جسمه لم يضره شيء من تمزيقها، وأما الذي اشترى بها دخاناً، فإنه أتلفها في أمر يعود على جسمه بالمضرة، فالأمر واضح جلي.
رابعاً: مما هو معلوم أن الدخان يسبب الأمراض؛ لأن الدخان يذهب إلى الجوف، والجهات التي يكون فيها دخان كيف يكون شكلها؟ فالمطابخ التي يطبخون فيها بالحطب، أو يطبخون في أشياء يظهر منها دخان تظهر مسودة، وملوثة غير نظيفة، وقذرة بسبب هذا الدخان، وإذا كانت الجدران وهي صلبة ويابسة يعلق فيها الدخان، فكيف بجوف الإنسان الذي فيه رطوبة؟! فمن باب أولى أن يعلق فيه الدخان، فيكون الإنسان قد جلب على نفسه المضرة من جهات كثيرة.
وبالمناسبة من ابتلي بشرب الدخان فإن شهر رمضان مناسبة عظيمة له للتخلص من الدخان، وذلك بأن يعقد العزم على أن يتركه وأن يعمر نهاره بالصيام، ويسلم من الدخان فيه، وفي الليل يأكل مما أحل الله له، ويتقرب إلى الله عز وجل بالطاعات، ويصلي مع الناس، ويصبر عن الدخان، فمن فعل ذلك فإنه تمر عليه أيام وقد ترك الدخان، فمن ابتلي بالدخان فليحرص على التخلص منه في هذه المناسبة العظيمة، وذلك بأن يعقد العزم ويصمم، ويكون شجاعاً، وقوياً على نفسه الأمارة بالسوء، بحيث يجاهدها ويتخلص من هذا البلاء الذي يضره في ماله، وفي بدنه، ويؤذي الناس الآخرين برائحته الكريهة، وهذه أيضاً من جملة المضار التي فيه غير ما ذكرته سابقاً، وهي أنه يؤذي الناس.(549/46)
حكم قطرة العين للصائم
السؤال
قطرة العين هل تفطر؟
الجواب
قطرة العين لا تفطر، ولكنه إذا وجد طعمها في حلقه، فالذي ينبغي له أن يقضي ذلك اليوم، ولكن على الإنسان ألا يقطر في النهار، وإنما يقطر في الليل.(549/47)
حكم توزيع صيام القضاء عن الغير على أكثر من واحد
السؤال
أمي توفيت وعليها قضاء رمضان، وعندها خمسة أبناء، وكل منهم يريد القضاء عنها، فهل كل واحد يصوم بعض الأيام؟
الجواب
يجوز أن يصوم عنها شخص واحد، ويجوز أيضاً أن يقوم عدد بهذا الصيام على سبيل التوزيع بينهم، وهذا إنما هو في شهر رمضان أو في النذر أو في الأشياء الواجبة اللازمة على الإنسان، سواء بحكم الشرع كرمضان، أو بالنذر الذي أوجبه الإنسان على نفسه.(549/48)
حكم البخور للصائم
السؤال
سألتني امرأة: أنها كانت صائمة قضاءً لرمضان، وقد بخرت البيت بالبخور، فقلت لها: إن العلماء يرون أن البخور من المفطرات، ويلزمك إعادة ذلك اليوم، ويمكن أن تستمري في الصوم على أن يكون نفلاً، فهل كلامي صحيح؟
الجواب
أولاً: البخور لا بأس باستعماله بشرط ألا يستنشقه الإنسان، وألا ينفذ إلى جوف الإنسان عن طريق أنفه، وعن طريق استنشاقه، وأما إذا كان مجرد أنها شمته ولم تستنشقه فهذا لا يؤثر، ولكنها إن استنشقته ووصل إلى جوفها فإنه يحصل به الإفطار، أما مجرد كونه بخر البيت، وشمت الرائحة، فهذا لا يؤثر؛ لأنه لم يدخل جرم مثلما يدخل الدخان الذي تستنشقه، ويذهب إلى جوفها.(549/49)
حكم القول بأن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أسطورة
السؤال
هل يصح أن يقال عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بأنها أسطورة، فيقول القائل: وغدت سيرته أسطورة يتناقلها رواة عن رواة؟
الجواب
سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لا يقال عنها: أسطورة؛ لأن الأسطورة في الغالب ذم، وليست مدحاً، كقول: أساطير الأولين، فمثل هذا التعبير ليس بمحمود، فلا يصلح ولا يليق أن توصف سيرة الرسول بأنها أسطورة.(549/50)
حكم دخول الحائض المسجد
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تدخل المسجد وهي حائض؟
الجواب
لا يجوز للمرأة أن تدخل المسجد وهي حائض؛ ولهذا جاء في الحديث أن النساء يخرجن للعيدين حتى الحيض، ولكن قال: (ويعتزلن المصلى)، أي: المكان الذي يصلي فيه النساء، فلا تكون النساء الحيض مع النساء المصليات، وإنما يكن في مكان متأخر عن المكان الذي فيه صلاة العيد، وصلاة العيد كانت في العراء، فالحائض لا تدخل المسجد، وإذا دخلت المسجد مارة أو احتاجت إلى المرور وقد عملت شيئاً يمنع تساقط الدم منها فلا بأس، وأما أن تجلس وتمكث فلا يجوز لها ذلك.(549/51)
حكم أداء عمرتين في سفر واحد
السؤال
هل يجوز أن أعتمر عمرتين في سفر واحد لأمي؟
الجواب
يمكن أن يأتي الإنسان بعمرتين: إحداهما حين يقدم من بلده إلى مكة يعتمر لنفسه، ثم إذا ذهب إلى المدينة ورجع إلى مكة مرة أخرى فإنه يعتمر لنفسه أو لأمه أو لمن شاء عمرة ثانية، وتكون تلك في سفرة واحدة.(549/52)
تحديد يوم الشك
السؤال
هل يوم تسعة وعشرين من شبعان يقال عنه: يوم الشك؟
الجواب
إذا عرف اليوم الذي دخل فيه الشهر معرفة يقينية فإن يوم تسعة وعشرين ليس يوم الشك، وإنما يوم الشك هو يوم الثلاثين؛ لأن الشهر لا يزيد عن ثلاثين ولا ينقص عن تسعة وعشرين، أي: أن الأشهر العربية الإسلامية لا تقل عن تسعة وعشرين ولا تزيد عن ثلاثين، ولا يوجد شهر ثمانية وعشرين، ولا واحداً وثلاثين، فهي إما هذه، وإما هذه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا أمة أمية لا نقرأ ولا نحسب، ثم قال: الشهر هكذا وهكذا وهكذا وعد ثلاث مرات بأصابعه -أي: يكون كاملاً- ثم قال: أو هكذا وهكذا وهكذا وقبض إبهامه) يريد تسعة وعشرين، فالشهر إما ثلاثين وإما تسعة وعشرين، وليس هناك شهر يكون ثمانية وعشرين ولا واحداً وثلاثين.(549/53)
حكم المسح مع التيمم لمن كان عليه جبيرة أو جرح
السؤال
إذا كان هناك إنسان عليه جبيرة، وكان هناك جرح غير مغطى، فهل يمسح ويتيمم مع الوضوء؟ وكيف يتم الترتيب بين المسح والتيمم والوضوء بالماء؟
الجواب
الجبيرة كما هو معلوم يمسح عليها، ولا يحتاج إلى تيمم مع المسح عليها، وأما الجرح الذي لا يغسله الإنسان، وإنما يغسل ما حوله، فإنه يتيمم له.(549/54)
شرح سنن أبي داود [550]
للمجالس أهمية في ديننا الإسلامي؛ ولذلك فقد سن النبي صلى الله عليه وسلم آداباً تتعلق بالمجالس والمجالسة والجلوس ينبغي أن تراعى ويلتزم بها، حتى تكون المجالس ذا صبغة إسلامية، وحتى ينتفع بها أصحابها.(550/1)
الرجل يجلس بين الرجلين بغير إذنهما)(550/2)
شرح حديث (لا يجلس بين رجلين إلا بإذنهما)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يجلس بين الرجلين بغير إذنهما.
حدثنا محمد بن عبيد وأحمد بن عبدة المعنى قالا: حدثنا حماد حدثنا عامر الأحول عن عمرو بن شعيب قال ابن عبدة: عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (لا يجلس بين رجلين إلا بإذنهما)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: باب الرجل يجلس بين الرجلين بغير إذنهما، أي: أنه إذا كان هناك اثنان جالسان وأراد أحد أن يجلس بينهما فعليه أن يستأذنهما، ولا يأتي ويجلس بينهما؛ لأنه قد يكون بينهما كلام، أو بينهما محبة ومودة، ويريد أحدهما أن يكون بجوار الآخر، وقد يكون بينهما حديث يريدان أن يستمرا فيه، فيأتي ويقطعه عليهما، فإذا أراد أن يجلس بينهما فليستأذنهما، فإن أذنا له وإلا فإنه يجلس في مكان آخر.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجلس بين الرجلين إلا بإذنهما)؛ أي: لا يجلس رجل بين رجلين إلا بإذنهما، ومثل ذلك المرأة لا تجلس بين المرأتين، فإن الحكم واحد، ولكنه ذكر الحديث فيما يتعلق بالرجال؛ لأن الغالب أن الكلام مع الرجال، وكذلك النساء لو كن جالسات، ثم جاءت واحدة تريد أن تجلس بين اثنتين، فإنها لا تجلس بينهما إلا بإذنهما؛ وذلك لما يترتب على ذلك من قطع ما يكونان قد اشتغلا به، أو يتحدثان فيه، أو أن كل منهما يريد أن يجلس بجوار الآخر؛ لأنه مرتاح إلى الجلوس معه، ولذا جاء النهي عن التفريق بينهما عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ويدخل في الاستئذان ما إذا كانا ماشيين.(550/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يجلس بين رجلين إلا بإذنهما)
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد].
هو محمد بن عبيد بن حساب، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[وأحمد بن عبدة].
هو أحمد بن عبدة الضبي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[المعنى قالا: حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد بن درهم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عامر الأحول].
هو عامر بن عبد الواحد، وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب].
هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه هو شعيب بن محمد وهو كذلك صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وجزء القراءة، وأصحاب السنن.
[عن جده].
جده هو عبد الله بن عمرو بن العاص؛ لأن جده الذي يروي عنه والذي يأتي في هذه السلسلة أو بهذا الإسناد هو عبد الله بن عمرو بن العاص فيكون الحديث متصلاً، وقد صحت رواية شعيب عن جده عبد الله بن عمرو.
إذاً: قوله: عن أبيه عن جده، يعني: جده عبد الله بن عمرو بن العاص، وليست روايته عن محمد الذي هو أبوه؛ لأنه لو كان الأمر كذلك فسيكون الحديث مرسلاً؛ لأن محمداً ليس بصحابي، ولكن صح سماع شعيب بن محمد من جده عبد الله، ويأتي في بعض الأحاديث تسميته كما جاء في الحديث الذي بعد هذا؛ لأن الحديث الذي بعده قال: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، فلم يقل: عن جده، بل قال: عن عبد الله بن عمرو.
وعبد الله بن عمرو أخرج له أصحاب الكتب الستة.(550/4)
شرح حديث (لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني أسامة بن زيد الليثي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو من طريق أخرى، وفيه أنه قال: (لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما) وهذا عام، يشمل ما إذا كانا جالسين أو ماشيين؛ لأن هذا يقال له: تفريق بين اثنين، وليس خاصاً بالجلوس، ومن المعلوم أن القيام والمشي حكمهما مثل حكم الجلوس، بل قد يكون القيام والمشي أشد من الجلوس، وذلك أنهما قد يكونان متلازمين في المسير، وقد يكون كل واحد منهما آخذاً بيد الآخر لقوة الصلة التي بينهما، فالحديث هذا عام يشمل ما إذا كانا جالسين أو ماشيين، فلا يفرق بينهما أحد إلا بإذنهما.(550/5)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
سليمان بن داود المهري ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
[أخبرنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: أخبرني أسامة بن زيد الليثي].
أسامة بن زيد الليثي صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو].
هنا صرح بأن الذي يروي عنه شعيب هو عبد الله الذي هو جده.(550/6)
حكم الجلوس بين اثنين في خطبة الجمعة أو في محاضرة
الجلوس في المحاضرات أو في خطبة الجمعة إذا كان هناك مكان فيمكن أن يأتي ويجلس الإنسان فيه، ويستمع ولا بأس بذلك.(550/7)
جلوس الرجل(550/8)
شرح حديث (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس احتبى بيده)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في جلوس الرجل.
حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا عبد الله بن إبراهيم قال: حدثني إسحاق بن محمد الأنصاري عن ربيح بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده أبي سعيد الخدري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس احتبى بيده).
قال أبو داود: عبد الله بن إبراهيم شيخ منكر الحديث].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في جلوس الرجل، أي: كيفية جلوسه، وقد أورد أبو داود هذه الكيفية التي هي الاحتباء، أن يحتبى الإنسان بيده، والاحتباء هو أن يجلس على مقعدته ويجعل فخذه ملتصقاً ببطنه، وينصب ساقيه ثم يجمع يديه عليهما، سواء بالتشبيك، أو بأن يمسك يداً بالأخرى من وراء الساقين، هذا هو الاحتباء الذي يكون باليد، وهناك احتباء يكون بالثوب، وهو أن يشد عليه ثوباً يحيط بمؤخره وبساقيه، ولا يحتاج مع ذلك إلى استعمال اليدين، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء عنه أنه كان يجلس محتبياً بيديه، وفي بعض الروايات: أنه كان يشبك بينهما في الجلوس، وكل ذلك يقال له: احتباء باليدين، سواء شبك أو لم يشبك، بمعنى أنه مسك باليمنى ذراعه اليسرى أو العكس، وهذا كله يقال له: احتباء، فقد ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجلسة وهي الاحتباء باليدين.
وقد أورد أبو داود رحمه الله هذا الحديث، وهو حديث ضعيف جداً من ناحية الإسناد؛ لأن فيه متروكاً، ومجهولاً، ومقبولاً، ولكن الحديث ورد في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر، وورد في صحيح مسلم عن ابن عباس، وكلها في الاحتباء باليدين، فالحديث ثابت لما جاء في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عباس، وأما الإسناد الذي هنا فهو ضعيف جداً؛ لأن فيه متروكاً ومجهولاً ومقبولاً، ولكن المتن صحيح لأنه جاء من طرق أخرى ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في البخاري عن ابن عمر وفي مسلم عن ابن عباس.(550/9)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس احتبى بيده)
قوله: [حدثنا سلمة بن شبيب].
سلمة بن شبيب ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الله بن إبراهيم].
هو عبد الله بن إبراهيم الغفاري، وهو متروك، أخرج له أبو داود والترمذي.
[حدثني إسحاق بن محمد الأنصاري].
إسحاق بن محمد الأنصاري مجهول، أخرج له أبو داود والترمذي في الشمائل.
[عن ربيح بن عبد الرحمن].
ربيح بن عبد الرحمن مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي في الشمائل وابن ماجة.
[عن أبيه].
أبوه هو عبد الرحمن بن سعد بن مالك، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن جده أبي سعيد الخدري] أبو سعيد الخدري هو سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود: عبد الله بن إبراهيم شيخ منكر الحديث].
هذا تضعيف له، والحافظ في التقريب قال: إنه متروك.(550/10)
شرح حديث قيلة بنت مخرمة أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد القرفصاء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر وموسى بن إسماعيل قالا: حدثنا عبد الله بن حسان العنبري قال: حدثتني جدتاي: صفية ودحيبة ابنتا عليبة قال موسى: بنت حرملة وكانتا ربيبتي قيلة بنت مخرمة وكانت جدة أبيهما أنها أخبرتهما: (أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد القرفصاء، فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع، وقال موسى: المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق)].
أورد أبو داود حديث قيلة بنت مخرمة رضي الله عنها أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم جالساً القرفصاء، والقرفصاء فسرت بأنها الاحتباء، وهي الهيئة التي مرت في الحديث السابق، مع وضع رأسه أو صدره على ركبتيه، كأنه مائل أو متحامل عليهما، وفسرت بتفسير آخر: وهو أنه يضع قدميه وركبتيه على الأرض كهيئة السجود، إلا أنه يجعل بطنه على فخذيه، ولكنه لا يسجد على الأرض، ويجعل يديه تحت إبطيه، فهذه الهيئة أو هذه الجلسة هي القرفصاء، والتفسير الأول يطابق ما جاء في الحديث السابق الذي هو حديث الاحتباء.
وقوله: [(قالت: فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع، وقال موسى: المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق)].
أي: أنها فزعت وخافت لما رأته، وكأنها خشيت عليه أنه متأثر أو ما إلى ذلك من الأسباب التي جعلتها تفرق وتحزن وتخاف.(550/11)
تراجم رجال إسناد حديث قيلة بنت مخرمة أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد القرفصاء)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
هو حفص بن عمر النمري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
[وموسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قالا: حدثنا عبد الله بن حسان العنبري].
عبد الله بن حسان العنبري مقبول أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي.
[قال: حدثتني جدتاي: صفية ودحيبة ابنتا عليبة].
صفية ودحيبة مقبولاتان، وكل منهما أخرج لها البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي.
[وكانتا ربيبتي قيلة بنت مخرمة].
قيلة بنت مخرمة صحابية، أخرج حديثها البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي.
والحديث في إسناده راوٍ مقبول، ولكن الأحاديث الأخرى التي دلت على ثبوت الحديث الأول شاهدة له.(550/12)
حكم الاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب
قال في عون المعبود: فالاحتباء باليدين غير منهي عنه، إلا إذا كان ينتظر الصلاة.
وقد جاء النهي عن الاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب، وذلك أنه قد يترتب على ذلك نعاس، فيترتب على ذلك نقض وضوء.(550/13)
الجلسة المكروهة(550/14)
شرح حديث (أتقعد قعدة المغضوب عليهم؟!)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الجلسة المكروهة.
حدثنا علي بن بحر حدثنا عيسى بن يونس حدثنا ابن جريج عن إبراهيم بن ميسرة عن عمرو بن الشريد عن أبيه الشريد بن سويد رضي الله عنه قال: (مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس هكذا، وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على ألية يدي، فقال: أتقعد قعدة المغضوب عليهم؟!)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في الجلسة المكروهة، والمكروه قد يراد به المحرم، وقد يراد به ما هو مكروه للتنزيه، ولكن كونه جاء في الحديث وصف هذه الجلسة بجلسة المغضوب عليهم هذا يدل على التحريم.
وقد أورد أبو داود حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه قال: (مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على ألية يدي) ذكر في عون المعبود تفسيره بأنه جعل يده اليسرى خلف ظهره، واتكأ على ألية يده اليمنى، والمقصود بالألية: الراحة من جهة الإبهام، فالراحة من جهة الإبهام يقال لها: ألية اليد، ويحتمل أن يكون المقصود أن كل ذلك يتعلق باليد اليسرى، وأنه جعلها وراء ظهره، وأتكأ على أليتها، أي: على الراحة التي من جهة الإبهام، وليست التي من جهة الخنصر، التي هي الجهة الأخرى.
وقوله: (قال: أتقعد قعدة المغضوب عليهم؟!) هذا استفهام إنكار.(550/15)
تراجم رجال إسناد حديث (أتقعد قعدة المغضوب عليهم؟!)
قوله: [حدثنا علي بن بحر].
علي بن بحر ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي.
[حدثنا عيسى بن يونس].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
هو عبد الملك بن جريج المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم بن ميسرة].
إبراهيم بن ميسرة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن الشريد].
عمرو بن الشريد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي فقد أخرج له في الشمائل.
[عن أبيه الشريد بن سويد].
الشريد بن السويد رضي الله عنه صحابي، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.(550/16)
النهي عن السمر بعد العشاء(550/17)
شرح حديث (كان رسول الله ينهى عن النوم قبلها والحديث بعدها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب النهي عن السمر بعد العشاء.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن عوف قال: حدثني أبو المنهال عن أبي برزة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النوم قبلها، والحديث بعدها)].
أورد أبو داود باب النهي عن السمر بعد العشاء، والسمر: هو الحديث، أي: أن يجلس الإنسان يتحدث بعد العشاء، هذا هو المراد بالسمر.
وقد أورد أبو داود حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهي عن النوم قبلها والحديث بعدها) أي: قبل العشاء وبعدها، فكان ينهى عن النوم قبلها؛ لأن ذلك سبب في تفويت صلاة العشاء، وأن ينام عنها الإنسان، فقد يخرج وقتها، فيؤخرها عن وقتها، فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن النوم قبلها، وقد جاء أن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، أما صلاة العشاء فلأنها في أول الليل، والناس يكدحون في أعمالهم، فلا يبالون أن يتخلفوا عن العشاء، بل ينامون، ويهملونها، وأما الفجر فتكون في آخر الليل في الوقت الذي طاب فيه الفراش، وطاب فيه النوم.
وقوله: (والحديث بعدها)؛ لأن ذلك يؤدي إلى الاستمرار، ثم إذا طال السمر يكون النوم سبباً في تفويت صلاة الفجر؛ لأن الاسترسال في الحديث والسمر بعد العشاء قد يؤدي إلى أن تفوته أو يتأخر أو ينام عن صلاة الفجر، فهذا هو السر في النهي عن السمر بعد العشاء، وهذا فيما إذا كان لغير مصلحة، وأما إذا كان للمصلحة، وهذا الذي يفعل المصلحة حريص على ألا تفوته صلاة الفجر، ويعمل الاحتياطات من أجل ألا تفوته صلاة الفجر، فإن ذلك لا بأس به؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه كان يسمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الليالي في مصالح المسلمين.(550/18)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله ينهى عن النوم قبلها والحديث بعدها)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عوف].
هو عوف بن أبي جميلة الأعرابي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبو المنهال].
هو أبو المنهال سيار بن سلامة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي برزة].
هو أبو برزة نضلة بن عبيد الأسلمي رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(550/19)
حكم السمر بعد العشاء
والسمر إذا كان سيؤدي إلى تفويت صلاة الفجر فيكون حراماً.
وإذا كان لا يترتب على ذلك فوات الصلاة فلا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك مع أبي بكر رضي الله عنه.(550/20)
ما جاء في الرجل يجلس متربعاً(550/21)
شرح حديث (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يجلس متربعاً.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو داود الحفري حدثنا سفيان الثوري عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء)].
أورد أبو داود باب الجلوس متربعاً؛ وهو أن يجلس، ثم يجعل ركبته اليمني إلى الأمام ويرد رجله إلى تحته، واليسرى كذلك، وتتلاقى أطراف الرجلين، وتكون الركبتان كل واحدة ذهبت إلى جهة، هذا هو التربع بالجلوس.
وقد أورد أبو داود حديث جابر بن سمرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر جلس متربعاً حتى تطلع الشمس حسناء) أي: حتى تظهر حسناء بيضاء، ومعناه: أنه قد زال الوقت الذي يكون فيه خروجها، والذي تكون فيه مصفرة عند الخروج، فهو يجلس حتى ترتفع ويظهر بياضها ونورها.(550/22)
تراجم رجال إسناد حديث (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا أبو داود الحفري].
هو أبو داود الحفري عمر بن سعد، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن، والحفري نسبة إلى محلة وناحية من نواحي الكوفة يقال لها: الحفر.
[حدثنا سفيان الثوري].
هو سفيان بن سعيد ين مسروق الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سماك بن حرب].
سماك بن حرب صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن جابر بن سمرة].
جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه صحابي، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(550/23)
فضل الجلوس بعد الفجر حتى تطلع الشمس
قوله: (في مجلسه) الذي يبدو أن المراد مكانه وقت الصلاة، ويكون حينئذٍ مستدبر القبلة لهذه الفترة الطويلة.
وأما قوله في الحديث الثاني: (من صلى الفجر في جماعة ثم قعد في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس) فلا يتفق مع هذا الحديث فيما يتعلق ببيان الأجر والثواب، وأنه يكون بهذا الأجر وكذا، وإنما فيه أن الرسول كان يجلس هذه الجلسة، لكن ذكر الثواب والأجر دل عليه الحديث الآخر الذي فيه: (كان كحجة وعمرة تامة تامة).(550/24)
شرح سنن أبي داود [551]
إن من الآداب التي ينبغي أن تراعى في المجالس: أن لا يتناجى اثنان دون ثالث حفاظاً على سلامة الصدور، وأيضاً فإن للإنسان حق في مجلسه إذا قام منه غير مغادر له ثم عاد.(551/1)
ما جاء في التناجي(551/2)
شرح حديث (لا ينتجي اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التناجي.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش (ح) وحدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا الأعمش عن شقيق -يعني ابن سلمة - عن عبد الله رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ينتجي اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في التناجي، والتناجي: هو التحدث سراً بين بعض الجالسين، فإذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث؛ لأن ذلك يحزنه، ولكن إذا كانوا أربعة فتناجى اثنان فسوف يبقى اثنان، وفي هذه الحالة يمكن أن يتناجيا، أو يقرب بعضهما من بعض ويتحدثان، لكن إذا بقي واحد فقط وكان الاثنان يتحدثان، فذلك قد يحزنه، ولكن إذا استأذنوا منه بأن هناك أمراً يدعو إلى التناجي أو أن أحدهم يريد أن يتناجى مع كل واحد منهم فلا بأس، فقد يتناجى الشخص مع إنسان، ثم يتناجى مع الآخر الذي قد يكون مرجعاً، وقد يكون شخصاً مسئولاً، وقد يكون إنساناً يرجع إليه في فتوى أو في غيرها، ولا يراد أن يظهر الحديث، فيمكن أن يسأل هذا بينه وبينه، ثم يسأل هذا بينه وبينه، وقد يكون هو نفسه يريد أن يتحدث مع أحدهم على حدة، ومع الآخر على حدة، فإذا كان الأمر كذلك فإن هذا ليس فيه محذور، وأيضاً إذا استأذنوه وبينوا له أنهم بحاجة إلى أن يتحدثوا وأذن زال المحذور أيضاً.(551/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لا ينتجي اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
أبو بكر بن أبي شيبة هو عبد الله بن محمد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا أبو معاوية].
هو أبو معاوية محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس].
(ح) معناها: التحول من الإسناد إلى إسناد آخر، ومسدد وعيسى بن يونس مر ذكرهما.
[حدثنا الأعمش عن شقيق يعني ابن سلمة].
شقيق بن سلمة كنيته أبو وائل، وهو ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله].
هو عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي جليل، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(551/4)
شرح حديث (لا ينتجي اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله، قال أبو صالح: فقلت لـ ابن عمر رضي الله عنهما: فأربعة؟ قال: لا يضرك].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو مثل الذي قبله، وفيه أنه سئل: فإذا كانوا أربعة؟ قال: لا يضرك.
لأنه إذا كان هناك اثنان جالسين واثنان يتناجيان مع بعضهما، فليس هذا مثل أن يتناجى اثنان ويبقى واحد.(551/5)
تراجم رجال إسناد حديث (لا ينتجي اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا الأعمش عن أبي صالح].
أبو صالح هو ذكوان السمان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(551/6)
حكم تناجي ثلاثة فأكثر بحضرة واحد
قال الخطابي سمعت ابن أبي هريرة يحكي عن أبي عبيد بن حرب أنه قال: هذا في السفر، وفي الموضع الذي لا يأمن فيه صاحبه على نفسه، فأما في الحضر، وبين ظهراني العمارة، فلا بأس به.
والذي يبدو أنه عام.
وفي هذه الأحاديث النهي عن تناجي اثنين في حضرة ثالث، وكذا ثلاثة وأكثر بحضرة واحد، فإذا كانوا أربعة وثلاثة يتناجون وواحد وحده، فهو مثل تناجي اثنين دون ثالث، فثلاثة مع واحد واثنان مع واحد كل ذلك سواء؛ لأنه شخص منفرد سوف يتأثر.
وهو نهي تحريم، فيحرم على الجماعة المناجاة دون واحد منهم إلا أن يأذن، ومذهب ابن عمر رضي الله عنه ومالك وأصحابنا وجماهير العلماء أن النهي عام في كل الأزمان، وفي الحضر والسفر.
وأما إذا كانوا أربعة فتناجى اثنان دون اثنين، فلا بأس بالإجماع؛ لأن الاثنين يمكن أن يتناجيا، فهذا يتحدث مع هذا، وهذا يتحدث مع هذا، فينقسمون إلى مجموعتين، وإذا كان الثالث لا يعرف اللغة التي يتكلم بها الاثنان، وهما يتكلمان بصوت مرتفع فهذا لا يؤثر؛ لأنهما لم ينفردا عنه؛ وسيترجمان له كلامهما حتى يفهم، لكن لو كانا يتكلمان بالعربية ثم صارا يتكلمان بلغة أخرى لا يفهمها فهذا مثل التناجي سراً؛ لأنه مادام لا يفهم اللغة، وهما يتحدثان بها فهي مثل المناجاة.(551/7)
إذا قام الرجل من مجلس ثم رجع(551/8)
شرح حديث (إذا قام الرجل من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب إذا قام الرجل من مجلس ثم رجع.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سهيل بن أبي صالح قال: كنت عند أبي جالساً وعنده غلام فقام ثم رجع، فحدث أبي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام الرجل من مجلس ثم رجع إليه فهو أحق به)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب إذا قام الرجل من مجلس ثم رجع، أي: أنه أحق به من غيره؛ فمثلاً: إذا كان في المسجد وذهب ليشرب ماءً، أو ذهب ليأتي بمصحف، فهو أحق بمجلسه من غيره؛ لأن مثل هذه الأمور تدعو إليها الحاجة، فهو أحق به، وكذلك إذا كان في مجلس وقام ليأخذ شيئاً أو ليقضي حاجة فإنه أحق به، ولكنه إذا خرج وودع الناس، ثم جلس الناس، فإذا جاء فإنه كواحد من الذين يدخلون من جديد، وأما إذا كان قام من مجلسه ليستقبل إنساناً أو ليصافح إنساناً، أو ليقابل إنساناً في المجلس، ثم يأتي أحدهم ويجلس مكانه فهذا هو الذي جاء فيه النهي، ويكون الحق لهذا الجالس، أما إذا كان جالساً ثم خرج وغادر المكان وانتهى من المكان، وجلس الناس، فإن حقه قد سقط، ويكون كواحد من الذين يأتون من جديد.(551/9)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا قام الرجل من مجلس ثم رجع إليه فهو أحق به)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد].
موسى بن إسماعيل مر ذكره، وحماد هو ابن سلمة بن دينار، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سهيل بن أبي صالح].
سهيل بن أبي صالح صدوق، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، والبخاري روى له مقروناً.
[فحدث أبي عن أبي هريرة].
أبوه ذكوان السمان مر ذكره، وأبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أكثر السبعة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(551/10)
شرح حديث (كان رسول الله إذا جلس وجلسنا حوله فقام فأراد الرجوع نزع نعليه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا مبشر الحلبي عن تمام بن نجيح عن كعب الإيادي قال: كنت أختلف إلى أبي الدرداء رضي الله عنه فقال أبو الدرداء: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس وجلسنا حوله، فقام فأراد الرجوع نزع نعليه أو بعض ما يكون عليه، فيعرف ذلك أصحابه فيثبتون)].
أورد أبو داود حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان معهم في مجلس وقام وهو يريد أن يرجع فإنه يخلع نعليه أو يترك شيئاً مما كان عليه، فيعلم الناس أنه سيرجع، فيثبتون في أماكنهم ينتظرونه، وهذا أورده المصنف مستدلاً به على أن الإنسان لو قام وكان معروفاً أنه سيرجع، بمعنى أنه ترك شيئاً يدل على رجوعه، فإنهم يتركون له مكانه حتى يأتي، ومعلوم أن مكان الرسول صلى الله عليه وسلم لن يغلبه عليه أحد، ولكن المقصود من ذلك أنه لو حصل من إنسان غير الرسول صلى الله عليه وسلم أن قام، وترك نعليه، أو ترك شيئاً مما كان عليه كمشلح أو شيء يدل على أنه سيرجع، وأنه لن يغادر المكان نهائياً، فإن له الحق في ذلك المكان.
ولكن الحديث في إسناده ضعف؛ لأن فيه تمام بن نجيح وهو ضعيف، وفيه شيخه وهو مقبول، ولكن الحديث الأول يدل على أن من قام من مكانه فهو أحق به، وهذا الحديث ضعيف، وهو يدل على أنه إذا فعل شيئاً يدل على رجوعه، وأنه غير مغادر للمكان نهائياً؛ لأنه ترك شيئاً يدل على رجوعه، كما لو ترك نعليه أو ترك شيئاً من ثيابه دالاً على أنه سيذهب إما ليقضي حاجة أو ليتحدث مع إنسان، ثم يرجع إلى مكانه فإنه أحق به.(551/11)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله إذا جلس وجلسنا حوله فقام فأراد الرجوع نزع نعليه)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي].
إبراهيم بن موسى الرازي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا مبشر الحلبي].
مبشر الحلبي صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن تمام بن نجيح].
تمام بن نجيح ضعيف، أخرج له البخاري في رفع اليدين، وأبو داود والترمذي.
[عن كعب الإيادي].
هو كعب بن ذهل الإيادي، وفيه لين، أخرج له أبو داود.
[قال: كنت أختلف إلى أبي الدرداء].
أبو الدرداء هو عويمر رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(551/12)
الأسئلة(551/13)
حكم حجز المكان في الدرس وغيره
السؤال
نأتي مبكرين ونضع كتاباً أو كرسياً في المكان الذي نريد الجلوس فيه، وعندما نأتي نجد من جلس فيه وقد حرك ما وضعناه، ويقول: هذا لا يجوز، فما حكم ذلك؟
الجواب
مثل هذا العمل لا ينبغي؛ لأن الإنسان يتعلق بالصف الأول، والصف الأول لا يأتي أحد ويحجز فيه مكاناً ويذهب، وإنما يصلي ثم يأتي إلى المكان ويجلس حيث ينتهي به المجلس، والحمد لله الصوت واضح، والكل يسمع الصوت، وليس فيه خفاء بحيث يحرص على القرب لكي يسمع؛ لأن القريب والبعيد كلهم يسمعون، والأسئلة كلها تأتي عن طريق الأوراق، والمتأخر والمتقدم كلهم يحققون ما يريدون، فمثل هذه الطريقة التي هي وضع شيء في مكان ليس فيه صفوف ولم تصل إليه الصفوف، هذا لا ينبغي، بل على الإنسان أن يترك هذا الأمر وإذا فرغ من الصلاة يأتي ويجلس حيث ينتهي به المجلس، وليس هناك أمر يدعو إلى التسابق؛ لأن الصوت يصل إلى الجميع.(551/14)
عدم إجزاء ركعة الوتر عن تحية المسجد
السؤال
هل تجزئ صلاة الوتر ركعة واحدة عن تحية المسجد؟
الجواب
لا تجزئ؛ لأن نص الحديث: (لا يجلس حتى يصلي ركعتين) فلا يكتفى بركعة واحدة؛ وإنما يصلي ركعتين ثم يصلي الوتر.(551/15)
إجزاء الفريضة عن تحية المسجد
السؤال
من دخل إلى المسجد بعد انقضاء الجماعة هل يصلي المكتوبة أم يصلي أولاً تحية المسجد؟
الجواب
يصلي المكتوبة، وتجزئ عن تحية المسجد؛ لأنه لم يجلس حتى صلى.(551/16)
حكم طوف الوداع في العمرة
السؤال
هل يجب طواف الوداع على المعتمر؟
الجواب
فيه خلاف بين أهل العلم، والأقرب أنه غير واجب، ولكن ينبغي للإنسان أن يحرص عليه وأن يأتي به، وإن لم يأت به فإنه لا شيء عليه؛ لأنه ليس هناك شيء يدل على وجوبه على المعتمر.(551/17)
حكم التسمي بـ (سلام)
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يسمي ولده (سلام) بغير تشديد؟
الجواب
يجوز، وليس هناك مانع يمنع منه.(551/18)
حكم التربع عند الأكل
السؤال
هل التربع منهي عنه عند الأكل؟
الجواب
جاء أن من الاتكاء عند الأكل التربع، وقالوا: إنه يدل على شدة الشهوة والنهم في الأكل.(551/19)
تقديم الغسل من الجنابة على صلاة الجماعة إذا ضاق الوقت
السؤال
من استيقظ لصلاة الصبح وقد أقيمت الصلاة، وهو على جنابة، فهل له أن يدرك الصلاة بتيمم أم عليه أن يغتسل؟
الجواب
عليه أن يغتسل ولو فاتته صلاة الجماعة.(551/20)
حكم دفع التأمين لأجل الرخصة
السؤال
هل يجوز لي أن أدفع التأمين للرخصة؟
الجواب
نعم، إذا ألزمت به فادفعه وإن كان التأمين غير جائز، ولكنك إذا ألزمت به فأدفعه؛ لأنك لا تستطيع أن تستعمل سيارتك بدون دفعه.(551/21)
مظان ذكر عدد أحاديث كل صحابي في الكتب الستة
السؤال
هل عدد أحاديث السبعة المكثرين بناءً على عدد الأحاديث التي رووها في صحيح البخاري أم في عموم الكتب؟
الجواب
جاء ذكر كل صحابي له رواية في الكتب الستة في خلاصة تذهيب الكمال المسمى: تذهيب تهذيب الكمال للخزرجي؛ فإنه ذكر عدد ما لكل راوٍ من الصحابة في الكتب الستة، وما كان متفقاً عليه بين البخاري ومسلم، وما كان خارج البخاري، وما كان خارج مسلم، فيمكن أن يعرف عدد ما لهم في الكتب الستة بالرجوع إلى مثل هذا الكتاب الذي هو خلاصة تهذيب الكمال عند ترجمة كل واحد منهم؛ لأنه عند ترجمة كل صحابي يذكر عدد ما له من الأحاديث في الكتب الستة، ويذكر عدد المتفق عليه عند البخاري ومسلم وعدد ما انفرد به البخاري وعدد ما انفرد به مسلم.(551/22)
حكم حجز مكان في الصف أثناء الصلاة
السؤال
بعض الناس يضعون شيئاً مثل الطاقية في وسط الصفوف أثناء الصلاة كما يحصل في صلاة التراويح والقيام فهل هذا جائز؟
الجواب
هذا غلط، وغير جائز، فإذا كان سيؤدي إلى أن يبقى المكان فاضياً والصف منقطعاً فإنه غير سائغ، لكن إذا كان سيذهب إلى مكان لوقت يسير يشرب ماءً، أو يأتي بشيء ولا يترتب عليه قطع الصف لفترة طويلة فلا بأس؛ لأن لا ذلك يؤثر.(551/23)
حكم إزالة شعر الفخذين للمحرم
السؤال
رجل آذاه شعر في فخذيه وهو محرم فأخذه فماذا عليه؟
الجواب
لا يجوز أن يأخذ شيئاً من شعره في حال إحرامه، لا من فخذه ولا من غيره، وإذا كان قد أزال ذلك الشعر متعمداً فعليه الكفارة، وهي التخيير بين ثلاثة أشياء: ذبح شاة، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو صيام ثلاثة أيام.(551/24)
حكم الزيت الكثير إذا سقط فيه فأر
السؤال
سقط فأر في برميل فيه زيت سائل، فهل يجوز استعمال هذا الزيت بعد إخراج الفأر؟
الجواب
نعم يجوز؛ لأن البرميل كما هو معلوم كبير، وإخراج الفأر منه لا يؤثر فيه لكثرته.(551/25)
حكم الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة
السؤال
هل الاعتكاف خاص بالمساجد الثلاثة؟
الجواب
لا، ليس خاصاً، بل يكون في كل مسجد، كما قال الله عز وجل: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187]، وأما الحديث الذي جاء: (لا اعتكاف إلا في ثلاثة مساجد) فالمقصود به: لا اعتكاف أفضل، أو لا اعتكاف أهم وأعظم من الاعتكاف في المساجد الثلاثة، وهذا يسمونه قصراً إضافياً، وليس قصراً حقيقياً، وهذا مثلما جاء عن ابن عباس: (لا ربا إلا في النسيئة)، مع أن هناك ربا الفضل، والمعنى: أن هذا رباه أشد وأعظم.(551/26)
حكم إقامة الرجل من جلس في مكانه
السؤال
إذا قام الرجل من مجلسه فوجد رجلاً قد جلس فيه، فهل عليه شيء إذا تركه له، أم السنة أن يقيمه؟
الجواب
ليس عليه شيء إذا تركه، بل قد يكون أولى من أن يقيمه.(551/27)
حكم رفع اليدين في تكبيرات صلاة الجنازة
السؤال
هل ثبت رفع اليدين في كل تكبيرات الجنازة؟
الجواب
نعم، جاء ذلك عن عبد الله بن عمر موقوفاً ومرفوعاً، وذكر ذلك شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في تعليقه على فتح الباري في كتاب الجنائز، حيث قال: إنه جاء في علل الدارقطني مرفوعاً وموقوفاً، وجاء مرفوعاً من طريق عمر بن شبة.(551/28)
حكم حجز الأماكن المتقدمة في الدرس للقرب من الشيخ
السؤال
هناك من يحجز في الدرس الأماكن المتقدمة للفائدة التي استنبطها العلماء من حديث جبريل: (فأسند ركبتيه إلى ركبتيه) حيث قال العلماء: الأفضل للمتعلم القرب من المعلم، فما قولكم في ذلك؟
الجواب
هذا لا بأس به، إذا كان الإنسان سيأتي وينتهي حيث ينتهي به المجلس، وأما أن يحجز له مكاناً ويذهب، ثم يأتي متأخراً، ويتخطى رقاب الناس حتى يصل إليه، فهذا لا ينبغي.(551/29)
حكم تأخير المسافر صلاة المغرب إلى وقت العشاء
السؤال
إذا كنا في سفر وسنصل وقت العشاء، فهل يجوز لنا تأخير صلاة المغرب حتى الوصول؟
الجواب
نعم، يجوز، مادام أنكم في سفر وستصلون وقت العشاء، فإذا وصلتم فصلوا المغرب، ثم صلوا العشاء، لكن تكون العشاء تامة؛ لأن السفر قد انتهى.(551/30)
حكم استقبال الإمام للمأمومين بعد الصلاة
السؤال
قلتم: يجوز للإمام أن يبقى مستقبل القبلة، وقد ثبت عن عمر أنه كان يقول: إن هذا العمل بدعة، وذكر هذا الشاطبي في الاعتصام، فما تعليقكم؟
الجواب
الذي أجبت عليه أنه يبقى في مكانه، ومعلوم أنه يكون مستقبل الناس، ولا يبقى مستقبل القبلة إلا عند قوله: أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ثم ينصرف إلى الناس، فيبقى في مكانه على الهيئة التي كان عليها، وهو مستقبل الناس، مستدبر القبلة، وليس معنى ذلك أنه يستمر مستقبلاً القبلة ويجعل الناس وراء ظهره، بل إذا فرغ من قوله: تباركت يا ذا الجلال والإكرام ينصرف إلى المأمومين.(551/31)
الواجب تجاه من يسب الله ورسوله
السؤال
إذا رأى المسلم شيئاً منكراً كسب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فما الواجب عليه بعد إسداء النصيحة والبيان؟
الجواب
الواجب عليه أن يرفع أمره إلى المسئولين، ويشهد عليه، وإذا كان قد نصحه وبين له، ورجع عن ذلك وتاب، وإلا فإنه يبلغ أمره إلى المسئولين ليعاقب بالعقوبة التي يستحقها؛ لأن مثل هذا ردة عن الإسلام والعياذ بالله، فهو كفر بلا إشكال، ولكن قد يصدر ذلك من الإنسان لسبق لسان؛ لأنه قد لا يقصد ذلك، وقد يغضب غضباً شديداً بحيث لا يدري ما يصدر منه فيكون كالمجنون، ولكن إذا كان في صحته وعقله ووعيه، ويدرك ما يقول فهذا -والعياذ بالله- كفر بالله عز وجل.(551/32)
حكم لبس العقال لطالب العلم
السؤال
هل لبس العقال لطالب العلم فيه شيء؟
الجواب
العقال لا بأس بلبسه، ولا مانع منه، ولكن لبسه ليس من سمات طلبة العلم في هذه البلاد.(551/33)
حكم أخذ التعويض من شركات التأمين
السؤال
وقع لي حادث مروري، فهل يجوز لي أخذ التعويض عن طريق شركات التأمين الخاصة بالحوادث؟
الجواب
خذ منهم بقدر ما دفعته، فالمبالغ التي دفعتها إليهم خذها منهم، ولا تأخذ أكثر من ذلك.(551/34)
حكم دعاء ختم القرآن في الصلاة
السؤال
ما حكم دعاء ختم القرآن في الصلاة؟ وهل من حضر الصلاة يصلي مع الإمام أم يجلس أم يخرج أم ماذا يفعل؟
الجواب
الذي يصلي مع الإمام يجب عليه أن يصلي مع الإمام حين يأتي بدعاء ختم القرآن، ولا يجوز له أن يتأخر عنه، ولا يجوز له أن يتخلف عنه؛ لأن هذا من المسائل الخلافية التي لا يجوز للإنسان أن يترك الصلاة بسببها، كما أن هناك أموراً أعظم من هذا، فلو أنك ترى الوضوء من لحم الإبل، وآخر لا يرى الوضوء، فلا تترك الصلاة وراءه؛ لأنه يرى أنه لا يتوضأ من لحم الإبل، وأنت ترى أنه يتوضأ من لحم الإبل، وكذلك القنوت في الفجر، والقنوت لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في النوازل في الفجر وغير الفجر، فإذا صليت وكان الإمام يقنت فلا تترك الصلاة وراءه؛ لأنه يقنت في الفجر، بل صل وراءه، وهذا من جنسه، وهذه المسألة لا أعلم دليلاً يدل عليها، ولكن بعض مشايخنا مثل الشيخ عبد العزيز بن باز يرى أن ذلك سائغ وجائز، وأنه قد جاء عن العلماء، وقد ذكر ذلك في فتاواه (11/ 354).(551/35)
حكم رفع اليدين عند الدعاء في الصلاة
السؤال
إذا صلى الإمام ورفع يديه والمأمومون يؤمنون، فهل لمن يرى أنه لم يثبت في المسألة دليل ألا يتابعه حتى في رفع اليدين؟
الجواب
لا يرفع الإمام ولا المأموم يديه؛ لأن هذا لا نعرف أنه ثابت، وأما قضية التأمين فإذا أمن فلا بأس.(551/36)
شرط البخاري في الرواية عن المدلسين والمرسلين في صحيحه
السؤال
هل اعتماد البخاري رحمه الله في رواية الإسناد المعنعن على السماع والمعاصرة خاص بصحيحه، أم هو منهجه في جميع الأحاديث؟
الجواب
هذا الشرط خاص بالصحيح، ولا يقال في غير الصحيح، وهذا الشرط فيما إذا كان يروي عن المدلسين أو المرسلين؛ لأن العنعنة في الصحيحين عن المدلسين أو المرسلين محمولة على الاتصال، وأما في غير الصحيحين سواء عند البخاري أو غيره فلا بد فيها من معرفة الاتصال؛ لأن الاشتراط في الصحة إنما هو في الصحيح وليس في خارج الصحيح، وأما إذا كان الشخص المعنعن ليس معروفاً بالتدليس ولا بالإرسال ففي الصحيحين وفي غير الصحيحين كله محمول على الاتصال، سواء في البخاري أو في غير البخاري، فإذا كان الشخص غير مدلس وغير مرسل، وروى عن شيخه بـ (عن)، فإنه محمول على الاتصال، وإنما الذي فيه إشكال هو من كان مدلساً أو مرسلاً، فمن كان معروفاً بالإرسال ومعروفاً بالتدليس، فهذا هو الذي يغتفر منه ما كان في الصحيحين، ولا يؤثر من ذلك ما كان في الصحيحين، ويؤثر ما كان في غير الصحيحين، سواء كان عند صاحبي الصحيحين أنفسهما أو غيرهما، وأما إذا كان الشخص الذي عنعن غير مدلس وغير مرسل فهذا محمول على الاتصال في الصحيحين وفي غير الصحيحين.(551/37)
فضل الصلاة في مسجد قباء
السؤال
صلاة الركعتين بمسجد قباء بنية أجر العمرة، هل تجزي عن ركعتي السنة الراتبة إن كانت بعد صلاة المغرب؟
الجواب
الحديث الذي فيه ذكر العمرة ليس فيه ذكر ركعتين، وإنما جاء فيه: (من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان كأجر العمرة)، فيدخل في ذلك الفرض والنفل، فإذا جاء وصلى صلاة الفرض، فإنه صلى صلاة، ولو جاء ودخل المسجد وصلى صلاة سواء ركعتين أو أكثر، فيقال: إنه صلى صلاة، ولكن صلاة الركعتين جاءت في الحديث الذي في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى قباء كل سبت أحياناً راكباً وأحياناً ماشياً ويصلي فيه ركعتين)، وهذا غير هذا، فالحديث الذي فيه ذكر العمرة ليس فيه ذكر ركعتين، بل فيه ذكر الصلاة مطلقة؛ لأن قوله: (صلاة) يشمل الفرض والنفل.(551/38)
حكم تغطية المرأة وجهها عند الطواف
السؤال
كيف تطوف المرأة بحضرة الرجال؟ وهل تغطي وجهها ولو لامس الغطاء وجهها؟
الجواب
المرأة تغطي وجهها عند الرجال سواء في الطواف أو في غير الطواف، ولو لامس الغطاء وجهها؛ لأنه ليس هناك مانع يمنع من ملامسة الغطاء لوجهها، وإنما هي ممنوعة من الانتقاب، وأما استعمال الخمار ولو لامس وجهها فليس به بأس.(551/39)
حكم أخذ المكافأة على الإجازة في القرآن
السؤال
هل يجوز الاشتغال بإجازة القرآن الكريم علماً أن الحكومة عندنا في البلد سنت للمجاز في القرآن رفع درجته في عمله الوظيفي، فهل يجوز هذا؟ وما حكم أخذ الراتب الإضافي على هذه الدرجة؟
الجواب
السؤال غير واضح، وكون الإنسان يشتغل من أجل أن يحصل إجازة في القرآن في جودة قراءته، وأنه صار مجيداً للقراءة فيعطى مكافأة أكثر، هذا لا بأس به.(551/40)
كيف يعمل المسبوق في صلاة الجنازة
السؤال
إذا كان الإنسان مسبوقاً في صلاة الجنازة بتكبيرتين أو ثلاث فكيف يقضي الصلاة وقد رفعت الجنازة؟
الجواب
إذا كان قد سبق في التكبيرات الثلاث فإنه يشتغل بالدعاء، ولا يشتغل بقراءة الفاتحة والصلاة على النبي ويترك الدعاء؛ لأن المقصود من صلاة الجنازة هو الدعاء، وإنما أتي بالحمد لله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن هذا من أسباب قبول الدعاء، فكون الدعاء يكون مسبوقاً بحمد الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا من أسباب قبوله، فقراءة الفاتحة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي تمهيداً للدعاء ليكون أرجى لقبوله، كما جاء في الحديث أن رجلاً دعا دعاءً لم يحمد الله ولم يصل على رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (عجل هذا) أي: أنه ينبغي أن يسبق الدعاء شيء من الثناء على الله عز وجل والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا فاتته التكبيرات الثلاث، فإنه يشتغل بالدعاء ولا يشتغل بالوسيلة ويترك الغاية، وإنما يشتغل بالغاية التي هي المقصود من صلاة الجنازة للشفاعة للميت والدعاء له، وإذا سلم الإمام فيكون قد كبر معه تكبيرتين: التكبيرة الأولى التي أدركها، والتكبيرة التي قبل سلامه، ويبقى عليه تكبيرتان، فيكبرهما ولا يطيل، وإنما يقول: الله أكبر، اللهم اغفر له، ويسلم؛ لأن الجنازة لن تبقى أمامه حتى يقف للدعاء.(551/41)
حكم إخفاء الابن ماله عن والده
السؤال
هل يجوز للابن أن يخفي ماله عن أبيه؟
الجواب
إذا كان والده قد سأله فلا ينبغي له أن يخفيه عنه، وأما إذا لم يسأله فليس بلازم أن يحدثه ويقول: عندي كذا أو دخل علي كذا، وأما إذا كان يسأله ويرغب أن يكون على علم، فينبغي له أن يخبره، إلا إذا كان هذا الوالد عنده تصرف ليس جيداً، بمعنى أنه يريد أن يستحوذ على ماله أو يريد أن يشغله عن ماله، فهذا ينبغي له أن يوري، ولا يأتي بشيء فيه كذب، ولا بشيء يغضب أباه، وإنما ينبغي له أن يطيب خاطره وأن يتكلم معه بالكلام الطيب وأن يوري، هذا إذا كان يخشى منه أن يشغله عن التصرف في ماله أو يأخذ ماله، وأما إذا لم يوجد هذا المحذور وسأله فينبغي له أن يخبره؛ لأنه قد يسره ذلك، ويفرح أنه يوجد عنده شيء من المال.(551/42)
حكم التصرف في الوقف
السؤال
مجموعة من الشباب أوصوا واحداً من إخوانهم المسافرين للعمرة أن يأتي لهم بعدد من الأشرطة الدعوية، ففعل ذلك، ثم أراد هؤلاء الإخوة أن يسجلوا على هذه الأشرطة عدداً من الدروس العلمية والمحاضرات والشروحات، فهل لهم ذلك أم أن هذا يعد من الوقف الذي لا يتصرف فيه إلا بإذن من الواقف؟
الجواب
إذا كان صاحبها أوقفها وقال: إنه لا يتصرف فيها إلا بإذنه فيستأذن، وأما إذا كان لا يُعلم عنه أنه يمنع ذلك أو أنه يحتفظ بذلك فإنه لا بأس بذلك.(551/43)
حكم الاحتباء قبل الصلاة
السؤال
هل النهي عن الاحتباء خاص بانتظار الصلاة يوم الجمعة أم أنه عام في انتظار كل صلاة؟
الجواب
الذي يبدو أنه يشمل الصلوات الأخرى؛ لأنه قد يكون سبباً في نقض الوضوء.(551/44)
شرح سنن أبي داود [552]
من الآداب التي ينبغي مراعاتها في المجالس: أن تعمر بذكر الله عز وجل والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم، وعدم اغتياب الناس، وبعد انتهاء المجلس يستحب أن تقال كفارة المجلس لأجل ما قد يقع فيه من اللغو والكلام الباطل.(552/1)
كراهية أن يقوم الرجل من مجلسه ولا يذكر الله(552/2)
شرح حديث (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كراهية أن يقوم الرجل من مجلسه ولا يذكر الله.
حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا إسماعيل بن زكريا عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان عليهم حسرة)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى باب كراهية أن يقوم الرجل من مجلسه ولا يذكر الله، أي: أن يكون ذلك المجلس الذي قام منه خالياً من ذكر الله، ولم يذكر الله عز وجل فيه، والمقصود من هذا: أن المجالس ينبغي ألا تكون خالية من ذكر الله، وينبغي أن تكون معمورة بذكر الله عز وجل، وألا تكون مجالس لهو وغفلة وسهو وليس فيها ذكر لله سبحانه وتعالى.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله عز وجل فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة).
يعني: أن هذا الذي حصل في هذا المجلس وقاموا منه إنما مثلهم كمثل الذي قام عن جيفة حمار، أي: عن شيء منتن، وحصل في ذلك المجلس شيء خبيث غير طيب، وصار قيامهم عن ذلك المجلس كهذه الهيئة السيئة الخبيثة التي قاموا فيها عن مثل جيفة حمار.
وقوله: (وكان عليهم حسرة) أي: ندامة، يعني: أنهم يندمون على ما حصل منهم في ذلك المجلس الذي عمر باللهو والغفلة، ولاسيما إذا عمر بالخوض والاشتغال والطعن في أعراض الناس، فإن ذلك يكون عليهم حسرة وندامة، ويكون شأنهم يوم القيامة أن يؤخذ من حسناتهم للذين أساءوا إليهم وتكلموا في أعراضهم، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المفلس: (المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وحج، ويأتي وقد شتم هذا وضرب هذا وسفك دم هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرح عليه، ثم طرح في النار).
فهذا يدل على أن المجالس لا يجوز أن تعمر وأن تشغل بالغيبة والنميمة والكلام الفاحش الساقط الهابط الذي ليس بشيء، وإنما تعمر المجالس بذكر الله عز وجل؛ لأنها إذا عمرت بذكر الله حضرتها الملائكة، وإذا عمرت بغير ذلك حضرتها الشياطين، وفرق بين حضور الملائكة وحضور الشياطين، فهذا في غاية الحسن وهذا في غاية السوء.(552/3)
تراجم رجال إسناد حديث (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه)
قوله: [حدثنا محمد بن الصباح البزاز].
محمد بن الصباح البزاز ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسماعيل بن زكريا].
هو إسماعيل بن زكريا الخلقاني، وهو صدوق يخطئ قليلاً، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه].
سهيل بن أبي صالح صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة، وروايته عند البخاري مقرونة، وأبوه أبو صالح ذكوان السمان ويقال: الزيات، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو أكثر السبعة حديثاً على الإطلاق فرضي الله عنه وأرضاه.(552/4)
وجه تشبيه المجلس الذي ليس فيه ذكر الله عز وجل بجيفة الحمار
ووجه التشبيه بجيفة الحمار هو الخبث والنتن، وأن الذين لم يعمروا مجالسهم بذكر الله عز وجل، وعمروها بشيء آخر، شأنهم كشأن الذين قاموا عن جيفة حمار، أي: أن هذا مذموم وهذا مذموم، وإذا كان مجلسهم يتعلق بأعراض الناس فيكون معنى ذلك أنهم أكلوا لحوم الناس ونهشوا أعراضهم، وقاموا عن هذه الصورة السيئة الخبيثة وهي أنهم قاموا عن جيفة أو نتن جيفة حمار.
وهذا الحديث يدل على أن المجالس المطلوب فيها والذي ينبغي فيها أن تعمر بذكر الله عز وجل وبما يناسب مما هو مباح، أما إذا عمرت بما هو محرم فإن ذلك يكون بهذه الصورة الذميمة التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مشابهة تلك الجلسة أو ذلك الاجتماع بجيفة حمار، فالجيفة هي في حد ذاتها خبيثة، وإذا كانت جيفة حمار فهي أسوأ وأسوأ، وهذا يعني: أن هذا سوء فوق سوء، فهي جيفة، وجيفة حمار، كما يقال: حشف وسوء كيلة.(552/5)
شرح حديث (من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قعد مقعدا ًلم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله فيه كان عليه من الله ترة)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من جلس مجلساً لا يذكر الله فيه كان عليه من الله ترة)، والترة: هي النقص، أي: أنه يكون عليه نقص، كما قال الله عز وجل: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35]، أي: لن ينقصكم؛ لأن الترة هي النقص، ومعنى ذلك: أنهم حصلوا على نقص، وحصلوا على ضرر، وكذلك أيضاً من اضطجع مضجعاً لا يذكر الله تعالى فيه كان عليه من الله ترة، أي: نقص، وهذا ذم وبيان لوء هذا الصنيع، وأن الإنسان في مجلسه يشتغل بذكر الله، أو لا يخلو مجلسه من ذكر الله عز وجل مع وجوب أن يخلو من الأمور المحرمة، وكذلك على الإنسان عندما يضطجع أن يذكر الله عز وجل، ولا يخلو ذلك الاضطجاع من ذكره لله سبحانه وتعالى حتى يكون له ذلك كمالاً وزيادةً في درجاته وحسناته، وإلا فإنه يكون نقصاً عليه.
وقوله: (ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله فيه كان عليه من الله ترة) أي: من اضطجع لأجل النوم، هذا هو المقصود، ويقصد به أيضاً الجلوس، فسواء كان مضطجعاً أو جالساً كل هذا يقال له: جلوس، ولكن الاضطجاع في الغالب يكون معه النوم، والمعنى: أن الإنسان حين يريد أن ينام ويضطجع لا يخلو ذلك الاضطجاع من ذكر الله سبحانه وتعالى.(552/6)
تراجم رجال إسناد حديث (من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عجلان].
هو محمد بن عجلان المدني، وهو صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن، وقد ذكر في ترجمته أنه بقي في بطن أمه أربع سنوات، أي: حملت به أمه أربع سنين.
[عن سعيد المقبري].
هو سعيد بن أبي سعيد المقبري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة قد مر ذكره.(552/7)
أهمية ذكر الله عز وجل في المجالس
إذا كان هناك أناس جالسين في المجلس وأحدهم يقول: أستغفر الله وهم يسمعون، فإنهم يكونون مشتركين في هذا، ولكن لا ينبغي أن يكون الذي يذكر الله واحداً منهم وهم يغفلون عن الذكر؛ لأنه قد يكون هناك مجلس يجتمع فيه أناس وواحد منهم يذكر الله عز وجل والباقون ساهون لاهون، فكونه ذكر الله عز وجل لا يكفي عن سهوهم وعن غفلتهم ولهوهم، بل يذكرون الله عز وجل جميعاً.
وإذا كان المجلس في أمر مباح فليس فيه شيء ولكن عند قيامهم يأتون بالذكر المشروع الذي هو كفارة المجلس، هذا هو الذي ينبغي أن يكون.(552/8)
كفارة المجلس(552/9)
شرح أثر عبد الله بن عمرو (كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كفارة المجلس.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب قال: أخبرني عمرو أن سعيد بن أبي هلال حدثه أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدثه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: (كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كفر بهن عنه، ولا يقولهن في مجلس خير ومجلس ذكر إلا ختم له بهن عليه كما يختم بالخاتم على الصحيفة: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)].
أورد أبو داود باب كفارة المجلس، أي: الكلمات أو الذكر الذي يقال عند انتهاء المجلس ليكون ختاماً له، ليكون ختامه مسكاً، ويكون ختامه على وجه مشروع فيه اتباع للسنة التي أرشد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الإتيان بهذا الذكر عند انتهاء المجلس، فإذا حصل فيه شيء من اللغو أو شيء مما لا ينبغي فيكون ذلك كفارة لما حصل.
وأما إذا كان المجلس فيه كلام في أعراض الناس، فهذه حقوق للناس لا يكفي فيها أن يقول الإنسان هذا الذكر ويظن أن تلك الحقوق قد سقطت، وإنما هذا الذكر في الأمور التي يمكن أن تكون مكفرة لما يحصل من لغو في ذلك المجلس، وأما حقوق الناس فهذه بينه وبين الناس، فإذا طلب منهم المسامحة والعفو وعفوا عنه فإنه يكون بذلك قد سلم من التبعة؛ لكونهم سامحوه وأعفوه من ذلك الذي حصل، وإلا فإن مجرد القيام بكونه يأتي بهذا الذكر لا يسقط عنه حقوق الناس الذين ألحق بهم الأذى والذين نال منهم، بل هذا لا بد أن يكون بطلب المسامحة منهم.
وقد أورد أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كفر بهن عنه).
الأحاديث وردت في الإتيان بهذا الذكر مرة واحدة، وهذا الحديث جاء فيه أنه يقولها ثلاث مرات، لكن الأحاديث الكثيرة والروايات المتعددة جاءت بأن الذكر يقال مرة واحدة، وقد صح الحديث بدون ذكر الثلاث، ولم يأت ذكر العدد إلا في هذا الموضع.
وقوله: (أو لا يقولهن في مجلس خير ومجلس ذكر إلا ختم له بهن عليه كما يختم بالخاتم على الصحيفة).
معنى ذلك: أن الصحيفة كلها خير، وأن المجلس معمور بالخير ثم جاءت هذه ختاماً له وصارت خيراً على خير، فإذا كان هناك مجلس حصل فيه لغو، وحصل فيه أمور لا تنبغي فإن هذا الذكر يكفرها، وإذا كان المجلس كله ذكر وخير، وليس فيه خطأ ولا سوء، فيكون هذا الذكر خيراً على خير، وتكون ختاماً لذلك الخير، وطابعاً على ذلك الخير.
وقوله: (سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك).
هذا ثناء على الله عز وجل وذكر له سبحانه وتعالى، ودعاء واستغفار؛ لأن الاستغفار دعاء، فجمع فيه بين الثناء عليه وتنزيهه سبحانه وتعالى، وبين توحيده والاعتراف بألوهيته، وبين الاستغفار الذي هو طلب المغفرة من الله عز وجل، فجمع بين هذه الأمور كلها في هذا الذكر المختصر الذي هو ذكر ودعاء.(552/10)
تراجم أثر عبد الله بن عمرو (كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن وهب].
ابن وهب مر ذكره.
[قال: أخبرني عمرو].
هو ابن الحارث المصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن سعيد بن أبي هلال].
سعيد بن أبي هلال صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثه أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدثه عن عبد الله بن عمرو بن العاص].
سعيد بن أبي سعيد المقبري مر ذكره، وعبد الله بن عمرو بن العاص صحابي جليل أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وما ذكره عبد الله بن عمرو هنا ليس مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن له حكم الرفع؛ لأن مثل هذا لا يقال بالرأي.(552/11)
شرح حديث أبي هريرة في كفارة المجلس وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب قال: قال عمرو: وحدثني بنحو ذلك عبد الرحمن بن أبي عمرو عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله].
أورد أبو داود هذا الحديث من طريق أخرى مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مثل الذي قبله، والذي قبله له حكم الرفع، ولكن هذا فيه الرفع تصريحاً؛ لأنه أضافه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: مثله، يعني: المماثلة والمطابقة.
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب قال: قال عمرو: وحدثني بنحو ذلك عبد الرحمن بن أبي عمرو].
عبد الرحمن بن أبي عمرو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن المقبري عن أبي هريرة].
المقبري وأبو هريرة تقدم ذكرهما.(552/12)
الإتيان بكفارة المجلس بعد مجالس الخير وغيرها
البعض ينكر كفارة المجلس في مجالس العلم، بدليل أنهم لم يذنبوا حتى يستغفروا، وهذا غير صحيح؛ فإن الحديث الذي مر فيه أنه إذا أتي بكفارة المجلس في مجلس خير تكون خيراً على خير، وتكون كالطابع على الصحيفة، وعلى هذا فيؤتى بها في المجلس الذي هو مجلس ذكر وخير، ويؤتى بها في المجلس الذي هو مشوب بأمور أخرى.
والذي يبدو أن كفارة المجلس يقولها كل من كان جالساً في المجلس.(552/13)
حكم كتابة كفارة المجلس على جدران المجالس
كتابة كفارة المجلس في جدران المجالس ليتذكر الجالسون عند ختم المجلس هذا قد يكون فيه زيادة حجة على الإنسان؛ لأن هذا أمر موجود والناس مع ذلك يرونه ثم لا يطبقونه، فيكون ذلك أشد عليهم، ولكن على الناس أن يتفقهوا في الدين وأن يعرفوا الأحكام الشرعية وأن يتأدبوا بالآداب، ولا يكون الشأن أن تعلق تلك الأشياء ثم قد يراها الإنسان ويغفل عنها، فيكون ذلك زيادة حجة عليه.(552/14)