معنى قول ابن عمر: (يريد أن ينخرم ذلك القرن)
السؤال
ما معنى قول ابن عمر (يريد أن ينخرم ذلك القرن)؟
الجواب
( انخرم) يعني: انتهى وانقضى ذلك القرن أو ذلك الجيل، أو تلك الفئة من الناس الذين كانوا موجودين على قيد الحياة، سواء من كان منهم في أول عمره أو من كان في نهاية عمره، لأن من كان في نهاية عمره يموت في أول تلك المائة، ومن كان في بداية عمره وشاء الله تعالى أن يعمر وأن يصل إلى مائة سنة، فإنه لابد وأن ينتهي قبل المائة السنة، ومن كان قبل ذلك وعمر فإنه ينقضي ولو كان بلغ عمره مائة وعشرين أو مائة وثلاثين أو أكثر من ذلك، المهم أن من كان على قيد الحياة سواء كان كبيراً أو صغيراً لن يأتي مائة سنة من تلك الليلة إلا وقد فنيوا جميعاً.(490/12)
إثبات موت الخضر وعدم تعمره.
السؤال
هل يستثنى الخضر من الحديث الدال على انتهاء الجيل على رأس المائة السنة؟
الجواب
الخضر ليس مستثنى؛ لأنه ما جاء شيء يدل على حياته وبقائه، فما من دليل ثابت يدل على أنه حي وموجود، وإن كان قاله جماعة كثيرة من العلماء، وإنما الأدلة تدل على أنه قد مات، ومنها قول الله عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34]، فإن هذه الآية عامة ولا يستثنى منها إلا إذا جاء دليل يدل على بقائه ووجوده كما تقدم في مسيح الهداية ومسيح الضلالة، ومنها هذا الحديث الذي معنا، فإن هذا يدل على أن من كان موجوداً في تلك الليلة لن تأتي عليه مائة سنة إلا وقد مات، فلو كان الخضر موجوداً فإنه سينتهي خلال هذه المدة، ولم يأت دليل يدل على استثنائه، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في بدر، وكان سأل الله عز وجل ورفع يديه وألح على الله تعالى في الدعاء حتى سقط رداؤه وكان من دعائه قوله: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)، ولو هلكت العصابة الموجودة، فإن الخضر موجود يعبد الله في الأرض إذا كان ما مات، وإذا كان على قيد الحياة.
ثم أيضاً: لو كان الخضر موجوداً والرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله للناس كافة -وهو كما يقول الناس: إنه يصول ويجول في الدنيا- ألا يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويتشرف بصحبته ورؤيته ولقائه والجهاد معه، والذب عنه؟! كيف يكون حياً ثم لا يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويجاهد معه وهو ذو بأس، كما يظنه من يظنه من الصوفية والذين لهم فيه أحاديث، وكلام كثير حول وجوده؟! كيف يكون موجودا ًولا يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)؟ فإذا كان الخضر حياً كيف لا يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يأتي إليه يتبعه؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن عيسى إنه إذا نزل سيحكم بشريعته.
فالقول الصحيح أنه غير موجود، وأنه قد مات، لما ذكرته من الأدلة التي ذكرها العلماء والدالة على موته وعدم حياته وبقائه.
وقد جاء في صحيح مسلم في قصة الرجل الذي يقتله الدجال ويقسمه قطعتين، ثم يعود، ذكر أحد الرواة أنه الخضر، وهذا في صحيح مسلم، وهو من زيادات الراوي عن الإمام مسلم، وابن حجر رحمه الله ألف كتاباً سماه: الروض النضر في نبأ الخضر، وذكر أقوال الناس الذين قالوا بحياته ووفاته، والذين قالوا بنبوته أو عدم نبوته، وهو مطبوع ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، وكذلك ذكره أيضاً في الإصابة، ولكنه ألف فيه تلك الرسالة الخاصة المطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، والقول الصحيح: أنه نبي وليس بولي فقط، ودعوى ولايته عول عليها كثير من الناس، حتى جعلوا للأولياء منازل وصفات كلها بناءً على أن الخضر ولي، ومعلوم أن الولي يأخذ من النبي ويتلقى منه، ومعلوماته إنما تأتي من النبي، وليس عنده معلومات من دون أن تأتي من النبي، بل الحق والهدى ما جاء عن الأنبياء، والأولياء هم تابعون للأنبياء، والقول الصحيح أنه نبي وليس بولي، وقصته في سورة الكهف تدل على أنه نبي، وقد ثبت أنه قال لموسى: (أنت على علم من الله لا أعلمه وأنا على علم من الله لا تعلمه) وقال في نفس القصة، في سورة الكهف عدة مواضع {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65]، وفي آخرها {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82].
فهذا كله يدل على أنه نبي وليس بولي وقوله لموسى: (أنا على علم من الله) معلوم أن العلم الذي يكون عند الناس إما ولي جاء علمه عن طريق الأنبياء أو نبي جاء علمه عن الله عز وجل.(490/13)
شرح سنن أبي داود [491]
من أعظم الجرائم في الإسلام أن يرتد عنه صاحبه إلى الكفران، ولا يحدث هذا إلا من مخذول بالغ في السفه غايته، ولذا قررت الشريعة حداً لمرتكب هذه الجريمة النكراء لا مجاملة فيه ولا مداهنة وهو القتل، إلا أنه عند قتله يجتنب فيه ما حرمته الشريعة كالإحراق أو التمثيل، بل الأمر مبني على الإحسان في كل شيء، ومنه القتل، كما هو معلوم.(491/1)
الحكم فيمن ارتد(491/2)
شرح حديث: (من بدل دينه فاقتلوه).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أول كتاب الحدود.
باب الحكم فيمن ارتد.
حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أخبرنا أيوب عن عكرمة أن علياً رضي الله عنه أحرق ناساً ارتدوا عن الإسلام، فبلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنهما فقال: لم أكن لأحرقهم بالنار، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تعذبوا بعذاب الله، وكنت قاتلهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من بدل دينه فاقتلوه)، فبلغ ذلك علياً رضي الله عنه فقال: ويح ابن عباس!].
أورد أبو داود هذا الكتاب بعد كتاب الملاحم فقال: أول كتاب الحدود، والحدود: جمع حد، وهو الفاصل بين الشيئين، والحدود: هي العقوبات المقدرة في هذه الحياة الدنيا، كأن يكون حد القاذف وعقوبته ثمانون جلدة، والزاني البكر مائة جلدة، والثيب يرجم، والسارق يقطع، فالحدود: هي عقوبات مقدرة في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي عقوبات دنيوية، لكن هذه العقوبات من حصلت له في الدنيا فإنها نصيبه من العذاب على هذا الذنب الذي أقيم عليه الحد فيه، ولا يعذب عليه في الآخرة؛ لأن الحدود هي جوابر عند أهل السنة والجماعة، كما جاء في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي فيه: (من أتى شيئاً من هذه المعاصي فأقيم عليه الحد كان كفارة له، ومن ستره الله فأمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه)، يعني: من ستره الله وتاب تاب الله عليه، ومن مات غير تائب فإنه تحت مشيئة الله، ومن أقيم عليه الحد كان كفارة له؛ ولهذا فإن الحدود عند أهل السنة هي جوابر وزواجر مع بعض؛ فهي جبر للنقص، وهي زجر للذي أقيم عليه الحد ألا يعود مرة أخرى، وزجر لغيره ألا يفعل مثل ما فعل فيقام عليه الحد كما أقيم عليه الحد، فهي جوابر وزواجر.
أما المعتزلة القائلون بأن مرتكب الكبيرة كافر ومخلد في النار، فعندهم الحدود زواجر وليست جوابر، ولهذا فالإنسان الذي يموت وهو غير تائب فإنه يكون مخلداً في النار؛ لأنه كافر عندهم، وأما أهل السنة والجماعة فعندهم الحدود جوابر وزواجر، لا يقال: إنها جوابر فقط، ولا يقال: زواجر فقط، فهذا من جملة الأسئلة التي إذا سئل عنها فيقال: هل الحدود جوابر أو زواجر؟ فيقال: هي جوابر وزواجر مع بعض، لا يقال: هي جوابر فقط، ولا يقال: زواجر فقط، وهو من الأسئلة التي يكون الجواب عليها ليس باختيار واحد من الاثنين المسئول عنهما، وإنما الجواب بجمعهما مع بعض، وأن كلاً منهما معترف به، فيقال: هي جوابر وزواجر؛ جوابر من أجل النقص الذي حصل؛ لأن صاحبه حصل العقوبة في الدنيا ولن يعاقب على ذلك في الآخرة، وهي زواجر أيضاً لأن نفس الشخص الذي أقيم عليه الحد ينزجر إذا كان حده لا يؤدي إلى فنائه، مثل الجلد للزاني إذا كان بكراً، ففيه زجر له حتى لا يعود مرة أخرى، وغيره أيضاً ينزجر، ولهذا قال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، لأن المقصود بذلك حتى ينزجروا ويرتدعوا، وحتى لا يقعوا فيما وقع فيه فيحصل لهم مثل الذي حصل له، فهي عند أهل السنة جوابر وزواجر، وعند غيرهم كالمعتزلة والخوارج زواجر فقط وليست جوابر.
ويشبه هذا من الأشياء التي يكون الجواب عنها ليس باختيار واحد من الاثنين، وإنما هو مجموع الاثنين قول: هل الإنسان مخير أو مسير؟
و
الجواب
لا يقال: إنه مخير فقط، ولا يقال: إنه مسير فقط، بل يقال: مخير مسير، فهو مخير باعتبار، ومسير باعتبار، والقول بأنه مسير فقط هذا قول الجبرية، وقول بأنه مخير هذا قول المعتزلة، يقولون: الإنسان هو الذي يخلق فعله ويوجده، وأنه يختار لنفسه ما يختار.
والصحيح أنه مخير باعتبار أن عنده عقلاً، وأنه مأمور منهي، وأنه إن فعل ما هو طيب يثاب، وإن فعل ما هو سيئ يعاقب، فهو ليس مجبوراً بل هو مخير، يفعل بمشيئته وإرادته، ولهذا فإن الإنسان إذا فعل بمشيئته واختياره شيئاً عوقب عليه، ولا يقال: إنه مسير، بمعنى: أنه ليس له إرادة ولا مشيئة كما تقوله الجبرية، الذين يقولون: إن الإنسان لا مشيئة له ولا إرادة، فهذا كلام غير صحيح، بل الإنسان له مشيئة وإرادة ولكنها لا تخرج عن مشيئة الله وإرادته، وهو مسير باعتبار أنه لا يخرج عن قضاء الله وقدره، فهو مسير بهذا الاعتبار، ومخير باعتبار أن عنده عقلاً، وهو مكلف ومأمور ومنهي، إن أحسن وجد الثواب، وإن أساء وجد العقاب: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، فالجواب هو بمجموع الأمرين، والذين يقولون بأنه مسير، بمعنى: أنه مجبور وأنه ليس له إرادة، يتضح فساد قولهم بأن الإنسان له حالتان: حالة يكون فيها عنده قدرة وإرادة ومشيئة، وحالة يكون ليس له قدرة ولا إرادة ولا مشيئة، فالإنسان الذي ترتعش يده وتضطرب فهذا يقال عليه: إنه مسير، ولا يقال: إنه مخير؛ لأنه لو قيل له: أوقف يدك، ما يستطيع، ولو ضرب فإنه لا يستطيع أن يوقف يده؛ لأن الارتعاش ليس من اختياره، لكن كونه يأكل ويشرب ويذهب ويجيء هذا باختياره، فله أن يأكل، وله ألا يأكل، وله أن يدخل، وله ألا يدخل، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)، لأنه إن كان يطيق المأمور به فإنه يفعله، وإن كان لا يطيقه فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، كما قال عليه الصلاة والسلام: (فأتوا منه ما استطعتم).
وأما فيما يتعلق بالنهي فإنه يقدر أن يتركه؛ لأن هذا الترك مستطاع، ولهذا لم يقيد بقوله صلى الله عليه وسلم: (ما استطعتم)، فإذا قيل لإنسان: لا تدخل من هذا الباب، فإنه يقدر على ترك ذلك؛ لأنه ليس ثقيلاً عليه، لكن لو قيل له: احمل هذه الصخرة، فقد يستطيع وقد لا يستطيع؛ لأن هذا أمر، وذاك نهي، فالأمر كل يفعله على قدر طاقته: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، والنهي كل يستطيع تركه، ويبين الفرق بين هذا وهذا قول بعض النحويين في تعريف الفاعل، يقولون: الفاعل: اسم مرفوع يدل على من وحصل منه الحدث أو قام به الحدث، وحصل منه الحدث مثل: أكل، شرب، ذهب، خرج، دخل؛ لأن الدخول والخروج والأكل والشرب حصل لفعل الفاعل، لكن ارتعشت يده، أو مات أو مرض هذا ليس فعلاً، وإنما هو وصف قام به الحدث ولم يفعل هو الحدث، فهذا وصف قام به وليس من فعله، فالمرض ليس من فعله، والموت ليس من فعله، والارتعاش ليس من فعله، فهذا قام به الحدث.
فإذا طرح
السؤال
هل هذا الإنسان مسير أو مخير؟ فالجواب بواحد منهما غير صحيح، والجواب الصحيح أن يقال: هو مخير مسير، مخير باعتبار، ومسير باعتبار، كذلك الحدود هل هي زواجر أو جوابر؟ ليس الجواب واحداً منهما، وإنما الجواب هو مجموعهما.
أورد أبو داود ترجمة الباب وهي: [باب الحكم فيمن ارتد]، أي: من ارتد عن دين الإسلام، فإن حده القتل، وليس هو مثل الكافر الأصلي، فالكافر الأصلي لا يقتل إلا عن طريق الجهاد، أو كونه يفعل شيئاً يقتضي قتله، أما الذي كان مسلماً ثم ارتد فإنه إذا لم يرجع إلى الإسلام فإنه يقتل؛ لأنه بدل دينه (من بدل دينه فاقتلوه)، فالمرتد: هو الذي ارتد عن الإسلام والعياذ بالله، حصل الخير ثم أدركه الخذلان، فرجع عن الإيمان إلى الكفر، والعياذ بالله! فكان حده القتل إذا لم يعد إلى الإسلام ولم يتب من ردته، والمرتد حكمه القتل لقوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه).
ثم أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه، وقد جاء فيه عن علي عليه السلام، وهذه العبارة: (عليه السلام) يؤتى بها في بعض الكتب مع ذكر علي، وذكر الحسن والحسين وفاطمة، وهذا غالباً من عمل نساخ الكتب، وليس من عمل المصنفين والمؤلفين، وقد ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله في تفسيره، عند قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وقد ذكر في تفسير هذه الآية أنه يوجد في بعض الكتب: عن علي عليه السلام، وقال: إن هذا من عمل النساخ، عندما يأتي ينسخ كتاباً، ويأتي ذكر علي يكتب: عليه السلام، والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم جميعاً يعاملون معاملة واحدة، والطريقة التي درج عليها سلف هذه الأمة هي الترضي عن الصحابة، والترحم على من بعدهم، وكذلك أيضاً يكون الترحم على الصحابة؛ لأنه جاء ذلك عن السلف، وكذلك الترضي يجوز على غير الصحابة، لكن الذي درج عليه سلف هذه الأمة أن الترضي يكون للصحابة، وهي علامة على الصحابي، والترحم علامة على من بعدهم، وأما ما اشتهر في هذا الزمان من الترحم على الميت، فهذا الشيء اشتهر عند الناس بأن (رحمه الله) تقال للميت، والحي لا يقال له: رحمه الله، والصحيح أنه يقال له: رحمه الله، لكن الذي جرى عليه عرف الناس وفهمهم أنهم يطلقونه على من كان قد مات.
والرجل الصحابي يعرف أنه صحابي عندما يقال: رضي الله عنه فصارت هذه علامة على الصحابي.
قوله: [أن علياً رضي الله عنه أحرق ناساً ارتدوا عن الإسلام].
معناه: أنه قتلهم، ولكنه قتلهم بهذه الوسيلة التي هي الإحراق بالنار، فعندما بلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنه قال: إن النار لا يعذب بها إلا الله عز وجل.
قوله: [فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لم أكن لأحرقهم بالنار، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تعذبوا بعذاب الله)].
يعني: لو كان الأمر لي، ولو كنت منفذاً ذلك الشيء لم أحرقهم، ول(491/3)
منهج أهل السنة في إثبات الإرادة للإنسان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أول كتاب الحدود.
باب الحكم فيمن ارتد.
حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أخبرنا أيوب عن عكرمة أن علياً رضي الله عنه أحرق ناساً ارتدوا عن الإسلام، فبلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنهما فقال: لم أكن لأحرقهم بالنار، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تعذبوا بعذاب الله، وكنت قاتلهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من بدل دينه فاقتلوه)، فبلغ ذلك علياً رضي الله عنه فقال: ويح ابن عباس!].
أورد أبو داود هذا الكتاب بعد كتاب الملاحم فقال: أول كتاب الحدود، والحدود: جمع حد، وهو الفاصل بين الشيئين، والحدود: هي العقوبات المقدرة في هذه الحياة الدنيا، كأن يكون حد القاذف وعقوبته ثمانون جلدة، والزاني البكر مائة جلدة، والثيب يرجم، والسارق يقطع، فالحدود: هي عقوبات مقدرة في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي عقوبات دنيوية، لكن هذه العقوبات من حصلت له في الدنيا فإنها نصيبه من العذاب على هذا الذنب الذي أقيم عليه الحد فيه، ولا يعذب عليه في الآخرة؛ لأن الحدود هي جوابر عند أهل السنة والجماعة، كما جاء في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي فيه: (من أتى شيئاً من هذه المعاصي فأقيم عليه الحد كان كفارة له، ومن ستره الله فأمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه)، يعني: من ستره الله وتاب تاب الله عليه، ومن مات غير تائب فإنه تحت مشيئة الله، ومن أقيم عليه الحد كان كفارة له؛ ولهذا فإن الحدود عند أهل السنة هي جوابر وزواجر مع بعض؛ فهي جبر للنقص، وهي زجر للذي أقيم عليه الحد ألا يعود مرة أخرى، وزجر لغيره ألا يفعل مثل ما فعل فيقام عليه الحد كما أقيم عليه الحد، فهي جوابر وزواجر.
أما المعتزلة القائلون بأن مرتكب الكبيرة كافر ومخلد في النار، فعندهم الحدود زواجر وليست جوابر، ولهذا فالإنسان الذي يموت وهو غير تائب فإنه يكون مخلداً في النار؛ لأنه كافر عندهم، وأما أهل السنة والجماعة فعندهم الحدود جوابر وزواجر، لا يقال: إنها جوابر فقط، ولا يقال: زواجر فقط، فهذا من جملة الأسئلة التي إذا سئل عنها فيقال: هل الحدود جوابر أو زواجر؟ فيقال: هي جوابر وزواجر مع بعض، لا يقال: هي جوابر فقط، ولا يقال: زواجر فقط، وهو من الأسئلة التي يكون الجواب عليها ليس باختيار واحد من الاثنين المسئول عنهما، وإنما الجواب بجمعهما مع بعض، وأن كلاً منهما معترف به، فيقال: هي جوابر وزواجر؛ جوابر من أجل النقص الذي حصل؛ لأن صاحبه حصل العقوبة في الدنيا ولن يعاقب على ذلك في الآخرة، وهي زواجر أيضاً لأن نفس الشخص الذي أقيم عليه الحد ينزجر إذا كان حده لا يؤدي إلى فنائه، مثل الجلد للزاني إذا كان بكراً، ففيه زجر له حتى لا يعود مرة أخرى، وغيره أيضاً ينزجر، ولهذا قال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، لأن المقصود بذلك حتى ينزجروا ويرتدعوا، وحتى لا يقعوا فيما وقع فيه فيحصل لهم مثل الذي حصل له، فهي عند أهل السنة جوابر وزواجر، وعند غيرهم كالمعتزلة والخوارج زواجر فقط وليست جوابر.
ويشبه هذا من الأشياء التي يكون الجواب عنها ليس باختيار واحد من الاثنين، وإنما هو مجموع الاثنين قول: هل الإنسان مخير أو مسير؟
و
الجواب
لا يقال: إنه مخير فقط، ولا يقال: إنه مسير فقط، بل يقال: مخير مسير، فهو مخير باعتبار، ومسير باعتبار، والقول بأنه مسير فقط هذا قول الجبرية، وقول بأنه مخير هذا قول المعتزلة، يقولون: الإنسان هو الذي يخلق فعله ويوجده، وأنه يختار لنفسه ما يختار.
والصحيح أنه مخير باعتبار أن عنده عقلاً، وأنه مأمور منهي، وأنه إن فعل ما هو طيب يثاب، وإن فعل ما هو سيئ يعاقب، فهو ليس مجبوراً بل هو مخير، يفعل بمشيئته وإرادته، ولهذا فإن الإنسان إذا فعل بمشيئته واختياره شيئاً عوقب عليه، ولا يقال: إنه مسير، بمعنى: أنه ليس له إرادة ولا مشيئة كما تقوله الجبرية، الذين يقولون: إن الإنسان لا مشيئة له ولا إرادة، فهذا كلام غير صحيح، بل الإنسان له مشيئة وإرادة ولكنها لا تخرج عن مشيئة الله وإرادته، وهو مسير باعتبار أنه لا يخرج عن قضاء الله وقدره، فهو مسير بهذا الاعتبار، ومخير باعتبار أن عنده عقلاً، وهو مكلف ومأمور ومنهي، إن أحسن وجد الثواب، وإن أساء وجد العقاب: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، فالجواب هو بمجموع الأمرين، والذين يقولون بأنه مسير، بمعنى: أنه مجبور وأنه ليس له إرادة، يتضح فساد قولهم بأن الإنسان له حالتان: حالة يكون فيها عنده قدرة وإرادة ومشيئة، وحالة يكون ليس له قدرة ولا إرادة ولا مشيئة، فالإنسان الذي ترتعش يده وتضطرب فهذا يقال عليه: إنه مسير، ولا يقال: إنه مخير؛ لأنه لو قيل له: أوقف يدك، ما يستطيع، ولو ضرب فإنه لا يستطيع أن يوقف يده؛ لأن الارتعاش ليس من اختياره، لكن كونه يأكل ويشرب ويذهب ويجيء هذا باختياره، فله أن يأكل، وله ألا يأكل، وله أن يدخل، وله ألا يدخل، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)، لأنه إن كان يطيق المأمور به فإنه يفعله، وإن كان لا يطيقه فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، كما قال عليه الصلاة والسلام: (فأتوا منه ما استطعتم).
وأما فيما يتعلق بالنهي فإنه يقدر أن يتركه؛ لأن هذا الترك مستطاع، ولهذا لم يقيد بقوله صلى الله عليه وسلم: (ما استطعتم)، فإذا قيل لإنسان: لا تدخل من هذا الباب، فإنه يقدر على ترك ذلك؛ لأنه ليس ثقيلاً عليه، لكن لو قيل له: احمل هذه الصخرة، فقد يستطيع وقد لا يستطيع؛ لأن هذا أمر، وذاك نهي، فالأمر كل يفعله على قدر طاقته: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، والنهي كل يستطيع تركه، ويبين الفرق بين هذا وهذا قول بعض النحويين في تعريف الفاعل، يقولون: الفاعل: اسم مرفوع يدل على من وحصل منه الحدث أو قام به الحدث، وحصل منه الحدث مثل: أكل، شرب، ذهب، خرج، دخل؛ لأن الدخول والخروج والأكل والشرب حصل لفعل الفاعل، لكن ارتعشت يده، أو مات أو مرض هذا ليس فعلاً، وإنما هو وصف قام به الحدث ولم يفعل هو الحدث، فهذا وصف قام به وليس من فعله، فالمرض ليس من فعله، والموت ليس من فعله، والارتعاش ليس من فعله، فهذا قام به الحدث.
فإذا طرح
السؤال
هل هذا الإنسان مسير أو مخير؟ فالجواب بواحد منهما غير صحيح، والجواب الصحيح أن يقال: هو مخير مسير، مخير باعتبار، ومسير باعتبار، كذلك الحدود هل هي زواجر أو جوابر؟ ليس الجواب واحداً منهما، وإنما الجواب هو مجموعهما.
أورد أبو داود ترجمة الباب وهي: [باب الحكم فيمن ارتد]، أي: من ارتد عن دين الإسلام، فإن حده القتل، وليس هو مثل الكافر الأصلي، فالكافر الأصلي لا يقتل إلا عن طريق الجهاد، أو كونه يفعل شيئاً يقتضي قتله، أما الذي كان مسلماً ثم ارتد فإنه إذا لم يرجع إلى الإسلام فإنه يقتل؛ لأنه بدل دينه (من بدل دينه فاقتلوه)، فالمرتد: هو الذي ارتد عن الإسلام والعياذ بالله، حصل الخير ثم أدركه الخذلان، فرجع عن الإيمان إلى الكفر، والعياذ بالله! فكان حده القتل إذا لم يعد إلى الإسلام ولم يتب من ردته، والمرتد حكمه القتل لقوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه).
ثم أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه، وقد جاء فيه عن علي عليه السلام، وهذه العبارة: (عليه السلام) يؤتى بها في بعض الكتب مع ذكر علي، وذكر الحسن والحسين وفاطمة، وهذا غالباً من عمل نساخ الكتب، وليس من عمل المصنفين والمؤلفين، وقد ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله في تفسيره، عند قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وقد ذكر في تفسير هذه الآية أنه يوجد في بعض الكتب: عن علي عليه السلام، وقال: إن هذا من عمل النساخ، عندما يأتي ينسخ كتاباً، ويأتي ذكر علي يكتب: عليه السلام، والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم جميعاً يعاملون معاملة واحدة، والطريقة التي درج عليها سلف هذه الأمة هي الترضي عن الصحابة، والترحم على من بعدهم، وكذلك أيضاً يكون الترحم على الصحابة؛ لأنه جاء ذلك عن السلف، وكذلك الترضي يجوز على غير الصحابة، لكن الذي درج عليه سلف هذه الأمة أن الترضي يكون للصحابة، وهي علامة على الصحابي، والترحم علامة على من بعدهم، وأما ما اشتهر في هذا الزمان من الترحم على الميت، فهذا الشيء اشتهر عند الناس بأن (رحمه الله) تقال للميت، والحي لا يقال له: رحمه الله، والصحيح أنه يقال له: رحمه الله، لكن الذي جرى عليه عرف الناس وفهمهم أنهم يطلقونه على من كان قد مات.
والرجل الصحابي يعرف أنه صحابي عندما يقال: رضي الله عنه فصارت هذه علامة على الصحابي.
قوله: [أن علياً رضي الله عنه أحرق ناساً ارتدوا عن الإسلام].
معناه: أنه قتلهم، ولكنه قتلهم بهذه الوسيلة التي هي الإحراق بالنار، فعندما بلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنه قال: إن النار لا يعذب بها إلا الله عز وجل.
قوله: [فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لم أكن لأحرقهم بالنار، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تعذبوا بعذاب الله)].
يعني: لو كان الأمر لي، ولو كنت منفذاً ذلك الشيء لم أحرقهم، ول(491/4)
النهي عن قتل الرجل حرقاً حتى وإن كان مستحقاً للقتل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أول كتاب الحدود.
باب الحكم فيمن ارتد.
حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أخبرنا أيوب عن عكرمة أن علياً رضي الله عنه أحرق ناساً ارتدوا عن الإسلام، فبلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنهما فقال: لم أكن لأحرقهم بالنار، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تعذبوا بعذاب الله، وكنت قاتلهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من بدل دينه فاقتلوه)، فبلغ ذلك علياً رضي الله عنه فقال: ويح ابن عباس!].
أورد أبو داود هذا الكتاب بعد كتاب الملاحم فقال: أول كتاب الحدود، والحدود: جمع حد، وهو الفاصل بين الشيئين، والحدود: هي العقوبات المقدرة في هذه الحياة الدنيا، كأن يكون حد القاذف وعقوبته ثمانون جلدة، والزاني البكر مائة جلدة، والثيب يرجم، والسارق يقطع، فالحدود: هي عقوبات مقدرة في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي عقوبات دنيوية، لكن هذه العقوبات من حصلت له في الدنيا فإنها نصيبه من العذاب على هذا الذنب الذي أقيم عليه الحد فيه، ولا يعذب عليه في الآخرة؛ لأن الحدود هي جوابر عند أهل السنة والجماعة، كما جاء في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي فيه: (من أتى شيئاً من هذه المعاصي فأقيم عليه الحد كان كفارة له، ومن ستره الله فأمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه)، يعني: من ستره الله وتاب تاب الله عليه، ومن مات غير تائب فإنه تحت مشيئة الله، ومن أقيم عليه الحد كان كفارة له؛ ولهذا فإن الحدود عند أهل السنة هي جوابر وزواجر مع بعض؛ فهي جبر للنقص، وهي زجر للذي أقيم عليه الحد ألا يعود مرة أخرى، وزجر لغيره ألا يفعل مثل ما فعل فيقام عليه الحد كما أقيم عليه الحد، فهي جوابر وزواجر.
أما المعتزلة القائلون بأن مرتكب الكبيرة كافر ومخلد في النار، فعندهم الحدود زواجر وليست جوابر، ولهذا فالإنسان الذي يموت وهو غير تائب فإنه يكون مخلداً في النار؛ لأنه كافر عندهم، وأما أهل السنة والجماعة فعندهم الحدود جوابر وزواجر، لا يقال: إنها جوابر فقط، ولا يقال: زواجر فقط، فهذا من جملة الأسئلة التي إذا سئل عنها فيقال: هل الحدود جوابر أو زواجر؟ فيقال: هي جوابر وزواجر مع بعض، لا يقال: هي جوابر فقط، ولا يقال: زواجر فقط، وهو من الأسئلة التي يكون الجواب عليها ليس باختيار واحد من الاثنين المسئول عنهما، وإنما الجواب بجمعهما مع بعض، وأن كلاً منهما معترف به، فيقال: هي جوابر وزواجر؛ جوابر من أجل النقص الذي حصل؛ لأن صاحبه حصل العقوبة في الدنيا ولن يعاقب على ذلك في الآخرة، وهي زواجر أيضاً لأن نفس الشخص الذي أقيم عليه الحد ينزجر إذا كان حده لا يؤدي إلى فنائه، مثل الجلد للزاني إذا كان بكراً، ففيه زجر له حتى لا يعود مرة أخرى، وغيره أيضاً ينزجر، ولهذا قال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، لأن المقصود بذلك حتى ينزجروا ويرتدعوا، وحتى لا يقعوا فيما وقع فيه فيحصل لهم مثل الذي حصل له، فهي عند أهل السنة جوابر وزواجر، وعند غيرهم كالمعتزلة والخوارج زواجر فقط وليست جوابر.
ويشبه هذا من الأشياء التي يكون الجواب عنها ليس باختيار واحد من الاثنين، وإنما هو مجموع الاثنين قول: هل الإنسان مخير أو مسير؟
و
الجواب
لا يقال: إنه مخير فقط، ولا يقال: إنه مسير فقط، بل يقال: مخير مسير، فهو مخير باعتبار، ومسير باعتبار، والقول بأنه مسير فقط هذا قول الجبرية، وقول بأنه مخير هذا قول المعتزلة، يقولون: الإنسان هو الذي يخلق فعله ويوجده، وأنه يختار لنفسه ما يختار.
والصحيح أنه مخير باعتبار أن عنده عقلاً، وأنه مأمور منهي، وأنه إن فعل ما هو طيب يثاب، وإن فعل ما هو سيئ يعاقب، فهو ليس مجبوراً بل هو مخير، يفعل بمشيئته وإرادته، ولهذا فإن الإنسان إذا فعل بمشيئته واختياره شيئاً عوقب عليه، ولا يقال: إنه مسير، بمعنى: أنه ليس له إرادة ولا مشيئة كما تقوله الجبرية، الذين يقولون: إن الإنسان لا مشيئة له ولا إرادة، فهذا كلام غير صحيح، بل الإنسان له مشيئة وإرادة ولكنها لا تخرج عن مشيئة الله وإرادته، وهو مسير باعتبار أنه لا يخرج عن قضاء الله وقدره، فهو مسير بهذا الاعتبار، ومخير باعتبار أن عنده عقلاً، وهو مكلف ومأمور ومنهي، إن أحسن وجد الثواب، وإن أساء وجد العقاب: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، فالجواب هو بمجموع الأمرين، والذين يقولون بأنه مسير، بمعنى: أنه مجبور وأنه ليس له إرادة، يتضح فساد قولهم بأن الإنسان له حالتان: حالة يكون فيها عنده قدرة وإرادة ومشيئة، وحالة يكون ليس له قدرة ولا إرادة ولا مشيئة، فالإنسان الذي ترتعش يده وتضطرب فهذا يقال عليه: إنه مسير، ولا يقال: إنه مخير؛ لأنه لو قيل له: أوقف يدك، ما يستطيع، ولو ضرب فإنه لا يستطيع أن يوقف يده؛ لأن الارتعاش ليس من اختياره، لكن كونه يأكل ويشرب ويذهب ويجيء هذا باختياره، فله أن يأكل، وله ألا يأكل، وله أن يدخل، وله ألا يدخل، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)، لأنه إن كان يطيق المأمور به فإنه يفعله، وإن كان لا يطيقه فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، كما قال عليه الصلاة والسلام: (فأتوا منه ما استطعتم).
وأما فيما يتعلق بالنهي فإنه يقدر أن يتركه؛ لأن هذا الترك مستطاع، ولهذا لم يقيد بقوله صلى الله عليه وسلم: (ما استطعتم)، فإذا قيل لإنسان: لا تدخل من هذا الباب، فإنه يقدر على ترك ذلك؛ لأنه ليس ثقيلاً عليه، لكن لو قيل له: احمل هذه الصخرة، فقد يستطيع وقد لا يستطيع؛ لأن هذا أمر، وذاك نهي، فالأمر كل يفعله على قدر طاقته: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، والنهي كل يستطيع تركه، ويبين الفرق بين هذا وهذا قول بعض النحويين في تعريف الفاعل، يقولون: الفاعل: اسم مرفوع يدل على من وحصل منه الحدث أو قام به الحدث، وحصل منه الحدث مثل: أكل، شرب، ذهب، خرج، دخل؛ لأن الدخول والخروج والأكل والشرب حصل لفعل الفاعل، لكن ارتعشت يده، أو مات أو مرض هذا ليس فعلاً، وإنما هو وصف قام به الحدث ولم يفعل هو الحدث، فهذا وصف قام به وليس من فعله، فالمرض ليس من فعله، والموت ليس من فعله، والارتعاش ليس من فعله، فهذا قام به الحدث.
فإذا طرح
السؤال
هل هذا الإنسان مسير أو مخير؟ فالجواب بواحد منهما غير صحيح، والجواب الصحيح أن يقال: هو مخير مسير، مخير باعتبار، ومسير باعتبار، كذلك الحدود هل هي زواجر أو جوابر؟ ليس الجواب واحداً منهما، وإنما الجواب هو مجموعهما.
أورد أبو داود ترجمة الباب وهي: [باب الحكم فيمن ارتد]، أي: من ارتد عن دين الإسلام، فإن حده القتل، وليس هو مثل الكافر الأصلي، فالكافر الأصلي لا يقتل إلا عن طريق الجهاد، أو كونه يفعل شيئاً يقتضي قتله، أما الذي كان مسلماً ثم ارتد فإنه إذا لم يرجع إلى الإسلام فإنه يقتل؛ لأنه بدل دينه (من بدل دينه فاقتلوه)، فالمرتد: هو الذي ارتد عن الإسلام والعياذ بالله، حصل الخير ثم أدركه الخذلان، فرجع عن الإيمان إلى الكفر، والعياذ بالله! فكان حده القتل إذا لم يعد إلى الإسلام ولم يتب من ردته، والمرتد حكمه القتل لقوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه).
ثم أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه، وقد جاء فيه عن علي عليه السلام، وهذه العبارة: (عليه السلام) يؤتى بها في بعض الكتب مع ذكر علي، وذكر الحسن والحسين وفاطمة، وهذا غالباً من عمل نساخ الكتب، وليس من عمل المصنفين والمؤلفين، وقد ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله في تفسيره، عند قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وقد ذكر في تفسير هذه الآية أنه يوجد في بعض الكتب: عن علي عليه السلام، وقال: إن هذا من عمل النساخ، عندما يأتي ينسخ كتاباً، ويأتي ذكر علي يكتب: عليه السلام، والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم جميعاً يعاملون معاملة واحدة، والطريقة التي درج عليها سلف هذه الأمة هي الترضي عن الصحابة، والترحم على من بعدهم، وكذلك أيضاً يكون الترحم على الصحابة؛ لأنه جاء ذلك عن السلف، وكذلك الترضي يجوز على غير الصحابة، لكن الذي درج عليه سلف هذه الأمة أن الترضي يكون للصحابة، وهي علامة على الصحابي، والترحم علامة على من بعدهم، وأما ما اشتهر في هذا الزمان من الترحم على الميت، فهذا الشيء اشتهر عند الناس بأن (رحمه الله) تقال للميت، والحي لا يقال له: رحمه الله، والصحيح أنه يقال له: رحمه الله، لكن الذي جرى عليه عرف الناس وفهمهم أنهم يطلقونه على من كان قد مات.
والرجل الصحابي يعرف أنه صحابي عندما يقال: رضي الله عنه فصارت هذه علامة على الصحابي.
قوله: [أن علياً رضي الله عنه أحرق ناساً ارتدوا عن الإسلام].
معناه: أنه قتلهم، ولكنه قتلهم بهذه الوسيلة التي هي الإحراق بالنار، فعندما بلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنه قال: إن النار لا يعذب بها إلا الله عز وجل.
قوله: [فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لم أكن لأحرقهم بالنار، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تعذبوا بعذاب الله)].
يعني: لو كان الأمر لي، ولو كنت منفذاً ذلك الشيء لم أحرقهم، ول(491/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (من بدل دينه فاقتلوه).
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، الإمام المحدث الفقيه، من أئمة المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسماعيل بن إبراهيم].
هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم المشهور بـ ابن علية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي جليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(491/6)
حد الردة ليس من الحدود المكفرة.
أورد الحديث هنا في كتاب الحدود من أجل الردة، لكن ليس معنى ذلك أنه يكون كفارة له، كالحدود التي هي كفارات؛ لأنه قتل كافراً، فانتهت حياته بهذه الوسيلة ومآله إلى النار ما دام أنه لم يتب، ولو تاب لم يقتل، فحد المرتد لا يكون من الحدود المكفرة؛ لأن صاحبه خالد مخلد في النار، فهو أورده أبو داود في كتاب الحدود، ولكنه ليس من الحدود التي تكون كفارات؛ لأن صاحبه خرج من الإسلام، ومات على الكفر والعياذ بالله!(491/7)
شرح حديث: (لا يحل دم رجل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن عون أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم رجل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم رجل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) ومحل الشاهد هو هذا الأخير (التارك لدينه المفارق للجماعة) أي: المرتد الذي ارتد عن الإسلام، وفارق جماعة المسلمين، فإنه يقتل، وهؤلاء الثلاثة يقتلون، الثيب الزاني يقتل والوسيلة هي الرجم.
قوله: [(والنفس بالنفس)]، إنسان قتل إنساناً عمداً فإنه يقتل به، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178]، قال بعد ذلك: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179].
قوله: [(والتارك لدينه المفارق للجماعة)] التارك لدينه أي: الذي ارتد عن دين الإسلام، وفارق جماعة المسلمين بردته، فإن حكمه أن يقتل، فهذا الحديث عن عبد الله بن مسعود، وهو متفق عليه، وقد ذكر أشياء يكون فيها القتل، مثل الصائل إذا لم يندفع إلا بالقتل فإنه يقتل، وهذا يكون مما أذن فيه، ولكنه لا يقتل ابتداءً، بل الواجب هو الدرء ما استطاع بغير القتل، وأما هذه الأمور الثلاثة التي جاءت فإن القتل فيها يكون من أول وهلة.(491/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يحل دم رجل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث)
قوله: [حدثنا عمرو بن عون].
عمرو بن عون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا أبو معاوية].
هو أبو معاوية محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن مرة].
عبد الله بن مرة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسروق].
هو مسروق بن الأجدع، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله].
هو عبد الله بن مسعود الهذلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(491/9)
شرح حديث: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث)
قال المصنف رحمه الله تعالى [حدثنا محمد بن سنان الباهلي حدثنا إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن رفيع عن عبيد الله بن عمير عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان فإنه يرجم، ورجل خرج محارباً لله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب، أو ينفى من الأرض، أو يقتل نفساً فيقتل بها)].
أورد أبو داود حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان فإنه يرجم، ورجل خرج محارباً لله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض، أو يقتل نفساً فيقتل بها).
ذكر هنا في هذا الحديث الرجل الزاني المحصن، وكذلك قتل القاتل قصاصاً، ولم يذكر الردة، ولكنه ذكر المحاربة، وهو سيذكر في باب المحاربة؛ لأنه يتعلق بأحكام المحاربة، وقد يكون أورده في باب الردة من جهة أن الذي يحارب الله ورسوله يحصل منه الردة، فيكون ذكره من هذه الناحية، والحديث الذي سبق أن مر وهو حديث ابن مسعود ذكر الثلاثة: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة، وهذا مثله فيما يتعلق بالزاني وفيما يتعلق بالنفس بالنفس، وأما ما يتعلق بالقسم الثالث الذي هو المحاربة، وإذا كان الذي حصل منه ذلك ارتد عن الإسلام، وفعل هذه الأمور فإنه يدخل تحت هذا الباب الذي هو: باب الحكم فيمن المرتد.
قوله: [(لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)]، كلمة (مسلم) هذه فيها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لأنه لا يدخل الإسلام بدون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فتكون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صفة كاشفة، يعني: أنها زيادة توضيح وبيان وأن شأن المسلم أن يكون كذلك، فالشهادتان تعتبر صفة كاشفة؛ لأن الإسلام لا يكون إلا بالشهادتين، وبدون الشهادتين لا يدخل في الإسلام.
قوله: [(دم امرئ مسلم)].
يعني: يدل على أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأنه إذا لم يكن كذلك لا يقال: إنه مسلم، وعلى هذا تكون (يشهد أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله) صفة كاشفة، وهي التي توضح وتبين.
قوله: [(رجل زنى بعد إحصان فإنه يرجم)].
يعني: أنه محصن ولم يكن بكراً، فالبكر حكمه الجلد مائة والتغريب مدة عام، وأما الثيب فإنه يرجم بالحجارة حتى الموت؛ لأن في رمي الحجارة عقوبة على سائر الجسد، وأن الحجارة تقع عليه هنا وهنا، لأن اللذة التي حصلت بالجماع هي في جميع الجسد، فكان حكمه أن يرجم وأن يقتل هذه القتلة؛ لأن العمل الذي عمله فيه خبث، ولأنه قد أعف نفسه بالحلال فأقدم على الحرام فصارت عقوبته أن يرجم.
وأما ما يتعلق بالحرابة فقد جاء في القرآن الكريم بيان الأحوال التي يكون عليها معاملة الحرابة وذلك في قول الله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33]، هذه أحوال من أربع تكون للمحاربة، وقد اختلف العلماء فيها فمنهم من قال: إن الإمام مخير بين هذه الأمور وغيرها، يفعل ما فيه المصلحة، ومنهم من فصل وقال: إن قتل وأخذ المال صلب، وإن قتل ولم يأخذ مالاً فإنه يقتل، ومن أخذ مالاً ولم يقتل فإنه تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى من خلاف كما جاء ذلك في القرآن، والذي جاء في الحديث ليس فيه ذكر ما جاء في القرآن فيكون فيه اختصار، وذكره لكلمة (رجل) لا مفهوم له في الحرابة.
قوله: (ورجل خرج محارباً لله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض).
لا يوجد فيه ذكر القطع للأيدي والأرجل من خلاف.(491/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث)
قوله: [حدثنا محمد بن سنان الباهلي].
محمد بن سنان الباهلي ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا إبراهيم بن طهمان].
إبراهيم بن طهمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد العزيز بن رفيع].
عبد العزيز بن رفيع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن عمير].
عبيد الله بن عمير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديقة، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(491/11)
لا يستدل بالحديث على إسلام تارك الصلاة.
وهذا الحديث لا يدل على أن تارك الصلاة لا يكفر، وأنه يكفي في دخوله الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأن تارك الصلاة جاءت الأحاديث في كفره، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: (بين المسلم وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة)، وقال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، وقال في الولاة الذين سئل عن الخروج عليهم: (لا، ما صلوا) وقد جاء في الحديث الآخر: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان) فدل على أن ترك الصلاة هي من الكفر الذي عند الناس فيه من الله برهان، فالحديث وإن لم يأت بنص على كفر تارك الصلاة هنا إلا أنه جاءت نصوص أخرى دلت على أن تارك الصلاة من جملة الكفار.(491/12)
شرح حديث أبي موسى في قتل اليهودي الذي أسلم ثم ارتد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد قالا: حدثنا يحيى بن سعيد قال مسدد: حدثنا قرة بن خالد حدثنا حميد بن هلال حدثنا أبو بردة قال: قال أبو موسى: (أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعي رجلان من الأشعريين أحدهما عن يميني والآخر عن يساري، فكلاهما سأل العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت، فقال: ما تقول يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس؟ قلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل، وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته قلصت، قال: لن نستعمل، أو لا نستعمل على عملنا من أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس، فبعثه على اليمن، ثم اتبعه معاذ بن جبل قال: فلما قدم عليه معاذ قال: انزل وألقى إليه وسادة، وإذا رجل عنده موثق، قال ما هذا؟، قال: هذا كان يهودياً فأسلم ثم راجع دينه دين السوء، قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، قال: اجلس نعم.
قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله ثلاث مرات، فأمر به فقتل، ثم تذاكرا قيام الليل، فقال أحدهما معاذ بن جبل: أما أنا فأنام وأقوم، أو أقوم وأنام، وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي)].
أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه اثنان من الأشعريين أحدهما عن يمينه والثاني عن يساره، وكانا يريدان العمل، وأن يوليا ولم يشعرا أبا موسى بالذي في أنفسهما والذي يريدان أن يقولاه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وصلوا تكلموا وكلهم يطلب العمل، وأبو موسى الأشعري ساكت، فالرسول سأل أبا موسى، قال: والله ما علمت بالشيء الذي أرادا، فما كان يدري عن قصدهما، فبرأ نفسه من أن يكون موافقاً لهما، وأن يكون طالباً هذا الذي يطلبانه، فالرسول صلى الله عليه وسلم عند ذلك ولاه ولم يولهما، فقال: (إنا لا نولي هذا الأمر أحداً طلبه) وذلك أن الإنسان إذا حرص على ولاية قد لا يوفق في القيام بها، ولكنه إذا لم يكن حريصاً ثم ابتلي بها فإنه تكون مظنة بأن يحصل له التوفيق في ذلك، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنا لا نولى هذا الأمر أحداً طلبه) فولى أبا موسى ولم يولهما، وفيه أن النبي صلى عندما جاءوا إليه كان يستاك، وشفتاه قد ارتفعت بسبب السواك.
ولذلك قال: (وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته قلصت).
يعني: ارتفعت أو انحسرت بسبب السواك.
قوله: [(لا نستعمل على عملنا من أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس)].
هو شك من الراوي هل قال الرسول: يا أبا موسى أو قال عبد الله بن قيس؟ أي: هل خاطبه بكنيته أو باسمه، ومخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم إياه في موضعين من الحديث، وكل ذلك بالشك من الراوي، هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم: يا أبا موسى أو قال يا عبد الله بن قيس؟ فأرسله إلى اليمن وولاه عليها، ثم أتبعه بـ معاذ، وكان كل واحد منهما له مخلاف، أي: له مكان معين يكون والياً عليه، فكان يسير كل واحد منهما فيما هو تحت ولايته، فيلتقيان في على الحدود بين المخلافين، فلما جاء معاذ إلى أبي موسى وكان راكباً على دابته، أي: معاذ، قال له: أنزل ووضع له وسادة ليجلس عليها، فقال: ما هذا الذي هو موثق؟ وكان عندهم رجل موثق بالحبال، فقالوا: هذا كان يهودياً فأسلم ثم ارتد عن الإسلام وراجع دينه دين السوء، أي: رجع إلى الكفر، فقال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، أي: هذا قضاء الله ورسوله، أو هذا حكم الله ورسوله، فكرر عليه، ثم بعد ذلك أمر به فقتل، فنزل، فصارا يتحدثان فيما بينهما، وكان من كلام معاذ رضي الله تعالى عنه فيما يتعلق بصلاة الليل أنه ينام ويقوم يعني: ليس كل ليله نوم، وليس كل ليله قيام، وإنما بعضه قيام وبعضه نوم، ويقول: أرجو في نومتي ما أرجوه في قومتي، يعني: أنه يقصد من وراء النوم التقوي على القيام، وفي هذا دليل على أن الأعمال المباحة إذا احتسب فيها العبد فإنه يؤجر عليها؛ لأنه قال: يرجو أن يحصل الأجر في حال نومته مثل ما يحصل في حال قومته؛ لأنه إنما نام ليتقوى ولينشط على القيام، ومحل الشاهد من الحديث: قتل ذلك اليهودي الذي ارتد عن الإسلام وقال: هذا قضاء الله ورسوله يعني: أنه يقتل كما مر في الحديث: (من بدل دينه فاقتلوه).(491/13)
تراجم رجال إسناد حديث أبي موسى في قتل اليهودي الذي أسلم ثم ارتد.
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ومسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[قالا: حدثنا يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال مسدد: حدثنا قرة بن خالد].
قرة بن خالد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حميد بن هلال].
حميد بن هلال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو بردة].
هو أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: قال أبو موسى].
هو أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(491/14)
فوائد من حديث أبي موسى في قتل اليهودي الذي أسلم ثم ارتد.
والمرتد إذا تاب فإنه لا يقتل، واليهودي هنا قد استتيب ولم يتب.
وأما بالنسبة لمدة الاستتابة فإنه يوجد خلاف بين العلماء فمنهم من قال: إنه يستتاب مدة ثلاثة أيام، ومنهم من يقول أقل أو أكثر، ومنهم من يقول: يكرر عليه في الحال، ثم يقتل في، ولا شك أنه يستتاب في هذه المدة فإن أصر على كفره ولم يعد إلى الإسلام فإنه يقتل.
ويستفاد من هذا الحديث على إباحة الاستياك بحضرة الرعية، ولهذا بوب له بعض أهل العلم، فقال: باب استياك الإمام بحضرة رعيته، يعني: أنه ليس من الأشياء التي تستقذر ولا تفعل أمام الناس.
وأما الاستياك باليد اليسرى أو اليمنى فالأمر في ذلك واسع.
كذلك إذا كان الإنسان يرغب بالولاية في نفسه ولم يطلبها باللسان، ثم صارت إليه فإنه لا يدخل فيمن طلب الولاية.(491/15)
شرح حديث أبي موسى في قتل اليهودي الذي أسلم ثم ارتد من طريق ثانية.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا الحماني -يعني عبد الحميد بن عبد الرحمن - عن طلحة بن يحيى وبريد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي بردة عن أبي موسى قال: (قدم عليّ معاذ وأنا باليمن، ورجل كان يهودياً فأسلم فارتد عن الإسلام، فلما قدم معاذ قال: لا أنزل عن دابتي حتى يقتل، فقتل) قال أحدهما: وكان قد استتيب قبل ذلك].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه ذكر قصة المرتد باختصار وقال أحدهما: أي: أحد الراويين اللذين هما: طلحة وبريد بن عبد الله بن أبي بردة.
قال أحدهما: إنه استتيب قبل ذلك، يعني: هذا الذي قتل والذي جاء في قصة معاذ وأبي موسى استتيب، وأن قتله كان بعد استتابته.(491/16)
تراجم رجال إسناد حديث أبي موسى في قتل اليهودي الذي أسلم ثم ارتد من طريق ثانية.
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا الحماني -يعني عبد الحميد بن عبد الرحمن -].
عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني صدوق، أخرج حديثه البخاري ومسلم في المقدمة وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن طلحة بن يحيى].
هو طلحة بن يحيى التيمي، وهو صدوق يخطئ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[وبريد بن عبد الله بن أبي بردة].
بريد بن عبد الله بن أبي بردة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بردة عن أبي موسى].
أبو بردة وأبو موسى قد مر ذكرهما.(491/17)
حديث أبي موسى في قتل اليهودي الذي أسلم ثم ارتد من طريق ثالثة، وتراجم رجال إسناده.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حفص حدثنا الشيباني عن أبي بردة بهذه القصة، قال: فأتي أبو موسى برجل قد ارتد عن الإسلام، فدعاه عشرين ليلة أو قريباً منها، فجاء معاذ فدعاه فأبى، فضرب عنقه].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وفيه ما في الذي قبله، وذكرها هنا أنه استتابه وأمهله مدة طويلة.
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حفص].
هو حفص بن غياث، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الشيباني].
هو سليمان بن فيروز أبو إسحاق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بردة بهذه القصة].
أبو بردة مر ذكره.
[قال أبو داود: ورواه عبد الملك بن عمير عن أبي بردة ولم يذكر الاستتابة].
عبد الملك بن عمير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قوله: [عن أبي بردة ولم يذكر الاستتابة].
يعني: أنه ما ذكر أنه استتيب إذا كان ذكره من كان قبله، وكونه لم يذكر الاستتابة لا يدل على أنها ما حصلت، فهو ما نفى الاستتابة وإنما سكت عنها، فيكون ذكرها هو الثابت، وكونه لم يستتبه إما اكتفاء بالاستتابة السابقة، وأنه قد استتيب من قبل، كما جاء في بعض الروايات التي مرت أنه استتيب مدة عشرين ليلة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه ابن فضيل عن الشيباني عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى لم يذكر فيه الاستتابة].
ثم ذكر طريقاً أخرى.
[ورواه ابن فضيل].
هو محمد بن فضيل بن غزوان، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الشيباني عن سعيد بن أبي بردة].
الشيباني مر ذكره، وسعيد بن أبي بردة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه عن أبي موسى لم يذكر فيه الاستتابة].
يعني: ما قال: ولم يستتبه، وإنما سكت عنها، وعدم الذكر لا يدل على عدمها، وإنما الشيء الذي يمكن أن يعتبر معارضاً هو إذا قالوا: ولم يستتبه، ولو قال ذلك يمكن أن يحمل على أنه في آخر العمر عند اللحظة التي قتل فيها وكان مستتاباً قبل ذلك.(491/18)
الأسانيد التي لم يذكر فيها الاستتابة في حديث قتل اليهودي الذي أسلم ثم ارتد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حفص حدثنا الشيباني عن أبي بردة بهذه القصة، قال: فأتي أبو موسى برجل قد ارتد عن الإسلام، فدعاه عشرين ليلة أو قريباً منها، فجاء معاذ فدعاه فأبى، فضرب عنقه].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وفيه ما في الذي قبله، وذكرها هنا أنه استتابه وأمهله مدة طويلة.
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حفص].
هو حفص بن غياث، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الشيباني].
هو سليمان بن فيروز أبو إسحاق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بردة بهذه القصة].
أبو بردة مر ذكره.
[قال أبو داود: ورواه عبد الملك بن عمير عن أبي بردة ولم يذكر الاستتابة].
عبد الملك بن عمير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قوله: [عن أبي بردة ولم يذكر الاستتابة].
يعني: أنه ما ذكر أنه استتيب إذا كان ذكره من كان قبله، وكونه لم يذكر الاستتابة لا يدل على أنها ما حصلت، فهو ما نفى الاستتابة وإنما سكت عنها، فيكون ذكرها هو الثابت، وكونه لم يستتبه إما اكتفاء بالاستتابة السابقة، وأنه قد استتيب من قبل، كما جاء في بعض الروايات التي مرت أنه استتيب مدة عشرين ليلة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه ابن فضيل عن الشيباني عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى لم يذكر فيه الاستتابة].
ثم ذكر طريقاً أخرى.
[ورواه ابن فضيل].
هو محمد بن فضيل بن غزوان، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الشيباني عن سعيد بن أبي بردة].
الشيباني مر ذكره، وسعيد بن أبي بردة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه عن أبي موسى لم يذكر فيه الاستتابة].
يعني: ما قال: ولم يستتبه، وإنما سكت عنها، وعدم الذكر لا يدل على عدمها، وإنما الشيء الذي يمكن أن يعتبر معارضاً هو إذا قالوا: ولم يستتبه، ولو قال ذلك يمكن أن يحمل على أنه في آخر العمر عند اللحظة التي قتل فيها وكان مستتاباً قبل ذلك.(491/19)
شرح حديث أبي موسى في قتل اليهودي الذي أسلم ثم ارتد من طريق رابعة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن معاذ حدثنا أبي حدثنا المسعودي عن القاسم بهذه القصة، قال: فلم ينزل حتى ضرب عنقه وما استتابه].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه أنه قال: وما استتابه، وهذا فيه النفي، وليس كالذي قبله والذي جاء بلفظ: (لم يذكر الاستتابة) لأنه سكت عنها، وهنا قال: وما استتابه، لكن هذا يحمل على أنه ما استتابه في الحال، اكتفاء بالاستتابة السابقة التي قد حصلت قبل ذلك.
قوله: [حدثنا ابن معاذ].
هو عبيد الله بن معاذ العنبري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
أبوه معاذ بن معاذ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا المسعودي].
هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة المسعودي، وهو صدوق اختلط قبل موته، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن القاسم].
هو القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود المسعودي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
قوله: [بهذه القصة].
يعني: التي مرت وما استتابه، وهذا فيه نفي للاستتابة، وهذا كما هو معلوم جاء من طريق المسعودي، وفيه ضعف، وهو مخالف للطرق الأخرى الكثيرة للحديث، والتي فيها التنصيص على الاستتابة، ولهذا ضعف الألباني هذه الطريق، ولكن لو صحت فإنها لا تنافي الروايات الأخرى، لأنه يمكن أن تحمل على أنه ما استتابه في الحال اكتفاء بالاستتابة السابقة.
ويجوز للقاضي أن يؤخر المرتد مدة طويلة نحو عشرين يوماً لعله أن يراجع نفسه.(491/20)
تراجم رجال إسناد حديث أبي موسى في قتل اليهودي الذي أسلم ثم ارتد من طريق رابعة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن معاذ حدثنا أبي حدثنا المسعودي عن القاسم بهذه القصة، قال: فلم ينزل حتى ضرب عنقه وما استتابه].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه أنه قال: وما استتابه، وهذا فيه النفي، وليس كالذي قبله والذي جاء بلفظ: (لم يذكر الاستتابة) لأنه سكت عنها، وهنا قال: وما استتابه، لكن هذا يحمل على أنه ما استتابه في الحال، اكتفاء بالاستتابة السابقة التي قد حصلت قبل ذلك.
قوله: [حدثنا ابن معاذ].
هو عبيد الله بن معاذ العنبري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
أبوه معاذ بن معاذ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا المسعودي].
هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة المسعودي، وهو صدوق اختلط قبل موته، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن القاسم].
هو القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود المسعودي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
قوله: [بهذه القصة].
يعني: التي مرت وما استتابه، وهذا فيه نفي للاستتابة، وهذا كما هو معلوم جاء من طريق المسعودي، وفيه ضعف، وهو مخالف للطرق الأخرى الكثيرة للحديث، والتي فيها التنصيص على الاستتابة، ولهذا ضعف الألباني هذه الطريق، ولكن لو صحت فإنها لا تنافي الروايات الأخرى، لأنه يمكن أن تحمل على أنه ما استتابه في الحال اكتفاء بالاستتابة السابقة.
ويجوز للقاضي أن يؤخر المرتد مدة طويلة نحو عشرين يوماً لعله أن يراجع نفسه.(491/21)
شرح حديث الأمر بقتل عبد الله بن أبي السرح لردته.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: (كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأزله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم الفتح، فاستجار له عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان من كتبة الوحي للرسول عليه الصلاة والسلام، فأزله الشيطان وأغواه وأضله، فلحق بالكفار وهرب إلى مكة، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه).
قوله: [(فأزله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم الفتح)].
يوم فتح الله عليه مكة، وكان هو من كتبة الوحي ثم لحق بالكفار، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل فصار في جوار عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم وتركه ولم يقتله.(491/22)
تراجم رجال إسناد حديث الأمر بقتل عبد الله بن أبي سرح لردته.
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد المروزي].
أحمد بن محمد المروزي هو ابن ثابت بن شبويه، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود.
[حدثنا علي بن الحسين بن واقد].
علي بن الحسين بن واقد صدوق يهم، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو ثقة له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد النحوي].
هو يزيد بن أبي سعيد النحوي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس رضي الله عنه وقد مر ذكره.(491/23)
شرح حديث الأمر بقتل عبد الله بن أبي السرح من طريق أخرى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أحمد بن المفضل حدثنا أسباط بن نصر قال: زعم السدي عن مصعب بن سعد عن سعد قال: (لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟ قال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين)].
أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه في قصة عبد الله بن أبي سرح، وإجارة عثمان له يوم فتح مكة، ثم مجيئه به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وطلبه منه أن يبايعه، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ثم يعرض عنه ولا يمد يده، وبعدما حصل ذلك ثلاث مرات بايعه ومد يده إليه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أما منكم رجل رشيد! يقوم إليه فيقتله حين رآني كففت عنه)، يعني: رآني لم أبايعه، وكان هذا بناء على الأمر الأول الذي أمر بقتله، فكونه جاء والرسول لم يمد يده إليه، فهذا يستند إلى الأمر السابق، ولكن لما كان عثمان أجاره، والرسول قبل جواره، فقالوا: يا رسول الله ما أخبرتنا ما علمنا بما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟ يعني: أشرت إشارة بعينك قال: (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين) بمعنى أنه يكون عنده في قلبه شيء ثم يظهر شيئاً آخر.(491/24)
تراجم رجال إسناد حديث الأمر بقتل عبد الله بن أبي سرح من طريق أخرى.
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فأخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا أحمد بن المفضل].
أحمد بن المفضل صدوق في حفظه شيء، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا أسباط بن نصر].
أسباط بن نصر صدوق كثير الخطأ يغرب، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[قال: زعم السدي].
والسدي هو إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، وهو صدوق يهم، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن مصعب بن سعد].
هو مصعب بن سعد بن أبي وقاص، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعد].
هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(491/25)
مسألة خائنة الأعين لغير النبي، وإجارة المرتد.
وهذا الحديث فيه مسألة: هل تجوز خائنة الأعين لغير النبي صلى الله عليه وسلم؟ فنقول: الذي يبدو أن ذلك جائز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أنكر عليهم ذلك، وإنما كونهم طلبوا منه هذا، ومعناه: أنه يجوز أن يحصل من الشخص إشارة، لكن الرسول نفى أن يكون ذلك حاصل للأنبياء.
وكما هو معلوم فإن المرتد لا يجار، وإنما ذاك رجل أسلم وارتد فأهدر دمه صلى الله عليه وسلم، وكان كاتباً للوحي، فأسلم مع الناس يوم فتح مكة، والرسول أهدر دمه، فمن كان مرتداً فليس لأي إنسان أن يجيره، وليس من حقه أن يجيره، وإنما الحكم فيه: إن تاب ورجع وإلا قتل.(491/26)
شرح حديث: (إذا أبق العبد إلى الشرك فقد حل دمه).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي إسحاق عن الشعبي عن جرير قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أبق العبد إلى الشرك فقد حل دمه)].
أورد أبو داود حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أبق العبد إلى الشرك فقد حل دمه).
والمقصود من (أبق) أنه هرب ولحق بأهل الشرك (فقد حل دمه)، وفي بعض الروايات: (فقد برئت منه ذمة الله)، والألباني ضعف هذا الحديث ولا أدري ما وجه تضعيفه، هل هو من جهة أبي إسحاق السبيعي أو غير ذلك؟(491/27)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا أبق العبد إلى الشرك فقد حل دمه).
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حميد بن عبد الرحمن].
هو حميد بن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبي إسحاق].
هو أبو إسحاق السبيعي عمرو بن عبد الله الهمداني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الشعبي].
هو عامر بن شراحيل الشعبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جرير بن عبد الله البجلي].
جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(491/28)
شرح سنن أبي داود [492]
لا نرى والذي رفع السماء بلا عمد حباً كحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وتفانيهم من أجله، وجعلهم نفوسهم وأموالهم فداءً له عليه الصلاة والسلام، وهناك نفوس عليلة، فلا تقدر للنبي قدره، ولا تنزله منزلته، فليس لهذه النفوس المريضة إلا السيف؛ ليزيل عنها وساوس الشيطان، فدمائهم هدر؛ لوقوعهم في سيد البشر، من عرف قدره الحجر قبل البشر.(492/1)
الحكم فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم(492/2)
شرح حديث هدر النبي لدم المرأة التي قتلت لأنها شتمته
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الحكم فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا عباد بن موسى الختلي أخبرنا إسماعيل بن جعفر المدني عن إسرائيل عن عثمان الشحام عن عكرمة قال: حدثنا ابن عباس: (أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ المغول فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع الناس فقال: أنشد الله رجلاً فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام، قال: فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا اشهدوا أن دمها هدر)].
أورد أبو داود باب الحكم فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم.
يعني: حكمه إذا سب الرسول صلى الله عليه وسلم الكفر والردة عن الإسلام، وذلك أن الرسول الكريم عليه السلام هو الذي أرسله الله بالحق والهدى، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فمسبته والقدح فيه قدح فيما جاء به عليه الصلاة والسلام، وقد أورد أبو داود حديث ابن عباس: أن رجلاً أعمى كان له أم ولد، وأم الولد هي الأمة التي ولدت له فصار يقال لها: أم ولد، يعني: تبقى حتى يموت وتعتق بموته، وكان له منها ولدان كاللؤلؤتين، وكانت تسب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ينصحها فلا تنتصح ولا تنتهي، وكانت به رفيقة، يعني: كانت معاملتها له طيبة، ولكن كونها تسب الرسول صلى الله عليه وسلم غضب للرسول صلى الله عليه وسلم، ولم ينظر إلى حظ نفسه، فلم ينظر إلى إحسانها إليه، ورفقها به، ومعاملتها له معاملة طيبة، وإنما ساءه وأغضبه هذا الجرم الذي يحصل منها وهو شتم الرسول صلى الله عليه وسلم وسبه، فذات ليلة حصل منها أنها شتمته فقام وأخذ المغول وهو كالسيف الصغير يجعله الإنسان بين ثيابه، وهو ليس كبيراً بحيث يظهر، ولكنه شبيه بالسيف إلا أنه صغير، فجاء فوضعه على بطنها واتكأ عليها حتى ماتت، ولطخت ما حولها من الدم، ووقع بين يديها صبي، يعني: أنه أحد أولادها، لعله وقع بين رجليها أو جاء بين رجليها، ولكن ليس معناه أنه أصابه قتل، أو أصابه هلاك، وإنما يمكن أنه لما رآها جاء ووقع بين رجليها، فالرجل أخفى نفسه ولم يظهر الأمر، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فجمع الناس، وأنشدهم بالله عز وجل أن الذي حصل منه ذلك أن يبين نفسه، فقام رجل أعمى يتخطى الناس حتى جاء وقعد عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أنا صاحبها، قال: ما لك؟ قال: إنها كانت تشتمك، وإنها كانت بي رفيقة، وإني نصحتها فلم تستجب، وإنها البارحة حصل منها ذلك فقمت وفعلت بها كذا وكذا، فقال عليه الصلاة والسلام: (ألا اشهدوا أن دمها هدر) يعني: أنه قتل بحق.(492/3)
تراجم رجال إسناد حديث هدر النبي لدم المرأة التي قتلت لأنها شتمته
قوله: [حدثنا عباد بن موسى الختلي].
عباد بن موسى الختلي ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[أخبرنا إسماعيل بن جعفر المدني].
إسماعيل بن جعفر المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسرائيل].
هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عثمان الشحام].
عثمان الشحام لا بأس به، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عكرمة عن ابن عباس].
عكرمة وابن عباس قد مر ذكرهما.(492/4)
شرح حديث: (أن يهودية كانت تشتم النبي وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وعبد الله بن الجراح عن جرير عن مغيرة عن الشعبي عن علي رضي الله عنه (أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها)].
أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه: (أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم فخنقها رجل حتى ماتت، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمها)، وهذا مثل الذي قبله، والذي فيه قصة الأعمى الذي قتل الجارية التي تسب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا خنق هذه اليهودية التي كانت تسب النبي صلى الله عليه وسلم حتى ماتت، فالنبي صلى الله عليه وسلم اعتبر دمها هدراً.(492/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن يهودية كانت تشتم النبي وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وعبد الله بن الجراح].
عثمان بن أبي شيبة مر ذكره، وعبد الله بن الجراح صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود والنسائي في مسند مالك وابن ماجة.
[عن جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مغيرة].
هو مغيرة بن مقسم الضبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الشعبي].
هو عامر بن شراحيل مر ذكره.
[عن علي].
هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، وصاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود، ولكنه صححه في إرواء الغليل، ثم أيضاً الحديث الذي قبله شاهد له وهو بمعناه.(492/6)
شرح حديث: (لا والله ما كانت لبشر بعد محمد صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن يونس عن حميد بن هلال عن النبي صلى الله عليه وسلم، ح وحدثنا هارون بن عبد الله ونصير بن الفرج قالا: حدثنا أبو أسامة عن يزيد بن زريع عن يونس بن عبيد عن حميد بن هلال عن عبد الله بن مطرف عن أبي برزة قال: كنت عند أبي بكر فتغيظ على رجل فاشتد عليه، فقلت: تأذن لي يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أضرب عنقه؟ قال: فأذهبت كلمتي غضبه، فقام فدخل فأرسل إلي، فقال: ما الذي قلت آنفاً؟ قلت: ائذن لي أضرب عنقه، قال: أكنت فاعلاً لو أمرتك؟ قلت: نعم، قال: لا والله ما كانت لبشر بعد محمد صلى الله عليه وسلم].
أورد أبو داود هذا الأثر عن أبي بكر رضي الله عنه أنه كان عنده رجل فتغيظ عليه أبو بكر رضي الله عنه، فقال له أبو برزة: ائذن لي أن أقتله، فخفف ذلك من غضبه، ودخل منزله، فدعا أبا برزة، وقال: ماذا قلت؟ قال: قلت كذا وكذا، قال: أكنت قاتله؟، قال: نعم، قال: ما كان هذا لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: الذي بعد الرسول ليس له إلا ينفذ ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يقتل أحداً من غير أساس، وإنما قتله يكون على أساس من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة).
وهذا لا يعارض القول بأن الإمام إذا رأى أن يعزر أحداً بالقتل فإن له أن يقتله؛ لأن الإمام لا يقتله إلا إذا كان مستحقاً بأن حصل منه جرم أو ذنب يقتضي ذلك، أما إذا لم يحصل منه شيء، فإنه ليس له أن يقتله، وليس عنده ما يوجب القتل.
وهذا الرجل سب أبا بكر ولكن ليس حكمه كسب النبي صلى الله عليه وسلم.(492/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا والله ما كانت لبشر بعد محمد صلى الله عليه وسلم)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد هو ابن سلمة بن دينار البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يونس بن عبيد].
هو يونس بن عبيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد بن هلال].
حميد بن هلال، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن النبي صلى الله عليه وسلم].
وحميد بن هلال من الطبقة الثالثة من صغار التابعين فيكون الحديث مرسلاً.
[ح وحدثنا هارون بن عبد الله].
هو هارون بن عبد الله الحمال البغدادي، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.
[ونصير بن الفرج].
نصير بن الفرج ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[قالا: حدثنا أبو أسامة].
هو حماد بن أسامة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يونس بن عبيد، عن حميد بن هلال عن عبد الله بن مطرف].
يونس بن عبيد مر ذكره، وحميد بن هلال مر ذكره وعبد الله بن مطرف صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبي برزة].
أبو برزة رضي الله عنه صحابي، اسمه نضلة بن عبيد، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال كنت عند أبي بكر].
وهذا يدل على أن الإسناد الأول سقط منه واسطتان هما: تابعي وصحابي، وهما عبد الله بن مطرف عن أبي برزة.
وهذا كلام أبي بكر رضي الله عنه، وليس فيه شيء مرفوع إلا فيما يتعلق بقوله: (لا والله ما كانت لبشر بعد محمد صلى الله عليه وسلم) فهذا الذي يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكونه ليس لأحد من بعد الرسول لأنه رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود هذا لفظ يزيد].
يعني: في الإسناد الثاني.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أحمد بن حنبل: أي: لم يكن لـ أبي بكر أن يقتل رجلاً إلا بإحدى الثلاث التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفر بعد إيمان، أو زناً بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل].
يعني: من سبه له أن يقتله وله أن يتركه.(492/8)
الأسئلة(492/9)
حكم الاستدلال بقوله: (ولا يحل دم رجل مسلم) على أن المرأة لا تدخل في الحكم)
السؤال
قوله: (لا يحل دم رجل مسلم) هل هذا يمكن أن يستدل به على أن المرأة لا تقتل؟
الجواب
لا مفهوم لها، لأنه كما عرفنا مراراً وتكراراً أنه يأتي كثيراً في الأحاديث ذكر الرجال، وليس لذكرهم مفهوم، وإنما لكون الغالب أن الخطاب مع الرجال، وله نظائر كثيرة، بل أحياناً يأتي في التراجم عند أبي داود، التعبير بالرجل، وليس المقصود الاقتصار على الرجل، وإنما ما يشمل الرجل والمرأة، ومن أمثلة الأحاديث التي فيها ذكر الرجال -وهو يشمل الرجال والنساء- قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه)، فإن كلمة (رجل) هذه ليس لها مفهوم؛ لأن المرأة كذلك إذا كانت تصوم صوماً فهي مثل الرجل، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من الغرماء)، كذلك لو وجده عند امرأة، يعني: لا فرق بين الرجال والنساء، وإنما ذكر الرجال يأتي لأن الغالب أن الخطاب مع الرجال، والنساء تبع لهم.
ثم الأصل هو التساوي بين الرجال والنساء، ولا يستثنى من ذلك إلا ما دل عليه الدليل، وقد ذكرت في الفوائد المنتقاة جملة من الأمثلة التي فيها التفريق بين الرجال والنساء في الأحكام، وهذه الفائدة هي الفائدة الوحيدة التي لم أذكر لها مرجعاً ولا مصدراً؛ لأنها فوائد جمعتها في مناسبات مختلفة، يعني: في عدة مسائل متعددة، والأدلة عليها واضحة مثل النضح من بول الغلام، والغسل من بول الجارية، ومثل كون الإمام يقف عند وسط المرأة، وعند رأس الرجل في صلاة الجنازة، ومسائل عديدة جمعتها، وهي من أمثلة ذلك، وهي خارجة عن الأصل الذي هو التساوي، ولا يصار إلى التفريق إلا بدليل.(492/10)
موقف المرجئة من الحدود
السؤال
ما هو موقف المرجئة من الحدود؟
الجواب
المرجئة عندهم لا يقام الحد على مستحقه لأنه مؤمن كامل الإيمان.
يعني: الحدود عندهم ليست زواجر ولا جوابر والله أعلم؛ لأنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة.(492/11)
حكم المرتد في الدول التي لا تحكم الشريعة
السؤال
قوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، في الدول التي لا تحكم بالشريعة من يقتله؟ وهل لبعض الجماعات الإسلامية أن تقوم بقتل من ارتد؟
الجواب
لا، ليس لهم ذلك؛ لأنه لا يقيم الحدود إلا السلطان، ثم هذا الرجل الذي قد ارتد يمكن أن يتوب، فلا يجوز لأحد أن يتسرع إلى قتله، بل هذا للسلطان، وكونهم يقتلونه -يعني: يغتالونه- ليس لهم ذلك.(492/12)
حكم الردة بالقول أو العمل
السؤال
الردة تكون بالقول والعمل والقلب، فإذا كانت بالعمل أو القول، هل يشترط أن يكون قاصداً لذلك؟
الجواب
معلوم أن الجوارح إنما هي تابعة للقلوب، كما جاء عن بعض السلف: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلب وصدقة العمل، فالإنسان عندما يقول قولاً وهو واضح أنه ردة وكفر بالله عز وجل، وليس فيه شبهة، وإنما المسألة في غاية الوضوح مثل سب الله وسب الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن هذا ردة عن الإسلام، ولا يعذر الإنسان إلا إذا كان سبق لسان، فيكون معذوراً؛ لأنه قد يسبق لسانه إلى شيء لا يريده، كقصة الرجل الذي قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح، فهذا ظاهره ردة وكفر، لكن وقع عن سبق لسان، وما أراده الرجل الذي كان في فلاة، ومعه دابته وعليها متاعه، ثم بعد ذلك نام واستيقظ وهي ليست عنده، لا دابة ولا متاع، فبقي في ظل شجرة ينتظر الموت، فنعس وقام وإذا دابته واقفة وعليها متاعه، ففرح وقال من شدة الفرح: اللهم! أنت عبدي وأنا ربك، وهو عكس ما كان يريد، فأخطأ من شدة الفرح، هذا سبق لسان، وأما الشيء المقصود والمتعمد كأن يسب الله ويسب الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا ردة والعياذ بالله.(492/13)
حكم من أقيم عليه الحد ولم يتب في الآخرة
السؤال
من أقيم عليه الحد ولم يتب فهل يكون ذلك الحد جبراً من التوبة؟
الجواب
نعم، هو جبر له وإن لم يتب؛ لأنه لو تاب من كل ذنب يتاب منه فإنه يتوب الله عليه، ولكن هذا في حق من لم يتب، لأنه حصلت عقوبته في الدنيا، وأما من تاب فإن الذي يتوب من ذنب لا يعاقب عليه في الآخرة، ولكن من أذنب ذنباً وأقيم عليه الحد في الدنيا، ولم يتب من ذلك الذنب، فقد حصل جزاءً في الدنيا، ولن يعاقب عليه مرة أخرى.(492/14)
حال حديث: (الدنيا سبعة آلاف سنة)
السؤال
ما صحة الحديث الذي رواه ابن ماجة: (الدنيا سبعة آلاف سنة، وبعث في الألف الأخيرة)؟
الجواب
ما ثبت في هذا شيء.(492/15)
حكم قتل الرجل تعزيراً
السؤال
هل يقتل الرجل في غير حد أي: تعزيراً؟
الجواب
نعم يمكن، إذا رأى الإمام أن قتل الإنسان تعزيراً يكون فيه مصلحة وفائدة، مثل ما جاء في شارب الخمر فإن قتله في الرابعة هو تعزير وليس حداً.(492/16)
حكم الاستعاذة عند التثاؤب
السؤال
ما هو حكم الاستعاذة عند التثاؤب؟
الجواب
لا نعلم شيئاً يدل على ذلك، ولكن جاء في الحديث أن التثاؤب من الشيطان، فالإنسان إذا تعوذ بالله من الشيطان على اعتبار أن التثاؤب من الشيطان، ولم يعتقد أن في ذلك سنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فليس فيه بأس، ولكن كونه يعتقد أن هذه سنة أو يقول: إن الإنسان يشرع له عند التثاؤب أن يقول كذا وكذا، فهذا غير صحيح، ولكن كونه يتذكر بأن التثاؤب من الشيطان فيتعوذ بالله من الشيطان بسبب ذلك دون أن يعتقد أن هذه سنة لا بأس بذلك.(492/17)
حكم الصلاة على النبي عند شم الرائحة الطيبة
السؤال
ما حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند شم الرائحة الطيبة؟
الجواب
لا نعلم شيئاً يدل عليه، لكن الرسول كان يحب الطيب، فالإنسان الذي يصلي على النبي من أجل أنه كان يحب الطيب، وتذكر النبي صلى الله عليه وسلم وصلى عليه فلا بأس بذلك، لكن كونه يعتقد أنه عند شم الطيب يشرع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فليس هناك ما يدل على هذا.(492/18)
حكم الحمد عند الجشاء
السؤال
ما حكم الحمد عند التجشؤ؟
الجواب
لا يوجد شيء يدل عليه، لكن كون الإنسان يحمد الله على كل حال، وأن هذا الشبع الذي حصل له من نعمة الله عز وجل لا بأس بذلك، لكن كونه يعتقد أن هذا أمر مشروع في هذه المناسبة، فليس هناك شيء يدل عليه فيما أعلم.(492/19)
معنى قوله في الحديث: (فوقع بين رجليها طفل)
السؤال
قوله: (فوقع بين رجليها طفل) ألا يدل على أنها كانت حاملاً؟
الجواب
لا يدل على ذلك؛ لأن كونه وقع بين رجليها، يعني: سقط بين رجليها، كأنه رآها بهذه الحال، فجاء يبكي وسقط بين رجليها.(492/20)
حكم من سمع رجلاً يسب الرسول فقتله في الحال
السؤال
هل في هذا دليل على أن المرتد أو ساب الرسول صلى الله عليه وسلم يقتله من سمعه؟
الجواب
لا.
ليس له قتله؛ لأن القتل هو للإمام، لكن لو وقع فإن الدم هدر، وليس فيه قصاص.(492/21)
الفرق بين إجارة الكافر والمرتد
السؤال
هل يفرق في الإجارة بين الكافر والمرتد؟
الجواب
من كفر مرتداً بعد إسلامه هو أشد من الكافر الأصلي.(492/22)
حكم اغتيالات أئمة الكفر
السؤال
هل في حديث الأعمى دليل على جواز اغتيالات أئمة الكفر كما فعل بـ كعب بن الأشرف؟
الجواب
إذا كان سيترتب على ذلك أضرار بالمسلمين فليس هناك مصلحة في الإقدام على هذه الأعمال.(492/23)
حكم استتابة ساب الرسول صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل يستتاب ساب الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
نعم يستتاب.(492/24)
حكم من طلب الولاية من أجل الدعوة إلى الله
السؤال
هل للإنسان أن يطلب لنفسه ولاية أمر حتى يدعو إلى الله تبارك وتعالى؟
الجواب
يسأل الله عز وجل أن يوفقه لما فيه خير الدنيا والآخرة، ولا يسأل ولاية أو يتمنى ولاية، وإنما يسأل الله عز وجل أن يوفقه لما فيه سعادة الدنيا والآخرة ونفع المسلمين؛ لأن الإنسان لا يدري ماذا سيكون حاله إذا حصلت له الولاية، فقد يتغير وقد يحصل له ضرر بسبب الولاية.
فلا يقوم بالواجب، والشيء الذي كان يريده قد لا يهتم به، أو لا يحسب له حساباً بعدما يصل للولاية.(492/25)
حكم من سأل مناصب دينية
السؤال
ما حكم من سأل مناصب دينية كالإمامة أو الأذان أو التدريس؟
الجواب
هذا ما فيه بأس؛ لأن هذه أمور طيبة، ولا بد للناس منها، والإنسان إذا قصد من كونه يصير مؤذناً أن يكون محافظاً على الصلاة ولا تفوته الصلاة، وكونه يتمكن من حفظ القرآن وإثبات محفوظه؛ فهذه كلها مقاصد طيبة.
كذلك كونه يطلب التدريس ليقوم بإيصال الحق وإرشاد الناس إلى الخير فهذا من المقاصد الطيبة.(492/26)
حكم من وقف بعض ماله في نيته فقط
السؤال
شخص نوى أن يوقف بعض ماله وكذلك كتبه، لكن لم يثبت ذلك في المحكمة، فهل هذا الوقف يعتبر وقفاً شرعياً؟
الجواب
مجرد النية لا يثبت بها شيء، ولكنه لا يتوقف الأمر على المحكمة، ولو كتب أو أشهد على أن هذا وقف، فإنه يكون بذلك وقفاً، وأما مجرد أن يكون ذلك في قلبه ونيته فهذا لا يثبت، فمن نوى أن يفعل شيئاً ولم يفعله فلا يعتبر، ومجرد النية لا يترتب عليها شيء.(492/27)
حكم من قال: لم يحلق الرسول لحيته لعدم وجود الموسى
السؤال
من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحلق لحيته؛ لعدم وجود الموس، بينما نحن نجده في زماننا، فهل يعتبر هذا ساباً للرسول؟
الجواب
سبحان الله! هذا ليس من كلام العقلاء، هذا من كلام المجانين، فقد كان الناس يحلقون عند المروة وعند الجمرة بالموسى.
فهذا الكلام فيه سفه، أقول: هذا سفه وإضافة شيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيفعل كذا وكذا، يعني: تقويله ما لم يقله، وهو كذب عليه.(492/28)
شرح سنن أبي داود [493]
لقد أنزل الله عز وجل آيات مبينات في حق كل من تمرد عن طاعته وارتد عن دينه، وسفك دماء المسلمين، وأخذ حقوقهم بالقوة والعنف، وهم المحاربون الذين خلعوا يداً من طاعة، وأخذوا حقوق الناس عنوة، فهؤلاء جزاؤهم أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيدهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، وإن أخذوا المال خفية فإنه لا تنفذ عليهم أحكام الحرابة، وإنما يقام عليهم حد السرقة فتقطع أيديهم.(493/1)
ما جاء في المحاربة(493/2)
شرح حديث قتل العرنيين حرابة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في المحاربة.
حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس بن مالك: (أن قوماً من عكل أو قال: من عرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقاح، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا النعم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم من أول النهار، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم فما ارتفع النهار حتى جيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون).
قال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في المحاربة] والمقصود بالمحاربة: إخافة الناس والاعتداء عليهم جهراً وعلانية، وهو يخالف السرقة، لأن السرقة فيها خفاء، وعدم بروز وظهور، وأما هذا ففيه ظهور وبروز وإظهار قوة وبطش، وقد يترتب على ذلك قتل، وقد يترتب على ذلك أخذ مال، وقد يترتب على ذلك الإخافة والذعر وعدم أمن الناس على أنفسهم وأموالهم، فجاءت هذه الشريعة ببيان أحكام ذلك كما جاءت ببيان أحكام السرقة، وهو: ما يكون في الخفاء.
ثم أورد أبو داود رحمه الله حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه في قصة العرنيين، الذين قدموا إلى المدينة واجتووها يعني: أصابهم فيها وباء، فسقمت بطونهم، واصفرت ألوانهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم بأن يذهبوا إلى إبل الصدقة، ويشربون من ألبانها وأبوالها، ففعلوا ذلك حتى صحوا، يعني: ذهب ما بهم من المرض وحصلت لهم الصحة والعافية، وحسنت أجسامهم وألوانهم، ولكنهم قابلوا هذا الإحسان إليهم بالإساءة، فقتلوا الراعي واستاقوا النعم، يعني: ذهبوا بالإبل التي كان يرعاها، فبلغ خبرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أول النهار، فأرسل في طلبهم، فأتي بهم بعدما ارتفع النهار، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع أيديهم وأرجلهم، وألقاهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا.
والذي حصل منهم أولاً: أنهم ارتدوا وقتلوا وسرقوا، يعني: جمعوا بين هذه الخصال الثلاث، وقد جاءت، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم بهم مثل الذي فعلوا بالراعي فعاقبهم، ونزلت بعد ذلك آية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33] الآية.
قوله: [عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن قوماً من عكل أو قال: من عرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
قال: هم من عكل وهي قبيلة، أو عرينة وهي قبيلة، وقيل هم من عكل وعرينة، لأنهم مختلطون، وفيهم من هو من هذه القبيلة، وفيهم من هو من هذه القبيلة، وفي بعض الروايات: أنهم ثلاثة من عكل وأربعة من عرينة، أي: أنهم مختلطون.
قوله: [(قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة)].
يعني: أصابهم الجواء وهو: الوباء والضرر الذي حصل لهم فيها، فاصفرت ألوانهم وسقمت بطونهم.
قوله: [(فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقاح)].
وهي: الإبل التي فيها در، فأمرهم بأن يذهبوا إلى إبل الصدقة وهي ترعى في البر ومعها راع يقوم برعايتها ورعيها، فيشربوا من ألبانها وأبوالها، وفي هذا دليل على أن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهر، وليس بنجس، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بأن يشربوا من الأبوال والألبان، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يرشدهم إلى أن يتداووا بنجاسة، وهذا من الأدلة التي يستدل بها من قال بطهارة أبوال وأرواث ما يؤكل لحمه، ويستدلون لذلك أيضاً بقصة ركوب النبي عليه الصلاة والسلام وطوافه على بعير، ولا يؤمن البعير أن يبول وأن يحصل منه الروث وأن يصيب الأرض من ذلك، فهو دائماً على طهارته، لأن تعريض المسجد للنجاسة غير سائغ، فلما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عرف أن بول ما يؤكل لحمه ليس بنجس.
قوله: [(وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها)] وهذا فيه علاج وغذاء فيما يتعلق بالألبان، وكذلك هو علاج فيما يتعلق بالأبوال، ففعلوا ذلك، وفي هذا دليل على أن ابن السبيل له أن يستفيد من مثل هذه الإبل التي هي من إبل الصدقة، وقد جاء في القرآن أن من مصارف الصدقات ابن السبيل قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60] فإعطاء اللبان لمن يكون ابن سبيل ذلك سائغ، كما أن إعطاء ذوات الأنعام؛ كالإبل والبقر والغنم لمن هم من أهل الزكاة ومن جملتهم ابن السبيل هذا هو الذي يدل عليه القرآن، والسنة دلت على إعطاء الألبان لمن كان ابن سبيل، وكذلك لمن كان محتاجاً إليها لاستشفائه، ولحصول المرض الذي حصل له، وعلاجه يكون بألبانها وأبوالها.
قوله: [(فلما صحوا)] يعني: حصلت لهم الصحة، وذهب المرض، وحسنت الأجسام، وذهب اصفرارها.
قوله: [(قتلوا الراعي، واستاقوا النعم)]، يعني: ذاهبين بها وهاربين، فبلغ خبرهم إلى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام فأرسل في طلبهم، وكان بلوغ الخبر في أول النهار، فذهب بعض الشجعان الفرسان، وأتوا بهم بعدما ارتفع النهار في وقت قصير، وكأن الخبر حصل في وقت قريب، والمسافة أيضاً ليست بعيدة، وقد ذهبوا هاربين شاردين بها، فأتي بهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام بعدما ارتفع النهار.
قوله: [(فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا النعم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم من أول النهار، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فما ارتفع النهار حتى جيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون)].
قيل: إن المقصود بأنه سمر أعينهم بمسامير من حديد، يعني: تفقأ بها عيونهم، وذلك أنهم فقئوا عيني الراعي، ومثلوا به هذا التمثيل، ففعل بهم كما فعلوا بالراعي، وهذا يدل على أن القتل يكون على هيئة القتل في القصاص، بمعنى: أنه إذا قتل بطريقة ما فإنه يقتل بتلك الطريقة، إلا إذا كانت الطريقة فيها أمر منكر لا يسوغ فعله، فإنه لا يقتل بالطريقة المحرمة التي لا يجوز الإقدام عليها في أي حال من الأحوال، ومن أمثلة ذلك قصة الجارية التي رض اليهودي رأسها بين حجرين، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأن يفعل باليهودي مثل ما فعل بها، حيث إن الذي قتلها هو من اليهود وقد رض رأسها بين حجرين، فإن القتل يكون على الهيئة التي يكون عليها القتل من الجاني، وهذا هو الذي يدل عليه لفظ القصاص، والله تعالى يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179]؛ لأن لفظ القصاص يشعر بالمقاصة، وأنه يكون على الهيئة التي حصل بها القتل، فإذا كان بتمثيل فإنه يعمل به كما عمل بغيره، ويجازى عند العقوبة كما فعل هو بغيره: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26]، وجاء في بعض الألفاظ: (سمر)، وفي بعض الألفاظ: (سمل أعينهم)، قيل: فقأها، وقيل: سمرها بالمخراز أو الإبر التي أحميت في النار، ثم وضعت على العيون حتى تفقأت.
قوله: [قال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله].
قال أبو قلابة وهو أحد الرواة: (فهؤلاء قوم كفروا) يعني: ارتدوا عن الإسلام، وسرقوا، وقتلوا، وحاربوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.(493/3)
تراجم رجال إسناد حديث قتل العرنيين حرابة
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل عن حماد].
حماد هو ابن سلمة بن دينار البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وقتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحميد].
هو حميد بن أبي حميد الطويل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس مر ذكره، وهذا سند رباعي، لأن الثلاثة الذين فيه في طبقة واحدة، وهم قتادة وحميد وثابت، وكلهم يروي عنهم حماد بن سلمة، وكلهم يروي عن أنس بن مالك، إذاً: هذا إسناد رباعي وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(493/4)
شرح حديث قتل العرنيين حرابة من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب عن أيوب بإسناده بهذا الحديث قال فيه: (فأمر بمسامير فأحميت، فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك من طريق أخرى، وفيه: (أنه أمر بمسامير فأحميت، فكحل بها أعينهم) يعني: وضعها على أعينهم كهيئة ميل الكحل حتى ذهبت أعينهم، وهذا {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26]، لأنهم فعلوا بالراعي هذا الفعل.
قوله: [(فأمر بمسامير فأحميت، فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم)].
يعني: ما حسم موضع القطع؛ لأن المقصود هو الهلاك، وليس المقصود الحياة، أما فيما يتعلق بقطع اليد فإنها تحسم؛ لأن المطلوب هو قطع اليد، وليس المقصود إماتة السارق بقطع يده، وإنما المقصود: قطع هذا العضو الذي حصل به السرقة، فلا يترك الدم ينزف حتى يموت، أو يحصل له ضرر بالغ بسبب خروج دمه، بل يحسم وذلك بأن توضع يده في زيت أو في شيء، ليتقلص مكان خروج الدم، يعني: من العروق بحيث تسدد تلك المنافذ التي يجري منها الدم بسبب وضع اليد في زيت حار أو في ماء حار، فيحصل به تقلص تلك العروق وانسدادها ووقف النزف، أما هؤلاء المحاربون فيراد قتلهم كما قتلوا الراعي.(493/5)
تراجم رجال إسناد حديث قتل العرنيين حرابة من طريق ثانية
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن وهيب].
هو وهيب بن خالد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب بإسناده].
وقد مر ذكره، بإسناده المتقدم.(493/6)
شرح حديث قتل العرنيين حرابة من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان قال: أخبرنا ح وحدثنا عمرو بن عثمان حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن يحيى -يعني ابن أبي كثير - عن أبي قلابة عن أنس بن مالك بهذا الحديث قال فيه: (فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة، فأتي بهم، قال فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة:33] الآية]).
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك من طريق أخرى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل في طلبهم قافة، والقافة: هم الذين يعرفون الآثار، فالأول أرسل في طلبهم، والذين أرسلوا لم يذكر اختصاصهم، وأنهم من صنف معين، وفي هذه الرواية بيان أنهم قافة، وهم الذين يعرفون الآثار، وهذا دليل على استعمال القافة، وأن ذلك سائغ، وقد جاء في ذلك أحاديث، ومنها قصة مجزز المدلجي الذي جاء في الصحيحين، وأنه رأى أسامة بن زيد وأباه في لحاف وقد بانت أرجلهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وذلك أن كل واحد منهما لونه يختلف عن الآخر، فالرسول عليه الصلاة والسلام فرح بقول هذا القائف الذي رأى الأقدام، وقال: إن بعضها من بعض، فالحديث الذي معنا ومع هذا الحديث وغيره من الأحاديث فيه دليل على الأخذ بالقافة، وعلى الاستفادة منهم فيما أقدرهم الله عز وجل عليه من معرفة الآثار.
قوله: [قال: (فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة، فأتي بهم، قال فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة:33] الآية)].
أنزل الله عز وجل هذه الآية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33]، وهذه الآية الكريمة فيها حكم المحاربة, وبعض أهل العلم قال: إنما هي للتخيير، وأن هذا يرجع إلى الإمام، وأنه يفعل الذي يرى فيه المصلحة، فإذا رأى القتل قتل، وإذا رأى القطع قطع، وإذا رأى النفي نفى، وإذا رأى الصلب صلب، فالأمر يرجع إلى اختيار الإمام فيختار ما فيه الأصلح.
ومن العلماء من قال: إن هذا يرجع إلى أحوالهم وما يجري منهم، فإذا كانوا قتلوا ولم يأخذوا مالاً قتلوا، وإذا كانوا قتلوا وأخذوا مالاً قتلوا وصلبوا, وإذا كانوا أخذوا مالاً ولم يقتلوا فإنهم تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا لم يحصل منهم شيء من ذلك وإنما حصل منهم إخافة فإنهم ينفون من الأرض.(493/7)
تراجم رجال إسناد حديث قتل العرنيين حرابة من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان].
محمد بن الصباح بن سفيان صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[قال: أخبرنا ح وحدثنا عمرو بن عثمان].
عمرو بن عثمان هو الحمصي، وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الوليد].
وهنا أتى بحاء التحويل من أجل الصيغة التي أتى بها كل من الشيخين لـ أبي داود، لأن الأول قال: أخبرنا، والثاني قال: حدثنا، والكل يروي عن الوليد بن مسلم، وهذا يدل على عناية المحدثين الفائقة في الرواية واهتمامهم بألفاظ الرواة، فإن هذا التحويل إنما أتى من أجل الصيغة فقط، وليس من أجل أن فيه عدة أشخاص، وإنما هو شخص واحد عن شيخين، إلا أن واحداً من الشيخين عبر بأخبرنا وهو الشيخ الأول، والشيخ الثاني عبر بحدثنا، وقد اشتركا في الرواية عن الوليد.
ثم كثير من العلماء لا يميزون بين: (حدثنا) و (أخبرنا)، فيأتون بها في الرواية سواء فيما سمع من الشيخ أو فيما قرئ على الشيخ وهو يسمع، ومن العلماء من يجعل (حدثنا) فيما سمع من لفظ الشيخ، و (أخبرنا) فيما قرئ على الشيخ، وذلك التلميذ يسمع، لكن بعض العلماء يستعمل هذه مكان هذه، وهذه مكان هذه، ولكن كما أشرت: إن هذا التحويل يدل على العناية الفائقة التي يكون عليها المحدثون والأئمة الذين يؤلفون كما صنع أبو داود رحمه الله في ذكر التحويل من أجل أن أحد الشيخين عبر بأخبرنا والشيخ الثاني عبر بحدثنا.
والوليد هو: الوليد بن مسلم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي أبو عمرو، وهو ثقة فقيه، وهو فقيه الشام ومحدثها، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى -يعني ابن أبي كثير -].
يحيى بن أبي كثير اليمامي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قلابة عن أنس].
أبو قلابة وأنس قد مر ذكرهما.(493/8)
شرح حديث قتل العرنيين حرابة من طريق رابعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا ثابت وقتادة وحميد عن أنس بن مالك ذكر هذا الحديث قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشاً حتى ماتوا].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه زيادة أن أنساً قال: (رأيت أحدهم يكدم الأرض)، يعني: يعض الحصى من العطش، (حتى ماتوا) يعني: ولم يسقوا ولم يطعموا؛ لأنهم عوقبوا بمثل ما حصل منهم للراعي، والمراد هو: إماتتهم والقضاء عليهم، ولكن بهذه الطريقة التي فعلوها مع الراعي، فجوزوا بنظير ما فعلوا قال تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26].(493/9)
تراجم رجال إسناد حديث قتل العرنيين حرابة من طريق رابعة
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل عن حماد].
حماد هو ابن سلمة بن دينار البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وقتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحميد].
هو حميد بن أبي حميد الطويل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس مر ذكره، وهذا سند رباعي، لأن الثلاثة الذين فيه في طبقة واحدة، وهم قتادة وحميد وثابت، وكلهم يروي عنهم حماد بن سلمة، وكلهم يروي عن أنس بن مالك، إذاً: هذا إسناد رباعي وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(493/10)
طرق أخرى لحديث قتل العرنيين حرابة وفيها بعض الاختلاف في الألفاظ، وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن هشام عن قتادة عن أنس بن مالك بهذا الحديث نحوه، زاد: ثم نهي عن المثلة ولم يذكر (من خلاف).
ورواه شعبة عن قتادة وسلام بن مسكين عن ثابت جميعاً عن أنس لم يذكرا: (من خلاف) ولم أجد في حديث أحد: (قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) إلا في حديث حماد بن سلمة].
أورد أبو داود طرقاً أخرى، وفيها ذكر بعض الاختلاف في ألفاظ الرواة، بعضهم قال كذا وبعضهم قال كذا.
قوله: [(نهي عن المثلة)] وهي تقطيع شيء من المقتول وتشويه منظره، وهذا لا يجوز، لكن إذا كان على سبيل القصاص فإن ذلك سائغ؛ لأنه يفعل به كما فعل بغيره، فإذا حصل منه قتل وتمثيل فيقتل بالطريقة التي فعل قال تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26].
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
محمد بن بشار هو الملقب: بندار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن أبي عدي].
هو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام].
هو هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة عن أنس].
قتادة وأنس قد مر ذكرهما.
[ورواه شعبة عن قتادة].
شعبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وسلام بن مسكين عن ثابت جميعاً].
سلام بن مسكين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.(493/11)
شرح حديث: (أن ناساً أغاروا على إبل النبي فاستاقوها وارتدوا عن الإسلام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو عن سعيد بن أبي هلال عن أبي الزناد عن عبد الله بن عبيد الله قال أحمد: هو -يعني- عبد الله بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب عن ابن عمر: (أن أناساً أغاروا على إبل النبي صلى الله عليه وسلم فاستاقوها، وارتدوا عن الإسلام، وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً، فبعث في آثارهم، فأخذوا فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، قال: ونزلت فيهم آية المحاربة)، وهم الذين أخبر عنهم أنس بن مالك الحجاج حين سأله].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: (إن أناساً أغاروا على إبل النبي صلى الله عليه وسلم).
قوله: [(فاستاقوها وارتدوا عن الإسلام)].
أي: أخذوها وهربوا بها، وارتدوا عن الإسلام، يعني: أنهم كانوا جاءوا مسلمين ثم ارتدوا، يعني: كفروا بعد إسلامهم، فجمعوا بين هذه الخصال الذميمة، وهي الردة والقتل والعدوان.
قوله: [(وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً، فبعث في آثارهم، فأخذوا فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، قال: ونزلت فيهم آية المحاربة)، وهم الذين أخبر عنهم أنس بن مالك الحجاج حين سأله].
هذا مثل ما جاء في حديث أنس رضي الله عنه، وهؤلاء هم الذين أخبر بهم أنس بن مالك الحجاج لما سأله عن أغلظ عقوبة حصلت من النبي صلى الله عليه وسلم، فحدث بهذا الحديث، وجاء أنه ندم على إخباره بذلك؛ لأن الحجاج سيتخذه ذريعة إلى البطش؛ لأنه كان جائراً وظالماً، فندم على كونه أخبره بذلك.(493/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن ناساً أغاروا على إبل النبي فاستاقوها وارتدوا عن الإسلام)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عبد الله بن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عمرو].
هو ابن الحارث المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن أبي هلال].
هو سعيد بن أبي هلال المصري، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزناد].
هو عبد الله بن ذكوان المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عبيد الله قال أحمد: هو -يعني-: عبد الله بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب].
عبد الله بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وهم: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وكلهم من صغار الصحابة وأبناء صحابة، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(493/13)
شرح حديث: (أن رسول الله لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار عاتبه الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني الليث بن سعد عن محمد بن العجلان عن أبي الزناد: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار، عاتبه الله تعالى في ذلك، فأنزل الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة:33] الآية)].
أورد أبو داود هذا الحديث المرسل أو المعضل، لأن أبا الزناد -وهو معروف بالرواية عن الأعرج عن أبي هريرة - أضاف ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر الذي بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مرسل أو معضل.
وأبو الزناد هو من الطبقة الخامسة التي هي طبقة صغار التابعين، يعني: من طبقة الأعمش والزهري وقتادة، وذكر هنا أنه لما حصل منه ما حصل للذين استاقوا الإبل وسملوا أعين الراعي عاتبه الله فأنزل الآية، فهو ذكر المعاتبة في هذه الطريقة، وأما قضية إنزال آية المحاربة فقد مر في الأحاديث الصحيحة ما يدل على ذلك، وأما ذكر العتاب فهذا هو الذي جاء من هذه الطريق التي فيها الانقطاع، وهو غير صحيح.(493/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار عاتبه الله)
قوله: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح].
أحمد بن عمرو بن السرح ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أخبرنا ابن وهب أخبرني الليث بن سعد].
ابن وهب مر ذكره، والليث بن سعد هو المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عجلان].
هو محمد بن عجلان المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي الزناد].
أبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(493/15)
شرح أثر محمد بن سيرين في قصة العرنيين، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير قال: أخبرنا ح وحدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا همام عن قتادة عن محمد بن سيرين قال: كان هذا قبل أن تنزل الحدود يعني: حديث أنس].
أورد أبو داود هذا الأثر عن محمد بن سيرين قال: هذا كان قبل أن تنزل الحدود، يعني: هذا الذي حصل من النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة العرنيين كان قبل أن تنزل الحدود.
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: أخبرنا ح وحدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل مر ذكره.
[حدثنا همام].
هذا الحديث مثل الذي قبله من حيث تحويل السند بعد ذكر شيخه الأول وبعد ذكر الصيغة، لأن الأول عبر بأخبرنا، والثاني عبر بحدثنا، مثل الذي مر في الحديث السابق.
[عن همام عن قتادة].
همام بن يحيى العوذي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقتادة مر ذكره.
[عن محمد بن سيرين].
محمد بن سيرين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قوله: [قال: كان هذا قبل أن تنزل الحدود].
يعني: التفاصيل الواردة فيما يتعلق بالحرابة.
ولعله يقصد أن هذا قبل أن تأتي التفاصيل التي فيها ذكر ما يتعلق بالقصاص والسرقة.
لكن هذا حد خاص بالحرابة، وليس له علاقة بالحدود، يعني: سواء نزلت قبل أو نزلت بعد فهذا شيء آخر.(493/16)
شرح حديث ابن عباس في سبب نزول آيات الحرابة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت حدثنا علي بن حسين عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33] إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:34] نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه].
أورد أبو داود حديث ابن عباس أن هذه الآية نزلت في المشركين، وهي في المشركين وكذلك تشمل المسلمين الذين يحصل منهم قطع الطريق، وإيذاء الناس، والاعتداء عليهم في أموالهم علناً، ولكن الذي يبين ويوضح أنها في المشركين، قوله في آخر الآية: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33] ومعلوم أن الحدود إذا أقيمت على المسلمين فهي كفارات، وأما بالنسبة للمشركين فإنهم إذا تابوا يتوب الله عليهم وكل شيء يغفره الله عز وجل قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، وهم الذين لهم الخزي في الدنيا ولهم العذاب العظيم في الآخرة إذا أقيم عليهم ذلك الحد؛ لأن الحدود لا تكفر عن المشركين شيئاً؛ لأنه ما دام الشرك موجوداً فلا بد من دخول النار، ولا بد من الخلود فيها، ولكن المسلم هو الذي تكفر الحدود ذنبه، ولا يؤاخذ عليه في الآخرة، وأما الكفار فيؤاخذون في الدنيا والآخرة ما دام أنهم باقون على الشرك؛ لأنهم حصلوا عقاباً في الدنيا وهذا خزي، ولهم في الآخرة عذاب عظيم، أما المسلمون فلهم خزي في الدنيا، ولكن هذا الحد الذي أقيم عليهم هو كفارة لهم، ولا يؤاخذون عليه في الآخرة؛ لأنه جاء في حديث عبادة بن الصامت: (أن الحدود كفارات) وهذا إنما هو في حق المسلمين.
فإذاً: هذا الذي جاء عن ابن عباس يوضح معنى قوله: ((وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ))، وفي حق المسلمين إذا لم يحصل توبة، وحصل إصرار على ذلك الشيء فإن أمره إلى الله عز وجل في الآخرة إذا لم يتب، وأما الكافر فإنه لا بد من عقوبة له في الآخرة، ولا بد من خلوده في النار، وأنه لا يمكن أن يخرج منها في حال من الأحوال.
فإذاً: هذا الأثر عن ابن عباس يبين معنى قوله: ((وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ))؛ لأن هذا إنما يكون واضحاً في حق المشركين.
قوله: [نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه].
يعني: إذا كان يتعلق بحقوق الناس، لأن الإسلام يهدم ما كان قبله فيما يتعلق بحقوق الله عز وجل، وأما إذا كان الكافر أسلم وهو عنده حقوق للناس، وقد اعتدى عليهم وهم يطالبون بحقوقهم فإن ذلك لا يمنع من إقامة الحد عليه، ومن أخذ الحق منه وإيصاله إلى من يستحقه.(493/17)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في سبب نزول آيات الحرابة
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت].
هو أحمد بن محمد بن ثابت المروزي المشهور بـ ابن شبويه، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود.
[حدثنا علي بن حسين].
هو علي بن حسين بن واقد، وهو صدوق يهم، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو ثقة له أوهام، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد النحوي].
يزيد النحوي ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(493/18)
شرح سنن أبي داود [494]
جاء الإسلام بالعدل في الثواب والعقاب بين الشريف والوضيع فالكل تحت مظلة الإسلام لا فرق بينهم، من أتى حداً من حدود الله تعالى أقيم عليه الحد ولو كان أشرف الشرفاء أو أغنى الأغنياء لا فرق بين عربي ولا عجمي ولا شريف ولا وضيع إلا بالتقوى.(494/1)
ما جاء في الحد يشفع فيه(494/2)
شرح حديث: (أتشفع في حد من حدود الله؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الحد يشفع فيه.
حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني قال: حدثني ح وحدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي حدثنا الليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: (أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها؟ يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: ومن يجترئ إلا أسامة بن زيد حب النبي صلى الله عليه وسلم؟! فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أسامة! أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب فقال: إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)].
أورد أبو داود رحمه الله تعالى هذه الترجمة وهي: [باب في الحد يشفع فيه].
يعني: حكم ذلك، وهو أنه لا يجوز إذا بلغ السلطان، وأما إذا كان لم يبلغ السلطان فإنه لا بأس بذلك، والمنع إنما هو فيما إذا بلغ السلطان، فإنه لا تجوز الشفاعة فيه.
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها في قصة المخزومية، وأن قريشاً همهم شأنها؛ لأن بني مخزوم قبيلة مشهورة، ولها منزلة وشرف عند الناس، فهم أهمهم كون امرأة تسرق منهم، وهذا يدل على أن الإنسان إذا جنى وحصل منه شيء فإنه يؤثر على من ينسب إليه، وعلى من هو منه، وأن هذا يعتبر فيه نسبة إلى تلك القبيلة، ولهذا أهمهم شأن المخزومية، فقالوا: من يشفع لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: محبوبه، والحب: هو المحبوب، فكلمه أسامة في ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتشفع في حد من حدود الله؟!) وهذا استفهام إنكار، ثم قال: (إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) وهنا قوله: (الشريف) معنى هذا أن الشفاعة من أجل أنها شريفة، وأن قبيلتها لها شرف ومنزلة، ومن أجل ذلك أهمهم وطلبوا الشفاعة حتى لا يقام الحد ويكون في ذلك سبة على هذه القبيلة، ومعلوم أن الجاني لا تحمل وزره القبيلة قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وأن من يكون لهم شرف أو منزلة فقد يحصل فيهم من يكون ساقطاً أو يكون عنده شيء من الخطأ أو الخلال، والمخزومية حصل منها هذه السرقة كما يحصل من سائر الناس، ولكن الذي أهمهم كونها شريفة، ولكن جناية الجاني لا تتعداه إلى غيره، وإن كان ذلك قد يؤثر على الناس من جهة أنهم لا يحبون أن ينسب إليهم من يكون سارقاً أو يكون فيه صفات ذميمة، وإن كان من الناس من قد يحصل منه ذلك ولو كان أهله من أحسن وأفضل وأشرف الناس.
قوله: [(أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها يعني: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قالوا: ومن يجترئ إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
إن الناس الذين يكون فيهم شرف، ولهم منزلة ومكانة قد يحصل من أحد منهم شيء من الأشياء التي قد يستصعبون نسبتها إليهم، وأنه قد يكون فيهم ساقط، لكن بالنسبة لهذه المرأة التي هي المخزومية لا يقال عنها: إنها ساقطة، ولكن نقول في الجملة: إن من الناس من يكون فيهم شرف وقد يحصل من أحدهم هذا الفعل، وأما بالنسبة للصحابة إذا حصل من أحدهم شيء وأقيم عليه الحد كان كفارة له، وكذلك غيرهم، ولكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يذموا ويعابوا وأن ينسب إليهم شيء لا يليق، ومن أقيم عليه الحد كان كفارة له، وقد حصل له الشرف بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم ولو حصل منه ذنب وأقيم عليه الحد فإنه يكون كفارة له، وإن لم يقم عليه الحد وستره الله عز وجل فإن أمره إلى الله سبحانه وتعالى، إن شاء عفا عنه وتجاوز، وإن شاء عذبه، وهذا في كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: [ومن يجترئ]، يعني: كونه يتقدم ليشفع إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة فأنكر عليه وقال: (أتشفع في حد من حدود الله؟!) ثم خطب الناس وبين لهم هذا الحكم، وأن الأمم السابقة كان من أسباب هلاكهم: (أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)، ثم ضرب مثلاً بابنته فاطمة التي هي سيدة نساء أهل الجنة رضي الله تعالى عنها وأرضاها وهي بضعة منه فقال: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) رغم أن لها ذلك الشرف العظيم، وهو نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وكونها ابنته، فلو حصل منها ذلك فإن الحكم واحد، ولا فرق بين شريف ووضيع.(494/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أتشفع في حد من حدود الله؟)
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني].
يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[قال: حدثني ح وحدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي].
قتيبة بن سعيد الثقفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
و (حدثنا) هنا عامل التحويل بين الإسنادين، والصيغة واحدة وهي صيغة التحديث إلا أن الفرق أن الأول أتى بضمير الإفراد، والثاني أتى بضمير الجمع، ففي الأول قال: حدثني، وفي الثاني قال: حدثنا، قالوا: والفرق بين التعبيرين أن الراوي إذا حدثه الشيخ وحده عبر بقول: حدثني، وإما إذا حدثه ومعه غيره عبر بحدثنا، يعني: هو وغيره، ولم يحدثه وحده، والفرق هنا ليس كالذي مر بين أخبرنا وحدثنا، وهذا كما ذكرت من دقة المحدثين وعنايتهم بذكر ألفاظ الرواة على هيئتها وكيفيتها سواء كان للفرق بين كلمتين كحدثنا وأخبرنا، أو للضمير، وإن كانت الكلمة واحدة وهي حدثنا وحدثني.
[حدثنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري مر ذكره.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة بن الزبير بن العوام].
عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(494/4)
شرح حديث: (أتشفع في حد من حدود الله؟) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عباس بن عبد العظيم ومحمد بن يحيى قالا: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: (كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها) وقص نحو حديث الليث قال: (فقطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها من طريق أخرى، وأنها كانت تستعير المتاع وتجحده، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يدها، والحديث الأول ذكر السرقة، ولعلها كانت جمعت بين الأمرين.(494/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (أتشفع في حد من حدود الله؟) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا عباس بن عبد العظيم].
هو عباس بن عبد العظيم العنبري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ومحمد بن يحيى].
هو محمد بن يحيى الذهلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[قالا: حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن عروة عن عائشة].
الزهري وعروة وعائشة قد مر ذكرهم في الإسناد الذي قبل هذا.(494/6)
طرق أخرى لحديث: (أتشفع في حد من حدود الله) وتراجم رجال الإسناد
[قال أبو داود: روى ابن وهب هذا الحديث عن يونس عن الزهري وقال فيه كما قال الليث: إن امرأة سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح].
وهذا مثل الذي قبله إلا أن فيه ذكر السرقة، وأن ذلك في غزوة الفتح يعني: عام الفتح.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه الليث عن يونس عن ابن شهاب بإسناده فقال: استعارت امرأة].
يونس بن يزيد الأيلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروى مسعود بن الأسود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخبر قال: سرقت قطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم].
وروي هذا الحديث معلقاً وهو عن مسعود بن الأسود الصحابي رضي الله عنه أنها سرقت قطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و [مسعود بن الأسود صحابي أخرج له ابن ماجة، وهنا ما ذكر أبو داود أنه معلق وليس متصلاً؛ لأنه ليس له ذكر عند أبي داود في المتصلات، وإنما هو في المعلقات.
[قال أبو داود ورواه أبو الزبير عن جابر: (أن امرأة سرقت فعاذت بـ زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
ذكر طريقاً أخرى عن أبي الزبير، وهو محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي، وأنها سرقت واستعاذت بـ زينب يعني: طلبت منها أن تعيذها وأن تكون عوناً لها على التخلص من مغبة ما حصل لها.(494/7)
شرح حديث: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا جعفر بن مسافر ومحمد بن سليمان الأنباري قالا: أخبرنا ابن أبي فديك عن عبد الملك بن زيد نسبه جعفر إلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل عن محمد بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) وهذا يدل على أن الحدود لا يشفع فيها، وأنه لابد أن ينفذ الحد إذا بلغ السلطان، وأما العثرات التي ليس فيها حدود وكان الشخص الذي حصل منه ذلك ليس له سوابق، أو أنه معروف بالسلامة والصلاح ولكنه حصل منه خطأ عارض فإنه يمكن مسامحته وإقالة عثرته، وأما من كان معروفاً بالتساهل في هذه الأمور التي ليس فيها حد ولكن فيها تعزير، فإن هذا يردع بما يمنعه حتى لا يعود، وأما إذا حصل ممن له منزلة ومكانة وهو معروف بالصلاح، وهو غير متكرر منه، فإنه تقال عثرته، وهذا هو مقتضى هذا الحديث، وهو يدل على أن غير الحدود ليست كالحدود، وأنه يمكن أن يشفع فيها ويمكن أن يعفى عنها في حق من يكون كذلك من ذوي الهيئات.(494/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)
قوله: [حدثنا جعفر بن مسافر].
جعفر بن مسافر صدوق ربما أخطأ، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[ومحمد بن سليمان الأنباري].
محمد بن سليمان الأنباري صدوق، أخرج له أبو داود.
[قال: أخبرنا ابن أبي فديك].
هو محمد بن إسماعيل بن مسلم، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الملك بن زيد نسبه جعفر إلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل].
عبد الملك بن زيد ذكره أحد الرواة، وهو محمد بن سليمان وقال: عبد الملك بن زيد، ووقف عندها، أما جعفر الذي هو الشيخ الأول فنسبه إلى جده وهو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل الذي هو أحد المبشرين بالجنة.
وعبد الملك بن زيد قال عنه النسائي: لا بأس به، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن محمد بن أبي بكر].
هو محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرة].
هي عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة رضي الله عنها وقد مر ذكرها.(494/9)
الأسئلة(494/10)
حكم من به مرض نفسي
السؤال
هل المريض مرضاً نفسياً يعتبر مرفوعاً عنه القلم؟
الجواب
القلم مرفوع عمن يغيب عقله، وأما من كان عقله حاضراً وعنده اكتئاب وأمراض نفسيه فهذا لا يكون مرفوعاً عنه القلم، وإنما يرفع القلم عن فاقد العقل، كما جاء في الحديث: (رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، والصغير حتى يبلغ).(494/11)
كيفية قضاء الصلوات الفائتة في عمر العبد
السؤال
ما هي كيفية قضاء الصلوات المكتوبة الفائتة في العمر السابق؟ ومتى؟ وهل تكون بنية جهرية بين العبد وربه؟
الجواب
إذا كان الإنسان تاركاً للصلاة فيما مضى من حياته فيتوب إلى الله عز وجل توبة نصوحاً، والتوبة تجب ما قبلها، ويحرص في المستقبل على أن يستقيم، وأن يلتزم بالطاعة، والبعد عن المعصية، ومن تاب تاب الله عليه، والإنسان إذا كان عليه شيء من الصلاة فبعض أهل العلم يقول: إنه كافر، والشيء الذي يحصل في الكفر لا يقضى، وإنما يتوب منه، ومن تاب تاب الله عليه.(494/12)
ما جاء في العفو عن الحدود ما لم تبلغ السلطان(494/13)
شرح حديث: (تعافوا الحدود فيما بينكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب العفو عن الحدود ما لم تبلغ السلطان.
حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب قال: سمعت ابن جريج يحدث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب)].
أورد أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة وهي: [باب العفو عن الحدود ما لم تبلغ السلطان].
أي: أن التسامح في الحدود والأعراض هذا قبل أن تصل إلى السلطان سائغ، وأن المحظور والممنوع فيما إذا بلغت السلطان، فإنه ليس لأحد أن يعفو بعد بلوغ السلطان, وليس لأحد أن يشفع، وليس للسلطان أن يعفو، بل الواجب هو إقامة الحدود، وقبل بلوغها السلطان يمكن المسامحة، ويمكن الإعراض عنها وعدم المطالبة بها إلا إذا أراد الإنسان الذي حصلت له الجناية أو عليه الجناية، وأما إذا بلغت السلطان فإنه ليس هناك إلا التنفيذ.
وقد أورد أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب) أي: هذا أمر لغير الولاة، وهو للجاني والمجني عليه، فالتسامح والتعافي يكون فيما بينهم قبل أن تبلغ السلطان، فإذا وصلت إلى السلطان فإنه لا مجال لعفو صاحب المجني عليه، ولا مجال للشفاعة أيضاً في ترك الحد، وليس للسلطان أن يترك ذلك بعد ثبوته، وإنما عليه أن يقيم الحد، ولهذا قال: (ما بلغني من حد فقد وجب) يعني: وجب تنفيذه، والتسامح والتعافي إنما هو قبل بلوغه السلطان.(494/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (تعافوا الحدود فيما بينكم)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
هو سليمان بن داود المهري المصري، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب].
هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو شعيب بن محمد، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة والأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عمرو بن العاص].
وهو الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا فيه بيان الراوي عن المرء الذي روى عنه شعيب بن محمد، فإن روايته عن عبد الله بن عمرو بن العاص، فكثير من الروايات يأتي فيها: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهذا فيه بيان للجد، وأنه جد شعيب، وشعيب يروي عن جده وقد ثبت سماعه منه، وهو متصل، وهذا الإسناد فيه تسمية الجد، وأنه عبد الله بن عمرو بن العاص، أي: أن شعيباً يروي عن جده عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما.
وعبد الله بن عمرو بن العاص حديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(494/15)
ما جاء في الستر على أهل الحدود(494/16)
شرح حديث: (لو سترته بثوبك كان خيراً لك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الستر على أهل الحدود.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان عن زيد بن أسلم عن يزيد بن نعيم عن أبيه: (أن ماعزاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأقر عنده أربع مرات، فأمر برجمه وقال لـ هزال: لو سترته بثوبك كان خيراً لك)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: [باب الستر على أهل الحدود].
والمقصود بالستر عليهم هو: عدم إظهار أمرهم، ورفع دعواهم وأنه يستر عليهم، ولكن هذا فيه تفصيل؛ لأنه إذا كان قبل أن يصل إلى السلطان فقد مر بنا حديث التعافي، وأن التسامح في ذلك ممكن، وإنما المحذور إذا بلغت السلطان.
والستر على أصحاب الحدود إذا كان الشخص معروفاً بالفسق والفجور أو معروفاً بأمور محرمة والإقدام عليها، وكونه لم تحصل له عقوبة تردعه فإن عدم الستر في هذه الحالة أولى؛ لأنه يترتب على ذلك كون شره ينتشر، وأنه يحصل منه هذا العمل المنكر باستمرار، ويحصل الإضرار بالناس، وأما إذا كان لم يحصل منه هذا التكرار، وإنما حصل منه هفوة أو زلة أو ما إلى ذلك، فهذا يمكن أن يفرق بينه وبين من يكون معروفاً بالسوابق وتكرار تلك الأمور المحرمة، وإنما الستر فيه تفصيل.
وأبو داود رحمه الله أورد حديثاً ضعيفاً، لكن الحديث الذي مر والأمر بالتعافي يدل على الستر، ولكن كما أشرت ليس كل صاحب حد يستر عليه.
أورد أبو داود حديث نعيم بن هزال رضي الله تعالى عنه: أن ماعزاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقر بالزنا، فقال لـ هزال الذي هو والد نعيم: (لو سترته بثوبك كان خيراً لك) وذلك أن هزالاً كان ولي أمر ماعز، وقد أوصاه به والده مالك والد ماعز، وكان نشأ في حجره، ولما حصل له ذلك قال له: لو ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بالذي حصل من الزنا، فالرسول قال له: (لو سترته) يعني: لو أخفيت عنه وما قلت له يأتي إلي، هذا هو المقصود بمحل الشاهد للترجمة في قوله: (الستر على أهل الحدود) لأنه قال: (لو سترته بثوبك) يعني: لو أخفيت أمره ولم تقل له أن يأتي إلي ويعترف بالزنا، والإنسان إذا استتر بستر الله وتاب إلى الله عز وجل، وأحسن في المستقبل، فالتوبة تجب ما قبله، والله تعالى يتوب على من تاب.(494/17)
شرح حديث: (لو سترته بثوبك كان خيراً لك) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد بن زيد حدثنا يحيى عن ابن المنكدر: أن هزالاً أمر ماعزاً أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره].
وهذا فيه بيان وجه كون النبي قال لـ هزال: (لو سترته بثوبك كان خيراً لك) لأنه هو الذي أمر ماعزاً أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالذي حصل منه.
فالثاني فيه بيان أن هزالاً هو الذي أمره، وذلك فيه بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ هزال وهو الذي أمره بأن يبلغ النبي عليه السلام بما حصل منه: (لو سترته بثوبك كان خيراً لك).(494/18)
تراجم رجال إسنادي حديث: (لو سترته بثوبك كان خيراً لك)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد بن القطان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن أسلم].
زيد بن أسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن نعيم].
يزيد بن نعيم مقبول، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبيه].
هو نعيم بن هزال، وهو صحابي، أخرج له أبو داود والنسائي.
وقوله: [حدثنا محمد بن عبيد].
هو محمد بن عبيد بن حساب، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد بن زيد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن المنكدر].
هو محمد بن المنكدر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن هزالاً].
هزال مر ذكره، وهذا مرسل؛ لأنه يخبر عن شيء حصل في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.(494/19)
ما جاء في صاحب الحد يجيء فيقر(494/20)
شرح حديث الرجل الذي وقع على المرأة وهي ذاهبة إلى المسجد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في صاحب الحد يجيء فيقر.
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا الفريابي حدثنا إسرائيل حدثنا سماك بن حرب عن علقمة بن وائل عن أبيه: (أن امرأة خرجت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم تريد الصلاة فتلقاها رجل فتجللها، فقضى حاجته منها، فصاحت، وانطلق، فمر عليها رجل فقالت: إن ذاك فعل بي كذا وكذا، ومرت عصابة من المهاجرين فقالت: إن ذلك الرجل فعل بي كذا وكذا، فانطلقوا فأخذوا الرجل الذي ظنت أنه وقع عليها، فأتوها به فقالت: نعم هو هذا، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أمر به قام صاحبها الذي وقع عليها فقال: يا رسول الله! أنا صاحبها فقال لها: اذهبي فقد غفر الله لك، وقال للرجل قولاً حسناً).
قال أبو داود: يعني الرجل المأخوذ، وقال للرجل الذي وقع عليها: (ارجموه) فقال: (لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم).
قال أبو داود: رواه أسباط بن نصر أيضاً عن سماك].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة وهي: [باب في صاحب الحد يجيء فيقر].
يعني: يقر ويعترف بالجناية التي حصلت منه أو الأمر المحرم الذي يكون عليه حد.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث وائل بن حجر رضي الله تعالى عنه، أن امرأة خرجت إلى المسجد فتجللها رجل وقضى حاجته منها، يعني: معناه أنه غشيها وحصل منها ما يحصل الرجل مع أهله وهرب، فاستنجدت، فلحق به واحد ليغيثها وليقبض على ذلك الذي اعتدى عليها، فجاءه أناس بعده، وهم جماعة من الأنصار فأخبرتهم، فلحقوا به، فوجدوا الرجل الذي ذهب ليغيثها في الأول، فأتوا به، وقالت: إنه صاحبها، وهو ليس بصاحبها، ولعل ذلك كان في الليل وفي الظلام، ولم تكن يتضح لها ذلك، فظنت أن هذا الشخص الذي أتي به -وهو الذي كان ذهب ليغيثها- هو الذي تجللها وغشيها، فعندما حصل ما حصل وحول إقامة الحد عليه، جاء الذي فعل بها الأمر المنكر وقال: أنا صاحبها، يعني: أراد ألا يجمع بين مصيبتين، ويكون فعل أمراً محرماً، ثم يقتل بسببه شخص آخر وهو بريء، فأخبر بأنه هو الذي حصل منه الجناية ووقع في الأمر المحرم، فلما اجتمع الثلاثة: المرأة، والرجل الذي أخذ وهو سليم، والرجل الذي فعل الأمر المنكر وأقر به، قال الرسول صلى الله عليه وسلم للمرأة: (اذهبي فقد غفر الله لك)؛ لأنها مكرهة والمكره معذور، (وقال للثاني قولاً حسناً) أي: الذي أخذ، والذي اتهم وهو بريء، يعني: ما ذكر كيفية ذلك القول، ولكنه وصف بأنه حسن، يعني: تلطف له وخاطبه بكلام حسن لإنهاء ما قد جرى، وقال في حق ذلك المقر: (ارجموه)، وقد جاء ذكر الرجل من هذه الطريق.
وذكر الشيخ الألباني رحمه الله خلافاً في قصة الرجم التي رواها أن الفريابي في هذا الحديث، وبين أنه رواه غيره ولم يذكر الرجم، وذلك أنه أقر وتاب إلى الله توبة نصوحاً، وأراد أن ينقذ نفسه من تبعتين: تبعة فعل الأمر المنكر مع المرأة، وتبعة كون إنسان سليم يؤخذ بجريرة غيره، فاعترف بذلك، فلم يذكر غير الفريابي الرجم، وأتى بعده بأنه تاب توبة لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم، فيكون في ذلك فائدة ومصلحة، وهي: أن من يكون عليه الحد لا يترك غيره يقام عليه الحد، وإن كان إقامة الحد كما هو معلوم مشكل في الحديث فيما يتعلق بالرجل الذي أخذ؛ لأن الحد لا يقام إلا باعتراف منه، أو بشهود يشهدون، وأما مجرد ادعاء المرأة مع عدم اعترافه وعدم الشهود فإنه لا يترتب عليه الحد، ولكن لعل الأمر في ذلك أنه لما رأى أن الأمر قد بلغ إلى محاكمة غيره، وأنه قد يحصل له ذلك، جاء وأخبر بالذي قد حصل حتى لا يقع شيء في حق ذلك الرجل وهو لا يستحقه، وإلا فإن مجرد ما حصل من ادعاء المرأة بأنه هو الذي فعل بها ما فعل فإنه لا يكفي، فإقامة الحد لا بد فيه من شهود أو اعتراف من المدعى عليه، والمدعى عليه لم يعترف، وجاء في الحديث: (لو أعطي الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه).
وعلى هذا فاختلفت الروايات هل رجم أو لم يرجم؟ والألباني يقول: الأرجح أنه لم يرجم، وأن الذين رووا الحديث وهم غير محمد بن يوسف الفريابي ما ذكروا الرجم، وهو الذي يناسب اعترافه، وكونه أراد أن ينقذ غيره فالحكم في ذلك مشكل، وأنا لا أدري ما الراجح في هذه المسألة، هل يرجم باعترافه، أم أنه لا يرجم لكونه حصل منه هذا الذي حصل؟ وهذا فيه تشجيع للذين يحصل منهم شيء، ويؤدي الأمر إلى إتلاف غيرهم، فصنيعهم هذا فيه إنقاذ لغيرهم، فيكون في ذلك مسوغ لترك إقامة الحد عليهم، والله تعالى أعلم.(494/21)
تراجم رجال إسناد حديث الرجل الذي وقع على المرأة وهي ذاهبة إلى المسجد
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا الفريابي].
هو محمد بن يوسف الفريابي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسرائيل].
هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سماك بن حرب].
سماك بن حرب، صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن علقمة].
هو علقمة بن وائل بن حجر، وهو صدوق، أخرج له البخاري في رفع اليدين ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو وائل بن حجر رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن، وعلقمة بن وائل سمع من أبيه، وهو أكبر من عبد الجبار، وعبد الجبار لم يسمع من أبيه، وأما علقمة فقد سمع من أبيه، وفي التقريب قال: إنه لم يسمع من أبيه، ولكن الصحيح أنه سمع من أبيه، وفي صحيح مسلم بعض أحاديث من روايته عن أبيه.
[قال أبو داود: رواه أسباط بن نصر أيضاً عن سماك].
أسباط بن نصر صدوق كثير الخطأ يغرب، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سماك].
سماك بن حرب مر ذكره.(494/22)
ما جاء في التلقين في الحد(494/23)
شرح حديث: (أن النبي أتي بلص قد اعترف فقال رسول الله: ما إخالك سرقت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التلقين في الحد.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبي المنذر مولى أبي ذر عن أبي أمية المخزومي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلص قد اعترف اعترافاً ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما إخالك سرقت، قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً، فأمر به فقطع وجيء به، فقال: استغفر الله وتب إليه، فقال: أستغفر الله وأتوب إليه، فقال: اللهم تب عليه، ثلاثاً)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: [باب في التلقين في الحد]، يعني: تلقين المعترف شيئاً يخلصه من إقامة الحد عليه، وهذا إنما يكون في أمر مشتبه ومحتمل، ومن شخص قد يكون لا يعرف السرقة من غير السرقة، وما يوجب القطع مما لا يوجب القطع، وقد يظن أن كل شيء يوجب القطع، ومن المعلوم أن القطع لا بد له من شروط: ومنها الحرز، والنصاب وما إلى ذلك، وقد يكون الشخص عنده شيء من التغفيل وعدم المعرفة، فما جاء من التلقين فهو في مثل هذا.
والحديث الذي أورده أبو داود عن أبي أمية المخزومي رضي الله عنه: (أن النبي عليه الصلاة والسلام أتي بلص اعترف أنه سرق، فقال: ما إخالك سرقت! قال: بلى) يعني: ما أظنك سرقت، قال: بلى، وقوله: (ما إخالك سرقت) هذا المقصود من الترجمة، وهو التلقين، يعني: ما أظنك سرقت، لكنه أكد أنه قد سرق، فأمر به فقطعت يده لما حصل منه الاعتراف بالسرقة، ثم بعد ذلك أتي به فقال: (استغفر الله وتب إليه) فاستغفر فقال: (اللهم اغفر له وتب عليه، ثلاثاً) قال ذلك رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
والحديث في إسناده أبو المنذر وهو مقبول.(494/24)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي أتي بلص قد اعترف فقال رسول الله: ما إخالك سرقت)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو ابن سلمة بن دينار، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة].
هو إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي المنذر مولى أبي ذر].
أبو المنذر مولى أبي ذر مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي أمية المخزومي].
أبو أمية المخزومي رضي الله عنه صحابي، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.(494/25)
إسناد حديث: (أن النبي أتي بلص قد اعترف فقال رسول الله: ما إخالك سرقت) من طريق أخرى
[قال أبو داود: رواه عمرو بن عاصم عن همام عن إسحاق بن عبد الله قال: عن أبي أمية رجل من الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم].
أورد أبو داود طريقاً أخرى للحديث.
قوله: [رواه عمرو بن عاصم].
هو صدوق في حفظه شيء، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن همام].
هو همام بن يحيى العوذي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسحاق بن عبد الله عن أبي أمية].
إسحاق بن عبد الله , وأبو أمية مر ذكرهما، وهنا قال: رجل من الأنصار، وهناك قال: المخزومي، ومعلوم أن بني مخزوم غير الأنصار، يعني: هو شك في هذه النسبة.
وهنا لم يذكر أبا المنذر بين إسحاق بن عبد الله وأبي أمية، ولا أدري هل سمع إسحاق بن عبد الله من أبي أمية أو لا؟! والإسناد الأول فيه أبو المنذر والألباني ضعف الحديث، ولعله بسبب هذا.(494/26)
ما جاء في الرجل يعترف بحد ولا يسميه(494/27)
شرح حديث: (أن رجلاً أتى النبي فقال يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه عليَّ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يعترف بحد ولا يسميه.
حدثنا محمود بن خالد حدثنا عمر بن عبد الواحد عن الأوزاعي قال: حدثني أبو عمار حدثني أبو أمامة رضي الله عنه: (أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فأقمه علي قال: توضأت حين أقبلت؟ قال: نعم، قال: هل صليت معنا حين صلينا؟ قال: نعم، قال: اذهب فإن الله تعالى قد عفا عنك)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة وهي: [باب في الرجل يعترف بحد ولا يسميه]، يعني لا يسمي الحد الذي فعله، وقد يكون حداً وقد يكون غير حد، ومعناه: أنه عمل ذنباً، وهذا الذنب قد يكون من الكبائر التي يكون فيها حد، وقد يكون من الصغائر وهو يستعظمه ويظن أن فيه حداً، وقد أورد أبو داود حديث أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إني أصبت حداً، فأقمه علي قال: هل توضأت حين قدمت أو أتيت إلى المسجد؟ قال: نعم، قال: هل صليت معنا؟ قال: نعم، قال: اذهب فإن الله قد عفا عنك) وهذا محمول على أنها من الصغائر، وليست المعصية من الكبائر التي فيها حدود، ومعلوم أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر، والحسنات تكفر الصغائر، وأما الكبائر فلا يكفرها إلى التوبة، كما قال الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] وقال صلى الله عليه وسلم: (الجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، فالصغائر تكفر بالأعمال الصالحة وتكفر بالصلاة، وما جاء في أن الحسنات يذهبن السيئات، إنما يكون ذلك في الصغائر وليس في الكبائر.(494/28)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رجلاً أتى النبي فقال يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه عليَّ)
قوله: [حدثنا محمود بن خالد].
هو محمود بن خالد الدمشقي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا عمر بن عبد الواحد].
عمر بن عبد الواحد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثني أبو عمار].
هو شداد بن عبد الله، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي أمامة].
هو أبو أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(494/29)
ما جاء في الامتحان بالضرب(494/30)
حديث النعمان بن بشير في حبس المتهم دون ضربه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الامتحان بالضرب.
حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بقية حدثنا صفوان حدثنا أزهر بن عبد الله الحرازي (أن قوماً من الكلاعيين سرق لهم متاع فاتهموا أناساً من الحاكة، فأتوا النعمان بن بشير صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، فحبسهم أياماً ثم خلى سبيلهم، فأتوا النعمان فقالوا: خليت سبيلهم بغير ضرب ولا امتحان؟ فقال النعمان: ما شئتم، إن شئتم أن أضربهم فإن خرج متاعكم فذاك، وإلا أخذت من ظهوركم مثلما أخذت من ظهورهم، فقالوا: هذا حكمك؟ فقال: هذا حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم) قال أبو داود: إنما أرهبهم بهذا القول، أي: لا يجب الضرب إلا بعد الاعتراف].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: [باب في الامتحان بالضرب]، يعني: المتهم هل يمتحن بالضرب ليعرف ما عنده، وليقر أو لا يضرب؟ وهل يحبس أو لا يحبس؟ أورد أبو داود حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الذي فيه الحبس في التهمة دون الضرب، وأنه جاء جماعة من الكلاعيين إلى النعمان بن بشير رضي الله عنه، واتهموا رجالاً من الحاكة، والحاكة: جمع حائك، وهم الذين يحيكون الثياب، فحبسهم مدة بالتهمة ثم خلى سبيلهم، فقالوا: خليت سبيلهم دون أن تضربهم؟ قال: ما شئتم، إن شئتم أن أضربهم، وإذا لم يظهر شيء بسبب الضرب، أضربكم كما ضربتهم، قالوا: هذا حكمك؟ قال: هذا حكم الله ورسوله، يعني: دل على أن الحكم هو الحبس، وأنه لا يضرب، وأن الضرب إنما يكون بعد الاعتراف، وأما قبل الاعتراف فقد يضرب البريء وهو سليم، فحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه يدل على جواز الحبس دون الضرب، وأخبر بأن هذا حكم الله ورسوله وليس حكمه، وهو إنما حكم بالحبس دون الضرب، وأخبرهم أنهم إن أردوا أن يضربوا، فإذا لم يثبت الذي عليهم بالضرب ولم يعترفوا، فإنه يؤخذ من هؤلاء كما أخذ من أولئك، فيكون قصاصاً؛ لأنهم لا يستحقون الضرب، فإذا ضربوا ولم يترتب على ذلك فائدة، فإن هؤلاء الذين طلبوا ضربهم أيضاً يضربون، وأما الحبس فإنه سائغ، وقد جاء في هذا الحديث أن النعمان حبسهم ولم يضربهم، وقال: إن هذا حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود: إنما أرهبهم بهذا القول].
يعني: بين أن الضرب إيذاء لهم، وإلحاق الضرر بهم، وإنما أرهبهم بهذا الضرب.
قوله: [أي: لا يجب الضرب إلا بعد الاعتراف].
يعني: أنه لا يستحق الضرب إلا بعد الاعتراف وكون الاعتراف يستوجب ضرباً أو يترتب عليه ضرب.
والمقصود به والله أعلم أن المعاقبة إنما تكون بعد الاعتراف.
وأبو داود فهم من ذلك أنه يكون من قبيل التعزير، لكن معلوم أن الإنسان السارق لا يضرب إذا ثبت عليه بالاعتراف وإنما يقام عليه الحد.(494/31)
تراجم رجال إسناد حديث النعمان بن بشير في حبس المتهم دون ضربه
قوله: [حدثنا عبد الوهاب بن نجدة].
عبد الوهاب بن نجدة ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا بقية].
هو بقية بن الوليد، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا صفوان].
هو صفوان بن عمرو، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا أزهر بن عبد الله الحرازي].
الأزهر بن عبد الله الحرازي صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن النعمان بن بشير].
النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(494/32)
شرح سنن أبي داود [495]
من حكمة الله سبحانه وتعالى أن فرض الحدود حفاظاً على أعراض الناس ودمائهم وأموالهم، وجعل لهذه الحدود مقادير تراعى عند إقامة الحد، وندب إلى تعافي الناس للحدود فيما بينهم، كما ندب إلى ستر المسلم إذا أتى حداً من حدود الله إذا كان ممن يعرف عنه الصلاح والمروءة.(495/1)
ما يقطع فيه السارق(495/2)
شرح حديث: (أن النبي كان يقطع في ربع دينار فصاعداً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يقطع فيه السارق.
حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل حدثنا سفيان عن الزهري قال سمعته منه عن عمرة عن عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع في ربع دينار فصاعداً)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: [باب ما يقطع فيه السارق]، يعني: النصاب الذي يقطع به في السرقة إذا بلغه المسروق، وإذا كان دونه فإنه لا يقطع به؛ لكونه شيئاً يسيراً لم يبلغ الحد الذي يستحق معه القطع، أي: أن الترجمة معقودة لبيان المقدار الذي إذا بلغه المسروق فإنه تقطع به يد السارق، وإذا نقص وقل عنه فإن اليد لا تقطع.
وقد اختلف العلماء في مقدار ما تقطع به اليد، فمن العلماء من ذهب إلى القطع بالكثير والقليل، وأخذوا بعموم ما جاء في القرآن من قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، ولم يذكروا فيه مقداراً لما يقطع به.
ومن العلماء من أخذ بالتحديد بربع دينار فما زاد على ذلك والثلاثة الدراهم تعادل ربع دينار؛ لأن الدينار كان في ذلك الوقت يعادل اثنا عشر درهماً، ولهذا كان نصاب الذهب يقدر بألف دينار، والدية قدرت بألف دينار وقدرت دية الحر باثني عشر ألف درهم على حساب أن الدينار يعادل اثنا عشر درهماً، ومنهم من قال غير ذلك.
والصحيح هو ما جاءت به الأحاديث الصحيحة الثابتة من القطع في ربع دينار فما زاد على ذلك، وما نقص عنه فإنه لا قطع فيه، فيكون المعتبر في ذلك ربع الدينار.
قوله: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع في ربع دينار)].
هذا فيه بيان للتحديد، أي: أنه ما كان يقطع في أقل من ربع دينار، وإنما كان يقطع في ربع الدينار وما زاد عليه.
قوله: [(فصاعداً)].
يعني: فما زاد على ربع الدينار يقطع فيه، وما نقص عن ربع الدينار فإنه لا قطع فيه، فهذا فيه الحد أو التفصيل، وما جاء في القرآن من الإطلاق بينته السنة بهذا الحديث الصحيح وغيره من الأحاديث الصحيحة الدالة على أن هناك نصاباً يكون القطع به إذا بلغه المسروق، وإذا نقص عنه فإنه لا يقطع به.
قوله: [عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع في ربع دينار فصاعداً)].
وهذا يبين الطريقة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يقطع في ربع الدينار وما زاد عليه، ومعناه أن ما نقص على ذلك أنه لا قطع فيه.(495/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي كان يقطع في ربع دينار فصاعداً)
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، الإمام الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان عن الزهري].
سفيان هو ابن عيينة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، والزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعته منه عن عمرة].
يعني: سفيان يقول: إنه سمعه من الزهري عن عمرة؛ ليرفع تهمه التدليس، والزهري تدليسه قليل ونادر، وأما سفيان فمعروف بالتدليس، وهذا فيه بيان رفع تهمة التدليس عن سفيان.
[عن عمرة].
هي عمرة بنت عبد الرحمن، وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(495/4)
شرح حديث: (تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح ووهب بن بيان قالا: حدثنا ح وحدثنا ابن السرح قال: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن الشهاب عن عروة وعمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً) قال أحمد بن صالح: (القطع في ربع دينار فصاعداً)].
أورد أبو داود حديث عائشة من طريق أخرى وهو قوله: (تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً) وهذا أيضاً فيه بيان من قوله صلى الله عليه وسلم، والأول فيه بيان من فعله (أن النبي كان يقطع في ربع دينار فصاعداً) وهنا قال: (تقطع) يعني: كلام النبي صلى الله عليه وسلم على أن القطع يكون في ربع دينار فما زاد عليه، وأن ما نقص عليه فإنه لا قطع فيه، ويكون دل على التحديد بربع الدينا ربقوله وفعله، وأن ما زاد عليه يقطع به، وما نقص منه فإنه لا يقطع به، وهذا التحديد من النبي صلى الله عليه وسلم يدل على بطلان القول بالقطع في الكثير والقليل ولو كان تافهاً يسيراً.(495/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[ووهب بن بيان].
وهب بن بيان ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[قالا: حدثنا ح وحدثنا ابن السرح أخبرنا ابن وهب].
وهؤلاء الثلاثة شيوخ لـ أبي داود اثنان منهم عبروا بحدثنا في الرواية عن ابن وهب، وأما الشيخ الثالث فإنه عبر بأخبرنا، وهذا هو سبب التحويل بعد الصيغة لبيان الاختلاف في الصيغة، وأن الشيخين الأولين كل منهما يقول: حدثنا ابن وهب، وأما الشيخ الثالث فإنه لم يقل: حدثنا وإنما قال: أخبرنا ابن وهب.
[وحدثنا ابن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أخبرنا ابن وهب].
ابن وهب مر ذكره.
[أخبرني يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن الشهاب عن عروة وعمرة عن عائشة].
ابن الشهاب مر ذكره، وعروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وعمرة مر ذكرها وعائشة مر ذكرها.
[قال أحمد بن صالح: (القطع في ربع دينار فصاعداً)].
قال أحمد بن صالح -يعني: في روايته-: (القطع في ربع دينار فصاعداً)، وأما وهب بن بيان وابن السرح فقالا: تقطع.(495/6)
شرح حديث: (أن النبي قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم).
والمجن هو: الترس الذي يجعل وقاية في الحرب، وقيمته ثلاثة دراهم، وهي تعادل ربع دينار؛ لأن الدينار اثنا عشر درهماً.
وهنا اختلف العلماء هل يرجع إلى الذهب أو إلى الفضة؟ والذي جاء في حديث عائشة يدل على أن الذهب هو الذي يعتبر؛ لأنه قال: (تقطع في ربع دينار فصاعداً) وأما هذا الذي حصل أنه قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم فهذا مخصوص، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن القطع يكون في ربع دينار، إذاً: المرجع في ذلك هو القيمة بالذهب، وأن الدينار سواء نقصت قيمته أو زادت فإن المعتبر هو الربع، وقد يزيد من حيث التفاوت بين الذهب والفضة فإذا اعتبر ربع الدينار فإن المرجع يكون إليه.
ثم أيضاً هذه قضية معينة، وأما ذاك ففيه تشريع وبيان؛ لأن المعتبر هو القطع في ربع دينار فصاعداً، وعلى هذا فيكون ذلك ثلاثة دراهم تعادل ربع دينار.(495/7)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا مالك].
هو مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر الصحابي الجليل، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد رباعي من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(495/8)
شرح حديث (أن النبي قطع في مجن فيمته ثلاثة دراهم) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية أن نافعاً مولى عبد الله بن عمر حدثه أن عبد الله بن عمر حدثهم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد رجل سرق ترساً من صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر من طريق أخرى، وفيه التعبير بالترس، وبيان أنه من صفة النساء، وهو مكان في مسجد خاص بالنساء، والترس: هو المجن، فيكون مطابقاً لما تقدم في الرواية السابقة.(495/9)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية].
ابن جريج مر ذكره، وإسماعيل بن أمية، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن نافعاً مولى عبد الله بن عمر حدثه أن عبد الله بن عمر حدثهم].
نافع وابن عمر مر ذكرهما.(495/10)
شرح حديث (قطع رسول الله يد رجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن أبي السري العسقلاني وهذا لفظه وهو أتم قالا: حدثنا ابن نمير عن محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يد رجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم) قال أبو داود: رواه محمد بن سلمة وسعدان بن يحيى عن ابن إسحاق بإسناده].
أورد أبو داود حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد رجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم) وهذا يخالف ما تقدم، ولكن يمكن أن يحمل على أنه اتفق أن ذلك حصل في مجن قيمته كذا، فلا يكون مقياساً، ولا يكون حداً فاصلاً، يعني: ما زاد عنه يعتبر نصاباً، وما نقص عنه لا يكون نصاباً؛ لأنه جاء التنصيص أنه تقطع في ربع دينار فصاعداً، وعلى هذا لا تنافي بين هذا وبين ما تقدم من الأحاديث الدالة على التحديد؛ لأن هذا الحديث ما ذكر تحديداً، وإنما أخبر بأنه اتفق أن المجن يساوي عشرة دراهم أو يساوي ديناراً، فإذاً لا تعارض؛ لأنه لا يوجد تحديد على أنه النصاب، وإنما هذا من جملة ما يقطع به؛ لأن ربع الدينار يقطع به، ونصف الدينار يقطع به، وثلاثة أرباع الدينار يقطع بها، والدينار يقطع به من باب أولى.
فلا يعارض ما تقدم من الأحاديث الدالة على أن القطع يكون بالربع وما زاد عليه؛ لأن هذا من جملة ما هو داخل في الزيادة، فإذاً لا يعتبر حداً، ولا يعتبر مقياساً يصار إليه بالتحديد في النصاب في القطع بالسرقة، وإنما التحديد يكون بربع دينار، والشيخ الألباني قال: إنه شاذ، ولكن الشذوذ ليس واضحاً؛ لأنه يكون صحيحاً، ويكون القطع حصل بذلك اتفاقاً بأنه كان يساوي كذا وكذا، وهو لا يعارض الأحاديث السابقة بأن يقال: إن النصاب هو ربع دينار، وإنما اتفق أنه مما زاد على ربع الدينار الذي يكون القطع به، فالقول بشذوذه هذا لو كان يتعلق بتحديد النصاب، والقول بالشذوذ لأنه مخالف للأحاديث لا يصح، فهو لا يخالف الأحاديث الأخرى على ما هي عليه، وإنما اتفق أن قيمة المجن دينار.(495/11)
تراجم رجال إسناد حديث (قطع رسول الله يد رجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[ومحمد بن أبي السري العسقلاني].
محمد بن أبي السري العسقلاني هو محمد بن المتوكل، وهو صدوق له أوهام كثيرة، أخرج له أبو داود.
[وهذا لفظه وهو أتم قالا: حدثنا ابن نمير].
هو عبد الله بن نمير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أيوب بن موسى].
أيوب بن موسى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء].
هو عطاء بن أبي رباح، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي إسناده محمد بن إسحاق، وهو مدلس وقد روى بالعنعنة، لكنه لو ثبت فلا يعارض الأحاديث السابقة، والشاذ: هو ما رواه الثقة مخالفاً لمن هو أوثق منه.
[قال أبو داود: رواه محمد بن سلمة وسعدان بن يحيى عن ابن إسحاق بإسناده].
محمد بن سلمة هو الحراني، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[وسعدان بن يحيى].
هو سعدان بن يحيي اللخمي، وهو صدوق وسط، أخرج له البخاري والنسائي وابن ماجة.(495/12)
الأسئلة(495/13)
حكم قتل القاتل في بلاد غير إسلامية
السؤال
نحن في بلاد أوروبية فهل يجوز لنا إذا قتل أحد أقاربنا أن نقتل القاتل؟
الجواب
أولاً القتل للقاتل لا يجب إلا إذا ثبت أنه هو القاتل، والقتل يكون من السلطان في بلاد فيها سلطان ينفذ الحدود، وإذا كان قتلهم له سيترتب عليه أضرار لهم ولغيرهم فلا ينبغي لهم أن يقدموا على القتل الذي قد ينتج عنه ما هو أكثر من قتيلهم الذي قتل، فإذا كان سيترتب على ذلك أضرار أكثر من ذهاب ذلك القتيل فلا يقدموا.(495/14)
من ينوب السلطان في الحدود
السؤال
في باب العفو عن الحدود ما لم تبلغ السلطان، من ينوب السلطان في هذا الزمان؟
الجواب
الذي ينوب السلطان كما هو معلوم القضاة، وكذلك الأمراء الذين تصل إليهم الأمور أولاً، ثم يرفعونها للقضاة ليحكموا فيها فهم نواب للسلطان.(495/15)
دخول الشرطة في نواب السلطان
السؤال
هل يدخل في نواب السلطان الشرطة؟
الجواب
الظاهر أنهم يدخلون.(495/16)
حكم إقامة الرجل الصالح الحدود دون السلطان
السؤال
ذكر لنا أن من ارتكب حداً فله أن يتصل برجل صالح فيقيم عليه الحد ويشهد عليه الناس، وهذا فيما إذا كان الحد دون القتل فهل هذا الكلام صحيح؟
الجواب
لا نعلم شيئاً يدل على هذا.(495/17)
حكم العفو في الحدود إذا بلغت السلطان
السؤال
إذا بلغت الحدود السلطان فهل للمجني عليه أن يعفو؟
الجواب
لا؛ لأن الحديث الذي سبق فيه: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب).
ويشكل هذا في قضية القتل إذا جاء وقت القصاص وعفا أصحاب الحق عن القاتل، لكن نقول: إن مسألة القصاص غير مسألة الحدود؛ لأن هذه حقوق للناس، وأما الحدود فهي حقوق لله، والناس لهم أن يعفوا، بل هم مرغبون في العفو، ولهم أن يعفوا بالدية، وأن يأخذوا أكثر من الدية إذا أردوا.(495/18)
حكم عفو المقذوف عن القاذف إذا بلغ السلطان
السؤال
هل يسقط حد القذف إذا بلغ السلطان وعفا المقذوف؟
الجواب
هو حق للمقذوف.(495/19)
المقصود بقوله (لو سترته بثوبك لكان خيراً لك)
السؤال
ما المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ هزال: (لو سترته بثوبك لكان خيراً لك)؟
الجواب
المقصود به: كونه هو الذي أخبره بأن يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان هو وليه، وكان قد وصى به أبوه إليه، ولكونه هو الذي يقوم بأموره، وكان وليه في الصغر، فقال له: اذهب واعترف عند النبي صلى الله عليه وسلم بالذي حصل، وقوله: (لو سترته بثوبك) يعني: لو أخفيت أمره ولم تقل له أن يفعل هذا الشيء.(495/20)
حكم الستر على الجاني والمذنب في الحرم
السؤال
هل يستحب الستر على الجاني والمذنب في الحرم؟
الجواب
أنا ذكرت في هذا تفصيلاً، وهو أنه إذا كان الإنسان ليس معروفاً بالسوابق، فهذا الستر عليه لا بأس به، وأما إذا كان الإنسان معروفاً بالفسق والفجور والسوابق فهذا لا يستر عليه؛ لأن هذا يمكنه، وأما إذا كانت زلة من هذا الإنسان، ولا يعرف عنه هذا الفعل فهذا من جنس ما تقدم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم) هذا فيما بين الناس، وأما إذا وصلت إلى السلطان فالحد لابد أن يقام.(495/21)
حكم من عمل كبيرة وتاب منها قبل أن تبلغ السلطان
السؤال
شخص قام بكبيرة من الكبائر حدها القتل، ولم يعلم به أحد إلا الله عز وجل، وهو الآن تائب فهل يذهب للسلطان ويظهر نفسه؟
الجواب
لا أبداً، إن الله يتوب على من تاب.(495/22)
المراد من قول النبي للمرأة (اذهبي فقد غفر الله لك)
السؤال
قول النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة: (اذهبي فقد غفر الله لك) ألا يكون ذلك لأنها اتهمت رجلاً وهو بريء؟
الجواب
لعل هذا هو السبب؛ لأن فعل الزنا منها ليس بذنب لأنها مكرهة عليه، ولكن الذنب الذي حصل منها هو اتهام البريء.(495/23)
حكم سؤال القاضي من أقر بالزنا عن المرأة التي زنى بها
السؤال
هل يسأل القاضي من أقر بالزنا عن المرأة التي زنى بها حتى يقام عليها الحد؟
الجواب
ليس بلازم مادام أنه اعترف بالزنا، وحتى لو أقر على امرأة فاعترافه وإقراره لا يكفي بالنسبة لها حتى تعترف هي.(495/24)
توجيه حول استخدام الجوال وقت الدرس
السؤال
نريد منكم توجيهاً حول استخدام الجوال في وقت الدرس، مما يزعج الإخوة والحاضرين.
الجواب
ينبغي أن يغلق في المساجد، والإنسان عليه أن ينتهز هذه الفرصة أو هذا الوقت القصير وهو جلوسه في المسجد، ويكون بعيداً عن الاشتغال مع الناس والاتصالات بالناس، فإذا دخل المسجد يغلق الجوال ولا يزعج أحداً ولا يزعجه هو أو يشغله عن ما هو خير، وهذا هو الذي ينبغي للإنسان، وليس هذا عند الدرس فقط، بل حتى لو ما كان عنده أحد، ينبغي أن يكون في المسجد مغلقاً.(495/25)
معنى التلقين في الحد
السؤال
مسألة التلقين في الحد ألا يمكن أن يكون المراد بالتلقين: تلقينه الاستغفار والتوبة مثلما قال له: تب واستغفر الله؟
الجواب
لا، التلقين هو قول: ما أظنك فعلت.(495/26)
ما لا قطع فيه(495/27)
شرح حديث (لا قطع في ثمر ولا كثر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما لا قطع فيه.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان: أن عبداً سرق ودياً من حائط رجل فغرسه في حائط سيده، فخرج صاحب الودي يلتمس وديه فوجده، فاستعدى على العبد مروان بن الحكم وهو أمير المدينة يومئذ، فسجن مروان العبد وأراد قطع يده، فانطلق سيد العبد إلى رافع بن خديج فسأله عن ذلك، فأخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا قطع في ثمر ولا كثر) فقال الرجل: إن مروان أخذ غلامي وهو يريد قطع يده، وأنا أحب أن تمشي معي إليه فتخبره بالذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمشى معه رافع بن خديج حتى أتى مروان بن الحكم، فقال له رافع: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا قطع في ثمر ولا كثر) فأمر مروان بالعبد فأرسل، قال أبو داود الكثر: الجمار].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب ما لا قطع فيه]، أي: فيما إذا أخذ لا تقطع به اليد، لأنه لا يعتبر سرقة.
أورد أبو داود رحمه الله في هذا الباب حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، وذلك أن عبداً لرجل أخذ ودياً لإنسان، فغرسه في بستان سيده، ففقد صاحب البستان ذلك الودي فأخذ يلتمسه فوجده في بستان ذلك الرجل، فاستعدى على ذلك العبد صاحب البستان المأخوذ وديه مروان بن الحكم، وكان أمير المدينة في ذلك الوقت أي: أنه استعان به عليه، فأخذه مروان وحبسه وأراد أن يقطعه، فذهب سيد ذلك العبد إلى رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه يسأله عن هذا الذي فعله عبده، فروى له عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا قطع في ثمر ولا كثر) فطلب منه أن يمشي معه، أي: طلب صاحب البستان -الذي هو سيد العبد الذي أخذ الودي وغرسه في بستانه- أن يمشي معه إلى مروان بن الحكم، ويخبره بالذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مشى معه وحدثه بالحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فعند ذلك أرسله أي: أطلقه من الحبس، والحديث يدل على أن الثمر الذي في النخل إذا كان الإنسان جاء وأخذ منه وأكل فإنه لا قطع عليه؛ لأن هذا مما يحتاج إليه ولاسيما إذا كان في طريق ومر عابر سبيل أو ابن سبيل فوجد ذلك الثمر في نخل ورقى وأكل منه ولم يتخذ معه شيئاً يصحبه معه، فإنه لا قطع عليه في ذلك.
وكذلك أيضاً الكثر الذي هو: الجمار، فإنه لا يكون فيه قطع، بمعنى: أنه لو أخذ ودياً وغرسه أو أكل شحمه -الذي هو الجمار، وهو الذي يكون في أصول العسب ويكون ليناً وحلواً- فلا يقطع فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أكل الجمار كما جاء في حديث: (أنه أتي بجمار نخلة فعند ذلك قال عليه الصلاة والسلام: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها أخبرونا ما هي؟) ففكر الناس في شجر البر، ولم يقع في أذهانهم الشجر الذي يكون في البلد، وفهم ذلك عبد الله بن عمر ومنعه من أن يتكلم أنه رأى أباه وغيره من الصحابة الكبار لم يتكلموا، وبعد ذلك أخبر ابن عمر أباه؛ فسر وفرح فرحاً شديداً بهذا الذكاء الذي حصل لابنه.
الحاصل: أن الجمار هو الذي يكون في أصول العسب، وهو حلو أبيض لين رقيق، فهو يؤكل ويستفاد منه في النخل الذي يقطع أو الذي ليس له حاجة، وأما إذا كان إليه حاجة فإنه ينقل من مكانه ويغرس في مكان آخر حتى يكون نخلاً.
والحاصل: أن الثمر والأخذ منه مما هو على رءوس النخل، وكذلك الكثر الذي هو الجمار فإنه لا قطع فيه، ولكنه إذا أفسد نخلاً على أهله بأن خربه وأخذ جماره فإنه يغرم ويعاقب على ذلك؛ لأنه أفسد مال الغير بغير حق.(495/28)
تراجم رجال إسناد حديث (لا قطع في ثمر ولا كثر)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك بن أنس].
مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد الأنصاري المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن يحيى بن حبان].
محمد بن يحيى بن حبان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[رافع بن خديج].
رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وجاء في بعض الروايات أن محمد بن يحيى بن حبان يروي عن عمه واسع بن حبان، وإلا فإن محمد بن يحيى بن حبان روايته مرسلة أي: يوجد انقطاع بينه وبين رافع بن خديج.(495/29)
شرح حديث (لا قطع في ثمر ولا كثر) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد حدثنا يحيى عن محمد بن يحيى بن حبان بهذا الحديث قال: فجلده مروان جلدات وخلى سبيله].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه أنه جلده جلدات وخلى سبيله يعني: تعزيراً على اعتدائه على مال الغير بغير حق.(495/30)
تراجم رجال إسناد حديث (لا قطع في ثمر ولا كثر) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد].
هو محمد بن عبيد بن حساب، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد].
هو ابن زيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يحيى عن محمد بن يحيى بن حبان بهذا الحديث].
يحيى ومحمد بن يحيى بن حبان مر ذكرهما.(495/31)
شرح حديث الأخذ من الثمر المعلق والمحرز
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه سئل عن الثمر المعلق؟ فقال: من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً من بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة).
قال: أبو داود: الجرين الجوخان].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: أن النبي سئل عن الثمر المعلق، أي: المعلق على رءوس النخل الذي لم يقطع، ولم يؤخذ إلى المكان الذي يحفظ فيه أو يخزن فيه أو ييبس فيه، فقال: من أخذ بفيه، يعني: أنه أكل طعاماً سد به جوعته فليس عليه شيء؛ لأن هذا شيء قد يحتاج الناس إليه ولاسيما عابرو السبيل عندما يمرون بنخل فيه ثمر فيأكلون بأفواههم ولا يحملون شيئاً، فإذا اقتصر على الأكل منه بنفسه دون أن يحمل شيئاً فإنه لا شيء عليه، فقد رخص له في ذلك، وإن اتخذ خبنة، يعني: حمل معه شيئاً في ثيابه أو في غير ثيابه فإن عليه غرامة مثليه والعقوبة، والعقوبة: هي جلدات نكالاً؛ لأنه أخذ شيئاً لا يستحقه، ولكنه لا يقطع به؛ لأنه أبيح الأكل منه في حال الحاجة إليه، فمن أخذ شيئاً زائداً على ذلك وفوق ما أذن له فيه فيؤاخذ بغرامة مثليه والعقوبة جلدات نكالاً.
قوله: [(من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع)].
أي: بعدما جذ ووضع في الجرين، وهو المكان المخصص له والذي يحفظ فيه وييبس فيه، فإنه يكون أخذه من حرزه، فإذا كان بلغ ثمن المجن فعليه القطع؛ لأنه سرق مالاً من حرزه، فإن كان لم يبلغ النصاب فإنه يغرم مثليه والعقوبة، يعني: كالذي أخذ منه وهو معلق، فإنه يعاقب بمثليه والعقوبة أي: الجلد؛ لأنه لم يصل إلى حد القطع، وإذا وصل إلى حد القطع بأن كان نصاباً فأكثر فإنه يقطع، وإذا كان لم يبلغ نصاباً فإنه يغرم مثليه ويكون أيضاً عليه العقوبة مع ذلك.
قوله: [(ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة)].
يعني: دون النصاب الذي يقطع به في السرقة، فعليه غرامة مثليه والعقوبة.(495/32)
تراجم رجال إسناد حديث الأخذ من الثمر المعلق والمحرز
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عجلان].
هو محمد بن عجلان المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب].
هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو شعيب بن محمد، أخرج له البخاري في جزء القراءة والأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص].
وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة.
وهذا الحديث فيه التصريح بأن الجد هو عبد الله بن عمرو، فيكون عندما يأتي: عن شعيب عن أبيه عن جده أن المقصود: عبد الله بن عمرو؛ لأنه هنا ذكر الجد وسماه، وقد صح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو فهو متصل.(495/33)
القطع في الخلسة والخيانة(495/34)
شرح حديث (ليس على المنتهب قطع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب القطع في الخلسة والخيانة.
حدثنا نصر بن علي أخبرنا محمد بن بكر حدثنا ابن جريج قال: قال أبو الزبير: قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس على المنتهب قطع، ومن انتهب نهبة مشهورة فليس منا)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: [باب القطع في الخلسة والخيانة].
والخلسة: هي أخذ الشيء من المكان الظاهر الذي ليس في حرز بخفية، فيأتي الإنسان ويأخذه خلسة، والانتهاب: كونه ينهبه من صاحبه نهباً، فكل هذا لا قطع فيه؛ لأن القطع إنما جاء في السرقة، والسرقة هي أخذ الشيء من حرزه؛ لأن هذا شيء صعب الوصول إليه، أما إذا كان منتهباً فالذي انتهب يمكن أن يعرف فيطالب أو يتابع حتى يوصل إلى الحق الذي أخذه، وكذلك الذي أخذ خلسة إذا كان أمراً ظاهراً فإنه قد يطلع عليه وقد يظهر، بخلاف الذي يأخذ من حرز خفية، فإنه في الغالب لا يطلع عليه؛ ولهذا جاء القطع فيه بالسرقة، وجاء أنه لا قطع على المنتهب، وقد أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله قال: (ليس على المنتهب قطع…)، والمنتهب: هو الذي ينتهب الشيء من صاحبه علانية.
ومعلوم أن هذا يمكن أخذ الحق منه برفع أمره إلى السلطان مادام أنه أخذه علانية وهو معروف عنده، فيستطيع أن يتابعه وأن يرفع أمره إلى السلطان فيحصل على حقه، فلا يكون في ذلك قطع، وإنما القطع يكون في السرقة التي فيها خفاء.
قوله: [(ومن انتهب نهبة مشهورة فليس منا)].
يعني: من انتهب نهبة مشهورة لها شأن وقيمة، ويرفع الناس إليها أبصارهم؛ لأنها لها منزلة وقيمة عندهم، (فليس منا) يعني: فيه تحذير ووعيد شديد في حق من يكون كذلك.(495/35)
تراجم رجال إسناد حديث (ليس على المنتهب قطع)
قوله: [حدثنا نصر بن علي].
هو نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا محمد بن بكر].
محمد بن بكر صدوق قد يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: قال أبو الزبير].
هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال جابر بن عبد الله].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(495/36)
شرح حديث (ليس على الخائن قطع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وبهذا الإسناد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس على الخائن قطع)].
أورد أبو داود الحديث من نفس الطريق فقال: وبهذا الإسناد، أي: الذي تقدم، وبالصفة التي ذكرت قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليس على الخائن قطع) والخائن: هو الذي يؤتمن على شيء فيجحده أو يخون فيه أو يخفيه أو يأكله، فالخيانة تكون مع الائتمان؛ لأنه أمين خان وجحد الشيء الذي في حوزته والذي اؤتمن عليه، فليس عليه قطع؛ لأن هذا من جمله الأشياء التي يمكن أن يحاكم بها ويرفع الأمر إلى السلطان، وعند ذلك يحكم القاضي بالشيء الذي يراه، وليس من جنس السرقة التي فيها خفاء والتي يكون فيها أخذ الأموال من غير أن يعرف ذلك الآخذ، إذ إن هذا رجل معروف ائتمن ولكنه خان في أمانته.
قوله: [وبهذا الإسناد قال: قال رسول الله].
يعني: الذي هو موجود قبله، دون أن يكرر الإسناد ويأتي به، بل أتى بالمتن فقط، واختصر أو أشار إلى الإسناد بقوله: وبهذا الإسناد، الذي مر قبل ذلك، وهذا نادر من فعل أبي داود، كونه يقول: وبهذا الإسناد.
فإن من عادته أن يكرر الأسانيد، ولكنه هنا اكتفى بهذه العبارة عن أن يسوق الإسناد من أوله إلى آخره.
وبوب أبو داود فقال: [باب القطع في الخلسة والخيانة] فعبر بالقطع، يعني: حكم القطع وهل يقطع أو لا يقطع؟
و
الجواب
أنه لا يقطع.(495/37)
شرح حديث (ولا على المختلس قطع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا نصر بن علي أخبرنا عيسى بن يونس عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله زاد: (ولا على المختلس قطع)].
قوله: [بمثله]، الذي هو الخيانة، وهو حديث: (ليس على الخائن قطع) ثم قال: وفيه زيادة: (وليس على المختلس قطع)، والمختلس -كما عرفنا- هو الذي يأخذ الشيء الظاهر خفية، والسرقة: هي أخذ الشيء من حرزه، والخائن: هو الذي يكون عنده شيء يؤتمن عليه فيخون فيه ويجحده، ويزعم بأنه ليس عنده.(495/38)
تراجم رجال إسناد حديث (ولا على المختلس قطع)
قوله: [حدثنا نصر بن علي].
نصر بن علي مر ذكره.
[أخبرنا عيسى بن يونس].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
ابن جريج وأبو الزبير وجابر قد مر ذكرهم.
[قال أبو داود: هذان الحديثان لم يسمعهما ابن جريج من أبي الزبير، وبلغني عن أحمد بن حنبل أنه قال: إنما سمعهما ابن جريج من ياسين الزيات].
قال أبو داود: إن هذين الحديثين لم يسمعهما ابن جريج من أبي الزبير، وهو مدلس، والمدلس إذا لم يصرح بالتحديث يحتمل أن يكون هناك واسطة محذوفة بينه وبين من دلس عنه، وقال هنا: إنه لم يسمعهما، وقال: بلغني عن أحمد بن حنبل أن بين ابن جريج وبين أبي الزبير ياسين بن معاذ الزيات، وهو ضعيف ليس بثقة، يعني: توجد واسطة.
[قال أبو داود: وقد رواهما المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم].
وهذه طريق أخرى معلقة، وذكر فيها أنه قد رواه عن أبي الزبير غير ياسين الزيات الذي أشار إليه أبو داود فيما بلغه عن الإمام أحمد، يعني: طريق أخرى.
وعلى هذا: فهذا الذي جاء من طريق ابن جريج عن أبي الزبير بالعنعنة قد جاء ما يعضده ويؤيده، فارتفع من كونه متوقفاً فيه إلى كونه حجة معمولاً به؛ لأنه جاء ما يؤيده.
وياسين بن معاذ الزيات هذا ضعيف، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه: تهذيب التهذيب في حديث أظنه حديث المهدي قال: وكان هناك ياسين العجلي قال الحافظ ابن حجر: وقد جاء ذكر ياسين غير منسوب عند ابن ماجة فظنه بعض المتأخرين ياسين بن معاذ الزيات فضعف الحديث به ولم يصنع شيئاً، وإنما هو ياسين العجلي، وهذا يبين لنا أن التضعيف أو أن الاختلاف في التضعيف والتصحيح تكون بالاختلاف في الأشخاص، وأن من ضعف حديثاً قد يظن أنه يأتي الرجل مهملاً غير منسوب فيظن أنه ذلك الضعيف فيضعف الحديث به، ويكون الواقع أنه ليس هو؛ لأنه جاء من طريق أخرى منسوباً وأنه غير ذلك الضعيف.
قوله: [قال أبو داود: وقد رواهما المغيرة بن مسلم].
المغيرة بن مسلم صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد والترمذي والنسائي وابن ماجة.
وما ذكره أبو داود؛ لأنه جاء هنا معلقاً، ولم يأت في المسندات، وكان الإتيان بمن روى له أبو داود في المسندات لا في المعلقات.(495/39)
ما جاء فيمن سرق من حرز(495/40)
شرح حديث قطع النبي ليد سارق خميصة صفوان بن أمية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من سرق من حرز.
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عمرو بن حمال بن طلحة حدثنا أسباط عن سماك بن حرب عن حميد بن أخت صفوان عن صفوان بن أمية رضي الله عنه قال: (كنت نائماً في المسجد على خميصة لي ثمنها ثلاثين درهماً فجاء رجل فاختلسها مني، فأخذ الرجل فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به ليقطع، قال: فأتيته فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهماً؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها، قال: فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: [باب من سرق من حرز].
يعني: أن القطع يكون فيما سرق من حرز، والحرز يكون مثل البيوت والصناديق والمخابئ أو الجيوب كجيب الإنسان وغيرها من الأحراز التي يحفظ فيها المال، وكذلك هنا في كون الإنسان توسده وجعله وسادة له، واستله من تحته وأخذه فإنه في حرز، وكذلك أيضاً هو في المسجد، ولكن كونه في المسجد هذا لا يعتبر حرزاً؛ لأن المسجد عام للناس، فيكون فيه من الأمور الظاهرة، ولكن كونه قد توسده وجعله له وسادة فهذا هو حرز.
قوله: [(كنت نائماً في المسجد على خميصة لي ثمنها ثلاثين درهماً فجاء رجل فاختلسها مني)].
جاء في بعض الروايات أنه توسدها، ومعنى ذلك: أنها كانت في حرز، ومحل الشاهد أنه كان قد توسدها.
قوله: [(فأخذ الرجل فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع)].
لأنه أخذها من حرز فقال: (أنا أبيعه إياه وأنسئه ثمنها) يعني: أصبر عليه في القيمة، فأنا أملكه إياها وقيمتها ثلاثون درهماً، فأنا أطالبه بها وأجعلها نسيئة، يعني لا آخذ منه ثمنها الآن، وإنما أمهله وآخذ منه ذلك في المستقبل، قال: (فهلا كان ذلك قبل أن تأتيني)، وهذا يبين أن الأمور إذا وصلت إلى السلطان فليس هناك إلا التنفيذ، ولا مجال للشفاعة فيها أو التنازل من صاحب الحق في ذلك، وإنما كان هذا قبل أن تصل إلى السلطان، فإذا وصلت إليه فليس لصاحبه أن يتنازل، وليس لأحد أن يشفع عند السلطان، وليس للسلطان أن يعفو ويسامح.(495/41)
تراجم رجال إسناد حديث قطع النبي ليد سارق خميصة صفوان بن أمية
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عمرو بن حمال بن طلحة].
عمرو بن حمال بن طلحة صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة في التفسير.
[حدثنا أسباط].
هو أسباط بن نصر، وهو صدوق كثير الخطأ يغرب، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سماك بن حرب].
سماك بن حرب صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن حميد بن أخت صفوان].
حميد بن أخت صفوان مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن صفوان بن أمية].
صفوان بن أمية رضي الله عنه صحابي، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.(495/42)
حديث قطع النبي ليد سارق الخميصة من طرق أخرى وتراجم رجال الإسناد
[قال أبو داود: ورواه زائدة عن سماك عن جعيد بن حجير قال: نام صفوان.
ورواه مجاهد وطاوس: (أنه كان نائماً فجاء سارق فسرق خميصة من تحت رأسه).
ورواه أبو سلمة بن عبد الرحمن فقال: (فاستله من تحت رأسه؛ فاستيقظ فصاح به فأخذ).
ورواه الزهري عن صفوان بن عبد الله قال: (فنام في المسجد وتوسد رداءه، فجاء سارق فأخذ رداءه، فأخذ السارق فجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم)].
أورد أبو داود هذه الطرق في هذا الحديث، وفيها: أنه كان متوسداً له، وأنه استله منه، وهذا هو الحرز، وهو الذي أورده من أجله أبو داود.
أما لو كان لم يتوسده فإنه يكون من قبيل الاختلاس، يعني: أخذ الشيء الظاهر بخفية، ولكن كونه يأخذه من تحت رأسه أو يأخذ من جيبه شيئاً فإن هذا أخذ من الحرز فيستحق به القطع.
قوله: [ورواه زائدة عن سماك].
زائدة بن قدامة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وسماك مر ذكره.
[عن جعيد بن حجير].
هو حميد بن أخت صفوان.
[ورواه مجاهد وطاوس].
مجاهد بن جبر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وطاوس بن كيسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ورواه أبو سلمة بن عبد الرحمن].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ورواه الزهري عن صفوان بن عبد الله].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وصفوان بن عبد الله ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم والنسائي وابن ماجة.
وهذا الأخير عن الزهري عن صفوان بن عبد الله قال: (فنام في المسجد).
يعني: هذا مرسل فيه انقطاع، لكن هذه الطرق بمجموعها تدل على ثبوت الحديث.(495/43)
ما جاء في القطع في العارية إذا جحدت(495/44)
شرح حديث (أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع فتجحده)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في القطع في العارية إذا جحدت.
حدثنا الحسن بن علي ومخلد بن خالد المعنى قالا: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر قال مخلد: عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر: (أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع فتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها فقطعت يدها)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وهي: [باب القطع في العارية إذا جحدت]، يعني: حكم القطع، هل تقطع أو لا تقطع؟ وأورد أبو داود رحمه الله بعض الأحاديث في ذلك، وفيها ذكر القطع، وقد جاءت أو أكثر الروايات التي فيها القطع في العارية تدل على أنها سرقت، وأنها متصفة بالسرقة وبجحد العارية، فيكون قطعها بسبب السرقة، وليس بجحد العارية؛ لأن جحد العارية داخل في الخيانة، فقد ثبت أنه لا قطع على خائن؛ لأن الخائن يمكن أن يتوصل إلى ما عنده عن طريق السلطان والوالي، وأما السرقة فهي التي يكون فيها خفاء، فكانت عقوبتها أن تقطع اليد بسبب تلك الجناية.
وجاء في بعض الأحاديث ذكر الجحد والقطع، وجاء في بعضها -وهي أكثر الروايات- أنها سرقت وقطعت، وذكر جحد العارية إنما كان من باب التعريف وأنها قد اشتهرت بذلك، فلم يكن القطع لهذا، وإنما كان القطع للسرقة.
وقد مر الحديث الذي فيه شفاعة أسامة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتشفع في حد من حدود الله؟) قال: (والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
وجاء فيه أن المخزومية كانت سارقة، فدل على أن القطع إنما هو بسبب السرقة، والعارية جاءت من باب التعريف، وقد جاءت الأحاديث التي تدل على عدم القطع بالخيانة وهذا من هذا القبيل.(495/45)
تراجم رجال إسناد حديث (أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع فتجحده)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[ومخلد بن خالد].
هو مخلد بن خالد الشعيري، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[قالا: حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال مخلد: عن معمر].
ومخلد بن خالد قال: عن معمر، يعني: روى بالعنعنة.
[عن أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن ابن عمر].
نافع مولى ابن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(495/46)
شرح حديث المخزومية التي سرقت من طرق أخرى
[قال أبو داود: رواه جويرية عن نافع عن ابن عمر، أو عن صفية بنت أبي عبيد زاد فيه (وأن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيباً فقال: هل من امرأة تائبة إلى الله عز وجل ورسوله؟ ثلاث مرات وتلك شاهدة فلم تقم ولم تتكلم)، ورواه ابن غنج عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد قال فيه: (فشهد عليها)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وفيه أنه قال: عن ابن عمر أو صفية بنت أبي عبيد وصفية بنت أبي عبيد هي زوجة ابن عمر، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيباً فقال: هل من امرأة تائبة إلى الله عز وجل ورسوله؟).
يعني: مما حصل منها من الجناية، وكانت تلك المرأة حاضرة -أي: المخزومية- فلم تقم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه ابن غنج عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد قال فيه: (فشهد عليها)].
يعني: أنها ما تابت ولا حصل لها أن تابت أو اعترفت، فشهد عليها بالسرقة، والقطع لا يكون إلا بالاعتراف أو الشهادة.(495/47)
تراجم رجال إسناد حديث المخزومية التي سرقت من طرق أخرى
قوله: [رواه جويرية].
هو جويرية بن أسماء الضبعي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن نافع عن ابن عمر أو عن صفية بنت أبي عبيد].
يعني: شك هل هو عن ابن عمر أو عن صفية، وصفية بنت أبي عبيد ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة، وقيل لها رؤية، وهي أخت المختار بن أبي عبيد الثقفي الذي ادعى النبوة.
[ورواه ابن غنج].
هو محمد بن عبد الرحمن بن غنج، وهو مقبول، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد].
نافع وصفية بنت أبي عبيد مر ذكرهما.(495/48)
شرح حديث (استعارت امرأة -يعني حلياً- على ألسنة أناس يعرفون ولا تعرف هي فباعته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا أبو صالح عن الليث قال: حدثني يونس عن ابن شهاب قال: كان عروة يحدث أن عائشة قالت: (استعارت امرأة -تعني: حلياً- على ألسنة أناس يعرفون ولا تعرف هي، فباعته، فأخذت فأتي بها النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بقطع يدها، وهي التي شفع فيها أسامة بن زيد وقال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن امرأة كانت تستعير المتاع بأسماء أناس يعرفون ولا تعرف، أي: تأتي وتقول: إن آل فلان يريدون منكم كذا وكذا، وهي كاذبة، فتأخذه وتبيعه وتستفيد منه، وأولئك الذين سمتهم هم معروفون للذين استعير منهم، وهم ما طلبوا منها ولا أرسلوها، وإنما هو كذب منها عليهم.
قوله: [(استعارت امرأة -تعني: حلياً- على ألسنة أناس يعرفون ولا تعرف هي)].
يعني: تقول إن أولئك يريدون منكم كذا وكذا فكأنها مندوبة لهم.
قوله: [(فباعته، فأخذت فأتي بها النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بقطع يدها وهي التي شفع فيها أسامة بن زيد وقال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال)].
يعني: قال: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) وجاء في تلك الرواية السابقة أنها سرقت.
فإذاً: القصة واحدة، وجاء فيها التعبير بالسرقة، وجاء التعبير بالاستعارة والخيانة، فهي متصفة بهذا وهذا، والقطع إنما كان للسرقة ولم يكن من أجل جحد المتاع.(495/49)
تراجم رجال إسناد حديث (استعارت امراة -يعني حلياً- على ألسنة أناس يعرفون ولا تعرف هي فباعته)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا أبو صالح].
محمد بن يحيى بن فارس مر ذكره وأبو صالح هو عبد الله بن صالح، وهو صدوق كثير الغلط، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن الليث].
هو الليث بن سعد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثني يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: كان عروة يحدث أن عائشة].
عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(495/50)
حديث: (كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي بقطع يدها) من طريق أخرى وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عباس بن عبد العظيم ومحمد بن يحيى قالا: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: (كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها) وقص نحو حديث قتيبة عن الليث عن ابن شهاب زاد: (فقطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وهو مثل ما تقدم.
قوله: [حدثنا عباس بن عبد العظيم].
هو عباس بن عبد العظيم العنبري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ومحمد بن يحيى قالا: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة].
وقد مر ذكرهم جميعاً.(495/51)
الأسئلة(495/52)
حكم تنزيل الآيات القرآنية على يهود ونصارى اليوم
السؤال
يهود اليوم هل تنزل عليهم الآيات القرآنية التي تخص اليهود أم يقال: إن هؤلاء يهود بالاسم فقط وهم علمانيون لا دين لهم، ولا تشملهم الآيات التي تتحدث عن اليهود؟
الجواب
اليهود والنصارى منذ قديم الزمان وإلى الآن هم يهود ونصارى، وهم أهل كتاب، يعني: اليهود ينتمون إلى موسى، والنصارى ينتمون إلى عيسى، ومعلوم أن الشرك والكفر كان موجوداً فيهم؛ وذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن نزل في بيان ما عندهم، وأن النصارى قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، واليهود قالوا: عزير ابن الله، وأنهم مشركون وكفار، فالأحكام السابقة تجري فيهم الآن، وهي أنهم أهل الكتاب وهم يهود ونصارى، وغير ذلك.(495/53)
حكم نسخ الأقراص المشتملة على العلوم الشرعية المشروطة بالحلف على أنها نسخ أصلية
السؤال
ما رأيكم في نسخ الأقراص التي تحتوي على كتب شرعية علماً بأن بعض الأقراص نسخها يحتاج إلى أن يحلف الناسخ بأن هذه النسخة هي النسخة الأصلية؟
الجواب
إذا كان الأمر كذلك، وأنه لابد من حلف، فلا يجوز له أن يحلف كاذباً، وإنما عليه أن يكون صادقاً.(495/54)
حكم جلوس العروسين أمام النساء
السؤال
نحن مؤسسة نعمل في الزينة، ويوجد عندنا عمل (كوش) أفراح، وهي تستعمل في قصور الأفراح غالباً، وقد يجلس على هذه (الكوشة) العروسة فقط، وقد يجلس عليها العروسان أمام الحضور من النساء، فهل يجوز عمل مثل هذه (الكوش)؟
الجواب
هذه أشياء غريبة وأسماؤها غريبة، فالاسم والمسمى غريبان، وكون العروس والعروسة يكونان أمام النساء هذا سفه!(495/55)
حكم من خرج للجهاد من غير إذن الوالدين فقتل
السؤال
من خرج للجهاد من غير إذن الوالدين فقتل هل يعتبر شهيداً؟
الجواب
أمره إلى الله.(495/56)
حكم من فر أثناء القتال فقتل
السؤال
من فر أثناء القتال فقتل هل يعتبر شهيداً؟
الجواب
الفرار من الزحف من الكبائر إذا لم يكن متحيزاً إلى فئة، وهو من السبع الموبقات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات)، فكون الإنسان يفر ويقتل وهو في حال فراره فإنه يعتبر مرتكباً هذه الكبيرة، ولا يكون شهيداً.(495/57)
العلاقة بين قول أبي داود: باب ما لا قطع فيه، وقوله: باب القطع في الخلسة والخيانة
السؤال
في الباب السابق الذي درسناه قال: باب ما لا قطع فيه، وذكر حديث الثمر والكثر، ثم قال: باب القطع في الخلسة والخيانة، وقلتم: إن المراد أنه لا يقطع، فلماذا ما ذكره في الباب الأول الذي هو: باب ما لا قطع فيه؟
الجواب
كأن ذاك عام وهذا خاص، ولو ذكره تحت ذلك الباب لصار دخوله مناسباً، فكأنه أراد أن يقصر ذلك على الشيء الذي يتعلق بالثمر والكثر والشجر، وأما الخلسة فلكون لها هيئات تخصها فذكرها ونص عليها بأسمائها، وأما من ناحية العموم فإنه يشمل هذا وهذا؛ لأن الكل لا قطع فيه، وإنما أراد أن يجعل العام لوحده والخاص لوحده.(495/58)
إعراب حديث (كنت نائماً في المسجد على خميصة لي ثمنها ثلاثين درهماً)
السؤال
حديث: (كنت نائماً في المسجد على خميصة لي ثمنها ثلاثين درهماً) فهل يوجه جر (ثلاثين) على الجر بالمجاورة؛ لأن (ثلاثين) جاورت الهاء المجرورة، أو نخرجها على أنها مضافة لشيء محذوف تقديره: بقيمة ثلاثين؟
الجواب
مادام أنه موجود في بعض النسخ (ثلاثين) فقد اتضح المقصود، يعني: كأن الهاء زائدة من ثمنها، والأصل ثمن ثلاثين.(495/59)
ذكر التعزير في حديث العبد الذي أخذ ودياً فأدبه مروان
السؤال
حديث العبد الذي أرسله مروان بعدما جاء رافع بن خديج وحدثه، كيف أرسله ومثل هذا عليه تعزير حتى يؤدب وينزجر عن هذا الفعل؟
الجواب
قد جاء ذكر التعزير في الرواية الثانية وفيها أنه جلده.(495/60)
حكم الأخذ من ثمر النخيل الذي في الشوارع العامة
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يأكل من ثمر النخل الذي يكون في طريق عامة، وهو غير مملوك؟
الجواب
نعم يجوز، ولكن لا يحمل شيئاً منه؛ لأن هذا فيه جهة مسئولة عنه، وهي البلديات، ولكن كون الإنسان يحتاج إلى أن يأكل منه فإن وله ذلك، ولكن كونه يجذه ويذهب يبيعه فلا يمكن.
وإذا كانوا يتركونه حتى يتساقط، فليذهب إلى البلدية ويستأذنهم، ويأتي الطرق من أبوابها.(495/61)
حكم التيمم في ساحة الحرم الخارجي
السؤال
هل يجوز التيمم في ساحة الحرم الخارجي؟
الجواب
يجوز للإنسان أن يتيمم في الساحات وعلى الجدران، كل ذلك جائز، والرسول تيمم على جدار.(495/62)
شرح سنن أبي داود [496]
إن الحدود في الإسلام إنما شرعت جبراً للنقص الذي طرأ على المسلم نتيجة مقارفته لهذا الحد، وزجراً له ولغيره من الناس عن الوقوع في هذا الحد، ولما كان هذا الأمر يستلزم حضور العقل فقد عفي عن كل من لم يحضر عقله وإدراكه عند ذلك كالمجنون والصبي.(496/1)
ما جاء في المجنون يسرق أو يصيب حداً(496/2)
شرح حديث (رفع القلم عن ثلاثة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد بن سلمة عن حماد عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً]، أي: ما حكمه؟ هل يقطع أو هل يقام عليه الحد؟ والمجنون إذا كان حصل منه الذي يقتضي إقامة الحد في حال جنونه فإنه لا حد عليه؛ لأنه غير مكلف وغير مؤاخذ؛ ولأن عقله ليس معه، وأما إن كان يصحو ويحصل له الجنون في فترات متقطعة، فإنه إذا حصل ذلك في حال صحته وعافيته فإنه يقام عليه الحد؛ لأنه فعل وهو مكلف.
فإذاً: فيه تفصيل، إن كان حصل في حال جنونه وعدم صحوه فإنه لا يؤاخذ ولا يكلف، ولا يقام عليه الحد، وإن حصل في حال سلامته من الجنون، وفي حال صحته وعافيته فإنه يقام عليه الحد؛ لكونه فعل الأمر المحرم الذي يكون عليه الحد في حال تكليفه.
أورد أبو داود رحمه الله حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، والمبتلى حتى يبرأ، والصغير حتى يكبر)، يعني: حتى يصل إلى سن البلوغ.
ومعنى: (رفع القلم)، يعني: أنه رفع الإثم والمؤاخذة عليه في حال صغره، وحال جنونه، وحال نومه، فإنه لا يكون مؤاخذاً، وهذا فيما يتعلق بالإثم، وفيما يتعلق بكتابة الشر، يعني: رفع ذلك عنه فإنه لا يؤاخذ، وأما بالنسبة للثواب والحسنات، فإن ذلك يحصل له كما جاء في حديث المرأة التي رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبياً، وقالت: (ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجرٌ)، يعني: هو له حج، وهي لها أجر، لكونها حجّجته، ولكونها نوت الحج عنه.
وعلى هذا فلا يؤاخذ على ما يحصل منه في حال جنونه، وفي حال صغره، وفي حال نومه؛ لأنه قد رفعت عنه المؤاخذة، وكتابة الشرور والأعمال السيئة؛ لأنه ليس من أهل التكليف: (رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والمبتلى حتى يبرأ، والصحيح حتى يكبر).(496/3)
تراجم رجال إسناد حديث (رفع القلم عن ثلاثة)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وأما النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم الليلة.
[حدثنا يزيد بن هارون].
هو يزيد بن هارون الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا حماد بن سلمة].
هو حماد بن سلمة بن دينار البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن حماد].
هو ابن أبي سليمان، وهو صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن إبراهيم].
هو إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأسود].
هو الأسود بن قيس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(496/4)
شرح حديث (رفع القلم عن ثلاثة) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: (أُتي عمر رضي الله عنه بمجنونة قد زنت فاستشار فيها أناساً، فأمر بها عمر أن ترجم، فمر بها على علي بن أبي طالب رضوان الله عليه فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مجنونة بني فلان زنت فأمر بها عمر أن ترجم، قال: فقال: ارجعوا بها، ثم أتاه فقال: يا أمير المؤمنين! أما علمت أن القلم قد رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يعقل؟ قال: بلى، قال: فما بال هذه ترجم؟ قال: لا شيء، قال: فأرسلها، قال فأرسلها، قال: فجعل يكبر)].
أورد أبو داود حديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي بمجنونة قد زنت، فأمر برجمها، فلما ذُهِب بها لترجم مُر بها على علي فسأل عنها وأُخبر، فجاء إلى عمر وقال له: أما علمت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يبرأ، وعن الصغير حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ؟ قال: بلى، فقال: فما بالها؟ قال: لا شيء) يعني: أنه لا شيء عليها يعني: أنه رجع عن اجتهاده إلى أنه لا يقام عليها حد.
ومن المعلوم أن عمر رضي الله عنه لا يعقل أن يكون أمر برجمها وهي قد أتت ذلك في حال جنونها؛ لأنه لا مؤاخذة على مجنون، وإنما يكون الأمر أنها تصحو ويحصل لها الجنون في فترات متقطعة، فيكون ذلك على اعتبار أنه قد حصل منها في حال صحوها، وهذا هو الذي يُستحق به إقامة الحد، وأما إن كان في حال الجنون ممن يصحو ويحصل له الجنون، فإنه لا يقام عليه الحد إذا حصل فعل المنكر في حال جنونه؛ لأنه غير مكلف، وقد رفع عنه القلم؛ ولكنه إذا كان في حال سلامته من الجنون في بعض الأوقات، ثم أتى الأمر المنكر، فإن هذا هو الذي يقام عليه الحد، فـ عمر رضي الله عنه لعله رأى أن هذا كان في حال صحوها، وفي حال سلامتها من الجنون، وأنه لما جيء بها، أو كلمه علي رضي الله عنه في شأنها فقال: إن القلم رفع، معناه: أن ذلك قد حصل منها حال جنونها، والحدود تدرأ بالشبهات، وهذه شبهة، فعند ذلك عمر رضي الله عنه قال: لا شيء عليها، ثم أرسلها وتركها ولم يحدّها.
وهذا هو الذي يحمل عليه ما جاء عن عمر، فلما ذكر علي له ذلك، رأى أن هذا مما تدرأ به الحدود، وترك إقامة الحد عليها.
قوله: [عن ابن عباس قال: (أُتي عمر بمجنونة قد زنت فاستشار فيها أناساً، فأمر بها عمر أن ترجم فمُر بها على علي بن أبي طالب رضوان الله عليه فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها عمر أن ترجم، قال: فقال: ارجعوا بها، ثم أتاه فقال: يا أمير المؤمنين! أما علمت: أن القلم قد رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يعقل؟ قال: بلى، قال: فما بال هذه ترجم؟ قال: لا شيء، قال: فأرسلْها، قال: فأرسلها، قال: فجعل يكبر)].
وعلى هذا فيكون عمر رضي الله عنه إنما كان فعل ذلك لأنه رأى أن ذلك في حال صحوها أو في حال مقاربتها للصحو، وقد استشار بعض الناس في ذلك، ولعله أشير عليه بذلك، وكان عمر رضي الله عنه يستشير فيما لا نص فيه؛ ولكن لما كانت المسألة فيها شبهة والحدود تدرأ بالشبهات أشار عليه علي بذلك، فإنه قال: لا شيء، أي: لا شيء عليها.
فكان تغير اجتهاده من كونه يرجمها إلى كونه لا يرجمها، وأن ذلك من الشبهات التي تدرأ بها الحدود.
وفي مخاطبة علي رضي الله عنه لـ عمر بقوله: (يا أمير المؤمنين!) دليل على ما كان عليه علي رضي الله عنه من رضا بولاية الشيخين قبله؛ وكذلك ولاية عثمان قبله، وأنه كان يخاطبهم بإمرة المؤمنين، وأنه لم يحصل منه شيء يخالف ما هم عليه، وأنه قد أخذ منه شيء، وأن الحق كان له، فلم يحصل شيء من ذلك، ولم يطالب علي رضي الله عنه بشيء أخذ منه، بل كان يتابعهم ويصلي وراءهم، ويغزو معهم ويقوم بالشيء الذي يطلب منه رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
فالقول بأن الحق له، وأن أولئك -أي: الصحابة الذين قبله أبو بكر وعمر وعثمان - إنما هم مغتصبون هذا من البهتان، وهذا من الكذب، وعلي رضي الله عنه من أشجع الناس، ولو كان عنده علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الحق له ما كان يخفيه، ولو كان عند الصحابة رضي الله تعالى عنهم علم بأن الحق لـ علي ما كان أحد منهم يقدم على ترك شيء جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا الذي حصل من علي يدل على أنه ليس عنده تأثر وتألم، وأنه حيل بينه وبين ما يستحق، فالذي حصل من مبايعة أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي هذا هو الذي أراده الله شرعاً وقدراً، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)، وجاء عنه قوله صلى الله عليه وسلم: (خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء).
قوله: [(أما علمت أن القلم قد رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يعقل؟ قال: بلى، قال فما بال هذه ترجم؟ قال: لا شيء)].
قوله: (لا شيء) لأنه تغير اجتهاده عما كان من قبل من أجل درء الحدود بالشبهات.
قوله: [(قال: فأرسلها قال: فأرسلها قال: فجعل يكبر)].
يعني: يقول: الله أكبر، وقد كانوا يكبرون عند الأمور العظيمة والمستحسنة، بينما الناس في هذا الزمان يصفقون، وفيما مضى كانوا يكبرون، والتكبير ذكر، والتصفيق ليس مما شرع، وليس مما جاء شيء يدل عليه، فالسنة عند ذكر الأمور المستحسنة هو التكبير كما جاء في هذا الأثر عن عمر، وكما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة -أو ثلث أهل الجنة- فكبروا وقالوا: الله أكبر)، يعني: أنه أعجبهم وفرحوا وسروا فصاروا يكبرون.(496/5)
تراجم رجال إسناد حديث (رفع القلم عن ثلاثة) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير].
عثمان بن أبي شيبة مر ذكره، وجرير هو ابن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي ظبيان].
هو الحصين بن جندب الجنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المكثر من الرواية عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومن العجيب الغريب: أنه ظهر في هذا الزمان شخص ابتلي بالنيل من الصحابة والكلام عليهم، فزعم أن العباس بن عبد المطلب ليس بصحابي، وأن ابنه عبد الله بن عباس ليس بصحابي، وهذا من عجائب الزمان كون إنسان يتفوه بمثل هذا الكلام ويقوله، فإن هذا من أبطل الباطل، وقد نادى على نفسه بالخزي في هذه الحياة الدنيا، فإن القول بأن العباس ليس بصحابي خزي على من يقوله.
[عن علي].
هو علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال: أتي عمر].
هو عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(496/6)
حديث (رفع القلم عن ثلاثة) من طريق ثالثة وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يوسف بن موسى حدثنا وكيع عن الأعمش نحوه، وقال أيضاً: (حتى يعقل)، وقال: (وعن المجنون: حتى يفيق)، قال: فجعل عمر رضي الله عنه يكبر].
أورد الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، مع اختلاف في بعض العبارات من حيث الترادف.
قوله: [حدثنا يوسف بن موسى].
يوسف بن موسى صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي، وقد مر ذكره.(496/7)
حديث (رفع القلم عن ثلاثة) من طريق رابعة، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني جرير بن حازم عن سليمان بن مهران عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: مر على علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمعنى عثمان، قال: أو ما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم؟ قال: صدقت، قال: فخلى عنها)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وهو مثل الذي قبله.
قوله: [حدثنا ابن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أخبرنا ابن وهب].
هو ابن وهب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني جرير بن حازم].
جرير بن حازم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن مهران].
سليمان بن مهران هو الأعمش، وهنا ذكر باسمه، وفيما مضى ذكر بلقبه، ومن أنواع علوم الحديث معرفة الألقاب للمحدثين، وفائدة معرفتها: ألا يظن الشخص الواحد شخصين إذا ذكر باسمه مرة وذكر بلقبه مرة أخرى، فيظن أن سليمان بن مهران غير الأعمش، ومن عرف أن الأعمش لقب لـ سليمان بن مهران فسواء جاء ذكر الأعمش أو جاء ذكر سليمان بن مهران عرف أنه شخص واحد ذكر مرة باسمه ومرة بلقبه.
[عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: مر على علي].
وقد مر ذكرهم.(496/8)
شرح حديث (رفع القلم عن ثلاثة) من طريق خامسة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد عن أبي الأحوص ح وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير المعنى عن عطاء بن السائب عن أبي ظبيان قال هناد: الجنبي قال: أُتي عمر رضي الله عنه بامرأة قد فجرت فأمر برجمها فمر علي رضي الله عنه فأخذها فخلى سبيلها، فأخبر عمر قال: ادعوا لي علياً، فجاء علي رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه حتى يبرأ)، وإن هذه معتوهة بني فلان، لعل الذي أتاها أتاها وهي في بلائها قال: فقال عمر: لا أدري، فقال: علي رضي الله عنه: وأنا لا أدري].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى في قصة المرأة المجنونة التي زنت، وفيه: أن علياً رضي الله عنه قال: لعل التي أتاها أتاها في حال بلائها، يعني: في حال جنونها، وكونها مبتلاة؛ لأنها تجن وتصحو، فلعله حصل ذلك في حال جنونها، ومعنى ذلك: أنها غير مكلفة، فقال عمر: لا أدري، أنه حصل في حال جنونها، ثم قال علي: لا أدري أنه حصل في حال صحوها، إذاً: فالمسألة محتملة، والحدود تدرأ بالشبهات، فترك عمر رضي الله عنه إقامة الحد عليها.(496/9)
تراجم رجال إسناد حديث (رفع القلم عن ثلاثة) من طريق خامسة
قوله: [حدثنا هناد].
هو هناد بن السري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي الأحوص].
هو سلام بن سليم الحنفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير المعنى عن عطاء بن السائب].
عثمان بن أبي شيبة وجرير مر ذكرهما، وعطاء بن السائب صدوق اختلط، وحديثه أخرجه البخاري وأصحاب السنن، وجرير ممن روى عنه بعد الاختلاط، ولكنه كما هو معلوم موافق للروايات الأخرى، والشيخ الألباني رحمه الله قال: إنه صحيح إلا قوله: (لعل الذي أتاها أتاها في حال بلائها) يعني: إن هذا مما انفرد به عطاء بن السائب في هذه الطريق، وأما ما عدا ذلك فهو موجود في الطريق الأخرى، ولا إشكال في هذه الجملة أيضاً من ناحية أن علياً رضي الله عنه ذكر الاحتمال وأشار إليه، وعمر رضي الله عنه لو علم أن الذي حصل هو في حال البلاء لا يمكن أن يقيم عليها حداً وهي فاقدة العقل، ولكن لعله ظن أو علم بأنه حصل في حال صحوها؛ ولهذا قال: (لا أدري) يعني: أنه حصل في حال كذا، ثم قال علي: لا أدري أنه إنما حصل في حال صحوها، وما دام الأمر فيه اشتباه: فإن الحدود تدرأ بالشبهات.
[عن عطاء بن السائب].
عطاء بن السائب صدوق اختلط، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن أبي ظبيان قال هناد: الجنبي].
أبو ظبيان مر ذكره، وهناد -وهو أحد الشيخين- زاد الجنبي، أي: زيادة على أبي ظبيان، وأما الشيخ الثاني الذي هو عثمان بن أبي شيبة فإنه قال: أبو ظبيان فقط، ولم يقل: الجنبي، يعني: هذا فيه إشارة إلى الفرق بين ما جاء عن شيخي أبي داود أحدهما قال: أبو ظبيان الجنبي، والثاني قال: أبو ظبيان فقط، ولم يأت بزيادة الجنبي.(496/10)
معنى قوله (فخلى سبيلها) الواردة في الحديث
قوله: [فخلى سبيلها]، لعل المقصود -على ما جاء في الروايات السابقة- أنه حال بينها وبين القتل، ويمكن أنه قال: اتركوها ولا ترجموها، وإذا كان المقصود أنه أمر بإطلاقها، ففيه نكارة؛ لأن معناه: أنه تصرف دون الرجوع إلى الإمام، ولكن الذي مر في الروايات السابقة: أنه جيء بها، أو أنه قال: لا ترجموها، فيمكن أن يكون أنه أرسلها، ويمكن أن يكون المقصود بذلك كونه قال: لا ترجموها، وأنه حال بينها وبين الرجم، فيمكن أن يكون هذا هو الإرسال، وإذا كان الأمر كذلك فلا إشكال، وإن كان المقصود أنه أطلقها وتركها دون مراجعة الإمام، نقول: هذا لا شك أن فيه نكارة؛ لكن الألباني الذي أنكره هو الكلام الأخير وهو قوله: (لعل الذي أتاها أتاها وهي في بلائها) أي: في حال جنونها.(496/11)
ذكر من روى عن عطاء بن السائب قبل اختلاطه
الذين عرفت روايتهم عن عطاء بن السائب قبل الاختلاط هم سبعة، وقد سبق أن عرفنا أن الحافظ ابن حجر في آخر ترجمة عطاء بن السائب في تهذيب التهذيب، ذكر أن هؤلاء سمعوا منه قبل الاختلاط، ومنهم سفيان الثوري وشعبة، وحماد بن زيد، وذكر ستة، وذكر الشيخ الألباني السابع وهو الأعمش.
وأما أبو الأحوص وجرير فليسا من هؤلاء الذين عرف أنهم رووا قبل الاختلاط، والمختلط تعتبر رواية من روى عنه قبل الاختلاط.
قوله: [عن أبي ظبيان قال: هناد: الجنبي، قال: أُتي عمر بامرأة قد فجرت، فأمر برجمها].
وهو مرسل ولكنه مطابق لما تقدم إلا في بعض الألفاظ الجديدة.(496/12)
شرح حديث (رفع القلم عن ثلاثة) من طريق سادسة، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب عن خالد عن أبي الضحى عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل)].
أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل)، وهو مثل ما تقدم، وهو الذي جاء عن علي رضي الله عنه، وتذكيره لـ عمر به.
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا وهيب].
هو وهيب بن خالد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد].
هو خالد بن مهران الحذاء، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الضحى].
هو مسلم بن صبيح، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي].
علي رضي الله عنه قد مر ذكره.
وأبو الضحى لم يدرك علياً، وألفاظ الحديث مرت في الأحاديث السابقة.(496/13)
حديث (رفع القلم عن ثلاثة) من طريق أخرى معلقة، وتراجم رجال إسناده
[قال أبو داود: رواه ابن جريج عن القاسم بن يزيد عن علي رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم زاد فيه: (والخرف)].
أورد أبو داود طريقاً معلقة زاد فيها: (والخرف)، يعني: الذي بلغ من الكبر ما حصل منه التخريف، فهو بسبب الهرم والكبر صار لا يعقل من غير أن يكون به جنون، فإذاً: حكمه حكم المجنون، وهو مماثل له، فإذا حصل منه شيء فهو في حال خرفه لا يقام عليه الحد كالمجنون، وإن كان تحصل له الإفاقة أحياناً، ويحصل له البلاء أحياناً أخرى، فما كان في حال خرفه لا يؤاخذ عليه، وما كان في حال رجوع عقله وذاكرته فإنه يؤاخذ كما يؤاخذ المجنون لو ثبت أنه حصل في حال صحوه.
[قال أبو داود: رواه ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن القاسم بن يزيد].
القاسم بن يزيد مجهول، أخرج له ابن ماجة.
[عن علي].
علي رضي الله عنه.
وهذا سند منقطع، وفيه راو مجهول أيضاً.(496/14)
ما جاء في الغلام يصيب الحد(496/15)
شرح حديث عطية القرظي (كنت من سبي بني قريظة، فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الغلام يصيب الحد.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان أخبرنا عبد الملك بن عمير حدثني عطية القرظي، قال: (كنت من سبي بني قريظة، فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل، ومن لم ينبت لم يقتل، فكنت فيمن لم ينبت)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: [باب في الغلام يصيب حداً].
الغلام الصغير الذي لم يبلغ لا يقام عليه الحد كما سبق أن مر في المجنون؛ لأنه داخل في حديث الثلاثة الذين رفع عنهم القلم، وهو غير مكلف، ولا يؤاخذ فلا يقام عليه الحد، وإنما يقام الحد على البالغ، والبلوغ يحصل بالنسبة للذكور بثلاثة أمور: أولها: الاحتلام، فلو احتلم في سن مبكرة، فإن احتلامه يدل على بلوغه، وأنه قد بلغ بذلك، وبعض الصغار يحتلمون في سن مبكرة كما جاء عن المغيرة بن مقسم الضبي أنه احتلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وقيل: عمرو بن العاص أكبر من ابنه عبد الله بثلاث عشرة سنة.
وذكر أيضاً عن الشافعي أنه قال: هناك جدة عمرها واحد وعشرون سنة، فيحصل الاحتلام قبل سن الخامسة عشرة، فإذا وجد الاحتلام قبل هذه السن فإنه يكون بالغاً بذلك، وكذلك إذا نبت شعر خشن عند القبل فإنه يكون علامة على البلوغ.
الأمر الثالث: إذا لم يحصل منه احتلام، ولم يحصل منه إنبات شعر، فإنه بتمام خمس عشرة سنة يكون قد بلغ الحلم، وحصل البلوغ وتجاوز سن الصغر، والمرأة تزيد على هذه الأمور الثلاثة بالحيض، فإذا حصل لها الحيض قبل أن تبلغ سن الخامسة عشرة فإنها تكون قد بلغت بذلك.
أورد أبو داود حديث عطية القرظي رضي الله عنه، وكان في سبي بني قريظة، ومعلوم أن بني قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ، بأن تقتل المقاتلة، وتسبى الذرية، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد حكمت فيهم بحكم الملك) يعني: بحكم الله، ولمعرفة من بلغ ومن لم يبلغ لا يسألونهم عن السن؛ لأنهم غير مأمونين على بيان السن، فاليهود يكذبون لو سئلوا، وقد يدعون صغر السن ويقولون هذه المقالة من أجل أن يسلموا من القتل، فكانوا يفتشون عن عوراتهم، فإذا وجدوا الشعر قد نبت اعتبروه من المقاتلة فقتل، وإذا كان لم ينبت اعتبروه من الذرية فصار سبياً، فـ عطية رضي الله عنه فتشوه ووجدوا أنه لم ينبت، فتركوه ولم يقتلوه فصار من السبي، وقد أورد أبو داود حديث عطية وهو يدل على أن البلوغ يحصل بنبات الشعر الخشن الذي يكون حول القبل.(496/16)
تراجم رجال إسناد حديث عطية القرظي (كنت من سبي بني قريظة، فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا عبد الملك بن عمير].
هو عبد الملك بن عمير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عطية القرظي].
عطية القرظي رضي الله عنه، وهو صحابي صغير، أخرج له أصحاب السنن، وهذا رباعي من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(496/17)
إسناد حديث (كنت من سبي بني قريظة) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن عبد الملك بن عمير بهذا الحديث، قال: فكشفوا عانتي فوجدوها لم تنبت فجعلوني من السبي].
وهذا مثل الذي قبله.
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو عوانة].
هو وضاح بن عبد الله اليشكري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الملك بن عمير].
عبد الملك بن عمير مر ذكره.(496/18)
شرح حديث ابن عمر (أن النبي عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى عن عبيد الله قال: أخبرني نافع عن ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه)].
وهذا يدل على أن بلوغ خمس عشرة سنة يكون معها البلوغ، ويدل على حرص الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم على الجهاد في سبيل الله، فالصغير يرغب في الجهاد؛ ولكنه إذا لم يبلغ لا يمكنونه من ذلك، فقد عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر وعمره أربع عشرة سنة فلم يجزه، وعرض عليه وعمره خمس عشرة سنة فأجازه، فدل على أن البلوغ يكون ببلوغ خمس عشرة سنة، فالحديث الأول يدل على أن البلوغ يكون بالإنبات، وهذا يدل على أن البلوغ يكون بهذه السن.(496/19)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر (أن النبي عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
هو عبيد الله بن عمر العمري المصغر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: أخبرني نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الصحابي الجليل، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وغزوة أحد يقال: إنها في السنة الثالثة، والخندق كانت في السنة الخامسة، ولعلّ ذلك كان في أول هذه وفي آخر هذه، فكان الفرق سنة واحدة، يكون بها بلغ خمس عشرة سنة.(496/20)
حديث ابن عمر (أن النبي عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة) من طريق أخرى، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن إدريس عن عبيد الله بن عمر قال: قال نافع: حَدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال: إن هذا الحد بين الصغير والكبير].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه: أن نافعاً حدث به عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه، فقال: إن هذا الحد بين الصغير والكبير، يعني: بلوغه خمس عشرة سنة.
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن إدريس].
هو عبد الله بن إدريس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن عمر قال: قال نافع].
عبيد الله بن عمر ونافع قد مر ذكرهما.(496/21)
ما جاء في الرجل يسرق في الغزو أيقطع(496/22)
شرح حديث (لا تقطع الأيدي في السفر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يسرق في الغزو أيقطع؟ حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني حيوة بن شريح عن عياش بن عباس القتباني عن شييم بن بيتان ويزيد بن صبح الأصبحي عن جنادة بن أبي أمية قال: (كنا مع بسر بن أرطأة في البحر فأتي بسارق يقال: له مصدر قد سرق بختية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقطع الأيدي في السفر.
ولولا ذلك لقطعته)].
قال أبو داود: [باب في الرجل يسرق في الغزو أيقطع؟].
وهذه الترجمة معقودة لبيان من حصل منه ذلك هل يقطع أو لا يقطع؟ ولهذا أتى بها على الاستفهام، أيقطع أو لا يقطع؟ وكونه في الغزو جاء الحديث بأنه لا يقطع، وعدم القطع فيه لاحتمالين: أنه توجد شبهة؛ وذلك أنه قد تكون السرقة من الغنيمة، والغنيمة للإنسان فيها نصيب، والحدود تدرأ بالشبهات.
الاحتمال الثاني: أن قطعه قد يلحقه بالكفار، فربما يغره الشيطان ويلعب عليه فيلحق بالكفار، فيكون ذلك سبباً في ارتداده وبعده وإلحاقه بالكفار، فمن أجل ذلك جاء ما يدل على أنه لا يقطع لهذه الاحتمالات.
قوله: [عن جنادة بن أبي أمية قال: (كنا مع بسر بن أرطأة رضي الله عنه في البحر فأُتي بسارق يقال: له مصدر قد سرق بختية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقطع الأيدي في السفر.
ولولا ذلك لقطعته)].
وهذا مبني على أنه لعله كان في غزو، والترجمة كما هو معلوم في الغزو، ومعلوم أن الغزو لا يكون إلا في السفر، وهنا جاء ذكر السفر، فيحتمل أن يكون ذلك في غزو، وفيه أن بسر بن أرطأة رضي الله عنه أُتي برجل قد سرق بختية، والبختية: نوع من أنواع الإبل، وهي البخت التي تأتي من العجم، ومنهم من قال: من خراسان.
قوله: [(لا تقطع الأيدي في السفر.
ولولا ذلك لقطعته)].
ولعل ذلك -كما عرفنا- كان في الغزو، وأما ما يتعلق بالسفر فإن الحدود تقام على من كان حاضراً أو من كان مسافراً، ولكن فيما يتعلق بالغزو فإنه تكون فيه تلك الاحتمالات، فقد يكون سرق من الغنيمة وله فيها نصيب، والحدود فيها شبهات، أو أنه يلحق بالكفار، والناس قد غزو الكفار وذهبوا إليهم، وقد يكون ذلك القطع سبباً في لحوقه بهم.(496/23)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تقطع الأيدي في السفر)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن وهب].
ابن وهب مر ذكره.
[أخبرني حيوة بن شريح].
هو حيوة بن شريح المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وحيوة بن شريح اثنان، أحدهما حمصي والثاني مصري، والحمصي هو من شيوخ أبي داود، فعندما يأتي في شيوخ أبي داود: حدثنا حيوة بن شريح، فالمقصود به الحمصي، وعندما يأتي بينه وبينه واسطتان، أو واسطة فالمراد بها المصري، الذي هو حيوة بن شريح هذا.
[عن عياش بن عباس القتباني].
عياش بن عباس القتباني ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن شييم بن بيتان].
شييم بن بيتان ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[ويزيد بن صبح الأصبحي].
يزيد بن صبح الأصبحي مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن جنادة بن أبي أمية].
جنادة بن أبي أمية مختلف في صحبته، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: كنا مع بسر بن أرطأة].
بسر بن أرطأة رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.(496/24)
الأسئلة(496/25)
التعليق على كلام الخطابي في علة عدم قطع السارق في الغزو
السؤال
يقول الخطابي: هو يشبه أن يكون إنما أسقط عنه الحد؛ لأنه لم يكن إماماً وإنما كان أميراً أو صاحب جيش، وأمير الجيش لا يقيم الحدود في أرض الحرب على مذاهب بعض الفقهاء إلا أن يكون الإمام أو يكون أميراً واسع المملكة.
الجواب
لكن قوله: (لولا أنه في سفر لقطعته) يفيد بأن الذي منعه من قطعه كونه في سفر أو كونه في غزو، ولكن لا شك أن الحدود لا يقيمها إلا الإمام أو من ينيبه.(496/26)
الحكم إذا عاد السارق من الغزو
السؤال
لا تقطع الأيدي في السفر فإذا رجعوا من السفر فما الحكم؟
الجواب
معلوم أنها تقطع في السفر في غير الغزو، وأما الغزو فإن فيه الشبهة وفيه الاحتمال المعلوم، وإذا كانت المسألة لا شبهة فيها، وقد يكون أنه ما سرق من الغنيمة، وإنما سرق من رفقائه، ومن حرز في حقائب رفقائه، وهذا هو الذي يستبعد ما يتعلق بأن السرقة أنها تكون من الغنيمة، يبقى بعد ذلك شبهة احتمال لحوقه بالكفار.
وإذا عاد من الغزو ولم تكن هناك شبهة كأن تكون من الغنيمة فإنه يقطع، والجمهور على أنه يقطع في الحضر والسفر، لكن فيما يتعلق بالغزو إذا كان فيه احتمال السرقة هي الغنيمة فإنها شبهة تدرأ بها الحدود، وإن كان ليس كذلك، وقطعه في الغزو قد يؤدي إلى ضرر أكبر فإنه يؤجل ويؤخر.(496/27)
ما جاء في قطع النباش(496/28)
شرح حديث أبي ذر (كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قطع النباش.
حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن أبي عمران عن المشعث بن طريف عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر! قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، فقال: كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف -يعني: القبر-؟ قلت: الله ورسوله أعلم، أو ما خار الله ورسوله، قال: عليك بالصبر، أو قال: تصبر).
قال أبو داود: قال حماد بن أبي سليمان: يقطع النباش؛ لأنه دخل على الميت بيته].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: [باب في قطع النباش]، والنباش: هو الذي ينبش القبور، ويسرق الأكفان من الموتى، وكثير من العلماء اعتبروا القبر حرزاً، وكونه يفتح القبر ويستخرج منه الكفن فيكون سرق من حرز، وقد أورد أبو داود الحديث هنا؛ لأنه سمى القبر بيتاً، ومعنى ذلك: أن من نبش القبر واستخرج ما فيه فقد استخرج شيئاً من حرز فيقطع بسبب ذلك؛ ولهذا أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وهي باب في قطع النباش، وأورد أبو داود حديث أبي ذر رضي الله عنه.
قوله: [(كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف؟)].
البيت: الذي هو القبر، بالوصيف: يعني: أنه يشترى بالعبد، أو أنه يحفر القبر وأجرته عبد يدفع له، وذلك لكثرة الموتى، ولحاجة الناس إلى اتخاذ القبور، وأنهم مضطرون إلى أن يدفعوا في مقابل ذلك الوصيف، أو أن الأراضي تضيق على الناس ولا يكون هناك أماكن يدفن بها، فيحتاجون إلى شراء أماكن القبور، أو البقعة التي يدفن فيها الميت ويحفر له فيها قبر يدفن فيه، فتكون قيمتها بالوصيف أي: بالعبد.
وأبو داود رحمه الله أورد هذا الحديث؛ لأنه سمى القبر: بيتاً، ومعنى ذلك: أن من فتح القبر فهو مثل الذي فتح الباب أو كسر ودخل البيت وأخرج ما فيه، فهذا بيت وهذا بيت، هذا بيت للحي، وهذا بيت للميت.(496/29)
تراجم رجال إسناد حديث (كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف؟)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن أبي عمران].
مسدد وحماد بن زيد مر ذكرهما، وأبو عمران هو الجوني، وهو عبد الملك بن حبيب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المشعث بن طريف].
المشعث بن طريف مقبول، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن عبد الله بن الصامت].
عبد الله بن الصامت ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي ذر].
هو جندب بن جنادة رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج له أصحاب الكتب الستة، والحديث سبق أن مر بنا في كتاب الفتن.
والذي ينبش القبور من أجل أن يحصل على الأكفان هذا يدل على قساوة قلبه والعياذ بالله! والحديث سبق أن مر بنا أنه صحيح، والألباني صححه.
[قال أبو داود: قال حماد بن أبي سليمان: يقطع النباش؛ لأنه دخل على الميت بيته].
يعني: دخل على الميت بيته فأخذ كفنه، فالقبر هو بيت الميت، كما أن القصر أو البنيان الذي يسكنه الإنسان بيت الحي، وقد سبق أن ذكرت في تلك المناسبة الكلام الذي ذكره بعض العلماء ناصحاً بعض الولاة، حيث قال له: فاعمر قبرك كما عمرت قصرك.
فقوله العالم الناصح لذلك الوالي: اعمر قبرك كما عمرت قصرك أي: اعمره بالأعمال الصالحة التي تفعلها حتى تلقاها بعد الموت، فهذه عمارة القبور، كما جاء في الحديث: (يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله ويبقى عمله)، فيرجع اثنان ويبقى عمله، ويجد الثواب على ذلك في قبره قبل يوم البعث والنشور، كما جاء في حديث البراء أنه إذا كان من الموفقين: (يفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها ونعيمها، فيكون كذلك حتى تقوم الساعة).(496/30)
الأسئلة(496/31)
حكم أخذ جثة الميت وبيعها لطلبة كلية الطب
السؤال
بعض الناس في بلادنا يسرق الجثة كاملة ويبيعها لطلبة كلية الطب فهل حده القطع؟
الجواب
هذا أسوأ من النباش، الذي يريد الكفن يجني على الميت، أما الذي يفعل هذا الفعل فهو أسوأ منه بلا شك؛ لأنه أخذ الرجل وكفنه.(496/32)
حكم نبش قبور الكفار لأجل أخذ الحلي منهم
السؤال
في بلادنا قبور للنصارى يدفنون موتاهم بحليهم، فيعمد بعض المسلمين فينبشونها ويأخذون ما فيها، فهل تقطع أيديهم؟ وهل صحيح أن قبر الكافر لا حرمة له؟
الجواب
الكافر لا حرمة له، ولكن إذا كان يترتب على الفاعلين مضرة فلا يجوز لهم أن يقدموا على ذلك، ولكن لا تقطع أيديهم؛ لأن هذا مال مضيع، أما الكفن فنعم هذا مكانه، ولا بد منه، وأما المال والذهب فلا تكون في القبور، فإذا كان لا يترتب عليه مضرة وأمكن أخذه فلا بأس، ولا يقال: إنه مال محفوظ في حرز.(496/33)
علة عدم القطع في السفر
السؤال
ألا تكون العلة في عدم القطع في حالة السفر هي كون الرجل في السفر يحتاج إلى ذلك كاضطرار الأكل من البستان؛ لأن الإنسان في السفر قد يكون مضطراً إلى الأخذ للأكل كما اضطر من يدخل البستان ليأكل منه، فلا قطع في ثمر ولا كثر؟
الجواب
هذا ليس بواضح؛ لأن الإنسان قد يضطر حتى في البلد، ومسألة الاضطرار لا تكون مسوغاً، والإنسان يمكن أن يأتي الأمور من أبوابها، ويطلب أو يستقرض أو يسأل، ولكن هذا يمكن أن يكون جشعاً وطمعاً ويريد أن يحصل المال بأي وسيلة.(496/34)
ضابط إدراك الركوع بعد الإمام للمسبوق
السؤال
من جاء والإمام راكع، هل يدرك الركعة بأن يسبح ولو تسبيحة واحدة أم أن الإدراك يكون بالطمأنينة؟
الجواب
إذا استقر المأموم المسبوق في الركوع قبل أن يسمع: سمع الله لمن حمده من الإمام، فقد أدرك الركوع.(496/35)
معنى قول النبي (هل من امرأة تائبة إلى الله عز وجل ورسوله؟)
السؤال
جاء في الحديث: (هل من امرأة تائبة إلى الله عزّ وجل ورسوله؟) ومن المعلوم أن التوبة عبادة فكيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ورسوله؟).
الجواب
المراد من ذكر الرسول أنها تتوب إلى الله عز وجل؛ ولكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمعنى: أنه هو المقيم لشرع الله، وهو المنفذ لحدود الله.(496/36)
حكم التكبير بصوت جماعي عند الإعجاب بالموعظة
السؤال
في بلادنا إذا سُرّ الناس بما يقوله الواعظ، يقول أحدهم: تكبير، فيقول الباقون: الله أكبر، فما الحكم؟
الجواب
ما يحتاج إلى أن يقال: تكبير، ولكن إذا أعجبهم شيء يقولون: الله أكبر مباشرة، دون أن يلقنهم أحد؛ لأنه قد يكون هناك شيء لا يحتاج إلى تكبير ولا يستحق ذلك.(496/37)
حكم المسحور يعمل المحرمات
السؤال
هل المسحور أو الذي به صرع له حكم المعذورين؟ وهل إذا فعل إثماً ثم عُلم أنه مسحور وفعل هذا بغير إرادته لا يقام عليه الحد؟
الجواب
إذا كان فاقد العقل فإنه لا يقام عليه الحد، وأما إذا لم يكن فاقد العقل، وإنما يحصل له شيء من تلك العوارض وعقله موجود معه فإنه يقام عليه الحد، حتى لو كان عنده ألم أو اكتئاب وعدم ارتياح، لكن الشيء الذي يعذر فيه هو فقدان العقل.(496/38)
حكم تأديب السارق بالضرب قبل تسليمه الشرطة
السؤال
هل للذي سرق منه أن يقوم بتأديب السارق بالضرب قبل تسليمه للشرطة في البلاد التي لا تطبق الشرع؟
الجواب
ليس للإنسان أن يضربه؛ لأنه لو ضربه يمكن أن يبادله ذاك بضرب أشد، وقد يحصل ضرر أكبر من ضرر السرقة.(496/39)
حكم مناداة الشخص برموز لا تدل على اسمه
السؤال
نحن في أندونيسيا من عادتنا أن ننادي إخواننا بأسمائهم مختصرة -فمثلاً- إذا كان الرجل اسمه عبد الرحمن، نناديه: (من!)، وإذا كان عبد الله نناديه (دل) فهل يجوز هذا؟
الجواب
ليس هناك تناسق بين (من) و (عبد الرحمن) لو كان الاسم (منصور) فيمكن يناديه: (من) لأنه بعض (منصور)، فأقول: نادوا بالأسماء كاملة خير لكم.(496/40)
حكم الصبي إذا فعل محظوراً من محظورات الإحرام
السؤال
الصبي إذا فعل محظوراً من محظورات الإحرام في الحج أو في العمرة، هل يجب عليه ما يجب على المكلف أو يجب على وليه؟
الجواب
يجب على وليه أن يقوم بما يلزم عليه، كما يقوم بما يلزم على نفسه؛ لأنه هو الذي جعله يدخل في هذا النسك أو مكنه من الدخول في النسك.(496/41)
ما جاء في السارق يسرق مراراً(496/42)
شرح حديث (جيء بسارق إلى النبي فقال اقتلوه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في السارق يسرق مراراً.
حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل الهلالي حدثنا جدي عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: (جيء بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول الله! إنما سرق، فقال: اقطعوه، قال: فقطع، ثم جيء به الثانية، فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول الله! إنما سرق، فقال: اقطعوه، قال: فقطع، ثم جيء به الثالثة فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول الله! إنما سرق، فقال: اقطعوه، ثم أُتي به الرابعة فقال: اقتلوه فقالوا: يا رسول الله! إنما سرق قال: اقطعوه فأتي به الخامسة فقال: اقتلوه، قال جابر: فانطلقنا به فقتلناه، ثم اجتررناه فألقيناه في بئر ورمينا عليه الحجارة)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في السارق يسرق مراراً]، يعني: يتكرر منه السرقة، وإذا تكررت السرقة من السارق في المرة الأولى تقطع يده اليمنى، وفي المرة الثانية تقطع رجله اليسرى، وبعد ذلك قال بعض أهل العلم: إنه يحبس ويسجن، وبعضهم قال: إنه إذا عاد الثالثة تقطع اليد اليسرى، وإذا عاد الرابعة قطعت رجله اليمنى، ثم إن عاد فإنه يسجن أو يجلد.
فـ أبو داود رحمه الله أورد في هذا الباب حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: أُتي بسارق فقال: اقتلوه، فقالوا: إنما سرق، قال: اقطعوه، فقطعوا يده اليمنى، ثم سرق مرة أخرى فقال: اقتلوه، فقالوا: إنما سرق، قال: اقطعوه، فقطع، حتى جاء الرابعة وقطع، وفي الخامسة قال: اقتلوه، قال: فقتلوه وسحبوه ورموه في بئر وألقوا عليه الحجارة.
وهذا الحديث في متنه نكارة، وفي إسناده ضعف، أما الضعف الذي في إسناده: فإن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير لين الحديث.
والنكارة فيه من جهة: أنه من أول وهلة قال: (اقتلوه، ثم قيل: إنما سرق، قال: اقطعوه)، ثم تكرر ذلك أربع مرات، وفي كلها يأمر بالقتل، فيقولون: إنما سرق، ثم بعد ذلك يأمر بالقطع، وفي الأخيرة قال: اقتلوه؛ لأنه ما بقي مجال للقطع، فعند ذلك قتلوه وألقوه في بئر، وألقوا عليه الحجارة.
والنكارة الثانية: من جهة أنهم ألقوه في البئر، ورموا عليه الحجارة، ومعلوم أنه إن كان مسلماً فإنه لا يعامل هذه المعاملة ولا يهان هذه الإهانة.
وكثير من العلماء قالوا بعدم ثبوت الحديث وأنه ضعيف، وأنه لو صح يُحمل على أنه تعزير، وأن للإمام أن يعزر فيما إذا كان الشخص من المفسدين في الأرض، وأن التخلص منه يكون بقتله دفعاً لإفساده وضرره.
ومنهم من قال: إن هذه المعاملة -وهي كونه يلقى، ويهان هذه الإهانة- أنه يكون مع سرقته مرتداً، ويكون ذلك مثل ما حصل للعرنيين الذين ارتدوا وساقوا النعم، وقتلوا الراعي ومثّلوا به، فالنبي صلى الله عليه وسلم عاملهم تلك المعاملة.
لكن يبقى الإشكال في قضية قوله: (اقتلوه) فقالوا: إنما سرق، فقال: (اقطعوه)، ثم في المرة الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة وهكذا.
ولهذا فالذي يبدو والله أعلم أن الحديث ضعيف، والسبب في ذلك ما في متنه من النكارة، وما في إسناده من الضعف، والنسائي لما أورده في سننه قال: هذا حديث منكر.
والألباني حسنه في سنن أبي داود؛ ولكنه لم يذكره في صحيح سنن النسائي، ولم يذكره في ضعيفه، بل ذكر الباب الذي هو فيه، وهو قطع اليدين والرجلين، ولم يذكر تحته حديثاً لا في الصحيح ولا في الضعيف، فالذي يبدو أنه حديث منكر في متنه، وضعيف في سنده، والله تعالى أعلم.(496/43)
تراجم رجال إسناد حديث (جيء بسارق إلى النبي فقال اقتلوه)
قوله: [حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل الهلالي].
محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل الهلالي صدوق، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا جدي].
هو عبيد بن عقيل، وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير].
مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير لين الحديث، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن محمد بن المنكدر].
محمد بن المنكدر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي جليل، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث كما قلت: إن صح فهو محمول على التعزير، فيكون مثل شارب الخمر بعد المرة الثالثة، فإن قتله من باب التعزير.(496/44)
ما جاء في تعليق يد السارق في عنقه(496/45)
شرح حديث (أتي رسول الله بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في تعليق يد السارق في عنقه.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عمر بن علي حدثنا الحجاج عن مكحول عن عبد الرحمن بن محيريز قال: (سألنا فضالة بن عبيد عن تعليق اليد في العنق للسارق أمن السنة هو؟ قال: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: [باب في تعليق يد السارق في عنقه]، يعني: هل يشرع أو لا يشرع؟ أورد أبو داود حديثاً ضعيفاً، وهو حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فأمر بقطع يده، ثم أمر بتعليق يده في عنقه).
ومعلوم أن تعليقها في العنق من أجل الزجر والردع، ومعلوم أن مجرد رؤية اليد المقطوعة يكفي في الزجر والردع، بالنسبة له وبالنسبة لغيره، أما هو فقد قطعت يده، وخسرها بسبب السرقة، فذلك يكون سبباً في عدم تكرار ذلك منه، وغيره إذا رأى يده المقطوعة فإنه يبتعد ويحذر أن يقع في السرقة، حتى لا يعامل هذه المعاملة، ومعلوم أن هذه العلامة مستمرة وليست مؤقتة، بخلاف تعليق اليد، فإنها تعلق مدة يوم أو يومين وإلا فإنها تنتن ولا تبقى، ولكن مشاهدة اليد المقطوعة هذا مستمر، والمقصود: أن يحصل الزجر بمشاهدة تلك اليد التي قطعت.
ومعلوم أن الحدود هي جوابر وزواجر، فهي جوابر للنقص الذي قد حصل من الذي أقيم عليه الحد، حتى لا يعاقب عليه في الآخرة، وإنما يعاقب عليه في الدنيا بهذا الحد، ويكفيه ذلك ولا تتكرر عليه العقوبة، وزواجر أيضاً له ولغيره، فهو لا يعود ولا يتكرر منه ذلك لئلا يزاد في عقوبته، وغيره كذلك ينزجر حتى لا يعامل بهذه المعاملة.
قوله: [عن عبد الرحمن بن محيريز قال: (سألنا فضالة بن عبيد عن تعليق اليد في العنق للسارق أمن السنة هو؟ قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه)].
يعني: أنه لما سئل فضالة بن عبيد، هل ذلك من السنة؟ ذكر الحديث، وأن الرسول أمر بتعليقها في عنقه؛ لكن الحديث ضعيف بسبب الحجاج بن أرطأة.(496/46)
تراجم رجال إسناد حديث (أتي رسول الله بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عمر بن علي].
هو عمر بن علي بن عطاء بن المقدم، وهو ثقة وكان يدلس شديداً، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الحجاج].
هو الحجاج بن أرطأة، وهو صدوق كثير الخطأ والتدليس، وهنا مع كونه كثير الخطأ روى بالعنعنة، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن مكحول].
هو مكحول الشامي، وهو ثقة كثير الإرسال، وهذا أيضاً روى بالعنعنة، فهذه أيضاً علة أخرى، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن محيريز].
عبد الرحمن بن محيريز ثقة، ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أخرج له أصحاب السنن.
[عن فضالة بن عبيد].
فضالة بن عبيد رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.(496/47)
ما جاء في بيع المملوك إذا سرق(496/48)
شرح حديث (إذا سرق المملوك فبعه ولو بنش)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في بيع المملوك إذا سرق.
حدثنا موسى -يعني ابن إسماعيل - حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سرق المملوك فبعه ولو بنش)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: [باب في المملوك إذا سرق]، والمملوك إذا سرق يعامل معاملة غيره من السراق، فإذا سرق من حرز وبلغ ما يسرقه نصاباً فأكثر فإنه يعامل كغيره من السراق الأحرار، فتقطع يده، وأورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سرق المملوك فبعه ولو بنش).
والنش: عشرون درهماً، ومقداره نصف أوقية؛ لأن نصاب الفضة (200) درهم، والنصاب (5) أواق، والأوقية (40) درهماً، أي: (40 × 5) والألباني ضعف الحديث، ولكن يبدو أنه ليس بضعيف؛ وذلك لأن رجاله لا بأس بهم، وأيضاً يشهد له الحديث الذي قال: (بعها ولو بحبل من شعر) متفق عليه، قوله: (ولو بحبل من شعر) فيه تزهيد فيها، وأنها تباع برخص، كما جاء في هذا الحديث أنه يباع ولو بنش، وهو عشرون درهماً.(496/49)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا سرق المملوك فبعه ولو بنش)
قوله: [حدثنا موسى -يعني ابن إسماعيل -].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو عوانة].
هو أبو عوانة وضاح بن عبد الله اليشكري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر بن أبي سلمة].
وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة في عصر التابعين، على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أكثرهم على الإطلاق.
والسبعة هم: أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وأم المؤمنين عائشة، ستة رجال وامرأة واحدة.
والكلام عند أهل العلم على عمر بن أبي سلمة؛ لأنه تضعيف من قبل أهل العلم، وإذا أخذنا بكلمة الحافظ فهو الذي يمشي مع الحديث، أما إذا أخذنا بكلام المتقدمين فإن فيه تضعيفاً.(496/50)
شرح سنن أبي داود [497]
بين الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم الحدود ردعاً لمن تسول له نفسه العصيان، ودفعاً لمن يوسوس له شيطانه الكبائر والآثام، والحدود في كتاب الله تعالى منها ما هو مثبت تلاوة وحكماً ومنها ما هو منسوخ تلاوة وحكماً ومنها ما هو منسوخ تلاوة ومثبت حكماً، ومثال الأخير رجم الزاني المحصن.(497/1)
ما جاء في الرجم(497/2)
أثر ابن عباس في أن إيذاء الزاني نسخ بآية الجلد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجم.
حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي حدثني علي بن الحسين عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15]، وذَكَر الرجل بعد المرأة ثم جمعهما فقال: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء:16]، فنسخ ذلك بآية الجلد فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: [باب في الرجم]، والرجم يكون للمحصن، وهو الذي قد تزوج وحصّل الفائدة عن طريق حلال، ثم بعد ذلك يقع في الحرام، فتكون عقوبته تختلف عن عقوبة البكر الذي لم يذق ولم يستمتع بالحلال، فصارت عقوبة البكر الجلد مائة جلدة وتغريب عام، وأما من كان محصناً سواء كان رجلاً أو امرأة فإنه يرجم.
وكان نزل في القرآن آية الرجم ثم نسخ لفظها وتلاوتها وبقي حكمها، وهي: (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم).
وقد جاء بيان أن هذه الآية كانت موجودة وأنها نسخت، وجاء أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجم في أحاديث كثيرة كما رجم ماعزاً والغامدية، وكما حصل في قصة والد العسيف الذي قال فيه: سألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأة هذا الرجم، ثم في آخر الحديث قال: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها).
فالرجم جاء في أحاديث كثيرة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك جاء في الحديث الذي فيه إضافة الجلد إلى الرجم، من حديث عبادة بن الصامت: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب الرجم والجلد)، وجاء في القرآن مما بقي حكمه ونسخت تلاوته، ومعلوم أنه قد ينسخ الحكم والتلاوة، وينسخ الحكم دون التلاوة، وتنسخ التلاوة دون الحكم، والذي معنا هو شاهد لنسخ التلاوة دون الحكم، فالحكم موجود والرجم ثابت ومستقر، والتلاوة منسوخة.
وعكسها نسخ الحكم مع بقاء التلاوة، ومثاله: قصة اعتداد المتوفى عنها زوجها، فاللاتي يتوفى عنهن أزواجهن كن يتربصن سنة، فنسخت بالاعتداد بأربعة أشهر وعشر.
وأما نسخ الاثنين الذي هو الحكم والتلاوة، فذلك في العشر الرضعات التي جاءت في الحديث: (كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس معلومات)، فإن الخمس المعلومات منسوخة التلاوة باقية الحكم، والعشر الرضعات منسوخة التلاوة والحكم، وهذا الذي معنا: هو من جنس الخمس الرضعات، حيث نسخت التلاوة مع بقاء الحكم.
أورد أبو داود حديث ابن عباس في قوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء:16]، ثم قال: نسختها آية النور: ((الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي))]؛ وذلك أنه كما جاء في هذه الآيات: ((فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا))، فقد جاء أيضاً بيان ذلك في السنة، وأن الله تعالى قد جعل لهن السبيل، وبين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصول الجلد والرجم كما جاء في حديث عبادة بن الصامت، والجلد وتغريب سنة في حق البكر.
قوله: [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ))].
الفاحشة: الزنا والعياذ بالله ((فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ)) يعني: أنه لا بد من أربعة شهود لثبوت الزنا، ولا يكفي شاهد أو شاهدان أو ثلاثة، بل لا بد من أربعة، وأن يكون هناك جماع صحيح، فلا بد من توافر هذه الشروط؛ وذلك لخطورة هذه الجريمة وصعوبتها، فجاءت الشريعة باشتراط هؤلاء الشهود الأربعة الذين يشهدون؛ ليثبت في ذلك حد الزنا، فإما هذا كله أو الاعتراف كما سيأتي في حديث عمر رضي الله عنه ما يتعلق بالاعتراف والحبل والشهود.
قوله: [{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15]].
يعني: هذه الآية جاءت في حكم النساء: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15]، ثم أتى بالحكم الذي يشمل الرجال والنساء وهو قوله: ((وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا)).
قوله: [وذَكَر الرجل بعد المرأة ثم جمعهما فقال].
الرجل ما له ذكر منصوص عليه كما نص على النساء؛ ولكنه ذكر بعد ذلك فيما يتعلق بالجمع، حيث قال: ((وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ))، يعني: من الرجال والنساء.
وجاء أيضاً ذكر المرأة ثم ذكر الرجل في سورة النور: ((الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا))] ذكرت الآية الزانية ثم الزاني؛ لكن هنا فيما يتعلق بالرجال ما ذكر رجلاً على سبيل الانفراد؛ ولكنه جاء مندرجاً في حال الجمع بين الذكور والإناث.
قوله: [وذَكَر الرجل بعد المرأة ثم جمعهما فقال: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء:16]].
(اللذان) يعني الرجل والمرأة.
(يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) يأتيان الفاحشة.
(فآذوهما) يعني بالإيذاء: العقوبة، لكن لا أدري ما نوعها.
(فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا) يعني: إن تابا وأصلحا ولم يرفع أمرهما إلى السلطان فإنه يعرض عنهما، وأما إذا بلغ أمرهما إلى السلطان فإنه لا بد من إقامة الحد حيث يكون ثابتاً بالبينة أو بالاعتراف والإقرار.
وجاء في أحد حواشي مخطوطات السنن، يقول في حاشية: (ك) زيادة: قال سفيان: ((فَآذُوهُمَا)) البكران، ((فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ)): الثيبان.
يعني: أنه يرجع إلى الثيبات، لكن معلوم أن الإمساك في البيوت إنما هو للنساء وليس للرجال.
قوله: [قال: فنسخ ذلك بآية الجلد فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]].
وهذا في حق البكرين، فيجلد كل منهما مائة جلدة كما جاء في القرآن، ويغرب كما جاء في السنة.(497/3)
تراجم رجال إسناد أثر ابن عباس في أن إيذاء الزاني نسخ بآية الجلد
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي].
أحمد بن محمد بن ثابت المروزي ثقة، أخرج حديثه أبو داود.
[حدثني علي بن الحسين].
هو علي بن الحسين بن واقد، وهو صدوق، يهم، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم في مقدمة صحيحه وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو حسين بن واقد، وهو ثقة له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد النحوي].
يزيد النحوي ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين أيضاً بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعض العلماء قال: إن الآية جاءت ناسخة، وبعضهم قال: إنهاجاءت لتفسير مبهم؛ لأنه قال: ((أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا))، فالسبيل هو كذا وكذا.
وكذلك من قال: إن الإيذاء يمكن أن يكون بالتقريع بالكلام والزجر فنقول: الحكم هو كما جاء في الكتاب والسنة: الجلد والنفي والرجم وحده أو معه الجلد على خلاف في ذلك وفقاً لما جاءت به النصوص.(497/4)
أثر مجاهد في تفسير قوله تعالى: (أو يجعل الله لهن سبيلاً)، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت حدثنا موسى -يعني ابن مسعود - عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: السبيل الحد].
أورد أبو داود هذا الأثر عن مجاهد، وفيه تفسير السبيل في قوله: ((أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا)) بأنه الحد، والحد هو الرجم في حق المحصنين، والجلد والتغريب في حق الأبكار.
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت حدثنا موسى -يعني: ابن مسعود -].
أحمد بن محمد بن ثابت مر ذكره، وموسى بن مسعود صدوق سيئ الحفظ، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن شبل].
هو ابن عباد، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة في التفسير.
[عن ابن أبي نجيح].
هو عبد الله بن أبي نجيح، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجاهد].
هو مجاهد بن جبر المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وهذا يقال له: مقطوع؛ لأن المتن الذي ينتهي إسناده إلى التابعي ومن دونه يقال له: مقطوع، كما يقال للمتن الذي ينتهي إسناده إلى الصحابي: موقوف، والمتن الذي ينتهي إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: مرفوع، والمقطوع غير المنقطع؛ لأن المقطوع من صفات المتون، والمنقطع من صفات الأسانيد، فيسقط واحد أو اثنان أو ثلاثة، فهذا يقال له: انقطاع، وأما الإسناد الذي ينتهي إلى من دون الصحابي فإن اسمه المقطوع.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال سفيان: (فآذوهما) البكران (فأمسكوهن في البيوت) الثيبات].
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(497/5)
شرح حديث (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني! خذوا عني! قد جعل الله لهن سبيلاً، الثيب بالثيب جلد مائة ورمي بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة)].
أورد أبو داود حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وفيه بيان تفسير السنة للقرآن حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني! خذوا عني! قد جعل الله لهن سبيلاً)، يفسر قول الله عز وجل: ((حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا)).
قوله: [(خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً، الثيب بالثيب جلد مائة والرجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام)] معناه: أن الجلد يكون للجميع، فمن كان بكراً ومن كان ثيباً فإنه يجلد إلا أن الثيب يضاف إليه الرجم، والبكر يضاف إليه التغريب لمدة سنة، وهذا الذي جاء في حديث عبادة رضي الله عنه فيه زيادة التغريب على ما جاء في القرآن في حق الأبكار؛ لأن الذي جاء في القرآن: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، وجاءت السنة بإضافة التغريب لمدة سنة.
وجاء في هذا الحديث -حديث عبادة بن الصامت - أن الرجم يضاف إليه جلد مائة جلدة.
وقد اختلف العلماء في جلد الثيب مع الرجم، والرجم متفق عليه ولم يخالف فيه إلا بعض الخوارج، وخلافهم لا عبرة به، وكذلك سيأتي أن عمر رضي الله عنه قال: أخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله، وقد حصل هذا الذي خشيه عمر، فقد وجد في الخوارج من يقول بذلك، وقال: إن الرجم ليس في كتاب الله فأنكروه.
وإنما اختلف العلماء في الثيب هل يجلد مع الرجم أو أنه يكتفى بالرجم؟ فمن العلماء من ذهب إلى ما جاء في حديث عبادة من الجمع بينهما بأنه يجلد أولاً ثم يأتي بعد ذلك الرجم.
ومنهم من قال: إنه يرجم فقط بدون جلد؛ وذلك لأنه جاءت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها الرجم بدون جلد، كما جاء في آية الرجم، وجاء في قصة العسيف في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اغد يا أنيس! إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها)، وكذلك فعله حيث أمر برجم ماعز والغامدية، فبعض أهل العلم أخذ بهذا، وبعضهم أخذ بهذا، والحقيقة المسألة مشكلة، ولهذا لما ذكر صاحب سبل السلام الصنعاني رحمه الله هذه المسألة مال إلى أحد القولين ثم رجع عنه وقال: إني أتوقف حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين.
قوله: (الثيب بالثيب)، ليس المقصود من ذلك أنه لا يكون الحد إلا إذا كان ثيباً مع ثيب، وإنما المقصود أن الثيب يرجم سواءً كان زناه بثيب أو ببكر، وكذلك المرأة إذا كانت ثيبة لا ينظر إلى الرجل الذي زنى بها أهو بكر أم ثيب، فمع أنه ذكر الثيب مع الثيب والبكر مع البكر إلا أنه لو زنى بكر بثيب أو ثيب ببكر فإن من كان محصناً يرجم سواءً كان رجلاً أو امرأة، ومن كان بكراً فإنه يجلد مائة ويغرب سنة.
فإذاً: قوله: (الثيب بالثيب والبكر بالبكر)، لا يكون خاصاً فيما إذا كان بين بكرين وبين ثيبين بل الرجم مناط بالثيب سواءً كان مع ثيب أو بكر، وكذلك البكر الجلد مناط به مع التغريب، سواءً كان مع بكر أو ثيب.(497/6)
تراجم رجال إسناد حديث (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن أبي عروبة].
سعيد بن أبي عروبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
هو الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حطان بن عبد الله الرقاشي].
حطان بن عبد الله الرقاشي ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأصحاب السنن.
مسلم.
[عن عبادة بن الصامت].
عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(497/7)
شرح حديث (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية ومحمد بن الصباح بن سفيان قالا: حدثنا هشيم عن منصور عن الحسن بإسناد يحيى ومعناه قال: (جلد مائة والرجم)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وقال فيه: (جلد مائة والرجم)، وهو مثل الذي قبله؛ لأنه قال في الأول: (رمي بالحجارة) وهنا قال: (الرجم)، ومعلوم أن الرجم يكون بالحجارة، يعني: الفرق في العبارة وإلا فالمعنى واحد، وإنما فرق بين الثيب والبكر بأن الثيب يرجم بالحجارة؛ لأنه كما عرفنا قد حصل المتعة بطريق مشروع، فصارت عقوبته أشد، وكان ذلك رمياً بالحجارة؛ حتى يصيبه العقاب من جميع الجوانب؛ لأن اللذة حصلت لجميع الجسد، فتكون العقوبة لجميع الجسد بحيث تأتي الحجارة من كل جانب، فيكون موته بهذه الطريقة، أما من كان بكراً ولم يتمتع بالنكاح فإن عقوبته مخففة، وذلك بأن يجلد مائة جلدة ويغرب مدة سنة.(497/8)
تراجم رجال إسناد حديث (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
وهب بن بقية ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[ومحمد بن الصباح بن سفيان].
محمد بن الصباح بن سفيان صدوق، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[قالا: حدثنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن المعتمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن بإسناد يحيى].
الحسن مر ذكره، ويحيى القطان، وقوله: [بإسناد يحيى] يعني: الذي تقدم قبل هذا.(497/9)
شرح حديث (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً) من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عوف الطائي حدثنا الربيع بن روح بن خليد حدثنا محمد بن خالد -يعني: الوهبي - حدثنا الفضل بن دلهم عن الحسن عن سلمة بن المحبق رضي الله عنه عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث: (فقال ناس لـ سعد بن عبادة: يا أبا ثابت! قد نزلت الحدود، لو أنك وجدت مع امرأتك رجلاً كيف كنت صانعاً؟ قال: كنت ضاربهما بالسيف حتى يسكتا، أفأنا أذهب فأجمع أربعة شهداء؟! فإلى ذلك قد قضى الحاجة، فانطلقوا فاجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! ألم تر إلى أبي ثابت قال كذا وكذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفى بالسيف شاهداً، ثم قال: لا لا، أخاف أن يتتايع فيها السكران والغيران)].
أورد أبو داود حديث عبادة بن الصامت من طريق أخرى، وفيه زيادة، وهي أن سعد بن عبادة قيل له: لو أنه وجد رجلاً مع امرأته كيف يصنع؟ فقال: إنه يقطعهما بالسيف حتى يسكتا يعني: حتى يموتا، ولا يتركهما حتى يأتي بأربعة شهود يرون ويشاهدون، فيكون قضى حاجته وهرب، فجاء هؤلاء الذين تحدثوا بهذا الحديث بينهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (كفى بالسيف شاهداً)، يعني: هذا الذي قاله سعد بن عبادة هو الشاهد، ولا يحتاج إلى أن يبحث عن أربعة شهود بل يحصل القتل، ثم قال: (لا لا حتى لا يتتايع فيها) يعني: يتتابع الناس فيستسهلون القتل أو يقدمون على القتل وقد يكون لا يستحق القتل بأن يكون ليس هناك جماع، وأن الزنا ما ثبت، وإنما هو مقدمات تسبق الجماع لا يستحق معها القتل.
قوله: [(لا لا، أخاف أن يتتايع فيها السكران والغيران)].
السكران: هو الغضبان، وليس المقصود به السكران الذي فقد وعيه بسبب السكر؛ لأن هذا كما هو معلوم ليس هو المقصود، وإنما المقصود الذي عنده شدة الغضب فيقدم على قتل الإنسان وهو لا يستحق القتل، والغيران: صاحب الغيرة الشديدة الذي قد يقدم على القتل بينما الذي حصل دون ما يستحق به القتل، ولكن الحديث ضعيف؛ لأن في إسناده ابن دلهم هذا وهو ضعيف.(497/10)
تراجم رجال إسناد حديث (خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً) من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا محمد بن عوف الطائي].
محمد بن عوف الطائي ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي في مسند علي.
[حدثنا الربيع بن روح بن خليد].
الربيع بن روح بن خليد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا محمد بن خالد -يعني الوهبي -].
محمد بن خالد الوهبي صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الفضل بن دلهم].
الفضل بن دلهم لين، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن الحسن عن سلمة بن المحبق].
الحسن مر ذكره، وسلمة بن المحبق رضي الله عنه صحابي، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عبادة بن الصامت].
عبادة بن الصامت رضي الله عنه قد مر ذكره.(497/11)
الوهم من وكيع في إسناد حديث (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً)، وتراجم رجال ذلك الإسناد
[قال أبو داود: روى وكيع أول هذا الحديث عن الفضل بن دلهم عن الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هذا إسناد حديث ابن المحبق: (أن رجلاً وقع على جارية امرأته)].
ذكر أن وكيعاً رواه بإسناد وقال: إنه وهم، وإنما هذا إسناد لحديث آخر، وهو قصة الرجل الذي وقع على جارية امرأته.
[قال أبو داود: روى وكيع أول هذا الحديث عن الفضل بن دلهم عن الحسن عن قبيصة بن حريث].
وكيع بن الجراح الرؤاسي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحسن مر ذكره، وقبيصة هو قبيصة بن حريث، وهو صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[قال أبو داود: الفضل بن دلهم ليس بالحافظ كان قصاباً بواسط].
قال أبو داود: الفضل بن دلهم ليس بالحافظ كان قصاباً بواسط، يعني: هذا تعريف به، وقصاب يعني: جزار.(497/12)
شرح حديث عمر بن الخطاب في رجم الزاني المحصن
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا هشيم حدثنا الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن عباس: (أن عمر -يعني ابن الخطاب رضي الله عنه- خطب فقال: إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا من بعده، وإني خشيت إن طال بالناس الزمان أن يقول قائل: ما نجد آية الرجم في كتاب الله؛ فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى، فالرجم حق على من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصناً، إذا قامت البينة، أو كان حمل أو اعتراف، وايم الله لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله عز وجل لكتبتها)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن عمر خطب الناس.
قوله: [(إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب)].
الحق الذي فيه إخراج الناس من الظلمات إلى النور، والسير إلى الله عز وجل على بصيرة، وذلك في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه، ثم قال: وأنزل عليه الكتاب.
قوله: [(فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها)].
(فقرأناها) يعني: إنا كنا تلوناها كما نتلو القرآن.
وآية القرآن هي: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم).
قوله: [(فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا من بعده)].
رجم النبي صلى الله عليه وسلم حصل لـ ماعز وللغامدية، وأمر برجم امرأة صاحب العسيف قال: (اغد يا أنيس! إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)، (ورجمنا من بعده)، يعني: هذا شيء فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ونفذه الخلفاء الراشدون من بعده.
قوله: [(وإني خشيت إن طال بالناس الزمان أن يقول قائل: ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى)].
فهو أعلن هذا في خطبته رضي الله تعالى عنه حتى يسمعها من يسمعها من الناس، وحتى يكثر السامعون لها، ويتناقلوها ويعرفوها، ويرويها بعضهم ويبينوها للناس، قال: (أخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله)، وهذا من إلهام عمر رضي الله عنه فإنه كان ملهماً، وكان يقول الشيء فيجري الحق على لسانه في كثير من الأمور، وموافقات عمر في الأشياء التي يشير بها على رسول الله عليه الصلاة والسلام ثم ينزل القرآن بها معروفة وعديدة، منها ما يتعلق بالحجاب، ومنها ما يتعلق بالصلاة خلف المقام، ومنها ما يتعلق بأسارى بدر، وكذلك ما جاء عنه في قصة الطاعون الذي حصل في الشام، وأنه استشار الصحابة المهاجرين، ثم الأنصار، ثم مسلمة الفتح، وكل منهم ليست عنده سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ثم إنه اجتهد ورأى أن ينصرف وألا يدخل على الطاعون، ثم بعد ذلك جاء عبد الرحمن بن عوف وروى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الذي رآه عمر مطابقاً لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر، وهنا قال: (أخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل) وقد قال قائل، فإنه نقل عن بعض الخوارج أنهم كانوا لا يقولون بالرجم ويقولون: إنه لا يوجد في كتاب الله.
قوله: [(أن يقول قائل: ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى)].
وهذا فيه أن ترك ما أنزله الله، وترك ما جاء عن الله وعن رسوله ضلال؛ لأنه قال: (فيضلوا بترك فريضة).
وفيه: أن الضلال يكون في الجزئيات وليس بلازم أن يكون الضلال في الكليات، بل القضية الواحدة يحصل بها الضلال؛ لأن فيه انحرافاً عن الجادة، وهذا من جملة الضلال الكثير الذي حصل للخوارج، فإنهم ضلوا في هذا الجانب وفي غير هذا الجانب.
قوله: [(فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى، فالرجم حق على من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصناً، إذا قامت البينة أو كان حمل أو اعتراف)].
فالرجم حق على من زنى من الرجال والنساء وكان محصناً إذا قامت البينة، يعني: حق يجب تنفيذه إذا قامت البينة، والبينة هي أربعة شهود كما جاء ذلك مبيناً في القرآن، أو كان الحمل؛ لأن الحمل إذا كان من غير ذات زوج فإنه لا يكون إلا بغير طريق مشروع، لكن إذا لم تدع شيئاً أو تذكر شبهة، أو تذكر شيئاً يمنع من إقامة الحد عليها مما تدرأ به الحدود، كإخبارها بأنها كانت مكرهة، أو اغتصبت، أو أنه حصل لها كذا وكذا، فعند ذلك يقبل قولها، وتدرأ الحدود بالشبهات.
قوله: [أو الاعتراف]، يعني: يحصل الاعتراف بالزنا.
قوله: [(وايم الله لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله عز وجل لكتبتها)].
وهذا تأكيد من عمر رضي الله عنه لنزول هذه الآية، وأنهم تلوها، وأنها موجودة في كتاب الله ولكنها نسخت، ومعلوم أن القرآن جمع جمعتين: جمعة في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وكان ذلك في صحف ولم يكن مرتباً ولا مميزاً، بل كل ما جاء ونقل أثبتوه في صحف، وكان مشتملاً على الأحرف السبعة كلها؛ لأن كل ما هو قرآن جمعوه في صحف، وذلك في عهد أبي بكر وحصل ذلك لما قتل جمع من القراء في بعض الغزوات، وأشير على أبي بكر بجمع القرآن فكان متردداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولكن بعد ذلك شرح الله صدره له فأمر بجمعه، فجمع في صحف، وذلك الذي جمع مشتمل على الأحرف السبعة، وبقيت تلك الصحف عند حفصة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها، ولما كان في عهد عثمان جمع القرآن في مصحف على حرف واحد، فصار هذا الذي هو بأيدي الناس، والذي هو من جمع عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وكان جمع الناس على حرف واحد، وأحرق ما سوى ذلك؛ حتى لا يحصل الاختلاف، وهذا من حسنات عثمان رضي الله عنه، كما أن الذي حصل في عهد أبي بكر من حسنات أبي بكر رضي الله عنه، ومن حسنات عثمان جمعه للقرآن، وكونه ممن حفظ الله به القرآن، وكان ذلك مما تحقق به قول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب: اعلام الموقعين تسعة وتسعين على أن الشريعة جاءت بسد الذرائع، وختم ابن القيم رحمه الله الأدلة التسعة والتسعين بجمع عثمان رضي الله عنه القرآن على حرف واحد، وقال: إن ذلك فيه السلامة من الاختلاف، وقطع دابر الاختلاف الذي يكون بسبب وجود الأحرف، فجمعها على حرف واحد رضي الله عنه، وكان ذلك سداً للذريعة، فهو من جملة الأدلة التي استدل بها ابن القيم على سد الذرائع، وقد ذكر تسعة وتسعين دليلاً بعدد الأسماء الحسنى التي جاءت في الحديث: (إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة)، وختمها بهذا الدليل الذي هو جمع عثمان القرآن على حرف واحد.
فقول عمر رضي الله عنه: لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله عز وجل لكتبتها.
يعني: يريد أن يحقق ثبوتها، وأن هذا شيء ثابت.(497/13)
تراجم رجال إسناد حديث عمر بن الخطاب في رجم الزاني المحصن
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن هشيم].
هشيم مر ذكره.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة].
هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقد مر ذكره.
[عن عمر].
عمر رضي الله عنه أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، رضي الله عنه وأرضاه، أحاديثه عند أصحاب الكتب الستة.(497/14)
الأسئلة(497/15)
حد الزاني الذي تزوج أمة
السؤال
ذكر صاحب العون نقلاً عن الحافظ يقول: المحصن إذا كان محصناً أي بالغاً عاقلاً قد تزوج حرة تزويجاً صحيحاً وجامعها.
فلماذا التقييد بالحرة هنا، وهل إذا تزوج أمة لا يقال له: محصن؟
الجواب
الذي يبدو أنه محصن؛ لأن الفائدة والمتعة حصلت، فإنها تحصل بهذه وبهذه، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7]، فيحصل الإحصان بالتسري ويثبت، لكن هل يعتبر ذلك إحصاناً يكون معه استحقاق الرجم أو لا؟ لا أدري.(497/16)
ضابط الإحصان في الشرع
السؤال
هل المراد بالإحصان العقد أو الدخول حتى يعتبر محصناً؟
الجواب
الذي يبدو أن المقصود به الدخول؛ لأن هذا هو الذي يكون به الاستمتاع، وأما مجرد العقد ثم حصلت فرقة أو المرأة ما مكنته من نفسها أو أبت أن تدخل عليه بعد العقد، وما وجدت منه تلك المتعة والفائدة التي بها خرج من كونه بكراً إلى كونه ثيباً فلا يكون إحصاناً.(497/17)
الجمع بين حديث قتل شارب الخمر في الرابعة وبين حديث (لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به)
السؤال
ذكرتم أن قتل شارب الخمر يكون في الرابعة، فما نقول في حديث: (لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به)؟
الجواب
هذا يدل على أن المعين لعنه لا يجوز، وأما قول: (ما أكثر ما يؤتى به)، فيدل على الإتيان به كثيراً، وكونه لم يقتل لأن القتل محمول على التعزير في الحديث الآخر، وهو حديث ثابت.(497/18)
شرح سنن أبي داود [498]
ماعز بن مالك الأسلمي صحابي من صحابة رسول الله، زلت قدمه في معصية وكبيرة من كبائر الذنوب، وهي الزنا، ولكنه لم تهدأ نفسه حتى جاء إلى رسول الله تائباً معترفاً بجريرته، وأبى إلا أن يطهره رسول الله بإقامة الحد عليه، فأمر به رسول الله فرجم فمات تائباً رضي الله تعالى عنه.(498/1)
ما جاء في رجم ماعز بن مالك(498/2)
شرح حديث رجم ماعز بن مالك
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب رجم ماعز بن مالك.
حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا وكيع عن هشام بن سعد قال: حدثني يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه قال: (كان ماعز بن مالك يتيماً في حجر أبي فأصاب جارية من الحي فقال له أبي: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك، وإنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرجاً، فأتاه فقال: يا رسول الله! إني زنيت فأقم علي كتاب الله، فأعرض عنه، فعاد فقال: يا رسول الله! إني زنيت فأقم علي كتاب الله، فأعرض عنه، فعاد فقال: يا رسول الله! إني زنيت فأقم علي كتاب الله، حتى قالها أربع مرار، قال صلى الله عليه وسلم: إنك قد قلتها أربع مرات فبمن؟ قال: بفلانة، فقال: هل ضاجعتها؟ قال: نعم.
قال: هل باشرتها؟ قال: نعم.
قال: هل جامعتها؟ قال: نعم.
قال: فأمر به أن يرجم، فأخرج به إلى الحرة، فلما رجم فوجد مس الحجارة جزع فخرج يشتد، فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز أصحابه، فنزع له بوظيف بعير فرماه به فقتله، ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه)].
سبق لـ أبي داود رحمه الله أن أورد قبل هذا باب الرجم، وأورد جملة من الأحاديث المختلفة المتعددة عن جماعة من الصحابة في بيان الرجم وحكمه، وأنه ثابت في كتاب الله في القرآن الذي نسخ لفظه وبقي حكمه، وكذلك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله في قضايا متعددة، ولما كان من جملة من اشتهر في الرجم ماعز رضي الله عنه وكذلك الغامدية رضي الله عنها، فقد أفرد كلاً منهما بترجمة، وأورد الأحاديث المختلفة المتعلقة بما حصل منهما وكذلك رجمهما، وما جرى من الأمور التي حصلت قبل ذلك وبعد ذلك.
فقال: [باب رجم ماعز بن مالك] أي: ما ورد فيه من الأحاديث، وقد أورد أبو داود عدة أحاديث عن جماعة من الصحابة كلها تحكي قصة رجم ماعز رضي الله تعالى عنه، وما جرى قبل رجمه من اعترافه وطلب تطهيره، وما جرى في رجمه، وكيف انتهى أمره! فأورد أبو داود حديث نعيم بن هزال رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن ماعزاً كان يتيماً في حجر أبي وأنه زنى بجارية من الحي أي: أمة من الحي أو من القبيلة فقال له هزال رضي الله عنه: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بالذي حصل، وكان يريد من وراء ذلك رجاء أن يكون له مخرج مما قد حصل له، فجاء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وأخبره بالذي حصل، فالرسول صلى الله عليه وسلم سأله عدة أسئلة للتحقق من حصول الجماع، وحصول الزنا حقيقة، وأنه في الفرج، وأنه ليس مجرد لمس ولا نظر، وإنما هو الجماع الحقيقي، فعند ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر برجمه، وذهبوا يرجمونه، ولما أصابته الحجارة وحصل له الوجع من الرمي بها جزع وهرب، ولقيه عبد الله بن أنيس وأخذ وظيفاً -أي: عظماً- من ساق بعير أو حيوان فرماه به فقتله.
قوله: [عن نعيم بن هزال قال: (كان ماعز بن مالك يتيماً في حجر أبي، فأصاب جارية من الحي فقال له أبي: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنعت لعله يستغفر ذلك، وإنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرجاً)].
هذه كلمة: (أن يكون له مخرجاً) الأصل: أن يكون له مخرج؛ لأن كان وأخواتها إذا جاء الخبر جاراً ومجروراً فإنه يكون الاسم الذي بعده مرفوعاً، على عكس إن وأخواتها فإنه إذا جاء الجار والمجرور يكون الاسم بعد ذلك منصوباً، وهنا جاء مخرجاً منصوباً، والأصل أن يكون مرفوعاً، وسواءً قيل: إن كان تامة أو ناقصة؛ لأنها إن كانت تامة فيكون مخرج هو الفاعل، وإن كانت ناقصة يكون اسمها مؤخر وخبرها جار ومجرور مقدم.
وقال الطيبي: اسم كان يرجع إلى المذكور وخبره مخرجاً.
و (له) ظرف لغو كما في قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، والمعنى: يكون إتيانك وإخبارك رسول الله صلى الله عليه وسلم مخرجاً لك.
فإذا كان المقصود به شيء مقدر بمعنى: يكون إتيانك مخرجاً فهو سائغ.
قوله: [(فأتاه فقال: يا رسول الله! إني زنيت فأقم علي كتاب الله، فأعرض عنه، فعاد فقال: يا رسول الله! إني زنيت فأقم علي كتاب الله، فأعرض عنه، فعاد فقال: يا رسول الله! إني زنيت فأقم علي كتاب الله حتى قالها أربع مرار)].
ذكر أنه قال ذلك أربع مرات، وجاء في بعضها مرتين، وفي بعضها ثلاث مرات، وأعلى ما جاء هو أربع مرات، ولهذا اختلف العلماء هل لابد من الاعتراف أربع مرات، كما أن الشهود يكونون أربعة، فإذا لم يوجد شهود يكون الاعتراف أربع مرات؟ فمن العلماء من قال بذلك، وأن الروايات جاءت متعددة، وكلها فيها أربع مرات، وفي بعضها أنه شهد على نفسه أربع مرات، قالوا: فيكون الإقرار أربع مرات، وذهب إلى هذا كثير من أهل العلم، وبعضهم قال: إنه يكفي الاعتراف مرة واحدة، وإنما حصل التكرار من أجل التحقق والاستثبات، وليس المقصود من ذلك أنه لابد من الاعتراف أربع مرات، ولا شك أن القول بحصول التكرار أو اعتبار ذلك أربع مرات هو الأحوط؛ لأنه سواءً كان أريد به التحقق أو أريد به أنه مقصود، فالإتيان به أربع مرات لا شك أن هذا فيه الاحتياط والسلامة وقطع الشك باليقين.
قوله: [قال صلى الله عليه وسلم: (إنك قد قلتها أربع مرار فبمن؟ قال: بفلانة)].
قالوا: ويؤيد ذلك أنه قال: إنك قد قلتها أربع مرات، فكونه ذكر أربع مرات وكرر أربع مرات وقال: قلت أربع مرات، عند ذلك أراد أن يزداد تحققاً قال: بمن؟ يعني: حصل الزنا بمن؟ وهذا يدل على أنه لا بأس بالسؤال عن المزني بها، وهذا للتحقق، ولكن اعتراف الزاني لا يثبت حقاً عليها، بل لابد من اعترافها، ولهذا كما جاء في أحاديث صاحب العسيف الذي قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، ثم بعد ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واغد يا أنيس! إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها).
قوله: [(بفلانة)].
يعني: فيه إبهام وعدم تسمية في الرواية، وإلا فإنها قد سميت وقد سماها فلانة، ولكن في الرواية أتوا بها مكناة دون أن يفصح عن اسمها.
قوله: [(قال: هل ضاجعتها؟ قال: نعم، قال: هل باشرتها؟ قال: نعم)].
يعني: أنت كنت وإياها في فراش وصرت ضجيعاً لها، والضجيع: هو الذي ينام بجوار من يضاجعه ومن يبيت معه، فيكون معه في فراش واحد فيكون قريباً منه، وقد يلتصق به، ثم زاد فقال: (هل باشرتها؟) يعني: مست بشرتك بشرتها، ثم بعد ذلك قال: نعم.
قال: (هل جامعتها؟) يعني: حصل الجماع، قال: نعم.
وسؤاله له هذه الأسئلة لأنه خشي أن يكون ظن ما ليس بزنا زنا كما جاء في الحديث: (العين تزني وزناها النظر) وهكذا، فقد يظن أن مثل ذلك يعتبر زنا، وأنه يستحق عليه إقامة الحد، فأراد أن يتبين أن ما حصل منه أنه الجماع الذي يستحق عليه إقامة الحد، وأنه ليس شيئاً مما هو دون الزنا الذي لا يستحق معه حداً كأن يكون قبلها أو باشرها ولم يحصل منه جماع، أو استمتع بها فيما دون الفرج، فإن هذا لا يوجب حداً، وإنما يوجب تعزيراً وعقوبة.
قوله: [(فأمر به أن يرجم، فأخرج به إلى الحرة)].
فأمر به فأخرج إلى الحرة، وقد جاء في بعض الأحاديث أنه إلى المصلى، وفي بعضها إلى البقيع، والمقصود بذلك المصلى الذي عند البقيع، وهو مصلى الجنائز الذي كانوا يصلون فيه على الجنازة يعني: بين المسجد وبين البقيع، وهنا جاء ذكر الحرة، ويجمع بينها أنه ذهب به المصلى وأنه هرب، وأنهم لحقوه فيكون ذكر الحرة ليس ابتداء في الرجم، وإنما هو في المكان الذي جاءت الأحاديث بذكره وهو المصلى أو البقيع، وذكر الحرة فيما آل إليه الأمر، وأنه هرب والناس تبعوه حتى وصل إلى الحرة.
قوله: [(فلما وجد مس الحجارة جزع فخرج يشتد)].
يعني: شدتها وألم الرمي بالحجارة عليه هرب يشتد، يعني: يجري ويركض بسرعة هارباً، وهذا يفيد بأنهم ما ربطوه ولا حفروا له حفرة؛ لأنه لو كان مربوطاً ما استطاع أن يهرب، ولو كان لما استطاع أن يهرب.
قوله: [(فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز أصحابه فنزع له بوظيف بعير)].
وقد عجز أصحابه أي: الذين لحقوه أن يدركوه.
قوله: [(فنزع له بوظيف بعير فرماه به فقتله)].
يعني: عظم ساق البعير، فرماه به أو حذفه به فأصابه وقتله.
قوله: [(ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه؟)].
يعني: أنه إذا كان هرب أو اعتذر بشيء أنه يترك، ولعله حصلت عنده شبهة تدرأ الحد بأن يبينها ثم بينها فيما بعد.
قوله: [(فيتوب الله عليه)].
يعني: معلوم أنه جاء تائباً وطلب التطهير، فالتوبة موجودة.
قوله: [(لعله أن يتوب فيتوب الله عليه)]، يعني: كونه يتوب فيتوب الله عليه سيأتي في بعض الأحاديث ما يدل على أنه حصل على خير، ومعلوم أن الحد كفارة وأن من حصل له الحد في الدنيا لا يعاقب على هذه الجريمة في الآخرة، وإنما إذا لم يحد في الدنيا وستره الله عز وجل ولم يتب فإن أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه.
وعلى هذا فيكون قوله: (يتوب فيتوب الله عليه) معناه: أنه يحصل له سلامة من القتل بالتوبة فالتوبة موجودة من قبل، وهو الذي طلب أن يرجم، وطلب أن يقام عليه حكم الله، وأن يحصل له التطهير بذلك، فتكون هذه الجملة فيها نكارة من جهة أن التوبة موجودة وأنه قد حصل على السلامة من مغبة هذه الجريمة بإقامة الحد عليه، ولكن لعل المقصود من ذلك أنه يحصل له شيء يسلم به من القتل.
ومعلوم أن من أخذ ثم قال: إنه تائب ما ي(498/3)
تراجم رجال إسناد حديث رجم ماعز بن مالك
قوله: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري].
محمد بن سليمان الأنباري صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن سعد].
هشام بن سعد صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[قال: حدثني يزيد بن نعيم بن هزال].
يزيد بن نعيم بن هزال مقبول، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبيه].
هو نعيم بن هزال، وهو صحابي، أخرج له أبو داود والنسائي.(498/4)
شرح حديث رجم ماعز بن مالك من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا يزيد بن زريع عن محمد بن إسحاق قال: ذكرت لـ عاصم بن عمر بن قتادة قصة ماعز بن مالك فقال لي: حدثني حسن بن محمد بن علي بن أبي طالب قال: (حدثني ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا تركتموه؟ من شئتم من رجال أسلم ممن لا أتهم، قال: ولم أعرف هذا الحديث قال: فجئت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فقلت: إن رجالاً من أسلم يحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم حين ذكروا له جزع ماعز من الحجارة حين أصابته: ألا تركتموه؟! وما أعرف الحديث قال: يا ابن أخي! أنا أعلم الناس بهذا الحديث، كنت فيمن رجم الرجل، إنا لما خرجنا به فرجمناه فوجد مس الحجارة صرخ بنا: يا قوم! ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قاتلي، فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه قال: فهلا تركتموه وجئتموني به، ليستثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فأما لترك حد فلا، قال: فعرفت وجه الحديث)].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه في قصة رجم ماعز، وأن حسن بن محمد بن علي بن أبي طالب المشهور بـ ابن الحنفية قال: إنه حدثني من لا أتهم من أسلم الذين هم قوم ماعز أنه جاء في الحديث أنه قال صلى الله عليه وسلم: (ألا تركتموه؟) وأنه ما عرف وجه الحديث فقال له جابر: (أنا عندي العلم في هذا، وإنني كنت فيمن رجمه، وإننا لما رجمناه صرخ وقال: ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قومي عملوا كذا وكذا فقتلناه، فلما بلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ألا تركتموه؟) ثم بين جابر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما قال: (ألا تركتموه؟) يقصد من وراء ذلك الاستثبات والتحقق من أمره، أو يذكر شيئاً يعذر به، ويدرأ به الحد، (أما لترك الحد فلا) يعني: أن يقول الرسول: (هلا تركتموه؟) معناه: بدون حد وأنه لا يقام عليه حد، فهذا ليس بمقصود، وإنما الذي يريده رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: (ألا تركتموه؟) أي: حتى يتحقق من أمره ويستثبت وأنه ربما يرجع عن إقراره أو يذكر شيئاً يكون عذراً له في عدم إقامة الحد عليه.
أما كونه يترك ولا يقام عليه حد فهذا لا يكون، وهذا هو الذي فهمه جابر بن عبد الله رضي الله عنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تركتموه؟)، حيث فهم أن المقصود الاستثبات، وليس المقصود من ذلك ترك الحد.
قوله: [عن محمد بن إسحاق قال: ذكرت لـ عاصم بن عمر بن قتادة قصة ماعز بن مالك فقال لي: حدثني حسن بن محمد بن علي بن أبي طالب قال: (حدثني ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا تركتموه)].
ولم يعرف وجه الحديث، فجاء حسن بن محمد بن علي إلى جابر وأخبره فقال: أنا الذي كنت شاهداً، فصار الحديث عن جابر رضي الله عنه، وهو الذي يحدث بهذا الحديث وبهذا الذي ذكر أنه سمعه ممن لا يتهم من أسلم الذين هم قوم وقبيلة ماعز، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك، وقال: (ألا تركتموه؟) وأنه يقصد من وراء ذلك الاستثبات، لا ترك الحد؛ لأنه هرب أو قال: اتركوني.
قوله: [قال: (حدثني ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا تركتموه؟ من شئتم من رجال أسلم ممن لا أتهم)].
(من شئتم) هذا فاعل حدثني، يعني: من تريدون ممن هو من أهل الثقة والعدالة ممن لا يتهمون، ولكنه ما وقف عند هذا، وإنما ذهب إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه وحدثه بالحديث فصار الحديث متصلاً عن جابر رضي الله عنه وفيه وجه الترك.
قوله: [(قال: ولم أعرف هذا الحديث قال: فجئت جابر بن عبد الله فقلت: إن رجالاً من أسلم يحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم حين ذكروا له جزع ماعز من الحجارة حين أصابته: ألا تركتموه؟)].
المقصود هذه الجملة: (ألا تركتموه؟) ولهذا قال في الأول: (من لا أتهم) في الحديث أنه قال: (ألا تركتموه؟).
قوله: [(وما أعرف الحديث، قال: يا ابن أخي! أنا أعلم الناس بهذا الحديث كنت فيمن رجم الرجل، إنا لما خرجنا به فرجمناه فوجد مس الحجارة صرخ بنا: يا قوم! ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قاتلي)].
معناه: أنه فهم هذا من قولهم: (لعله يستغفر لك) كما مر في حديث ابن هزال الذي قيل له فيه: اذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه قال: فهلا تركتموه وجئتموني به؟ ليستثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فأما لترك حد فلا، قال: فعرفت وجه الحديث)].(498/5)
تراجم رجال إسناد حديث رجم ماعز بن مالك من طريق ثانية
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة].
هو عبيد الله بن عمر بن مسيرة القواريري، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[قال: ذكرت لـ عاصم بن عمر بن قتادة].
هو عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني حسن بن محمد بن علي].
حسن بن محمد بن علي أبوه محمد بن علي بن أبي طالب المشهور بـ ابن الحنفية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي جليل، أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(498/6)
شرح حديث رجم ماعز بن مالك من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو كامل حدثنا يزيد بن زريع حدثنا خالد -يعني الحذاء - عن عكرمة عن ابن عباس: (أن ماعز بن مالك أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه زنى فأعرض عنه، فأعاد عليه مراراً فأعرض عنه، فسأل قومه: أمجنون هو؟ قالوا: ليس به بأس، قال: أفعلت بها؟ قال: نعم.
فأمر به أن يرجم، فانطلق به فرجم، ولم يصل عليه)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ماعزاً جاء واعترف عند النبي صلى الله عليه وسلم بأنه زنى، وأنه أعرض عنه، وأن ماعزاً كرر قوله مراراً، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما كرر ذلك عليه سأل قومه وقال: (هل تعلمون به جنون؟) بمعنى: أنه في عقله خلل، وأن هذا الذي حصل منه لكونه غير سليم العقل، وأنه فاقد الوعي، فقالوا: إنهم لا يعلمون بشيء من ذلك، ثم فقال له في الأخير: أفعلت؟ قوله: [(فقال: إنه زنى فأعرض عنه، فأعاد عليه مراراً فأعرض عنه، فسأل قومه: أمجنون هو؟ قالوا: ليس به بأس، قال: أفعلت بها؟ قال: نعم)].
يعني: أزنيت بها؟ وهذا إجمال للفعل، ولكنه جاء توضيحه بأنه جامعها كما ذكر في الحديث الأول: هل ضاجعتها؟ هل باشرتها؟ هل جامعتها؟ قوله: [(قال: فانطلق به فرجم ولم يصل عليه)].
لم تترك الصلاة عليه مطلقاً، ولكنه صلى الله عليه وسلم هو الذي ترك الصلاة عليه، فلم يصل عليه صلى الله عليه وسلم، ولكن جاء في بعض الروايات أنه صلى عليه.(498/7)
تراجم رجال إسناد حديث رجم ماعز بن مالك من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا أبو كامل].
هو أبو كامل الفضيل بن حسين الجحدري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا يزيد بن زريع حدثنا خالد].
يزيد بن زريع مر ذكره.
وخالد هو ابن مهران الحذاء، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(498/8)
شرح حديث رجم ماعز بن مالك من طريق رابعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن سماك عن جابر بن سمرة قال: (رأيت ماعز بن مالك حين جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قصيراً أعضل، ليس عليه رداء، فشهد على نفسه أربع مرات أنه قد زنى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلعلك قبلتها؟ قال: لا والله إنه قد زنى الآخر، قال: فرجمه ثم خطب فقال: ألا كلما نفرنا في سبيل الله عز وجل خلف أحدهم له نبيب كنبيب التيس يمنح إحداهن الكثبة، أما إن الله إن يمكني من أحد منهم إلا نكلته عنهن)].
أورد أبو داود حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه في قصة ماعز رضي الله عنه، وأنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم واعترف مراراً بأنه قد زنى.
قوله: [(رأيت ماعز بن مالك حين جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قصيراً أعضل ليس عليه رداء)].
يعني: هذا وصف لـ ماعز أنه رجل قصير، ليس بالطويل، أعضل يعني: مشتد العضلات، أو عنده عضلات قوية، فهذا هو المقصود بالأعضل.
قوله: [(ليس عليه رداء، فشهد على نفسه أربع مرات أنه قد زنى)].
يعني: شهد على نفسه بأن قال: إني زنيت ويكررها أربع مرات.
قوله: [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلعلك قبلتها؟ قال: لا والله إنه قد زنى الآخر)].
يعني: اعتبر أن التقبيل زنى، أي: خشي أن يكون اعتبر ما ليس بزنى أنه زنى، كالتقبيل أو المباشرة أو اللمس أو ما إلى ذلك، ومعلوم أن الحد إنما يكون إذا حصل الجماع الذي لا خفاء فيه، والذي فيه الإيلاج، وأما ما يتعلق بالمباشرة فإن ذلك لا يكون فيه الحد، وإنما يكون فيه التعزير، ثم قال: إنه قد زنى الآخر يعني: يذم نفسه.
قوله: [(قال: فرجمه ثم خطب)].
يعني: أمر برجمه، والرسول صلى الله عليه وسلم ما باشر رجمه ولكنه أمر برجمه، ولهذا ينسب الفعل إليه؛ لكونه الآمر به وليس لكونه المباشر له، ولهذا الرسول قال: (ارجموه)، وهم ذهبوا به ورجموه، وقد مر أنه قال: ردوني إلى رسول الله، فإذاً: قوله: (رجمه) أي: أمر برجمه.
قوله: [(ثم خطب فقال: ألا كلما نفرنا في سبيل الله عز وجل خلف أحدهم له نبيب كنبيب التيس يمنح إحداهن الكثبة، أما إن الله إن يمكني من أحد منهم إلا نكلته عنهن)].
خطب عليه الصلاة والسلام وقال: ما بال الرجل إذا سافر للجهاد في سبيل الله ويخلف بعض الأشخاص الذين يوصونهم بأهاليهم فتحدثه نفسه بالسوء فيعطي الواحدة من نساء من سافروا للجهاد واستخلفوا ذلك الشخص الذي يكون قائماً بشئونهن ومشرفاً عليهن، وقاضياً لحوائجهن، يمنحها الكثبة يعني: المقدار من اللبن أو غيره، ثم يفعل بها الفاحشة ثم إنه قال: إن مكنني الله من أحد منهم لأجعلنه نكالاً لغيره، يعني: من حصل منه شيء من ذلك، وهذا فيه تهديد وتخويف حتى لا يقدم من تحدثه نفسه بسوء إلى فعل تلك الفاحشة التي هي من أعظم الفواحش وهي الزنا.
قوله: [(ألا كلما نفرنا في سبيل الله عز وجل خلف أحدهم له نبيب كنبيب التيس)].
خلف أحدهم يعني: غيره في أهله، ولهذا جاء في الحديث: (من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلف غازياً في أهله فقد غزا) معناه: أنه يقوم بالنيابة عنه في قضاء حوائجهم، والمحافظة عليهم، ودفع الشر عنهم، فيكون وكيلاً له يقوم مقامه، (يكون له نبيب كنبيب التيس) وهو الصوت الذي يحصل له من شدة الشهوة والرغبة في الجماع.
قوله: [(له نبيب كنبيب التيس يمنح إحداهن الكثبة، أما إن الله إن يمكني من أحد منهم إلا نكلته عنهن)].
يعني: جعلته نكالاً لغيره.(498/9)
تراجم رجال إسناد حديث رجم ماعز بن مالك من طريق رابعة
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو عوانة].
هو وضاح بن عبد الله اليشكري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سماك].
هو سماك بن حرب، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن جابر بن سمرة].
جابر بن سمرة رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهذا رباعي وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود رحمه الله.(498/10)
شرح حديث رجم ماعز بن مالك من طريق خامسة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى عن محمد بن جعفر عن شعبة عن سماك قال: سمعت جابر بن سمرة بهذا الحديث، والأول أتم، قال: (فرده مرتين) قال سماك: فحدثت به سعيد بن جبير فقال: (إنه رده أربع مرات)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وفيه: أنه رده مرتين، وعن سعيد بن جبير قال: أربع مرات، ولعل المقصود من ذلك أن مرتين صارت مع بعض، ومرتين مع بعض، فتكون أربع مرات، فيكون الأول فيه اختصار بمعنى: أنه ذكر المرتين الأوليين دون المرتين الأخريين، فلا ينافي ما جاء من أنه رده أربع مرات، فيكون جاء بعض الرواة فذكر المرتين الأوليين وترك ذكر المرتين الأخيرتين، وبعضهم ذكر الأربع.(498/11)
تراجم رجال إسناد حديث رجم ماعز بن مالك من طريق خامسة
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
هو محمد بن المثنى العنزي أبو موسى، الملقب الزمن، وهو مشهور بكنيته، ولهذا يأتي ذكره عند الحافظ ابن حجر عندما يذكر الشيوخ والتلاميذ يقول: وأبو موسى ولا يقول: محمد المثنى وإنما يذكر روى عن فلان وفلان وأبي موسى، فـ أبو موسى المراد به محمد بن المثنى؛ لأنه مشهور بكنيته، ولهذا يذكر بها اختصاراً عن الاسم واسم الأب ولقبه الزمن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، رووا عنه مباشرة وبدون واسطة، وهو من صغار شيوخ البخاري؛ لأنه توفي قبل وفاة البخاري بأربع سنوات؛ لأن البخاري توفي سنة مائتين وستة وخمسين ومحمد بن المثنى توفي سنة مائتين واثنتين وخمسين ومثله في ذلك محمد بن بشار ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، فإن هؤلاء الثلاثة محمد بن المثنى ومحمد بن بشار ويعقوب بن إبراهيم الدورقي من شيوخ أصحاب الكتب الستة وماتوا في سنة واحدة، وهم من صغار شيوخ البخاري الذي هو أول أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن جعفر].
محمد بن جعفر وهو الملقب بـ غندر البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن سماك قال: سمعت جابر بن سمرة].
سماك وجابر بن سمرة قد مر ذكرهما.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(498/12)
أثر سماك في تعريف الكثبة الواردة في حديث رجم ماعز، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الغني بن أبي عقيل المصري حدثنا خالد -يعني ابن عبد الرحمن - قال: قال شعبة: فسألت سماكاً عن الكثبة فقال: اللبن القليل].
أورد أبو داود هذا الأثر المقطوع عن سماك بن حرب وأن شعبة الذي روى عنه سأله عن الكثبة ما معناها؟ فقال: اللبن القليل، وهذا يقال له: مقطوع؛ لأنه متن انتهى إلى من دون الصحابي، وكل متن ينتهي إلى من دون الصحابي يقال له: مقطوع وهو غير المنقطع، فإن المنقطع من صفات الأسانيد، والمقطوع من صفات المتون، فسقوط بعض الرواة من الإسناد يقال له: منقطع، وأما المقطوع فهو: أن يكون الإسناد متصلاً وقد يكون منقطعاً، ولكن المقصود أنه انتهى إلى من دون الصحابي.
قوله: [حدثنا عبد الغني بن أبي عقيل المصري].
عبد الغني بن أبي عقيل المصري ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن خالد -يعني ابن عبد الرحمن -].
خالد بن عبد الرحمن صدوق له أوهام، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن شعبة عن سماك].
شعبة وسماك قد مر ذكرهما.(498/13)
شرح حديث رجم ماعز بن مالك من طريق سادسة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لـ ماعز بن مالك: (أحق ما بلغني عنك؟ قال: وما بلغك عني؟ قال: بلغني عنك أنك وقعت على جارية بني فلان؟ قال: نعم.
فشهد أربع شهادات فأمر به فرجم)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس، وأنه بلغه أنه حصل منه كذا وكذا، وقد جاء هو بنفسه، يعني: يكون هو جاء بنفسه فاستوضح صلى الله عليه وسلم منه، وأن هذا الذي بلغني عنك أنه صحيح فقال: نعم، وكرر ذلك أربع مرات يطلب منه أن يطهره، فأمر برجمه عليه الصلاة والسلام.
قوله: [(فشهد أربع شهادات فأمر به فرجم)].
ويكون الجمع بين الإتيان وأنه بلغه عنه: كأنه جاء والرسول قد بلغه ذلك من قبل فقال: أحق؟ قال: نعم، وكرر ذلك يطلب منه أن يطهره، فيكون معنى ذلك أن الرسول بلغه الخبر من قبل، ولم يطلبه، ولكنه جاء بنفسه يطلب إقامة الحد عليه ويطلب تطهيره، فالرسول صلى الله عليه وسلم أعرض عنه، ثم بعد ذلك شهد على نفسه أربع شهادات فأمر برجمه.
قوله: [حدثنا مسدد عن أبي عوانة عن سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس].
قد مر ذكر الإسناد.(498/14)
شرح حديث رجم ماعز بن مالك من طريق سابعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا نصر بن علي أخبرنا أبو أحمد أخبرنا إسرائيل عن سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنا مرتين فطرده، ثم جاء فاعترف بالزنا مرتين، فقال: شهدت على نفسك أربع مرات اذهبوا به فارجموه)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس من طريق أخرى، وفيه تفصيل المرات، وهناك سبق أن مر وقال: مرتين، وهنا قال: مرتين، ثم مرتين، فمعنى ذلك أنه جاءت مرتين على حدة مع بعض، ثم جاءت مرتين بعدها، فصار المجموع أربعاً، فلا ينافي ما جاء في بعض الروايات أنها مرتين، وفي بعضها أنها أربع؛ لأنه ذكر المرتين فيه اختصار، فلا تنافي بين ما جاء من ذكر المرتين وما جاء من ذكر الأربع، فإن بعضها ذكرت فيها الأربع مع بعض، وفي بعضها ذكرت الأربع مفرقة ثنتين ثنتين، وفي بعضها ذكرت الثنتين مختصرة، يعني: باختصار دون أن يضاف إليها المرتان الأخريان.(498/15)
تراجم رجال إسناد حديث رجم ماعز بن مالك من طريق سابعة
قوله: [حدثنا نصر بن علي].
هو نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا أبو أحمد].
هو محمد بن عبد الله بن الزبير الزبيري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا إسرائيل].
هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس].
قد مر ذكر الثلاثة.(498/16)
شرح حديث رجم ماعز بن مالك من طريق ثامنة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جرير حدثني يعلى عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ح وحدثنا زهير بن حرب وعقبة بن مكرم قالا: حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي قال: سمعت يعلى -يعني: ابن حكيم - يحدث عن عكرمة عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ ماعز بن مالك: لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت؟ قال: لا.
قال: أفنكتها؟ قال: نعم.
قال: فعند ذلك أمر برجمه) ولم يذكر موسى عن ابن عباس وهذا لفظ وهب].
أورد أبو داود حديث ابن عباس من طريق أخرى، فذكر طريقين: إحداهما مرسلة، عكرمة يضيف ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مرسل، والطريق الثانية: متصلة فيها ذكر عكرمة عن ابن عباس والتحويل جاء بعد نهاية الإسناد ثم رجع إلى الإسناد الثاني من أوله.
قوله: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ ماعز بن مالك: لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟)].
لما جاء إليه وقال: إنه زنى قال: (لعلك قبلت أو نظرت أو غمزت؟) يعني: لعله فهم أن ما ليس بزنا زنا، وظن أن التقبيل يكون زنا، وظن أن كونه نظر بشهوة زنا، أو كونه لمسها يكون زنا، وأنه يستحق عليه إقامة الحد، فكل ذلك يقول: لا، ثم بعد ذلك أفصح فقال: (أنكتها؟) والرسول صلى الله عليه وسلم ما كان من عادته أن يفصح، ولكنه كان يكني، ولكن لما كان الأمر فيه خطورة وشدة، والأمر ليس بالهين ذكره بالاسم الصريح، كل ذلك من أجل التحقق من أن الذنب الذي حصل يستحق عليه الرجم، وهو الزنا الحقيقي، فلهذا أمر برجمه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(498/17)
تراجم رجال إسناد حديث رجم ماعز بن مالك من طريق ثامنة
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني يعلى].
هو يعلى بن حكيم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم].
عكرمة عن النبي، وهذا مرسل؛ لأن التابعي إذا أضاف الشيء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يقال له: مرسل، وهذا اصطلاح المحدثين، وليس كما جاء في البيقونية: ومرسل منه الصحابي سقط.
فلو كان الساقط صحابياً فلا يضر؛ لأنه لو ذكر الصحابي وهو مبهم فهو معتبر وحجة؛ لأن الصحابة المجهول فيهم في حكم المعلوم، والمرسل من قبيل المردود ليس من أجل أن الساقط صحابي؛ لأنه لو كان ما سقط إلا الصحابي ما فيه إشكال، ولكن كان ضعيفاً أو مردوداً أو من قبيل المردود؛ لأن الساقط يحتمل أن يكون صحابياً وأن يكون تابعياً، وعلى فرض أنه تابعي يحتمل أن يكون ضعيفاً وأن يكون ثقة، فمن أجل ذلك رد المرسل، وأما لو كان السقوط للصحابي فقط فهذا لا يؤثر.
وهنا الطريق الثانية بينت أن الساقط هو صحابي، وهو عبد الله بن عباس، فإذاً: هذه الطريق المرسلة عرف الواسطة فيها، وأنه صحابي، وعلى هذا فتعريف صاحب البيقونية في أن المرسل ما سقط منه الصحابي هذا تعبير غير دقيق؛ لأن المرسل في اصطلاح المحدثين هو الذي يقول فيه التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، ويحتمل أن يكون واسطته صحابياً أو تابعياً، وإذا كان تابعياً يحتمل أن يكون ثقة وأن يكون ضعيفاً, وأما الصحابي فلا يحتاج إلى أن يضاف إليه كلام، وإنما الكلام والتعديل والتجريح يكون لغير الصحابة، أما الصحابي فيكفيه شرفاً أن يقال: أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن له صحبة.
وأما المرسل باصطلاح الفقهاء أو الاصطلاح العام فإنه يطلق على السقوط في الإسناد؛ لكون الراوي يروي عمن لم يعاصره أو من عاصره ولم يعرف أنه لقيه، وهذا يسمى المرسل الخفي.
وأما إن روى عمن لم يعاصره فإنه يكون مرسلاً واضحاً، فهو السقوط وهو أعم، ولهذا يأتي في بعض تراجم الرجال وهم متأخرون ليسوا من التابعين يقال: يرسل، أو أرسل عن فلان، معناه: أنه يطلق الإرسال على الانقطاع.
[ح وحدثنا زهير بن حرب].
ح التحويل أتى بها بعد نهاية الإسناد ثم رجع إلى إسناد جديد.
وزهير بن حرب هو أبو خيثمة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وهو من الذين أكثر عنهم الإمام مسلم رحمه الله؛ لأنه روى عنه ألفاً ومائتي حديث، وأكثر منه عند مسلم أبو بكر بن أبي شيبة؛ لأنه روى عنه ألفاً وخمسمائة وزيادة، فيعتبر أبو خيثمة زهير بن حرب ممن أكثر عنهم الإمام مسلم، حيث روى عنه ألفاً ومائتي حديث وزيادة، وقد أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[وعقبة بن مكرم].
عقبة بن مكرم ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[قالا: حدثنا وهب بن جرير].
هو وهب بن جرير بن حازم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبي].
هو جرير بن حازم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت يعلى -يعني ابن حكيم - يحدث عن عكرمة عن ابن عباس].
يعلى بن حكيم وعكرمة وابن عباس قد مر ذكرهم.
[قالا: ولم يذكر موسى عن ابن عباس وهذا لفظ وهب].
ولم يذكر موسى عن ابن عباس الذي هو الإسناد الأول.
وهذا لفظ وهب أي: الذي فيه الاتصال، وهو أعرف بحديث أبيه من غيره؛ لأنه يروي عن أبيه جرير.(498/18)
شرح حديث رجم ماعز بن مالك من طريق تاسعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أن عبد الرحمن بن الصامت ابن عم أبي هريرة أخبره: أنه سمع أبا هريرة يقول: (جاء الأسلمي نبي الله صلى الله عليه وسلم، فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراماً أربع مرات، كل ذلك يعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل في الخامسة فقال: أنكتها؟ قال: نعم.
قال: حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم.
قال: كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟ قال: نعم.
قال: فهل تدري ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً، قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني، فأمر به فرجم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت عنهما، ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجله، فقال: أين فلان وفلان؟ فقالا: نحن ذان يا رسول الله! قال: انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار، فقالا: يا نبي الله! من يأكل من هذا؟ قال: فما نلتما من عرض أخيكما آنفاً أشد من أكل منه، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينقمس فيها)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ماعز وأنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إن الأسلمي -وهو ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه ذكره هنا بنسبته، ولم يذكر اسمه ولا اسم أبيه - جاء نبي الله وقال: إنه زنى أربع مرات، يعني: ليس المقصود أنه زنى أربع مرات، وإنما المقصود من ذلك أنه شهد على نفسه أربع مرات، إذاً: المرات ترجع إلى الإخبار عن نفسه كما جاء ذلك مبيناً في الروايات، ولا يرجع إلى تكرار وتعدد الزنا.
قوله: [(جاء الأسلمي نبي الله صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراماً أربع مرات)].
يعني: شهد أربع مرات، وكلمة: (أربع مرات) ترجع إلى: شهد ولا ترجع إلى أصاب أو أتى.
قوله: [(كل ذلك يعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل في الخامسة فقال: أنكتها؟ قال: نعم)].
يعني: صرح باسم الجماع الذي لا يحتمل شيئاً آخر سواه، وكل هذا كما عرفنا من أجل التحقق من أن الذي حصل منه شيء يستحق عليه الحد، وأنه ليس شيئاً دون الحد مما يكون حكمه التعزير كالتقبيل واللمس والمباشرة بدون جماع، ثم أراد أن يستوضح من أن الجماع تم وأنه بالإيلاج، وأنه كما يدخل الميل في المكحلة وكذلك الرشا في البئر، أي: أنه حصل الإيلاج والجماع، ولم يكن ذلك مباشرة بحيث تمس البشرة البشرة.
قوله: [(قال: فهل تدري ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً)].
وهذا اللفظ ليس مثل ما تقدم من ذكر الرشا والمكحلة؛ لأن الإنسان يمكن أن يأتي من امرأته شيئاً دون الفرج ودون الإيلاج، وهو حرام على غير الزوج، وهذا اللفظ محتمل، ولكن الشيء الذي لا يحتمل قوله: (أنكتها؟) وقوله: (كما يدخل الميل في المكحلة)، أو يدخل الرشا في البئر.
قوله: [(فأمر به فرجم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت عنهما، ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجله فقال: أين فلان وفلان؟ فقالا: نحن ذان يا رسول الله! قال: انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار)].
وهذا كلام سيئ، كونهما يصفان الشخص بهذا الوصف الذي لا ينبغي، ولهذا اعتبر الرسول هذا غيبة، وأن هذا كلاماً يسوء من يقال فيه، فالرسول صلى الله عليه سكت حتى مروا بجيفة حمار قد ارتفعت يده من الانتفاخ والنتن، والميتة إذا انتفخت ترتفع القوائم؛ بخلاف ما إذا كانت لم يحصل منها الانتفاخ فإن الأرجل تكون منضمة بعضها إلى بعض، ولكن مع الانتفاخ وصل إلى هذا الحد، فقال: (أين فلان وفلان؟ قالوا: ها نحن، قال: انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار، قالوا: ومن يأكل من هذه؟ قال: ما نلتما من عرض أخيكما أعظم من هذا)، وهذا مثلما قال الله عز وجل: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]، أي: أنه مثل أكل الميتة.
قوله: [(والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينقمس فيها)].
ينقمس وينغمس بمعنى واحد، وهي بمعنى الغوص أو الاستمتاع والاستفادة من تلك الأنهار.(498/19)
تراجم رجال إسناد حديث رجم ماعز بن مالك من طريق تاسعة
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: أخبرني أبو الزبير].
هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن عبد الرحمن بن الصامت].
عبد الرحمن بن الصامت ابن عم أبي هريرة، وهو مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي.
[أنه سمع أبا هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(498/20)
شرح سنن أبي داود [499]
إن الإنسان مفطور على الخطأ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (كل ابن آدم خطاء) ولكن المطلوب منه أن يبادر بالتوبة من ذلك الخطأ ولا يستأنس له أو يتمادى فيه، بل يثوب، وذلك الذي قال فيه المصطفى عليه الصلاة والسلام: (وخير الخطائين التوابون).
وماعز بن مالك والغامدية ضربا مثلا أعلى للبشرية حين أتيا إلى النبي عليه الصلاة والسلام تائبين مستغفرين طالبين إقامة الحد عليهما وتطهيرهما من جريمة الزنا.(499/1)
تابع ما جاء في رجم ماعز بن مالك(499/2)
شرح حديث رجم ماعز بن مالك من طريق عاشرة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا أبو عاصم حدثنا ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير عن ابن عم أبي هريرة عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه زاد: واختلفوا علي، فقال بعضهم: ربط إلى شجرة، وقال بعضهم: وقف].
أورد أبو داود هذه الطريق لحديث رجم ماعز وهي والطريق التي قبلها فيهما عبد الرحمن بن الصامت ابن عم أبي هريرة، وهو ضعيف، فما كان من حديثه جاء متفقاً مع أحاديث أخرى فيكون له شواهد، وما كان منفرداً به فإنه يضعف به.
وقد مر في الحديث السابق ذكر القصة التي ساق متنها مطولاً، وبقي منه ما يتعلق بالطريق الثانية التي فيها ذكر الاختلاف، وأنهم اختلفوا في الهيئة التي كان عليها ماعز بن مالك حين رجم، هل هو قد ربط أو حفر له، أو أنه لم يحصل ربطه؟ وقد سبق أن مر أنه لم يكن مربوطاً ولا محفوراً له، وإنما كان مطلقاً، ولهذا هرب، ولو كان مربوطاً أو محفوراً له لم يتمكن من الهرب، فالصحيح في ذلك أنه كان مطلقاً وأنهم احتوشوه من جميع الجهات يرجمونه بالحجارة وغيرها، وأنه هرب منهم وكان ذلك بالمصلى الذي هو عند البقيع بين المسجد النبوي والبقيع، وهو مصلى الجنائز، وأنه هرب حتى أدركوه بالحرة فتم قتله برميه في الحرة، وقد كان رمي بالمصلى الذي هو عند البقيع، فالبداية كانت عند البقيع والنهاية التي كان بها موته وانتهاء حياته كانت بالحرة، وهنا ذكر أنه حصل الاختلاف في حاله وقت الرجم هل ربط أو وقف؟ والصحيح أنه لم يربط ولم يحفر له، وإنما كان واقفاً ورموه بالحجارة حتى قتلوه في آخر الأمر في الحرة.(499/3)
تراجم رجال إسناد حديث رجم ماعز بن مالك من طريق عاشرة
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا أبو عاصم].
هو الضحاك بن مخلد النبيل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، كنيته: أبو عاصم، ولقبه: النبيل، واسمه: الضحاك بن مخلد، وهو من كبار شيوخ البخاري الذين روى عنهم الثلاثيات؛ لأن الثلاثيات رواها عن بعض شيوخه وفيهم هذا الذي هو أبو عاصم، ومكي بن إبراهيم ومحمد بن عبد الله المثنى هؤلاء هم الذين روى عنهم الثلاثيات، وإذاً فهو من كبار شيوخه، ولهذا يروي عنه أبو داود بواسطة، ولا يروي عنه مباشرة، وأما البخاري فيروي عنه بلا واسطة، وهو من أتباع التابعين الذين أدركوا التابعين؛ لأن الإسناد الثلاثي الذي عند البخاري صحابي وتابعي وتابع تابعي فـ أبو عاصم النبيل هو من أتباع التابعين.
[حدثنا ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: أخبرني أبي الزبير].
هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عم أبي هريرة].
ابن عم أبي هريرة هو عبد الرحمن بن الصامت، وهو مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي.
وفيه هذا المقبول، وفيه عنعنة أبي الزبير.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(499/4)
شرح حديث رجم ماعز بن مالك من طريق حادية عشرة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني والحسن بن علي قالا: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله: (أن رجلاً من أسلم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنا فأعرض عنه، ثم اعترف فأعرض عنه، حتى شهد على نفسه أربع شهادات فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أبك جنون؟ قال: لا.
قال: أحصنت؟ قال: نعم.
قال: فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرجم في المصلى، فلما أذلقته الحجارة فر، فأدرك فرجم حتى مات، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيراً، ولم يصل عليه)].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، أن رجلاً من أسلم -وهو ماعز بن مالك الأسلمي - جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف بالزنا، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم حتى شهد على نفسه أربع شهادات، يعني: كرر ذلك أربع مرات، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أبك جنون؟) يعني: يريد أن يعرف هل هو سليم العقل؟ وأن هذا الاعتراف الذي حصل منه وهو في سلامة من عقله أو أن به جنوناً؟ وهذا من الاحتياط والتوثيق والاطمئنان، ولهذا جاء هنا أنه سأله: (أبك جنون؟)، وسأل قومه عنه: (هل به جنون؟)، وفي بعض الروايات سيأتي أمر من يستنكهه، يعني: يشمه هل فيه رائحة خمر؟ فكونه يسأله: هل به جنون؟ وكونه يستنكهه، وكونه يسأل عنه من يعرفه من قومه: هل به جنون؟ كل ذلك إنما هو احتياط منه؛ لأن الأمر خطير؛ ولأن الأمر يتعلق به رجم، وهي عقوبة من أكبر العقوبات التي جاءت بها الشريعة، وهي الرجم فيمن زنى وهو محصن.
ثم إنه بعد ذلك قال: (أحصنت؟) يعني: هل حصل الإحصان؟ وهل أنت متزوج؟ فقال: نعم، فأمر به فرجم؛ لأنه كان أقر على نفسه وهو محصن، فحده الرجم، ومعلوم أن الذي لم يحصن حده جلد مائة وتغريب سنة، والجلد جاء في القرآن في أول سورة النور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، والتغريب جاء في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(فلما أذلقته الحجارة فر، فأدرك فرجم حتى مات، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيراً ولم يصل عليه)].
يعني: فلما أصابته الحجارة بحدها وشعر بالألم هرب من شدة ما أصابه من هذه الحجارة، فأدركوه فقتلوه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيه خيراً ولم يصل عليه، وجاء في عدة روايات أنه لم يصل عليه، لكنه ما منع الصلاة عليه، ومعلوم أن ترك الصلاة على من ارتكب أمراً محرماً من أجل التخويف، ومن أجل زجر غيره، بحيث يعرف أن من له شأن ومكانة ومنزلة يتخلف عن الصلاة عليه؛ فيفوته شفاعته والصلاة عليه، يعني: هذا أمر خطير وليس بالهين، فيحرص الناس على ألا يقعوا في مثل هذا الذي وقع فيه؛ حتى لا تفوتهم تلك الشفاعة التي هي شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك غيره ممن يحرص على أن يكون من المصلين على الجنازة، فإذا امتنع أمثال هؤلاء عن الصلاة على العاصي من أجل أن يكون في ذلك ردع وزجر وتخويف، فذلك فيه اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وجاء في بعضها أنه صلى عليه، وقد صلى على المرأة فيكون معنى ذلك أن الإمام له أن يصلي وله ألا يصلي، والذي له منزلة له أن يصلي وله ألا يصلي، ولكن حيث يترتب على ذلك مصلحة وفائدة، وهو أن الناس يحذرون من الوقوع في الأمر المحرم.(499/5)
تراجم رجال إسناد حديث رجم ماعز بن مالك من طريق حادية عشرة
قوله: [حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني].
محمد بن المتوكل العسقلاني هو ابن أبي السري، وهو صدوق له أوهام كثيرة، أخرج له أبو داود.
[والحسن بن علي].
الحسن بن علي مر ذكره، وهو قرين لهذا العسقلاني؛ لأن كلاً منهما شيخ لـ أبي داود.
[قالا: حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، وهو صحابي جليل، أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(499/6)
إسناد حديث رجم ماعز بن مالك من طريق ثانية عشرة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو كامل حدثنا يزيد -يعني ابن زريع - قال: ح وحدثنا أحمد بن منيع عن يحيى بن زكريا وهذا لفظه عن داود عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: (لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجم ماعز بن مالك خرجنا به إلى البقيع، فوالله ما أوثقناه ولا حفرنا له، ولكنه قام لنا.
قال أبو كامل قال: فرميناه بالعظام والمدر والخزف، فاشتد واشتددنا خلفه حتى أتى عرض الحرة فانتصب لنا فرميناه بجلاميد الحرة حتى سكت قال: فما استغفر له ولا سبه)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، أن ماعز بن مالك رضي الله عنه لما زنى وأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمه خرجوا به إلى البقيع، وقد جاء في بعض الروايات أنه المصلى، ولا تنافي بين ذلك كما أشرت لذلك من قبل؛ لأن البقيع المقصود به قرب البقيع وليس في المقبرة، وإنما هو في المصلى، ومعلوم أنه قد يطلق على الشيء اسم ما يكون عنده وإن لم يكن فيه، واللفظ الآخر جاء في المصلى الذي هو ليس في البقيع وإنما هو دون البقيع، فرجموه هناك؛ فهرب.
قوله: [(فرميناه بالعظام والمدر والخزف)].
وهذا يدل على أن الرمي بالحجارة ليس بمتعين، وأنه لا يرمى إلا بها، بل يمكن أن يرمى بغير ذلك، كما رموه بالحجارة وبالخزف -وهو: الطين المتحجر الذي أحرق حتى صار فخاراً- وكذلك رموه بالمدر الذي هو عبارة عن طين يابس، فيرمونه بما أمكنهم، فتعين على أن الرمي لا يكون خاصاً بالحجارة بل يكون بالعظام وغيرها.
قوله: [(فاشتد واشتددنا خلفه حتى أتى عرض الحرة فانتصب لنا)].
(فاشتد) يعني: أسرع هارباً (واشتدوا خلفه) يعني: أسرعوا وراءه يتبعونه حتى أدركوه بالحرة (فانتصب لهم) يعني: وقف فرموه بأحجار الحرة (حتى سكت) يعني: حتى مات، وبهذا يتبين أن ما جاء في بعض الروايات من ذكر المصلى، والبقيع، والحرة، أنه لا تنافي بين ذلك، فبالنسبة للبقيع والمصلى المعنى واحد؛ لأن المصلى بجوار البقيع، وبالنسبة للحرة لم يكن بدئ الرمي بالحرة وإنما هرب إلى الحرة فأدركوه بها، فكان بدء الرمي في المصلى، ونهايته في الحرة، فما جاء بأنه كان بالحرة العبرة بالنهاية، وما كان في المصلى فالمعتبر البداية.(499/7)
تراجم رجال إسناد حديث رجم ماعز بن مالك من طريق ثانية عشرة
قوله: [حدثنا أبو كامل].
هو الفضيل بن حسين الجحدري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا يزيد -يعني ابن زريع -].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا أحمد بن منيع].
أحمد بن منيع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن زكريا].
هو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وهذا لفظه عن داود].
(وهذا لفظه) يعني: الطريق الثاني هو لفظ يحيى بن زكريا.
وداود بن أبي هند ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي نضرة].
هو المنذر بن مالك بن قطعة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي سعيد].
هو أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، واسمه: سعد بن مالك بن سنان، صحابي جليل، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(499/8)
إسناد حديث رجم ماعز بن مالك من طريق ثالثة عشرة، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مؤمل بن هشام حدثنا إسماعيل عن الجريري عن أبي نضرة قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وليس بتمامه، قال: ذهبوا يسبونه فنهاهم، قال: ذهبوا يستغفرون له فنهاهم، قال: هو رجل أصاب ذنباً حسيبه الله)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وهو مرسل، وفيه: (ذهبوا يسبونه فنهاهم، وذهبوا يستغفرون له فنهاهم وقال: إنه أصاب ذنباً حسيبه الله)، ولكن هذا مرسل ليس بمتصل؛ لأن أبا نضرة لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا زيادة بطريق مرسلة.
قوله: [حدثنا مؤمل بن هشام].
مؤمل بن هشام ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا إسماعيل].
هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم المشهور بـ ابن علية نسبة إلى أمه، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الجريري].
هو سعيد بن إياس الجريري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي نضرة].
أبو نضرة قد مر ذكره.(499/9)
شرح حديث (أن النبي استنكه ماعزاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن يعلى بن الحارث حدثنا أبي عن غيلان عن علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استنكه ماعزاً)].
أورد أبو داود حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استنكه ماعزاً) يعني: أنه أمر من يستنكهه ويشمه ليعرف هل شرب خمراً؟ لأنه سبق وأن سأله: هل هو مجنون؟ ثم سأل قرابته وقومه: هل هو مجنون؟ وكل ذلك للتحقق من سلامته، وصحة عقله، وأن هذا الاعتراف حصل مع صحة عقل وليس باختلال العقل.(499/10)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي استنكه ماعزاً)
قوله: [حدثنا محمد بن أبي بكر بن أبي شيبة].
هو محمد بن أبي بكر بن أبي شيبة، وهو ثقة، أخرج له أبو داود، والحافظ ابن حجر ما حكم عليه، ولكن أبو الأشبال وضعها بين قوسين وزادها وقال: كان في أمنية الحافظ أن يكتب ترجمته فقال في ترجمته: يأتي، ولكن نسي أن يكتبها فكتبناها حسب أمنيته، وقال محمد عوامة: محمد بن أبي بكر بن أبي شيبة، وهو الذي في التحفة، وهو الذي يساعد عليه رموز المزي في ترجمته محمد هذا، وترجمة يحيى بن يعلى في التهذيب، بل هو الذي يستفاد من ترجمتهما في تهذيب التهذيب أيضاً، ومحمد بن أبي بكر هذا قال عنه في الكاشف: لا يكاد يعرف، وكون أبي داود لا يروي إلا عن ثقة لا يسمح بتوثيقه كما فعل من عبث بتقريب التهذيب، وانظر ما كتبته في دراسات الكاشف، أما قول صاحب الخلاصة: موثق فقد يقبل منه على تجوز أيضاً.
لأنه لا يوجد لا في تهذيب الكمال ولا في تهذيب التهذيب شيء يفيد التوثيق.
وعلى كل: الشيخ ناصر صحح الحديث، لكن الاستنكاه لعله له شواهد، وجاء في مسلم بطوله وفيه: (فقام رجل فاستنكهه).
[حدثنا يحيى بن يعلى بن الحارث].
يحيى بن يعلى بن الحارث ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا أبي].
هو يعلى بن الحارث، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن غيلان].
هو ابن جامع، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن علقمة بن مرثد].
علقمة بن مرثد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن بريدة].
هو سليمان بن بريدة، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وما له إلا حديث واحد عند أبي داود.(499/11)
شرح حديث بريدة (كنا أصحاب رسول الله نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي حدثنا أبو أحمد حدثنا بشير بن مهاجر حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: (كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما، أو قال: لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما وإنما رجمهما عند الرابعة)].
أورد أبو داود حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، قال: (كنا أصحاب رسول الله نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما أو قال: لو لم يرجعا بعد اعترافهما)].
يعني: شك في أنهما لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما، يعني: هذا مثلما تقدم فيما مضى أن الرسول قال: (هلا تركتموه)، وليس المقصود من ذلك أنه يخلى سبيله، وإنما المقصود من ذلك أنه إن رجع عن اعترافه فإنه يقبل رجوعه، وكذلك أيضاً قد يكون عنده شبهة يذكرها فيعول على ذلك كما سبق أن مر، وقد سبق كلام الصحابي الذي قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما قال: (هلا تركتموه؟) من أجل الاستثبات، وأما في ترك الحد فلا، يعني: ليس معنى ذلك أنه ليس عليه حد، وإنما المقصود من ذلك أنه إن رجع عن اعترافه أو ذكر شبهة تدرأ عنه الحد فيقبل منه ذلك.
قوله: [(وإنما رجمهما عند الرابعة)].
يعني: بعد الاعتراف في المرة الرابعة، وهذا ضعفه الألباني ولعله بسبب بشير بن المهاجر الذي في إسناده.
والغامدية سيأتي أنها قالت له: (لا ترددني كما رددت ماعزاً فإني حبلى).
فالترداد بالنسبة لها قد حصل، ولكنها طلبت منه ألا يفعل كما فعل بـ ماعز لكن هل بلغت أربعاً؟ لا ندري!(499/12)
تراجم رجال إسناد حديث بريدة (كنا أصحاب رسول الله نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما)
قوله: [حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي].
أحمد بن إسحاق الأهوازي صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا أبو أحمد].
هو أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير الزبيري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا بشير بن مهاجر].
بشير بن مهاجر صدوق لين الحديث، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه].
عبد الله بن بريدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأبوه مر ذكره.(499/13)
شرح حديث الرجل الذي اعترف بنسبة ولد الزنا إليه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبدة بن عبد الله ومحمد بن داود بن صبيح قال عبدة: أخبرنا حرمي بن حفص قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن علاثة حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز أن خالد بن اللجلاج حدثه: أن اللجلاج أباه أخبره: (أنه كان قاعداً يعتمل في السوق فمرت امرأة تحمل صبياً فثار الناس معها وثرت فيمن ثار، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من أبو هذا معك؟ فسكتت فقال شاب حذوها: أنا أبوه يا رسول الله! فأقبل عليها فقال: من أبو هذا معك؟ قال الفتى: أنا أبوه يا رسول الله! فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض من حوله يسألهم عنه فقالوا: ما علمنا إلا خيراً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أحصنت؟ قال: نعم.
فأمر به فرجم، قال: فخرجنا به فحفرنا له حتى أمكنا، ثم رميناه بالحجارة حتى هدأ، فجاء رجل يسأل عن المرجوم فانطلقنا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: هذا جاء يسأل عن الخبيث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لهو أطيب عند الله من ريح المسك، فإذا هو أبوه فأعناه على غسله وتكفينه ودفنه، وما أدري قال: والصلاة عليه أم لا؟) وهذا حديث عبدة وهو أتم].
أورد أبو داود حديث اللجلاج صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان في السوق، وأنه مرت امرأة فثار الناس وثار معهم -يعني: تبعوها- فلما جاءوا عند النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (من أبو هذا معك؟ فسكتت) فسكتت ولم تجب شيئاً، فقام فتى وقال: أنا، يعني: هو الذي فعل ذلك، ثم أعاد السؤال مرة أخرى فأعاد ذلك الفتى الجواب، وأنه هو أبوه، وهنا ليس المقصود من ذلك الأبوة الشرعية، وإنما معناه أنه متخلق من مائه، فليست أبوة شرعية؛ لأن الزاني لا يكون أباً للولد من الزنا، وإنما يتخير له نسباً بأن يقال: فلان ابن عبد الله أو ابن عبد الرحمن أو ابن عبد العزيز أو غير ذلك، وإلا فإنه لا ينسب إليه، ولا يحصل الزاني ولداً بزناه، وإنما يحصل الخيبة ويحصل الحجر، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وللعاهر الحجر).
قوله: [(فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض من حوله يسألهم عنه فقالوا: ما علمنا إلا خيراً)].
يعني: المقصود به الاستثبات أبه جنون أو كذا؟ قالوا: ما علمنا به إلا خيراً.
قوله: [(فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أحصنت؟ قال: نعم.
فأمر به فرجم)].
فالرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (أحصنت؟)، قال: نعم فأمر به فرجم.
قوله: [(فخرجنا به فحفرنا له حتى أمكنا)].
(حتى أمكنا) يعني: أمكنا رميه، وهذا يخالف ما جاء فيما تقدم في قصة ماعز أنه قال: (والله ما حفرنا له وإنما قام لنا فضربناه بالخزف وكذا حتى أذلقته الحجارة فهرب فأدركناه بالحرة) فهذا فيه أنهم حفروا له، والمعروف أن الحفر يكون للنساء؛ لأنهن يحتجن إلى الستر بخلاف الرجل فإنه لا يحتاج إلى ذلك.
قوله: [(ثم رميناه بالحجارة حتى هدأ)].
يعني: حتى مات.
قوله: [(فجاء رجل يسأل عن المرجوم؟ فانطلقنا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: هذا جاء يسأل عن الخبيث)].
فجاء رجل يسأل عن المرجوم، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: جاء يسأل عن الخبيث، فالرسول صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم قولهم ذلك وقال: إنه عند الله ريحه كريح المسك.
قوله: [(لهو أطيب عند الله من ريح المسك)].
يعني: إن تلك الجناية التي قد حصلت منه قد سلم منها، وأنه قد طهر من ذلك الذي وقع فيه فلا يؤاخذ عليه مرة أخرى، وهذا ثناء عليه.
قوله: [(فإذا هو أبوه)].
يعني: كان ذلك الرجل الذي يسأل عنه هو أبوه.
قوله: [(فأعناه على غسله وتكفينه ودفنه، وما أدري قال: والصلاة عليه أم لا؟)].
يعني: قاموا مع أبيه بهذه الأمور التي هي غسله وتكفينه ودفنه، والصلاة عليه مشكوك فيها، ولكن كما هو معلوم كل من مات مسلماً فإنه يصلى عليه، ولكن ترك الصلاة عليه من بعض الناس الذين يؤثر تركهم للصلاة عليه ينبغي أن يحصل في بعض الأحيان؛ لما في ذلك من الزجر اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يترك الصلاة أحياناً على بعض أصحاب المعاصي، وذلك للزجر من الوقوع في مثل تلك المعصية.(499/14)
تراجم رجال إسناد حديث الرجل الذي اعترف بنسبة ولد الزنا إليه
قوله: [حدثنا عبدة بن عبد الله].
هو عبدة بن عبد الله الصفار، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[ومحمد بن داود بن صبيح].
محمد بن داود بن صبيح ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[قال عبدة: أخبرنا حرمي بن حفص].
حرمي بن حفص ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن علاثة].
محمد بن عبد الله بن علاثة صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز].
عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز صدوق يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن خالد بن اللجلاج حدثه].
خالد بن اللجلاج صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبيه].
هو اللجلاج، وهو صحابي، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي.
قوله: [وهذا حديث عبدة وهو أتم].
يعني: ليس حديث الشيخ الثاني الذي هو محمد بن داود، وهو في أول الإسناد قال عبدة: كذا.(499/15)
إيراد حديث الغامدية وماعز من صحيح مسلم
وهذا الحديث في صحيح مسلم، يقول الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن العلاء الهمداني حدثنا يحيى بن يعلى -وهو ابن الحارث المحاربي - عن غيلان -وهو ابن جامع المحاربي - عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: (جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! طهرني فقال: ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه، قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله! طهرني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه، قال: فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول الله! طهرني فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيم أطهرك؟ قال: من الزنا قال: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون فقال: أشرب خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أزنيت؟ فقال: نعم.
فأمر به فرجم، وكان الناس فيه فرقتين، قائل يقول: لقد هلك لقد أحاطت به خطيئته وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز، إنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده، ثم قال: اقتلني بالحجارة، قال: فلبثوا في ذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال: استغفروا لـ ماعز بن مالك قال: فقالوا: غفر الله لـ ماعز بن مالك قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم، قال: ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد فقالت: يا رسول الله! طهرني فقال: ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه فقالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك قال: وما ذاك؟ قالت: إنها حبلى من الزنا فقال: آنت؟ قالت: نعم.
فقال لها: حتى تضعي ما في بطنك قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد وضعت الغامدية فقال: إذاً لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه، فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه يا نبي الله! قال: فرجمها).
وهذا ليس فيه ذكر أنه حصل التكرار معها، وإنما الاعتراف الذي هو إخبار عن الحبل من الزنا.(499/16)
شرح حديث الرجل الذي اعترف بنسبة ولد الزنا إليه من طريق ثانية، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد ح وحدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي حدثنا الوليد جميعاً قالا: حدثنا محمد، وقال هشام: محمد بن عبد الله الشعيثي عن مسلمة بن عبد الله الجهني عن خالد بن اللجلاج عن أبيه رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم ببعض هذا الحديث].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وأشار إلى أن الحديث من هذه الطريق الثانية كان ببعض لفظ الحديث الأول، ومعناه أن الطريق الأولى التي ساقها أتم.
قوله: [حدثنا هشام بن عمار].
هشام بن عمار صدوق، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا صدقة بن خالد].
صدقة بن خالد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[ح وحدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي].
نصر بن عاصم الأنطاكي لين الحديث، أخرج له أبو داود.
[حدثنا الوليد].
هو الوليد بن مسلم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[جميعاً قالا: حدثنا محمد وقال هشام: محمد بن عبد الله الشعيثي].
محمد بن عبد الله الشعيثي صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[عن مسلمة بن عبد الله الجهني].
مسلمة بن عبد الله الجهني مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن خالد بن اللجلاج عن أبيه].
خالد بن اللجلاج وأبوه قد مر ذكرهما.(499/17)
شرح حديث (أن رجلاً أتى النبي فأقر عنده أنه زنى بامرأة سماها له)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا طلق بن غنام حدثنا عبد السلام بن حفص حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد: (عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً أتاه فأقر عنده أنه زنى بامرأة سماها له، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فسألها عن ذلك، فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها)].
أورد أبو داود حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.
قوله: [(أن رجلاً أتاه فأقر عنده أنه زنى بامرأة سماها له)].
أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقر أنه زنى بامرأة سماها له، فالرسول أرسل إليها فأنكرت فجلده وتركها.
قوله: [(فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فسألها عن ذلك، فأنكرت أن تكون زنت؛ فجلده الحد وتركها)].
يعني: جلده الحد لأنه بكر وليس ثيباً فكان حده الجلد، ومعلوم أن التغريب يكون معه أيضاً، وتركها لأنها لم تعترف، ولم يكن هناك شهود.(499/18)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رجلاً أتى النبي فأقر عنده أنه زنى بامرأة سماها له)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[عن طلق بن غنام].
طلق بن غنام ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد السلام بن حفص].
عبد السلام بن حفص وثقه ابن معين، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو حازم].
هو سلمة بن دينار الأعرج، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهل بن سعد].
هو سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(499/19)
شرح حديث (أن رجلاً زنى بامرأة فأمر به النبي فجلد الحد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا ح وحدثنا ابن السرح المعنى قال: أخبرنا عبد الله بن وهب عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر: (أن رجلاً زنى بامرأة فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فجلد الحد، ثم أخبر أنه محصن فأمر به فرجم)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر أنه زنى، فجلده، ثم أخبر بأنه أحصن فرجمه)، معناه: أنه جلده أولاً ورجمه ثانياً، وهذا فيه أبو الزبير عن جابر وهو مدلس، وفيه نكارة من جهة أن كونه جلده، وبعد ذلك أخبر أنه رجمه، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقيم الحد إلا بعد معرفة حال الشخص؛ لأنه كما سبق في بعض الأحاديث يسأل الشخص: هل أحصنت؟ يعني: إذا أخبر بأنه زنى فإنه لا يحكم فيه حتى يعرف أن حده الجلد أو الرجم، وإنما ذلك يمكن أن يصح إذا كان هو كذب وزعم أنه غير محصن، ثم بعد ذلك أخبر بأنه محصن أو ثبت أنه محصن فيتصور هذا، أما بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم فلا يتصور أنه يقيم عليه الحد وهو لا يعرف حاله، وإنما كما عرف من طريقته صلى الله عليه وسلم أنه يسأل عن الشخص هل هو محصن أو غير محصن؟ فإن كان محصناً أمر برجمه، وإن كان غير محصن أمر بجلده، والحديث ضعفه الألباني، ولعل ذلك بسبب أبي الزبير عن جابر، فهو مدلس وقد رواه بالعنعنة.(499/20)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رجلاً زنى بامرأة فأمر به النبي فجلد الحد)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثنا ح وحدثنا ابن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة، وهنا ذكر التحويل مع أنه ما ذكر إلا شيخين لاختلاف الصيغة، فإن قتيبة عبر بحدثنا وابن السرح عبر بأخبرنا، ولهذا أتى بحاء التحويل، وهذا كما عرفنا قد مر له نظائر كثيرة، وهو يدل على عناية المحدثين ودقتهم وحرصهم على الإتيان بالصيغ التي يأتي بها الرواة.
[أخبرنا عبد الله بن وهب].
عبد الله بن وهب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج عن أبي الزبير].
عبد الملك بن جريج المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وأبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس مر ذكره.
[عن جابر].
جابر مر ذكره، وفيه عنعنة أبي الزبير وابن جريج.(499/21)
شرح حديث (أن رجلاً زنى بامرأة فأمر به النبي فجلد الحد) موقوفاً من طرق أخرى، وتراجم رجال إسناده
[قال أبو داود: روى هذا الحديث محمد بن بكر البرساني عن ابن جريج موقوفاً على جابر].
ثم ذكر أنه روي من طرق أخرى وفيها اختلاف، يعني: الذي مر جاء مرفوعاً، وهنا جاء موقوفاً على جابر.
[ورواه أبو عاصم عن ابن جريج بنحو ابن وهب لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلاً زنى فلم يعلم بإحصانه فجلد، ثم علم بإحصانه فرجم)].
وهذا أيضاً فيه وقف.
[قال أبو داود: روى هذا الحديث محمد بن بكر البرساني].
محمد بن بكر البرساني صدوق قد يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ورواه أبو عاصم عن ابن جريج].
أبو عاصم مر ذكره، وابن جريج مر ذكره.(499/22)
شرح حديث (أن رجلاً زنى بامرأة فلم يعلم بإحصانه فجلد، ثم علم بإحصانه فرجم) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى البزاز أخبرنا أبو عاصم عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر: (أن رجلاً زنى بامرأة فلم يعلم بإحصانه، فجلد ثم علم بإحصانه فرجم)].
أورد الحديث من طريق أخرى، قال: (لم يعلم بإحصانه فجلد، ثم علم بإحصانه فرجم) وهذا كما قلت: لعله كذب بزعمه أنه غير محصن، فأقيم عليه الحد الأول، ثم لما علم إحصانه أقيم عليه الحد الثاني، ولكن الإسناد هو نفس الإسناد الأول، ففيه ابن جريج وأبو الزبير، وكل منهما قد عنعن.(499/23)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رجلاً زنى بامرأة فلم يعلم بإحصانه فجلد، ثم علم بإحصانه فرجم) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى البزاز].
محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى البزاز الملقب: صاعقة، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبي عاصم عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر].
وقد مر ذكرهم جميعاً.(499/24)
الأسئلة(499/25)
سبب ذكر أحاديث في ترجمة ماعز بن مالك لم يرد ذكره فيها
السؤال
ذكر المصنف: باب رجم ماعز بن مالك بينما الأحاديث الأخيرة لم ترد في ذكره؟
الجواب
كأنه أتى بها تبعاً؛ لأن أكثر الأحاديث جاءت في ماعز وتلك جاءت تبعاً.(499/26)
ذكر شواهد حديث (والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها)
السؤال
هل وردت شواهد للحديث الأول الذي فيه عبد الرحمن بن الصامت ابن عم أبي هريرة في قوله: (والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينقمس فيها)؟
الجواب
بعض الحديث له شواهد، فالذي له شواهد العبرة بالشواهد، والذي ليس له شواهد يكون جاء عن طريق هذا الشخص الذي هو مقبول.(499/27)
جواز الاستدلال بحديث (انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار) على ذم الغيبة
السؤال
هل يجوز الاستدلال على ذم الغيبة بحديث: (انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار فما نلتما من عرض أخيكما آنفاً أشد من أكل منه)؟
الجواب
كما هو معلوم الحديث بهذا الإسناد ضعيف، ولكن جاء في القرآن: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12] يعني: ذم الغيبة جاء في القرآن، وهذا المعنى الذي جاء فيه موجود في القرآن، إلا أن هذا جيفة حمار، وذاك أكل الميت.(499/28)
كيفية تغريب المرأة البكر إذا زنت
السؤال
الزانية غير المحصنة هل تغرب عاماً بعد جلدها؟
الجواب
أي نعم، تغرب ومعها وليها.(499/29)
حكم تعدد ألفاظ أحاديث ماعز بن مالك
السؤال
وردت أحاديث متعددة في ماعز بن مالك، فهل كل هذه الألفاظ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أم هو لفظ واحد؟
الجواب
معلوم أنه كغيره من الأحاديث الكثيرة يختلف باختلاف الرواة، فبعضها روي بالمعنى، وبعضها باللفظ، فكل أتى بما عنده، وهذا له شواهد كثيرة مثل قصة جابر، وما جاء فيها من اختلاف كثير، وكل ذلك على اختلاف الرواة، وأيضاً من حيث الرواية بالمعنى، فمعلوم أن الرواية بالمعنى سائغة، وإن كان الإتيان باللفظ هو المطلوب الذي لا ينبغي العدول عنه؛ لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم إذا عرف على حقيقته ولفظه فيعض عليه بالنواجذ، وتعقد عليه الخناصر، ويحرص عليه ويحافظ عليه، ولكن إذا تمكن الإنسان من معرفة المعنى ولم يتمكن من حفظ اللفظ فإنه يروي بالمعنى؛ لأن المقصود هو إثبات الشريعة وإثبات ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي لم يتمكن من حفظ لفظه وعرف معناه وأتقنه فإنه يؤتى به بالرواية بالمعنى.(499/30)
ترجيح عدم صلاة النبي على ماعز بن مالك
السؤال
ذكرتم أنه جاءت الرواية بالصلاة على ماعز والرواية بعدم الصلاة عليه، فما الراجح؟
الجواب
الألباني ذكر أن رواية الصلاة عليه جاءت في البخاري وقال: إنها شاذة، وكأن رواية الذين ذكروا أنه لم يصل عليه أكثر.
وما جاء في البخاري هو قوله: (فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيراً وصلى عليه) ثم قال بعدها: ولم يقل يونس وابن جريج عن الزهري: وصلى عليه، سئل أبو عبد الله هل قوله: فصلى عليه يصح أم لا؟ قال: رواه معمر، قيل له: هل رواه غير معمر؟ قال: لا.
انتهى.
وقال الألباني رحمه الله: رواه البخاري ومسلم، إلا أن البخاري قال: (وصلى عليه) وهي شاذة، فهل معمر لا يقوى على تحمل هذه الزيادة؟ لا أدري، ولكن لعله لكثرة الذين نفوا الصلاة عليه، وفي الجملة فالصلاة غير منفية؛ لأن كل مسلم يصلى عليه، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة في بعض الأحيان على بعض أصحاب المعاصي، بل وعلى صاحب الدين.(499/31)
ورود الصلاة على الغامدية في بعض الروايات
السؤال
هل ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على الغامدية؟
الجواب
ورد في الحديث: (ثم أمرهم فصلوا عليها، فقال عمر: يا رسول الله! تصلي عليها وقد زنت؟ قال: والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم) فإذاً: هو صلى عليها.(499/32)
الحكمة في الصلاة على الغامدية دون ماعز بن مالك
السؤال
ورد أن ماعزاً محصن والغامدية محصنة، فلماذا صلى عليها وترك الصلاة على ماعز؟
الجواب
لعله والله أعلم أنه في بعض الأحيان يترك من أجل الزجر.(499/33)
التعليق على ما ذكره صاحب عون المعبود من إثبات رواية الصلاة على ماعز
السؤال
ذكر صاحب العون رواية في إثبات أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى عليه في اليوم الثاني يقول: وفي رواية البخاري: (وصلى عليه)، وقد أخرجه عبد الرزاق أيضاً وهو في السنن لـ أبي قرة من وجه آخر عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف في قصة ماعز قيل: (يا رسول الله! أتصلي عليه؟ قال: لا.
قال: فلما كان من الغد قال: صلوا على صاحبكم، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس).
فهذا الخبر يجمع الاختلاف فتحمل رواية النفي على أنه لم يصل عليه حين رجم؟
الجواب
إذا ثبت الإسناد عند عبد الرزاق فيمكن أن يصير هناك جمع بين النفي والإثبات.
وهو يقول: وقد أخرجه عبد الرزاق أيضاً وهو في السنن لـ أبي قرة من وجه آخر عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف في قصة ماعز.
ولا أدري ما المقصود بالسنن هذه؟ وأبو قرة موسى بن طارق الزبيدي بفتح الزاي القاضي، ثقة يغرب، من التاسعة، أخرج له النسائي، فهو متأخر، فلا ندري هل حديثه موجود عند النسائي أو عند الترمذي لكن هذا أو هذا، أو أنه له مؤلف السنن؟!(499/34)
حكم اليتيم بعد الاحتلام
السؤال
في الحديث أن ماعزاً كان في حجر رجل من الصحابة فهل كان يتيماً؟
الجواب
كأنه كان في حجره في صغره ثم كبر وصار الوصف باعتبار ما مضى، وأما إذا بلغ فلا يتم بعد احتلام.(499/35)
حكم إقامة الحد على المحصن برميه بالرصاص
السؤال
الزاني المحصن لابد أن يقام عليه الحد بالرمي بالحجارة فلو قتله الحاكم بالسيف أو بالرصاص ألا يكون قد أقام عليه الحد؟
الجواب
الواجب هو فعل ما جاء في الكتاب من الآية المنسوخة، وجاء في السنة الثابتة من وجوه كثيرة أنه إنما يقتل بطريقة معينة، فيجب أن يؤتى بالطريقة المعنية الواردة.(499/36)
حكم سب من فعل كبيرة من الكبائر
السؤال
هل في الحديث دليل على أنه لا يجوز سب من ارتكب الكبائر؟
الجواب
الذي أقيم عليه الحد لا يسب بتلك المعصية التي أقيم عليه فيها الحد؛ لأن الحد كفرها وصار كأنه لم يفعلها، وأما من كان مرتكباً للكبائر وذكر من أجل التحذير منه أو من أجل بيان حاله في أمر من الأمور فلا بأس بذلك، والحدود -كما عرفنا- عند أهل السنة جوابر وزواجر، كما جاء في حديث عبادة بن الصامت: (من فعل شيئاً من ذلك فأقيم عليه الحد كان كفارة له، ومن ستره الله فكان أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه).(499/37)
حكم المرأة التي فعل بها الزنا
السؤال
في الحديث أن ماعزاً أقيم عليه الحد، والمرأة التي فعل بها ذلك هل يقام عليها الحد؟
الجواب
إذا اعترفت يقام عليها الحد، وأما إذا أنكرت فلا يقام عليها الحد، مثل ما مر بنا في قصة الرجل الذي قال: إنه زنى فقال: بمن زنيت؟ فقال: بفلانة، فأرسل إليها فأنكرت، فجلده وتركها، فهي إذا اعترفت أقيم عليها الحد وإن أنكرت يؤاخذ هو باعترافه وهي يعمل بإنكارها حيث لا بينة ولا اعتراف.(499/38)
حكم ربط الزاني المحصن عند الرجم
السؤال
هل يربط الرجل عند الرجم؟
الجواب
الذي يظهر أنه لا يربط؛ لأنه كما جاء في الحديث أنهم ما ربطوه وإنما حفروا له حفرة، فرموه وهرب، وإنما الحفر خاص بالمرأة.(499/39)
شرح سنن أبي داود [500]
إن الزنا معصية خطيرة وجرم شنيع، وقد سوى الشرع بين الرجل والمرأة في العقوبة، لكن فرق بين الزاني المحصن وبين البكر فجعل عقوبة البكر الجلد والتغريب، وجعل عقوبة المحصن الرجم حتى الموت، إلا أن المرأة عند الرجم تشد عليها ثيابها وتحفر لها حفرة؛ حتى لا تتكشف عندما ترجم.(500/1)
ما جاء في المرأة التي أمر النبي برجمها من جهينة(500/2)
شرح حديث رجم المرأة الغامدية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب المرأة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها من جهينة.
حدثنا مسلم بن إبراهيم أن هشاماً الدستوائي وأبان بن يزيد حدثاهم المعنى عن يحيى عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين: (أن امرأة -قال في حديث أبان: من جهينة- أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنها زنت وهي حبلى، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولياً لها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحسن إليها، فإذا وضعت فجئ بها، فلما أن وضعت جاء بها، فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم أمرهم فصلوا عليها، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! تصلي عليها وقد زنت؟ قال: والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها؟) لم يقل عن أبان: فشكت عليها ثيابها].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب المرأة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها من جهينة]، أي: المرأة الجهنية التي زنت وأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها، ومعلوم أن الأحاديث التي جاءت في الرجم متعددة، ومنها ما جاء في قصة ماعز وما جاء في غيره، وما جاء في قصة الجهنية وهي الغامدية، وما جاء في قصة امرأة الذي كان عنده العسيف، وكذلك أيضاً حديث عمر الذي فيه أنها جاءت في كتاب الله، وكذلك الحديث الذي فيه الجمع بين الجلد والرجم، فقد جاءت أحاديث كثيرة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على رجم المحصن.
أورد أبو داود حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: إنها زنت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أوليائها أن يحسن إليها، فلما وضعت أمر بها فشكت عليها ثيابها ورجمت)، والحديث فيه اختصار؛ لأنه جاء في غيره أنها كانت حبلى، وأنه أمر أن يحسن إليها، وأنها لما ولدت أمرها بأن تبقى حتى تفطم ولدها، ثم بعد ذلك أمر بها فرجمت.
فحديث عمران بن حصين رضي الله عنه يدل على رجم المحصن، وأن الرجم إذا كان هناك ما يمنع من إقامته في وقت معين فإنه ينتظر الوقت الذي يمكن إقامته فيه، كأن تكون المرأة حاملاً، سواءً كان حملها من زنا أو حملها من نكاح، فإنه ينتظر في رجمها الولادة، وإرضاع الطفل وفطمه، ثم بعد ذلك يقام عليها الحد، وذلك لئلا يجنى على من كان بريئاً وهو الجنين الذي في بطنها، فإن رجمها أو جلدها يؤثر على جنينها؛ ولهذا يؤخر إقامة الحد عليها حتى لا يتعدى إقامة الحد عليها إلى شخص آخر ألا وهو الجنين.
قوله: [عن عمران بن حصين رضي الله عنهما: (أن امرأة -قال في حديث أبان: من جهينة- أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنها زنت وهي حبلى)].
يعني: اعترفت بأنها زنت، وأنها حبلى، وهي بالإضافة إلى اعترافها هناك شيء زائد يدل على ذلك الاعتراف، وهو وقوع الحمل وأنه كان من زنا.
قوله: [(فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ولياً لها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحسن إليها فإذا وضعت فجئ بها)].
أحسن إليها يعني: في القيام بها، وصد العدوان عنها لو أراد أحد من قبيلتها أن يعتدي عليها؛ لأنه قد يعتدي عليها أحد من قبيلتها لما في فعلها من العار عليهم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بصيانتها والمحافظة عليها حتى تلد وحتى تفطم ولدها، وبعد ذلك يقام عليها الحد.
قوله: [(فلما أن وضعت جاء بها فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها)].
وقد جاء بيان ذلك في بعض الروايات الأخرى التي فيها أنه أخر ذلك حتى تفطم ولدها؛ لأنه بحاجة إليها، وإذا كان محتاجاً إلى رضاعها ولا سبيل له إلى عيشه إلا بذلك فإنها تبقى ويؤخر رجمها حتى تفطمه وحتى يستغني عن رضاعها وعن لبنها.
قوله: [(فشكت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم أمرهم فصلوا عليها)].
يعني: شدت عليها ثيابها حتى لا يحصل لها تكشف عند الرجم، وعند اضطرابها نتيجة ذلك، فهذه هي فائدة كونها تشد عليها ثيابها، ثم أمرهم فصلوا عليها، فدل هذا على أن الذي يقام عليه الحد أنه يصلى عليه، وكل مسلم يموت فإنه يصلى عليه سواءً كان عليه حد أو ليس عليه حد، ولو كان من العصاة، ولكن يمكن أن يتأخر الإمام أو من له أهمية ومنزلة إذا كان في ذلك ردع للناس عن الوقوع في مثل ذلك العمل الذي تركت الصلاة عليه من أجله من بعض من لهم شأن ومنزلة.
قوله: [(فقال عمر: يا رسول الله! تصلي عليها وقد زنت؟! قال: والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها؟!)].
ثم إن عمر رضي الله عنه لما صلوا عليها وصلى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتصلي عليها وقد زنت؟ وذلك لاستعظامهم الزنا وأنه أمر خطير وعظيم، فحصل منهم استغراب من أن الرسول يصلي عليها، فالرسول صلى الله عليه وسلم بين لهم أنها تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، ثم قال: (وهل رأيت أفضل من أن جادت بنفسها؟) معناه: أرخصت نفسها وبذلتها لله من أجل أن تطهر من الجرم الذي وقعت فيه، ومن الذنب الذي حصل لها، وكان بإمكانها أن تستتر بستر الله، ولكنها أرادت أن يحصل لها تطهير من هذا الذنب الذي قد حصل لها؛ فإذاً: دل هذا على أنه يصلى على من أقيم عليه الحد، ويصلى على كل مسلم، ثم عرفنا فيما مضى أن الحدود جوابر تجبر النقص، وأن الإنسان إذا عذب في الدنيا بعقوبة فيها حد فإنه لا يعذب على ذلك في الآخرة، بل هذا هو نصيبه من العذاب بهذه الجناية، أو بهذه الجريمة التي حصلت منه؛ لأن الحدود كفارات كما ثبتت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(500/3)
تراجم رجال إسناد حديث رجم المرأة الغامدية
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن هشاماً الدستوائي].
هو هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأبان بن يزيد].
هو أبان بن يزيد العطار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن يحيى].
هو يحيى بن أبي كثير اليمامي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قلابة].
هو أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبو المهلب].
وهو عم أبي قلابة، وهو أبو المهلب الجرمي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمران بن حصين].
عمران بن حصين أبي نجيد رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي جليل، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[لم يقل: عن أبان فشكت عليها ثيابها].
يعني: طريق أبان ليس فيها فشكت عليها ثيابها وإنما هي من طريق رفيقه وقرينه هشام الدستوائي.(500/4)
أثر الأوزاعي في تفسير (فشكت عليها ثيابها) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي حدثنا الوليد عن الأوزاعي قال: (فشكت عليها ثيابها) يعني: فشدت].
وهذا أثر مقطوع ينتهي إلى الأوزاعي، وهو تفسير لشكت، وأن المقصود بذلك ربطت وشدت، والمقطوع هو المتن الذي ينتهي إسناده إلى من دون الصحابي، فيقال له: مقطوع.
قوله: [حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي].
محمد بن الوزير الدمشقي ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا الوليد].
هو الوليد بن مسلم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(500/5)
شرح حديث رجم المرأة الغامدية من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عيسى بن يونس عن بشير بن المهاجر حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه: (أن امرأة -يعني: من غامد- أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني قد فجرت، فقال: ارجعي، فرجعت، فلما أن كان الغد أتته فقالت: لعلك أن تردني كما رددت ماعز بن مالك؟ فوالله إني لحبلى، فقال لها: ارجعي، فرجعت، فلما كان الغد أتته فقال لها: ارجعي حتى تلدي، فرجعت، فلما ولدت أتته بالصبي فقالت: هذا قد ولدته، فقال لها: ارجعي فأرضعيه حتى تفطميه، فجاءت به وقد فطمته وفي يده شيء يأكله، فأمر بالصبي فدفع إلى رجل من المسلمين، وأمر بها فحفر لها، وأمر بها فرجمت، وكان خالد فيمن يرجمها، فرجمها بحجر فوقعت قطرة من دمها على وجنته فسبها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا خالد! فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، وأمر بها فصلى عليها ودفنت)].
أورد أبو داود حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه: أن امرأة من غامد، وفي رواية: من جهينة قال بعض أهل العلم: إنهما قصتان، فقصة الغامدية غير قصة الجهنية، وبعضهم قال: إنها قصة واحدة، والمرأة هي واحدة نسبت إلى جهينة في بعض الأحاديث، ونسبت إلى غامد في بعض الأحاديث، وكل من غامد وجهينة من قحطان، أي: من القبائل اليمنية، وليسوا من القبائل العدنانية، وبعضهم قال: إن غامداً هم من جهينة.
وقد قال أبو داود بعد تخريج الحديث: غامد وجهينة وبارق شيء واحد، يعني: أن المرأة هي واحدة، وهي جهنية وغامدية؛ لأن جهينة وغامداً شيء واحد، فهم من أصل واحد ومن قبيلة واحدة، ومنهم من يقول: إن غامداً من جهينة.
قوله: [(أن امرأة من غامد أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني قد فجرت فقال: ارجعي فرجعت، فلما كان الغد أتته فقالت: لعلك أن تردني كما رددت ماعز بن مالك)].
يعني: هذه المرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: إنها فجرت يعني: زنت فقال لها: ارجعي فلما رجعت وجاءت من الغد قالت: لعلك تريد أن تردني كما رددت ماعزاً؟ ومرادها من ذلك أنها تختلف عن ماعز لأن في بطنها ولداً، وأنها قد حملت من الزنا، وهذا بخلاف الرجل، فإنه ما عنده إلا الاعتراف، وأما هي فإن عندها اعترافاً وشيئاً آخر وراء الاعتراف، وهو أن في بطنها ولداً بسبب الزنا، فقالت: لعلك تريد أن تردني كما رددت ماعزاً.
ثم ينبغي أن يعلم أنه لا علاقة لـ ماعز بـ الغامدية، وأن قولها: كما رددت ماعزاً لا يدل أنه هو الذي زنى بها، فقد عرفنا أن ماعزاً زنى بجارية من الحي من قبيلته التي هي أسلم، فلا يقال: إن قولها: كما رددت ماعزاً يدل على أن مسألتهما واحدة، بل قصته غير قصتها، وليس زناه بها، وإنما زنى ماعز بن مالك بجارية من حيه وقبيلته.
وأما الغامدية فإنما أرادت أن تذكر أن ماعزاً يختلف عنها؛ لأن ماعزاً رجل ليس عنده إلا الاعتراف، وأما هي فعندها الاعتراف، وعندها شيء أكثر من الاعتراف، وهو الولد الذي في بطنها من الزنا، ومعلوم أن الولد لا يأتي إلا من نكاح أو سفاح، وهو لم يأت هنا من نكاح، فإذاً: هو سفاح، فاعترفت أنها زنت وأنها حامل من الزنا.
قوله: [قالت: (لعلك أن تردني كما رددت ماعز بن مالك؟ فوالله إني لحبلى! فقال لها: ارجعي، فرجعت، فلما كان الغد أتته فقال لها: ارجعي حتى تلدي، فرجعت، فلما ولدت أتته بالصبي فقالت: هذا قد ولدته، فقال لها: ارجعي فأرضعيه حتى تفطميه، فجاءت به وقد فطمته وفي يده شيء يأكله، فأمر بالصبي فدفع إلى رجل من المسلمين وأمر بها فحفر لها)].
ثم إن المرأة لما رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بأنها حبلى فقال لها: (ارجعي حتى تلدي) يعني: انتظري حتى تلدي، لأنه لا يقام الحد عليها وهي حامل؛ لأن إقامة الحد عليها يتعدى إلى الجنين فيموت تبعاً لها، وهي نفس أخرى لا علاقة لها بالجريمة، وإن كانت هي نتيجة للجريمة؛ لكن لا علاقة لها من حيث الجرم، وإنما الذي حصل منه الجرم هو الذي يعاقب، والذي ما حصل منه جرم لا عقاب عليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرها أن تنتظر حتى تلد ما في بطنها، ولما جاءت إليه بعد أن ولدته قالت: هذا الولد أتيت به، قال: ارجعي حتى تفطميه، فرجعت وأرضعته، ثم جاءت به وبيده شيء يأكله، يعني: إشارة إلى أنه قد استغنى عن اللبن، وأنه يأكل الطعام، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن يحفر لها حفرة، وهذا يدل على أن المرأة يحفر لها حفرة، حتى يكون أستر لها، فأمر بها فرجمت وهي في حفرتها حتى ماتت، ثم أمر بالصلاة عليها وصلى عليها صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [(وأمر بها فرجمت وكان خالد فيمن يرجمها، فرجمها بحجر فوقعت قطرة من دمها على وجنته فسبها)].
وكان خالد بن الوليد رضي الله عنه من جملة الذين رجموها، ولما رجمها وقعت قطرة من دمها على وجنته يعني: طار الدم وانتشر حتى وصل إليه ووقع على وجنته فسبها.
قوله: [(فقال: مهلاً يا خالد! فوالذي نفسي بيده! لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له)].
يعني: لا تسبها فإنها تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، وهذا يدلنا على خطورة المكس، وعلى خطورة عقوبة صاحب المكس، وهو الذي يأخذ الضرائب من الناس في غير حق، فإنه يكثر خصومه يوم القيامة، ويكثر الآخذون من حسناته يوم القيامة؛ لكونه قد ظلمهم، وقد جاء في حديث المفلس الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس الذي لا درهم عنده ولا متاع)، أرادوا مفلس الدنيا، وهو عليه الصلاة والسلام أراد مفلس الآخرة، فقال: (المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وحج، ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، فيعطى لهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرح عليه ثم طرح في النار)، فهو يدل على شدة عقوبته، وعلى عظم جرمه، وذلك لكثرة خصومه وكثرة من ظلمهم، وأنهم يخاصمونه يوم القيامة ويأخذون من حسناته أو يطرح عليه من سيئاتهم، ولهذا مثل به النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(مهلاً يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، وأمر بها فصلى عليها ودفنت)].
يعني: هو صلى عليها ودفنت، وهذا يدل على جواز الصلاة على مرتكب الكبيرة إذا أقيم عليه الحد أو لم يقم عليه الحد، كل ذلك يصلى عليه، وكل مسلم يصلى عليه، وإنما يمكن أن يتأخر بعض الناس الذين تأخرهم يؤثر على الناس، ويكون سبباً في بعدهم عن الوقوع في مثل ذلك الذنب.(500/6)
تراجم رجال إسناد حديث رجم المرأة الغامدية من طريق ثانية
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي].
إبراهيم بن موسى الرازي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا عيسى بن يونس].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بشير بن المهاجر].
بشير بن المهاجر صدوق لين الحديث، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الله بن بريدة].
هو عبد الله بن بريدة بن الحصيب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(500/7)
شرح حديث (أن النبي رجم امرأة فحفر لها إلى الثندوة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن زكريا أبي عمران قال: سمعت شيخاً يحدث عن ابن أبي بكرة عن أبيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم امرأة فحفر لها إلى الثندوة).
قال أبو داود: أفهمني رجل عن عثمان.
قال أبو داود: قال الغساني: جهينة وغامد وبارق واحد].
أورد أبو داود حديث أبي بكرة رضي الله عنه: (أن النبي رجم امرأة فحفر لها إلى الثندوة) يعني: إلى ثديها، وهو يدل على الحفر، والحفر دل عليه الحديث السابق؛ وذلك لأنه يكون أستر لها وأمكن في عدم هروبها أو تكشفها.
وقد تكون شدت عليها ثيابها، يعني: ربطت عليها، ووضعت في حفرة، ولكنها ما دفنت فيها، والمقصود من ذلك حتى لا تتمكن من الفرار؛ لأنها لو وضعت في حفرة إلى ثديها فإنها لن تستطيع الخروج.(500/8)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي رجم امرأة فحفر لها إلى الثندوة)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا وكيع بن الجراح].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زكريا أبي عمران].
زكريا أبو عمران هو زكريا بن سليم، وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[قال: سمعت شيخاً يحدث عن ابن أبي بكرة].
شيخ يحدث عن ابن أبي بكرة وهذا الشيخ مبهم.
وابن أبي بكرة هو عبد الرحمن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو نفيع بن الحارث، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: أفهمني رجل عن عثمان].
يعني: كأنه ما أتقن اللفظ من عثمان، ولكنه أفهمه رجل عنه، بحيث إنه كان الأمر ملتبساً عليه، فاستفهم من شخص آخر سمع منه عن عثمان، يعني: أن ما سمعه من عثمان ليس متحققاً منه، وإنما فيه شيء من الخفاء فأوضحه له رجل آخر.
فلفظ (الرجل) مبهم، ثم أيضاً الرجل المبهم الذي هو الشيخ الذي يروي عن ابن أبي بكرة، ولكن لفظ الحفر جاء في الحديث الذي قبله فهو شاهد له.
[قال أبو داود: قال الغساني: جهينة وغامد وبارق واحد].
يعني: أنها قبيلة واحدة، وأنهم يرجعون إلى أصل واحد، وهذا يريد أن يبين أن قصة الغامدية وقصة الجهنية لا فرق بينهما وهما قصة واحدة، فوصفت بأنها جهنية في بعض الأحاديث، ووصفت بأنها غامدية في بعض الأحاديث، وبارق ليس لها علاقة فيما يتعلق بحديث المرجومة هذه، ولكن أراد أن يبين أن هذه القبائل الثلاث كلها ترجع إلى قبيلة واحدة.
والغساني هو أبو بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.(500/9)
شرح حديث (أن النبي رجم امرأة فحفر لها إلى الثندوة) من طريق أخرى
[قال أبو داود: حدثت عن عبد الصمد بن عبد الوارث أنه قال: حدثنا زكريا بن سليم بإسناده نحوه زاد: (ثم رماها بحصاة مثل الحمصة ثم قال: ارموا واتقوا الوجه، فلما طفئت أخرجها فصلى عليها) وقال في التوبة نحو حديث بريدة)].
أورد أبو داود حديث ابن أبي بكرة من طريق أخرى وفيه: (ثم رماها بحصاة مثل الحمصة).
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ برميها، وأنه رماها بحصاة مثل الحمصة، فبدأ بالرمي وهم رموا وراءه، ولكن هذا غير ثابت، والإمام ليس بلازم أنه يباشر الرمي وإنما يأمر به، وإن كان بعض أهل العلم قال: إنه يستحب له أن يباشر وأن يشارك فيه، ولكن الأمر في ذلك واسع، إن شارك شارك، وإن لم يشارك فالأمر ليس بلازم، ولكن كون الرسول شارك وأنه رماها بحصاة مثل الحمصة، فإن هذه الحجرة الصغيرة التي تساوي هذه الحبة الصغيرة التي يقال لها الحمصة لا تؤثر، فالحديث ضعيف وليس هناك ما يشهد له، والذي حدث أبا داود مجهول غير معروف؛ لأنه قال: حدثت، ففيه انقطاع، وفيه أيضاً ذلك الشخص المقبول الذي هو زكريا أبو عمران الذي سبق أن مر وهو زكريا بن سليم، وفيه أيضاً الشيخ المبهم، يعني: فيه ثلاث علل وليس له شواهد.(500/10)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي رجم امرأة فحفر لها إلى الثندوة) من طريق أخرى
[قال أبو داود: حدثت عن عبد الصمد بن عبد الوارث].
عبد الصمد بن عبد الوارث صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زكريا بن سليم بإسناده نحوه].
زكريا بن سليم مر ذكره وهو زكريا أبو عمران.(500/11)
الجمع بين قوله: (فحفر لها إلى الثندوة) وقوله: (ارموا واتقوا الوجه)
قال في هذا الحديث: (ارموا واتقوا الوجه)، وفي الحديث السابق: (فحفر لها إلى الثندوة)، ومن المعلوم أنه إذا حفر لها إلى الثدي لم يبق إلا الرأس بما فيه من الوجه.
على كل: ما دام أنه إلى الثندوة ففيه الرقبة، وفيه الظهر، وفيه قفاء الرأس، ثم أيضاً هذا اللفظ (ارموا واتقوا الوجه) ما جاء إلا من هذه الطريق التي فيها ضعف، فهذه الرواية ضعيفة؛ ولأن المقصود في هذا أنه ينتهي بالقتل، وسواءً جاء الرجم من قبل الوجه أو جاء من جميع الجهات، ثم أيضاً يصعب اتقاء الوجه للذي يرجم من جهات مختلفة، والإسناد كما عرفنا ضعيف.(500/12)
شرح حديث العسيف
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنهما أخبراه: (أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله، وقال الآخر وكان أفقههما: أجل يا رسول الله! فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي أن أتكلم قال: تكلم.
قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا -والعسيف الأجير- فزنى بامرأته، فأخبروني أن ما على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وإنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فرد إليك، وجلد ابنه مائة، وغربه عاماً وأمر أنيساً الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت رجمها، فاعترفت فرجمها)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله تعالى عنهما، وأنهما قالا: إن رجلين جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: اقض بيننا بكتاب الله، وقال الآخر وهو أفقه منه: نعم اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم فقال: تكلم، فقال: إن ابني كان عسيفاً على هذا -يعني: كان أجيراً عند هذا الرجل الذي هو خصمه- وأنه زنى بامرأته، وأنه أخبر بأن ابنه عليه الرجم، فأراد أن يخلص ابنه فدفع إلى ذلك الرجل الذي هو زوج المرأة مائة من الغنم ووليدة أي: جارية، ثم بعد ذلك سأل أهل العلم وقالوا: إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد عليك، وجلد ابنه مائة جلدة وغربه عاماً وقال: اغد يا أنيس -وهو رجل من أسلم- إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها).
هذا الحديث فيه إثبات الرجم على من كان محصناً، وإثبات الجلد مائة وتغريب عام لمن كان غير محصن، والحديث مشهور بحديث العسيف؛ لأنه جاء فيه: (إن ابني كان عسيفاً على هذا) وجاء بعض الرواة ففسر العسيف بأنه الأجير؛ لأن قوله: والعسيف: الأجير، هذا تفسير من بعض الرواة وبيان أن العسيف هو الأجير وزناً ومعنى.
فقال زوج المرأة: اقض بيننا بكتاب الله، والثاني قال: اقض بيننا بكتاب الله يعني: كما قال صاحبي، وائذن لي أن أتكلم، ثم إنهما قالا: (اقض بيننا بكتاب الله)، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يقضي إلا بكتاب الله، فكيف خاطباه بهذا الخطاب؟ قيل: إن المقصود من ذلك: أنه لا يقضي بينهما بشيء فيه صلح أو فيه رفق بهما جميعاً ويكون ذلك عن طريق التراضي بينهما، وإنما يريدان حكماً جازماً فاصلاً فيما لهما وما عليهما؛ ومعلوم أن القاضي قد يصلح بين المتخاصمين فيتفقان على شيء، وإذا حصل ذلك ولم ينته إلى حكم فإن ذلك سائغ، لكن لابد أن يكون برضا الطرفين، يعني: الحق لا يعدوهما، فإذا اصطلحا واتفقا فإن النتيجة أن كلاً منهما سيذهب مسروراً بسبب الصلح، وأما القضاء فإن واحداً منهما يكون مسروراً والثاني غير مسرور؛ لأنه قد حكم عليه، فهما أرادا أن يكون الحكم إنما هو بشيء يفصل بينهما، فصاحب الحق يأخذ حقه، والذي ليس له حق لا يكون له شيء.
قوله: [(اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي)] قيل: إن مما يشير إلى فقهه أدبه وكونه استأذن في الكلام؛ لأنه قال مثل ما قال صاحبه، وأنه وافق صاحبه على ما قال، ولكنه طلب أن يؤذن له في الكلام، فالرسول أذن له أن يتكلم فقال الرجل: إن ابني كان عسيفاً على هذا -كان أجيراً عند هذا- فزنى بامرأته، يعني: أن الزنا سببه كونه أجيراً عندهم، وهذا يدلنا على خطورة وجود الأجانب بين النساء في البيوت مثلما هو منتشر في هذا الزمان من التوسع في استقدام الخدم والخادمات، ووجود السائق مع البنات والنساء، والخادمة تكون مع البنين والرجال في البيت فيخلون بها؛ فيترتب على ذلك فساد، ويترتب على ذلك فتن، وإذا كان هذا حصل في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذا العسيف الذي كان عند امرأة ذلك الرجل، وأنه زنى بها بسبب الاتصال والاحتكاك الذي يكون بينهما فكيف بزماننا؟! فالواجب هو الاستغناء عنهم ما أمكن، وإذا اضطر الإنسان فليتخذ الحيطة لذلك بحيث لا يخلو ولا يتصل بالنساء، ولا يخاطب النساء، ولا تكون له أية علاقة بالنساء، وإنما علاقته تكون بالرجال، وإذا احتيج إلى أن يذهب بهن أو يذهب بالمرأة أو بالفتاة فيكون معها محرمها، وإذا كان أيضاً أمكن أن يكون الخادم معه زوجته فيركب هو وزوجته، ومعهم بنات أو نساء الرجل المستأجر فإن هذا يكون أسلم، أما حصول الاختلاط فإنه يترتب على ذلك الأضرار الكثيرة العريضة، ولهذا نسمع كثيراً من الحوادث التي تجري وما يحصل من إقامة الحدود بسبب تلك الجنايات التي تكون في البيوت من الخدم والخادمات، فإن الأضرار في ذلك كثيرة وعظيمة، ولهذا ينبغي أن يحذر التوسع أو الإقدام على استقدام الخدم إلا لضرورة، ومع الضرورة يكون الاحتياط، بحيث لا تقترب المرأة الخادمة من الرجال، ولا تخالطهم، والسائق أو الخادم لا يخالط النساء ولا يتصل بهن، وإنما يكون في معزل عنهن، فهن في جانب وهو في جانب.
قوله: [(إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته)] هذا فيه بيان سبب الزنا، وهو كونه عسيفاً عنده، فزنى بامرأته، والزنا -كما هو معلوم- يكون سهلاً فيما إذا كان الشخص في البيوت أو له علاقة واتصال بالنساء، وليس مثل الرجل الذي ليس له علاقة؛ لأن هذا يتسور الجدران أو يكسر الأبواب، وأما الأول فيدخل ويخرج بسهولة ويسر، فهو ليس أجنبياً بحيث يستغرب دخوله عليهن، وإنما يدخل ويخرج كأهل البيت، فإذا حصل الاختلاط بين الخادم ونساء البيت، أو بين الرجال من أهل البيت مع الخادمات فإنه يحصل بذلك الفتن، ويحصل بذلك الزنا، ويحصل بذلك الشرور التي لا حد لها.
قوله: [(إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم)] معناه: أنه يموت رجماً بالحجارة، فأراد أن يتخلص من الرجم، وألا يظهر أمره لئلا يرجم ولده، فاتفق مع زوج المرأة على أن يعطيه مائة من الغنم ووليدة، ويسلم من تبعة ذلك، ثم إنه سأل أهل العلم فأخبروه بأن ابنه ليس عليه رجم، وإنما عليه جلد وتغريب، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضى مع خصمه الذي أخذ منه الغنم والوليدة فقال والد العسيف: اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم فقال: تكلم، فقال: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله)، وكتاب الله عز وجل قيل: إن المراد به: حكم الله، ومعلوم أن كل ما جاء عن الله وعن رسوله فهو حكم الله سواء كان كتاباً أو سنة؛ لأن كلام الرسول هو من الله، وقد قال الله عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، فالسنة هي من الله عز وجل وليست من الرسول صلى الله عليه وسلم، فكلها أحكام الله وكلها من الله، إلا أن القرآن متعبد بتلاوته والعمل به، والسنة متعبد بالعمل بها ولم يتعبد بتلاوتها كما يتعبد بتلاوة القرآن.
وقيل: إن كتاب الله المقصود به: القرآن، وإن الرجم موجود فيه، وكذلك الجلد موجود فيه؛ لأن الجلد موجود في سورة النور، والرجم موجود في الآية التي نسخت وهي: (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم).
فإذاً: إن أريد بالكتاب القرآن فإن ذلك موجود فيه، وإن أريد بذلك الحكم مطلقاً فإن الكتاب والسنة كلها حكم الله وكلها في كتاب الله، ولهذا جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي قال فيه: (لعن الله النامصة والمتنمصة) فقال: ما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله، وكانت امرأة سمعت ذلك الكلام فجاءت إليه وقالت: يا أبا عبد الرحمن! إني قرأت المصحف من أوله إلى آخره ما وجدت فيه هذا الذي تقول، قال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، فالسنة هي من الله، وهي حكم الله عز وجل.
قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ثم قال: الوليدة والغنم رد عليك) مردودة عليك، يعني: هذا الصلح الذي حصل على باطل وعلى أمر محرم فإنه مردود ومنقوض، والغنم ترد على صاحبها، والوليدة ترد على صاحبها؛ لأن ذلك مبني على باطل ولم يكن مبنياً على حق.
وهذا يدل على أن الصلح إذا كان مخالفاً للكتاب والسنة فإنه ينقض ويرد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (والوليدة والغنم رد عليك)، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وهذا لفظ مسلم، وفي لفظ الصحيحين: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد).
قوله: [(وجلد ابنه مائة جلدة وغربه عاماً)]؛ لأن هذا هو حده وهذا حكمه في الكتاب قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، والتغريب في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأمر أنيساً الأسلمي أن يذهب إلى امرأة ذلك الرجل التي ادعي أنه زنى بها قال: (إن اعترفت فارجمها)، وهذا يدلنا على أن اعتراف شخص لا علاقة له بالشخص الآخر إلا أن يعترف، فلو أنكرت لا تؤاخذ ولا يقبل قوله عليها، وإنما تؤاخذ باعترافها أو بشهادة أربعة شهود، هذا هو الذي يك(500/13)
تراجم رجال إسناد حديث العسيف
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود].
هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الثقفي، وهو ثقة، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.
وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وكأن أبا داود رحمه الله أورد في هذا الباب حديث العسيف؛ لأن فيه رجم المرأة، فكأنه لما ترجم للجهنية أورد بعد ذلك ما يتعلق بالمرأة كما أنه فيما يتعلق بـ ماعز ذكر قصة الرجال الذين أقيم عليهم الحد فذكرهم في باب ما يتعلق بـ ماعز بن مالك، وذكر فيما يتعلق بالمرأة الجهنية قصة المرأة الأخرى التي هي صاحبة العسيف.(500/14)
الأسئلة(500/15)
سبب حضانة رجل من المسلمين لولد الغامدية دون زوجها
السؤال
لماذا دفع بالولد إلى رجل من المسلمين، أليس زوجها أحق بهذا الولد؛ لأنه ولد على فراشه؟
الجواب
لا يدرى هل لها زوج أو ليس لها زوج؟ لأنها لو كانت فراشاً لكان الولد للفراش، ولكن الذي يبدو أنها ليست ذات زوج، وإلا فإن الشرع يحافظ على الأنساب، ولهذا جاء في الحديث: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، كل ذلك محافظة على الأنساب وعدم ضياعها ما دام أن ذلك ممكن.
وقوله: (رجل من المسلمين) هذا لفظ عام قد يكون من أقرباء المرأة وقد يكون من غير أقربائها.(500/16)
توجيه اختلاف الروايات في حديث الغامدية
السؤال
في حديث رجم الغامدية ذكر في طريق أنها شدت عليها ثيابها ولم يذكر الحفر، وفي طريق أخرى ذكر الحفر ولم يذكر أنها شدت عليها ثيابها، وفي الحديث الأول قال: (والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة) وفي الحديث الثاني قال: (لو تابها صاحب مكس) هل يدل هذا على أن الوقائع متعددة؟
الجواب
يحتمل، ولكن ليس بعيداً أن تكون القصة واحدة ويكون الرسول قال هذا، وقال هذا، وكل أتى بما حفظ.(500/17)
جواز سؤال المفضول مع وجود الفاضل
السؤال
هل يستفاد من حديث العسيف جواز سؤال المفضول مع وجود الفاضل لأنه سأل الصحابة مع وجود الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
يمكن ذلك، وهذا لعله كان في مكان آخر، وأنه لم يكن متمكناً من الوصول إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس بلازم أن يكونوا كلهم معه في بلد واحد، يعني: بلدهم غير البلد الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه سأل من كان حوله، فالذي يظهر أن هذا هو السبب والله أعلم، وإلا فإنه إذا كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في البلد الذي هو فيه فهو المرجع للجميع.(500/18)
مشروعية الإجارة شرعاً وعقلاً
السؤال
يقول الخطابي: وفيه إثبات الإجارة والخلاف فيها قليل، وقد أبطلها قوم؛ لأنهم زعموا أنها ليست بعين مرئية ولا صفة معلومة؟
الجواب
نعم، الإجارة أجمع عليها العلماء، والذي يخالف فيها هم شُذاذ من أهل البدع، لا يعول على شذوذهم ولا على قولهم، وقد ذكر ذلك ابن رشد في بداية المجتهد ونهاية المقتصد قال: إنه خالف فيها أبو بكر بن الأصم وابن علية وقالوا: إن المعقود عليه المنفعة، والمنفعة ليست موجودة عند العقد، وأن المنفعة توجد شيئاً فشيئاً، ومعلوم أن هذا قول باطل، والناس لا يستغنون عن الإجارة، ومن الذي يستغني عن الإجارة؟! فلو كانت الإجارة ممنوعة لا تجوز فمعنى ذلك أن الإنسان لابد أن يصير عارفاً لكل المهن، وأنه لا يحتاج إلى غيره، فيكون خبازاً ويكون حداداً ويكون نجاراً ويخدم نفسه بنفسه، والناس إما أن يحسنوا إليه وأما أن يشتغلوا به بالمجان، وأما هو فيتعلم المهن كلها حتى لا يحتاج إلى الناس، وهذا غير ممكن وغير معقول، بل الناس يحتاج بعضهم إلى بعض، ويكون عند هذا ما يحتاج إليه هذا، وعند هذا ما يحتاج إليه هذا، والإجارة إنما هي على المنفعة، والمنفعة توجد شيئاً فشيئاً؛ لأن المنفعة لو كانت موجودة لصار بيعاً؛ لأن البيع يكون على الأعيان الموجودة ويتم تسليمها، وأما الإجارة فإنما تسلم العين للاستفادة منها، وبعد انتهاء الأجل ترجع إلى صاحبها.
فالذين قالوا بعدم جواز الإجارة من المبتدعة: أبو بكر بن كيسان الأصم المعتزلي وإبراهيم بن إسماعيل بن علية وليس ابن علية الإمام الذي هو إسماعيل، وإنما ابنه إبراهيم، وقد ترجم له الذهبي في الميزان وقال: جهمي هالك، الذي هو إبراهيم، ولهذا عندما يأتي في مسائل الفقه في الأمور الشاذة ذكر ابن علية فالمقصود به إبراهيم الذي هو ابن إسماعيل، وأبوه إسماعيل إمام محدث مشهور، كثيراً ما يأتي ذكره في الأسانيد، وأما ابنه إبراهيم فهذا هو المبتدع الذي قال عنه الذهبي في الميزان: جهمي هالك.(500/19)
سبب الذهاب إلى المرأة وسؤالها في حديث العسيف
السؤال
في الحديث أن المرأة لم تأت ولم تعترف، وإنما ذهبوا إليها وسألوها حتى اعترفت، وهذا بخلاف الأحاديث السابقة في التخفيف عن الناس والستر عليهم؟
الجواب
لكن هذا الأمر ظهر وانتشر، وأن هذا اعترف بأنه زنى، والأمر متوجه إليها فهي إما أن تكون متهمة أو بريئة، فإن كانت بريئة فإنه يقام عليه حد القذف؛ لأنه لم يثبت ذلك؛ لأنه لو اعترف أن فلاناً زنى بامرأة وهي منكرة، ولم يكن هناك شهود فإنه يقام عليه حد القذف وحد الزنا، فلما كان الأمر يتعلق بأمر أنيط بها، والحد أقيم عليه وهي معروفة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليها لتسأل وتخبر بالذي حصل وهو قذفها، فإن كانت بريئة فإنها تطالب بحد القذف، وإن كانت ليست بريئة واعترفت فإنه يقام عليها الحد كما أقيم على الذي زنى بها.(500/20)
أمر الغامدية بالانتظار حتى تضع حملها مطلق وليس مقيداً
السؤال
المرأة التي زنت وأمرت بالانتظار إلى أن تضع حملها هل هذا مطلق، أم أنه مقيد بما إذا كان الحمل ظاهراً وقد قربت الولادة؟
الجواب
الذي يبدو أنه مطلق؛ لأنه ما جاء شيء يدل على أن الحمل كبير أو صغير، وإنما أخبرت بأنها حبلى من الزنا، والحبل كما هو معلوم يكون بوجوده وبحصوله ولو كان في أول الأمر يقال: إنه حبل.(500/21)
جواز تأخير الحد عن المرأة الحامل إذا كان ذلك يؤثر عليها
السؤال
هل تؤخر إقامة الحدود على المرأة الحامل غير الرجم مثل الجلد أو قطع اليد؛ لأنه قد يؤثر على الجنين؟
الجواب
نعم، الشيء الذي فيه تأثير عليها فإنه يؤخر لئلا تحصل الجناية على شخص آخر.(500/22)
مطالبة الزاني بمبلغ مالي دون إقامة الحد عليه
السؤال
الآن لدينا بعض القبائل لا تقوم بحد الجلد أو الرجم، ولكن يطالبون الزاني أو وليه بمبلغ من المال فيكون كالردع عن قيامه بهذه الفاحشة؟
الجواب
هذا هو نفسه الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (الغنم والوليدة رد عليك).(500/23)
حكم الجمارك في الشرع
السؤال
هل ما يؤخذ في الجمارك يعتبر من المكس؟
الجواب
نعم، الجمارك هي من المكس، والإنسان لا يعرض نفسه للمخاطر بالتحايل عليها؛ لأنه لو تحايل ربما يعرض نفسه للإهانة، وإذا دفع شيئاً وهو مظلوم فهو إذا لم يحصله في الدنيا يحصله في الآخرة.(500/24)
شرح سنن أبي داود [501]
الزنا محرم في جميع الأديان، وكبيرة من كبائر الذنوب، وحده الرجم على المحصن، والجلد على البكر، وقد جاء اليهود إلى رسول الله بيهوديين زنيا يريدون من رسول الله أن يحكم فيهما ظناً منهم أنه سيكون حكماً خفيفاً، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم فيهما بحكم الله الوارد في شريعة الإسلام، والذي وافق ما عندهم في التوراة، فأمر بهما فرجما.(501/1)
ما جاء في رجم اليهوديين(501/2)
شرح حديث رجم اليهوديين اللذين زنيا
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في رجم اليهوديين.
حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: قرأت على مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال: (إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الزنا؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون، فقال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها فجعل أحدهم يده على آية الرجم، ثم جعل يقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفعها فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد! فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، قال عبد الله بن عمر: فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة)].
أورد أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة، وهي: [باب في رجم اليهوديين]، و (أل) للعهد الذهني، يعني: اليهوديين المعهودين في الأذهان، وهما اللذان حصل لهما الرجم وجاءت بذلك الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، وكانوا يريدون أن يحكم عليهما بحكم خفيف دون ذلك الذي في كتابهم وهو الرجم، فالرسول صلى الله عليه وسلم سألهم: (ما تجدون في التوراة؟) يعني: ما هو الحكم الذي جاء في التوراة في حق من زنى وكان محصناً؟ فقالوا: إنهم يجلدونهم ويفضحونهم، أي: الجلد والفضيحة، والفضيحة: كونهم يطاف بهم على حمر، بحيث يركب الحمار ويجعل وجهه مما يلي دبر الحمار ويسود وجهه، ويعلنون ذلك فيكون فضيحة.
فقال عبد الله بن سلام -وهو من اليهود وقد أسلم رضي الله عنه وأرضاه-: كذبتم، إن فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة -جاءوا بالتوراة- فجعل واحد منهم يقرأ من التوراة ووضع يده على آية الرجم، ولما جاء إلى الصفحة التي فيها آية الرجم وضع يده عليها فكان يقرأ ما قبلها وما بعدها، يعني: ما قبل الذي عليه يده وما بعده فقال له: ارفع يدك وإذا تحتها آية الرجم فقالوا: صدق، فعند ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أمر برجمهما فرجما، قال عبد الله بن عمر: فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة؛ أي: الرجل الزاني الذي زنى بها يحني عليها فتقع عليه الحجارة ولا تقع عليها.
فهذا الحديث يدل على أن الحكم في التوراة هو الرجم، كما أن الحكم الذي جاء في السنة وفي هذه الشريعة هو الرجم في حق من كان محصناً، والقرآن فيه ذلك الحكم في الآية المنسوخة، وفي الأحاديث الكثيرة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن حد الزاني المحصن هو الرجم.
وفيه دليل على أن اليهود إذا تحاكموا إلى المسلمين فإنهم يحكمون فيهم بحكم الله عز وجل، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما حكم بهذه الشريعة ولم يحكم بالتوراة، ولكن حكم التوراة مطابق لحكم الشريعة، والرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين ما هم عليه من إخفاء الحق وإظهار الباطل، وأنهم يغيرون ويبدلون، وكان ذلك الحكم الذي هو الرجم موجوداً في التوراة ولم يحصل فيه التغيير والتبديل، ولكنهم جحدوه وأنكروه وقالوا: إنه لا يوجد -أي: ذلك الحكم- مع أنه موجود، ثم بعد ذلك تبين وجوده وتبين كذبهم، وأنهم يحرفون الكلم ويبدلون شرع الله، وأنهم يأتون بأحكام من عند أنفسهم ويتركون ما أنزل الله عز وجل عليهم في كتابهم الذي هو التوراة المنزلة على موسى عليه الصلاة والسلام.
قوله: [عن ابن عمر قال: (إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الزنا؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون، فقال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فجعل أحدهم يده على آية الرجم، ثم جعل يقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفعها فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد! فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما.
قال عبد الله بن عمر فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة)].
وهنا مسألة وهي: هل شرع من قبلنا هو شرع لنا؟ فنقول: هذه المسألة فيها تفصيل: فما كان في شرع من قبلنا إذا جاء في شرعنا ما يدل على أنه شرع لنا فهو شرع لنا من أجل أن شرعنا جاء به، وليس من أجل أنه موجود في التوراة أو في الإنجيل، ولكن من أجل أن شرعنا جاء به، فيكون ذلك الحكم الذي في شرع من قبلنا هو أيضاً موجود في شرعنا، فهو لنا بحكم شرعنا كما في الرجم، فإنه شرع من قبلنا وهو في شرعنا، وكذلك القصاص: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45]، فهذا موجود في شرع من قبلنا وقد جاء في شرعنا أنه لنا، فإذاً: ما كان في شرع من قبلنا إن جاء في شرعنا ما يدل على أنه شرع لنا فهو شرع لنا، وإن جاء في شرعنا ما يدل على أنه شرع لهم وليس شرعاً لنا فإنه لا يكون لنا، وإن كان سكت عن ذلك فهذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم: فمنهم من قال: بأنه يكون شرعاً لنا؛ لأنه ما ذكر في شرعنا إلا لنعتبر به ولنأخذ به ونستفيد منه.
ومنهم من قال: إنه لا يكون شرعاً لنا ما دام أنه ما جاء التنصيص على أنه لنا.
فإذاً: المسألة فيها تفصيل، أمران متفق عليهما والثالث فيه الخلاف؛ فالمتفق عليه ما جاء في شرعنا أنه شرع لنا، وما جاء في شرعنا أنه ليس شرعاً لنا فهو ليس لنا، وما سكت عنه في شرعنا أنه لنا أو ليس لنا ففيه الخلاف، وجمهور أهل العلم على أنه لنا، وبعضهم قال: إنه ليس لنا.(501/3)
تراجم رجال إسناد حديث رجم اليهوديين اللذين زنيا
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[قال: قرأت على مالك بن أنس].
مالك بن أنس، وهو المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود.
قوله: [قرأت على مالك] هذا يسمى في علم المصطلح العرض، يعني: كون التلميذ يقرأ على الشيخ هذا يسمى: عرضاً، والغالب أنه يعبر عن ما قرئ على الشيخ بـ (أخبرنا)، أما ما سمع من لفظ الشيخ فيقال فيه: حدثنا، ولكنه يأتي (حدثنا) في مكان (أخبرنا)، ويأتي (أخبرنا) في مكان (حدثنا).(501/4)
شرح حديث (اللهم إني أول من أحيا ما أماتوا من كتابك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب قال: (مروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي قد حمم وجهه وهو يطاف به فناشدهم: ما حد الزاني في كتابهم؟ قال: فأحالوه على رجل منهم فنشده النبي صلى الله عليه وسلم: ما حد الزاني في كتابكم؟ فقال: الرجم، ولكن ظهر الزنا في أشرافنا فكرهنا أن يترك الشريف ويقام على من دونه فوضعنا هذا عنا، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجم ثم قال: اللهم إني أول من أحيا ما أماتوا من كتابك)].
أورد أبو داود حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما: أنهم مروا على النبي صلى الله عليه وسلم -أي: اليهود- برجل يطاف به -يعني: أنه على حمار- وقد حمم، يعني: سود وجهه بالفحم وهذا يعتبرونه فضيحة وخزياً، وأن هذه هي العقوبة، وقد مر في حديث ابن عمر أنهم قالوا: (نفضحهم ويجلدون)، وكونه يركب على حمار ويكون وجهه إلى مؤخر الحمار ويسود وجهه بالفحم، فهذا هو الفضح عندهم، وهذه هي العقوبة التي أتوا بها، فالرسول صلى الله عليه وسلم ناشدهم.
قوله: [(فناشدهم: ما حد الزنا في كتابهم؟)].
يعني: في التوراة، فالكتاب هو التوراة التي أنزلت على موسى عليه الصلاة والسلام، فذكروا أنه الرجم، ولكنه ظهر الزنا في أشرافهم فتركوا إقامة الحد عليهم، ثم رأوا أنه يسوى بين الشريف والوضيع، وذلك بأن يتفقوا على طريقة وهي أنه يفضح ويجلد ويركب على حمار ويكون وجهه مما يلي مؤخرة الحمار، فهذا الشيء الذي تواطئوا عليه وغيروا به حكم الله، والسبب في ذلك كما جاء في هذا الحديث أن الزنا وقع في أشرافهم، وأن الحد لم يقم على الأشراف، فرأوا أن الحكم يغير ويبدل من الرجم إلى الفضيحة والجلد، وبالكيفية التي جاءت في بعض هذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(فوضعنا هذا عنا)].
فوضعنا هذا عنا الذي هو الرجم، يعني: وضعوه عن الشريف والوضيع؛ لأنهم ما دام أنهم تركوه في حق الشريف فأرادوا أن يتركوه في حق الوضيع وفي حق غير الشريف فيسوى بين الناس.
قوله: [(فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجم)] الذي هو حكم الله عز وجل، والذي جاء في شريعة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وهو أيضاً موجود في شريعة موسى كما هو موجود في التوراة.
قوله: [(ثم قال: اللهم إني أول من أحيا ما أماتوا من كتابك)].
الكتاب المقصود به التوراة التي كان فيها الرجم، وهم أماتوه بمعنى أنهم تركوه وبدلوه بما سموه فضيحة وجلداً.(501/5)
تراجم رجال إسناد حديث (اللهم إني أول من أحيا ما أماتوا من كتابك)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الواحد بن زياد].
عبد الواحد بن زياد ثقة في حديثه إلا عن الأعمش ففيه مقال، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن مرة].
عبد الله بن مرة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن البراء بن عازب].
البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(501/6)
الجمع بين حديث رجم اليهوديين وحديث مناشدة النبي لليهود في حكم رجم الرجل اليهودي
وفي هذا الحديث أنهم مروا بشخص فلا أدري هل لأن الحديث فيه اختصار وأنه فيه الترافع، وأن هذا هو الشيء الذي كانوا يطبقونه بدل الرجم وأنه سأل ونشد؟ ويحتمل ألا يكون فيه اختصار، وأن تكون هذه قضية أخرى ليس فيها تحاكم، وإنما لكونهم موجودين في المدينة وهم خاضعون لحكم الإسلام فهنا يطبق عليهم حكم الإسلام كما يطبق على غيرهم.
والمناشدة هنا هي السؤال بإلحاح، يعني: كونه يلح ويشدد في السؤال؛ لأنه يهتم به ويريد أن يحصل على الجواب.(501/7)
إسناد حديث (اللهم إني أول من أحيا ما أماتوا من كتابك) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب قال: (مُرَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود، فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزنا؟ قالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم قال له: نشدتك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزنا في كتابكم؟ فقال: اللهم لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الرجل الشريف تركناه، وإذا أخذنا الرجل الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا: تعالوا فنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد، وتركنا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه، فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41] إلى قوله: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة:41] إلى قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]: في اليهود، إلى قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]: في اليهود، إلى قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، قال: هي في الكفار كلها يعني: هذه الآية)].
أورد أبو داود حديث البراء بن عازب من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله إلا أن فيه زيادة على ذلك، وفيه أنه نزلت الآية، وهو يدل على أنهم تحاكموا إليه؛ وذلك لأن في قوله: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة:41]، يعني: إن أوتوا الشيء الذي يناسبهم والذي هو التخفيف أخذوا به، وإن لم يؤتوه فإنهم لا يأخذون بالرجم الذي هو موجود عندهم، وهذا يدل على حصول التحاكم في هذه القصة، ولكنهم يريدون شيئاً يناسب أهواءهم وأغراضهم، ويناسب الشيء الذي وضعوه لأنفسهم وجعلوه بديلاً عن حكم الله الذي أنزله الله تعالى على موسى، فإن جاء شيء مثل الذي وضعوه لأنفسهم كالجلد والتحميم أخذوه، وإن لم يؤتوه فإنهم يحذرون أن يقعوا أو تحصل لهم تلك العقوبة التي هي موجودة عندهم، والتي هم فروا منها، وفيه أيضاً بيان أنهم كانوا في أول الأمر تركوا إقامة الرجم على الأشراف وأنهم يقيمونه على غيرهم، وبعد ذلك رأوا أن يتركوا ذلك الحكم ويستبدلونه بحكم من تلقاء أنفسهم، فاجتمع علماؤهم واتفقوا على هذا الحكم الذي هو كونهم يجلدون ويحممون بتسود وجوههم بالفحم.
وما جاء في هذا الحديث يبين معنى ما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي سبق أن مر، والذي فيه قال: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)، فإن هذا الذي ذكروه في هذا الحديث من أنهم كانوا يتركون إقامة الحد -وهو الرجم- على الشريف ويقيمونه على الوضيع، ثم بعد ذلك رأوا أن يبدلوه بحكم يطبقونه على كل أحد وهو غير الرجم.
قوله: [(مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود فدعاهم)].
معناه: أنه قد حصل له الجلد والتحميم ثم الطواف به على حمار ووجهه مما يلي مؤخرة الحمار، على خلاف المعتاد الذي اعتاده الناس من أن الراكب يكون وجهه إلى وجه المركوب، وهذا علامة على الفضيحة والخزي.
قوله: [(فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني؟ فقالوا: نعم)].
فقالوا: نعم يعني: وهم كاذبون! قوله: [(فدعا رجلاً من علمائهم قال له: نشدتك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقال: اللهم لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الرجل الشريف تركناه، وإذا أخذنا الرجل الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا نجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد وتركنا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه، فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41] إلى قوله: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة:41])].
وهذا هو المقصود من إيراد الآية، يعني: أنهم يتحاكمون من أجل أن يحصلوا على ما يناسبهم، وإن لم يحصلوا عليه فإنهم يبقون على ما هم عليه، وهذا يدل على أن القضية فيها تحاكم وأنهم جاءوا متحاكمين، وأنهم يريدون الأخذ بالحكم إن جاء بما يناسبهم، وإن لم يأت بشيء يناسبهم فإنهم لا يأخذون به.
قوله: [(إلى قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] في اليهود، إلى قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] في اليهود، إلى قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] قال: هي في الكفار كلها يعني: هذه الآية)].
ثم ذكر الآيات التي نزلت في الحكم بغير ما أنزل الله، والآية الأولى فيها: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، والآية الثانية ختامها: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، والآية الثالثة ختامها: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، ومعلوم أن الكفر والظلم والفسق كل منهما يكون أكبر ويكون أصغر، يعني: يكون كفراً دون كفر وظلماً دون ظلم، وفسقاً دون فسق، فالفسق يطلق على الكفر ويطلق على ما دون الكفر، والظلم يطلق على الكفر وعلى ما دون الكفر، والكفر يطلق على الكفر المخرج من الملة والكفر الذي هو دونه.
فقال: إن الآية الأولى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] في اليهود، والثانية التي هي: ((الظَّالِمُونَ)) في اليهود، والثالثة التي هي: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] هذه في الكفار جميعاً.
وبعض أهل العلم يقول: إن الآيات كلها في الكفار جميعاً، وإن كان أصلها أنها جاءت في حق اليهود إلا أن الحكم عام للجميع، وليس خاصاً باليهود والنصارى وإنما هو للعموم.
قوله: [(فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41] إلى قوله: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة:41] إلى قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] في اليهود، إلى قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] في اليهود، إلى قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] قال: هي في الكفار كلها يعني: هذه الآية)].
لا أدري هل هذا من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أم أن الذي قاله هو البراء؟ فهنا لم يتبين.(501/8)
تراجم رجال إسناد حديث (اللهم إني أول من أحيا ما أماتوا من كتابك) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو معاوية].
هو محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب].
وقد مر ذكرهم.(501/9)
حد الزاني في التوراة
وهنا قوله: (نشدتك بالله الذي أنزل التوراة على موسى: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقال: اللهم لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم)، فهنا ذكره دون تفريق بين المحصن والبكر، يقول في عون المعبود: وفي قولهم: وإن في التوراة الرجم على من لم يحصن نظر، لما وقع بيان ما في التوراة من آية الرجم، وفي رواية أبي هريرة ولفظه: (المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما، وإن كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها) رواه الطبراني وغيره.
وقالوا: الحديث فيه دليل على أن الإسلام ليس شرطاً في الإحصان وإلا لم يرجم اليهوديين، وإليه ذهب الشافعي وأحمد، وقال المالكية ومعظم الحنفية: شرط الإحصان الإسلام، وأجابوا عن هذا الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم إنما رجمهما بحكم التوراة، وليس هو من حكم الإسلام في شيء، وإنما هو من باب تنفيذ الحكم عليهم بما في كتابهم، فإن في التوراة الرجم على المحصن وغير المحصن.
وأجيب: بأنه كيف يحكم عليهم بما لم يكن في شرعه مع قوله تعالى: ((وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ))، وفي قولهم: وإن في التوراة الرجم على من لم يحصن نظر، لما وقع بيان ما في التوراة من آية الرجم في رواية أبي هريرة ولفظه: (المحصن والمحصنة إذا زنيا فقامت عليهما البينة رجما، وإن كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها) رواه الطبراني وغيره كذا في إرشاد الساري والفتح.(501/10)
شرح حديث رجم اليهوديين اللذين زنيا من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني حدثنا ابن وهب حدثني هشام بن سعد أن زيد بن أسلم حدثه عن ابن عمر قال: (أتى نفر من يهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف، فأتاهم في بيت المدراس فقالوا: يا أبا القاسم! إن رجلاً منا زنى بامرأة فاحكم بينهم، فوضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فجلس عليها، ثم قال: ائتوني بالتوراة فأتي بها، فنزع الوسادة من تحته فوضع التوراة عليها ثم قال: آمنت بك وبمن أنزلك، ثم قال: ائتوني بأعلمكم، فأتي بفتى شاب، ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في رجم اليهوديين.
قوله: [(أتى نفر من يهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف فأتاهم في بيت المدراس)].
أتى نفر من اليهود إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ودعوه إلى القف، والقف: هو وادٍ في المدينة وفيه ذلك المكان الذي هو المدراس، وهو: المكان الذي يقرءون فيه، فجاء إليهم في ذلك المكان الذي يجتمعون فيه والذي هو محل قرءتهم ودراستهم.
قوله: [(فقالوا: يا أبا القاسم! إن رجلاً منا زنى بامرأة فاحكم بينهم، فوضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فجلس عليها، ثم قال: ائتوني بالتوراة فأتي بها)].
يعني: أخبروه بأن رجلاً وامرأة منهم زنيا، وأنهم يطلبون الحكم فيهما، والرسول صلى الله عليه وسلم طلب منهم أن يحضروا التوراة فأتوا بها، وكانوا قد وضعوا له وسادة يجلس عليها، فنزعها ووضع التوراة عليها وقال: (آمنت بك وبمن أنزلك)، وهذا يدل على احترام الكتاب المنزل وتوقيره؛ وذلك أنه وضعه فوق الوسادة وهو مكان مرتفع يرفعه عليه، ومعلوم أن أفضل هذه الكتب وخير هذه الكتب هو القرآن الكريم الذي أنزله الله على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ولهذا ينبغي أن يكون وضعه في مجامع الناس على مكان مرتفع حتى يتنبه له، وحتى لا يتجاوزه أحد ويمشي من فوقه، وأما إذا كان المكان ليس محلاً للاستطراق ولا لتجاوز الناس، وأريد تخزين جملة من المصاحف فإنها توضع على الأرض ولا بأس بذلك؛ لأن المكان الطاهر يمكن أن يوضع فيه المصحف ولو لم يكن على شيء.(501/11)
الإيمان بالكتب المنزلة غير المحرفة، وحفظ الله عز وجل للقرآن الكريم
ومعلوم أن الإيمان بالكتب المنزلة السابقة إنما هو ما أنزل وليس بالكتب المبدلة، وإنما المقصود من ذلك أن التوراة فيها تحريف وتبديل، ولكن مراد النبي صلى الله عليه وسلم أصلها الذي نزل من عند الله عز وجل، وإلا فإنه قد حصل فيها تحريف وتبديل، ولم تكن كما أنزلها الله عز وجل، فالتحريف حاصل لها قبل زمن النبي صلى الله عليه وسلم وحاصل لها بعد ذلك، ولا يزال التغيير والتبديل في الكتب المنزلة على مر الدهور والعصور إلا القرآن فإنه محفوظ بحفظ الله، فلا يدخله تغيير ولا تبديل، ولهذا حفظه الله تعالى أولاً بتمكين النبي صلى الله عليه وسلم من حفظه واستيعابه من جبريل، وأنه لا يفوته شيء، وكان عليه الصلاة والسلام في أول الأمر عندما يلقي عليه جبريل القرآن يحرك لسانه به حتى لا يفوته منه شيء، فأمره الله عز وجل بألا يحرك لسانه به، وأخبره أن عليه جمعه وقرآنه، وأن عليه أن يصغي لتلاوة جبريل إياه عند إلقائه عليه، ثم إنه يكون محفوظاً له بحيث لا يفوته منه شيء، فكان بعد ذلك يصغي ولا يحرك لسانه، وإذا انتهى وإذا هو محفوظ لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم وحفظوه واعتنوا به حتى جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله أنه قال: كنا إذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن.
ثم أيضاً القرآن نزل منجماً ومفرقاً في ثلاث وعشرين سنة، ولم ينزل دفعة واحدة كالكتب السابقة؛ وذلك فيه تسهيل لحفظه؛ لأنهم كلما نزل عليهم آيات اشتغلوا بحفظها، فإذا جاءت الآيات التي بعدها وإذا هم قد حفظوا ما مضى، وبالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم مع حفظه إياه كان جبريل يدارسه القرآن في كل رمضان مرة، يعني: جبريل يقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم والرسول يسمع، والعكس الرسول يقرأ وجبريل يسمع، فيعارضه القرآن، وفي العام الذي قبض فيه عارضه إياه مرتين، والمعارضة كانت لكل ما نزل قبل ما مضى، وكل هذا من حفظ الله عز وجل للكتاب.
ثم أيضاً ما وفق الله عز وجل له الصحابة من كونهم حفظوه في الصدور، ثم قاموا بحفظه في السطور، حيث جمعه أبو بكر الجمعة الأولى في صحف، ثم جمعه عثمان رضي الله عنه في مصحف، ومصحف عثمان رضي الله عنه هو الذي بين أيدي الناس، والذي يتوارثه الناس عصراً بعد عصر، هذا هو الذي جمعه عثمان رضي الله عنه وأرضاه.
ثم ما وفق الله عز وجل من حصول الحفظ للملايين من المسلمين للقرآن عن ظهر قلب، ولو حصل خطأ في حرف من الحروف لتنبه لذلك الملايين من الناس الذين يبينون الخطأ، وأذكر من الأمثلة التي تذكر بهذه المناسبة أن الجامعة الإسلامية كانت فيما مضى ولا تزال ترسل طلاباً في أوائل شهر رمضان أو قرب شهر رمضان إلى البلاد المختلفة في أوروبا وغيرها ليقوموا بصلاة التراويح ببعض الجماعات الإسلامية هناك، فكان منهم طالب منذ زمن بعيد ذهب وهو من حفاظ القرآن، وكان ليست معه الورقة الصفراء التي هي الورقة الصحية، فجعلوه في مكان يسمونه: محجراً صحياً، فجلس فيه ثلاثة أيام ولما جاء إلى ذلك المكان وجد مصحفاً فيه تحريف وتبديل وتقديم وتأخير وكان حافظاً لكتاب الله، فقرأ ذلك المصحف وصححه بخط يده من أوله إلى آخره، ثم تركه في مكانه، فهذا الحافظ لكتاب الله لما وجد التحريف والتبديل والتغيير في ذلك المصحف صححه بخطه وجعله على الصواب، فهذا من حفظ الله عز وجل لكتابه، كون الملايين من المسلمين يحفظون القرآن عن ظهر قلب، ولو حصل أي خطأ لتنبه له الحفاظ، فلا سبيل إلى تحريفه وتغييره، ولا سبيل إلى تبديله، بل هو محفوظ بحفظ الله؛ لأن الله تعالى تكفل بحفظه حيث قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
قوله: [(فنزع الوسادة من تحته فوضع التوراة عليها ثم قال: آمنت بك وبمن أنزلك ثم قال: ائتوني بأعلمكم)].
معلوم أن الذي يؤمن به ويقال: إنه من عند الله هو المنزل وليس المبدل، ولهذا جاءت السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم) فنحن نؤمن بالمنزل، ولا نؤمن بالذي عندهم والذي بين أيديهم والذي قالوا: إنه من عند الله، مع أنهم غيروا وبدلوا، ولكننا لا نصدق بكل ما يقولون، ولا نكذب بكل ما يقولون، فإذا كان الشيء الذي يقولونه لا يليق بالله عز وجل ولا بالرسل فإن هذا يكذب ولا يكون هذا من عند الله، كونه لا يليق برسل الله ولا يليق بنسبته إلى الله عز وجل، وكونه من الأمور القبيحة، فمثل هذا يكذب، ولكن إذا كان الشيء له معنى صحيح وحكم وكلام جميل، ولا يدرى هل هو من كلام الله المنزل أو ليس من كلام الله المنزل؟ فهذا هو الذي لا يصدق ولا يكذب؛ لأنه ليس كل كلام جميل يكون من عند الله حتى يقال: إن هذا صدق، بل ما كان من عند الله هو الذي نزله على رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام، ولهذا قال الرسول: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم)؛ لأنهم لو كذبوا بكل شيء أمكن أن يكذبوا بالحق الذي فيه، ولو صدقوا بكل شيء أمكن أن يصدقوا بباطل، ولكن إذا سكتوا وأمسكوا وقالوا: ((آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ))، فعند ذلك يكونون قد أخذوا بما فيه السلامة وما هو الحق الذي لا إشكال فيه وهو إيماننا بالمنزل: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت:46].
قوله: [(ثم قال: ائتوني بأعلمكم، فأتي بفتى شاب) ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع].
حديث مالك عن نافع الذي هو الأول، وهو الطريق الرباعي، والذي هو من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(501/12)
تراجم رجال إسناد حديث رجم اليهوديين اللذين زنيا من طريق ثانية
قوله: [حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني].
أحمد بن سعيد الهمداني صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني هشام بن سعد].
هشام بن سعد، صدوق له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أن زيد بن أسلم حدثه].
زيد بن أسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قد مر ذكره.(501/13)
شرح حديث رجم اليهوديين اللذين زنيا من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري قال: حدثنا رجل من مزينة ح وحدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة حدثنا يونس قال: قال محمد بن مسلم: سمعت رجلاً من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه ثم اتفقا: ونحن عند سعيد بن المسيب فحدثنا عن أبي هريرة وهذا حديث معمر وهو أتم قال: (زنى رجل من اليهود وامرأة فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله قلنا: فتيا نبي من أنبيائك، قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا: يا أبا القاسم! ما ترى في رجل وامرأة زنيا؟ فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدراسهم فقام على الباب فقال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: يحمم ويجبه ويجلد، والتجبيه: أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما قال: وسكت شاب منهم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت ألظ به النشدة فقال: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟ قالوا: زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأَخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه، فحال قومه دونه وقالوا: لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه، فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أحكم بما في التوراة، فأمر بهما فرجما).
قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة:44].
كان النبي صلى الله عليه وسلم منهم].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه في رجم اليهوديين.
قوله: [(زنى رجل من اليهود وامرأة فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيف)].
وهم يريدوا أن يحصلوا عقوبة أخف من العقوبة التي عندهم في التوراة وهي الرجم، وهذا يدل على أن تحاكمهم ليس بحثاً عن الحق، وإنما يريدون شيئاً يوافق أهواءهم وما يشتهونه، فهذا هو، ولهذا قال بعض أهل العلم: إنه خير بين الحكم فيهم وعدم الحكم؛ لأنهم ما جاءوا يقصدون الحق أو يريدونه، ولكنه أمر بأن يحكم بينهم بالعدل والقسط، وأن يحكم بينهم بما أنزل الله.
قوله: [(فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله قلنا: فتيا نبي من أنبيائك)].
يعني: أنهم عولوا على ما جاء عن نبي من أنبياء الله، وهم لا يريدون الحق، ولكن إن حكم بما يناسبهم قبلوه، وإن حكم بما لا يناسبهم ردوه.
قوله: [(قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا: يا أبا القاسم! ما ترى في رجل وامرأة زنيا؟ فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدراسهم فقام على الباب)].
يعني: أنهم جاءوا إليه وهو في المسجد وسألوه هذا السؤال، فلم يكلمهم وإنما ذهب إلى بيت مدراسهم أي: المكان الذي يجتمعون فيه للدراسة والقراءة فوقف على الباب وسألهم.
قوله: [(فقال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: يحمم ويجبه ويجلد)].
يحمم يعني: يسود وجهه بالفحم، ويجبه بمعنى: أنه يركب على دابة ويكون وجهه إلى مؤخرها، وإذا كانوا اثنين فإنها تتقابل ظهورهما، يعني: لا يجعلان في اتجاه الدابة، بل يجعل واحد إلى اتجاه الدابة والثاني إلى خلفها، وذلك يدل على أن هذه فضيحة؛ لأن هذه هيئة غريبة، وهي التي تسمى: التجبيه.
قوله: [(والتجبيه: أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما، قال: وسكت شاب منهم فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم)].
يعني: الموجودون تكلموا بهذا الكلام وسكت واحد منهم، فلما رآه سكت قصده بالسؤال وقال: أنشدك! قوله: [(فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت ألظ به النشدة)].
يعني: ألح عليه في السؤال بأن يجيبه فيما يجدونه في كتابهم فيمن زنى وهو محصن.
قوله: [(فقال: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟)].
ما أول شيء تركتم فيه أمر الله وتحولتم إلى هذا الشيء الذي تفعلونه من التحميم والتجبيه والجلد؟ قوله: [(قال: زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم)].
يعني: قريب الملك زنى فلم يقم عليه الرجم، فترك الرجم وأخر، ثم زنى رجل من أسرة فأراد أن يرجمه فقالوا: لا حتى يرجم ذلك الذي من أسرتك.
قوله: [(ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه فحال قومه دونه وقالوا: لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه، فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم)].
يعني: فاتفقوا على هذه العقوبة التي يقيمونها على كل أحد سواءً كان شريفاً أو ضعيفاً.
قوله: [(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما)].
حكم عليهما بما في القرآن وبما في السنة، وهو أيضاً مطابق لحكم التوراة.
قوله: [قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة:44]، كان النبي صلى الله عليه وسلم منهم].
هذا الذي ذكره عن الزهري قال: بلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو من الأنبياء الذين يحكمون بالتوراة، وإنما المقصود بالأنبياء الذين يحكمون بالتوراة هم أنبياء بني إسرائيل، وهم كثيرون من بعد موسى وكانوا يحكمون بالتوراة، ومعلوم أن الفرق بين الرسول والنبي أن الرسول: هو الذي تنزل عليه شريعة ابتداءً ويحكم بها، وأما الأنبياء فإنهم يؤمرون بأن يحكموا بشرائع سابقة ولم ينزل عليهم كتاب، كأنبياء بني إسرائيل من بعد موسى الذين أمروا بأن يحكموا بالتوراة وهي لم تنزل عليهم، وإنما نزلت على موسى، فإذاً: النبي هو الذي أمر بأن يحكم بشريعة سابقة والرسول هو الذي أنزل عليه شرع ابتداءً.(501/14)
تراجم رجال إسناد حديث رجم اليهوديين اللذين زنيا من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى].
هو محمد بن يحيى الذهلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رجل من مزينة].
رجل من مزينة وهذا مبهم.
[ح وحدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عنبسة].
هو عنبسة بن خالد المصري، وهو صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود.
[حدثنا يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: قال محمد بن مسلم].
محمد بن مسلم هو ابن شهاب، وهناك جاء بلفظ الزهري، وفي هذا الطريق جاء بلفظ محمد بن مسلم ولهذا معرفة الكنى والألقاب والأنساب مهمة، وذلك أن الشخص إذا ذكر باسمه في موضع وبنسبه في موضع أو ذكر بكنيته في موضع يعرف أنه شخص واحد وليس شخصين.
[عن رجل من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه].
هذا من الكلام من الطريق الثاني وهو طريق أحمد بن صالح.
[ثم اتفقا: ونحن عند سعيد بن المسيب فحدثنا عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا الحديث ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود؛ ولعله من جهة الرجل المزني المبهم، ولكن كثيراً منه متفق مع ما جاء في الأحاديث.(501/15)
شرح حديث رجم اليهوديين اللذين زنيا من طريق رابعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد العزيز بن يحيى أبو الأصبغ الحراني قال: حدثني محمد -يعني ابن سلمة - عن محمد بن إسحاق عن الزهري قال: سمعت رجلاً من مزينة يحدث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: (زنى رجل وامرأة من اليهود وقد أحصنا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد كان الرجم مكتوباً عليهم في التوراة فتركوه وأخذوا بالتجبيه، يضرب مائة بحبل مطلي بقار، ويحمل على حمار وجهه مما يلي دبر الحمار، فاجتمع أحبار من أحبارهم فبعثوا قوماً آخرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سلوه عن حد الزاني وساق الحديث فقال فيه: قال: ولم يكونوا من أهل دينه فيحكم بينهم، فخير في ذلك قال: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42])].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة من طريق أخرى وهو مثل الذي قبله وفيه بعض الفروق.
قوله: [(زنى رجل وامرأة من اليهود وقد أحصنا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة)].
وهذا فيه ذكر الإحصان.
قوله: [(وقد كان الرجم مكتوباً عليهم في التوراة فتركوه وأخذوا بالتجبيه)].
التجبيه مر ذكره.
قوله: [(يضرب مائة بحبل)].
وهذا بيان طريقة الجلد عندهم، وأنه يضرب مائة بحبل مطلي بالقار.
قوله: [(ويحمل على حمار وجهه مما يلي دبر الحمار)].
فهذا هو التجبيه.
قوله: [(فاجتمع أحبار من أحبارهم بعثوا قوماً آخرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سلوه عن حد الزاني وساق الحديث فقال فيه: قال: ولم يكونوا من أهل دينه)].
يعني: دين النبي صلى الله عليه وسلم، فخير بالحكم فيهم، وكما أشرت لعل من أسباب تخييره لكونهم لا يريدون الحق، وإنما يأتون يبحثون عن شيء يتابع أهواءهم، ولهذا قال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49].(501/16)
تراجم رجال إسناد حديث رجم اليهوديين اللذين زنيا من طريق رابعة
قوله: [حدثنا عبد العزيز بن يحيى أبو الأصبغ الحراني].
عبد العزيز بن يحيى أبو الأصبغ الحراني صدوق ربما وهم، أخرج له أبو داود والنسائي.
[قال: حدثني محمد -يعني ابن سلمة -].
هو محمد بن سلمة الحراني، وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الزهري قال: سمعت رجلاً من مزينة يحدث سعيد بن المسيب].
يحدث سعيد بن المسيب يعني: هو مثل الذي قبله، فـ سعيد المسيب محدَّث وليس بمحدِّث في هذا الإسناد، فيكون مثل الذي قبله فيه الرجل المبهم.(501/17)
شرح حديث رجم اليهوديين اللذين زنيا من طريق خامسة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن موسى البلخي حدثنا أبو أسامة قال مجالد أخبرنا عن عامر عن جابر بن عبد الله قال: (جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا فقال: ائتوني بأعلم رجلين منكم، فأتوه بابني صوريا فنشدهما كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟ قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما، قال: فما يمنعكما أن ترجموهما؟ قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاءوا بأربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برجمهما)].
قوله: [(جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا فقال: ائتوني بأعلم رجلين منكم فأتوه بابني صوريا فنشدهما)].
جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا فقال: (ائتوني برجلين من علمائكم) فأتوه بابني صوريا، فنشدهما ماذا يجدون في التوراة في أمرهما! قوله: [(قالوا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما، قال: فما يمنعكما أن ترجموهما؟ قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل)].
قالوا: إن في كتابهم أنه إذا شهد أربعة منهم بأن ذكره في فرجها كالميل في المكحلة فإنهما يرجمان فقال: فما بالكم لم تفعلوا، يعني: ذلك الذي هو موجود في التوراة؟ قالوا: إنه ذهب سلطاننا فكرهنا القتل، وأرادوا أن يكثر نسلهم وألا ينقرضوا، وأن يكون الإبقاء عليهم وعدم قتلهم زيادة في عددهم، وأن القتل يكون فيه نقص لهم، فأرادوا ألا يكون القتل فغيروه وبدلوه إلى شيء آخر لا قتل فيه.
قوله: [(فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاءوا بأربعة فشهدوا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما)].
فدعا بالشهود، فأتي بأربعة فشهدوا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما، وهذا يدل على أن الذي هو موجود في التوراة هو نظير ما هو موجود في هذه الشريعة من أن الشهود أربعة، وكذلك الاعتراف، وأن الحكم هو الرجم في حق من كان محصناً.(501/18)
تراجم رجال إسناد حديث رجم اليهوديين اللذين زنيا من طريق خامسة
قوله: [حدثنا يحيى بن موسى البلخي].
يحيى بن موسى البلخي ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو أسامة].
هو أبو أسامة حماد بن أسامة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجالد].
مجالد هو ابن سعيد، وهو ليس بالقوي، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عامر].
هو عامر بن شراحيل الشعبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو الصحابي الجليل، صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا الإسناد فيه: (قال: مجالد أخبرنا) وهذا فيه تقديم الاسم على الصيغة، يعني: الذي قبله قال: أخبرنا مجالد، وهو أبو أسامة يعني: بدل ما قال أبو أسامة: أخبرنا مجالد، قال أبو أسامة: مجالد أخبرنا، فهذا فيه تقديم الاسم على الصيغة، وهذا يأتي استعماله ولكنه قليل، والأصل والأكثر هو أن الصيغة تقدم على الاسم، فيقال: أخبرنا فلان، فعل وفاعل، وأما كونه يكون مبتدأ وخبراً والخبر هو الجملة (أخبرنا) فإن هذا قليل في الاستعمال، وممن يستعمله شعبة، فإنه يأتي في بعض الأسانيد عن شعبة بن الحجاج أنه يقول: فلان أخبرنا، وهنا أبو أسامة وهو حماد بن أسامة قال: مجالد أخبرنا، وهو من قبيل تقديم اسم الراوي على الصيغة التي أسند إليه من روى عنه بها.(501/19)
شرح حديث رجم اليهوديين من طريق سادسة، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية عن هشيم عن مغيرة عن إبراهيم والشعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه لم يذكر: (فدعا بالشهود فشهدوا)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى ولكنه مرسل، وأنه مثل الذي قبله إلا أنه لم يذكر في آخره أنه دعا بالشهود فشهدوا، وهو مثل الذي قبله في كونه موجود في التوراة كذا وكذا.
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
وهب بن بقية ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مغيرة].
هو مغيرة بن مقسم الضبي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم].
هو إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[والشعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم].
الشعبي مر ذكره، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مرسل، يعني: كون التابعي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كذا، فهذا من قبيل المرسل، ولكنه يعتضد بالمتصل الذي قبله.(501/20)
شرح حديث رجم اليهوديين اللذين زنيا من طريق سابعة، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية عن هشيم عن ابن شبرمة عن الشعبي بنحو منه].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وهو مرسل كالذي قبله.
وابن شبرمة هو عبد الله بن شبرمة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن الشعبي بنحو منه].
الشعبي بنحو منه يعني: بلفظ قريب منه.(501/21)
شرح حديث رجم اليهوديين اللذين زنيا من طريق ثامنة، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن الحسن المصيصي حدثنا حجاج بن محمد قال ابن جريج: إنه سمع أبا الزبير، سمع جابر بن عبد الله يقول: (رجم النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من اليهود وامرأة زنيا)].
أورد أبو داود حديث جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم رجلاً من اليهود وامرأة زنيا)، يعني: رجمهما بسب الزنا.
قوله: [حدثنا إبراهيم بن حسن المصيصي].
إبراهيم بن حسن المصيصي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا حجاج بن محمد].
هو حجاج بن محمد المصيصي الأعور، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنا سمع أبا الزبير].
هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما وقد مر ذكره.(501/22)
الأسئلة(501/23)
حكمة سؤال النبي اليهود عن حكم الزاني في التوراة
السؤال
لماذا سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن إقامة الحد في شريعتهم؟ أما كان له الحق أن يقيم عليهم الحد المشروع في الإسلام ابتداءً؟
الجواب
الحكم إنما هو بشريعة الإسلام، ولكن فيه بيان معرفة الحكم عندهم وأنهم كذبة محرفون ومبدلون، ويظهر بذلك ما كانوا عليه من الباطل؛ لأنه بهذا السؤال تبين هذا الباطل الذي هم عليه، وأنهم أهل مكر وكيد وخبث، وأنهم يريدون ما يوافق الأهواء، وما يخالفها لا يريدونه ولو كان من عند الله، سواء كان في التوراة أو من عند النبي صلى الله عليه وسلم.(501/24)
حكم العقد بين الزاني والزانية خصوصاً إذا كانت حاملاً
السؤال
من المعلوم أن في بعض بلاد المسلمين بعض العادات أنه إذا علم بأن أحداً قد زنى بامرأة فإن القاضي يقوم بعقد النكاح بين الزاني والمزني بها حتى ولو كانت امرأة حاملاً؟
الجواب
إذا كانت المرأة حاملاً فالذي في بطنها ولد زنى، ولا يجمع بين النكاح والسفاح، فالزواج أو العقد عليها إنما يكون إذا خلا بطنها مما فيه من الحمل، وكونه يزوج بها ثم بعد ذلك ينتسب الولد إليه وقد حصل بزنا فهذا لا يجوز؛ لأن هذا ولد من سفاح، والنسب إنما يكون فيما ولد من نكاح، لهذا فهم يتخذونه طريقة إلى إخفاء الجريمة، وأن ذلك الذي جاء من زنا ينسب إليه وهو لا ينسب إليه، فالزاني ليس له ولد، وإنما له الخيبة، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر).(501/25)
حكم الدعاء على النفس
السؤال
هل يجوز أن ندعو على أنفسنا مثل دعوة أبي بن كعب حيث دعا على نفسه بأن يصاب بالحمى، فإني مبتلى ولا أستطيع القيام، أتمنى الجهاد في سبيل الله؟
الجواب
الإنسان يسأل الله العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)؛ لأن من الناس من يتمنى شيئاً ويريده ولكنه إذا وصل إليه تغير وضعه فيلحقه ضرر من هذا الشيء الذي تمناه، يعني: حصل منه مخالفة في أمر ما كان ينبغي أن يخالف فيه.(501/26)
شرح سنن أبي داود [502]
لقد حد الله عز وجل حدوداً ونهانا عن الاقتراب منها، وجعل عقاباً محدداً لكل ضعيف إيمان سولت له نفسه ارتكاب هذه الحدود والمعاصي، ومن ذلك تحريم الزنا، وجعل الجلد والتعذيب عقوبة الزاني البكر، وجعل الرجم عقوبة الزاني، أما من أتى زوجة أبيه فإنه يقتل على كل حال؛ لشناعة هذا الفعل وقبحه، ومثله من أتى بهيمة أو فعل فعل قوم لوط؛ فإنه يقتل لما في هذا الفعل من انتكاس للفطرة وشذوذ عن المألوف.(502/1)
ما جاء في الرجل يزني بحريمه(502/2)
شرح حديث قتل الرجل الذي أعرس بامرأة أبيه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يزني بحريمه.
حدثنا مسدد حدثنا خالد بن عبد الله حدثنا مطرف عن أبي الجهم عن البراء بن عازب قال: (بينا أنا أطوف على إبل لي ضلت إذ أقبل ركب أو فوارس معهم لواء، فجعل الأعراب يطيفون بي لمنزلتي من النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أتوا قبة فاستخرجوا منها رجلاً فضربوا عنقه، فسألت عنه فذكروا أنه أعرس بامرأة أبيه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في الرجل يزني بحريمه]، وحريمه يعني: ذوات محارمه اللاتي لا يحل له الزواج بهن، ولا شك أن من تكون كذلك فالزنا بها أخطر وأشد وأعظم؛ لأن النكاح لا يجوز لمثلها، بخلاف الأجنبيات فإن النكاح سائغ والزنا هو الحرام، وأما هنا فالنكاح غير سائغ، فلو حصل النكاح فهو خطير، ولو حصل الزنا فهو أيضاً خطير، وهو أخطر من الزنا بالبعيدات والأجنبيات؛ لأن هذا يدل على قلة الحياء، وقلة المبالاة، وعدم خوف الله عز وجل، والاحتكاك بذوات المحارم والاختلاط بهن حاصل ومستمر، والخلوة بهن حاصلة، فكونه يوجد والعياذ بالله فعل الفاحشة معهن فإنه يكون الأمر أخطر وأشد، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل عن دخول الرجال على النساء حذر منه ولما قيل له: (أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت)؛ لأنه لا يفطن له ولا يحترز منه، ودخوله وخروجه غير مستغرب، بخلاف الأجنبي الذي يكون دخوله وخروجه في البيت مستغرباً، ولكن الذي له علاقة بالبيت لا يكون مستغرباً، فيكون أخطر وأشد من حيث الخلوة، وإذا كان هذا حصل في حال الحمو فكيف يكون بالمحرم والعياذ بالله؟! فالإنسان الذي يزني بمحارمه يكون أمره أخطر وأشد.
وقد أورد أبو داود رحمه الله أحاديث فيمن نكح ذات محرم، يعني: بنكاح وليس بزنا، ومعلوم أنه إذا صار النكاح خطيراً فإن الزنا يكون أخطر وأخطر، فهو عقد الترجمة للزنا وهي في النكاح.
أورد أبو داود حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه: أنه كان يطيف في إبل له ضلت، وأنه جاء جماعة معهم لواء، وهم مبعوثون من النبي صلى الله عليه وسلم، وعقد لهم حتى يعرف بأنهم مبعوثون منه، ومهمتهم أن يقتلوا رجلاً أعرس بامرأة أبيه، يعني: نكح امرأة أبيه وتزوجها، فيحتمل أن يكون ذلك عن طريق الوطء بدون عقد، وهذا هو الذي يكون مطابقاً للترجمة لأنه زنا، ويحتمل أن يكون المقصود من ذلك الزواج وأنه بعقد، ولكنه فعل محرم، والله عز وجل وصفه بأنه فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً، حيث قال: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22]، فهو يدل على خطورته في النكاح، فهو أخطر أيضاً فيما يتعلق بالسفاح، فقتلوه بأمر من عند النبي صلى الله عليه وسلم.
وهو يدل على أن نكاح ذوات المحارم إذا كان مقصوداً وليس فيه شبهة؛ لأن الشبهة قد تحصل، فالرضاعة مثلاً قد يكون فيها شبهة، وقد لا يكتشف أن هناك محرمية إلا بعد مدة، فعند ذلك يفرق بينهما، وهذا لا يترتب عليه شيء؛ لأنه نكاح شبهة، والأولاد هم أولاده، ولكن كونه يتزوج امرأة أبيه أو يتزوج امرأة هو عالم بأنها محرم له فعقوبته أن يقتل كما جاء في هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما إذا كان هناك مجال للشبهة كما ذكرنا فيما مضى فإن هذا يفرق بينهما، ويكون نكاح شبهة.
قوله: [عن البراء بن عازب قال: (بينا أنا أطوف على إبل لي ضلت إذ أقبل ركب أو فوارس معهم لواء، فجعل الأعراب يطيفون بي لمنزلتي من النبي صلى الله عليه وسلم)].
فجعل الأعراب يطيفون به لكونه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، يعني: يتصلون به ويجتمعون به؛ وذلك لمنزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على حرص الذين لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم على مصاحبته ومرافقته، وعلى ملاقاة من صحب النبي صلى الله عليه وسلم، أو يكونون ممن لقي النبي وصحبه ولكن يكون غيرهم أكثر منهم صحبة ومخالطة، فتكون له ميزة عليهم حتى ولو كانوا من الصحابة، فإن من يكون مخالطاً له وملازماً له تكون له منزلة أكبر ممن رآه مجرد رؤية أو التقى به مجرد لقاء، وإن كان الكل قد تشرف بصحبة النبي الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، لكن من طالت صحبته وكثرت ملازمته لا شك أن له ميزة على غيره.
قوله: [فجعل الأعراب يطيفون بي لمنزلتي من النبي صلى الله عليه وسلم].
أي: يتبركون به، وهذا ليس فيه دلالة على التبرك، وإنما يدل على كونهم يحتفون به ويهتمون به، وإلا فإنه لا يتبرك بأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكونهم يتمسحون به أو يتبركون به وما إلى ذلك فهذا لا يكون، ولا يوجد شيء يدل على هذا، وإنما المراد أنهم يطيفون به ويأتون حوله ويتصلون به ويلتقون به، ويلازمونه، وذلك لمنزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان الصحابة يتبركون بشعر الرسول عليه الصلاة والسلام ومخاطه وعرقه وفضل وضوئه وما كانوا يفعلون ذلك مع أحد بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فما فعلوا ذلك مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وهم خير هذه الأمة التي هي خير الأمم، فالخلفاء الراشدون المهديون ما كان الصحابة يعاملونهم كما يعاملون النبي صلى الله عليه وسلم، وما كانوا يتبركون بهم كما كانوا يتبركون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما كانوا يأخذون شعورهم ولا يمسحون عرقهم، ولا يأخذون مخاطهم وبصاقهم، وإنما هذا من خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام، ولهذا ذكر الشاطبي إجماع الصحابة على أن ذلك إنما هو للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم ما فعلوا ذلك مع خيار أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم.(502/3)
تراجم رجال إسناد حديث قتل الرجل الذي أعرس بامرأة أبيه
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا خالد بن عبد الله].
هو خالد بن عبد الله الطحان الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا مطرف].
هو مطرف بن طريف، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الجهم].
هو سليمان بن الجهم، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن البراء بن عازب].
البراء بن عازب رضي الله عنهما، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(502/4)
شرح حديث: (بعثني رسول الله إلى رجل نكح امرأة أبيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن قسيط الرقي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن عدي بن ثابت عن يزيد بن البراء عن أبيه قال: (لقيت عمي ومعه راية فقلت له: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله)].
أورد أبو داود حديث عم البراء بن عازب رضي الله عنه، وهو أنه أخبر البراء أن الرسول بعثه ومعه راية، وأن مهمته أن يضرب عنق رجل نكح امرأة أبيه ويأخذ ماله، فقيل -يعني: في هذا-: كونه يأخذ ماله فيه احتمال أن يكون مرتداً، وأن يكون ماله فيئاً، وأنه يقتل ويؤخذ ماله؛ وذلك لأنه فعل هذا الأمر الذي هو في غاية الحرمة والقبح، وقد وصفه الله تعالى أنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً، وهو من أخطر الجرائم، ويحتمل أن يكون أخذ ماله من باب العقوبة.(502/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (بعثني رسول الله إلى رجل نكح امرأة أبيه)
قوله: [حدثنا عمرو بن قسيط الرقي].
عمرو بن قسيط الرقي، صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبيد الله بن عمرو].
هو عبيد الله بن عمرو الرقي، وهو ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن أبي أنيسة].
زيد بن أبي أنيسة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عدي بن ثابت].
عدي بن ثابت ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن البراء].
يزيد بن البراء صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبيه].
أبوه البراء رضي الله عنه.
[قال: لقيت عمي ومعه راية].
قال الحافظ: إن عمه لم يسم ولا يعرف، وقد جاء في بعض الروايات أنه خاله وقال: إن خاله هو أبو بردة بن نيار.(502/6)
الأسئلة(502/7)
عدم التفريق بين البكر والمحصن في نكاح المحارم
السؤال
هل يفرق بين المحصن والبكر في نكاح المحارم؟
الجواب
لا يفرق في قتلهما.(502/8)
حكم رواية أنه يخمس مال من أعرس بأحد محارمه
السؤال
جاءت رواية أنه يخمس ماله فما حكمها؟
الجواب
جاءت لكن ما أدري عن صحتها شيئاً، قال في عون المعبود: وذكر النسائي في سننه من حديث عبد الله بن إدريس حدثنا خالد بن أبي كريمة عن معاوية بن قرة عن أبيه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أباه جد معاوية إلى رجل عرس بامرأة أبيه فضرب عنقه وخمس ماله).
وهذا يدل على أنه فيء، يعني: الذي مر في الرواية السابقة عند أبي داود أنه قتله وأخذ ماله يعني: أنه كان فيئاً، ومعنى هذا: أنه ردة.(502/9)
تخميس مال الناكح امرأة أبيه يدل على الاستحلال
السؤال
هل هذا الفعل يعتبر كفراً مخرجاً من الملة إذ التخميس يدل على استحلال الشيء؟
الجواب
نعم، التخميس يدل على أن هذا القتل إنما هو لكفره؛ لأن كونه يخمس ماله كما يخمس الفيء، والفيء: هو ما يحصل من الكفار ولا يحصل من المسلمين.(502/10)
دلالة الحديث على كفر الناكح محارمه بالفعل
السؤال
هل حكم عليه بالتكفير بالفعل فقط؟
الجواب
الظاهر أنه كفر بالفعل، ويمكن أن يكون الاستحلال موجوداً، كونه عقد على شيء معلوم ومعروف أنه لا يحل، وأن هذا شيء ليس من الأمور التي تخفى، وهي واضحة جلية فيكون ذلك يدل على استحلاله.(502/11)
ما جاء في الرجل يزني بجارية امرأته(502/12)
شرح حديث الرجل الذي وقع على جارية امرأته
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يزني بجارية امرأته.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا قتادة عن خالد بن عرفطة عن حبيب بن سالم: (أن رجلاً يقال له: عبد الرحمن بن حنين وقع على جارية امرأته، فرفع إلى النعمان بن بشير وهو أمير على الكوفة فقال: لأقضين فيك بقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة، وإن لم تكن أحلتها لك رجمتك بالحجارة، فوجدوه قد أحلتها له فجلده مائة).
قال قتادة: كتبت إلى حبيب بن سالم فكتب إلي بهذا].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: [باب في الرجل يزني بجارية امرأته]، والزنا حصل منه بمملوكة لزوجته وليست ملكاً له، فوطئ ما لا يحل له وطؤه وهو أمة زوجته، وقد أورد أبو داود حديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه: (أنه جيء برجل يقال له: عبد الرحمن بن حنين وطئ جارية زوجته فقال له: لأقضين فيك بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قوله: [(إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة وإن لم تكن أحلتها لك رجمتك بالحجارة)].
لأنه محصن، والمحصن حكمه الرجم بالحجارة؛ لأنه قد زنى، وقال: إنها إن أذنت له وأحلتها له فإنه يجلده مائة جلدة يعني: عقوبة ونكالاً، لكن الحديث ضعيف وغير ثابت، والحكم فيمن يزني بأمة زوجته أنه كزناه بغيرها؛ لأن كل زنا رجل محصن فحده الرجم، وإن كان بكراً جلد، لكنه هنا قال: زوجته، وهذا يتصور فيما لو كان عقد على زوجته ولم يدخل بها ولها أمة فوطئها.(502/13)
تراجم رجال إسناد حديث الرجل الذي وقع على جارية امرأته
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي وهو ثقة، أخرجه له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبان].
هو أبان بن يزيد العطار وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد بن عرفطة].
خالد بن عرفطة، وهو مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي.
[عن حبيب بن سالم].
حبيب بن سالم لا بأس به، وهو بمعنى صدوق، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن النعمان بن بشير].
النعمان بن بشير رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صحابي ابن صحابي، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(502/14)
حديث الرجل الذي وقع على جارية امرأته من طريق ثانية، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن أبي بشر عن خالد بن عرفطة عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير: (عن النبي صلى الله عليه وسلم: في الرجل يأتي جارية امرأته قال: إن كانت أحلتها له جلد مائة، وإن لم تكن أحلتها له رجمته)].
أورد أبو داود حديث النعمان بن بشير من طريق أخرى وهو مثل الذي قبله.
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
محمد بن بشار هو الملقب بندار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن جعفر].
محمد بن جعفر هو الملقب غندر البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بشر].
هو ابن أبي وحشية جعفر بن إياس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد بن عرفطة عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير].
وقد مر ذكرهم.(502/15)
شرح حديث القضاء على من وقع على جارية امرأته أن يعوض سيدتها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة عن الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في رجل وقع على جارية امرأته، إن كان استكرهها فهي حرة، وعليه لسيدتها مثلها، فإن كانت طاوعته فهي له، وعليه لسيدتها مثلها)].
أورد أبو داود حديث سلمة بن المحبق رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في رجل وقع على جارية زوجته: إن كان استكرهها فهي حرة، وعليه لسيدتها مثلها) أي: هي تعتق وعليه أن يعوض سيدتها التي هي زوجته بمثلها.
وإن كانت طاوعته فهي له ولسيدتها عليه مثلها.
معناه: أنها خرجت من ملك زوجته في الحالتين، إلا أنها في الحالة الأولى صارت حرة، وفي الحالة الثانية صارت ملكاً له، ويعوض زوجته عنها في كلا الحالتين، والحديث غير صحيح؛ لأن فيه رواية قتادة عن الحسن، وكل منهما مدلس.(502/16)
تراجم رجال إسناد حديث القضاء على من وقع على جارية امرأته أن يعوض سيدتها
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد صالح المصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ومعمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة عن الحسن].
قتادة مر ذكره.
والحسن هو ابن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قبيصة].
هو قبيصة بن حريث، وهو صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[عن سلمة بن المحبق].
سلمة بن المحبق رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[قال أبو داود: روى يونس بن عبيد وعمرو بن دينار ومنصور بن زاذان وسلام عن الحسن هذا الحديث بمعناه، لم يذكر يونس ومنصور: قبيصة].
أورد أبو داود هذا السند المعلق، أن هؤلاء الأربعة رووه عن الحسن بمعناه ولم يذكروا قبيصة كما في الإسناد الأول، وإنما ذكروا الحسن عن سلمة بن المحبق.
[قال أبو داود: روى يونس بن عبيد].
يونس بن عبيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعمرو بن دينار].
عمرو بن دينار، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومنصور بن زاذان].
منصور بن زاذان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وسلام].
هو سلام بن مسكين، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن الحسن هذا الحديث بمعناه لم يذكر يونس ومنصور: قبيصة].
يعني: والآخران ذكروه وهما: عمرو بن دينار وسلام بن مسكين.(502/17)
حديث القضاء على من وقع على جارية امرأته أن يعوض سيدتها من طريق ثانية، وتراجم رجاله
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد صالح المصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ومعمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة عن الحسن].
قتادة مر ذكره.
والحسن هو ابن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قبيصة].
هو قبيصة بن حريث، وهو صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[عن سلمة بن المحبق].
سلمة بن المحبق رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[قال أبو داود: روى يونس بن عبيد وعمرو بن دينار ومنصور بن زاذان وسلام عن الحسن هذا الحديث بمعناه، لم يذكر يونس ومنصور: قبيصة].
أورد أبو داود هذا السند المعلق، أن هؤلاء الأربعة رووه عن الحسن بمعناه ولم يذكروا قبيصة كما في الإسناد الأول، وإنما ذكروا الحسن عن سلمة بن المحبق.
[قال أبو داود: روى يونس بن عبيد].
يونس بن عبيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعمرو بن دينار].
عمرو بن دينار، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومنصور بن زاذان].
منصور بن زاذان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وسلام].
هو سلام بن مسكين، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن الحسن هذا الحديث بمعناه لم يذكر يونس ومنصور: قبيصة].
يعني: والآخران ذكروه وهما: عمرو بن دينار وسلام بن مسكين.(502/18)
شرح حديث القضاء على من وقع على جارية امرأته أن يعوض سيدتها من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا علي بن حسين الدرهمي حدثنا عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن سلمة بن المحبق عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه إلا أنه قال: (وإن كانت طاوعته فهي ومثلها من ماله لسيدتها)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه أنها إن طاوعته فهي ومثلها لسيدتها.
قوله: [(فهي ومثلها من ماله لسيدتها)].
فهي ومثلها من ماله يعني: مثلها تشترى من ماله، ومعناه: أنها باقية لسيدتها ومثلها أيضاً لسيدتها، يعني: أمتها في ملكها وحصل لها زيادة أمة أخرى ألزم بها زوجها بسبب هذا العمل، وكل ما ورد في هذا الباب غير صحيح.(502/19)
تراجم رجال إسناد حديث القضاء على من وقع على جارية امرأته أن يعوض سيدتها من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا علي بن حسين الدرهمي].
علي بن حسين الدرهمي صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الأعلى].
هو عبد الأعلى بن عبد الأعلى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد عن قتادة].
سعيد بن أبي عروبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وقتادة مر ذكره.
[عن الحسن عن سلمة بن المحبق].
الحسن وسلمة بن المحبق قد مر ذكرهما.(502/20)
ما يترتب على من وقع على جارية امرأته
إذا وقع الرجل على جارية زوجته فإنه كالوقوع على امرأة أجنبية إما أن يرجم أو يجلد إذا كان عقد على زوجته ولم يدخل بها والجارية هي أجنبية ليست ملكه ولا زوجة له، وهذه تعتبر شبهة لكن ليست شبهة قوية حتى تدرأ الحد، يقول الخطابي: وقد روي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما إيجاب الرجم على من وطئ جارية امرأته، وبه قال عطاء بن أبي رباح وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق.
وهذا بناء على أنه كالزنا بأي امرأة، يعني: باعتباره متزوج ووقع على جارية امرأته والغالب ما دام أن له زوجة أنه يكون محصناً؛ لأنه يندر أن يكون عقد عقداً ولم يحصل دخول على أثره، فالعلماء ذكروا المسألة على اعتبار أنه محصن، ولكنه يتصور بأن يكون غير محصن؛ لأنه لم يتزوج من قبل، وهذا أول زواج له ولم يطأ زوجته ولم يستمتع بها.(502/21)
ما جاء فيمن عمل عمل قوم لوط(502/22)
شرح حديث (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن عمل عمل قوم لوط.
حدثنا عبد الله بن محمد بن علي النفيلي حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)].
وهذه الترجمة تتعلق بعمل قوم لوط، وهو من أعظم الفواحش وأخطرها، والله عز وجل عاقب تلك الأمة التي ابتليت بذلك البلاء بعقوبة شديدة وعظيمة، وهي أنه رفعت أرضهم وقلبت، وجعل عاليها سافلها، وأهلكهم الله بذلك، فهو جرم من أعظم الجرائم وأكبر المعاصي.
وحكمه أنه يقتل كما جاء في حديث ابن عباس: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)، والقتل للاثنين يكون إذا كانا متطاوعين، وأما إذا كان المفعول به مكرهاً فإنه معذور ولا شيء عليه.
واللفظ جاء فيه الأمر بالقتل وهو مطلق، فيقتل بأي قتلة، وبعض العلماء قال: إن الله عاقب أولئك بتلك العقوبة فإنه يعاقب بمثل هذا، وعلى كل الحديث جاء بالأمر بالقتل وأنه تنهى حياته وهو لفظ مطلق.(502/23)
تراجم رجال إسناد حديث (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد بن علي النفيلي].
عبد الله بن محمد بن نفيل النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد العزيز بن محمد].
هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن أبي عمرو].
عمرو بن أبي عمرو، وهو ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا يقاس السحاق على اللواط؛ لأن اللواط لو حصل شيء منه بدون إيلاج وإنما بمس ومباشرة فصاحبه يعزر، ولكن لا يصير التعزير إلى القتل، والسحاق كما هو معلوم ليس فيه شيء من هذا، كما أن الاستمتاع بما دون الفرج ليس فيه حد، وإنما فيه التعزير.(502/24)
حديث (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)
[قال أبو داود: رواه سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو مثله].
سليمان بن بلال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وعمرو بن أبي عمرو مر ذكره.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس رفعه].
عباد بن منصور صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
وقوله: (رفعه) يعني: أتى بلفظ رفعه، ولم يقل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وهما معناهما واحد، ولكن هذا من الدقة في العناية بالألفاظ، وقد يكون أنه يؤتى بكلمة (رفعه) من أجل أنه غير متحقق من الصيغة هل هي (سمعت)، أو (قال)، أو (عن)؟ فيأتي بلفظ يشمل ويصدق على الجميع وهي كلمة: (رفعه)؛ لأنه قد يكون المقصود الاختصار، وقد يكون المقصود هو عدم ضبط الصيغة التي حصلت في نسبة ذلك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فإن كلمة (رفعه) تصدق على جميع الصيغ.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه ابن جريج عن إبراهيم عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رفعه].
عبد الملك بن جريج المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم].
هو إبراهيم بن محمد بن يحيى الأسلمي، وهو متروك، أخرج له ابن ماجة.
[عن داود بن الحصين].
داود بن الحصين ثقة إلا في عكرمة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة عن ابن عباس].
عكرمة وابن عباس مر ذكرهما.(502/25)
شرح أثر ابن عباس في رجم البكر الذي يؤخذ على اللوطية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني ابن خثيم قال: سمعت سعيد بن جبير ومجاهداً يحدثان عن ابن عباس رضي الله عنهما: في البكر يؤخذ على اللوطية قال: يرجم].
أورد أبو داود هذا الأثر عن ابن عباس أنه سئل في البكر يؤخذ على اللوطية؟ يعني: أنه ليس بثيب وإنما هو بكر فقال: يرجم، يعني: يعامل البكر والثيب معاملة واحدة؛ لأن هذه فاحشة عظيمة، وهذا يوضح أن قوله: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط) أن المقصود بذلك عدم التفريق بين البكر والثيب، وأنهم كلهم يعاملون هذه المعاملة الواحدة.(502/26)
تراجم رجال إسناد أثر ابن عباس في رجم البكر الذي يؤخذ على اللوطية
قوله: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه].
هو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد المشهور بـ ابن راهويه، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
وكلمة (راهويه) المحدثون يأتون بالواو ساكنة والياء مفتوحة: راهُوْيَه وأهل اللغة يقولون: رَاهَوَيه يعني: مختوم بكلمة: (ويه)، يعني: ذاك استعمال المحدثين وهذا استعمال أهل اللغة.
[حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني ابن خثيم].
عبد الرزاق وابن جريج مر ذكرهما، وابن خثيم هو عبد الله بن خثيم، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[قال: سمعت سعيد بن جبير ومجاهداً].
سعيد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ومجاهد بن جبر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
قد مر ذكره.(502/27)
ما جاء فيمن أتى بهيمة(502/28)
شرح حديث (من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن أتى بهيمة.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا عبد العزيز بن محمد حدثني عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه)، قال: قلت له: ما شأن البهيمة؟ قال: ما أراه قال ذلك إلا أنه كره أن يؤكل لحمها، وقد عمل بها ذلك العمل.
قال أبو داود: ليس هذا بالقوي].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: [باب فيمن أتى بهيمة]، أي: ما هي عقوبته؟ وعقوبته قال بعض أهل العلم: أنه يقتل كما جاء في الحديث، وأكثر أهل العلم قالوا: يعزر ولا يقتل، ويستدلون على ذلك بما جاء بعده عن ابن عباس نفسه أنه قال: (ليس عليه حد) فيكون المقصود بذلك أنه لو كان ثابتاً عن ابن عباس أن حد من أتى البهيمة يقتل لما قال هذا الأثر الذي ثبت عنه، وهو أنه ليس عليه حد، فيحتمل أن يكون هذا القتل إنما هو من باب التعزير، وأنه إذا رؤي يفعل ذلك فيعزر ولو وصل التعزير إلى القتل فإنه يعزر بذلك، ومعلوم أن التعزير قد يصل إلى القتل وقد يكون دونه، فيكون ما جاء عن ابن عباس من قوله: (ليس عليه حد) معناه: أن القتل، لا حداً وإنما تعزيراً، فيجمع بين ما جاء عن ابن عباس من أنه ليس هناك حد وبين ما جاء عنه في هذا الحديث الذي فيه الرفع، وأنه يقتل وتقتل البهيمة معه، أن المقصود بذلك تعزيراً وليس من قبيل الحد، والحد قد يصل إلى التعزير وقد يقل عن التعزير كما قيل فيما يتعلق بشارب الخمر، وأنه يقتل في المرة الرابعة ويكون قتله من قبيل التعزير.
قوله: [عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه) قال: قلت له: ما شأن البهيمة؟].
يعني: هذا شأنه واضح، وأما البهيمة فهي غير عاقلة، وغير مكلفة، والذي فعل بها هو الذي حصلت منه الجناية فما ذنبها؟ قال: ما أراه إلا أنه كره أن يؤكل لحمها وقد فعل بها هذا الفعل، وبعض أهل العلم قال: لئلا يحصل حمل بسببه فيكون على هيئة أخرى وعلى شكل آخر يعني: متولداً من آدمي وبهيمة، كما يحصل التوالد بين الحيوان والحيوان فيكون جنساً آخر، كما في البغل، فذكر في التعليل ما ذكر، وقيل بذلك التعليل الآخر الذي ذكره بعض أهل العلم.(502/29)
رجال إسناد حديث (من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
هذا الإسناد هو نفس الإسناد الذي مر تماماً في الباب الذي قبله عن محمد النفيلي عن عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس، هو نفس هذا الإسناد.
[قال أبو داود: ليس هذا بالقوي].
ما أدري هل يقصد أبو داود بقوله: ليس هذا بالقوي التعليل الذي جاء في الآخر، أم أنه يقصد الحديث نفسه، وأن سبب ذلك ما جاء من كون ابن عباس قال: (ليس عليه حد)، وقال أيضاً: إن حديث عاصم يضعف حديث عمرو بن أبي عمرو الذي هو هذا، وحديث عاصم الذي سيأتي بعد هذا أنه ليس عليه حد يعني: كون ابن عباس قال: (ليس عليه الحد) وهو الذي روى هذا الحديث، فيدل على أنه ليس عليه حد وأنه يمكن أن يحمل على التعزير، وسواءً بلغ القتل أو دون القتل فهو يكون تعزيراً للفاعل.
وأما البهيمة فمن هذا التعليل الذي ذكروه أنه لئلا يؤكل لحمها وهي قد فعل بها ذلك، أو لئلا يحصل بسبب ذلك نسل يختلف شكله عن شكل الآدمي.
أما التعليل الأول فهو خاص بمأكول اللحم، وأما غير مأكول اللحم فإنه لا يؤكل كالأتان وغيرها من الأشياء التي لا تؤكل.(502/30)
شرح أثر (ليس على الذي يأتي البهيمة حد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس أن شريكاً وأبا الأحوص وأبا بكر بن عياش حدثوهم عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس قال: ليس على الذي يأتي البهيمة حد].
ورد هذا الأثر عن ابن عباس قال: ليس على الذي يأتي البهيمة حد، ومعنى ذلك: أنه يكون عليه التعزير.(502/31)
تراجم رجال إسناد أثر (ليس على الذي يأتي البهيمة حد)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
هو أحمد بن عبد الله بن يونس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن شريكاً].
هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي، وهو صدوق اختلط، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[وأبا الأحوص].
هو أبو الأحوص سلام بن سليم الحنفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأبا بكر بن عياش].
أبو بكر بن عياش، ثقة، أخرج له البخاري ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن عاصم].
هو عاصم بن أبي النجود، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وروايته في الصحيحين مقبولة.
[عن أبي رزين].
هو مسعود بن مالك، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن عباس].
ابن عباس قد مر ذكره رضي الله عنه.(502/32)
أقوال بعض التابعين فيمن يأتي البهيمة
[قال أبو داود: وكذا قال عطاء].
يعني: أنه ليس عليه حد.
قوله: [وقال الحكم: أرى أن يجلد ولا يبلغ به الحد].
ولا يبلغ به الحد الذي هو القتل، ولكن -كما عرفنا- التعزير قد يوصل به إلى القتل.
قوله: [وقال الحسن: هو بمنزلة الزاني].
يعني: يعامل معاملة الزاني، معناه: إذا كان بكراً يجلد، وإذا كان محصناً يرجم.(502/33)
التعليق على قول أبي داود بتضعيف حديث عاصم لحديث ابن أبي عمرو في إتيان البهيمة
[قال أبو داود: حديث عاصم يضعف حديث عمرو بن أبي عمرو].
حديث عاصم هذا الذي هو موقوف يضعف حديث عمرو بن أبي عمرو المرفوع؛ لأنه لو كان ذلك ثابتاً ما كان لـ ابن عباس أن يقول: ليس على الذي يأتي البهيمة حد؛ ولكن يمكن أن يكون أنه ثابت وباق وأن القتل يكون تعزيراً لا حداً.
وهذا الأمر يرجع إلى اجتهاد القاضي؛ لأن الناس يكونون متفاوتين في هذا، فقد يكون هناك إنسان حصلت منه مرة واحدة، وقد يكون هناك إنسان معروف بكثرة الفساد وكثرة فعل هذه المعصية، وما دام أن القضية تعزير فالتعزير يتفاوت، وليس الناس على حد سواء في التعزير.
وأما البهيمة فإذا كان الحديث ثابتاً فإن البهيمة تقتل من أجل السلامة مما ذكر، ولئلا تبقى وهي قد فعل بها هذه الفاحشة، وإن كان على ما ذكر أبو داود أنه يضعفه فتبقى، لكنه من حيث الإسناد هو صحيح، وكل أحاديث الباب صححها الألباني رحمه الله.(502/34)
شرح سنن أبي داود [503]
من الحدود التي شرعها الله تعالى وأمر بإقامتها حد الزنا، وهناك حالات لا يقام فيها الحد كما لو اعترف الرجل بأنه زنى بامرأة ولم تعترف المرأة فيقام عليه دونها، وكذلك لو كان الذي سيقام عليه الحد مريضاً فينتظر حتى يبرأ، فإن كان لا يرجى برؤه أقيم عليه بما لا يؤدي إلى موته.
ومن الحدود حد القذف، وهو ثمانون جلدة بنص القرآن.(503/1)
إذا أقر الرجل بالزنا ولم تقر المرأة(503/2)
شرح حديث أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر عنده أنه زنى بامرأة سماها له)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب إذا أقر الرجل بالزنا ولم تقر المرأة.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا طلق بن غنام حدثنا عبد السلام بن حفص حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً أتاه فأقر عنده أنه زنى بامرأة سماها له، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فسألها عن ذلك، فأنكرت أن تكون زنت، فجلده الحد وتركها)].
قوله: [باب إذا أقر الرجل بالزنا ولم تقر المرأة]، أي: ما حكم ذلك؟ ومعلوم أن الرجل إذا أقر بالزنا فإنه يؤاخذ بإقراره، وأما المرأة التي زعم أنه زنى بها فلا تؤاخذ بإقراره؛ لأن هذه دعوى منه عليها، ولا يعول على تلك الدعوى إلا إذا أقرت أو وجد شهود أربعة يشهدون بذلك، فتكون البينة قامت عليها، وقد أورد أبو داود حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه [(أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر عنده أنه زنى بامرأة سماها له، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فسألها عن ذلك فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها)].
فهذا رجل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم واعترف بأنه زنى بامرأة وسماها، فأرسل إليها فأنكرت، فجلده الحد وتركها؛ لأنها ما ثبت عليها زنا لا بإقرار ولا بشهادة، وعلى هذا فتكون دعوى الزاني بأنه زنى بامرأة معينة غير مقبولة، ولا يقبل اتهامه لها، ولا يثبت عليها ذلك إلا إذا اعترفت أو شهد الشهود، ولهذا أقام النبي صلى الله عليه وسلم عليه الحد وتركها، فلم يقم عليها الحد؛ لأنه لم يثبت عليها الزنا، وأما هو فقد ثبت عليه الزنا بإقراره فأخذ بذلك وعوقب عليه.
وقد سبق فيما يتعلق بقصة العسيف ما يدل على ذلك؛ لأنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته)، فحكم عليه بجلد مائة وتغريب عام، وأما هي فلم يعتبر ذلك الشيء الذي نسب إليها، وإنما أرسل أنيساً الأسلمي ليسألها عما نسب إليها، فإن اعترفت أقام عليها الحد، فذهب إليها فأقرت، فرجمها، حيث قال: (واغد يا أنيس! إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)، إذاً: مجرد حصول التهمة من شخص لامرأة لا يثبت عليها ذلك إلا بحصول البينة أو الإقرار منها.
وأما مسألة أنه قذفها فهل يقام عليه حد؟ نعم هو قذفها، فإذا طلبت فإنه يقام عليه حد القذف مع حد الزنا، وإن لم تطالب فإنه لا يقام عليه شيء؛ لأنهذا حق لها.
ويعتبر حد الزنا شيئاً وحد القذف شيئاً آخر، وكل واحد مستقل فلا يدخل واحد في الآخر، فلو أن إنساناً زنى وهو بكر وقذف امرأة ووجب عليه حدان، فلا يقال: إنه يجلد مائة وتغني عن الثمانين، وإنما هذه مستقلة وهذه مستقلة.
وهل يندب لمن أقر بالزنا ذكر من زنى بها أو الستر عليها؟
الجواب
لا يندب له ذلك، ولكنه إذا سئل يجيب.(503/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر عنده أنه زنى بامرأة سماها له)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا طلق بن غنام].
طلق بن غنام ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد السلام بن حفص].
عبد السلام بن حفص، صدوق، وثقه ابن معين، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو حازم].
هو سلمة بن دينار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهل بن سعد].
هو سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(503/4)
شرح حديث (أن رجلاً من بكر بن ليث أتى النبي فأقر أنه زنى بامرأة أربع مرات)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا موسى بن هارون البردي حدثنا هشام بن يوسف عن القاسم بن فياض الأبناوي عن خلاد بن عبد الرحمن عن ابن المسيب عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلاً من بكر بن ليث أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر أنه زنى بامرأة أربع مرات، فجلده مائة وكان بكراً، ثم سأله البينة على المرأة فقالت: كذب والله يا رسول الله! فجلده حد الفرية ثمانين)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس: أن رجلاً من بكر بن ليث جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر أنه زنى بامرأة أربع مرات، وهذه الأربع مرات ترجع إلى الإقرار وليس إلى الزنا، أي: أنه حصل منه الإقرار أربع مرات، وليس معناه أنه زنى بها أربع مرات.
قوله: [(فجلده مائة وكان بكراً)].
البكر حده الجلد مائة، كما قال عليه السلام: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام).
قوله: [(ثم سأله البينة على المرأة فقالت: كذب والله يا رسول الله! فجلده حد الفرية ثمانين)].
وهذا الإسناد ضعيف؛ لأن فيه القاسم بن فياض وهو مجهول، فهو غير ثابت، ثم إن حد القذف حق للمرأة؛ فهي إذا طالبت ولم يمكنه إقامة البينة فإنه يقام عليه حد القذف، وإن لم تطالب فإنه لا حد عليه؛ لأن هذا حق للغير، فإذا طالب به نفذ وإن لم يطالب به فإنه لا يقام عليه.
وكذلك المرأة إذا اعترفت أنها زنت وأنه زنى بها فلان وهو منكر، فإنه يقام عليها الحد باعترافها، وإن طالب بحد القذف أقيم عليها كما يحصل بالنسبة للرجل.(503/5)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رجلاً من بكر بن ليث أتى النبي فأقر أنه زنى بامرأة أربع مرات)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
محمد بن يحيى بن فارس ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا موسى بن هارون البردي].
موسى بن هارون البردي صدوق ربما أخطأ، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا هشام بن يوسف].
هشام بن يوسف ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن القاسم بن فياض الأبناوي].
القاسم بن فياض الأبناوي مجهول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن خلاد بن عبد الرحمن].
خلاد بن عبد الرحمن، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن ابن المسيب].
هو سعيد بن المسيب، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة الكرام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(503/6)
يحذف(503/7)
ما جاء في الرجل يصيب من المرأة ما دون الجماع فيتوب قبل أن يأخذه الإمام(503/8)
شرح حديث (جاء رجل إلى النبي فقال إني عالجت امرأة من أقصى المدينة فأصبت منها ما دون أن أمسها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يصيب من المرأة ما دون الجماع فيتوب قبل أن يأخذه الإمام.
حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا أبو الأحوص حدثنا سماك عن إبراهيم عن علقمة والأسود قالا: قال عبد الله رضي الله عنه: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني عالجت امرأة من أقصى المدينة فأصبت منها ما دون أن أمسها، فأنا هذا فأقم علي ما شئت، فقال عمر رضي الله عنه: قد ستر الله عليك لو سترت على نفسك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فانطلق الرجل، فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فدعاه، فتلا عليه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114] إلى آخر الآية، فقال رجل من القوم: يا رسول الله! أله خاصة أم للناس كافة؟ فقال: للناس كافة)].
قوله: [باب في الرجل يصيب من المرأة ما دون الجماع فيتوب قبل أن يأخذه الإمام] معلوم أنه إذا أخذه الإمام فعقوبته التعزير؛ لأنه ليس هناك حد في هذا؛ لأنه ما وقع في الزنا، فعليه التعزير، ولكن إذا جاء تائباً وأخبر بحصول الشيء منه وأنه قد تاب منه، فإنه يسقط عنه التعزير، وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني عالجت امرأة من أقصى المدينة فأصبت منها ما دون أن أمسها) إلى آخر الحديث.
فقوله: [(إني عالجت امرأة فأصبت منها ما لم أمسها)] أي: أنه حصل منه شيء غير الجماع، (فأنا هذا قائم) أي: افعل بي ما تشاء لأجل هذا الذنب الذي قد حصل مني.
قوله: [(فقال عمر رضي الله عنه: قد ستر الله عليك لو سترت على نفسك)].
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئاً، وذهب الرجل، فأنزل الله عليه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، فدعا بالرجل فأتي به وتلا عليه هذه الآية، فدل ذلك على أن الصغائر التي ليس فيها حد تكفرها الصلوات والأعمال الصالحة، ولهذا قال: ((إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)) أي: الصغائر، أما الكبائر فلا تذهبها الحسنات ولابد لها من التوبة، كما قال الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31].
قوله: [(فقال رجل من القوم: يا رسول الله! أله خاصة أم للناس كافة؟ قال: بل للناس كافة)].
أي: هذا الحكم الذي نزلت الآية من أجله وبسببه ليس خاصاً بهذا الذي حصل منه السبب، وإنما هو عام، ولهذا فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالحكم وإن كان سببه قصة معينة فإنه تشريع للأمة، ولا يختص الحكم بأحد إلا إذا جاء ما يدل على اختصاصه به، مثل خزيمة بن ثابت الذي شهادته تعدل شهادة رجلين، وكذلك الذي ضحى قبل الصلاة ثم رخص له بالعناق وقال: (إنها لن تجزي عن أحد بعدك)، فإذا جاء شيء يدل على تخصيصه دل على تخصيصه، وإلا فإن الأصل هو تعميم الحكم للأمة، ولهذا فإن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لواحد هو خطاب للأمة كلها، ولا يختص به الحكم إلا إذا وجد ما يدل على الاختصاص.(503/9)
تراجم رجال إسناد حديث (جاء رجل إلى النبي فقال إني عالجت امرأة من أقصى المدينة فأصبت منها ما دون أن أمسها)
قوله: [حدثنا مسدد بن مسرهد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو الأحوص].
هو أبو الأحوص سلام بن سليم الحنفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سماك].
هو سماك بن حرب، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن إبراهيم].
هو إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علقمة].
هو علقمة بن قيس النخعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[والأسود].
هو ابن يزيد بن قيس، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله].
هو عبد الله بن مسعود الهذلي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(503/10)
ما جاء في الأمة تزني ولم تحصن(503/11)
شرح حديث (إن زنت الأمة فاجلدوها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الأمة تزني ولم تحصن.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ قال: إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير).
قال ابن شهاب: لا أدري في الثالثة أو الرابعة، والضفير: الحبل].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: [باب في الأمة تزني ولم تحصن]، والأمة: هي المملوكة، وذكر الإحصان في قوله: (لم تحصن)؛ لأن الأحاديث جاءت في التنصيص على عدم الإحصان، ولا يعني ذكر عدم الإحصان أن الحكم يختلف في المحصن وغير المحصن، بل الحكم واحد في جميع الإماء، وهو الجلد وليس الرجم؛ لأنه هو الذي يتنصف، وقد جاءت السنة في بيان حد الأمة إذا زنت ولم تحصن، وهو الجلد، وجاء في القرآن حدها إذا أحصنت، قال تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25]، فقد جاء بيان التنصيف في حق من أحصنت في القرآن، وجاء بيان الحد في التي لم تحصن في السنة، فيكون حكم الإماء واحداً وهو الجلد بالتنصيف، فإذا كان قذفاً فيكون الحد أربعين، أي: نصف الثمانين، وإذا كان زنا سواء كانت بكراً أو ثيباً فحدها خمسون جلدة؛ لأن الجلد هو الذي ينصف أما الرجم فلا ينصف.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟) فالسؤال جاء بهذه الطريقة: إذا زنت الأمة ولم تحصن، فما حكمها؟ قال: [(إن زنت فاجلدوها)].
ومعلوم أن الجلد في حق الأحرار في الزنا مائة جلدة، إذاً الجلد في حق العبيد يكون خمسين، سواء كان الزاني ذكراً أو أنثى، وسواء كان محصناً أو غير محصن، والتنصيف جاء ذكره في القرآن.
قوله: [(إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير)].
أي: أنه يكرر عليها الحد، وإذا زنت بعد ذلك فإنه يتخلص منها بالبيع ولو بأبخس الأثمان، ولهذا قال له: (ولو بضفير)، والضفير: هو الحبل، وفي بعض الروايات: (ولو بحبل من شعر)، وهذا فيه بيان التخلص منها ولو بثمن بخس.
وإنما جاءت الشريعة ببيعها لأن تغيير المحل يمكن أن يتغير معه الحال، فقد تذهب إلى سيد جديد يحقق رغبتها ويقضي شهوتها، أو يزوجها بمن يحقق لها ذلك، فربما أن السيد الأول ما زوجها، أو أنه ما حقق لها رغبتها بالاستمتاع بها، فقد تضطر إلى الزنا، ولكنها إذا انتقلت من ملك إلى ملك، وانتقلت من محل إلى محل فقد يتغير الحال بتغير المحل؛ لأنها قد تجد سيداً متمكناً من تحقيق رغبتها إما بنفسه أو بغيره بأن يزوجها بمن يحقق لها الرغبة.
وأيضاً: تغير المحل قد يحصل معه تغير الحال من حال الحاجة إلى حال عدم الحاجة؛ بسبب ما تحصله عند السيد الجديد.(503/12)
تراجم رجال إسناد حديث (إن زنت الأمة فاجلدوها)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس، إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة].
هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الثقفي، وهو ثقة، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني].
أبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر أصحابه حديثاً، وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنه هو صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وإذا باع السيد الأمة فإنه لا يعتبر غشاً، وكونها تباع ولو بحبل من شعر هذا فيه تنبيه إلى أنها بيعت برخص بسبب هذا العيب، فإن الأمة لها قيمة، ولعل الشخص الذي ستنتقل الأمة إليه تعف عنده، فلا تقع في الزنا مرة أخرى.(503/13)
شرح حديث (إذا زنت أمة أحدكم فليحدها ولا يعيرها ثلاث مرار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن عبيد الله حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا زنت أمة أحدكم فليحدها ولا يعيرها ثلاث مرار، فإن عادت في الرابعة فليجلدها وليبعها بضفير، أو بحبل من شعر)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة من طريق أخرى: (إذا زنت أمة أحدكم فليحدها) أي: يقيم عليها الحد، وهذا فيه دليل على أن السيد له أن يقيم الحد على أمته إذا زنت بأن يجلدها خمسين.
قوله: [(إذا زنت أمة أحدكم فليحدها ولا يعيرها)] أي: لا يجمع لها بين الحد والتعيير؛ لأن الحد يكفر الذنب، ولا يعيرها أيضاً فقط بدون أن يقيم عليها الحد، فلا يكتفى بالتعيير عن الحد، ولا يضاف التعيير إلى الحد؛ لأنه إذا أقيم الحد حصلت الكفارة من ذلك الذنب بإقامة الحد عليها، فلا مسوغ ولا وجه للتعيير، وكذلك أيضاً لا يكتفى بالتعيير دون أن يقام الحد، بل يقام الحد ولا يضاف إليه التعيير.
قوله: [(فليحدها ولا يعيرها ثلاث مرار، فإن عادت في الرابعة فليجلدها وليبعها بضفير، أو بحبل من شعر)].
هذا شك من الراوي: هل قال: ضفير، أو قال: حبل من شعر، والضفير: هو الحبل.(503/14)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا زنت أمة أحدكم فليحدها ولا يعيرها ثلاث مرار)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى].
مسدد مر ذكره، ويحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
هو عبيد الله بن عمر العمري المصغر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن أبي سعيد المقبري].
سعيد بن أبي سعيد المقبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.(503/15)
شرح حديث (إذا زنت أمة أحدكم فليحدها ولا يعيرها ثلاث مرار) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن نفيل حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث قال: (في كل مرة فليضربها كتاب الله ولا يثرب عليها، وقال في الرابعة: فإن عادت فليضربها كتاب الله ثم ليبعها ولو بحبل من شعر)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة من طريق أخرى وهو مثل الذي قبله، إلا أنه قال: (إذا زنت فليضربها كتاب الله) وهو الحد، وليس ضرب تأديب أو تعزير، أو ضربات أو أسواط من عند نفسه، وإنما يضربها كتاب الله الذي هو الحد، وهو قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25]، فالذي في كتاب الله هو نصف حد الأحرار، فقوله: (فليضربها كتاب الله) أي: الحد، وليس المقصود أنه ترخيص له بأن يضربها تأديباً أو تعزيراً، وإنما يضربها الحد الذي جاء في كتاب الله وهو نصف حد الأحرار.
قوله: [(ولا يثرب عليها)].
التثريب هو التعيير واللوم والعتب، فعليه أن يحدها ولا يثرب عليها ولا يعيرها.
قوله: [(وقال في الرابعة: فإن عادت فليضربها كتاب الله ثم ليبعها ولو بحبل من شعر)].
إذا عادت في المرة الرابعة فليضربها الحد، ثم ليبعها ولو بحبل من شعر، ولا يبقيها بعد الرابعة عنده، وإنما يبيعها ولو بأبخس الأثمان.
والحدود الأصل أنه لا يقيمها إلا السلطان إلا هذا فإنه مستثنى.(503/16)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا زنت أمة أحدكم فليحدها ولا يعيرها ثلاث مررار) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا ابن نفيل].
هو عبد الله بن محمد النفيلي، يقال له أحياناً: النفيلي، ويقال أحياناً: ابن نفيل، وهو شخص واحد، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن سلمة].
هو محمد بن سلمة الحراني، وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه].
سعيد بن أبي سعيد مر ذكره، وأبوه ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
قد مر ذكره.
وفي الحديث السابق عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة، وهنا: عن أبيه عن أبي هريرة، فقد روى عن أبي هريرة الأب والابن، فكل منهما روى عن أبي هريرة، وسواءً جاء فيه واسطة أو بغير واسطة فـ أبو هريرة شيخ لهما جميعاً.(503/17)
حكم بيع الأمة بعد الرابعة من زناها
وهل يعتبر بيعها بعد الرابعة واجباً؟ هناك خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال بوجوبه، ومنهم من قال: إنه مستحب، ولكن كونها يحصل منها هذا الأمر مراراً وتبقى فقد تستمر على ذلك، ولابد أن تغير الحال.
قال أبو ثور: في هذا الحديث إيجاب الحد، وإيجاب للبيع أيضاً لا يمسكها إذا زنت أربعاً.
وهذا في كلام الخطابي.
وقال النووي: هذا البيع المأمور به مستحب عندنا وعند الجمهور، وقال داود وأهل الظاهر: هو واجب بضفير وحبل من شعر.
فكونها تبقى وقد تكرر منها الزنا إلى هذا الحد فهذا غير لائق، ولهذا فإن التخلص منها أو تغيير الحال معها إذا كان مقصراً معها يغنيها بالحلال عن الحرام.(503/18)
ما جاء في إقامة الحد على المريض(503/19)
شرح حديث (فأمر رسول الله أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في إقامة الحد على المريض.
حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف رضي الله عنه، أنه أخبره بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار: (أنه اشتكى رجل منهم حتى أضني فعاد جلدة على عظم، فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك وقال: استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني قد وقعت على جارية دخلت علي، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما رأينا بأحد من الناس من الضر مثل الذي هو به، لو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة)].
قوله: [باب إقامة الحد على المريض]، المريض نوعان: مريض مرضاً لا يرجى برؤه، ومريض مرضاً يرجى برؤه، فالذي يرجى برؤه ينتظر حتى يشفى ويقام عليه الحد الذي هو الجلد إذا كان الحد جلداً، وأما إذا كان الحد رجماً أو قتلاً فإنه يقتل؛ لأن العلة من عدم إقامة الحد على المريض حتى لا يؤدي ذلك إلى هلاكه، لكن إذا كان هلاكه حكماً شرعياً كأن يكون رجماً أو قتلاً فإنه يقام عليه الحد، سواء كان مريضاً أو غير مريض؛ لأن الحكم هو إهلاكه والقضاء عليه، وأما إذا كان الحد جلداً، والجلد قد يؤدي إلى الوفاة في حق المريض فيكون قد عوقب بعقوبة لا يستحقها وهي أنه قتل، إذاً: لا يقام عليه الحد في حال مرضه إذا كان مرضه يرجى برؤه، بل يؤخر حتى يبرأ ثم يقام عليه الحد، ولا يقام عليه الحد في مكان المرض؛ لأنه قد يؤدي إلى الهلاك، والحد ليس المقصود منه الهلاك، وإنما هو شيء دون الهلاك.
أما إذا كان لا يرجى برؤه فإنه كما جاء في هذا الحديث الذي أورده أبو داود عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قصة هذا الرجل، وأنه أمر بأن يؤخذ مائة شمراخ -وهي أغصان القنو التي يعلق فيها التمر- فيضرب بها ضربة واحدة، ومن العلماء من قال: إنها تنشر عليه نشراً بحيث يمس كل شمراخ منها جسده، ومنهم من قال: إنه يضرب ضربة واحدة ويكون بعضها بالملامسة وبعضها بالثقل؛ لأنه لو ضرب بشمراخ أو شمراخين فليس مثل ما لو ضرب بمائة شمراخ متصل بعضها ببعض، فإن قوته وتأثيره أكثر من تأثير الشمراخ الواحد أو الشمراخين، إذاً: تكون العقوبة بالثقل بحيث يضرب بعثكال فيه مائة شمراخ، وتكون هذه المائة في مقابل المائة جلدة؛ وذلك لأنه لا يتحمل أن يقام عليه مائة جلدة كل جلدة على حدة؛ لأن ذلك يؤدي إلى هلاكه، وحكمه هو الجلد وليس الهلاك، ولهذا جاءت الشريعة بالتخفيف عنه.
وفي هذا دليل على أن الحدود لا تسقط؛ لأنها لو كانت تسقط لسقطت عن مثل هذا، ولم يحتج إلى أن يضرب بمائة شمراخ، ولكن لابد من العقوبة، ولابد من إقامة الحد، فهو دليل على أن الحدود لا تسقط وإنما تقام حيث ثبتت أو ثبت الفعل المقتضي للحد.
قوله: [عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف رضي الله عنه أنه أخبره بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار (أنه اشتكى رجل منهم حتى أضني فعاد جلدة على عظم)].
أي: أنهكه المرض، حتى صار جلداً على عظم ليس فيه لحم من شدة إنهاك المرض.
قوله: [(فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها)].
يعني: تحرك لها وهش فوقع عليها، وهذا يبين لنا أن ما جاء عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالنساء وأنهن فتنة، وأن أضر فتنة على الرجال هي النساء، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)، وهذا أيضاً دليل على أن المريض والشيخ الكبير لا يتهاون أو يتساهل معه؛ لأنه كما يقولون: لكل ساقطة لاقطة، والناس يتفاوتون، فإذا كان هذا الشخص الذي مرض مرضاً شديداً تحرك لهذه الجارية ووقع عليها وهو جلد على عظم، فهذا يبين مدى عظم المصيبة، ومدى عظم فتنة الرجال بالنساء، وأن الواجب هو الاحتراز والابتعاد، ولهذا جاء تغليظ العقوبة في حق من يقدم على ذلك وقد ذهب وقت نشاطه وشبابه، كما جاء في الحديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، وملك كذاب)، وقوله: (أشيمط) تصغير أشمط، أي: أنه هرم وكبر، وذهب شبابه، وكونه يزني وهو بهذا الوصف فإنه يدل على زيادة خبث، ولو كان شاباً فأمره يختلف عنه؛ لأن عنده قوة الغريزة والحاجة، وأما هذا فقد ولى وذهب ومع ذلك يتعلق بالنساء، وكذلك العائل المستكبر؛ لأن الاستكبار غالباً لا يأتي إلا مع الغنى، وأما العائل الذي ليس عنده أسباب الكبر فهذا يدل على خبثه، وكذلك الملك الكذاب ليس بحاجة إلى أن يكذب؛ لأنه يستطيع أن يقول الذي يقع على حقيقته ولا يخاف من أحد، وإنما الذي يكذب هو الذي يخاف لأنه ضعيف، وأما من كان في قمة المسئولية فإنه لا يحتاج إلى أن يكذب، فهؤلاء وقعت منهم أمور لا وجه لحصولها منهم، فهو يدل على سوء وخبث.
ومن البلاء الموجود الآن أن المستشفيات تعج بالممرضات، والبيوت تعج بالخادمات، وهن أشد فتنة من الممرضات، وبقاؤهن في البيت أعظم فتنة وأشد خطراً.
قوله: [(فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك وقال: استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني قد وقعت على جارية دخلت علي، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم)].
وهذا أيضاً يدل على خطورة الخلوة، حتى لو كان الذي حصلت معه الخلوة في غاية الكبر أو في غاية الضعف.
قوله: [(فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما رأينا بأحد من الناس من الضر مثل الذي هو به، لو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم)].
يعني: ما يستطيع أن يتحرك ولا يحرك.
قوله: [(فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة)].
وهذا -كما ذكرنا- إذا كان غير مرجو البرؤ، أما إذا كان يرجى برؤه وكان مرضه مرضاً عارضاً فإنه يؤجل إلى أن يشفى، وأما إذا كان كذلك فإنه يعمل معه هذا العمل بحيث لا تسقط عنه العقوبة، ولا يعاقب بالعقوبة التي يستحقها شرعاً، وهي الجلد مائة كل جلدة على حدة؛ لأن هذا يؤدي إلى قتله، أما إن كان محصناً فإنه يقتل، ولو كان بهذه المنزلة؛ لأن المقصود هو إهلاكه سواء كان في غاية الصحة أو في غاية السقم إذا كان محصناً.(503/20)
تراجم رجال إسناد حديث (فأمر رسول الله أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة)
قوله: [حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني].
أحمد بن سعيد الهمداني صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
ابن شهاب مر ذكره.
[أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف].
اسمه: أسعد، وله رؤية، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار].
وهذا فيه جهالة الصحابي، وجهالة الصحابة ذكرنا مراراً أنها لا تؤثر؛ لأن المجهول فيهم في حكم المعلوم، وإنما الجهالة تؤثر في غيرهم.(503/21)
حكم تجزئة الجلد على الأيام إذا كان الزاني مريضاً
وهل يجوز تجزئة الجلد بحيث يكون في كل يوم عدد معين حتى تتم المائة؟ لم يأت شيء يدل عليه، ولو كان ذلك سائغاً لأمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يجلد هذا كل يوم جلدة واحدة.
وأما التعزير إذا حكم بجلدات كثيرة تعزيراً فيمكن أن تقسم.(503/22)
شرح حديث (دعها حتى ينقطع دمها ثم أقم عليها الحد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا إسرائيل حدثنا عبد الأعلى عن أبي جميلة عن علي رضي الله عنه قال: (فجرت جارية لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا علي! انطلق فأقم عليها الحد، فانطلقت فإذا بها دم يسيل لم ينقطع، فأتيته فقال: يا علي! أفرغت؟ قلت: أتيتها ودمها يسيل، فقال: دعها حتى ينقطع دمها ثم أقم عليها الحد، وأقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم).
قال أبو داود: وكذلك رواه أبو الأحوص عن عبد الأعلى، ورواه شعبة عن عبد الأعلى فقال فيه: قال: (لا تضربها حتى تضع)، والأول أصح].
أورد أبو داود حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن جارية من آل النبي صلى الله عليه وسلم فجرت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يقيم عليها الحد، فوجد بها أثر دم، كأنه كان فيها نفاس أو مرض، فلم يقم عليها الحد، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفرغت؟ يعني: أقمت الحد عليها؟ فأخبره بالذي منعه من الإقامة، فقال: أحسنت، يعني: في كونك لم تقم عليها الحد وهي مريضة، وهذا يدل على أن المريض إذا كان يرجى برؤه فإنه يؤخر عنه الحد كما جاء في هذا الحديث، وإذا كان لا يرجى برؤه فإنه يقام عليه الحد بالطريقة التي مر ذكرها في الحديث السابق، فإذا كانت إقامة الحد بالطريقة المشروعة سوف تؤدي إلى هلاكه فإنه يقام عليه الحد بتلك الطريقة التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أن يضرب بمائة شمراخ وهي تقوم مقام مائة جلدة.
قوله: [(قال: أتيتها ودمها يسيل، فقال: دعها حتى ينقطع دمها، ثم أقم عليها الحد)].
يعني: حتى تنتهي من نفاسها ثم أقم عليها الحد.
قوله: [(وأقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم)].
هذا يدل على أن الولي أو السيد يقيم الحد على ملك يمينه، وقد مر في الحديث السابق ما يدل عليه.(503/23)
تراجم رجال إسناد حديث (دعها حتى ينقطع دمها ثم أقم عليها الحد)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا إسرائيل].
هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الأعلى].
هو عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، وهو صدوق يهم، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبي جميلة].
هو ميسرة الطهوي، وهو مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[عن علي].
علي أمير المؤمنين رضي الله عنه، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، وصاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: وكذلك رواه أبو الأحوص عن عبد الأعلى].
أبو الأحوص هو سلام بن سليم الحنفي، وقد مر ذكره.
[ورواه شعبة عن عبد الأعلى].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[فقال فيه: (لا تضربها حتى تضع) والأول أصح].
الأول أصح؛ لأنه لم يخبر أنها نفساء، يعني: فيها دم.(503/24)
ما جاء في حد القذف(503/25)
شرح حديث عائشة (لما نزل عذري قام النبي على المنبر فذكر ذلك وتلا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في حد القذف.
حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي ومالك بن عبد الواحد المسمعي وهذا حديثه أن ابن أبي عدي حدثهم عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فذكر ذاك وتلا -تعني: القرآن- فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم)].
قوله: [باب في حد القذف]، القذف: هو الرمي بفاحشة الزنا، وحده كما جاء في القرآن ثمانون جلدة إذا لم تقم البينة على ثبوت الزنا، وإذا أقيمت البينة أقيم الحد على المتهم، فإن لم تقم البينة فإنه يحد، وذلك كله لأجل حفظ الأعراض وعدم التهاون فيها، وأن الإنسان لا يطلق لسانه في كلام قبيح يضيفه إلى الناس وهم برآء منه، فإن فعل فعقوبته أن يجلد ثمانين جلدة كما جاء ذلك في القرآن.
وقد أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فذكر ذاك وتلا -تعني: القرآن-)].
أي: الآيات التي بين الله عز وجل فيها أنها مبرأة، وأنه لم يقع منها ما اتهمت به، والنبي صلى الله عليه وسلم كان متردداً في أمرها ولم يجزم في أمرها بشيء، ولم يعلم حقيقة الأمر حتى نزل القرآن، وهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وأنه لا يطلع من الغيوب إلا على ما أطلعه الله عليه؛ لأنه بقي مدة طويلة وهو متألم متأثر من هذا الذي نسب إلى أهله، فلو كان يعلم الغيب من أول وهلة لقال: أنا أعلم الغيب، هي لم يقع منها شيء، ولكنه بقي متأثراً متألماً من رمي أهله بما رموا به، ثم بعد ذلك أنزل الله آيات تتلى في سورة النور فيها براءتها مما نسب إليها رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
فقصة الإفك هي من أوضح الأدلة على بطلان قول من يغلو في النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: إنه يعلم الغيوب، وأنه لا يخفى عليه شيء، فإن هذا من أبطل الباطل، فإن الذي اختص بعلم الغيب على الإطلاق هو الله، وغير الله لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، والله لم يطلع نبيه على كل غيب، وإنما أطلعه على بعض الغيوب، وأخفى عليه ما شاء من الغيوب، وهذا مما يوضح ذلك، فقد حصل ما حصل والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم الحقيقة، وبعد ذلك أنزل الله تعالى البراءة، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (يا عائشة! إن كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله واستغفري).
ومع أن عائشة رضي الله عنها في القمة وفي المنزلة الرفيعة وفي علو السؤدد والفضل؛ لكونها زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأم المؤمنين، وهي أوعى امرأة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أنزل الله تعالى براءتها بآيات تتلى، ومع ذلك تتواضع لله عز وجل، ولا يحصل لها عجب بذلك، بل تستهون نفسها، وتقول كما جاء في الصحيح: (فلشأني في نفسي أهون من أن ينزل في آيات تتلى)، فقد: كانت تؤمل أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه رؤيا يبرئها الله تعالى بها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رؤيا الأنبياء وحي)، وكانت تعتقد أن نفسها أهون من أن ينزل الله فيها آيات تتلى، وهذا من التواضع، فهذا شأن أولياء الله يبلغون الكمال، ويتواضعون لله عز وجل.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه: جلاء الأفهام ترجمة مختصرة لأمهات المؤمنين جميعاً، وذكر بعض الأحاديث التي تتعلق ببعضهن وهي مشكلة وأجاب عنها، مثل زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بـ ميمونة وهي محرمة، ومثل زواجه من أم حبيبة ومن هو وليها؟ والإشكال هو أن أبا سفيان قال: أزوجك فلانة، مع أن الرسول تزوجها في حال كفر أبي سفيان، فـ ابن القيم رحمه الله أورد تراجم أمهات المؤمنين وذكر من تواضع عائشة وقال: إنها مع ما وصلت إليه من المنزلة تقول: (لشأني في نفسي أهون من أن ينزل فيّ أيات تتلى)، ثم قال: أين هذا ممن يصوم بضعة أيام ويقول: أنا كذا وكذا، أو يصلي ركعتين من الليل أو أكثر ويقول: أنا كذا وكذا؟! فهي في القمة ومع ذلك ينزل فيها القرآن وتستهون نفسها، وترى أنها لا تستحق ذلك، وهذا كما قال الله عز وجل عن أوليائه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60].
قولها: [(لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فذكر ذاك)].
أي: ذكر الذي حصل، وهو نزول القرآن في براءتها، الآيات التي أولها: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11].
قوله: [(وتلا -تعني: القرآن- فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم)].
وهم: حسان ومسطح، والمرأة هي حمنة.(503/26)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة (لما نزل عذري قام النبي على المنبر فذكر ذلك وتلا)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومالك بن عبد الواحد المسمعي].
مالك بن عبد الواحد المسمعي ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[وهذا حديثه أن ابن أبي عدي].
هو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق مر ذكره.
[عن عبد الله بن أبي بكر].
هو عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرة].
هي عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(503/27)
شرح حديث عائشة من طريق أخرى، وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق بهذا الحديث ولم يذكر عائشة، قال: فأمر برجلين وامرأة ممن تكلم بالفاحشة حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة رضي الله عنهما، قال النفيلي: ويقولون: المرأة حمنة بنت جحش رضي الله عنها].
وهذا مثل الذي قبله.
قوله: [حدثنا النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق بهذا الحديث].
هؤلاء مر ذكرهم جميعاً.(503/28)
الأسئلة(503/29)
تصحيح حديث (أقيموا الحدود على إمائكم) لشواهده أخرى
السؤال
قوله: (فجرت جارية لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا علي! انطلق فأقم عليها الحد)، فيه أبو جميلة وقد ذكرتم أنه مقبول، فما وجه تصحيح الشيخ الألباني له؟
الجواب
أبو جميلة أخرج له أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة، والحديث نسبه المنذري كذلك للنسائي.
وأما عن تصحيح الألباني له فلا أدري، ولعله صححه لشواهد، وفيه لفظ ذكره في نفس الحديث، وفيه: (أقيموا الحدود على إمائكم)، وهذا اللفظ في صحيح مسلم: (أقيموا الحدود على إمائكم من أحصن ومن لم يحصن)، عن علي رضي الله عنه.
وذكر في عون المعبود شاهد آخر من حديث عبد الله بن حبيب قال: (خطب علي رضي الله عنه فقال: أيها الناس! أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديثة عهد بنفاس).
هذا هو الشاهد؛ لأن هذا من طريق أخرى غير طريق أبي جميلة، فهذه متابعة؛ لأن الصحابي واحد؛ فالشواهد غالباً تكون باختلاف الصحابة، وأما المتابعات فالصحابي فيها واحد.(503/30)
حكم من قال بانزلاق حسان بن ثابت مع المنافقين في قصة الإفك
السؤال
ما رأيكم في قول: إن حسان بن ثابت رضي الله عنه انزلق مع المنافقين في قصة الإفك؟
الجواب
لا يقال: انزلق مع المنافقين، أو يوصف بأن عنده نفاقاً، ولكنه حصل منه ما حصل، وقد أقيم عليه الحد وهو كفارة له، فكأنه لم يحصل شيء، فقد طهره الله من الذي وقع منه بإقامة الحد، فإن الحدود كفارات.(503/31)
حكم القذف بفاحشة اللواط
السؤال
ما حكم القذف بفاحشة اللواط هل يقال عنه قذف كالقذف بالزنا؟
الجواب
لا فرق بينهما، بل هذا أخبث.(503/32)
هل طالبت عائشة رضي الله عنها بجلد من قذفها؟
السؤال
لم يرد في أحاديث الإفك أن عائشة رضي الله عنها طالبت بحقها في إقامة الحد على من رماها، فلماذا أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد؟
الجواب
القصة اشتهرت، والرسول تألم، وكانت المدة نحو خمسين يوماً وهو متألم ومتأثر؛ بسبب هذا الذي قد حصل، وأهلها كانوا متأثرين كلهم، ومعلوم قصة الآية التي نزلت في أبي بكر: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ}؛ لأنه كان يحسن إلى مسطح وينفق عليه، ولما حصل منه ما حصل حلف ألا يعطيه شيئاً؛ فأنزل الله هذه الآية: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى} [النور:22]، وقال في آخرها: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22]، فعدل عما عزم عليه، وأعطاه ما كان يعطيه من قبل.(503/33)
حكم المرأة إذا كانت مطاوعة في زنا أحد المحارم بها
السؤال
ذكرتم في حكم الرجل الذي يأتي محارمه إما بالعقد أو بوقوع الزنا أنه يقتل، فإذا كانت المرأة مطاوعة أو مكرهة فما الحكم؟
الجواب
إذا زنى بها وهي مكرهة فمعلوم أن المكرهة معذورة، سواء كان الذي فعل بها من المحارم أو من غير المحارم، وأما إن كانت مطاوعة وموافقة فالذي يبدو أن الحكم واحد ولا فرق بين هذا وهذا.(503/34)
حكم توزيع الأب تركته على أولاده وهو حي
السؤال
رجل لديه زوجتان الأولى لها منه عشرة أولاد، والثانية خمسة، فهل يجوز له أن يوزع تركته في حياته على هؤلاء الأولاد؟
الجواب
ليس له أن يوزع التركة، ولكن إذا أراد أن يعطيهم عطية في الحياة فيعطيهم على قدر إرثهم، وأما توزيع التركة فلا يوزعها، وإنما يترك المال، وإذا انتهى من هذه الحياة سيقسم عليهم كما قسم الله عز وجل.(503/35)
لا يجب على ولي المرأة أن يخبر الرجل المتقدم أنها زنت إذا تابت
السؤال
إذا زنت المرأة وتقدم لها رجل للزواج، فهل يجب على وليها أن يخبره بما فعلت؟
الجواب
لا يجب عليه، فإذا تابت فليس له أن يخبره؛ لأن الستر مطلوب، والتوبة تجب ما قبلها، ومن تاب تاب الله عليه، ولا يعتبر هذا غشاً، لاسيما إذا كانت مكرهة فهي معذورة.(503/36)
حكم قطع يد السارق إذا خيف موته لمرضه
السؤال
إذا سرق السارق وكان مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه وخيف عليه الموت إن قطعت يده، فهل يسقط عنه الحد؟
الجواب
إذا كان القطع يؤدي إلى هلاكه بسبب مرضه فإنه يسقط عنه الحد، لكن كونه يقام عليه الحد ثم يموت بسبب ذلك، فإن سراية الحد هدر لا تضمن.(503/37)
شرح سنن أبي داود [504]
شرب الخمر من كبائر الذنوب، وحده أربعون جلدة كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جلد أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، فلما تساهل الناس في عهد عمر جلد ثمانين، ومن تكرر منه شرب الخمر فقد ورد أنه يقتل في الرابعة، وهذا محمول على التعزير.(504/1)
ما جاء في الحد في الخمر(504/2)
شرح حديث (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقت في الحمر حداً
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الحد في الخمر.
حدثنا الحسن بن علي ومحمد بن المثنى وهذا حديثه قالا: حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن محمد بن علي بن ركانة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقت في الخمر حداً).
وقال ابن عباس: (شرب رجل فسكر فلقي يميل في الفج، فانطلق به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حاذى بدار العباس انفلت فدخل على العباس فالتزمه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك وقال: أفعلها؟ ولم يأمر فيه بشيء).
قال أبو داود: هذا مما تفرد به أهل المدينة حديث الحسن بن علي هذا].
ذكر الإمام أبو داود رحمه الله تعالى هذه الترجمة وهي: [باب في الحد في الخمر]، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم التحديد في حد الخمر بأربعين، وجاء عن عمر رضي الله عنه بمشورة الصحابة أنه جعله ثمانين، وهو ما يعادل أخف وأسهل الحدود غير الخمر، وهو القذف الذي يكون الجلد فيه ثمانين، وقد جاء في بعض الأحاديث عدم التحديد، وإنما ذكر فيها جلد وضرب، وأن كلاً يضرب من جهته، وجاء في بعضها التحديد بأربعين وقد ذكر بعضها المصنف هنا، فقد جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم جلد أربعين، وأبا بكر جلد أربعين، وعمر جلد أربعين ثم جعلها ثمانين، وعلى هذا فحد الخمر أربعون كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض أهل العلم قال: حده ثمانون جلدة، وبعضهم قال: ما زاد على الأربعين إنما هو تعزير، ويرجع فيه إلى الإمام، ولا شك أن الذي ثبتت به السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام هو أربعون، فمن أخذ بذلك فقد أخذ بالسنة، ومن أخذ بالثمانين فقد أخذ بما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهو من الخلفاء الراشدين الهادين المهديين.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقت للخمر حداً) أي: أنه لم يوقت ولم يجعل لها حداً، وذكر أيضاً: أن رجلاً سكر وأنه رؤي يميل في الفج -أي: في الطريق- فعرف أنه سكران فهرب ودخل في بيت العباس والتزمه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل فقال: (أفعلها؟) فجعل يتبسم ويضحك ويقول: (أفعلها؟) ولم يأمر فيه بشيء، لكن الحديث في إسناده ابن جريج، وقد روى بالعنعنة، ولو ثبت فإنه يكون محمولاً على أنه لم يحصل فيه ثبوت شيء لا بالاعتراف ولا بالشهادة، وإنما رؤي يتمايل فظن أنه شرب خمراً، وأنه لما دخل على العباس والتزمه معناه أنه: ملتجئ إليه وطالب تخليصه، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيه بشيء، ولكنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جلد في الخمر أربعين، كما جاء في حديث علي رضي الله عنه وأرضاه الذي ذكره أبو داود، وهو عند مسلم وغيره كما سيأتي.(504/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقت في الخمر حداً)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[ومحمد بن المثنى].
هو الزمن أبو موسى العنزي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وهذا حديثه قالا: حدثنا أبو عاصم].
هو الضحاك بن مخلد النبيل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن علي بن ركانة].
محمد بن علي بن ركانة صدوق، أخرج له أبو داود.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(504/4)
شرح حديث (أن رسول الله أتي برجل قد شرب فقال: اضربوه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو ضمرة عن يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب فقال: اضربوه، قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة: أن النبي عليه الصلاة والسلام أتي برجل قد شرب الخمر، فأمر بضربه فضربوه، فكان منهم الضارب بنعله، والضارب بسوطه، والضارب بثوبه، وبعد ذلك قال رجل من القوم: أخزاك الله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان)، وهذا ليس فيه ذكر التحديد بأربعين، ولكنه جاء في بعض الأحاديث الأخرى التحديد بالأربعين.(504/5)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله أتي برجل قد شرب فقال: اضربوه)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو ضمرة].
هو أنس بن عياض، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن الهاد].
يزيد بن الهاد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إبراهيم].
هو محمد بن إبراهيم التيمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(504/6)
شرح حديث (أن رسول الله أتي برجل قد شرب فقال اضربوه) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن داود بن أبي ناجية الإسكندراني حدثنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب وحيوة بن شريح وابن لهيعة عن ابن الهاد بإسناده ومعناه، قال فيه بعد الضرب: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (بكتوه، فأقبلوا عليه يقولون: ما اتقيت الله! ما خشيت الله! وما استحييت من رسول الله صلى الله عليه وسلم! ثم أرسلوه، وقال في آخره: ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، وبعضهم يزيد الكلمة ونحوها)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله أو نحوه، وقال فيه: (بكتوه) أي: أنبوه بدون سب وشتم، فجعلوا يقولون له: ما اتقيت الله، ما استحييت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك قال: (قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه).
قوله: [(وبعضهم يزيد الكلمة ونحوها)].
أي: في الدعاء له، وهذا فيه ورود اللوم ولكن بدون سب؛ لأن قولهم له: ما اتقيت الله، أي: مما حصل منك، فهذا تأنيب وتبكيت، ولكن ليس فيه سب ولا دعاء عليه، بل في آخر ذلك أمر بالدعاء له.(504/7)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله أتي برجل قد شرب فقال اضربوه) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا محمد بن داود بن أبي ناجية الإسكندراني].
محمد بن داود بن أبي ناجية الإسكندراني ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يحيى بن أيوب].
يحيى بن أيوب صدوق ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحيوة بن شريح].
هو حيوة بن شريح المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وابن لهيعة].
ابن لهيعة صدوق اختلط، وحديثه أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
وهو هنا مقرون باثنين من الثقات، وأيضاً الراوي عنه عبد الله بن وهب، وحتى لو لم يكن معه قرين أو قرناء فإن رواية عبد الله بن وهب مما سمع منه قبل الاختلاط، والعبادلة الأربعة: عبد الله بن وهب وعبد الله بن يزيد المكي وعبد الله بن المبارك وعبد الله بن مسلمة القعنبي.(504/8)
شرح حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام (ح) وحدثنا مسدد حدثنا يحيى عن هشام المعنى عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال وجلد أبو بكر رضي الله عنه أربعين، فلما ولي عمر رضي الله عنه دعا الناس فقال لهم: إن الناس قد دنوا من الريف -وقال مسدد: من القرى والريف- فما ترون في حد الخمر؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: نرى أن تجعله كأخف الحدود، فجلد فيه ثمانين)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الذي فيه: أنهم جلدوا بالجريد والنعال في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر أربعين، وأن عمر رضي الله عنه لما حصل الريف وحصلت الخيرات، وكثرت الثمرات، استسهل بعض الناس صنع الخمر واستعمالها، فاستشار الصحابة رضي الله عنهم في الإتيان بعقوبة تردع عن هذا العمل، فرأوا أن الذي يحصل به المقصود ثمانون وهي المماثلة لحد القذف الذي هو أقل الحدود؛ لأن الزنا فيه مائة جلدة، والسرقة فيها قطع اليد، وأخفها حد القذف الذي هو ثمانون، فعند ذلك رأى عمر رضي الله عنه ومن معه من الصحابة ذلك، وكان فيهم علي وعبد الرحمن بن عوف، فصار يجلد ثمانين رضي الله تعالى عنه وعن الصحابة أجمعين.(504/9)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام].
هو هشام الدستوائي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام المعنى عن قتادة].
هشام مر ذكره، وقتادة هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(504/10)
مرسل قتادة أن النبي جلد بالجريد والنعال أربعين
[قال أبو داود: رواه ابن أبي عروبة عن قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه جلد بالجريد والنعال أربعين)].
أورد أبو داود الحديث ولكنه مرسل؛ لأنه من رواية قتادة ولم يذكر فيه أنساً، وفيه أنه جلد بالجريد والنعال أربعين.
قوله: [رواه ابن أبي عروبة].
هو سعيد بن أبي عروبة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة مر ذكره.(504/11)
شرح حديث (ضرب بجريدتين نحو الأربعين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه شعبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ضرب بجريدتين نحو الأربعين)].
ذكر طريقاً أخرى وهي عن شعبة بن الحجاج الوسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
عن قتادة عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب بجريدتين نحو الأربعين) وليس فيه ذكر التحديد بالأربعين، وفيه ذكر الجريدتين، ومعنى ذلك أنه ضرب بكل واحدة قريباً من نصف هذا العدد، وفي الثانية مثلها، فصار مجموع ذلك قريباً من الأربعين، بمعنى: ضرب عشرين بجريدة، وعشرين بجريدة أو قريباً من ذلك، فيكون نحواً من أربعين.(504/12)
شرح حديث علي (جلد النبي أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد بن مسرهد وموسى بن إسماعيل المعنى قالا: حدثنا عبد العزيز بن المختار حدثنا عبد الله الداناج حدثني حضين بن المنذر الرقاشي -هو أبو ساسان - قال: (شهدت عثمان بن عفان رضي الله عنه وأتي بـ الوليد بن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر، فشهد أحدهما أنه رآه شربها -يعني: الخمر- وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال لـ علي رضي الله عنه: أقم عليه الحد، فقال علي للحسن رضي الله عنه: أقم عليه الحد، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها، فقال علي لـ عبد الله بن جعفر: أقم عليه الحد، قال: فأخذ السوط فجلده وعلي يعد، فلما بلغ أربعين قال: حسبك، جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، أحسبه قال: وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي)].
أورد أبو داود حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قصة جلد الوليد بن عقبة وقد شهد عليه حمران مولى عثمان أنه رآه شرب الخمر، وشهد رجل آخر أنه رآه يتقيؤها، ومعلوم أنه لم يتقيأها إلا لكونه شربها؛ لأن من تقيأ شيئاً فهو قد شربه، فـ عثمان رضي الله عنه أقام عليه الحد، وأسند إلى علي القيام بهذه المهمة، أي: أنه هو المنفذ، ويعين من يرى ليباشر الجلد، فأمر الحسن بأن يجلد فقال: ول حارها من تولى قارها، أي: أن من تولى الشيء السهل هو الذي يتولى الشيء الصعب، والمقصود من ذلك: من تولى قار الخلافة هو الذي يتولى حارها، فالذي يحصل السهولة واليسر والمال هو الذي يكلف بمثل هذه الأعمال، فصرف علي رضي الله عنه النظر عنه وأمر عبد الله بن جعفر أن يجلده، فباشر جلده، فجعل يجلده وعلي يعد حتى وصل إلى أربعين فقال له: أمسك، ثم قال: جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي، أي: هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه سنة عمر رضي الله عنه، قال: وكل سنة، أي: وكل ذلك حق، ولكن هذا أحب إلي؛ لأنه هو الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر رضي الله عنه اجتهد في شيء رأى فيه المصلحة بردع الناس؛ لكونهم تتابعوا على شرب الخمر وكثر فيهم الشرب، فأراد أن تكون هناك عقوبة تردعهم وتمنعهم من الوقوع في ذلك الذي أقدموا عليه.(504/13)
تراجم رجال إسناد حديث علي (جلد النبي أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة)
قوله: [حدثنا مسدد بن مسرهد وموسى بن إسماعيل].
مسدد مر ذكره، وموسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قالا: حدثنا عبد العزيز بن المختار].
عبد العزيز بن المختار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله الداناج].
عبد الله الداناج ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثني حضين بن المنذر].
هو حضين بن المنذر أبو ساسان، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن علي].
هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة رضي الله عنه أرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(504/14)
شرح حديث (جلد رسول الله في الخمر وأبو بكر أربعين، وكملها عمر ثمانين) وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن أبي عروبة عن الداناج عن حضين بن المنذر عن علي رضي الله عنه قال: (جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر وأبو بكر رضي الله عنه أربعين، وكملها عمر رضي الله عنه ثمانين، وكل سنة)].
أي: أوصلها إلى ثمانين، كأدنى الحدود الذي هو حد القذف، وقال: (وكل سنة) فمن أخذ بهذا فقد أخذ بسنة، ومن أخذ بهذا فقد أخذ بسنة.
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن أبي عروبة عن الداناج عن حضين بن المنذر عن علي].
قد مر ذكرهم جميعاً.(504/15)
تفسير الأصمعي لقول الحسن (ول حارها من تولى قارها)
[قال أبو داود: وقال الأصمعي: ول حارها من تولى قارها: ول شديدها من تولى هينها].
ذكر هذا الأثر عن الأصمعي في تفسيره: (ول حارها من تولى قارها) أي: ول شديدها من تولى هينها.
والقار قيل: هو البارد وهو مقابل الحار، والقر: هو البرد، والمقصود أنه يتولى الشديد من تولى اللين.
ويقال في أيام النحر: يوم العيد يوم النحر، ويوم الحادي عشر: يوم القر، الذي هو الاستقرار، وهذا ليس من المعنى الذي نحن فيه.
[قوله: وقال الأصمعي].
هو: عبد الملك بن قريب، وهو صدوق سني، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
وقوله: (سني) سبق أن مر بنا ذكر الأصمعي، وعرفنا أن الحافظ ابن حجر في ترجمته له في تهذيب التهذيب ذكر أن أربعة من علماء اللغة في البصرة هم أهل سنة ومنهم الأصمعي.
[قال أبو داود: هذا كان سيد قومه حضين بن المنذر أبو ساسان].
هذا تعريف بهذا الرجل الذي يروي عن علي وهو حضين بن المنذر أبو ساسان وأنه كان سيد قومه.(504/16)
إذا تتابع في شرب الخمر(504/17)
شرح حديث (إذا شربوا الخمر فاجلدوهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب إذا تتابع في شرب الخمر.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان عن عاصم عن أبي صالح ذكوان عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا شربوا الخمر فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاقتلوهم)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: [باب إذا تتابع في شرب الخمر]، أي: إذا شرب الخمر مراراً وحصل الجلد في كل مرة فإنه في المرة الرابعة يقتل، وقد جاء عن معاوية وغيره هذا الحكم الذي هو: الجلد في المرات الثلاث الأولى، ثم في الرابعة يقتل، وأكثر أهل العلم على أنه لا يقتل، ولهذا ذكر الترمذي رحمه الله في العلل أن كل ما في كتابه السنن قد عمل به إلا أحاديث ثلاثة، ومنها هذا الحديث الذي هو حديث قتل شارب الخمر، ولكنه حديث واضح وصريح، وقد جاء عن بعض أهل العلم أنه قال بقتله، ويكون هذا من قبيل التعزير، وأنه يمكن أن يحصل التعزير بقتله إذا لم يحصل الانكفاف إلا بذلك.
وللشيخ أحمد شاكر رحمه الله رسالة في هذا اسمها: القول الفصل في قتل مدمن الخمر.(504/18)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا شربوا الخمر فاجلدوهم)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان].
موسى بن إسماعيل مر ذكره، وأبان هو أبان بن يزيد العطار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الستة إلا ابن ماجة.
[عن عاصم].
هو عاصم بن أبي النجود، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وحديثه في الصحيحين مقرون.
[عن أبي صالح ذكوان].
هو أبو صالح ذكوان السمان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معاوية بن أبي سفيان].
معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أمير المؤمنين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(504/19)
كلام الخطابي في المراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم (ثم إن شربوا فاقتلوهم)
قال الخطابي: قد يرد الأمر بالوعيد ولا يراد به وقوع الفعل.
وهذا ليس بواضح، فكيف يقول: اقتلوه وهو لا يريد قتله؟! واستدلاله بحديث: (من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه) حيث قال: وهو لو قتل عبده لم يقتل به في قول عامة العلماء، وكذلك لو جدعه لم يجدع بالاتفاق، فالحديث جاء عن جماعة من الصحابة وفيه ذكر القتل، وهو من باب التعزير، فيحصل القتل إذا رأى الإمام مصلحة في ذلك ويكون تعزيراً.(504/20)
شرح حديث (إذا شربوا الخمر فاجلدوهم) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حميد بن يزيد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بهذا المعنى، قال: وأحسبه قال في الخامسة: إن شربها فاقتلوه)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر، وهو بمعنى حديث معاوية قال: أحسبه قال في الخامسة: (إن شربها فاقتلوه)، وفي الحديث الأول قال ذلك في المرة الرابعة ولكنه شك، والذي ثبت هو في الرابعة.(504/21)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا شربوا الخمر فاجلدوهم) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد].
هو ابن سلمة بن دينار، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن حميد بن يزيد].
حميد بن يزيد مجهول الحال، أخرج له أبو داود.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهو الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود: وكذا في حديث أبي غطيف: في الخامسة].
أي: أنه مثل الذي قبله، قال: أحسبه قال في الخامسة، وأبو غظيف لا يعرف اسمه، وهو هذلي مجهول، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.(504/22)
شرح حديث (إذا سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه) وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي حدثنا يزيد بن هارون الواسطي حدثنا ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، فإن عاد الرابعة فاقتلوه)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة وهو بمعنى حديث معاوية الذي تقدم.
قوله: [حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي].
نصر بن عاصم الأنطاكي لين الحديث، أخرج له أبو داود.
[حدثنا يزيد بن هارون الواسطي].
يزيد بن هارون الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن أبي ذئب].
هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحارث بن عبد الرحمن].
الحارث بن عبد الرحمن صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبي سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة قد مر ذكره.(504/23)
شرح حديث (إذا شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد الرابعة فاقتلوه) وتراجم رجال الإسناد
[قال أبو داود: وكذا حديث عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد الرابعة فاقتلوه)].
هذا أيضاً طريق آخر عن أبي هريرة وفيه أنه في الرابعة يقتل.
قوله: [وكذا حديث عمر بن أبي سلمة].
عمر بن أبي سلمة صدوق يخطئ، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن أبيه عن أبي هريرة].
أبوه هو أبو سلمة، وأبو هريرة مر ذكره.(504/24)
شرح حديث (إن شربوا الرابعة فاقتلوهم) من طرق أخرى، وتراجم رجال الإسناد
[قال أبو داود: وكذا حديث سهيل عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شربوا الرابعة فاقتلوهم)].
وهذا أيضاً مثلما تقدم، وسهيل بن أبي صالح صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة وروايته مقرونة عند البخاري.
قوله: [عن أبي صالح عن أبي هريرة].
مر ذكرهما.
[وكذا حديث ابن أبي نعم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم].
يعني: أن فيه القتل في الرابعة.
وابن أبي نعم هو عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وكذا حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم].
كذلك فيه القتل في الرابعة.
[والشريد عن النبي صلى الله عليه وسلم].
الشريد بن سويد صحابي، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[وفي حديث الجدلي عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه)].
هذا شك، والرواية التي تقدمت نص في الرابعة.
والجدلي هو أبو عبد الله الجدلي واسمه: عبد بن عبد ويقال: عبد الرحمن بن عبد، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.(504/25)
شرح حديث (من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن عبدة الضبي حدثنا سفيان قال الزهري: أخبرنا عن قبيصة بن ذؤيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه، فأتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتى به فجلده، ورفع القتل وكانت رخصة)].
قوله: [(من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه)].
هذا كالذي قبله إلا أن فيه شكاً في القتل هل هو في الثالثة أو الرابعة.
قوله: [(فأتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ورفع القتل وكانت رخصة)].
ذكر أنه أتي بشارب، وأنه جلده ثلاث مرات، ثم بعد ذلك تركه ولم يقتله، فكانت رخصة، أي: أن القتل ليس لازماً ولا حتماً، ولكن كما عرفنا هذا يدل على أن الأمر فيه سعة، وأنه إذا لزم الأمر أن يقتل تعزيراً فإن ذلك قد جاء ما يدل عليه، وإن ترك فكذلك.(504/26)
تراجم رجال إسناد حديث (من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه)
قوله: [حدثنا أحمد بن عبدة الضبي].
أحمد بن عبدة الضبي ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن سفيان].
هو ابن عيينة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قبيصة بن ذؤيب].
قبيصة بن ذؤيب له رؤية، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وهو رباعي، لكن قالوا: إنه صغير وفيه كلام حول سنه، فيكون مرسل صحابي، وهو حجة ومقبول.
وغالباً في مراسيل صغار الصحابة أنهم يروون عن الصحابة الكبار.
[قال سفيان: حدث الزهري بهذا الحديث وعنده منصور بن المعتمر ومخول بن راشد فقال لهما: كونا وافدي أهل العراق بهذا الحديث].
أي: انقلا هذا الحديث إلى أهل العراق، وأبلغاه إليهم؛ لأنهما من العراق وهو في المدينة.
ومنصور بن المعتمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ومخول بن راشد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: روى هذا الحديث الشريد بن سويد رضي الله عنه وشرحبيل بن أوس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما وأبو غطيف الكندي وأبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه].
وكلهم قد مر ذكرهم.(504/27)
شرح أثر علي (ما كنت لأدي من أقمت عليه حداً إلا شارب الخمر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري حدثنا شريك عن أبي حصين عن عمير بن سعيد عن علي رضي الله عنه قال: (لا أدي، أو ما كنت لأدي من أقمت عليه حداً إلا شارب الخمر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسن فيه شيئاً، إنما هو شيء قلناه نحن)].
أورد أبو داود أثر علي رضي الله عنه أنه قال: لا أدي أو ما كن لأدي، وهذا شك من الراوي هل قال: لا أدي أو ما كنت لأدي، والمقصود: أنه لا يدفع دية؛ لأن الحدود إذا حصلت لها سراية فهي هدر، فسراية الحدود هدر، فلو أن إنساناً قطعت يده من أجل سرقة ثم حصلت سراية ومضاعفات وهلك بسبب ذلك فإنه موته هدر وليس فيه دية؛ لأن هذه سراية حد ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الخمر فإنه يديه، وهذا يحمل على ما كان فوق الأربعين جلدة، أما الأربعون فإنها ثابتة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقوله هنا فيما يتعلق بالزيادة على الأربعين، وهي التي زادوها واجتهدوا فيها، وقاسوا حد الخمر على حد القذف، وقالوا: إنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فيحصل منه القذف، إذاً: يوصل إلى حد القذف حتى يرتدع الناس عن ذلك، فلما لم يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في هذه الزيادة شيء فإنه لو حصل موت بسبب الجلد بهذا المقدار الزائد فإنه يُدى.(504/28)
تراجم رجال أثر علي (ما كنت لأدي من أقمت عليه حداً إلا شارب الخمر)
قوله: [حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري].
إسماعيل بن موسى الفزاري، هو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا شريك].
هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي، وهو صدوق اختلط، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي حصين].
هو عثمان بن عاصم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمير بن سعيد].
عمير بن سعيد ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[عن علي رضي الله عنه].
هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد مر ذكره.(504/29)
شرح حديث (إذ أتي برجل قد شرب الخمر فقال للناس: اضربوه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود المهري المصري ابن أخي رشدين بن سعد أخبرنا ابن وهب أخبرني أسامة بن زيد أن ابن شهاب حدثه عن عبد الرحمن بن أزهر رضي الله عنه قال: (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الآن وهو في الرحال يلتمس رحل خالد بن الوليد رضي الله عنه، فبينما هو كذلك إذ أتي برجل قد شرب الخمر فقال للناس: اضربوه، فمنهم من ضربه بالنعال، ومنهم من ضربه بالعصا، ومنهم من ضربه بالميتخة -وقال ابن وهب: الجريدة الرطبة- ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم تراباً من الأرض فرمى به في وجهه)].
قوله: [(كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الآن وهو في الرحال يلتمس رحل خالد بن الوليد)].
هذا يبين تحققه من ذلك، وكأنه بين يديه يشاهده ويعاينه ويتخيل صورته.
قوله: [(فبينما هو كذلك إذ أتي برجل قد شرب الخمر فقال للناس: اضربوه، فمنهم من ضربه بالنعال، ومنهم من ضربه بالعصا، ومنهم من ضربه بالميتخة)].
الميتخة: هي الجريدة الرطبة اللينة، والتي تنبسط على الجلد؛ لأن الشيء اللين ينثني عند الضرب به مثل السوط، بخلاف الشيء المستقيم الذي لا يلين فإنه يصيب ما يصيب منه وهو على امتداده لا ينعطف.
قوله: [وقال ابن وهب: الجريدة الرطبة].
هذا تفسير للميتخة بأنها الجريدة الرطبة اللينة.(504/30)
تراجم رجال إسناد حديث (إذ أتي برجل قد شرب الخمر فقال للناس: اضربوه)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري المصري ابن أخي رشدين بن سعد].
سليمان بن داود المهري المصري ابن أخي رشدين بن سعد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
وهنا قال: ابن أخي رشدين، وهذا تعريف، ورشدين ضعيف، وكان الأصل أن تكون الإضافة إلى شخص مشهور، وهذا مشهور ولكنه ليس ثقة وإنما هو ضعيف، ورشدين بن سعد المصري هو راوي حديث: (إلا ما غلب على لونه أو طعمه أو ريحه)، فهذه الزيادة ضعيفة لأنها من رواية هذا الشخص، ولكن أجمع العلماء عليها، أي: إن تغير الماء بطعم أو لون أو ريح فإنه يعتبر نجساً، ومثل ذلك حديث: (كل قرض جر نفعاً فهو ربا) فهو حديث ضعيف جداً، قال عنه الحافظ رحمه الله: إسناده ساقط، ولكن معناه أجمع عليه أهل العلم.
[أخبرني أسامة بن زيد].
هو أسامة بن زيد الليثي، وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أن ابن شهاب حدثه عن عبد الرحمن بن أزهر].
ابن شهاب مر ذكره، وعبد الرحمن بن أزهر صحابي صغير، أخرج له أبو داود والنسائي.(504/31)
شرح حديث (أتي النبي صلى الله عليه وسلم بشارب وهو بحنين فحثا في وجهه التراب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن السرح قال: وجدت في كتاب خالي عبد الرحمن بن عبد الحميد عن عقيل عن ابن شهاب أخبره أن عبد الله بن عبد الرحمن بن الأزهر أخبره عن أبيه رضي الله عنه قال: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم بشارب وهو بحنين، فحثا في وجهه التراب، ثم أمر أصحابه فضربوه بنعالهم وما كان في أيديهم حتى قال لهم: ارفعوا فرفعوا، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جلد أبو بكر في الخمر أربعين، ثم جلد عمر رضي الله عنه أربعين صدراً من إمارته، ثم جلد ثمانين في آخر خلافته، ثم جلد عثمان رضي الله عنه الحدين كليهما ثمانين وأربعين، ثم أثبت معاوية رضي الله عنه الحد ثمانين)].
أورد أبو داود حديث ابن الأزهر وهو مثل الذي قبله، وفيه ذكر أنه حصل الجلد من رسول الله عليه السلام وأبي بكر أربعين، وأن عمر جلد في صدر خلافته أربعين ثم زادها إلى ثمانين، وعثمان جلد الحدين، أي: جلد ثمانين وجلد أربعين، ثم أثبت معاوية رضي الله عنه الحد ثمانين، أي: أنه كان يجلد ثمانين فقط.(504/32)
تراجم رجال إسناد حديث (أتي النبي صلى الله عليه وسلم بشارب وهو بحنين فحثا في وجهه التراب)
قوله: [حدثنا ابن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح، وهو ثقة، أخرج له مسلم والنسائي وابن ماجة.
[قال: وجدت في كتاب خالي عبد الرحمن بن عبد الحميد].
عبد الرحمن بن عبد الحميد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن عقيل].
هو عقيل بن خالد بن عقيل المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب أخبره أن عبد الله بن عبد الرحمن بن الأزهر].
عبد الله بن عبد الرحمن بن الأزهر مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
أبوه عبد الرحمن قد مر ذكره.(504/33)
شرح حديث (فأتي بشارب فأمرهم فضربوه بما في أيديهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا عثمان بن عمر حدثنا أسامة بن زيد عن الزهري عن عبد الرحمن بن أزهر رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة الفتح وأنا غلام شاب يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد رضي الله عنه، فأتي بشارب، فأمرهم فضربوه بما في أيديهم، فمنهم من ضربه بالسوط، ومنهم من ضربه بعصا، ومنهم من ضربه بنعله، وحثا رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب، فلما كان أبو بكر رضي الله عنه أتي بشارب، فسألهم عن ضرب النبي صلى الله عليه وسلم الذي ضربه فحرزوه أربعين، فضرب أبو بكر رضي الله عنه أربعين، فلما كان عمر كتب إليه خالد بن الوليد: إن الناس قد انهمكوا في الشرب وتحاقروا الحد والعقوبة، قال: هم عندك فسلهم، وعنده المهاجرون الأولون، فسألهم، فأجمعوا على أن يضرب ثمانين، قال: وقال علي: إن الرجل إذا شرب افترى فأرى أن يجعله كحد الفرية).
قال أبو داود: أدخل عقيل بن خالد بين الزهري وبين ابن الأزهر في هذا الحديث عبد الله بن عبد الرحمن بن الأزهر عن أبيه].
أورد أبو داود حديث عبد الرحمن بن أزهر وهو مثلما تقدم، إلا أن فيه زيادة، وهي قوله: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم غداة الفتح وأنا غلام شاب يتخلل الناس)].
فالأول ذكر أنه في حنين، وهنا ذكر أنه في الفتح.
قوله: [(يسأل عن منزل خالد بن الوليد فأتي بشارب، فأمرهم فضربوه بما في أيديهم، فمنهم من ضربه بالسوط، ومنهم من ضربه بعصا، ومنهم من ضربه بنعله، وحثا رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب، فلما كان أبو بكر أتي بشارب فسألهم عن ضرب النبي صلى الله عليه وسلم الذي ضربه فحرزوه أربعين)].
وهذا فيه أن أبا بكر رضي الله عنه سأل عن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فحرزوه أربعين، أي: أنه في حدود أربعين ضربة.
قوله: [(فضرب أبو بكر أربعين، فلما كان عمر كتب إليه خالد بن الوليد: إن الناس قد انهمكوا في الشرب وتحاقروا الحد والعقوبة، قال: هم عندك فسلهم)].
انهمكوا في الشرب أي: أقدموا عليه وتساهلوا فيه؛ لأن العقوبة أربعين جلدة أمر سهل ويسير.
قوله: [(قال: هم عندك فسلهم، وعنده المهاجرون الأولون، فسألهم فأجمعوا على أن يضرب ثمانين، قال: وقال علي: إن الرجل إذا شرب افترى، فأرى أن يجعله كحد الفرية)].
كان علي رضي الله عنه معهم، وبين وجه الاستدلال في كونه وصل إلى الثمانين حيث قال: إن الرجل إذا سكر افترى، أي: حصل منه القذف، فأرى أن يجلد حد الفرية الذي هو حد القذف.
[قال أبو داود: أدخل عقيل بن خالد بين الزهري وبين ابن الأزهر في هذا الحديث عبد الله بن عبد الرحمن بن الأزهر عن أبيه].
وقد مر أنه مقبول.(504/34)
تراجم رجال إسناد حديث (فأتي بشارب فأمرهم فضربوه بما في أيديهم)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي مر ذكره.
[حدثنا عثمان بن عمر].
عثمان بن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أسامة بن زيد عن الزهري عن عبد الرحمن بن أزهر].
هؤلاء مر ذكرهم.
وقد صحح الألباني هذا الحديث، وقد قال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن هذا الحديث فقال: لم يسمعه الزهري من عبد الرحمن بن أزهر.
أي: أن فيه واسطة، والزهري يدلس قليلاً ونادراً.(504/35)
إقامة الحد في المسجد(504/36)
شرح حديث (نهى رسول الله أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في إقامة الحد في المسجد.
حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة -يعني ابن خالد - حدثنا الشعيثي عن زفر بن وثيمة عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود)].
قوله: [باب في إقامة الحد في المسجد]، أي: أنه لا يقام الحد في المسجد؛ وذلك لأن من الحدود ما يكون فيه قتل أو قطع، فإذا أقيمت في المسجد توسخ وتقذر بالدماء، وقد يحصل فيه لغط وأصوات، وقد يحصل من الشخص الذي يقام عليه الحد أصوات منكرة، والمساجد إنما بنيت لذكر الله عز وجل، وإقامة الصلاة، ولم تبن لمثل هذا العمل، فالحدود تقام في غير المسجد، ولهذا جاء الحديث عن حكيم بن حزام رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار وأن تقام فيه الحدود).
والنهي عن إنشاد الأشعار المقصود منه: ألا تصير محلاً لمثل هذا، وأما مجرد إنشاد الشعر، أو أن يتلو الإنسان شعراً أو يذكره أو يستنشد فلا بأس بذلك؛ لأن حسان رضي الله عنه لما أنكر عليه عمر قال: (كنت أنشده وفيه من هو خير منك) يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن أن تصير مكاناً لإلقاء الأشعار والمقابلة بها فهذا لا يصلح، وأما مجرد أن يذكر فيه شيئاً من الشعر، أو يؤتى بشيء من الشعر الجميل، أو يقرأ أحد شيئاً فيه شعر على أحد من الناس في المسجد فلا بأس، وإنما المقصود من ذلك أن يصير كالأماكن التي هي محل لإنشاد الأشعار، كالأسواق التي كانوا يتخذونها في الجاهلية، فلا يجوز أن تجعل المساجد كتلك الأسواق التي هي محل لإنشاد الأشعار.(504/37)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى رسول الله أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار)
قوله: [حدثنا هشام بن عمار].
هشام بن عمار صدوق، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا صدقة يعني ابن خالد].
صدقة بن خالد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن الشعيثي].
هو محمد بن عبد الله بن المهاجر، وهو صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[عن زفر بن وثيمة].
زفر بن وثيمة مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن حكيم بن حزام].
حكيم بن حزام رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث صححه الألباني وفيه هذا المقبول، لكن لعل له شواهد يتقوى بها.(504/38)
التعزير(504/39)
شرح حديث (لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله عز وجل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التعزير.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن سليمان بن يسار عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله عن أبي بردة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله عز وجل)].
قوله: [باب في التعزير]، التعزير: هو العقوبة التي ليس فيها حد؛ لأن الحد عقوبة مقدرة في الشرع، والتعزير عقوبة غير مقدرة، والحدود كقطع يد، وجلد ثمانين جلدة، ومائة جلدة، فهذا شيء مقدر، وأما التعزير فإنه غير مقدر، هذا هو الفرق بين التعزير والحد.
قوله: [(لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله)].
مقتضى هذا الحديث أن التعزير يكون في عشر جلدات فأقل، ومن أهل العلم من قال: إنه يجلد لكن لا يبلغ به إلى حد أدنى الحدود وهو أربعون في الخمر أو عشرون، على اعتبار أنها تنصف في حق الرقيق؛ لأن الحد على الرقيق هو نصف ما على الأحرار، فالتعزير إما ألا يبلغ العشرين التي هي الحد الأدنى في عقوبة العبيد والأرقاء، أو لا يبلغ الأربعين التي هي الحد الأدنى في عقوبة الأحرار.
وقد اختلف العلماء في ذلك: فمنهم من أخذ بالحديث، ومنهم من قال: إن التعزير يمكن أن يصل إلى حد القتل إذا اتضح أن الأمر لا يردع فيه إلا بمثل ذلك، ولا يترك الناس ذلك العمل إلا بالقتل، كما جاء فيما يتعلق بالخمر، فإنه يمكن أن يصل إلى حد القتل، ولكن هذا فيما يتعلق بالجلد.
وهل يزاد على عشر جلدات؟ قال في عون المعبود: قال في الفتح: ظاهره أن المراد بالحد ما ورد فيه من الشارع عدد من الجلد أو الضرب مخصوص أو عقوبة مخصوصة، والمتفق عليه من ذلك حد الزنا والسرقة وشرب المسكر والحرابة، والقذف بالزنا، والقتل، والقصاص في النفس والأطراف، والقتل في الارتداد، واختلف في تسمية الأخيرين حداً.
واختلف في مدلول هذا الحديث، فأخذ بظاهره الإمام أحمد في المشهور عنه وبعض الشافعية، وقال مالك والشافعي وصاحبا أبي حنيفة: تجوز الزيادة على عشر، ثم اختلفوا، فقال الشافعي: لا يبلغ أدنى الحدود، وهل الاعتبار بحد الحر أو العبد؟ قولان، وقال الآخرون: هو إلى رأي الإمام بالغاً ما بلغ، وأجابوا عن ظاهر الحديث بوجوه، منها: الطعن فيه، وتعقب بأنه اتفق الشيخان على تصحيحه، وهما العمدة في التصحيح.
ومن الأجوبة: أن عمل الصحابة جاء بخلافه، فيقتضي نسخه، فقد كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: ألا تبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطاً، وعن عثمان: ثلاثين، وضرب عمر أكثر من مائة وأقره الصحابة، وأجيب بأنه لا يلزم في مثل ذلك النسخ.
ومن الأجوبة: حمل الحديث على واقعة عين بذنب معين أو رجل معين قاله الماوردي، وفيه نظر ذكره القسطلاني.
قلت: ومن أوجه
الجواب
قصره على الجلد، وأما الضرب بالعصا مثلاً وباليد فتجوز الزيادة، لكن لا يجاوز أدنى الحدود، وهذا رأي الإصطخري من الشافعية.
قال الحافظ: كأنه لم يقف على الرواية الواردة بلفظ الضرب.
انتهى.
وليس عند الذين لم يقولوا بظاهر الحديث جواب شاف، قال في النيل: قال البيهقي: عن الصحابة آثار مختلفة في مقدار التعزير، وأحسن ما يصار إليه في هذا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر حديث أبي بردة المذكور.
قال الحافظ: فتبين بما نقله البيهقي عن الصحابة أن لا اتفاق على عمل في ذلك، فكيف يدعى نسخ الحديث الثابت ويصار إلى ما يخالفه من غير برهان؟ انتهى.
أقول: الخلاف واضح، لكن كونهم اختلفوا وقد حصلت الزيادة، فإنه يدل على أن الزيادة سائغة عند الحاجة، وليس بلازم أن يكون في ذلك اتفاق.
قوله: (إلا في حد من حدود الله).
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن المراد بالحدود هنا المعاصي والذنوب، وليس المقصود بها الحدود المقدرة كحد السرقة وحد القذف وحد الزنا، وإنما المراد بها الذنوب والمعاصي.
ومعنى ذلك: أنه لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله، يعني: في ذنب من الذنوب، فيكون المقصود بالحد المعاصي التي حرمها الله عز وجل كما قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187]، وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] أي: الأمور التي حدها وحرمها.
وعليه: فتجوز الزيادة على عشرة أسواط في العقوبة على معصية الله عز وجل، لكن ما كان من أجل التأديب تأديب الأولاد أو كتأديب الرجل امرأته، مما لا يتعلق بمعصية، فلا يزاد فيه على عشرة أسواط.(504/40)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله عز وجل)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
الليث بن سعد المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن أبي حبيب].
يزيد بن أبي حبيب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بكير بن عبد الله بن الأشج].
بكير بن عبد الله بن الأشج ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن يسار].
سليمان بن يسار ثقة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله].
عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بردة].
أبو بردة رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(504/41)
حديث (لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله عز وجل) من طريق أخرى، وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو أن بكير بن الأشج حدثه عن سليمان بن يسار قال: حدثني عبد الرحمن بن جابر أن أباه حدثه أنه سمع أبا بردة الأنصاري رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكر معناه].
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو].
ابن وهب مر ذكره، وعمرو هو عمرو بن الحارث المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
أن بكير بن الأشج حدثه عن سليمان بن يسار قال: حدثني عبد الرحمن بن جابر أن أباه حدثه].
بكير بن الأشج وسليمان بن يسار وعبد الرحمن بن جابر مر ذكرهم، وأبو عبد الرحمن بن جابر هو: جابر بن عبد الله الأنصاري، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنه سمع أبا بردة الأنصاري].
أبو بردة مر ذكره.(504/42)
ما جاء في ضرب الوجه في الحد(504/43)
شرح حديث (إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ضرب الوجه في الحد.
حدثنا أبو كامل حدثنا أبو عوانة عن عمر -يعني ابن أبي سلمة - عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه)].
قوله: [باب في ضرب الوجه في الحد]، أي: أنه لا يضرب الوجه في الحدود، فإذا كان هناك جلد أو ضرب فإن الضرب يكون لغير الوجه؛ وذلك أن الوجه هو مجمع المحاسن، وفيه المنافذ التي هي ضرورية للإنسان، كالبصر، والشم، والتنفس، والأسنان، واللسان، ومحل الحديث، كل هذه موجودة في الوجه، فالضرب يؤدي إلى تلفها، والعقوبة ليست هي تلفها، لكن إذا كان الحد رجماً، فإنه لا بأس بالرجم من جميع الجهات حتى الوجه؛ لأن المقصود هو قتله وإهلاكه، أما إذا كانت عقوبة ضرب، فإنه لا يضرب الوجه؛ لأن العقوبة هي تلك الجلدات المعلومة، وإذا ضرب وجهه أدى ذلك إلى أن يفقد هذه الحواس التي لا يجوز إتلافها بغير حق، أما فيما يتعلق بالرجم فإنه يمكن أن يرمى من جميع الجهات ولو وافق الوجه؛ لأن المقصود هو إهلاكه.(504/44)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه)
قوله: [حدثنا أبو كامل].
هو أبو كامل الفضيل بن الحسين، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبو عوانة].
هو أبو عوانة وضاح بن عبد الله اليشكري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر يعني ابن أبي سلمة عن أبيه].
عمر بن أبي سلمة صدوق يخطئ، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
وأبوه هو أبو سلمة بن عبد الرحمن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة قد مر ذكره.(504/45)
الأسئلة(504/46)
الحكم على لفظة (أحسبه قال في الخامسة)
السؤال
الشيخ الألباني رحمه الله تعالى قال عما رواه موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حميد بن يزيد عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بهذا المعنى، قال: وأحسبه قال في الخامسة: (إن شربها فاقتلوه)، قلتم: الثابت أنها الرابعة وأما الخامسة فهي ضعيفة، ولذلك قال الشيخ: ضعيف الإسناد، فهل تكون شاذة كذلك لأن فيها ضعيفاً خالف الثقات؟
الجواب
الحديث ضعفه الألباني من أجل ابن يزيد؛ لأنه ضعيف فلا تثبت به الرواية، ورواية الضعيف مخالفة للثقة هو المنكر.(504/47)
الصحيح والحسن مقبولان
السؤال
حديث حكيم بن حزام: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود)، حسنه الشيخ الألباني ولم يصححه؟
الجواب
نعم، والمقصود بالتصحيح أنه مقبول وثابت؛ لأنه إما مقبول، وإما مردود، والمقبول صحيح وحسن، وحتى التحسين فإنه يحتاج إلى شيء يشهد له، سواء كان تصحيحاً أو تحسيناً، وفيه المقبول.(504/48)
تحريم ضرب الوجه في الحدود وغيرها
السؤال
تبويب أبي داود رحمه الله في الحديث الأخير: باب في ضرب الوجه في الحد، هل يفهم منه أنه في غير الحدود يمكن أن يضرب؟
الجواب
لا، ولكنه لما كان الكتاب: كتاب الحدود، وأن الحدود تقام، والضرب مأذون فيه، فبين أنه لا يجوز أن يكون الضرب في الوجه في الحدود، وهو كذلك في غير الحدود، فالوجه لا يضرب مطلقاً؛ لأنه يؤدي إلى إتلاف هذه المنافع الضرورية للإنسان.
وأما ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم أخذ تراباً من الأرض فرمى به في وجه شارب الخمر كما في حديث عبد الرحمن بن أزهر، فهذا لا يلزم أنه أصاب به وجهه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)، معناه: أنه يحثا إلى جهة وجهه.(504/49)
حكم الزيادة على ثمانين في حد الخمر
السؤال
هل لأحد الآن أن يجتهد فيزيد على الثمانين في حد الخمر؟
الجواب
ليس له ذلك، ولكن إذا حصل تكرار فإنه يمكن أن يقتل، كما جاء في الأحاديث التي ستأتي، ويكون ذلك من باب التعزير، لكن كونه يزيد مائة جلدة أو أكثر ليس له ذلك؛ لأن عمر رضي الله عنه فعل ذلك بمشورة الصحابة، وقاسوه على أقل الحدود الذي هو حد القذف.
وهل له أن ينقص عن الثمانين؟ له أن ينقص عن الثمانين، ويمكن أن يزيد على أربعين إلى سبعين بناء على أن الزيادة تكون تعزيراً.(504/50)
شرح سنن أبي داود [505]
اعتبرت الشريعة الغراء الحفاظ على النفس من مقاصدها العظيمة، لذا فلا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والتارك لدينه، والمفارق للجماعة.
فمن قتل قتيلاً متعمداً دفع إلى أولياء الدم، وهم بالخيار بين: القصاص، العفو لا إلى بدل، العفو إلى بدل (الدية)، وللإمام أن يأمر بالعفو لا على جهة الإلزام، ولا يؤخذ أحد بجريرة أحد.(505/1)
النفس بالنفس(505/2)
شرح حديث ابن عباس الذي فيه تحاكم بني النضير وبني قريظة إلى النبي في قتيل بينهم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أول كتاب الديات.
باب النفس بالنفس.
حدثنا محمد بن العلاء حدثنا عبيد الله -يعني ابن موسى - عن علي بن صالح عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلاً من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة فودي بمائة وسق من تمر، فلما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة، فقالوا: ادفعوه إلينا نقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأتوه فنزلت: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة:42] والقسط: النفس بالنفس، ثم نزلت: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50]).
قال أبو داود: قريظة والنضير جميعا ًمن ولد هارون النبي عليه الصلاة السلام].
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [أول كتاب الديات].
الديات: جمع دية، والدية: هي ما يدفع من المال مقابل قتل نفس، سواءً كانت الدية عن خطأ وهي مقدرة، أو كانت عن عمد إذا تنازل أهل القتيل عن القصاص وطلبوا الدية.
والمقصود من هذا الكتاب ما يتعلق بالديات وهي الأموال التي تكون مقابل النفس، وما يتعلق بالقصاص الذي هو النفس بالنفس.
وقد أورد أبو داود رحمه الله جملة من الأبواب، منها ما يتعلق بالقصاص، ومنها ما يتعلق بالديات.
وأول باب أورده: [باب: النفس بالنفس].
أي: أن النفس تقتل بالنفس قصاصاً.
وإذا أراد أولياء القتيل التنازل عن القتل وأرادوا أن يأخذوا الدية، فلهم أن يأخذوا الدية، ولهم أن يأخذوا أكثر من الدية المقدرة في مقابل تنازلهم عن القتل، ولهم أن يعفوا، كل ذلك لهم، وأما الدية في قتل الخطأ فإنها محددة ومقدرة.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن بني النضير وقريظة من اليهود، وكان بنو النضير أشرف من بني قريظة، وكانوا إذا قتل نضيري قرظياً فإنه لا يقتل النضيري بالقرظي، والقرظي يقتل بالنضيري، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل رجل من بني النضير رجلاً من بني قريظة، طلب بنو قريظة النضيري من أجل أن يقتلوه في مقابل قتيلهم، فامتنع بنو النضير من ذلك بناءً على ما كانوا عليه في الجاهلية من أن هؤلاء أشرف من هؤلاء، وأن هؤلاء لا يقتلون بأولئك وأولئك يقتلون بهؤلاء، فأبوا أن يسلموه، ولما امتنع بنو النضير من تسليم القاتل لبني قريظة ليقتلوه، قالوا: بيننا وبينكم محمد صلى الله عليه وسلم، فذهبوا إليه.
وكانت الطريقة كما قال ابن عباس: أن القرظي يقتل بالنضيري والنضيري لا يقتل بالقرظي، وإنما يودى أو يدفع عنه مائة وسق من التمر في مقابل قتله إياه، ولا يقتل به.
فترافع بنو النضير وبنو قريظة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وجاءوا إليه وأخبروه، وطلبوا منه أن يحكم بينهم، وقد جاء في القرآن: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة:42] والقسط: هو العدل، الذي هو النفس بالنفس، وأنزل الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50] أي: أيريدون أن يبقوا على ما كانوا عليه في الجاهلية من أن الشريف لا يقتل بمن دونه، والذي هو دونه يقتل به، ولا يريدون حكم الله سبحانه وتعالى؟!(505/3)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس الذي فيه تحاكم بني النضير وبني قريظة إلى النبي في قتيل بينهم
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبيد الله - يعني ابن موسى -].
عبيد الله بن موسى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي بن صالح].
هو علي بن صالح بن حي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن سماك بن حرب].
سماك بن حرب صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود: قريظة والنضير جميعاً من ولد هارون النبي عليه الصلاة والسلام] أي: أن قريظة والنضير، هم من ولد هارون النبي الكريم عليه الصلاة والسلام أخو موسى عليه الصلاة والسلام.(505/4)
لا يؤخذ أحد بجريرة أخيه وأبيه(505/5)
شرح حديث أبي رمثة (أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: لا يؤخذ أحد بجريرة أخيه أو أبيه.
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا عبيد الله -يعني ابن إياد - حدثنا إياد عن أبي رمثة قال: (انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأبي: ابنك هذا؟ قال: إي ورب الكعبة، قال: حقاً؟ قال: أشهد به، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضاحكاً من ثبت شبهي في أبي ومن حلف أبي علي، ثم قال: أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164])].
يقول المصنف رحمه الله: [باب لا يؤخذ بجريرة أخيه أو أبيه].
أي: أنه لا يؤخذ أحد بذنب الآخر، ولا يعاقب أحد من أجل أن غيره جنى، بل العقوبة على الجاني والعاصي، وأما الذي لم يحصل منه جناية ولا معصية؛ فإنه لا يعاقب ولا يؤخذ البريء بجريرة المذنب العاصي الجاني، وقد كان في الجاهلية يؤخذ الشخص بجريرة غيره.
وقد أورد أبو داود حديث أبي رمثة رضي الله تعالى عنه: أنه جاء مع أبيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قوي الشبه بأبيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لوالد أبي رمثة: [(ابنك هذا؟ قال: إي ورب الكعبة، قال: حقاً؟ قال: أشهد به)].
قوله: [(قال: حقاً)] أي: أنه ولدك؟ قوله: [(قال: أشهد به)] أي: أشهد على ذلك، أو اشهد بذلك أنت يا رسول الله! والرسول صلى الله عليه وسلم رأى قوة الشبه بينه وبينه.
قوله: [(أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه)].
أي: لا يؤخذ بجنايتك ولا تؤخذ بجنايته.
وليس معنى ذلك عدم حصول الجناية من الولد للوالد أو من الوالد للولد، فقد يجني الوالد على الولد وقد يجني الولد على الوالد؛ ولكن المقصود المؤاخذة، وأن الواحد لا يؤاخذ بذنب الثاني، وإنما كل يؤاخذ بذنبه.
فالمذنب هو الذي يؤاخذ بما ارتكبه من جناية أو معصية، ولا يؤاخذ به ولده ولا والده، وهكذا لا يؤاخذ أحد بذنب غيره.
قوله: [(وقرأ: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164])] أي: لا يعاقب شخص بجناية غيره أو بوزر غيره؛ وإنما المذنب والجاني هو الذي يعاقب، والبريء لا عقوبة عليه.(505/6)
تراجم رجال إسناد حديث أبي رمثة (أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
هو أحمد بن عبد الله بن يونس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبيد الله يعني ابن إياد].
عبيد الله بن إياد صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا إياد].
إياد هو أبوه، وهو ثقة، أخرج له الذين أخرجوا لابنه.
[عن أبي رمثة].
هو رفاعة بن يثربي، وهو صحابي، أخرج حديثه أبو داود والترمذي والنسائي، وهذا يعتبر من أعلى الإسانيد عند أبي داود؛ لأنه رباعي.(505/7)
الإمام يأمر بالعفو في الدم(505/8)
شرح حديث (من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الإمام يأمر بالعفو في الدم.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا محمد بن إسحاق عن الحارث بن فضيل عن سفيان بن أبي العوجاء عن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم)].
قوله: [باب الإمام يأمر بالعفو في الدم] أي: أنه يشفع إلى أولياء القتيل من أجل أن يعفوا عن القاتل.
وهذا يبين أن القصاص ليس كالحدود التي لابد من تنفيذها، وأنه لا يشفع فيها لا من جهة الإمام ولا من جهة غيره، فإذا وصلت إلى الإمام فلا شفاعة في الحدود؛ ولهذا جاء في الحديث الذي سبق في حق أسامة بن زيد: (أتشفع في حد من حدود الله؟!) وهذا استفهام إنكار.
فهذا يبين أن القصاص ليس من هذا القبيل؛ وذلك أن الحق في القصاص للمخلوق، فله أن يتركه ويتنازل عنه، ولغيره أن يشفع عنده حتى يتنازل عنه.
ولهذا اختلف العلماء هل يقال له: حد أو لا؟ ولو قيل: إنه من الحدود، فإنه مستثنى من منع الشفاعة فيه، بل الشفاعة فيه سائغة، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه الترغيب في ذلك.
وقد أورد أبو داود حديث أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [(من أصيب بقتل)] وهو إزهاق النفس.
قوله: [(أو خبل)] الخبل هو الجرح.
قوله: [(فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية)] يعني: إذا كان القاتل قتل عمداً فيقتص أولياء القتيل من القاتل فيقتل، أو يحصل العفو منهم فيتركونه دون أن يقتلوه ودون أن يأخذوا منه دية، أو يأخذوا منه دية.
وسواءً كانت تلك الدية هي المقدرة أو أكثر منها؛ لأن أخذهم للدية هو مقابل تنازلهم عن حق لهم، وإذا لم يعطوا ما يريدون فلهم أن يقتلوا القاتل قصاصاً، وإذا طلبوا شيئاً وأعطوا إياه فإنه يسقط حقهم في القتل قصاصاً.
قوله: [(فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه)] أي: إذا طلب شيئاً أكثر مما حدد له وقدر، وهو أحد هذه الأمور الثلاثة، أو حصل منه اعتداء أو شيء لا يجوز الإقدام عليه، فيؤخذ على يده ويمنع، وليس إلا أحد هذه الأمور الثلاثة فقط.
قوله: [(ومن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم)] أي: بعدما يأخذ حقه أو يتنازل عن حقه، سواء القصاص أو الدية، أو عفا عنهما، ثم عاقب فإنه يكون معتدياً، وللمعتدي عذاب أليم.(505/9)
تراجم رجال إسناد حديث (من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة بن دينار البصري وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الحارث بن فضيل].
الحارث بن فضيل ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن سفيان بن أبي العوجاء].
سفيان بن أبي العوجاء ضعيف، وحديثه أخرجه أبو داود وابن ماجة.
[عن أبي شريح الخزاعي].
أبو شريح الخزاعي رضي الله تعالى عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث ضعيف الإسناد؛ لأن فيه سفيان بن أبي العوجاء، وهو ضعيف، ولكن معناه صحيح من جهة أن هناك قصاصاً، أو عفواً مطلقاً عن القصاص والدية، أو عفواً عن القتل مع أخذ الدية.(505/10)
شرح حديث (ما رأيت رسول الله رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الله بن بكر بن عبد الله المزني عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: [(ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو)] يعني: أمر بالعفو أمر إرشاد وترغيب، وليس أمر إيجاب؛ لأن هذا حق لهم، ولكن يرغبون في العفو.
فـ أنس رضي الله عما كان عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام من أنه كان يأمر ويرغب ولي القتيل بالعفو عن القصاص مطلقاً، أو العفو عن القتل مع أخذ الدية.(505/11)
تراجم رجال إسناد حديث (ما رأيت رسول الله رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الله بن بكر بن عبد الله المزني].
عبد الله بن بكر بن عبد الله المزني صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عطاء بن أبي ميمونة].
عطاء بن أبي ميمونة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا الإسناد من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود.(505/12)
شرح حديث (قتل رجل على عهد النبي فرفع ذلك إليه، فدفعه إلى ولي المقتول)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة أخبرنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قتل رجل على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدفعه إلى ولي المقتول، فقال القاتل: يا رسول الله! والله ما أردت قتله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للولي: أما إنه إن كان صادقاً ثم قتلته دخلت النار، قال: فخلى سبيله، قال: وكان مكتوفاً بنسعة، فخرج يجر نسعته، فسمي ذا النسعة)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قتل رجلاً فجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه لولي القتيل ليقتله، فقال القاتل: [(يا رسول الله والله ما أردت قتله)] أي: أنه لم يقتله عمداً وإنما قتله خطأً.
قوله: [(فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للولي: أما إنه إن كان صادقاً)] أي: إن كان صادقاً في أنه لم يكن متعمداً.
قوله: [(ثم قتلته دخلت النار)] لأنك قتلت معصوماً لا يستحق القتل.
فما دام الأمر دائراً بين أن يكون عمداً وأن يكون خطأً، فهذه شبهة يدرأ بها الحكم، ولا يصار للحكم الأشد مع احتمال ذلك.
ودفع النبي صلى الله عليه وسلم القاتل لولي المقتول على اعتبار أنه اعترف بالقتل، ولكنه قال بعد ذلك: إني ما أردت قتله، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشد هذا الولي إلى أن يتركه، وذلك أولى من أن يقتله.
ولكن لو أراد أن يأخذ الدية فله ذلك، وإذا أراد أن يعفو عن هذا وهذا فهذا من الأمور المحمودة الطيبة.
قوله: [(قال: فخلى سبيله، قال: وكان مكتوفاً بنسعة، فخرج يجر نسعته، فسمي ذا النسعة)].
النسعة سير كان مربوطاً به.
وهذا فيه دليل على أن الشخص الذي يخشى انفلاته فإنه يوثق ويمسك حتى لا يهرب.(505/13)
تراجم رجال إسناد حديث (قتل رجل على عهد النبي فرفع ذلك إليه، فدفعه إلى ولي المقتول)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[أخبرنا أبو معاوية].
هو أبو معاوية محمد بن خازم الضرير الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
هو ذكوان السمان المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا يدخل تحت القاعدة المشهورة: الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، أي: إذا كان هذا وهذا محتملاً فالخطأ في العفو أحسن من الخطأ في العقوبة.(505/14)
شرح حديث وائل بن حجر (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جيء برجل قاتل في عنقه النسعة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة الجشمي حدثنا يحيى بن سعيد عن عوف حدثنا حمزة أبو عمر العائذي حدثني علقمة بن وائل حدثني وائل بن حجر رضي الله عنه قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ جيء برجل قاتل في عنقه النسعة، قال: فدعا ولي المقتول فقال: أتعفو؟ قال: لا، قال: أفتأخذ الدية؟ قال: لا، قال: أفتقتل؟ قال: نعم، قال: اذهب به، فلما ولى قال: أتعفو؟ قال: لا، قال: أتأخذ الدية؟ قال: لا، قال: أفتقتل؟ قال: نعم، قال: اذهب به، فلما كان في الرابعة قال: أما إنك إن عفوت عنه فإنه يبوء بإثمه وإثم صاحبه، قال: فعفا عنه، قال: فأنا رأيته يجر النسعة)].
أورد أبو داود حديث وائل بن حجر رضي الله عنه: أن رجلاً قاتلاً جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدفعه إلى ولي القتيل، فأراد أن يقتله، فذهب به، فلما ولى قال: (أتعفو؟ قال: لا، قال: أفتأخذ الدية؟ قال: لا، قال: أفتقتل؟ قال: نعم، قال: اذهب به)] أي: أنه لما ولى عرض عليه العفو أو أخذ الدية، لكنه أبى أن يأخذ الدية أو يعفو، بل أراد أن يقتل، ثم كرر عليه ذلك مراراً، ثم قال: [(أما إنك إن عفوت عنه فإنه يبوء بإثمه وإثم صاحبه، قال: فعفا عنه)].
هذا فيه ترغيب في العفو، وأن الإنسان إذا عفا فإنه يبقى حق القتيل في ذمة القاتل؛ لأنه لم يقم عليه الحد الذي يكون كفارة له، على القول بأن القصاص هو من جملة الحدود التي هي كفارات؛ فيبوء ذلك القاتل الذي عفي عنه بإثمه وكذلك بإثم صاحبه الذي قتله.
والمقصود بذلك الذنب هو القتل، أما لو أنه أقيم الحد، فمعنى ذلك أنه أخذ حقه وصار القصاص كفارة، وتبقى على القاتل خطاياه وذنوبه من غير هذه الجناية، فالتكفير إنما هو لذنب القتل فقط، وإذا عفا عنه فإن ذنب هذه الجناية يبقى عليه، فيأخذ المقتول حقه منه يوم القيامة، وتبقى عليه ذنوبه الأخرى أيضاً.(505/15)
تراجم رجال إسناد حديث وائل بن حجر (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جيء برجل قاتل في عنقه النسعة)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة الجشمي].
هو عبيد الله بن عمر بن ميسرة الجشمي القواريري وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد القطان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عوف].
هو عوف الأعرابي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حمزة أبو عمر العائذي].
حمزة أبو عمر العائذي صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثني علقمة بن وائل].
هو علقمة بن وائل بن حجر، وهو صدوق أخرج له البخاري في رفع اليدين ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني وائل بن حجر].
وائل بن حجر صحابي، أخرج له البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.(505/16)
سماع علقمة بن وائل بن حجر من أبيه
هذا فيه أن علقمة بن وائل قد سمع من أبيه؛ لأنه يروي بالتحديث، حيث قال: حدثني وائل بن حجر، وقد خرج له مسلم، وهذا مما خرجه مسلم، فروايته ثابتة عنه، وابن حجر في التقريب قال: إنه لم يسمع من أبيه، والصحيح أنه قد سمع، وإنما الذي لم يسمع من أبيه هو عبد الجبار بن وائل وأما علقمة فإنه قد سمع، وهذا مما سمعه من أبيه، وقد روى عنه مسلم بعض أحاد يث، ومعلوم أن مسلماً لا يروي إلا أحاديث متصلة.(505/17)
طريق أخرى لحديث وائل بن حجر وترجمة رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا يحيى بن سعيد حدثني جامع بن مطر حدثني علقمة بن وائل بإسناده ومعناه].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وهو مثل الذي قبله.
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا يحيى بن سعيد حدثني جامع بن مطر].
جامع بن مطر صدوق أخرج له البخاري في رفع اليدين وأبو داود والنسائي.(505/18)
شرح حديث (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحبشي فقال: إن هذا قتل ابن أخي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عوف الطائي حدثنا عبد القدوس بن الحجاج حدثنا يزيد بن عطاء الواسطي عن سماك عن علقمة بن وائل عن أبيه رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحبشي، فقال: إن هذا قتل ابن أخي، قال: كيف قتلته؟ قال: ضربت رأسه بالفأس ولم أرد قتله، قال: هل لك مال تؤدي ديته؟ قال: لا، قال: أفرأيت إن أرسلتك تسأل الناس تجمع ديته؟ قال: لا، قال: فمواليك يعطونك ديته؟ قال: لا، قال للرجل: خذه، فخرج به ليقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما إنه إن قتله كان مثله، فبلغ به الرجل حيث يسمع قوله، فقال: هو ذا فمر فيه ما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسله، وقال مرة: دعه يبوء بإثم صاحبه وإثمه فيكون من أصحاب النار، قال: فأرسله)].
أورد أبو داود حديث وائل بن حجر وهو مثل الذي قبله إلا أن فيه شيئاً من التفصيل، فالأول فيه إجمال، وهذا فيه تفصيل.
قوله: [(جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحبشي فقال: إن هذا قتل ابن أخي)].
يعني: أتى برجل من الحبشة وهو عبد.
قوله: [(فقال: إن هذا قتل ابن أخي، قال: كيف قتلته؟ قال: ضربت رأسه بالفأس ولم أرد قتله)].
يبدو أنه الذي مر في الحديث السابق الذي قال: ما أردت قتله.
ولكن الفأس أداة قتل، وليس هناك احتمال غير القتل؛ لأنه ضرب رأسه بالفأس، وما دام أنه حصل الضرب بالفأس عمداً وهو شيء يقتل، فقوله: (ولم أرد قتله) لا ينفعه وكذلك لو ضرب شخص بسكين وهي من الأشياء القاتلة وقال: لم أرد قتله، فلا ينفعه هذا الكلام، وإلا لذهب كل شخص يجني على غيره ويقول: لم أرد قتله.
قوله: [(قال: ضربت رأسه بالفأس ولم أرد قتله، قال: هل لك مال تؤدي ديته؟ قال: لا، قال: أفرأيت إن أرسلتك تسأل الناس تجمع ديته؟ قال: لا، قال: فمواليك يعطونك ديته؟ قال: لا، قال للرجل: خذه، فخرج به ليقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه إن قتله كان مثله)].
أي: كان مثله جانياً، على اعتبار أن استحقاق القتل ليس متيقناً.
قوله: [(فبلغ به الرجل حيث يسمع قوله، فقال: هو ذا فمر فيه ما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسله، وقال مرة: دعه يبوء بإثم صاحبه وإثمه فيكون من أصحاب النار، قال: فأرسله)].
أي: أنه يستحق العقوبة، وكما هو معلوم بالنسبة لحقوق الآدميين فإنه يقتص بعضهم من بعض يوم القيامة، وليس هناك إلا الحسنات والسيئات، فإذا كان مع المقتص منه حسنات أخذ منها وأعطيت للمجني عليه، وإذا لم يكن معه منه حسنات، فإنه يؤخذ من سيئات المجني عليه وتلقى على الجاني ثم يلقى في النار، ولكن كل ما كان دون الشرك فإنه يحتمل شفاعة الله عز وجل، وإذا عذب فلابد من خروجه من النار وإدخاله الجنة، ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين هم أهلوها.(505/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحبشي فقال: إن هذا قتل ابن أخي)
قوله: [حدثنا محمد بن عوف الطائي].
محمد بن عوف الطائي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي في مسند علي.
[حدثنا عبد القدوس بن الحجاج].
هو عبد القدوس بن الحجاج أبو المغيرة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يزيد بن عطاء الواسطي].
يزيد بن عطاء الواسطي لين الحديث، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد، وأبو داود.
[عن سماك عن علقمة عن أبيه].
وقد مر ذكر الثلاثة.
والحديث صححه الشيخ الألباني؛ لأنه كما هو معلوم مثل الذي قبله.(505/20)
شرح حديث (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن أبي أمامة بن سهل رضي الله عنه قال: (كنا مع عثمان رضي الله عنه وهو محصور في الدار، وكان في الدار مدخل من دخله سمع كلام من على البلاط، فدخله عثمان فخرج إلينا وهو متغير لونه، فقال: إنهم ليتواعدونني بالقتل آنفاً، قال: قلنا: يكفيكهم الله يا أمير المؤمنين! قال: ولم يقتلونني؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إسلام، أو زناً بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام قط، ولا أحببت أن لي بديني بدلاً منذ هداني الله، ولا قتلت نفساً، فبم يقتلونني؟).
قال أبو داود: عثمان وأبو بكر رضي الله عنهما تركا الخمر في الجاهلية].
أورد أبو داود حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه لما توعده الخارجون عليه الذين حاصروه في داره بالقتل، وآل الأمر إلى قتله رضي الله عنه وأرضاه، قال: [(ولم يقتلونني؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إسلام، أو زناً بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس)] ثم أخبر أنه ما زنى في الجاهلية ولا في الإسلام، يعني: أن الله قد حفظه في جاهليته وفي إسلامه رضي الله عنه وأرضاه فلم يقع منه الزنا، وكذلك لم يقتل أحداً، وكذلك لم يرض بدينه بديلاً، ولن يصير منه ذلك، ومعنى ذلك أن قتلهم له كان بغير حق.(505/21)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد بن زيد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي أمامة بن سهل].
هو أبو أمامة بن سهل بن حنيف له رؤية، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[قال: كنا مع عثمان رضي الله عنه].
هو عثمان بن عفان رضي الله عنه، أمير المؤمنين وثالث الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه.(505/22)
شرح حديث قصة قتل محلم الليثي لرجل من أشجع
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا محمد -يعني ابن إسحاق - فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال: سمعت زياد بن ضميرة الضمري (ح) وحدثنا وهب بن بيان وأحمد بن سعيد الهمداني قالا: حدثنا ابن وهب أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن الحارث عن محمد بن جعفر أنه سمع زياد بن سعد بن ضميرة السلمي -وهذا حديث وهب وهو أتم- يحدث عروة بن الزبير عن أبيه، قال موسى: وجده، وكانا شهدا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حنيناً، ثم رجعنا إلى حديث وهب: (أن محلم بن جثامة الليثي قتل رجلاً من أشجع في الإسلام، وذلك أول غير قضى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتكلم عيينة في قتل الأشجعي، لأنه من غطفان، وتكلم الأقرع بن حابس دون محلم؛ لأنه من خندف، فارتفعت الأصوات وكثرت الخصومة واللغط، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عيينة! ألا تقبل الغير؟ فقال عيينة: لا والله حتى أدخل على نسائه من الحرب والحزن ما أدخل على نسائي، قال: ثم ارتفعت الأصوات وكثرت الخصومة واللغط، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عيينة! ألا تقبل الغير؟ فقال عيينة مثل ذلك أيضاً، إلى أن قام رجل من بني ليث يقال له: مكيتل عليه شكة وفي يده درقة، فقال: يا رسول الله إني لم أجد لما فعل هذا في غرة الإسلام مثلاً إلا غنماً وردت فرمي أولها فنفر آخرها، اسنن اليوم وغير غداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خمسون في فورنا هذا، وخمسون إذا رجعنا إلى المدينة، وذلك في بعض أسفاره، ومحلم رجل طويل آدم وهو في طرف الناس، فلم يزالوا حتى تخلص فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعيناه تدمعان، فقال: يا رسول الله! إني قد فعلت الذي بلغك وإني أتوب إلى الله تبارك وتعالى، فاستغفر الله عز وجل لي يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أقتلته بسلاحك في غرة الإسلام؟ اللهم لا تغفر لـ محلم، بصوت عال، زاد أبو سلمة: فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ردائه، قال ابن إسحاق: فزعم قومه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استغفر له بعد ذلك).
قال أبو داود: قال النضر بن شميل: الغير: الدية].
أورد أبو داود حديث سعد بن ضميرة رضي الله عنه: [(أن محلم بن جثامة قتل رجلاً من أشجع في الإسلام)].
أي: في أول الإسلام.
قوله: [(وذلك أول غير قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
يعني: أول دية قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(فتكلم عيينة في قتل الأشجعي؛ لأنه من غطفان، وتكلم الأقرع بن حابس دون محلم؛ لأنه من خندف)].
يعني: واحد تكلم في القتيل، والثاني تكلم في القاتل.
قوله: [(فارتفعت الأصوات وكثرت الخصومة واللغط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عيينة! ألا تقبل الغير؟)].
عيينة هو الذي يحاج عن الأشجعي.
قوله: [فقال (عيينة: لا والله حتى أدخل على نسائه من الحرب والحزن ما أدخل على نسائي)].
الحرب قيل: هو نهب المال، وقيل: إن المقصود بها الحرب بالسكون، أي: لا بد أن يصير هناك إخافة وقتل مثلما حصل القتل والإخافة وفي عون المعبود: الحرب: بفتح الحاء وسكون الراء المهملتين، أي: المقاتل.
قوله: [(قال: ثم ارتفعت الأصوات وكثرت الخصومة واللغط، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عيينة! ألا تقبل الغير؟ فقال عيينة مثل ذلك أيضاً، إلى أن قام رجل من بني ليث يقال له مكيتل عليه شكة وفي يده درقة)].
الشكة: السلاح، والدرقة: هي الترس من الجلد ليس بها خشب ولا عصب.
قوله: [(فقال: يا رسول الله! إني لم أجد لما فعل هذا في غرة الإسلام مثلاً إلا غنماً وردت فرمي أولها فنفر آخرها)].
يعني: لا أجد لهذا مثلاً إلا الغنم التي رمي أولها فحصل النفار في آخرها.
ومكيتل ليثي من قبيلة محلم فهو يقصد بهذا المثل عيينة؛ لأنه مقابله وهو غطفاني.
قوله: [(اسنن اليوم وغير غداً)].
هذا مثل ضربه لترك القتل، كما أن الأول ضربه للقتل؛ ولذلك ترك العطف.
ومعناه: قرر حكمك اليوم وغيره غداً؛ لأنك إذا تركت القصاص اليوم في أول ما شرع واكتفيت بالدية ثم أجريت القصاص على أحد فإنه يصير ذلك كهذا المثل.
وقال ابن الأثير في النهاية: اسنن اليوم وغير غداً، أي: اعمل بسنتك التي سننتها في القصاص، ثم بعد ذلك إذا شئت أن تغير فغير ما سننت، وقيل: غير من أخذ الغير وهي الدية.
وقال الخطابي: هذا مثل يقول: إن لم تقتص منه اليوم لم تثبت سنتك غداً، ولم ينفذ حكمك بعدك، وإن لم تفعل ذلك وجد القائل سبيلاً إلى أن يقول مثل هذا القول، أعني قوله: اسنن اليوم وغير غداً، فتتغير لذلك سنتك وتتبدل أحكامها.
وقال السيوطي في مرقاة الصعود: إن مثل محلم في قتله الرجل وطلبه ألا يقتص منه وتؤخذ منه الدية والوقت أول الإسلام وصدره كمثل هذه الغنم النافرة.
يعني: إن جرى الأمر مع أولياء هذا القتيل على ما يريد محلم ثبط الناس عن الدخول في الإسلام لمعرفتهم أن القود يغير بالدية والعوض، خصوصاً وهم حراص على درك الأوتار وفيهم الأنفة من قبول الديات، ثم حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإقادة منه بقوله: اسنن اليوم وغير غداً، يريد إن لم تقتص منه غيرت سنتك، ولكنه أخرج الكلام على الوجه الذي يهيج المخاطب، ويحثه على الإقدام والجرأة على المطلوب منه.
قوله: [(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمسون في فورنا هذا وخمسون إذا رجعنا إلى المدينة، وذلك في بعض أسفاره)].
وهذه هي الدية تسلم خمسون، وتؤجل خمسون إلى الرجوع إلى المدينة، وكان هذا في سفر.
قوله: [(ومحلم رجل طويل آدم وهو في طرف الناس)].
يعني فيه سمرة.
قوله: [(فلم يزالوا حتى تخلص فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعيناه تدمعان، فقال: يا رسول الله! إني قد فعلت الذي بلغك وإني أتوب إلى الله تبارك وتعالى فاستغفر الله عز وجل لي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أقتلته بسلاحك في غرة الإسلام؟ اللهم لا تغفر لـ محلم بصوت عال، زاد أبو سلمة: فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ردائه، قال ابن إسحاق: فزعم قومه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استغفر له بعد ذلك)].
وهذا الحديث ضعيف؛ لأن في إسناده رجلاً مقبولاً، والمقبول ليس بحجة.(505/23)
تراجم رجال إسناد حديث قصة قتل محلم الليثي لرجل من أشجع
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا محمد بن إسحاق فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير].
محمد بن جعفر بن الزبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت زياد بن ضميرة].
زياد بن ضميرة مقبول، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[ح وحدثنا وهب بن بيان].
وهب بن بيان ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[وأحمد بن سعيد الهمداني].
أحمد بن سعيد الهمداني صدوق أخرج له أبو داود.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد].
عبد الرحمن بن أبي الزناد صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن الحارث].
عبد الرحمن بن الحارث صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.
[عن محمد بن جعفر أنه سمع زياد بن سعد بن ضميرة السلمي وهذا حديث وهب وهو أتم يحدث عروة بن الزبير عن أبيه].
أبوه هو سعد بن ضميرة السلمي وهو صحابي، وجد زياد صحابي، أخرج له أبو داود.
وجد زياد أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[قال أبو داود: قال النضر بن شميل: الغير: الدية].
هذا تفسير للغير بأنها الدية.(505/24)
شرح سنن أبي داود [506]
جاء الإسلام داعياً إلى حرمة دم المسلم، فمن قتل قتيلاً دفع إلى أولياء المني عليه، فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا على عوض أو بدون عوض، ولا يقتل مسلم بكافر، ولا حر بعبد، ولا يعفى من العقوبة من قتل بعد أخذ الدية، ومن سقى غيره سماً قتل به، ومن قتل عبده قتل به، ومن جدع أنف عبده جدع به، ومن خصى عبده خُصى به.(506/1)
ولي العمد يرضى بالدية(506/2)
شرح حديث (ألا إنكم يا معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ولي العمد يرضى بالدية.
حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا ابن أبي ذئب حدثني سعيد بن أبي سعيد قال: سمعت أبا شريح الكعبي رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا إنكم يا معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل، وإني عاقله، فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين: بين أن يأخذوا العقل، أو يقتلوا)].
قوله: [باب ولي العمد يرضى بالدية].
أي: أن من حقه أن يقتص، ومن حقه أن يأخذ الدية، ومن حقه أن يعفو عن القصاص وعن الدية.
فكل هذه الأمور الثلاثة لولي الدم أن يأخذ بأي شيء منها، فإن اختار ولي العمد القود اقتص من القاتل، وإن عفا عن القتل وأخذ الدية أخذها، وإن عفا عن القتل والدية فله ذلك.
وقد أورد أبو داود حديث أبي شريح الخزاعي الكعبي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [(ألا إنكم يا معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله)].
أي: وإني دافع الدية، والعقل هو الدية.
قوله: [(فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين: أن يأخذوا العقل، أو يقتلوا)].
الذي يبدو أنه قتل عمد؛ لأن قتل الخطأ ليس فيه إلا أخذ الدية، وهو حكم مستمر، وقوله: [(بعد مقالتي هذه)] يعني: أن صاحب الدم هو بخير النظرين: إما أن يقتل، وإما أن يأخذ الدية.
فالذي يفهم من الحديث: أن هذا قتل عمد وليس خطأ؛ لأنه قال: [(بعد مقالتي هذه)] وكأن هذا حكم انتهى وأنه في المستقبل من قتل عمداً فإن صاحب الدم الذي هو ولي القتيل مخير بين شيئين: إما أن يقتص وإما أن يأخذ الدية.(506/3)
تراجم رجال إسناد حديث (ألا إنكم يا معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله)
قوله: [حدثنا مسدد بن مسرهد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى بن سعيد].
مر ذكره.
[حدثنا ابن أبي ذئب].
هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني سعيد بن أبي سعيد].
هو سعيد بن أبي سعيد المقبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت أبا شريح الكعبي].
أبو شريح الخزاعي رضي الله عنه وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(506/4)
شرح حديث (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يودى أو يقاد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عباس بن الوليد بن مزيد أخبرني أبي حدثنا الأوزاعي حدثني يحيى (ح) وحدثنا أحمد بن إبراهيم حدثني أبو داود حدثنا حرب بن شداد حدثنا يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: (لما فتحت مكة قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يودى، أو يقاد، فقام رجل من أهل اليمن يقال له: أبو شاه فقال: يا رسول الله اكتب لي، قال عباس بن مزيد: اكتبوا لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لـ أبي شاه) وهذا لفظ حديث أحمد.
قال أبو داود: (اكتبوا لي) يعني: خطبة النبي صلى الله عليه وسلم].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة وهو مثل حديث أبي شريح.
فالحديثان مؤداهما واحد، وهو أن ولي القتيل مخير بين هذا وهذا، وهو: إما أن يقتص، أو يترك القصاص ويتحول إلى الدية.
وفيه: أن رجلاً من أهل اليمن يقال له: أبو شاه قال: (اكتبوا لي) أي: اكتبوا لي هذه الخطبة التي سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يدل على جواز كتابة العلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأن يكتب لـ أبي شاه ذلك الشيء الذي طلبه، وهي هذه الخطبة المشتملة على هذه الأحكام.(506/5)
تراجم رجال إسناد حديث (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يودى أو يقاد)
قوله: [حدثنا عباس بن الوليد بن مزيد].
عباس بن الوليد بن مزيد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرني أبي] أبوه الوليد بن مزيد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني يحيى].
هو يحيى بن أبي كثير اليمامي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا أحمد بن إبراهيم].
هو أحمد بن إبراهيم الدورقي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثني أبو داود].
هو سليمان بن داود الطيالسي وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا حرب بن شداد].
حرب بن شداد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن].
أبو سلمة بن عبد الرحمن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، وقد مر ذكره.
قوله: [قال العباس].
هو العباس بن الوليد.(506/6)
شرح حديث (لا يقتل مؤمن بكافر، ومن قتل مؤمناً متعمداً دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاءوا قتلوه وإن شاءوا أخذوا الدية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم حدثنا محمد بن راشد حدثنا سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يقتل مؤمن بكافر، ومن قتل مؤمناً متعمداً دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاءوا قتلوه، وإن شاءوا أخذوا الدية)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(لا يقتل مؤمن بكافر)] أي: أنه لا يقاد مؤمن بكافر، ثم ذكر محل الشاهد من الترجمة الذي فيه: [(ومن قتل مؤمناً متعمداً دفع إلى أولياء المقتول)].
يعني: يدفع إلى أولياء المقتول ليقتلوه، أو يأخذوا الدية، وهو مثل حديث أبي شريح وحديث أبي هريرة المتقدمين.(506/7)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يقتل مؤمن بكافر ومن قتل مؤمناً متعمداً دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوه وإن شاءوا أخذوا الدية)
قوله: [حدثنا مسلم].
هو مسلم بن إبراهيم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن راشد].
محمد بن راشد صدوق يهم، أخرج له أصحاب السنن.
[حدثنا سليمان بن موسى].
سليمان بن موسى صدوق في حديثه بعض لين، أخرج له مسلم في المقدمة، وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب].
عمرو بن شعيب صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة، وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو شعيب بن محمد، وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وجزء القراءة، وأصحاب السنن.
[عن جده].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما وهو صحابي جليل، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(506/8)
حكم من قتل بعد أخذ الدية(506/9)
شرح حديث (لا أعفي من قتل بعد أخذه الدية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من قتل بعد أخذ الدية.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا مطر الوراق وأحسبه عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أعفي من قتل بعد أخذه الدية)].
قوله: [باب من قتل بعد أخذ الدية].
أي: أنه تجاوز الحد؛ لأن الذي له: إما القتل أو الدية، فإذا تنازل عن القتل سقط حقه فيه، فلا سبيل إلى القتل، وإنما الذي له هو هذا الذي انتهى إليه من أخذ الدية.
قوله: [(لا أعفي من قتل بعد أخذه الدية)].
لأنه حصلت منه الجناية، وحقه من القتل سقط، بل لو تنازل واحد من ورثة القتيل فإن القود والقصاص يسقط، ويكون الأمر راجعاً إلى أخذ الدية فقط، فمن اعتدى بعد أخذه الدية فمعناه أنه تجاوز الحد.
والحديث في إسناده انقطاع؛ لأن الحسن لم يسمع من جابر رضي الله تعالى عنه.(506/10)
تراجم رجال إسناد حديث (لا أعفي من قتل بعد أخذه الدية)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا مطر الوراق].
مطر الوراق صدوق كثير الخطأ، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[وأحسبه عن الحسن].
يعني: فيه شك.
هو الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله صحابي جليل، وهو أحد الصحابة السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(506/11)
ما جاء فيمن سقى رجلاً سماً أو أطعمه فمات(506/12)
شرح حديث (أن امرأة يهودية أتت رسول الله بشاة مسمومة فأكل منها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن سقى رجلاً سماً أو أطعمه فمات أيقاد منه؟ حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي حدثنا خالد بن الحارث حدثنا شعبة عن هشام بن زيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسألها عن ذلك، فقالت: أردت لأقتلك، فقال: ما كان الله ليسلطك على ذلك، أو قال: علي، فقالوا: ألا نقتلها؟ قال: لا، فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)].
قوله: [باب فيمن سقى رجلاً سماً أو أطعمه فمات أيقاد منه؟].
ذكر الرجل هنا لا مفهوم له، فالمرأة كذلك، سواء كانت ساقية أو مسقية، وإنما يخاطب الرجال بالأحكام في الغالب، ولهذا يأتي ذكر الرجال أو الرجل دون النساء في تراجم الأبواب وفي كلام العلماء، والحكم لا يختص بالرجل دون المرأة، وكذلك يأتي في الأحاديث ذكر الحكم مضافاً إلى الرجل وهو لا يختص بالرجل، بل الأصل التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام، إلا إذا جاء دليل يدل على اختصاص الرجال بحكم دون النساء فإنه يختص بهم، أو جاء دليل يختص بالنساء دون الرجال فإنه يختص بهن.
وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لواحد خطاب للجميع، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، ومن قتل غيره بسم سقاه إياه أو أطعمه إياه ومات بسبب ذلك، فإنه يقاد منه، بل إن القود يكون بالمماثلة فيقتل بما قتل به، فإذا قتل بسم قتل بسم، وإذا ألقى المقتول من شاهق ألقي القاتل من شاهق، وإذا قتل بأي شيء قتل به، إلا أن يكون ذلك الفعل محرماً لا يجوز فعله في حق الرجل أو المرأة، فإنه لا يفعل به الفعل المحرم الذي فعله بغيره.
ومن الأدلة على ذلك: فعل الرسول صلى الله عليه وسلم باليهودي الذي رض الجارية بين حجرين فأمر صلى الله عليه وسلم أن يرض بين حجرين؛ لأن هذه مماثلة، والقصاص يكون بالمماثلة، وإذا أراد أن يقتص بشيء آخر أقل منه فإنه لا بأس بذلك، ولكن القتل بالمماثلة سائغ وجائز.
وقد أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: [(أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشاة مسمومة فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألها عن ذلك، فقالت: أردت لأقتلك، فقال: ما كان الله ليسلطك على ذلك أو قال: علي، فقالوا: ألا نقتلها؟ قال: لا، فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)].
هذه امرأة من اليهود أهدت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام شاة مشوية ووضعت فيها سماً، وجعلت قسطاً كبيراً من السم في الذراع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الذراع، ولما أكل رسول الله عليه الصلاة والسلام ومعه بعض أصحابه تكلمت الذراع، أنطقها الله عز وجل وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بأنها مسمومة، فامتنع الرسول صلى الله عليه وسلم من الأكل وأمر الذين معه أن يمتنعوا عن الأكل، ثم دعا بالمرأة فسألها عن ذلك، فقالت: أردت أن أقتلك، فقال عليه الصلاة والسلام: [(ما كان الله ليسلطك على ذلك أو قال: علي)] شك من الراوي.
[(فقالوا: ألا نقتلها؟ قال: لا)].
وذلك أنه صلى الله عليه وسلم ما كان ينتقم لنفسه، ولكنه جاء في بعض الروايات أنه أمر بقتلها؛ لأنه مات بسببها بعض أصحابه.
إذاً: التوفيق بين ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن قتلها لما استأذنوه، وبين أنه أمر بقتلها كما جاء في بعض الروايات: أن نهيه عن قتلها كان فيما يتعلق به، فهي قد سمته فلم ينتقم لنفسه صلى الله عليه وسلم، ولكنه لما مات بعض أصحابه بسبب ذلك السم أمر بقتلها فقتلت.
قال أنس: [(فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم)] يعني: كأنها علامة سواد أو شيء من التغير في لهواته صلى الله عليه وسلم.
أما كيف قتلها فلا نعلم أقتلها بالسم أو غيره، لكن كما عرفنا أن من قتل بشيء قتل به، ويجوز أن يقتل بغير ما قتل به.(506/13)
تراجم رجال إسناد حديث (أن امرأة يهودية أتت رسول الله بشاة مسمومة فأكل منها)
قوله: [حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي].
يحيى بن حبيب بن عربي ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا خالد بن الحارث].
هو خالد بن الحارث الهجيمي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن زيد].
هشام بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(506/14)
شرح حديث (أن امرأة من اليهود أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة فما عرض لها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا داود بن رشيد حدثنا عباد بن العوام (ح) وحدثنا هارون بن عبد الله حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد عن سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة قال هارون: عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن امرأة من اليهود أهدت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاة مسمومة، قال: فما عرض لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم).
قال أبو داود: هذه أخت مرحب اليهودية التي سمت النبي صلى الله عليه وسلم].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه: [(أن امرأة من اليهود أهدت شاة مسمومة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فما عرض لها رسول الله عليه الصلاة والسلام)] أي: لم يعاقبها عليه الصلاة والسلام على ذلك الفعل الذي حصل منها؛ لأنه لم ينتقم لنفسه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وفيه: قبول الهدايا من الكفار، وأن ذلك سائغ، لاسيما إذا كان في ذلك القبول مصلحة وفائدة، وهي كونهم يميلون إلى الإسلام ويتجهون إليه، فإن مثل ذلك أمر مطلوب، وكذلك إذا كانوا جيراناً فإنه يتعامل معهم بالإحسان إليهم؛ لأن ذلك من أسباب هدايتهم ودخولهم في الإسلام.(506/15)
تراجم رجال إسناد حديث (أن امرأة من اليهود أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة فما عرض لها)
قوله: [حدثنا داود بن رشيد].
داود بن رشيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا عباد بن العوام].
عباد بن العوام ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا هارون بن عبد الله].
(ح) هي للتحول من إسناد إلى إسناد، وهارون بن عبد الله الحمال البغدادي ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا سعيد بن سليمان].
سعيد بن سليمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عباد عن سفيان بن حسين].
سفيان بن حسين ثقة في غير الزهري، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن الزهري].
الزهري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد].
هو سعيد بن المسيب وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين باتفاق.
[وأبي سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة على اختلاف في السابع منهم.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
والألباني ضعف الحديث، ولعله لأن سفيان بن حسين يروي عن الزهري، وهو ضعيف في روايته عن الزهري، لكن معناه مستقيم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قالوا له: (أنقتلها؟ قال: لا) فهذا متفق مع ذلك من ناحية أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما قتلها انتقاماً لنفسه، ولكنه بعد ذلك قتلها لما مات بسبب سمها بعض أصحابه.
[قال أبو داود: هذه أخت مرحب اليهودية التي سمت النبي صلى الله عليه وسلم].
يعني: هذه المرأة التي سمت النبي صلى الله عليه وسلم هي أخت مرحب اليهودي.(506/16)
شرح حديث جابر (أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها لرسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود المهري حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال: (كان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحدث أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية، ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذراع، فأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ارفعوا أيديكم، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليهودية فدعاها فقال لها: أسممت هذه الشاة؟ قالت اليهودية: من أخبرك؟! قال: أخبرتني هذه في يدي، للذراع، قالت: نعم، قال: فما أردت إلى ذلك؟ قالت: قلت: إن كان نبياً فلن يضره، وإن لم يكن نبياً استرحنا منه، فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعاقبها، وتوفي بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة، واحتجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة، حجمه أبو هند بالقرن والشفرة، وهو مولى لبني بياضة من الأنصار)].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما: أن امرأة يهودية أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة، فأكل منها رسول الله عليه الصلاة والسلام ومعه رهط من أصحابه، ثم أمرهم أن يرفعوا أيديهم وأن يمتنعوا من الأكل؛ لأنها مسمومة، وبعد ذلك دعا باليهودية وسألها: أسممت هذه الشاة؟ قالت: نعم، قال: وما حملك على ذلك؟ قالت: إن كنت نبياً فلن يضرك وإن كنت غير نبي استرحنا منك.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقبها ولم ينتقم لنفسه صلى الله عليه وسلم؛ لكن لما توفي بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة بسبب سمها، بعد ذلك أمر بقتلها؛ من أجل أنها قتلت بعض أصحابه.
قوله: [(واحتجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة)].
الكاهل: هو أعلى الظهر من جهة الرقبة.
قوله: [(حجمه أبو هند بالقرن والشفرة)].
قيل: إن القرن مكان، وقيل: إنه قرن يستعمل بدل آلة الحجامة، والشفرة هي السكين.(506/17)
تراجم رجال إسناد حديث جابر (أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها لرسول الله)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
سليمان بن داود المهري ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب قال: كان جابر بن عبد الله].
ابن شهاب وجابر مر ذكرهما.
وهذا الحديث فيه انقطاع بين ابن شهاب وبين جابر رضي الله تعالى عنه.(506/18)
شرح حديث (أن رسول الله أهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية، نحو حديث جابر، قال: فمات بشر بن البراء بن معرور الأنصاري فأرسل إلى اليهودية: ما حملك على الذي صنعت؟ فذكر نحو حديث جابر، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقتلت ولم يذكر أمر الحجامة)].
أورد أبو داود حديث أبي سلمة مرسلاً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في قصة اليهودية، وهو قريب من الذي قبله حديث جابر، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتلها لما مات بسببها بشر بن البراء بن معرور الأنصاري رضي الله عنه.
وفيه: أنه لم يذكر الحجامة التي جاءت في الحديث الأول وهو مرسل، لكن جاء ما يشهد له.(506/19)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله أهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية)
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
وهب بن بقية ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي [حدثنا خالد].
هو خالد بن عبد الله الواسطي الطحان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عمرو].
هو محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، وهو صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وقد مر ذكره.(506/20)
شرح حديث (كان رسول الله يقبل الهدية ولا يأكل الصدقة)
[حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل الهدية ولا يأكل الصدقة)].
قوله: [(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يأكل الصدقة)].
لما ذكر في الحديث السابق أن الشاة قد أهديت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، أتى بهذا الحديث ليبين أنه كان يقبل الهدية من المسلمين وغير المسلمين، ولكنه كان يأخذ الهدية ويكافئ عليها صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وقبوله للهدية تطييباً لخواطر من يهدي من المسلمين، وكذلك من غير المسلمين تأليفاً واستجلاباً ممن يؤمل أن يدخل في الإسلام.
وهذا كما هو معلوم فيما يتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يقبل الهدية، أما أصحاب الأعمال كالموظفين وغيرهم فلا يجوز لهم قبول الهدايا، وبعض الناس قد يستدل لجواز قبول الهدايا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، ولكن غيره ليس مثله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه معصوم وغيره ليس بمعصوم، ثم أيضاً جاءت أحاديث تدل على منع قبول الهدايا منها حديث: (هدايا العمال غلول) كما سبق أن مر بنا.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، وكان يكافئ على الهدية، وغيره ليس مثله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يأكل الصدقة؛ لأن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وإسناد هذا الحديث هو نفس الإسناد السابق.(506/21)
شرح حديث (كان رسول الله يقبل الهدية ولا يأكل الصدقة، فأهدت له يهودية بخيبر شاة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية في موضع آخر عن خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة ولم يذكر أبا هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل الهدية ولا يأكل الصدقة، زاد: فأهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية سمتها، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأكل القوم، فقال: ارفعوا أيديكم؛ فإنها أخبرتني أنها مسمومة، فمات بشر بن البراء بن معرور الأنصاري، فأرسل إلى اليهودية: ما حملك على الذي صنعت؟ قالت: إن كنت نبياً لم يضرك الذي صنعت، وإن كنت ملكاً أرحت الناس منك، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقتلت، ثم قال في وجعه الذي مات فيه: ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت بخيبر، فهذا أوان قطعت أبهري)].
أورد أبو داود حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن وهو مرسل، وقد ذكر ما في الحديث السابق المتصل عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ولا يأكل الصدقة، وزاد أنه أهدت له امرأة يهودية شاة مشوية، وجعلت فيها سماً فأكل منها، فكلمته الذراع التي أكل منها رسول الله والتي نهس منها عليه الصلاة والسلام بأن فيها سماً.
وهذا من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، حيث حصل أمر خارق للعادة، فقد أطلعه الله عز وجل عليها فأخبر بها.
وفي هذا وأمثاله دليل على أن الكلام قد يكون بغير لسان وحنجرة ومخارج حروف، ليس كما يقوله بعض الفرق الضالة: إنه لا بد في الكلام من لهاة ولسان وحنجرة ومخارج حروف، ولهذا يؤولون كلام الله عز وجل، ويقولون: إن الله لا يتكلم بصوت يسمع؛ قالوا: لأننا لو أثبتنا أنه يتكلم بصوت يسمع للزم أن يكون له لهاة وحنجرة ولسان وشفتان ومخارج حروف، فيكون هناك مشابهة للمخلوقين، وهذا كلام باطل؛ لأن الكلام يثبت لله عز وجل على وجه يليق به، ولا يلزم من الإثبات التشابه بينه وبين المخلوقين، وهناك إثبات مع تشبيه وهذا باطل لاشك فيه، وهناك إثبات مع تنزيه وهذا هو الحق الذي لا ريب فيه.
فهذا الحديث وأمثاله يدل على بطلان هذا الذي قالوه: أن الكلام لا يتصور إلا بحنجرة ولهاة ولسان ومخارج حروف، فهذه الذراع من تلك الشاة أنطقها الله عز وجل وتكلمت، وكذلك الحجر الذي كان بمكة، كان يسلم على رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا مر به ويقول: (السلام عليك يا محمد).
فالله تعالى أنطق الحجر وأنطق الذراع ولم يكن ذلك بالصورة أو بالكيفية التي يتخيلونها ويتصورونها، فإذا كانت هذه المخلوقات وجد منها الكلام على وجه لا يشبه ما هو موجود في المخلوقين، فالله عز وجل يتكلم كلاماً يليق بجلاله ولا يكون مشابهاً لخلقه.
فقولهم: إنه لا يتصور الكلام إلا بكذا وكذا وكذا، هذا كلام غير صحيح؛ لأنه وجد الكلام من بعض المخلوقات على وجه يخالف ما هو معلوم ومشاهد في المخلوقين.
إذاً: الله عز وجل يتكلم وكلامه يليق به، ولا يلزم من إثبات الكلام التشبيه؛ لأننا عرفنا أن هذه المخلوقات التي وجد منها الكلام لم يكن بهذه الطريقة التي يقولون: إنه لا يتصور الكلام إلا بكذا وكذا وكذا إلى آخره.
قوله: [(قالت: وإن كنت ملكاً أرحت الناس منك، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت)].
اليهود كانوا يعرفون أنه رسول الله وأنه نبي، وهم يعرفون ذلك من كتبهم، ولكن الحسد والبغي حملهم على ذلك، فقولها: إن كنت نبياً وإن كنت ملكاً، هذا كلام غير صحيح، فهم يعلمون ويعرفون أنه نبي، وقد جاءت صفاته وصفات أصحابه في كتبهم، كما جاء في آخر سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح:29] الآية.
فالرسول صلى الله عليه وسلم مذكور في التوراة والإنجيل، وكذلك أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام قد ذكروا في التوراة والإنجيل.
قوله: [(ثم قال في وجعه الذي مات فيه: ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت بخيبر، فهذا أوان قطعت أبهري)].
الأبهر: هو العرق الذي به الحياة، بحيث إذا انقطع مات صاحبه، والمقصود من ذلك أن أثر ذلك السم كان موجوداً معه صلى الله عليه وسلم حتى وفاته، فقد كان يجد أثر ذلك السم بين حين وآخر، حتى جاء الأجل وقبض الله تعالى روح نبيه صلى الله عليه وسلم ورفعه إلى الرفيق الأعلى.
قوله: [حدثنا وهب بن بقية] هو نفس الإسناد السابق.(506/22)
شرح حديث أم مبشر في الشاة المسمومة التي أهدتها اليهودية للنبي صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مخلد بن خالد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه: (أن أم مبشر رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي مات فيه: ما يتهم بك يا رسول الله؟ فإني لا أتهم بابني شيئاً إلا الشاة المسمومة التي أكل معك بخيبر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا لا أتهم بنفسي إلا ذلك، فهذا أوان قطع أبهري)].
أورد حديث أم مبشر الأنصارية رضي الله عنها أنها قالت: [(ما يتهم بك؟)] أي: ذلك الأثر الذي كان معه، وأنه كان يحس بالأثر.
قولها: [(فإني لا أتهم بابني شيئاً إلا الشاة)]؛ لأن ابنها الذي هو بشر بن البراء بن معرور مات من تلك الشاة المسمومة.
قوله: [(وأنا لا أتهم بنفسي إلا ذلك، فهذا أوان قطع أبهري)] هذا مثل الذي قبله.(506/23)
تراجم رجال إسناد حديث أم مبشر في الشاة المسمومة التي أهدتها اليهودية للنبي صلى الله عليه وسلم
قوله: [حدثنا مخلد بن خالد].
هو مخلد بن خالد الشعيري، وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري مر ذكره.
[عن ابن كعب بن مالك].
هو عبد الله بن كعب بن مالك، وهو ثقة، ويقال: له رؤية أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن أبيه].
هو كعب بن مالك رضي الله عنه الصحابي الجليل، أحد الثلاثة الذين خلفوا فتاب الله عليهم وأنزل فيهم قرآناً يتلى، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[أن أم مبشر].
هي أم مبشر الأنصارية، وهي صحابية.
[قالت للنبي صلى الله عليه وسلم].
يعني أنه مرفوع.
[قال أبو داود: وربما حدث عبد الرزاق بهذا الحديث مرسلاً عن معمر عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم].
يعني: أنه أحياناً يأتي بالمرسل وأحياناً يأتي بالمتصل.
[وربما حدث به عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، وذكر عبد الرزاق أن معمراً كان يحدثهم بالحديث مرة مرسلاً فيكتبونه ويحدثهم مرة به فيسنده فيكتبونه، وكل صحيح عندنا.
قال عبد الرزاق: فلما قدم ابن المبارك على معمر أسند له معمر أحاديث كان يوقفها].
قوله: [فلما قدم ابن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك المروزي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(506/24)
شرح حديث أم مبشر في الشاة المسمومة التي أهدتها اليهودية للنبي صلى الله عليه وسلم من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا إبراهيم بن خالد حدثنا رباح عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أمه أم مبشر، قال أبو سعيد بن الأعرابي: كذا قال: عن أمه، والصواب عن أبيه عن أم مبشر رضي الله عنها: (دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر معنى حديث مخلد بن خالد نحو حديث جابر رضي الله عنه، قال: فمات بشر بن البراء بن معرور فأرسل إلى اليهودية فقال: ما حملك على الذي صنعت؟ -فذكر نحو حديث جابر - فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت ولم يذكر الحجامة)].
أورد أبو داود حديث أم مبشر رضي الله عنها، وهو مثل ما تقدم، ليس فيه شيء جديد.(506/25)
تراجم رجال إسناد الطريق الأخرى لحديث أم مبشر في الشاة المسمومة التي أهدتها اليهودية للنبي صلى الله عليه وسلم
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إبراهيم بن خالد].
إبراهيم بن خالد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا رباح].
هو رباح بن زيد وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن معمر عن الزهري].
قد مر ذكرهما.
[عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك].
عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أمه أم مبشر قال أبو سعيد بن الأعرابي: كذا قال: عن أمه، والصواب: عن أبيه عن أم مبشر] يعني: قال: عن أمه، والصواب: عن أبيه عن أم مبشر، ويكون المقصود بأبيه هو جده كعب؛ لأن الجد يقال له: أب.
وأم مبشر هي حميمة بنت صيفي صحابية، أخرج لها مسلم والنسائي وابن ماجة.
وهي راوية الحديث الذي عند مسلم: (لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة).(506/26)
من قتل عبده أو مثل به(506/27)
شرح حديث (من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من قتل عبده أو مثل به أيقاد منه؟ حدثنا علي بن الجعد حدثنا شعبة (ح) وحدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه)].
قوله: [باب من قتل عبده أو مثل به أيقاد منه؟] هذا الترجمة مقصود بها قتل الرجل عبده، وكما عرفنا أن ذكر الرجل لا مفهوم له، فكذلك المرأة لو قتلت عبدها أو أمتها فإن النتيجة واحدة، وإنما ذكر الرجال لأن الخطاب في الغالب لهم، والحر لا يقتل بالعبد، إلا إذا حصل هناك تساهل وتهاون فيكون القتل تعزيراً من أجل أن يرتدع الناس وألا يقدموا على ذلك، وإلا فإن الحر لا يقتل بالعبد؛ لأن العبد له قيمة مالية يباع ويشترى بخلاف الحر، والأحاديث التي أوردها أبو داود هنا ضعيفة غير ثابتة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام التي فيها: [(من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه)] أي: من مثل به بأن قطع أنفه أو شيئاً من أعضائه، وغالباً أن الجدع يكون في الأنف؛ لأن مقطوع الأنف يقال له: مجدوع.
لكن الحديث ضعيف غير صحيح؛ لأنه من رواية الحسن عن سمرة.(506/28)
تراجم رجال إسناد حديث (من قتل عبده قتلناه، ومن جدع أنفه جدعناه)
قوله: [حدثنا علي بن الجعد].
علي بن الجعد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي وقد مر ذكره.
[ح وحدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة بن دينار، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
هو الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سمرة].
هو سمرة بن جندب رضي الله عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(506/29)
سماع الحسن من سمرة
الحسن عن سمرة الذي صح عنه سماعه حديث العقيقة، وما عدا ذلك فإنه لم يصح، وفي ذلك خلاف، فمنهم من قال: يقبل ويصح حديثه مطلقاً، ومنهم من قال: إنه يرد مطلقاً، ومنهم من قال: يفصل بين حديث العقيقة وغير حديث العقيقة، والمشهور والأصح أن حديث العقيقة ثابت وغيره يحتاج إلى ما يؤيده، وإن كان لم يأت إلا من تلك الطريق فإنه لا يعول عليه.(506/30)
شرح حديث (من خصى عبده خصيناه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة بإسناده مثله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من خصى عبده خصيناه) ثم ذكر مثل حديث شعبة وحماد].
وهذا مثل الذي قبله إلا أن فيه: [(من خصى عبده خصيناه)] أي: من قطع خصيتي عبده قطعنا خصيتيه، لكن كما سيأتي في الحديث الذي هو صحيح أو حسن: (أن رجلاً جب مذاكير عبد له، فجعله الرسول صلى الله عليه وسلم حراً وأعتقه عليه، ولم يفعل به ذلك الفعل).(506/31)
ترجمة رجال إسناد حديث (من خصى عبده خصيناه)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
هو محمد بن المثنى أبو موسى الزمن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معاذ بن هشام].
هو معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي وهو صدوق ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبي].
هو هشام الدستوائي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة بإسناده مثله].
قتادة بإسناده مثله وقد تقدم.
[قال أبو داود: ورواه أبو داود الطيالسي عن هشام مثل حديث معاذ].
أبو داود الطيالسي ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.(506/32)
شرح حديث (لا يقتل حر بعبد) وترجمة رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا سعيد بن عامر عن ابن أبي عروبة عن قتادة بإسناد شعبة مثله، زاد: ثم إن الحسن نسي هذا الحديث فكان يقول: (لا يقتل حر بعبد)].
هذه طريق أخرى وفيها: أن الحسن نسي هذا الحديث فكان يقول: [(لا يقتل حر بعبد)].
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا سعيد بن عامر].
سعيد بن عامر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي عروبة].
هو سعيد بن أبي عروبة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة بإسناد شعبة مثله].(506/33)
شرح أثر الحسن (لا يقاد الحر بالعبد) وترجمة رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن الحسن قال: لا يقاد الحر بالعبد].
أورد المصنف رحمه الله هذا الأثر الذي ينتهي إلى الحسن وفيه: [لا يقاد الحر بالعبد].
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
مسلم بن إبراهيم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام عن قتادة عن الحسن].
مر ذكرهم.(506/34)
شرح حديث إعتاق النبي صلى الله عليه وسلم للعبد الذي جب مذاكيره سيده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن الحسن بن تسنيم العتكي حدثنا محمد بن بكر أخبرنا سوار أبو حمزة حدثنا عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: (جاء رجل مستصرخ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: جارية له يا رسول الله.
فقال: ويحك ما لك؟ قال: شر، أبصر لسيده جارية له فغار فجب مذاكيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: علي بالرجل، فطلب فلم يقدر عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اذهب فأنت حر، فقال: يا رسول الله على من نصرتي؟ قال: على كل مؤمن أو قال: كل مسلم) قال أبو داود: الذي عتق كان اسمه روح بن دينار.
قال أبو داود: الذي جبه زنباع.
قال أبو داود: هذا زنباع أبو روح كان مولى العبد].
أورد حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: [(جاء رجل مستصرخ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: جارية له يا رسول الله)].
يعني: جارية لسيده نظر إليها فغار السيد من نظر العبد إليها؛ فجب مذاكير ذلك العبد عقوبة له على نظره إلى تلك الجارية.
قوله: [(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علي بالرجل فطلب فلم يقدر عليه)].
كأنه هرب.
قوله: [(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فأنت حر، فقال: يا رسول الله على من نصرتي؟ قال: على كل مؤمن، أو كل مسلم)].
الأصل أن العتيق نصرته على مواليه الذين يعتقونه، وهذا ليس له مولى أعتقه، وإنما الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أعتقه فقال له: [(اذهب فأنت حر)] أعتقه على سيده، فقال: [(على من نصرتي؟)] والأصل أن المولى نصرته على مواليه الذين أعتقوه وهم يرثونه، فقال: [(على كل مؤمن)] يعني: هم الذين ينصرونه بدلاً من مواليه.(506/35)
تراجم رجال إسناد حديث إعتاق النبي صلى الله عليه وسلم للعبد الذي جب مذاكيره سيده
قوله: [حدثنا محمد بن الحسن بن تسنيم العتكي].
محمد بن الحسن بن تسنيم العتكي هو صدوق يغرب، أخرج له أبو داود.
[حدثنا محمد بن بكر].
محمد بن بكر صدوق قد يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سوار أبو حمزة].
سوار أبو حمزة صدوق له أوهام، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثنا عمرو بن شعيب].
هو عمرو بن شعيب بن محمد وهو صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة، وأصحاب السنن.
[عن أبيه] هو شعيب وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وجزء القراءة، وأصحاب السنن.
[عن جده] هو عبد الله بن عمرو وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أحد العبادلة الأربعة.(506/36)
شرح سنن أبي داود [507]
الأصل أن من قتل قتيلاً قتل به، إلا أن يعفو أولياء الدم، فإن وجد قتيلاً بين قوم ولم يعرف قاتله حلف أولياؤه خمسين يميناً على رجل منهم فيدفع إليهم برمته ليقتصوا منه، وإذا لم يحلفوا حلف المتهمون خمسين يميناً أنهم ما قتلوه فتبرأ ساحتهم، لأنه ليس هناك في الشريعة الإسلامية دم هدر، وهذا هو ما يسمى بالقسامة.(507/1)
القتل بالقسامة(507/2)
شرح حديث سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج في القسامة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب القتل بالقسامة.
حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة ومحمد بن عبيد المعنى قالا: حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج رضي الله عنهما: (أن محيصة بن مسعود وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر فتفرقا في النخل، فقتل عبد الله بن سهل، فاتهموا اليهود، فجاء أخوه عبد الرحمن بن سهل وابنا عمه حويصة ومحيصة، فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وهو أصغرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الكبر الكبر، أو قال: ليبدأ الأكبر، فتكلما في أمر صاحبهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته، فقالوا: أمر لم نشهده، كيف نحلف؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم، قالوا: يا رسول الله! قوم كفار، قال: فوداه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبله.
قال: قال سهل: دخلت مربداً لهم يوماً فركضتني ناقة من تلك الإبل ركضة برجلها) قال حماد هذا أو نحوه.
قال أبو داود: رواه بشر بن المفضل ومالك عن يحيى بن سعيد قال فيه: (أتحلفون خمسين يميناً وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم؟) ولم يذكر بشر دماً، وقال عبدة عن يحيى كما قال حماد، ورواه ابن عيينة عن يحيى فبدأ بقوله: (تبرئكم يهود بخمسين يميناً يحلفون) ولم يذكر الاستحقاق.
قال أبو داود: وهذا وهم من ابن عيينة].
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب القتل بالقسامة].
القسامة: هي أن يقتل قتيل بين جماعة يتهمون فيه ولا يعرف قاتله؛ هذه يقال لها: قسامة؛ لأن المدعين أو أصحاب الدم يطلب منهم أن يحلف منهم خمسون رجلاً على شخص أنه قتله فيدفع لهم ليقتلوه، فإذا لم يحلف المدعون جعلت اليمين على المدعى عليهم بأن يحلف منهم خمسون بأنهم بريئون من ذلك، فإذا حلف أولئك المدعون على شخص معين فإنه يقتل ذلك الشخص أو يدفع لهم ذلك الشخص ليقتلوه، وإذا لم يفعلوا فإنه توجه اليمين لخمسين من المدعى عليهم فتبرأ ساحتهم بذلك، ولهذا قيل لها: قسامة؛ لأن فيها أيماناً كثيرة.
وقد أورد أبو داود حديث سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج: أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود -وهما أبناء عم- ذهبا إلى خيبر فتفرقا، ثم وجد عبد الله بن سهل قتيلاً، فجاء أولياؤه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقالوا: إن اليهود قتلوا عبد الله بن سهل، وكان الذي تكلم هو عبد الرحمن وهو أخو القتيل وكان أصغر القوم، فقال عليه السلام: [(الكبر الكبر)] أو قال: [(ليبدأ الأكبر)] وهذا فيه تنبيه إلى أدب وهو أن الجماعة إذا جاءوا لحاجة وكانت مهمتهم واحدة فإن الكلام يكون للأكبر، إلا إذا اتفقوا على أن يتكلم واحد منهم؛ لأنه قد يكون الأكبر لا يجيد الكلام، أو لا يتمكن من أن يتكلم بالشيء الذي يريدونه، فإذا اختاروا واحداً منهم وهو أصغرهم فإنه لا بأس بذلك، وإلا فإن السنة أن يبدأ الكبير كما أرشد إلى ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث.
فتكلم الذين أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه فقال: [(يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته)] يعني: أنه يسلم لهم ليتولوا قتله إذا حلفوا على أن هذا هو القاتل.
قوله: [(فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟)] يعني: ما شاهدنا ولا رأينا.
قوله: [(قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم، قالوا: يا رسول الله! قوم كفار)] أي: كيف نقبل أيمانهم وهم كفار يكذبون.
[(فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله)] يعني: لم يضيع دمه، بل وداه من عنده صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
فدل هذا على ثبوت القسامة، وأنه يبدأ فيها بأيمان المدعين؛ لأن المدعي إذا كان معه شيء يقوي جانبه فإنه يحلف، كما لو كان معه شاهد واحد والمطلوب شاهدان، فيقوى جانبه لوجود شاهد عنده، فيضاف إلى ذلك يمين المدعي، ولهذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاهد ويمين؛ لأنه وجد قوة مع المدعي فيضاف إليها شيئاً آخر وهو اليمين، فيحكم له حيث لا يوجد عنده شاهدان.
وهنا لما وجد ما يسمى باللوث وهو محل التهمة، وهو أنه كان موجوداً بينهم وأنه قتل بينهم وفي أرضهم وليس فيها مسلمون وإنما الذين فيها هم كفار، فالتهمة قوية في أنهم هم الذين قتلوه أو قتله واحد منهم، فهذا هو اللوث الذي يقوي جانب المدعين فيبدأ بهم في الأيمان لا بالمدعى عليهم، ولا تحال اليمين إلى المدعى عليهم؛ لأنه وجد مع المدعين شيء يقوي جانبهم وهو اللوث، فيبدأ بالأيمان على المدعين.
والله تعالى أعلم ما حكمة اختيار خمسين شخصاً لليمين، لكن إذا وجد فيهم من يكذب أو يستسهل الكذب، فإنه قد يوجد فيهم أحد يمتنع ويخاف من العواقب، وقد يوجد فيهم من عنده صدق.
قوله: [(قال سهل: دخلت مربداً لهم يوماً فركضتني ناقة من تلك الإبل ركضة برجلها)].
يعني: أن هذه الإبل التي وداه الرسول صلى الله عليه وسلم بها جعلوها في مكان معين يقال له: المربد، فدخل سهل رضي الله عنه فركضته ناقه من تلك الإبل ركضة، فهو يتذكر الذي حصل في هذه الحادثة، حيث إنه رأى تلك الإبل التي دفعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم دية لـ عبد الله بن سهل.(507/3)
تراجم رجال إسناد حديث سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج في القسامة
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة].
عبيد الله بن عمر بن ميسرة ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[ومحمد بن عبيد].
هو محمد بن عبيد بن حساب وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد بن زيد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد الأنصاري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بشير بن يسار].
بشير بن يسار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهل بن أبي حثمة].
سهل بن أبي حثمة صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ورافع بن خديج].
رافع بن خديج صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: رواه بشر بن المفضل ومالك عن يحيى بن سعيد].
بشر بن المفضل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومالك].
مالك ثقة فقيه، أحد أئمة المذاهب الأربعة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قوله: [عن يحيى بن سعيد قال فيه: [(أتحلفون خمسين يميناً وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم؟) ولم يذكر بشر دماً، وقال عبدة عن يحيى كما قال حماد، ورواه ابن عيينة عن يحيى فبدأ بقوله: (تبرئكم يهود بخمسين يميناً يحلفون) ولم يذكر الاستحقاق].
أي أنه رواه ابن عيينة عن يحيى بن سعيد الأنصاري فقال: [(تبرئكم يهود بخمسين)] فبدأ باليهود، وهذا وهم من ابن عيينة كما قال أبو داود؛ لأن الذين رووه كلهم ذكروا أنه يبدأ بالمدعين وليس بالمدعى عليهم.(507/4)
شرح حديث سهل بن أبي حثمة في القسامة من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك عن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه (أنه أخبره هو ورجال من كبراء قومه أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم، فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في فقير أو عين، فأتى يهود، فقال: أنتم والله قتلتموه، قالوا: والله ما قتلناه، فأقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم ذلك، ثم أقبل هو وأخوه حويصة وهو أكبر منه وعبد الرحمن بن سهل فذهب محيصة ليتكلم، وهو الذي كان بخيبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كبر كبر يريد السن، فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب، فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فكتبوا: إنا والله ما قتلناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لـ حويصة ومحيصة وعبد الرحمن: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ قالوا: لا، قال: فتحلف لكم يهود؟ قالوا: ليسوا مسلمين، فوداه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عنده، فبعث إليهم مائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار، قال سهل: لقد ركضتني منها ناقة حمراء)].
أورد أبو داود حديث سهل بن أبي حثمة من طريق أخرى، وفيه أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود ذهبا إلى خيبر من فقر، يريدان أن يحصلا شيئاً في تلك البلاد من الحرث والزرع والنخل ليقتاتا به، فتفرقا، فعند ذلك أُخبر محيصة بأن عبد الله بن سهل قتل، فقال: إنكم قتلتموه يا معشر اليهود.
فقالوا: إنا ما قتلناه، ثم وصل الخبر إلى المدينة، فقام أصحابه وأولياؤه وجاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فكتب إلى اليهود: إما أن تدوه وإما أن تؤذنوا بحرب، هذا على اعتبار أنهم هم الذين قتلوه، وأن القتل حاصل منهم، فكتبوا أنهم ما قتلوه ولا حصل منهم شيء من ذلك، فطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من أولياء القتيل أن يحلف خمسون منهم فامتنعوا وقالوا: كيف نحلف؟ ثم قال: تبرئكم يهود، فقالوا كما قالوا فيما مضى، فوداه الرسول صلى الله عليه وسلم بمائة من الإبل، كما تقدم فـ سهل يخبر عن الذي حصل له من واحدة من تلك الإبل، وهنا يقول: إنها ناقة حمراء ركضته برجلها، فهو يذكر تلك الحادثة والواقعة التي قد حصلت له، والحديث بمعنى الحديث الذي قبله إلا أن فيه زيادة: [(إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب)] ولعل هذا كان قبل أن يعلم إنكارهم.(507/5)
تراجم رجال إسناد الطريق الأخرى لحديث سهل بن أبي حثمة في القسامة
قوله: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح].
أحمد بن عمرو بن السرح ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أخبرنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني مالك عن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل].
مالك مر ذكره، وأبو ليلى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن سهل بن أبي حثمة].
سهل بن أبي حثمة مر ذكره.(507/6)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل بالقسامة رجلاً من بني نصر بن مالك ببحرة الرغاء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمود بن خالد وكثير بن عبيد قالا: حدثنا (ح) وحدثنا محمد بن الصباح بن سفيان أخبرنا الوليد عن أبي عمرو عن عمرو بن شعيب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أنه قتل بالقسامة رجلاً من بني نصر بن مالك ببحرة الرغاء على شط لية البحرة، قال: القاتل والمقتول منهم) وهذا لفظ محمود: ببحرة أقامه محمود وحده على شط لية].
أورد أبو داود هذا الحديث المعضل الذي قال فيه عمرو بن شعيب [(عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قتل بالقسامة رجلاً)].
وهذا معضل؛ لأنه سقط منه واسطتان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعضل هو الذي يسقط منه اثنان على التوالي، فإذا كانا بدون توالٍ فيقال له: منقطع.
قوله: [(أنه قتل بالقسامة رجلاً من بني نصر بن مالك ببحرة الرغاء)].
البحرة قيل: هي القرية والمدينة، ويقال: بحيرة تصغير بحرة، والمدينة يقال لها: بحيرة أو بحرة، وفي الحديث: (اعمل من وراء البحار فلن يترك الله من عملك شيئاً) والمقصود: من وراء المدن، وليس المقصود البحار الزاخرة بالماء.
قوله: [(قال: القاتل والمقتول منهم)].
أي: أنهما من تلك القبيلة.
والحديث ضعيف؛ لأنه معضل، وليس فيه ذكر الواسطة بين عمرو بن شعيب وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.(507/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل بالقسامة رجلاً من بني نصر بن مالك ببحرة الرغاء)
قوله: [حدثنا محمود بن خالد].
هو محمود بن خالد الدمشقي وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وكثير بن عبيد].
كثير بن عبيد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[قالا: حدثنا (ح) وحدثنا محمد بن الصباح بن سفيان أخبرنا].
هذا التحويل لأجل الاختلاف في الصيغة؛ لأن الأولين قالا: حدثنا، وأما الآخر فقال: أخبرنا؛ فالتحويل من أجل الاختلاف في الصيغة.
ومحمد بن الصباح بن سفيان صدوق، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[أخبرنا الوليد].
هو الوليد بن مسلم الدمشقي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عمرو].
هو الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب].
عمرو بن شعيب مر ذكره.(507/8)
ترك القود بالقسامة(507/9)
شرح حديث قصة قتل عبد الله بن سهل بخيبر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ترك القود بالقسامة.
حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني حدثنا أبو نعيم حدثنا سعيد بن عبيد الطائي عن بشير بن يسار، زعم أن رجلاً من الأنصار يقال له: سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أخبره: (أن نفراً من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها فوجدوا أحدهم قتيلاً، فقالوا للذين وجدوه عندهم: قتلتم صاحبنا، فقالوا: ما قتلناه ولا علمنا قاتلاً، فانطلقنا إلى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فقال لهم: تأتوني بالبينة على من قتل هذا؟ قالوا: ما لنا بينة، قال: فيحلفون لكم، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبطل دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة)].
قوله: [باب في ترك القود بالقسامة].
يعني: ترك القود بالقسامة لعدم معرفة القاتل، ولهذا صير إلى الدية وعدم إهدار الدم.
وقد أورد أبو داود حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله تعالى عنه، وهو في قصة ذهاب عبد الله بن سهل وحويصة ومحيصة إلى خيبر، ثم إن عبد الله بن سهل وجد قتيلاً فقالوا لليهود: إنكم قتلتم صاحبنا، فقالوا: ما قتلناه ولا علمنا من قتله، فرفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتأتون بشاهدين يشهدون على أن القتل حصل منهم؟ فأخبروه أنه ليس عندهم شهود.
وهنا لم يذكر الأيمان في القسامة على المدعين، وإنما ذكر أن اليهود يبرئون بأن يحلف خمسون منهم، فقالوا: إنهم قوم كفار، فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدر دمه فوداه من إبل الصدقة.
والأحاديث التي مرت فيها أنه حصل البدء بأيمان المدعين وأنهم طولبوا باليمين، فيمكن أن يكون هذا الحديث فيه اختصار، وأنه طلبت منهم البينة وعند عدم وجود البينة طلب منهم أيمان خمسين، وأنهم لما لم يجيبوا إلى ذلك؛ لأنهم ما شاهدوا ولا عاينوا، أخبر بأن اليهود يحلفون خمسين يميناً، فقالوا: إنهم قوم كفار، فكيف نقبل أيمانهم؟ فكره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يهدر دمه فوداه من إبل الصدقة، وقد سبق أن مر في بعض الأحاديث أنه وداه من عنده، ومعلوم أنه ليس من مصارف الصدقة إعطاء الديات، فيحمل ما جاء في هذا الحديث على أن الإبل اشتريت من إبل الصدقة، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراها من إبل الصدقة، فتكون الدية إنما هي المال الذي دفع في مقابل الصدقة، ثم قدمت المائة الإبل، فبهذا يوفق بين الحديثين: الحديث الذي فيه أنه وداه من عنده، والحديث الذي فيه أنه وداه من إبل الصدقة، فإنه يحمل على أنه اشترى الدية من إبل الصدقة، وتكون الدية من عنده صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(507/10)
تراجم رجال إسناد حديث قصة قتل عبد الله بن سهل بخيبر
قوله: [حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني].
الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو نعيم].
هو الفضل بن دكين، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن عبيد الطائي].
سعيد بن عبيد الطائي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن بشير بن يسار].
بشير بن يسار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[زعم أن رجلاً من الأنصار يقال له: سهل بن أبي حثمة].
سهل بن أبي حثمة صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(507/11)
شرح حديث (أصبح رجل من الأنصار مقتولاً بخيبر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي بن راشد أخبرنا هشيم عن أبي حيان التيمي حدثنا عباية بن رفاعة عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: (أصبح رجل من الأنصار مقتولاً بخيبر، فانطلق أولياؤه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكروا ذلك له، فقال: لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم؟ قالوا: يا رسول الله لم يكن ثم أحد من المسلمين وإنما هم يهود، وقد يجترئون على أعظم من هذا، قال: فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم، فأبوا، فوداه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عنده)].
أورد أبو داود حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم وداه من عنده، والبقية مثل ما تقدم عن سهل بن أبي حثمة.(507/12)
تراجم رجال إسناد حديث (أصبح رجلاً من الأنصار مقتولاً في خيبر)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي بن راشد].
الحسن بن علي بن راشد صدوق، أخرج له أبو داود.
وهذا يأتي ذكره قليلاً بخلاف الحسن بن علي الذي يأتي ذكره كثيراً وهو الحلواني الذي أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي، وأما هذا فيأتي ذكره قليلاً؛ ولهذا سماه وذكر جده الحسن بن علي بن راشد.
[أخبرنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي حيان التيمي].
هو يحيى بن سعيد بن حيان التيمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عباية بن رفاعة].
عباية بن رفاعة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رافع بن خديج].
رافع بن خديج رضي الله عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(507/13)
ذكر من اشتهروا من الرواة باسم يحيى بن سعيد
أبو حيان التيمي الذي هو يحيى بن سعيد هو في طبقة يحيى بن سعيد الأنصاري.
والمشهورون بهذا الاسم أربعة: اثنان في طبقة متقدمة، واثنان في طبقة متأخرة، فاللذان في الطبقة المتقدمة هما: يحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى بن سعيد التيمي أبو حيان هذا، واللذان في الطبقة المتأخرة هما: يحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن سعيد الأموي، وهذان الأخيران من طبقة شيوخ شيوخ أبي داود.
وهذا الاتفاق في الأسماء وأسماء الآباء والاختلاف في الأشخاص هو الذي يسمونه في علم المصطلح: المتفق والمفترق، وهو أن تتفق أسماء الرواة وأسماء آبائهم وتختلف أشخاصهم، ويعرف ذلك بالتلاميذ، أو بالتنصيص على ذلك في بعض الطرق؛ لأن بعض الطرق تأتي بما يعين ويبين من هو المقصود.(507/14)
شرح حديث: (أن رسول الله كتب إلى يهود أنه قد وجد بين أظهركم قتيل فدوه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني حدثني محمد -يعني ابن سلمة - عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن عبد الرحمن بن بجيد قال: (إن سهلاً رضي الله عنه والله أوهم الحديث، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى يهود: أنه قد وجد بين أظهركم قتيل فدوه، فكتبوا يحلفون بالله خمسين يميناً ما قتلناه وما علمنا قاتلاً، قال: فوداه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عنده بمائة ناقة)].
أورد أبو داود هذا الحديث الذي قيل: إنه مرسل، وهو من رواية عبد الرحمن بن بجيد قال: [(إن سهلاً أوهم الحديث، إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى يهود: أنه قد وجد بين أظهركم قتيل فدوه)].
أي: ادفعوا ديته، فهذا أمر من ودى يدي، وفعله يكون حرفاً واحداً؛ لأن أوله واو وآخره ياء، فعند الأمر يحذف الأول والآخر ويبقى الوسط الذي هو الدال فيقال: (دِ) كذا مثل: (قِ) في قوله عز وجل {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر:9] (وقهم)؛ لأن الواو هذه واو العطف، وفعل الأمر هو القاف وحدها (قِ)، فـ (دِ) هو فعل أمر مكون من حرف واحد؛ لأن أوله حرف علة وآخره حرف علة، وعند وجود الأمر منه يحذف الأول والآخر ويبقى الوسط فيكون الفعل مكوناً من حرف واحد إذا كان المخاطب واحداً فيقال له: (دِ) كما يقال له: (قِ).
قوله: [(فكتبوا يحلفون بالله خمسين يميناً ما قتلناه ولا علمنا قاتلاً)].
كتبوا يحلفون بالله خمسين يميناً ما قتلوه ولا علموا قاتله، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم بمائة ناقة.
وحديث سهل بن أبي حثمة كما هو معلوم صحيح وفيه تفصيل، ففيه: أن المدعين يبدأ بأيمانهم، ثم بأيمان المدعى عليهم إن نكل المدعون عن اليمين، وهي أحاديث صحيحة ثابتة موجودة في الصحيحين وفي غيرهما، ولا يعول على ما جاء في هذا من التوهيم، وفي هذا الإسناد محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن، وعبد الرحمن بن بجيد مختلف في صحبته، وقيل: إن حديثه هذا مرسل، وقد ضعفه الألباني، ومعلوم أن الأحاديث التي مرت ثابتة في الصحيحين، وهي عن سهل بن أبي حثمة وغيره، وفيها التفصيل وليس فيها أن اليهود حلفوا، وإنما فيها أنه طلب من المدعين أن يحلفوا خمسين يميناً، وقالوا: كيف نحلف ونحن لم نر ولم نشاهد؟ فقال: تبرئكم يهود بأن يحلفوا خمسين يميناً، فقالوا: إنهم قوم كفار، فعند ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كره أن يهدر دمه، فوداه من عنده بمائة من الإبل.(507/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله كتب إلى يهود أنه قد وجد بين أظهركم قتيل فدوه)
قوله: [حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني].
عبد العزيز بن يحيى الحراني صدوق ربما وهم، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثني محمد يعني ابن سلمة].
هو محمد بن سلمة الحراني، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إبراهيم بن الحارث].
هو محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن بجيد].
عبد الرحمن بن بجيد مختلف في صحبته، أخرج حديثه أبو داود والترمذي والنسائي.(507/16)
شرح حديث: (أن النبي قال لليهود وبدأ بهم: يحلف منكم خمسون رجلاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجال من الأنصار: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لليهود وبدأ بهم: يحلف منكم خمسون رجلاً فأبوا، فقال للأنصار: استحقوا، قالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله؟ فجعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دية على يهود؛ لأنه وجد بين أظهرهم)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن رجال من الأنصار مبهمين غير معينين، ومعلوم أن جهالة الصحابة لا تؤثر سواء كانوا جماعة أو واحداً، فالمجهول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم المعلوم؛ لأنهم عدول لا يحتاجون إلى تعديل المعدلين وتوثيق الموثقين، بعد أن أثنى الله عليهم ورسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، بل أثنى الله عليهم في التوراة والإنجيل قبل أن يوجدوا وقبل أن يأتي زمانهم، كما جاء في آخر سورة الفتح، وهذا دال على فضلهم ونبلهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وهم أيضاً حملة الشريعة وهم الواسطة بين الناس وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام، وما عرف الناس حقاً ولا هدى إلا عن طريق الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وهذا الحديث فيه قصة القتيل الذي قتل من الأنصار في خيبر، وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ باليهود وأمرهم أن يحلفوا خمسين يميناً، لكن أهل القتيل لم يقبلوا، وقالوا: إن اليهود قوم كفار، فقال لهم: تحلفون خمسين يميناً، فلم يفعلوا، وبعد ذلك أوجب الرسول صلى الله عليه وسلم الدية على اليهود، ولم يذكر أنه وداه من عنده.
وهذا الحديث كما قال الشيخ الألباني: إنه شاذ؛ لأن أسانيده رجال ثقات، ولكن فيه ذكر المخالفة من جهتين: من جهة التنصيص على أنه بدأ باليهود أن يحلفوا، وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة التي سبق أن مرت، وفيها أنه بدأ بالمدعين لأن معهم قوة وهي اللوث التي هي بمنزلة الشاهد.
ومن جهة أن الرسول ألزم اليهود بديته، ومعلوم أن الأحاديث الصحيحة جاءت بأنه هو الذي وداه من عنده صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
إذاً: الإسناد صحيح ورجاله ثقات، ولكنه مخالف لما تقدم في الأحاديث الصحيحة الدالة على أن البدء كان بالمدعين وأيمان المدعين، وأن الدية إنما هي من عنده صلى الله عليه وسلم.(507/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي قال لليهود وبدأ بهم يحلف منكم خمسون رجلاً)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة بن عبد الرحمن].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وسليمان بن يسار].
سليمان بن يسار ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رجال من الأنصار].
وقد عرفنا أن الجهالة في الصحابة لا تؤثر.(507/18)
الأسئلة(507/19)
إذا نكل أولياء المقتول عن الحلف ولم يرضوا بحلف المتهمين
السؤال
إذا قتل قتيل ونكل أولياء المقتول عن الحلف، ولم يرضوا بحلف المتهمين فما العمل؟
الجواب
هو ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أنه وداه من عنده ولم يبطل دمه، ولكن لو كان معلوماً أن الذين قتلوه هم الذين وجد بين أظهرهم وأن ذلك متحقق لزمتهم الدية، ويقومون بدفعها، ولكن هناك احتمال آخر وهو أن يكونوا ما فعلوا ذلك وإنما بلوا به، كأن يقتله إنسان ثم يأتي به ويرميه عند أناس فيتهمون به وهم برآء من ذلك، لاسيما في مثل هذا الزمان الذي سهلت فيه وسائل المواصلات، فإنه قد يقتل في مكان ثم ينقل ويرمى المقتول في جهة معينة، فالقول بأن هؤلاء الذين وجد فيهم هم قتلوه غير محقق، وإن كان هذا لوثاً كما هو معلوم، ففي هذه الحالة يودى من بيت المال مثلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو وجهه، وأما إلزام أولئك بأن يدفعوا الدية وقد يكونون برآء فهذا فيه إشكال.(507/20)
حكم تسليم من حلف عليه أولياء المقتول خمسين يميناً إليهم ليقتلوه
السؤال
إذا حلف أولياء المقتول خمسين يميناً على شخص معين فهل يسلم إليهم ليقتلوه؟
الجواب
نعم، إذا حلفوا على شخص معين على اعتبار أن هناك تهمة قوية، وأنهم يعلمون العداوة الشديدة بينه وبينه، ويستحقون الدم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فيدفع برمته) كما في الحديث الأول.
أما تأويل الخطابي حيث قال: (دم صاحبكم) أي: دية صاحبكم، فهذا غير صحيح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فيدفع برمته) أي: يسلم لهم القاتل ولا يسلم المال في مقابله.(507/21)
شرح سنن أبي داود [508]
من قتل قتيلاً قتل بما قتله به، والمؤمنون تتكافأ دماؤهم، ولا يقتل مسلم بكافر، ومن وجد مع أهله رجلاً فليس له قتله، وإذا عفا أولياء الدم عن القتل انتقلوا إلى الدية، وحكم النساء في العفو كالرجال، ومن قتل في عميا بين قوم لا يدرى من قتله فهو قتل خطأ، وديته على العاقلة.(508/1)
كيف يقاد من القاتل(508/2)
شرح حديث أن جارية وجدت قد رض رأسها بين حجرين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب يقاد من القاتل.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا همام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه: (أن جارية وجدت قد رض رأسها بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ أفلان؟ أفلان؟ حتى سمي اليهودي، فأومت برأسها، فأُخذ اليهودي فاعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرض رأسه بالحجارة)].
قوله: [باب: يقاد من القاتل].
هذه ترجمة لهذا الباب، وقد جاء في بعض النسخ: [باب يقاد من القاتل بحجر أو غيره أو نحوه].
والمقصود من ذلك هو قتل القاتل بمثل ما قتل به، وليس المقصود من ذلك إثبات القود، فالقود ثابت وإنما المقصود القود بالمماثلة.
وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب الجمهور إلى أنه يقتل بمثل ما قتل به، إلا أن يكون ذلك الذي قتل به أمراً محرماً لا يجوز فعله، كإسقاء الخمر، أو فعل الفاحشة؛ فإنه لا يقاد بالطريقة المحرمة وإنما يقاد بالسيف في مثل ذلك، وأما إذا كان رضه بحجارة أو ألقاه من شاهق أو سقاه سماً، أو غير ذلك من الأسباب التي يمكن المماثلة فيها وليست محرمة، فإنه يقاد بهذه الطريقة.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن كل قتل إنما يقاد بالسيف، ولكن الأحاديث التي وردت في هذا الباب دالة على أنه يقتل بمثل ما قتل به، وأن الطريقة التي قتل بها يقتل بها، ولا يقال: إن هذا فيه مثلة؛ لأن هذا التمثيل فيما يحصل ابتداء، أما إذا كان من باب العقوبة ومن باب المقابلة فهذا سائغ وجائز، ولكن يستثنى من ذلك ما أشرت إليه، وهو إذا كان الفعل محرماً فلا يجوز فعله ابتداء ولا انتهاء.
قوله: [(أن جارية وجدت قد رض رأسها)].
يعني: أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين، وكان بها رمق -أي: بقية حياة- فكانوا يسألونها: من فعل بك هذا؟ فلان؟ ممن هم متهمون، وهي تومئ برأسها: أن لا، ولما عرضوا عليها اسم من باشر قتلها أشارت: أن نعم، وعند ذلك أحضروه فاعترف فرض رأسه بين حجرين.
وهذا السؤال لا يعتبر بينة، ولكنه يعتبر قرينة وحصراً للتهمة في جهة معينة، بدلاً من أن تكون موزعة ومنتشرة فإنها تحصر التهمة في جهة معينة، فلما انحصرت التهمة به سألوه فاعترف فقتل باعترافه، أما مجرد دعوى من يدعي بأن فلاناً قتله وليس هناك بينة فإنه لا يصار إلى ذلك، ولكن العمل إنما هو بالاعتراف الذي حصل من الجاني.
وفيه أن الرجل يقتل بالمرأة، أما الدية فتختلف دية المرأة عن الرجل، فدية المرأة على النصف من دية الرجل، كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.(508/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن جارية وجدت قد رض رأسها بين حجرين)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا همام].
هو همام بن يحيى العوذي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس رضي الله عنه خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود.(508/4)
شرح حديث: (أن يهودياً قتل جارية من الأنصار على حلي لها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه (أن يهودياً قتل جارية من الأنصار على حلي لها، ثم ألقاها في قليب ورضخ رأسها بالحجارة، فأخذ، فأتي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأمر به أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك من طريق أخرى، وفيه: أنه قتلها من أجل حلي أخذه منها، فقتلها حتى لا يعلم به، وألقاها في بئر ورمى عليها بالحجارة، فالرسول صلى الله عليه وسلم طلبه وأمر بأن يرمى بالحجارة حتى يموت.
والمقصود من ذلك أنه قتل مماثلة؛ لأنه قتل بالحجارة فيقتل كذلك بالحجارة، وقد جاء أنه رض رأسه بين حجرين، فيكون معناه: أن الحجر الأعلى رمي به عدة مرات.(508/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن يهودياً قتل جارية من الأنصار على حلي لها)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني وقد مر ذكره.
[عن معمر عن أيوب].
معمر مر ذكره، وأيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قلابة].
هو عبد الله بن زيد الجرمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس مر ذكره.
[قال أبو داود: رواه ابن جريج عن أيوب نحوه].
ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(508/6)
شرح حديث: (أن جارية كان عليها أوضاح لها فرضخ رأسها يهودي بحجر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن إدريس عن شعبة عن هشام بن زيد عن جده أنس رضي الله عنه: (أن جارية كان عليها أوضاح لها، فرضخ رأسها يهودي بحجر، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها رمق، فقال لها: من قتلك؟ فلان قتلك؟ فقالت: لا، برأسها، قال: من قتلك؟ فلان قتلك؟ قالت: لا، برأسها، قال: فلان قتلك؟ قالت: نعم، برأسها، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقتل بين حجرين)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: [(أن جارية كان عليها أوضاح لها)].
الأوضاح هي حلي، قيل: إنه من الفضة؛ لأنه وضحه البياض.
قوله: [(فرضخ رأسها يهودي بحجر، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها رمق)].
يعني: دخل عليها رسول الله عليه الصلاة والسلام وبها رمق فسألها، والظاهر أنها أخرجت من القليب وبها حياة.
[(فقال لها: من قتلك؟ فلان قتلك؟)] هنا أطلق القتل على من لم يمت بالفعل، ولكنه وجدت أسبابه، كما أن الموت يذكر ويطلق على من قاربه، كما جاء في حديث: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، فإنه من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) فأطلق الموت على من لم يمت؛ لأنه على وشك الموت، وهنا أطلق القتل على من من حصلت به أسباب القتل.
فهو سألها: من قتلك؟ فلان فلان؟ حتى أشارت إلى الشخص الذي قتلها، فأتي به فرمي بحجر حتى مات.(508/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن جارية كان عليها أوضاح لها فرضخ رأسها يهودي بحجر)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا ابن إدريس].
هو عبد الله بن إدريس وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن زيد].
هو هشام بن زيد بن أنس وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جده أنس] أنس بن مالك رضي الله عنه قد مر ذكره.(508/8)
حكم قتل المسلم بالكافر(508/9)
شرح حديث (المؤمنون تتكافأ دماؤهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب أيقاد المسلم بالكافر؟ حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد قالا: حدثنا يحيى بن سعيد أخبرنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن قيس بن عباد قال: (انطلقت أنا والأشتر إلى علي رضي الله عنه، فقلنا: هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: لا، إلا ما في كتابي هذا.
قال مسدد: قال: فأخرج كتاباً، وقال أحمد: كتاباً من قراب سيفه، فإذا فيه: المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، من أحدث حدثاً فعلى نفسه، ومن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).
قال مسدد: عن ابن أبي عروبة: (فأخرج كتاباً)].
يقول المصنف رحمه الله: [باب أيقاد المسلم بالكافر؟] أي: إذا قتل المسلم كافراً فهل يقتل المسلم أو لا يقتل؟ أورد أبو داود الحديث الذي فيه أنه لا يقتل مسلم بكافر، وقالوا: إن هذا يدل على أنه لا يقتل مطلقاً، حتى ولو كان الكافر معاهداً أو ذمياً فإنه لا يقتل المسلم به، وقالوا: إن هذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم) أي: أنه لا توارث بين المسلمين والكفار، ولا بين الكفار والمسلمين، وهنا إذا قتل المسلم كافراً فإنه لا يقتل به، هذا هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، ومن أهل العلم من قال: إنه يقتل بالذمي والمعاهد.
وقد أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه أنه قيل له: [(أعهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعهده إلى الناس؟ فقال: لا، إلا ما في هذه الصحيفة، وأخرج صحيفة من قراب سيفه، وإذا فيها: المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده)].
قوله: [(ولا ذو عهد في عهده)] قيل: ليس المقصود من ذلك النهي عن أن يقتل المعاهد في حال عهده؛ لأن هذا من الأمور المعلومة أنه إذا كان عنده أمان وعهد فلا يجوز قتله، وإنما معنى ذلك: أنه لما ذكر أنه لا يقتل مؤمن بكافر قال هذه الجملة لئلا يستهين الناس بقتل المعاهدين، وأن يحافظ على دمائهم، وألا يقتلوا، ويكون المقصود من ذلك دفع من يتوهم أن أمر قتلهم سهل وهين، فجاءت هذه الجملة لتبين المنع من ذلك بهذه المناسبة: [(لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده)].
والذمي والمستأمن حكمه حكم المعاهد؛ لأن الذمي أُخذ منه الجزية وبقي تحت الأمان، وكذلك المستأمن الذي أذن له وأعطي الأمان فإنه يبقى آمناً.
قوله: [(من أحدث حدثاً فعلى نفسه)] أي: أن جنايته على نفسه وليست على غيره، فقد سبق أن مر أنه لا يقتل أحد بجريرة غيره، وأن الجاني جنايته على نفسه فلا يعاقب غيره، قال عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164].
قوله: [(من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)] أي: من فعل أمراً محدثاً في الدين، أو آوى محدثاً في الدين، أو من كان عليه حق وهرب فحماه رجل دون أن يوصله إلى أخذ الحق منه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وهذا يدل على خطورة هذا العمل.
وقوله في أول الحديث: [(المؤمنون تتكافأ دماؤهم)] أي: أن المسلم يقتل بالمسلم، وأن دماءهم متكافئة، وأنه لا فرق بين الشريف والوضيع، بل يقتل الشريف إذا قتل الوضيع؛ لأن اسم الإسلام هو الذي يجمع بينهم، ويقتل الرجل بالمرأة، ويقتل الكبير بالصغير، وهكذا.
قوله: [(وهم يد على من سواهم)] أي: يتعاونون على غيرهم من أعدائهم.
قوله: [(ويسعى بذمتهم أدناهم)] أي: أنه إذا أجار المسلم أحداً فإنه لا يخفر جواره، بل يعطى الأمان لمن أمنه، ولو كان هو من أدناهم، ولا يقال: إنه لا يكون إلا في حق من كان كبيراً أو كان رجلاً أو ما إلى ذلك، وقد جاء في حديث أم هانئ رضي الله عنها عام الفتح أنها أجارت رجلاً، وأن علياً رضي الله عنه أراد أن يقتله، فجاءت تخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام بذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ).(508/10)
تراجم رجال إسناد حديث (المؤمنون تتكافأ دماؤهم)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ومسدد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سعيد بن أبي عروبة].
سعيد بن أبي عروبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة وقد مر ذكره.
[عن الحسن].
هو الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قيس بن عباد].
قيس بن عباد ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[قال: انطلقت أنا والأشتر إلى علي].
هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[قال مسدد: عن ابن أبي عروبة: (فأخرج كتاباً)].
ذكر فروقاً بين مسدد وبين أحمد، فقال مسدد: عن ابن أبي عروبة [(فأخرج كتاباً)] أي: فأخرج علي كتاباً من القراب.
[وقال أحمد: (كتاباً من قراب سيفه)].
أي: أخرج كتاباً من قراب سيفه.
والقراب: هو وعاء من جلد يوضع فيه السيف وغيره.(508/11)
شرح حديث: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن عمر حدثنا هشيم عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر نحو حديث علي، زاد فيه: (ويجير عليهم أقصاهم، ويرد مشدهم على مضعفهم، ومتسريهم على قاعدهم)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وهو بمعنى حديث علي رضي الله، وفيه زيادة: [(ويجير عليهم أقصاهم)] أي: أن من أجار وهو من أدناهم وأقلهم فإنه تعتبر إجارته، وهو من جنس قوله: (ويسعى بذمتهم أدناهم).
قوله: [(ويرد مشدهم على مضعفهم)].
أي: القوي الذي عنده إبل قوية يساعد من كان عنده إبل ضعيفة ويعينه.
قوله: [(ومتسريهم على قاعدهم)] المتسرون هم الذين يذهبون في السرايا في الجيش، والسرية فرقة من الجيش تذهب، وما غنموا من الغنائم فهي لهم ولأصل الجيش؛ لأن الجيش هو ردء لهم وهو قوة لهم، فما يحصلونه لا يختصون به، إلا النفل الذي يعطيهم إياه الإمام أو الوالي فإنهم يأخذون ذلك النفل، وأما أصل الغنيمة التي يحصلونها فليست خاصة بهم، بل هي لهم وللجيش الذي كان باقياً في المكان الذي انطلقت منه تلك السرية.(508/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر حدثنا هشيم عن يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب].
هو عمرو بن شعيب بن محمد وهو صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة، وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو شعيب بن محمد وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وجزء القراءة، وأصحاب السنن.
[عن جده].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي جليل ابن صحابي، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(508/13)
حكم قتل الرجل من وجده مع أهله(508/14)
شرح حديثي أبي هريرة أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقتله؟
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن وجد مع أهله رجلاً أيقتله؟ حدثنا قتيبة بن سعيد وعبد الوهاب بن نجدة الحوطي المعنى واحد قالا: حدثنا عبد العزيز بن محمد عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: يا رسول الله! الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقتله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا، قال سعد: بلى، والذي أكرمك بالحق، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، قال عبد الوهاب: إلى ما يقول سعد).
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: نعم)].
قوله: [باب فيمن وجد مع امرأته رجلاً أيقتله؟].
المقصود من ذلك كما جاء في الحديث أنه لا يقتله؛ لأن القتل إنما يجب بالزنا المحقق، ويكون ذلك بفعل الإمام، وأيضاً ليس كل زان يرجم ويقتل؛ لأن من كان بكراً فإن حده الجلد والتغريب.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن سعد بن عبادة -وهو سيد الخزرج، وسعد بن معاذ سيد الأوس، وهو الذي جرح في الخندق ومات بسبب ذلك الجرح، وأما سعد بن عبادة فقد عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فـ سعد بن معاذ وسعد بن عبادة هما سيد الأوس والخزرج، وهما القبيلتان المشهورتان من الأنصار رضي الله تعالى عنهم.
قوله: (أن سعد بن عبادة قال: الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقتله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، قال سعد: بلى والذي أكرمك بالحق).
يعني: أنه يريد أن يقتله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [(اسمعوا إلى ما يقول سيدكم)].
يخاطب الأنصار، فهو سيد الخزرج، وأحد الرواة قال: [(اسمعوا إلى ما يقول سعد)] فأحدهما قال: سيدكم، يخاطب الأنصار، والثاني قال: ما يقول سعد.
وهذا الذي قاله سعد بن عبادة ليس اعتراضاً على كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما هو رجاء أن يكون في ذلك رخصة، وأن يكون هناك حكم غير هذا الحكم؛ لأن الزمن زمن تشريع، وهذا قاله بسبب شدة الغيرة والحمية على الأهل.
قوله: [(أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: نعم)] أي: أنه لا يقتله؛ لأن الزنا أمره خطير، ولا يتم ثبوته إلا بالشهداء الأربعة، أو بالاعتراف من الزاني نفسه، وأما مجرد الدعاوى والاتهامات فهذه لا يعول عليها.
وقد اختلف العلماء في هذا فمنهم من قال: لو قتله وكان في بيته فإنه لا يقتل به، ولكن الأحاديث واضحة في أنه لا يجوز قتله، وذلك أن القتل قد لا يكون مستحقاً، إما لكونه ما وجد الجماع، أو أنه وجد ولكنه لا يستحل به القتل، بل عقوبته الجلد والتغريب.(508/15)
تراجم رجال إسناد حديثي أبي هريرة أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقتله؟
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعبد الوهاب بن نجدة الحوطي].
عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد العزيز بن محمد].
هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهيل].
هو سهيل بن أبي صالح وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وروايته في صحيح البخاري مقرونة.
[عن أبيه].
هو أبو صالح ذكوان السمان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر أصحابه حديثاً.
وقوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة].
قد مر ذكرهم.(508/16)
حكم العامل يصاب على يديه خطأ(508/17)
شرح حديث: (أن النبي بعث أبا جهم مصدقاً فلاجَّه رجل في صدقته فضربه أبو جهم فشجه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب العامل يصاب على يديه خطأً.
حدثنا محمد بن داود بن سفيان حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا جهم بن حذيفة رضي الله عنه مصدقاً، فلاجَّه رجل في صدقته، فضربه أبو جهم فشجه، فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: القود يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لكم كذا وكذا، فلم يرضوا، فقال: لكم كذا وكذا، فلم يرضوا، فقال: لكم كذا وكذا، فرضوا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إني خاطب العشية على الناس ومخبرهم برضاكم، فقالوا: نعم، فخطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن هؤلاء الليثيين أتوني يريدون القود، فعرضت عليهم كذا وكذا فرضوا، أرضيتم؟ قالوا: لا، فهم المهاجرون بهم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكفوا عنهم، فكفوا، ثم دعاهم فزادهم، فقال: أرضيتم، فقالوا: نعم، قال: إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم، قالوا: نعم، فخطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أرضيتم؟ قالوا: نعم)].
قوله: [باب العامل يصاب على يديه خطأ].
أي: أن العامل يصيب أحداً بيده هل يقتص منه أو لا يقتص منه؟ وقد أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً يقال له: أبو جهم على الصدقة، فتلاحى وإياه رجل، فضربه بعصا فشج رأسه، فجاء أولئك الذين شج رأس صاحبهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا القود الذي هو القصاص، وأن يشج كما شج، فعرض عليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم مالاً بدل القصاص، فعرض عليهم مالاً فامتنعوا، ثم عرض مالاً فامتنعوا، ثم في المرة الثالثة عرض عليهم مالاً فوافقوا ورضوا، فقال: إني خاطب الليلة ومخبر برضاكم، فقالوا: نعم، فلما خطب الناس وقال: إن هؤلاء الليثيين طلبوا أن يقتص من العامل وإني عرضت عليهم كذا فرضوا، أرضيتم؟ قالوا: لا، فكأنهم يريدون أن يحصلوا شيئاً من الزيادة، فهم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنهم رضوا، وهم قالوا: ما رضينا، وأنكروا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الرسول أصحابه أن يكفوا عنهم وألا يفعلوا بهم شيئاً، ثم إنه أعاد المفاوضة معهم وزادهم حتى رضوا، فقال: إني خاطب بذلك، فقالوا: نعم، فخطب وقالوا: رضينا.
ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم فعل هذا وأعلن ذلك على رءوس الأشهاد حتى لا تحدثهم أنفسهم بسوء بعد أن يأخذوا المال؛ لأن من الناس من يأخذ المال بدل القود ثم بعد ذلك يكون في نفسه شيء فيعتدي بعد أخذ المال عوضاً عن الجناية التي حصلت له، فلعل هذا هو الوجه الذي جعله يقول ذلك أمام الناس، حتى يعرفوا أن هذا أو انتشر وظهر، وأنه لو حصل منهم شيء فإن الناس يعلمون أنهم أقدموا على شيء هم مخطئون فيه، وأنه لو حصل من أحد منهم شيء فيكون القصاص؛ لأنهم قد أخذوا حقهم فتنازلوا عن القصاص.
وهذا يدل على أن من وجب عليه قود وأراد أن يتحول إلى غيره فإنه يؤخذ منه أكثر من الدية المقررة، بخلاف الشيء الثابت الذي لا يحتاج إلى مفاوضة، فإن الدية ثابتة ومقدارها معروف، ولكن إذا كان هناك قصاص سواء كان عن طريق القتل أو عن طريق قطع عضو أو شجة أو ما إلى ذلك، فإنه يعطى أكثر من الدية المقررة؛ لأن هذا بدل عن القتل أو بدل عن العقوبة التي تكون في الجسد.(508/18)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي بعث أبا جهم مصدقاً فلاجَّه رجل في صدقته فضربه أبو جهم فشجه)
قوله: [حدثنا محمد بن داود بن سفيان].
محمد بن داود بن سفيان مقبول، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري].
عبد الرزاق ومعمر والزهري مر ذكرهم.
[عن عروة].
هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(508/19)
القود بغير حديد(508/20)
شرح حديث: (أن جارية وجدت قد رض رأسها بين حجرين) وترجمة رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب القود بغير حديد.
حدثنا محمد بن كثير حدثنا همام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه: (أن جارية وجدت قد رض رأسها بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ أفلان؟ أفلان؟ حتى سمي اليهودي، فأومت برأسها، فأخذ اليهودي فاعترف، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرض رأسه بالحجارة)].
قوله: [باب القود بغير الحديد]، أي: أنه لا يكون بالسيف فقط وإنما يكون به وبغيره، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأن يرض رأس اليهودي بالحجارة؛ لأنه رض رأس الجارية فيقتص منه بمثل ما قتل به، وقد عرفنا الكلام على هذه المسألة في [باب يقاد من القاتل] أي: إذا قتل بحجر أو غيره.
قوله: [حدثنا محمد بن كثير حدثنا همام عن قتادة عن أنس].
هؤلاء مر ذكرهم جميعاً.(508/21)
القود من الضربة وقص الأمير من نفسه(508/22)
شرح حديث: (بينما رسول الله يقسم قسماً أقبل رجل فأكب عليه فطعنه رسول الله بعرجون كان معه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب القود من الضربة وقص الأمير من نفسه.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب عن عمرو -يعني ابن الحارث - عن بكير بن الأشج عن عبيدة بن مسافع عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقسم قسماً أقبل رجل فأكب عليه، فطعنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعرجون كان معه فجرح بوجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تعال فاستقد، فقال: بل عفوت يا رسول الله)].
قوله: [باب القود من الضربة وقص الأمير من نفسه].
أي: كون الأمير يجعل غيره يقتص منه إذا حصل منه شيء على غيره عن طريق الخطأ، هذا هو المقصود بالترجمة، والحديث الذي مر في العامل سبق أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب منهم أن يتنازلوا عن القصاص مقابل المال، لكن لو ألحوا على أن يقتصوا لمكنوا من ذلك؛ لأن من كان له حق القصاص فله أن يقتص، إلا أن يعفو أو يتنازل إلى ما هو دونه كالدية.
وقد أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسماً أقبل رجل فأكب عليه فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون كان معه)].
العرجون: هو القنو الذي فيه شماريخ.
قوله: [(فجرح بوجهه، فقال له رسول الله: تعال فاستقد)] أي: خذ حقك (فقال: بل عفوت يا رسول الله).
والحديث في إسناده ضعف، لكن من ناحية ثبوت القصاص فهو ثابت، كما جاء في قصة العامل الذي مر في الحديث السابق.(508/23)
تراجم رجال إسناد حديث: (بينما رسول الله يقسم قسماً أقبل رجل فأكب عليه فطعنه رسول الله بعرجون كان معه)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح مر ذكره.
[حدثنا ابن وهب].
مر ذكره.
[عن عمرو يعني ابن الحارث].
هو عمرو بن الحارث المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بكير بن الأشج].
هو بكير بن الأشج المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيدة بن مسافع].
عبيدة بن مسافع مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(508/24)
شرح حديث: (خطبنا عمر فقال: إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو صالح أخبرنا أبو إسحاق الفزاري عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي فراس قال: (خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل به ذلك فليرفعه إلي أقصه منه، قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: لو أن رجلاً أدب بعض رعيته أتقصه منه؟ قال: إي والذي نفسي بيده أقصه؛ وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقص من نفسه)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه خطب فقال: [(إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم)].
أي: جلودكم.
قوله: [(ولا ليأخذوا أموالكم)] أي: إنما بعثتهم ليقوموا بالواجب فيكم من إقامة أمر الله والعدل فيكم.
قوله: [(فمن فعل به ذلك فليرفعه إلي أقصه منه)].
أي: فمن فعل به شيء من ذلك بأن أخذ منه مال أو ضرب بغير حق، فليرفعه إلي أقصه من العامل الذي فعل به ذلك.
قوله: [(فقال عمرو بن العاص: لو أن رجلاً أدب بعض رعيته أتقصه منه؟)].
يعني: لو أن أميراً من الأمراء أو والياً من الولاة على منطقة معينة أدب بعض رعيته أتقصه منه؟ قال عمر رضي الله عنه: [(إي والذي نفسي بيده أقصه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أقص من نفسه)] وهذا الحديث في إسناده أبو فراس النهدي وهو مقبول، ولكنه مثل الحديث الذي مر فيما يتعلق بالعامل الذي شج رجلاً وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاهم من المال حتى رضوا في مقابل شجته، فهذا وإن كان في إسناده ضعف إلا أنه صحيح من حيث المعنى، وفيه تحقيق العدل ومنع العمال من أن يقدموا على شيء لا يجوز لهم الإقدام عليه، أما إذا عاقبوا أحداً بعقوبة يستحقها فإن هذا حق لا يؤاخذون عليه.(508/25)
تراجم رجال إسناد حديث: (خطبنا عمر فقال: إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم)
قوله: [حدثنا أبو صالح].
هو أبو صالح محبوب بن موسى، وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا أبو إسحاق الفزاري].
هو إبراهيم بن محمد بن الحارث، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الجريري].
هو سعيد بن إياس الجريري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي نضرة].
هو المنذر بن مالك بن قطعة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي فراس].
هو أبو فراس النهدي وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[قال: خطبنا عمر بن الخطاب].
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(508/26)
عفو النساء عن الدم(508/27)
شرح حديث: (على المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب عفو النساء عن الدم.
حدثنا داود بن رشيد حدثنا الوليد عن الأوزاعي أنه سمع حصناً أنه سمع أبا سلمة يخبر عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (على المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول، وإن كانت امرأة).
قال أبو داود: بلغني أن عفو النساء في القتل جائز إذا كانت إحدى الأولياء، وبلغني عن أبي عبيد في قوله: (ينحجزوا) يكفوا عن القود].
قوله: [باب عفو النساء عن الدم] أي: هل يعتبر أو أنه لا يعتبر إلا عفو الرجال؟ ويدخل في النساء الزوجات، والمقصود من هذا أن أصحاب المطالبة بالقود هم الورثة، سواء كانوا رجالاً أو نساء، وأنه إذا تنازل واحد منهم فإنه يسقط القود، ولا يكون القود إلا باتفاق الورثة أولياء الدم، فإذا عفا واحد منهم سواء كان رجلاً أو امرأة، فإنه لا يقع القصاص وإنما يتحول إلى الدية، ولكن كما هو معلوم ليس بلازم أن تكون الدية المقدرة، بل لهم أن يطالبوا بشيء أكثر من الدية.
فالحاصل: أن هذه الترجمة تتعلق بالعفو للنساء، وهو معتبر، وكل وارث فإن عفوه معتبر.
وقد أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(على المقتتلين أن ينحجزوا)] أي: يكفوا عن القود.
قوله: [(الأول فالأول)] أي: واحداً تلو الآخر، فلو حصل أن واحداً منهم لم يطالب بالقود بل عفا أو أراد أن يأخذ الدية، فإنه يسقط القصاص في هذه الحال.
وقوله: [(على المقتتلين)] المقصود بذلك أصحاب الحق في القتل، الذين إذا اتفقوا على القتل قتل القاتل وإذا لم يتفقوا فإنه لا يقتل، وذلك بمخالفة واحد منهم ولو كان المخالف امرأة.
قوله: [(وإن كانت امرأة)].
أي: إذا امتنعت أو عفت أو أرادت التحول إلى الدية فإن ذلك معتبر حتى ولو كانت زوجة، وإن كانت الزوجات قد تختلف أحوالهن عن القبائل إذا كانت من قبيلة أخرى؛ لأنها قد لا تبالي بما يحصل من حمية القبيلة، ولهذا يقول الشاعر: وما برئت من ريبة وذم في حربنا إلا بنات العم لأن بنت العم هي من القبيلة، فطريقها طريق القبيلة ولا تخالف، أما إذا كانت من قبيلة أخرى فإنها قد تفشي الأسرار من قبيلة زوجها إلى قبيلتها.
إذاً: لو أن امرأة عفت أو أي إنسان من الورثة فإنه لا يقاد الجاني.
والأولياء هم الورثة الذين تقسم عليهم الدية وغيرها، وهم الذين يطالبون بالقصاص.(508/28)
تراجم رجال إسناد حديث: (على المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة)
قوله: [حدثنا داود بن رشيد].
داود بن رشيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا الوليد].
هو الوليد بن مسلم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنه سمع حصناً].
هو حصن بن عبد الرحمن وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أنه سمع أبا سلمة يخبر عن عائشة].
أبو سلمة بن عبد الرحمن وعائشة قد مر ذكرهما.
[قال أبو داود: بلغني أن عفو النساء في القتل جائز إذا كانت إحدى الأولياء.
وبلغني عن أبي عبيد في قوله: (ينحجزوا): يكفوا عن القود].
يعني: أن عفو المرأة جائز إذا كانت من الأولياء.
والأولياء يراد بها ولاية النسب، ويراد بها الولاية العامة التي تدخل فيها الزوجة.
وأبو عبيد هو القاسم بن سلام وهو من أئمة اللغة، قال في قوله: (ينحجزوا): يكفوا عن القود.
وأبو عبيد القاسم بن سلام ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وفي جزء القراءة، وأبو داود.(508/29)
من قتل في عميا بين قوم(508/30)
شرح حديث: (من قتل في عميا في رميا يكون بينهم بحجارة أو بالسياط أو ضرب بعصاً فهو خطأ) مرسلاً ومتصلاً
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من قتل في عميا بين قوم.
حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد ح وحدثنا ابن السرح حدثنا سفيان وهذا حديثه عن عمرو عن طاوس قال: من قتل، وقال ابن عبيد: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قتل في عميا في رميا يكون بينهم بحجارة أو بالسياط أو ضرب بعصاً فهو خطأ، وعقله عقل الخطأ، ومن قتل عمداً فهو قود، قال ابن عبيد: قود يد، ثم اتفقا: ومن حال دونه فعليه لعنة الله وغضبه، لا يقبل منه صرف ولا عدل) وحديث سفيان أتم.
حدثنا محمد بن أبي غالب حدثنا سعيد بن سليمان عن سليمان بن كثير حدثنا عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فذكر معنى حديث سفيان].
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب من قتل في عميا بين قوم].
أي: على من يكون عقله وديته؟ والمقصود بالعميا: أن يكون هناك تضارب أو تقاتل أو تخاصم بين أناس، فيضرب بعضهم بعضاً فيموت واحد منهم بينهم، فيعمى أمره ولا يدرى من الذي قتله، ولهذا قيل لها عميا؛ لأنه قد عمي أمره.
وعميا: من العمى وهو الخفاء وعدم معرفة الشخص الذي تولى القتل وباشر القتل حتى يُطَالبُ بالدية، وحتى يتعين عليه الحق لأولياء المجني عليه، فهذا هو المقصود به، وهو مأخوذ من عمي أمره وخفي ولم يعرف من قتله، ولكنه عرف أن القتل كان في هذه المجموعة، وأنه ليس خارجاً عن هذه المجموعة.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عباس فذكره أولاً مرسلاً ثم ذكره متصلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(من قتل في عميا في رميا يكون بينهم بحجارة أو بالسياط أو ضرب بعصاً)].
يعني: أن يرمي بعضهم بعضاً بالحجارة أو بالسياط أو بالخشب أو ما إلى ذلك، فمات بينهم شخص ولم يعرف من قتله، فمن العلماء من قال: إنه يكون على عاقلة المقابلين، أي: إذا كان التخاصم بين مجموعتين والقتيل وجد في مجموعة، فإن المجموعة الثانية التي لم يقتل منها أحد هي التي تكون الدية عليها؛ لأنه لم يعلم القاتل، ولكن إذا علم أو حصل قسامة على شخص بعينه فعند ذلك يكون الحلف وهو القسامة، وأما إذا لم يتهم شخص معين ولم يحلف عليه؛ فإنه يكون أمره مشتبهاً، فتكون الدية على عاقلة الجماعة التي لم يقتل منها القتيل فيدفعونها إلى أولياء ذلك القتيل.
ومن العلماء من قال: إن الدية تكون على العاقلة من الجهتين؛ لأنه قد يكون قتله أصحابه خطأً، كما حصل لليمان والد حذيفة، فإنه قتل في غزوة أحد والذين قتلوه هم أصحابه خطأً، فهو لم يقتل من المشركين وإنما قتله المسلمون خطأً، فقد يكون التقابل بين جهتين، ولا يلزم أن يكون القتل من الجهة المقابلة، ولكنه في الغالب يكون منها؛ لأنهم هم الذين يقابلون بالضرب ويحاولون التمكن والإصابة للجهة المقابلة، فالغالب أنه يكون منهم، ولكن قد يكون القتل من أصحابه كما حصل لليمان والد حذيفة رضي الله تعالى عنهما الذي استشهد يوم أحد.
قوله: [(فهو خطأ)] أي: ليس بعمد؛ لأنه لم يعرف الشخص الذي قتله، فقد يكون من الجهة المخالفة وقد يكون حصل خطأً من قومه، ولكنه إذا حصلت التهمة على شخص واحد وحصلت القسامة فإنه يدفع ذلك الشخص المتهم للحالفين الذين هم أولياء القتيل، أما إذا لم يعلم فإنه يكون خطأً وتتحمل ديته الجهة المقابلة للجماعة الذين فيهم الشخص القتيل.
قوله: [(وعقله عقل الخطأ)].
أي: ديته دية خطأ.
قوله: [(ومن قتل عمداً فهو قود)].
أي: إذا حصل أنه قتل عمداً وعرف قاتله؛ فإنه يقاد من القاتل، إلا أن يعفو أولياء القتيل عفواً نهائياً ليس معه دية، أو يتحولوا إلى أخذ الدية.
قوله: [(ومن حال دونه فعليه لعنة الله وغضبه)].
أي: من حال دون هذا القاتل أن يقتص منه فعليه لعنة الله وغضبه، ويدخل في جملة من آوى محدثاً، بأن يكون الشخص مستحقاً للقتل ثم يحمى من القتل ويحال بينه وبين القتل، فعليه لعنة الله وغضبه؛ لأنه حال بين ذلك الجاني المستحق للقتل قصاصاً وبين أولياء القتيل، أو أخفاه ولم يظهره ولم يمكن من قتله قصاصاً.
قوله: [(لا يقبل منه صرف ولا عدل)].
قيل: المقصود بالصرف الفريضة، والعدل النافلة.
وقيل: إن المقصود بالصرف التوبة، والعدل الفدية.(508/31)
تراجم رجال إسناد حديث: (من قتل في عميا في رميا يكون بينهم بحجارة أو بالسياط أو ضرب بعصاً فهو خطأ) مرسلاً ومتصلاً
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد].
هو محمد بن عبيد بن حساب، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا ابن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وهذا حديثه عن عمرو].
هو عمرو بن دينار المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن طاوس].
هو طاوس بن كيسان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: من قتل وقال: ابن عبيد: قال رسول الله].
يعني: هذا الذي من طريق سفيان قال: من قتل، ولم يذكر رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكره من قول طاوس، ولكن الذي جاء في آخره: [(وعليه لعنة الله وغضبه)] هذا لا يقوله أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يكون من قول صحابي له حكم الرفع، وإلا فإنه منقطع، ولكن الحديث جاء من طريق أخرى وفيها تعيين الصحابي ورفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عن طاوس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون هذا الذي جاء مرسلاً جاء متصلاً كما في الطريق الأخيرة التي أوردها أبو داود بعد ذكر الحديث بإسناده ومتنه.
[حدثنا محمد بن أبي غالب].
محمد بن أبي غالب ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود.
[حدثنا سعيد بن سليمان].
سعيد بن سليمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن كثير].
سليمان بن كثير لا بأس به، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس].
يعني: عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم.(508/32)
شرح سنن أبي داود [509]
جعلت الشريعة الدية عقوبة أصلية للقتل والجرح في شبه العمد والخطأ، وقد جاءت الأحاديث النبوية والآثار عن الصحابة ببيان مقدار الديات على القتل سواء كان قتلاً خطأ أو شبه عمد أو عمد، وقد قدرت الدية في هذه الأصناف بالإبل على اختلاف أسنانها حسب نوع القتل الذي وقع، فإن لم توجد الإبل صير إلى ما يعادلها من بهيمة الأنعام أو النقد.(509/1)
مقدار الدية(509/2)
شرح حديث (أن رسول الله قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: الدية كم هي؟ حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا محمد بن راشد ح وحدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي حدثنا محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكر)].
قوله: [باب: الدية كم هي؟] أي: ما مقدارها؟ والمقصود بذلك دية النفس؛ لأنه سيذكر بعد ذلك: (باب دية الأعضاء)، وهذا يتعلق بدية النفس، والأحاديث الصحيحة جاءت بأنها مائة، ولكن جاءت مختلفة في بيان مقادير تلك المائة وتوزيعها على الأسنان.
ولهذا اختلف العلماء في بيان تلك المقادير تبعاً لما جاء في تلك الأحاديث، وما جاء عن الصحابة في ذلك، وقد مر في القسامة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ودى عبد الله بن سهل بمائة من الإبل من عنده صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فكونها مائة هذا لا خلاف فيه، إذ ليس هناك أحد يقول: إنها ثمانون أو تسعون أو مائة وعشرة أو مائة وعشرون، ولكن اختلفوا في أسنان هذه المائة من مخاض ولبون وجذعة وحقة.
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية الخطأ مائة من الإبل)، ثم ذكر توزيع هذه المائة فقال: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة وعشرة بني لبون).
معنى ذلك: أن الأسنان الثلاثة الأولى التي هي المخاض واللبون والحقة يكون منها تسعون، من كل صنف ثلاثون، وتكمل المائة بعشرة من بني لبون، وبنت مخاض هي التي أكملت سنة ودخلت في الثانية، وبنت لبون أو ابن لبون هي التي أكملت سنتين ودخلت في الثالثة، والحقة هي التي أكملت ثلاث سنوات ودخلت في الرابعة، فثلاثون من بنات مخاض، وثلاثون من بنات لبون، وثلاثون حقة، ويقال: لها بنت مخاض؛ لأن أمها بعد ولادتها صارت حاملاً، وأما بنت لبون فلأن أمها صارت ذات لبن بكونها ولدت، وأما حقة فهي التي استحقت أن يحمل عليها وأن تستخدم وأن يركب عليها وأن يطرقها الجمل؛ لأنها وصلت إلى ذلك السن الذي استحقت به ذلك، وكونها أكملت الثالثة ودخلت في الرابعة، وعشرة ذكور من بني لبون وهو السن الثاني بعد بنت المخاض.(509/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن راشد].
محمد بن راشد صدوق يهم، أخرج له أصحاب السنن.
[ح وحدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء].
هارون بن زيد بن أبي الزرقاء صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثني أبي] أبوه ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا محمد بن راشد عن سليمان بن موسى].
سليمان بن موسى صدوق في حديثه بعض لين، أخرج له مسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب].
عمرو بن شعيب صدوق، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو شعيب بن محمد، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وجزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن جده].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، وهو صحابي ابن صحابي، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة الذين هم: عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
يقول الخطابي: إنه ما وجد أحداً من الفقهاء يقول بهذا التقسيم الذي جاء في هذا الحديث، ولعله لم يصح عند أحد منهم؛ وذلك لأن فيه بعض هؤلاء المتكلم فيهم مثل: صدوق يهم، وصدوق في حديثه بعض لين.(509/4)
شرح حديث (كانت قيمة الدية على عهد رسول الله ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن حكيم حدثنا عبد الرحمن بن عثمان حدثنا حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين، قال: فكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر رضي الله عنه فقام خطيباً فقال: ألا إن الإبل قد غلت، قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفاً، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، قال: وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية)].
أورد أبو داود حديث ابن عمرو قال: (كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم).
أي: أن الإبل كانت هي الأصل، وكانت قيمتها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار من الذهب وثمانية آلاف من الدراهم.
قوله: [(ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين)].
يعني: ودية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين.
قوله: [(فلما استخلف عمر قام خطيباً فقال: ألا إن الإبل قد غلت)].
يعني: عندما صار عمر رضي الله عنه خليفة خطب الناس وقال: إن الإبل قد غلت وهي التي يرجع إليها في التقدير؛ لأنها مائة من الإبل، فلما زادت أسعارها زادها عن ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم إلى ألف دينار وإلى اثني عشر ألف درهم.
قوله: [(قال ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفاً، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة)].
والحلة هي الثياب المكونة من إزار ورداء، وقيل: الحلل هي برود من اليمن، ولكن المشهور أن الحلة هي إزار ورداء، أي: مكون من قطعتين وليس من قطعة واحدة.
قوله: [(قال: وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية)].
يعني: رجعت وصارت في النهاية تعادل الثلث؛ لأنها كانت أربعة آلاف من ثمانية آلاف فصارت أربعة آلاف من اثني عشر ألفاً فصارت الثلث.(509/5)
تراجم رجال إسناد حديث (كانت قيمة الدية على عهد رسول الله ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم)
قوله: [حدثنا يحيى بن حكيم].
يحيى بن حكيم ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا عبد الرحمن بن عثمان].
عبد الرحمن بن عثمان ضعيف، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثنا حسين المعلم].
هو حسين بن ذكوان المعلم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده].
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مر ذكرهم جميعاً.
والحديث ضعفه الشيخ الألباني.(509/6)
شرح حديثي جابر وعطاء (أن رسول الله قضى في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا محمد بن إسحاق عن عطاء بن أبي رباح: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وعلى أهل القمح شيئاً لم يحفظه محمد) قال أبو داود: قرأت على سعيد بن يعقوب الطالقاني حدثنا أبو تميلة حدثنا محمد بن إسحاق قال: ذكر عطاء عن جابر بن عبد الله قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر مثل حديث موسى وقال: وعلى أهل الطعام شيئاً لا أحفظه)].
ذكر بعد ذلك حديثاً مرسلاً عن عطاء وحديثاً عن جابر وفيه انقطاع، يعني: الأول مرسل لم يذكر فيه من فوق عطاء بن أبي رباح، وأما الثاني ففيه الانقطاع بين محمد بن إسحاق وبين عطاء، وهذا الحديث الثاني مثل الذي قبله إلا أنه مضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وعلى أهل القمح شيئاً لم يحفظه محمد).
هذا مطابق لما جاء في حديث عمر الذي تقدم، وكل منهما غير ثابت.(509/7)
تراجم رجال إسناد حديثي جابر وعطاء (أن رسول الله قضى في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عطاء بن أبي رباح].
عطاء بن أبي رباح ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: قرأت على سعيد بن يعقوب الطالقاني].
سعيد بن يعقوب الطالقاني ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو تميلة].
هو يحيى بن واضح، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن إسحاق قال: ذكر عطاء عن جابر بن عبد الله].
محمد بن إسحاق وعطاء وجابر بن عبد الله مر ذكرهم.
قوله: [قال: ذكر عطاء] فيه تدليس لأن ابن إسحاق مدلس.
[عن جابر بن عبد الله].
وهذا يكون مرفوعاً.(509/8)
شرح حديث (في دية الخطأ عشرون حقة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد حدثنا الحجاج عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك الطائي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخاض ذكر) وهو قول عبد الله.
] أورد أبو داود هذا الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [(في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت لبون، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بني مخاض ذكر)] يعني: أنها أخماس، كل خمس منها عشرون، ويكون الزائد بعد هذه الأصناف الأربعة عشرين من بني مخاض الذي هو الحد الأدنى.
وذكر الحافظ في بلوغ المرام هذه الرواية التي عند أبي داود وذكر الرواية الأخرى التي عند الدارقطني وفيها: (عشرون بني لبون) بدل عشرين بني مخاض قال: وإسناد الأول أقوى، الذي فيه ذكر بني لبون بدل بني مخاض التي هي عند أبي داود.(509/9)
تراجم رجال إسناد حديث (في دية الخطأ عشرون حقة)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الواحد].
هو عبد الواحد بن زياد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الحجاج].
هو الحجاج بن أرطأة، وهو صدوق كثير الخطأ والتدليس، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن زيد بن جبير].
زيد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خشف بن مالك الطائي].
خشف بن مالك الطائي وثقه النسائي، وأخرج له أصحاب السنن.
[عن عبد الله بن مسعود].
عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث ضعفه الألباني، ولكن الحافظ في البلوغ ذكره من طريقين هذه الطريق والطريق الثانية، وقال: إن تلك إسنادها أقوى، وابن القيم قوى حديث ابن مسعود في حاشية السنن.(509/10)
شرح حديث (أن رجلاً من بني عدي قتل فجعل النبي ديته اثني عشر ألفاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا زيد بن الحباب عن محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس: (أن رجلاً من بني عدي قتل، فجعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ديته اثني عشر ألفاً)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس: (أن رجلاً من بني عدي قتل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً).
يعني: جعل ديته اثني عشر ألفاً من الدراهم.(509/11)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رجلاً من بني عدي قتل فجعل النبي ديته اثني عشر الفاً)
قوله: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري].
محمد بن سليمان الأنباري صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا زيد بن حباب].
زيد بن حباب صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن مسلم].
هو محمد بن مسلم الطائفي، وهو صدوق يخطئ من حفظه، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن دينار عن عكرمة].
عمرو بن دينار مر ذكره وعكرمة هو مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود رواه ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر ابن عباس].
يعني: أنه مرسل.
[رواه ابن عيينة عن عمرو].
سفيان بن عيينة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وعمرو هو ابن دينار.
وقد اختلف العلماء في هذه التقادير، فمنهم من قال بهذا التقدير الذي ذكره أبو داود هنا عن عبد الله بن مسعود، والذي فيه ذكر الخمس الخامس أنه بنو مخاض، ومنهم من جعله أثلاثاً: ثلاثين وثلاثين وأربعين، وكلها لا تخلو من مقال، ولكن بعضهم صحح بعضها وأخذ به، ولم يصحح غيرها فلم يأخذ به.
وحديث ابن عباس ضعفه الألباني وقال: إنه مرسل.(509/12)
ما جاء في دية الخطأ شبه العمد(509/13)
شرح حديث (ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في دية الخطأ شبه العمد.
حدثنا سليمان بن حرب ومسدد المعنى قالا: حدثنا حماد عن خالد عن القاسم بن ربيعة عن عقبة بن أوس عن عبد الله بن عمرو: (أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال مسدد: خطب يوم الفتح بمكة فكبر ثلاثاً ثم قال: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) إلى هاهنا حفظته عن مسدد ثم اتفقا (ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى من دم أو مال تحت قدمي، إلا ما كان من سقاية الحاج وسدانة البيت، ثم قال: ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها) وحديث مسدد أتم].
قوله: [باب: فيه دية الخطأ شبه العمد] القتل له أحوال ثلاث وهي: العمد، والخطأ، وشبه العمد.
والعمد: هو أن يقصد الإنسان قتل غيره بوسيلة تقتل أو بأداة تقتل كالسكين أو كالبندقية أو السيف أو ما إلى ذلك مما له حد.
وشبه العمد: هو الذي يقتله بآلة لا تقتل غالباً، ولكنه تعمد ضربه بها وحصل بها القتل، ولا يحصل به القصاص، وإنما يكون فيه الدية، ولكنها دية مغلظة.
والخطأ: هو أن الإنسان ما أراد قتله وإنما رمى مثلاً غزالاً أو رمى طيراً فأخطأ وقتل إنساناً.
إذاً: العمد وشبه العمد مقصود إلا أن ذاك بآلة تقتل وهذا بآلة لا تقتل، ولكنه حصل بها القتل فصار شبه عمد، وأما الخطأ فهو لم يرد القتل أبداً، وإنما أراد أن يصيد شيئاً فأخطأ ذلك الذي أراده وأصاب إنساناً ومات.
أورد أبو داود تحت هذه الترجمة حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم الفتح بمكة فكبر ثلاثاً).
يعني: خطب فقال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ثلاثاً.
قوله: [(ثم قال: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)].
يعني: قاله في مكة وقد حصل ذلك النصر المبين لرسوله صلى الله عليه وسلم وهزم أعداءه ونصره عليهم، وفتح الله عليه مكة فخطب هذه الخطبة التي فيها هذا التكبير وهذا الثناء على الله عز وجل.
قوله: [(ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى من دم أو مال تحت قدمي إلا ما كان من سقاية الحاج وسدانة البيت)].
يعني: أن ما حصل من أمور بين الناس في الجاهلية ثم أسلموا فإنها مهدرة ومطرحة، وكذلك المأثرة التي لها مكانة أو لها منزلة أو ذات شأن وتدعى فإنها ملغاة ومتروكة، إلا ما كان من السقاية والحجابة، فإن السقاية كانت في بني هاشم والحجابة كانت في بني عبد الدار، فالرسول صلى الله عليه وسلم أقر هاتين المأثرتين في هاتين الجهتين، فالحجابة كانت في الجاهلية في بني عبد الدار بقيت فيهم في الإسلام، والسقاية كانت في بني هاشم في الجاهلية فبقيت فيهم في الإسلام، وكانت في العباس وبني العباس.
يعني: السقاية والحجابة أقرت مما كان في الجاهلية، وما سوى ذلك لا يعول عليه.
والحجابة هي السدانة، يعني: كونهم سدنة البيت ومعهم المفتاح وهم الذين يحافظون عليه ومسئولون عنه.
قوله: [(ثم قال: ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل)].
وهذا فيه بيان أن شبه العمد ما يكون بالسوط والعصا وهي لا تقتل غالباً، لكن قد يكون هناك شيء يقتل كما لو كانت خشبة كبيرة فإن هذه تقتل في الغالب، ولكن العصا والسوط لا تقتل في الغالب، فإذا حصل بها قتل فإنه يكون شبه عمد، وتكون الدية مغلظة؛ لأن الضرب والسبب حصل بإرادة وقصد، ولم يكن القتل مقصوداً، ولكنه أدى إلى القتل فتكون فيه الدية مغلظة؛ حتى لا يقدم الناس على فعل شيء يتعمدونه يؤدي إلى القتل.
قوله: [(منها أربعون في بطونها أولادها)] يعني: منها أربعون حوامل، بخلاف دية الخطأ التي سبق أن مرت، فإنه ليس فيها هذه الزيادة وليس فيها هذا التغليظ، من أنها أربعون حوامل، فتلد ويكون من الأربعين أربعون، ثم لم يذكر بعد ذلك الشيء تفصيل ما هو زائد على الأربعين.(509/14)
تراجم رجال إسناد حديث (ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومسدد المعنى قالا: حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد].
هو خالد بن مهران الحذاء، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن القاسم بن ربيعة].
القاسم بن ربيعة ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عقبة بن أوس].
عقبة بن أوس، ويقال: يعقوب بن أوس، وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عبد الله بن عمرو].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما وقد مر ذكره.(509/15)
دلالة الحديث على التقسيم الثلاثي لأنواع القتل
بعض أهل العلم يقول: ليس هناك إلا خطأ وعمد، ولكن هذا الحديث يدل على أن القسمة ثلاثية وليست ثنائية، بل هناك خطأ وشبه عمد وعمد، ودية العمد وشبه العمد واحدة، ولكن في العمد -كما هو معلوم- لو لم يقبل أولياء القتيل أن يتركوا القصاص إلا أن يأخذوا أكثر من ذلك المقدار فإن لهم ذلك؛ كما سبق أن مر بنا في قصة الليثيين الذين شج واحداً منهم عامل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنهم أرادوا القصاص فأراد افتداءه منهم فأعطاهم ثم أعطاهم ثم أعطاهم.(509/16)
إسناد طريق أخرى لحديث (ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل) وترجمة رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب عن خالد بهذا الإسناد نحو معناه].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى بمعناه.
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب].
وهيب بن خالد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد].
هو خالد الحذاء مر ذكره.(509/17)
شرح حديث (ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن علي بن زيد عن القاسم بن ربيعة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أو فتح مكة على درجة البيت أو الكعبة)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وهو بمعنى ما تقدم، وفيه بيان أن الخطبة كانت على درجة البيت أو الكعبة، والمقصود بالبيت هو الكعبة ولكنه شك من الراوي؛ لأن الكعبة والبيت معناهما واحد، وكأنه على باب الكعبة، ومعلوم أن الكعبة كانت في زمانه على هذه الهيئة التي هي عليها الآن، حيث كان الباب مرتفعاً وكأنه كان واقفاً على عتبة الباب.(509/18)
تراجم رجال إسناد حديث (ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث].
مسدد مر ذكره، وعبد الوارث بن سعيد العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي بن زيد].
هو علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن القاسم بن ربيعة عن ابن عمر].
القاسم بن ربيعة مر ذكره.
وابن عمر هو الصحابي الجليل وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(509/19)
حديث (ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها) من طرق أخرى وتراجم رجال الإسناد
[قال: أبو داود: كذا رواه ابن عيينة أيضاً عن علي بن زيد عن القاسم بن ربيعة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم].
ابن عيينة مر ذكره.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه أيوب السختياني عن القاسم بن ربيعة عن عبد الله بن عمرو مثل حديث خالد].
يعني: ذكر هنا أنه عن عبد الله بن عمرو من طريق أيوب السختياني، وأيوب السختياني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يعقوب السدوسي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم].
قوله: [ورواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد].
مر ذكرهما.
[عن يعقوب السدوسي عن عبد الله بن عمرو].
يعقوب السدوسي هو الذي مر ذكره وهو عقبة بن أوس.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقول زيد وأبي موسى مثل حديث النبي صلى الله عليه وسلم وحديث عمر رضي الله عنه].
يعني: أن ما أثر عن زيد بن ثابت وأبي موسى الأشعري مثل حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث عمر رضي الله عنه.(509/20)
شرح أثر (قضى عمر في شبه العمد ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة ما بين ثنية إلى بازل عامها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: (قضى عمر رضي الله عنه في شبه العمد: ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة ما بين ثنية إلى بازل عامها)].
أورد أبو داود هذا الأثر: أن عمر قضى في شبه العمد ثلاثين حقة، وهي التي أكملت السنة الثالثة ودخلت في الرابعة، وثلاثين جذعة وهي التي أكملت السنة الرابعة ودخلت في الخامسة، وأربعين خلفة، ما بين ثنية إلى بازل عامها يعني: أنها بين هذا السن من ثنية إلى بازل، وهي أسنان متعددة تبدأ بالثنية وتنتهي بالبازل.
والخلفة: هي اللقحة التي في بطنها ولدها.
والبازل هو من أعلى الأسنان التي سيأتي ذكرها؛ لأنها ثنية ثم رباع ثم سديس وسدس ثم بعد ذلك بازل ثم مثلث.(509/21)
تراجم رجال إسناد أثر (قضى عمر في شبه العمد ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة ما بين ثنية إلى بازل عامها)
قوله: [حدثنا النفيلي].
هو عبد الله بن محمد النفيلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح].
سفيان هو ابن عيينة، وابن أبي نجيح هو عبد الله بن أبي نجيح، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجاهد].
هو مجاهد بن جبر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: قضى عمر].
وهذا منقطع؛ لأن مجاهداً لم يدرك عمر.(509/22)
شرح أثر علي (في شبه العمد أثلاث ثلاث وثلاثون حقة وثلاث وثلاثون جذعة وأربع وثلاثون ثنية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي قال: (في شبه العمد أثلاث: ثلاث وثلاثون حقة، وثلاث وثلاثون جذعة، وأربع وثلاثون ثنية إلى بازل عامها، وكلها خلفة)].
أورد المصنف رحمه الله أثراً عن علي رضي الله عنه أنه قال: (في شبه العمد أثلاث) يعني: الدية أثلاث: ثلاث وثلاثون جذعة، وثلاث وثلاثون حقة، وأربع وثلاثون ثنية إلى بازل عامها.
يعني: هذه الأسنان تبدأ بالثنية وتنتهي بالبازل.(509/23)
تراجم رجال إسناد أثر علي (في شبه العمد أثلاث ثلاث وثلاثون حقة وثلاث وثلاثون جذعة وأربع وثلاثون ثنية)
قوله: [حدثنا هناد].
هو هناد أبو السري، وهو ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو الأحوص].
هو سلام بن سليم الحنفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق].
هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عاصم بن ضمرة].
عاصم بن ضمرة صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[عن علي].
هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة رضي الله عنه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(509/24)
شرح أثر ابن مسعود (في شبه العمد خمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وخمس وعشرون بنات لبون) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وبه عن أبي إسحاق عن علقمة والأسود قال عبد الله رضي الله عنه: (في شبه العمد خمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون بنات لبون، وخمس وعشرون بنات مخاض)].
أورد المصنف الأثر بنفس الإسناد، إلا أنه عن علقمة والأسود عن ابن مسعود وهو جعلها أرباعاً مقسمة على الأسنان التي تخرج منها الصدقة، وهي: المخاض، واللبون، والحقة، والجذعة، وبدأ بالسنين العليا.
ثم السفلى.
قوله: [وبه عن أبي إسحاق عن علقمة والأسود].
أبو إسحاق مر ذكره وعلقمة النخعي ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
والأسود بن يزيد بن قيس النخعي ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[قال عبد الله].
هو عبد الله بن مسعود وقد مر ذكره.(509/25)
شرح أثر علي (في الخطأ أرباع خمس وعشرون حقة) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد حدثنا أبو الأحوص عن سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة قال: قال: علي رضي الله عنه: (في الخطأ أرباع: خمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون بنات لبون، وخمس وعشرون بنات مخاض)].
الأثر عن علي في شبه العمد أثلاث، وهذا الذي جاء عن علي في الخطأ أرباع، والحنابلة أخذوا هذا في شبه العمد الذي هو خمس وعشرون، وهو مثل قول ابن مسعود في شبه العمد.
قوله: [حدثنا هناد حدثنا أبو الأحوص عن سفيان].
سفيان بن سعيد الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة قال: قال علي رضي الله عنه].
مر ذكرهم جميعاً.
وأسانيد هذه الآثار كلها ظاهرها الاتصال، والرجال الذين مر ذكرهم كلهم محتج بهم.
وهذه المسألة كلها ترجع إلى الاجتهادات.(509/26)
شرح أثر عثمان وزيد بن ثابت (في المغلظة أربعون جذعة خلفة وثلاثون حقة وثلاثون بنات لبون وفي الخطأ ثلاثون حقة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا سعيد عن قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض عن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت: (في المغلظة أربعون جذعة خلفة، وثلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون، وفي الخطأ ثلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون، وعشرون بنو لبون ذكور، وعشرون بنات مخاض)].
قوله: [في المغلظة أربعون جذعة خلفة، وثلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون].
هذا مطابق لما مر في الحديث الأول الذي قال: (أربعون خلفة في بطونها أولادها) وفيه هذا التفصيل الذي فيه أربعون خلفة في بطونها أولادها.
قوله: [وفي الخطأ].
هذا في شبه العمد.
قوله: [ثلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون، وعشرون بنو لبون ذكور، وعشرون بنات مخاض].
وفي الخطأ هذا التقسيم الرباعي: ثلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون، وعشرون بنو لبون ذكور وعشرون بنات مخاض، فيكون المجموع مائة، والتكرار إنما هو في بنات اللبون وبني اللبون، والغالب الذي كان يأتي فيما يتعلق بالصدقة، أنه يؤتى بابن لبون بدل بنت المخاض.(509/27)
تراجم رجال إسناد أثر عثمان وزيد بن ثابت (في المغلظة أربعون جذعة، وثلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون، وفي الخطأ ثلاثون حقة)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
هو محمد بن المثنى أبو موسى الزمن العنزي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن عبد الله].
هو محمد بن عبد الله الأنصاري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وهذا من كبار شيوخ البخاري الذين روى عنهم الثلاثيات، ومن الذين روى عنهم الثلاثيات أبو عاصم ومكي بن إبراهيم ومحمد بن عبد الله الأنصاري هذا.
[حدثنا سعيد].
هو سعيد بن أبي عروبة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد ربه].
هو عبد ربه بن سعيد أخو يحيى بن سعيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عياض].
هو عمرو بن الأسود العنسي، وهو مخضرم ثقة عابد، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت].
عثمان بن عفان أمير المؤمنين وثالث الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
وزيد بن ثابت رضي الله عنه حديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(509/28)
أثر زيد بن ثابت في بيان الدية المغلظة والخطأ من طريق أخرى، وترجمة رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا سعيد عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن زيد بن ثابت في الدية المغلظة فذكر مثله سواء].
ذكر المصنف رحمه الله طريقاً أخرى عن زيد بن ثابت وهي مثل ما تقدم عنه وعن عثمان.
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا سعيد عن قتادة عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين.
وزيد بن ثابت رضي الله عنه مر ذكره.
والإسناد فيه تدليس قتادة.(509/29)
بيان أسماء أسنان الإبل عند أئمة اللغة، وترجمة هؤلاء الأئمة
[قال أبو داود: قال أبو عبيد وغير واحد: إذا دخلت الناقة في السنة الرابعة فهي حِقٌ، والأنثى حقة؛ لأنه يستحق أن يحمل عليه ويركب] يعني: إذا أكمل الحق الثالثة ودخل في الرابعة فقد استحق أن يحمل عليه ويركب، وأيضاً الحقة استحقت أن يطرقها الجمل.
قوله: [فإذا دخل في الخامسة فهو جذع وجذعة] أي: إذا دخل في الخامسة فالذكر يقال له: جذع، والأنثى يقال لها: جذعة.
قوله: [فإذا دخل في السادسة وألقى ثنيته فهو ثني وثنية].
يعني: إذا أكمل الخامسة ودخل في السادسة فالذكر يقال له: ثني والأنثى يقال لها: ثنية، وهذا أقل شيء يجزئ في الهدي والأضحية؛ لأن أقل شيء يجزئ الثني من الإبل والبقر والماعز، أما الضأن فيجزئ الجذع منه، ومعنى ذلك: أن أسنان الصدقة كلها صغيرة لم تصل إلى حد ما يذبح هدياً أو أضحية، ولعل السبب في ذلك أنها تكون صغيرة صالحة لكونها تنمى وتربى.
قوله: [فإذا دخل في السابعة فهو رباع ورباعية] يعني: إذا أكمل السادسة ودخل في السابعة فالذكر رباع والأنثى رباعية.
قوله: [فإذا دخل في الثامنة وألقى السن الذي بعد الرباعية فهو سديس وسدس].
يعني: إذا أكمل السابعة ودخل في الثامنة وألقى السن الذي بعد الرباعية فالذكر سديس والأنثى سدس.
قوله: [فإذا دخل في التاسعة وفطر نابه وطلع فهو بازل].
يعني: إذا أكمل الثامنة ودخل في التاسعة وفطر نابه فهو بازل.
قوله: [فإذا دخل في العاشرة فهو مخلف] يعني: إذا أكمل التاسعة ودخل العاشرة فهو مخلف، وعند ذلك تنتهي الأسماء، وبعد ذلك يكرر بأن يقال: بازل عام أو بازل عامين، أو مخلف عام أو مخلف عامين، فيكون التكرار بالأعوام بأن يوصف بازل لسنتين بازل لثلاث بازل لأربع؛ لأنه ليس هناك أسماء فوق العشرة.
قوله: [ثم ليس له اسم، ولكن يقال: بازل عام وبازل عامين، ومخلف عام ومخلف عامين إلى ما زاد].
أي: مخلف عام ومخلف عامين ومخلف ثلاثة ومخلف أربعة ومخلف خمسة وهكذا؛ لأن الأسماء انتهت عند الاسم العاشر.
قوله: [وقال النضر بن شميل: ابنة مخاض لسنة، وابنة لبون لسنتين، وحقة لثلاث سنين، وجذعة لأربع، والثني لخمس، ورباع لست، وسديس لسبع، وبازل لثمان].
مثل ما تقدم.
[قال أبو داود: قال أبو حاتم والأصمعي: والجذوعة وقت وليس بسن] يعني: كونه جذوعة فقد ذكر أنها أكملت الرابعة ودخلت في الخامسة التي هي الجذعة وكذلك والجذع، على قول هذين الإمامين من أئمة اللغة.
قال في اللسان: الجذع: اسم له في زمن ليس بسن تنبت ولا تسقط وتعقبها أخرى.
يعني: أنهم ذكروها على حسب السنين لا على حسب الأسنان التي في فمها، قوله: [قال أبو حاتم: قال بعضهم: فإذا ألقى رباعيته فهو رباع، وإذا ألقى ثنيته فهو ثني.
وقال أبو عبيد: إذا لقحت فهي خلفة، فلا تزال خلفة إلى عشرة أشهر، فإذا بلغت عشرة أشهر فهي عشراء].
يعني: في حال حملها إذا لقحت يقال لها: خلفة حتى تبلغ عشرة أشهر فيقال لها: عشراء، بالنسبة إلى العشرة الأشهر.
قوله: [قال أبو حاتم: إذا ألقى ثنيته فهو ثني وإذا ألقى رباعيته فهو رباع].
[قال أبو حاتم والأصمعي].
أبو حاتم هو سهل بن محمد السجستاني، وهو صدوق ذو دعابة، أخرج له أبو داود والنسائي.
والأصمعي هو عبد الملك بن قريب، وهو صدوق، أخرج له مسلم في المقدمة وأبو داود والترمذي.
[وقال النضر بن شميل].
النضر بن شميل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو عبيد].
هو القاسم بن سلام، وهو ثقة فاضل، قال في التقريب: أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي.(509/30)
شرح سنن أبي داود [510]
فصَّلت الشريعة الإسلامية الأحكام المتعلقة بالقصاص والديات، وبينت أن القتل على ثلاثة أضرب: عمد، شبه عمد، خطأ، وحددت لكل ضرب دية معينة.
وقد جاءت السنة النبوية ببيان ما يتعلق بديات أعضاء الإنسان، وحددت لكل عضو منها ما يستحق من الدية؛ إكراماً لهذا الإنسان، والمرأة كالرجل في تحمل العاقلة عنها في القتل الخطأ، وعقل المرأة في القتل الخطأ يقسم لورثتها، ومن قتل قريباً له فلا ميراث له منه.(510/1)
ديات الأعضاء(510/2)
شرح حديث (الأصابع سواء عشر عشر من الإبل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ديات الأعضاء.
حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا عبدة -يعني ابن سليمان - حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن غالب التمار عن حميد بن هلال عن مسروق بن أوس عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (الأصابع سواء عشر عشر من الإبل)].
قوله: [باب ديات الأعضاء] هذه الترجمة تتعلق بديات أعضاء الإنسان، أما الترجمة السابقة فتتعلق بدية الإنسان كاملاًً، سواء كان القتل عمداً أو شبه عمد أو خطأً، وهنا تتعلق بما يلزم لكل عضو، والذي تدل عليه الأحاديث أن ما كان مكوناً من شيئين فإن فيه دية كاملة، كالعينين وكاليدين وكالرجلين، كل هذه تكون فيها الدية كاملة، وما كان متعدداً كأصابع اليدين والرجلين وكذلك الأسنان فإن كل إصبع فيه عشر من الإبل سواء كان إصبع يد أو إصبع رجل، والأسنان كل سن فيه خمس من الإبل، سواء كان سناً أو ضرساً لا فرق بين سن وسن أو ضرس وضرس، كما أنه لا فرق بين إصبع وإصبع، كل إصبع عنه عشر من الإبل وكل سن عنه خمس من الإبل، فيكون في أصابع اليدين والرجلين ديتان، لأن كل إصبع من أصابع اليدين فيها عشر، وكل إصبع من أصابع الرجلين فيها عشر.
أورد أبو داود حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأصابع سواء عشر عشر) يعني: كل إصبع فيه عشر، سواء كان من أصابع اليدين أو أصابع الرجلين، ولا يفرق بين إصبع له شأن وله أهمية أكثر من غيره وبين إصبع هو دون ذلك كالإبهام والخنصر، فإن الخنصر والإبهام سواء، مع أن فائدة الإبهام أعظم من فائدة الخنصر؛ لأن الإبهام يكون فيه ملاقات مع الأصابع وفيه الشد معها، بخلاف الخنصر الذي هو الإصبع الأخير فإن فائدته ليست كفائدة الإبهام، ومع ذلك جعلت سواء، وكذلك الأسنان فوائدها مختلفة، ومع ذلك جعلت سواء، كما أنه لا يفرق بين إنسان شريف وغير شريف ولا بين كبير وصغير، بل كلهم على حد سواء فيما يتعلق بالدية، فدية الرجل الكبير والصغير واحدة، ودية الرجل الشريف وغيره واحدة، فكذلك هذه الأشياء أيضاً لا يفرق فيها بين إصبع وإصبع وبين سن وسن.(510/3)
تراجم رجال إسناد حديث (الأصابع سواء عشر عشر من الإبل)
قوله: [حدثنا إسحاق بن إسماعيل].
هو إسحاق بن إسماعيل الطالقاني، وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبدة -يعني ابن سليمان -].
عبدة بن سليمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سعيد بن أبي عروبة].
سعيد بن أبي عروبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن غالب التمار].
هو غالب بن مهران التمار، وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن حميد بن هلال].
حميد بن هلال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسروق بن أوس].
مسروق بن أوس مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي موسى].
هو أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله تعالى عنه وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(510/4)
حديث (الأصابع سواء) من طرق أخرى، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن غالب التمار عن مسروق بن أوس عن الأشعري عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (الأصابع سواء، قلت: عشر عشر؟ قال: نعم)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وهو مثل الذي قبله: (الأصابع سواء) أي: أن كل واحد فيه عشر عشر.
قوله: [حدثنا أبو الوليد].
هو هشام بن عبد الملك، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن غالب التمار عن مسروق بن أوس عن الأشعري].
وقد مر ذكرهم.
سقط حميد من هذه الطريق؛ بينما الطريق الأولى فيها حميد بين التمار وبين مسروق، وقد أشار أبو داود إلى الاختلاف في الطرق وأن غالباً سمع من مسروق.
[قال: أبو داود رواه محمد بن جعفر عن شعبة عن غالب قال: سمعت مسروق بن أوس].
وهذه إشارة إلى طريق أخرى وفيها حذف الواسطة والتصريح بالسماع بين غالب وبين مسروق، الذي جعل بينه وبينه في الطريق الأولى حميد بن هلال.
ومحمد بن جعفر هو الملقب بـ غندر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو كثير الرواية عن شعبة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه إسماعيل قال: حدثني غالب التمار بإسناد أبي الوليد].
إسماعيل بن علية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قوله: [ورواه حنظلة بن أبي صفية عن غالب بإسناد إسماعيل].
حنظلة بن أبي صفية كأنه ليس له رواية عند أصحاب الكتب متصلة، ولهذا لم يترجم له في التقريب.(510/5)
شرح حديث (هذه وهذه سواء، يعني: الإبهام والخنصر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى ح وحدثنا ابن معاذ حدثنا أبي ح وحدثنا نصر بن علي أخبرنا يزيد بن زريع كلهم عن شعبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (هذه وهذه سواء، يعني: الإبهام والخنصر)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هذه وهذه سواء، يعني الإبهام والخنصر)، وإن كان بينهما تفاوت إلا أنه جعلهما على حد سواء، كما سوي بين الصغير والكبير، وبين الشريف والوضيع في الدية، فجعلت الأصابع التي بعضها أهم من بعض وأكثر فائدة من بعض سواء.(510/6)
تراجم رجال إسناد حديث (هذه وهذه سواء، يعني: الإبهام والخنصر)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا ابن معاذ].
هو عبيد الله بن معاذ، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
هو معاذ بن معاذ العنبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا نصر بن علي].
هو نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[كلهم عن شعبة].
يعني: الثلاثة الذين هم يحيى القطان ومعاذ بن معاذ ويزيد بن زريع رووا عن شعبة.
وشعبة مر ذكره.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(510/7)
شرح حديث (الأصابع سواء، والأسنان سواء: الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عباس العنبري حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني شعبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (الأصابع سواء، والأسنان سواء، الثنية والضرس سواء، هذه وهذه سواء)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس من طريق أخرى قال: [(الأصابع سواء والأسنان سواء)] أي: لا فرق بين إصبع وإصبع، ولا فرق بين سن وسن.
قوله: [(والثنية والضرس سواء)] أي: الشيء البارز والخفي من الأسنان لا فرق بينها.
قوله: [(وهذه وهذه سواء)] يعني: إشارة إلى الخنصر والإبهام الذي مر في الطريق الأولى السابقة.(510/8)
تراجم رجال إسناد حديث (الأصابع سواء والأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء)
قوله: [حدثنا عباس العنبري].
هو عباس بن عبد العظيم العنبري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث].
عبد الصمد بن عبد الوارث، وهو صدوق ثبت في شعبة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني شعبة].
شعبة مر ذكره.
[عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس].
قد مر ذكرهم.(510/9)
حديث (الأصابع سواء والأسنان سواء) من طرق أخرى، وتراجم رجال إسناده
[قال أبو داود: ورواه النضر بن شميل عن شعبة بمعنى عبد الصمد] يعني: رواه النضر بن شميل عن شعبة بمعنى حديث عبد الصمد السابق.
قوله: [النضر بن شميل].
النضر بن شميل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: حدثناه الدارمي عن النضر بن شميل] والدارمي يحتمل شخصين أحدهما: أحمد بن سعيد الدارمي والثاني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي الذي هو صاحب المسند، ويقال له: سنن الدارمي، وهو من الكتب التي تعددت فيها الثلاثيات؛ لأن فيه عدداً من الثلاثيات، ولهذا بعض أهل العلم يجعله الكتاب السادس بدل سنن ابن ماجة وبعضهم يجعل الموطأ.
فإذاً: الكتب الخمسة متفق عليها، وأما السادس ففيه ثلاثة أقوال: منهم من يجعله ابن ماجة، ومنهم من يجعله سنن الدارمي، ومنهم من يجعله موطأ مالك، ولكن الذي اشتهر مع هذه الكتب وألفت فيه المؤلفات، سواء كان ذلك في الأطراف أو في الرجال سنن ابن ماجة، وذلك لكثرة زوائده عن الكتب الستة، والتي أخرجها البوصيري في كتاب سماه (مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة) وزوائده على الخمسة تبلغ ألفاً وثلاثمائة حديث، وهذه الزوائد فيها الصحيح وفيها الضعيف.
وكلا هذين الرجلين يروي عن النضر، لأن في ترجمة النضر في تهذيب الكمال يروي عنه أحمد بن سعيد ويروي عنه عبد الله بن عبد الرحمن وكل منهما ثقة، وهما من الطبقة الحادية عشرة.
وأحمد بن سعيد الدارمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.(510/10)
حديث (الأسنان سواء والأصابع سواء) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن حاتم بن بزيع حدثنا على بن الحسن أخبرنا أبو حمزة عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الأسنان سواء والأصابع سواء)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأسنان سواء والأصابع سواء) وهو مثل ما تقدم، لا فرق بين سن وسن ولا بين إصبع وإصبع، لا في يد ولا في رجل.
قوله: [حدثنا محمد بن حاتم بن بزيع] محمد بن حاتم بن بزيع ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا علي بن الحسن].
هو علي بن الحسن بن شقيق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا أبو حمزة].
هو أبو حمزة السكري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، واسمه محمد بن ميمون، ويقال له: السكري نسبة إلى حلاوة منطقه، وليس كما يتبادر إلى الذهن أنه يبيع السكر أو أنه يصنع السكر؛ ولكن لكون منطقه حلواً وكان فصيح اللسان.
مثل خالد الحذاء الذي سبق أن مر بنا فهو ما كان حذاءً يبيع الأحذية ولا يصنع الأحذية، ولكنه كان يجالس الحذائين فنسب إليهم، ومثل يزيد بن صهيب الفقير فإنه قد يفهم منه أنه كان فقيراً وليس كذلك وإنما كان يشكو فقر ظهره فقيل له: الفقير، فهذه كلها من النسبة إلى غير ما يتبادر إلى الذهن.
[عن يزيد النحوي].
هو يزيد بن أبي سعيد النحوي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عكرمة عن ابن عباس].
عكرمة وابن عباس قد مر ذكرهما.(510/11)
شرح حديث (جعل رسول الله أصابع اليدين والرجلين سواء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن عمر بن محمد بن أبان حدثنا أبو تميلة عن يسار المعلم عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: (جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصابع اليدين والرجلين سواء)].
وهذا حديث ابن عباس من طريق أخرى وفيه التفصيل والتنصيص على أصابع الرجلين واليدين وأنها كلها سواء، يعني: كل إصبع فيه عشر، ومجموع الأصابع في الرجلين واليدين فيها ديتان: مائة من الإبل في أصابع اليدين، ومائة من الإبل في أصابع الرجلين.(510/12)
تراجم رجال إسناد حديث (جعل رسول الله أصابع اليدين والرجلين سواء)
قوله: [حدثنا عبد الله بن عمر بن محمد بن أبان].
عبد الله بن عمر محمد بن أبان صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبو تميلة].
أبو تميلة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، واسمه يحيى بن واضح.
[عن يسار المعلم].
يسار المعلم أخرج له أبو داود.
[عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس].
قد مر ذكر الثلاثة.(510/13)
شرح حديث (أن النبي قال في خطبته وهو مسند ظهره إلى الكعبة: في الأصابع عشر عشر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هدبة بن خالد حدثنا همام حدثنا حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في خطبته وهو مسند ظهره إلى الكعبة: في الأصابع عشر عشر)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما (أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في خطبته وهو مسند ظهره إلى الكعبة: في الأصابع عشر عشر).
يعني: في كل إصبع عشر عشر، وهذا يشمل اليدين والرجلين.
قوله: [(قال في خطبته وهو مسند ظهره إلى الكعبة)].
هذا يدلنا على أن إسناد الظهر إلى الكعبة ليس فيه عدم احترام لها، ومعلوم أن الخطيب يستقبل الناس ويستدبر الكعبة، وكذلك إذا صلى الإمام وهو بجوار الكعبة فسلَّم فإنه ينصرف إلى الناس ويقابلهم بوجهه وتكون الكعبة وراءه.(510/14)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي قال في خطبته وهو مسند ظهره إلى الكعبة: في الأصابع عشر عشر)
قوله: [حدثنا هدبة بن خالد].
هدبة بن خالد ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود.
البخاري وأبو داود جاء ذكره عندهم بلفظ هدبة، وأما مسلم فأحياناً يذكره بلفظ هدبة وأحياناً بلفظ هداب، وهدبة اسم وهداب لقب، واللقب مأخوذ من الاسم، مثل عبد الله وعباد وعبد الله وعبدان وعبد الرحمن ودحيم وهكذا.
[حدثنا همام].
هو همام بن يحيى العوذي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حسين المعلم].
حسين المعلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عمرو بن شعيب].
هو عمرو بن شعيب بن محمد، وهو صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو شعيب بن محمد، وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وفي جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن جده].
هو عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما صحابي ابن صحابي، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(510/15)
شرح حديث (في الأسنان خمس خمس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زهير بن حرب أبو خيثمة حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (في الأسنان خمس خمس)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في الأسنان خمس خمس) يعني: كل سن فيه خمس، لا فرق بين سن بارز كالأسنان وبين مختفية غير بارزة كالأضراس، وإنما كل سن فيه خمس من الإبل، وعلى هذا فإن مجموعها يزيد عن المائة، لأن عدد الأسنان اثنان وثلاثون سناً، ففي كل سن منها خمس من الإبل، يعني: ليس في الأسنان كلها الدية المقدرة، بل كل سن فيه خمس بلغ ما بلغ، بخلاف الأصابع ففي كل إصبع عشر عشر، ومعلوم أن الإصبع الزائد إذا أزيل بجناية ولم يترتب عليه مضرة ولا تشويه فإنه لا يكون له دية؛ لأن الجمال يكون في ذهابه، ومعلوم أن من عنده إصبع زائد وأراد أن يزيله من غير أن يحصل مضرة فإنه لا بأس بذلك، أما إذا أزيل بجناية وترتب عليه مضرة فيكون فيه حكومة لا دية؛ لأن هذا الأصبع زائد، وليس هو من الأصابع التي يستفاد منها والتي فيها الجمال، بينما قد يكون الجمال في ذهابه.(510/16)
تراجم رجال إسناد حديث (في الأسنان خمس خمس)
قوله: [حدثنا زهير بن حرب أبو خيثمة].
زهير بن حرب أبو خيثمة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
وهذا من شيوخ مسلم الذين أكثر من الرواية عنهم، فقد روى عنه أكثر من ألف حديث.
وهو يلي أبا بكر بن أبي شيبة الذي روى عنه مسلم ألفاً وخمسمائة حديث.
[حدثنا يزيد بن هارون].
هو يزيد بن هارون الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده].
قد مر ذكرهم.(510/17)
شرح حديث (كان رسول الله يقوم دية الخطأ على أهل القرى أربعمائة دينار أوعد لها من الورق ويقومها على أثمان الإبل)
[قال أبو داود: وجدت في كتابي عن شيبان ولم أسمعه منه، فحدثناه أبو بكر صاحب لنا ثقة قال: حدثنا شيبان حدثنا محمد -يعني ابن راشد عن سليمان -يعني ابن موسى - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوِّم دية الخطأ على أهل القرى أربعمائة دينار أو عدلها من الورق، ويقومها على أثمان الإبل، فإذا غلت رفع في قيمتها، وإذا هاجت رخصاً نقص من قيمتها، وبلغت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بين أربعمائة دينار إلى ثمانمائة دينار، وعدلها من الورق ثمانية آلاف درهم، وقضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أهل البقر مائتي بقرة، ومن كان دية عقل في الشاء فألفي شاة، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن العقل ميراث بين ورثة القتيل على قرابتهم، فما فضل فللعصبة، قال: وقضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأنف إذا جدع الدية كاملة، وإذا جدعت ثندوتة فنصف العقل، خمسون من الإبل أو عدلها من الذهب أو الورق، أو مائة بقرة، أو ألف شاة، وفي اليد إذا قطعت نصف العقل، وفي الرِّجل نصف العقل، وفي المأمومة ثلث العقل، ثلاث وثلاثون من الإبل وثلث، أو قيمتها من الذهب أو الورق أو البقر أو الشاء، والجائفة مثل ذلك، وفي الأصابع في كل إصبع عشر من الإبل، وفي الأسنان في كل سن خمس من الإبل، وقضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن عقل المرأة بين عصبتها، من كانوا لا يرثون منها شيئاً إلا ما فضل عن ورثتها، وإن قتلت فعقلها بين ورثتها، وهم يقتلون قاتلهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس للقاتل شيء، وإن لم يكن له وارث فوارثه أقرب الناس إليه، ولا يرث القاتل شيئاً).
قال محمد: هذا كله حدثني به سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
يقول أبو داود: [وجدت في كتابي عن شيبان ولم أسمعه منه، فحدثناه أبو بكر صاحب لنا ثقة].
يعني: ذكر أنه وجد في كتابه عن شيبان، ولكنه لم يسمع منه، وإنما أخرجه عنه بواسطة، حدثه به صاحب له وصفه بأنه ثقة وهو أبو بكر أحمد بن محمد بن إبراهيم الأبلي، ذكره في التقريب وقال عنه: صدوق.
قوله: [صاحب لنا].
يعني: يحتمل أن يكون من شيوخه؛ لأنه قال في التقريب: أخرج له أبو داود، لكن قال في عون المعبود: تلميذ له، ويمكن أن يكون زميلاً له وهو الأقرب؛ لأن الزملاء يثبت بعضهم بعضاً فيما غفل بعضهم عن أخذه من الشيخ، كما مر بنا في سنن أبي داود في مواضع عدة يقول: وثبتني فلان.
قوله: [(كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم دية الخطأ على أهل القرى أربعمائة دينار أو عدلها من الورق)].
يعني: أن الأصل في الدية هو الإبل، ولكن أهل القرى الذين ليس عندهم إبل وإنما عندهم نقود فكان يقومها عليهم بالذهب والفضة، وأربعمائة دينار وهذا هو الحد الأدنى، وقد تغلو وتصل إلى ثمانمائة دينار، وقد تنقص، فإذا زادت قيمة الإبل زادت القيمة وإذا نقصت نقصت القيمة، وكان الأمر دائراً بين أربعمائة وبين ثمانمائة دينار، وثمانمائة دينار تعادل ثمانية آلاف درهم.
وقد يصير هناك فرق أحياناً بين الدراهم والذهب، إذ معلوم أنها تزيد وتنقص، كما جاء في الحديث: (فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).
قوله: [(وقضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أهل البقر مائتي بقرة)].
يعني: وقضى على أهل البقر مائتي بقرة بدل مائة من الإبل.
قوله: [(ومن كان دية عقله في الشاء فألفي شاة)].
يعني: أهل الشاء وأهل الغنم يصير عليهم ألفا شاة.
قوله: (وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن العقل ميراث بين ورثة القتيل على قرابتهم، فما فضل فللعصبة)].
العقل هو الدية، فإذا قتل قتيل وأخذت ديته فإنها ميراث بين الورثة على قدر ميراثهم، وإن بقي شيء فللعصبة لأولى رجل ذكر؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر).
والعصبة هم يعقلون عنه إذا أخطأ، ولكنهم لا يرثون إلا ما فضل عن الفرائض المقدرة، وإن استوعبت الورثة فليس للعصبة شيء.
والعصبة بالنفس كما هو معلوم هم الذين يحوزون المال إذا انفردوا، وإذا وجد أصحاب فروض أخذوا ما أبقت الفروض.
قوله: [(وقضى صلى الله عليه وآله وسلم في الأنف إذا جدع الدية كاملة)].
يعني: الأنف يكون فيه الدية كاملة.(510/18)
بيان ما فيه نصف الدية
قوله: [(وإذا جدعت ثندوته فنصف العقل)].
يعني: طرفه الذي هو أرنبته ففيه نصف العقل؛ لأن فيه التشويه.
قوله: [(خمسون من الإبل أو عدلها من الذهب أو الورق، أو مائة بقرة، أو ألف شاة)] هذه كلها فيها بيان لنصف الدية.
قوله: (وفي اليد إذا قطعت نصف العقل)].
يعني: كل يد فيها نصف الدية، سواء قطعت من الرسغ أو من المرفق أو من أي مكان.
قوله: [(وفي الرجل نصف العقل)].
أي: وفي الرجل الواحدة نصف الدية.(510/19)
بيان ما فيه ثلث الدية
قوله: [(وفي المأمومة ثلث العقل، ثلاث وثلاثون من الإبل وثلث أو قيمتها من الذهب أو الورق أو البقر أو الشاء)].
المأمومة: هي الشجة التي خرقت الرأس حتى وصلت إلى الغشاوة المحيطة بالدماغ، يعني: كسرت العظم وتجاوزته بحيث لم يبق سوى الغلاف الذي في داخله المخ، ففيها ثلث الدية.
وهي ثلاث وثلاثون من الإبل وثلث.
قوله: [(وثلث)] يعني: أن فيها الكسر، وهذا يحسب بقيمة، لأن الكسر لا يجزأ وإنما تقدر قيمته.
قوله: [(والجائفة مثل ذلك)].
الجائفة: هي الطعنة التي تصل إلى الجوف، فإنها مثل المأمومة فيها ثلث الدية.
قوله: [(وفي الأصابع في كل إصبع عشر من الإبل، وفي الأسنان في كل سن خمس من الإبل)].
وهذا تكرر في الأحاديث السابقة.(510/20)
بيان من يتحمل عقل المرأة إن هي قتلت شخصاً خطأً
قوله: [(وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عقل المرأة بين عصبتها، من كانوا لا يرثون منها شيئاً إلا ما فضل عن ورثتها)].
يعني: نص على المرأة؛ لئلا يتوهم أنها تختلف عن الرجل، بل هي كالرجل، أي: أنها لو قتلت خطأً فإن عصبتها هم العاقلة الذين يعقلون عنها ويتحملون جنايتها عن طريق الخطأ، كما أنهم يتحملون جناية الرجل لو حصلت منه جناية خطأً أو حصل منه قتل خطأً، والعاقلة هم العصبة.
وهنا نص على المرأة لئلا يفهم أنها ليست كالرجل، وأنها تكون مثل العبد الذي تتعلق جنايته في رقبته، فبين أنه لا فرق بين الرجل والمرأة، وأن حكم المرأة في هذا كحكم الرجل، فالعصبة هم الذين يعقلون عنها وليس لهم من الميراث شيء إلا إن فضل شيء أو لم يكن لها وارث سوى العصبة، فإن أقرب قريب للعصبة هو الذي يحوز المال.(510/21)
بيان من يأخذ عقل المرأة إن هي قتلت خطأً أو عمداً
قوله: [(وإن قتلت، فعقلها بين ورثتها)].
هناك القتل منها هي التي قتلت، فعاقلتها هم الذين يتحملون الدية كما أن عاقلة الرجل هم الذين يتحملون الدية، وهنا إذا قُتلت هي خطأً وأخذت الدية عنها، أو كان عمداً وتنوزل إلى الدية، فإن الدية هذه ميراث للورثة، فيأخذ أصحاب الفروض فروضهم، وما بقي يكون لأقرب قريب من العصبة؛ لأن الدية هي من جملة المال، وحكمها حكم المال، فتضاف إلى المال وتقسم كما يقسم المال.
قوله: (وهم يقتلون قاتلهم)].
يعني: إذا كان القتل عمداً فإنهم هم الذين يقتلون قاتل المرأة إذا أرادوا، وإذا تنازلوا أخذوا الدية وصارت الدية لهم.
فإذاً: الذين لهم حق الميراث هم الذين لهم حق الأخذ بالقصاص، وليس كل من يكون من القبيلة أو من الأقارب وهو غير وارث يكون له حق الاعتراض على القصاص أو التنازل، وإنما الذي من حقه التنازل أو عدمه هو الذي له ميراث، فإذا تنازل واحد منهم فإنه لا يكون القصاص.(510/22)
حكم من يقتل قريباً له خطأً أو عمداً
قوله: [(وقال صلى الله عليه وسلم: ليس للقاتل شيءٌ)].
يعني: أن من قتل قريباً له سواء كان عمداً أو خطأً، فإنه لا ميراث له من الميراث، وإنما يرثه غير القاتل من ورثته؛ لأن القتل من موانع الإرث، كما يقول الرحبي: ويمنع الشخص من الميراث واحدة من علل ثلاث رق وقتل واختلاف دين فافهم فليس الشك كاليقين قوله: [(وإن لم يكن له وارث فوارثه أقرب الناس إليه، ولا يرث القاتل شيئاً)].
يعني: إن لم يكن له وارث من أصحاب الفروض ومن الأقارب، فإن أقرب قريب يرثه، أما القاتل فليس له شيء.
قوله: [قال محمد: هذا كله حدثني به سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم].
ومحمد هذا هو محمد بن راشد.(510/23)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله يقوم دية الخطأ على أهل القرى أربعمائة دينار أو عدلها من الورق على أثمان الإبل)
[قال أبو داود: وجدت في كتابي عن شيبان، ولم أسمعه منه.
فحدثناه أبو بكر صاحب لنا ثقة قال: حدثنا شيبان].
أبو بكر هو أحمد بن محمد بن إبراهيم، وهو صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا شيبان].
هو شيبان بن فروخ، وهو صدوق يهم، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا محمد -يعني ابن راشد -].
محمد بن راشد صدوق يهم، أخرج له أصحاب السنن.
[عن سليمان -يعني ابن موسى -].
سليمان بن موسى صدوق في حديثه بعض اللين، أخرج له مسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده].
عمرو بن شعيب وأبوه وجده قد مر ذكرهم.
[قال أبو داود: محمد بن راشد من أهل دمشق هرب إلى البصرة من القتل].
هذا تعريف به، وبيان شيء من أخباره أنه كان من أهل دمشق فهرب إلى البصرة خوفاً من القتل.(510/24)
شرح حديث (عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا محمد بن بكار بن بلال العاملي أخبرنا محمد -يعني ابن راشد -عن سليمان -يعني ابن موسى - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه).
قال: وزادنا خليل عن ابن راشد: (وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس، فتكون دماء في عميا في غير ضغينة ولا حمل سلاح)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد).
يعني: يفيد بأن العقل في العمد وشبه العمد واحد، ولكن العمد إذا لم يوافق أولياء القتيل على أن يأخذوه وأصروا على القصاص إلا أن يعطوا أكثر من الدية فإن لهم ذلك، ولكن إن أرادوا أن يقتصروا على الدية فالدية هي مثل دية شبه العمد، إلا أن هناك فرقاً بين شبه العمد والعمد، وهي أن العمد يقتص فيه من القاتل، وشبه العمد لا يقتص منه، وليس فيه إلا الدية، وهي مغلظة، والخطأ فيه الدية التي دون ذلك.
قوله: [(ولا يقتل صاحبه)] يعني: لا يقتل صاحب شبه العمد، وإنما عليه الدية.
قوله: [قال: وزادنا خليل عن ابن راشد: (وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس)].
يعني: هذا مثال لشبه العمد، وهو أن الشيطان ينزو بين الناس ويحدث بينهم مشكلة أو فتنة من غير أن يكون هناك ضغينة، ومن غير أن تكون هناك أسباب سابقة، وإنما تحصل فتنة فيلتحم بعضهم ببعض ويضرب بعضهم بعضاً بشيء لا يقتل في الغالب، ولكنه أدى إلى القتل، بخلاف الخطأ فإنه أراد أن يصيب شيئاً فطاش السهم وأصاب إنساناً، فهذا خطأ؛ لأنه ما أراد قتله ولم يفكر في قتله.
وأما شبه العمد فهو مقصود، ولكنه بشيء لا يقتل غالباً.
قوله: [(فتكون دماءٌ في عميَّا)].
يعني: يختلط بعضهم ببعض ويضرب بعضهم بعضاً فيحصل قتل، مثل ما مر بنا في الحديث السابق: (في عيما ورميا).
قوله: [(في غير ضغينة ولا حمل السلاح)].
يعني: ما كان هناك حمل سلاح، ولا كانت هناك عداوة سابقة بينهم تدفعهم إلى أن يتقاتلوا، وإنما حصلت فتنه فالتحم بعضهم ببعض.(510/25)
تراجم رجال إسناد حديث (عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
محمد بن يحيى بن فارس ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن بكار بن بلال العاملي].
محمد بن بكار بن بلال العاملي صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[أخبرنا محمد -يعني ابن راشد - عن سليمان -يعني ابن موسى - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده].
قد مر ذكرهم جميعاً.(510/26)
شرح حديث (في المواضح خمس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو كامل فضيل بن حسين أن خالد بن الحارث حدثهم أخبرنا حسين -يعني المعلم - عن عمرو بن شعيب أن أباه أخبره عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (في المواضح خمس)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(في المواضح خمسٌ)] المواضح: جمع موضحة، والموضحة: هي الشجة التي تخرق الجلد واللحم وتصل إلى العظم، فيصير ظاهراً وواضحاً.
وإذا كانت موضحة واحدة ففيها خمس، أما إذا كانت في عدة أماكن، فإن كل موضحة فيها خمس.(510/27)
تراجم رجال إسناد حديث (في المواضح خمس)
قوله: [حدثنا أبو كامل فضيل بن حسين].
أبو كامل فضيل بن حسين ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي.
[أن خالد بن الحارث].
خالد بن الحارث ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا حسين -يعني المعلم - عن عمرو بن شعيب أن أباه أخبره عن عبد الله بن عمرو].
قد مر ذكرهم جميعاً.
وهنا قال: [عن عمرو بن شعيب أن أباه أخبره عن عبد الله بن عمرو] هذا يبين أن شعيباً يروي عن جده عبد الله بن عمرو؛ لأن كثيراً من الروايات عن أبيه عن جده، وهي محتملة لأن يكون شعيب يروي عن أبيه محمد، وإذا كان هذا فيكون مرسلاً؛ لأن محمداً ليس بصحابي، ولكنه قد صح سماع شعيب بن محمد من جده عبد الله بن عمرو فصار متصلاً؛ ولهذا يقولون: إذا كان الإسناد إلى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مستقيماً فإنه يقال له: حسن؛ لأن عمراً صدوق، وأبوه شعيب صدوق.
والحافظ يقول: قد صح سماعه من جده عبد الله بن عمرو.(510/28)
شرح حديث (قضى رسول الله في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمود بن خالد السلمي حدثنا مروان -يعني ابن محمد - حدثنا الهيثم بن حميد حدثني العلاء بن الحارث حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية) لأن العين فيها بصر وفيها جمال، وهنا البصر قد ذهب ولكن الجمال موجود، فإذا فقأها شخص، فإنه يكون فيها ثلث الدية؛ لأن العين موجودة على هيئتها وجمالها، وإنما البصر غير موجود، فهي ليست ناتئة بأن تكون بارزة، ولا غائرة بحيث أنها ليست موجودة، وإنما هي قائمة سادة لمكانها، فيكون فيها ثلث الدية.(510/29)
تراجم رجال إسناد حديث (قضى رسول الله في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية)
قوله: [حدثنا محمود بن خالد السلمي].
هو محمود بن خالد السلمي الدمشقي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا مروان -يعني ابن محمد -].
مروان بن محمد ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا الهيثم بن حميد].
الهيثم بن حميد صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[حدثني العلاء بن الحارث].
العلاء بن الحارث صدوق، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده].
عمرو بن شعيب وأبوه وجده مر ذكرهم جميعاً.(510/30)
الأسئلة(510/31)
الرد على القاضي عياض والنووي في وصفهما لمن فر يوم حنين بالغثاء
السؤال
يقول القاضي عياض في إكمال المعلم في الجزء السادس صفحة (130) في قصة غزوة حنين عند حديث البراء رضي الله عنه: (لا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسراً ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح) قال القاضي: والأخفاء هنا المسارعون المستعجلون.
وروى أبو إسحاق الحربي وأبو عبيد الهروي هذا الحرف: (فانطلق جفاء من الناس) بجيم مضمومة وتخفيف الفاء، قال: القتبي والهروي: أي: سرعانهم شبههم بجفاء السيل.
قال القاضي: إن صحت هذه الرواية فإنما معناها ما تقدم من خروج من خرج معهم من أهل مكة، ومن انضاف إليهم ممن لم يستعد للقتال، وإنما خرج للغنيمة من النساء والصبيان والضعفاء ومن مرض من مُسلمة الفتح، فهؤلاء شبه جفاء السيل الذي لا ينتفع به، ويرميه بجانبيه، وهو الغثاء أيضاً.
ومثله قاله الإمام النووي رحمه الله فهل قوله: وهو الغثاء يعتبر سباً للصحابة؟! وإذا قلنا: إنه يعتبر سباً فهل نقول عن هذين الإمامين القاضي عياض والنووي مع أشعريتهما أنهما رافضيان كذلك؟
الجواب
كونه يعبر بهذا التعبير لا يصلح، وإنما الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ينبغي أن يذكروا بالجميل، ولا يذكروا بشيء لا يليق؛ لأن وصفهم بالغثاء غير طيب، ولا يليق أن يوصفوا به، ومعلوم أن الصحابة متفاوتون، وأن فيهم من هو حديث العهد بالإسلام، لكن لا يقال فيهم إلا ما هو جميل، ولا يذكرون إلا بكل حسن.
لكن لا يقال عن هذين الإمامين عياض والنووي: إنهما رافضيان، لكن يقال: إنه تعبير خطأ نسأل الله تعالى أن يعفو عنهما، لكن يوجه الحديث: (خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسراً) على أن الخفيف هو الذي ليس معه سلاح ولا معه ثقل، وإنما جاء ليحصل على غنيمة، ولكن كما هو معلوم حصل الانهزام، والرسول صلى الله عليه وسلم ثبت وثبت معه عمه العباس، وكذلك ابن عمه أبو سفيان بن الحارث، وأمر العباس أن ينادي وكان جهوري الصوت، فانعطف الناس مرة ثانية، وعادوا بعدما حصل ذلك الانهزام، وكان النصر بعد ذلك للمسلمين.(510/32)
ذكر ما في بردة البوصيري من حسن وسيئ، والفرق بين صاحب البردة وصاحب الزوائد
السؤال
هل البوصيري صاحب الزوائد على سنن ابن ماجة هو صاحب البردة؟
الجواب
صاحب الزوائد محدث، وأما ذاك فليس بمحدث، وصاحب البردة توفي سنة (694هـ) وصاحب الزوائد توفي سنة (840هـ).
والبوصيري صاحب البردة عنده كلام في البردة جميل، وعنده كلام سيئ للغاية، ومن الكلام الجميل فيها أنه كان يمدح الصحابة في ثباتهم وعلو شأنهم، وتمكنهم في الحرب وركوب الخيل، قال: كأنهم في ظهور الخيل نبت ربى من شدة الحَزْم لا من شدة الحُزُمِ يعني: مثل الشجرة التي فوق جبل، أو فوق مكان مرتفع فهي ثابتة على ذلك المكان الذي هي فيه، فالصحابة على الخيل كهذه الشجرة التي فوق المكان الرابي.
وكذلك قوله: والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم ويقول أيضاً: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم ومن الكلام السيئ قوله: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم هذا كلام سيئ فيه غلو ومجاوزة للحد؛ لأنه جعل علم اللوح والقلم من علمه صلى الله عليه وسلم، وهو لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، وليس كل غيب أطلع الله تعالى نبيه عليه.
وسبق أنني أشرت إلى هذا في صحيح البخاري عند حديث: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) وذكرت ما اشتمل عليه كلامه من الغلو والإطراء، وأن هذا لا يسوغ ولا يجوز، فلو قال يخاطب ربه: يا خالق الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم لكان كلامه صواباً، ولكن كونه يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم فهذا هو الباطل.(510/33)
شرح سنن أبي داود [511]
حرص الإسلام على الجنين وهو لا يزال في بطن أمه، لذا فلا يجوز قتل المرأة الحامل حتى تضع جنينها، وقد جاءت دية الجنين مغايرة للديات الأخرى؛ لأن المعروف أن الديات الأخرى تكون من الإبل والذهب والفضة، فكون دية الجنين تكون غرة عبداً أو أمة، فهذا على خلاف ما هو معروف؛ وقد حكم عمر رضي الله عنه بذلك بعد أن استوثق من صحة نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.(511/1)
مقدار دية الجنين(511/2)
شرح حديث (أن امرأتين كانتا تحت رجل من هذيل فضربت إحداهما الأخرى بعمود فقتلتها فاختصموا إلى النبي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب دية الجنين.
حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة عن منصور عن إبراهيم عن عبيد بن نضلة عن المغيرة بن شعبة: (أن امرأتين كانتا تحت رجلٍ من هذيل، فضربت إحداهما الأخرى بعمود فقتلتها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال أحد الرجلين: كيف ندي من لا صاح ولا أكل ولا شرب ولا استهل؟ فقال: أسجع كسجع الأعراب؟! فقضى فيه بغرة، وجعله على عاقلة المرأة)].
يقول رحمه الله تعالى: [باب دية الجنين].
الطفل ما دام أنه في البطن فإنه يقال له: جنين؛ لأنه مستتر في تلك الجنة التي هي البطن، فهو مأخوذ من حقيقته وهيئته التي هو عليها؛ لأنه في بطن أمه في جنة، فإن خرج ميتاً فهو سقط، وإن خرج حياً فهو طفل أو صبي، والجنين ديته جاءت بها السنة، فمن اعتدى على امرأة وخرج ما في بطنها ميتاً، فإن ديته الواجبة فيه غرة، عبدٌ أو أمة، وتكون على عاقلة الجانية التي حصل منها ذلك، فهذه هي الدية التي جاءت بها السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في الجنين، وقوله: غرة عبد أو أمة، هذا للتنويع وليس للشك، فسواء كان ذكراً أو أنثى فإنه يحصل به المقصود.
أورد أبو داود حديث المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه: أن امرأتين من هذيل اختصمتا فضربت إحداهما الأخرى بعمود فقتلتها، فقضى الرسول صلى الله عليه وسلم بديتها على عاقلة الجانية التي قتلتها، وقضى أيضاً بالغرة على عاقلتها، وقد قال أحد أولياء القاتلة الذين طلب منهم العقل: [(كيف ندي من لا صاح ولا أكل ولا شرب ولا استهل؟!)] يعني: أنه ما أكل ولا شرب ولا صاح ولم يخرج وهو حي حياة مستقرة، وإنما خرج ميتاً فكيف نديه؟ وكيف نعقله؟ قوله: [(أسجع كسجع الأعراب)].
وفي بعض الروايات: (كسجع الكهان) المقصود بذلك السجع الذي يكون بباطل، أو فيه الاعتراض على حق، أما السجع الذي ليس من هذا القبيل وليس فيه شيء من التكلف، فإنه لا بأس به، وقد جاء في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض أحاديثه ما هو مسجوع، فدل هذا على أن السجع الممنوع والذي ذمه الرسول صلى الله عليه وسلم هو سجع الكهان أو الأعراب، وذلك أنهم يأتون بكلام مسجوع؛ ليروجوا به ما عندهم من الباطل، فهذا هو الذي يكون مذموماً، أما إذ كان السجع ليس من هذا القبيل، فإنه لا بأس به ولا مانع منه.
قوله: [(أن امرأتين كانتا تحت رجل من هذيل، فضربت إحداهما الأخرى بعمود فقتلتها)].
فكونها ضربتها بعمود فهذا يشعر أنه شيء قاتل، وذلك أن شبه العمد يكون بشيء غير قاتل، مثل: عصا أو سوط أو شيء لا يقتل غالباً، وأما العمود أو الخشبة الكبيرة أو الصخرة؛ فإن هذه تقتل، وقد جاء في بعض الروايات: (وأمر بها أن تقتل) وجاء في بعضها ذكر الدية، ولعل الذين لهم الحق ما طالبوا بالقتل وإنما رضوا بالدية، فجاء بيانها، أو أنه يكون شبه عمد، فلهذا جاء في بعض الروايات أنه جعل الدية على عاقلتها، ومعلوم أن قتل العمد الجناية فيه على الجاني وليست على العاقلة، فيمكن أن يكون هذا العمود عصاً صغيرة، أو أنه لا يحصل به القتل، وأنه عبر عنه بالعمود لكونه كبيراً وإن لم يكن بالهيئة التي يكون عليها الشيء القاتل.
قوله: [(فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال أحد الرجلين: كيف ندي من لا صاح، ولا أكل، ولا شرب، ولا استهل؟)].
هذا يتعلق بالذي بعده، وهي الغرة في الجنين.
قوله: [(فقال: أسجع كسجع الأعراب؟ فقضى فيه بغرة، وجعله على عاقلة المرأة)].
يعني: يبدو أن فيه تقديماً وتأخيراً؛ لأن السجع جاء بعد الحكم بالغرة، وأنه قضى فيه بغرة، فقال: كيف ندي من كان كذا وكذا؟(511/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أن امرأتين كانتا تحت رجل من هذيل فضربت إحداهما الأخرى بعمود فقتلتها فاختصموا إلى النبي)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر النمري].
حفص بن عمر النمري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
[عن شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن المعتمر الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم].
هو إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد بن نضلة].
عبيد بن نضلة ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن المغيرة بن شعبة].
المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(511/4)
حديث (أن امرأتين كانت تحت رجل من هذيل فضربت إحداهما الأخرى فقتلتها) من طريق أخرى، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور بإسناده ومعناه، وزاد: (فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم دية المقتولة على عصبة القاتلة، وغرة لما في بطنها)].
وهذا مثل الذي قبله.
قوله: [حدثنا: عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور.
بإسناده ومعناه].
منصور بإسناده ومعناه، وقد تقدم.
[قال أبو داود: وكذلك رواه الحكم عن مجاهد عن المغيرة].
الحكم بن عتيبة الكندي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجاهد].
هو مجاهد بن جبر المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المغيرة].
هو المغيرة بن شعبة، وقد مر ذكره.(511/5)
شرح حديث (أن عمر استشار الناس في إملاص المرأة فقال المغيرة: شهدت رسول الله قضى فيها بغرة عبد أو أمة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وهارون بن عباد الأزدي المعنى، قالا: حدثنا وكيع عن هشام عن عروة عن المسور بن مخرمة: (أن عمر استشار الناس في إملاص المرأة، فقال المغيرة بن شعبة: شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى فيها بغرة: عبد أو أمة، فقال: ائتني بمن يشهد معك، فأتاه بـ محمد بن مسلمة، زاد هارون: فشهد له، يعني: ضرب الرجل بطن امرأته)].
أورد أبو داود حديث المغيرة بن شعبة، وكذلك أيضاً حديث محمد بن مسلمة، وهو أن عمر رضي الله عنه استشار الناس في إملاص المرأة، وإملاص المرأة هو كون ما في بطنها يخرج بسبب ضربة حصلت لها من أي جهة كانت؛ فإن الإملاص معناه الانزلاق، يعني: لا يثبت إذا مُسك، بل يخرج من اليد، وكذلك كونه خرج من فرجها ميتاً كما يخرج الشيء الذي لا يمسك، فهذا هو الإملاص.
وكذلك الأرض يحصل فيها الانزلاق، فإن الرجل إذا مشى عليها يحصل له انزلاق بسبب هذا الذي في الأرض.
قوله: [(ائتني بما يشهد معك)] يعني: هذا قاله عمر رضي الله عنه، فقد كان من عادته أن يستثبت، وليس معنى ذلك التردد في قبول خبر المغيرة، ويمكن أن يقال: إنه استثبت في هذا لأنه شيء لا يعرف فيما يتعلق بالديات؛ لأن المعروف في الديات إما الذهب وإما الفضة وإما الغنم وإما البقر وإما الإبل، فمن أجل ذلك أراد أن يتحقق وأن يستثبت، فشهد معه محمد بن مسلمة بذلك، فكان يقضي به رضي الله تعالى عنه وأرضاه.(511/6)
تراجم رجال إسناد حديث (أن عمر استشار الناس في إملاص المرأة فقال المغيرة: شهدت رسول الله قضى فيها بغرة عبد أو أمة)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وهارون بن عباد].
عثمان بن أبي شيبة.
مر ذكره، وهارون بن عباد مقبول، أخرج له أبو داود.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام].
هو هشام بن عروة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
هو عروة بن الزبير وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسور بن مخرمة].
المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي صغير، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة].
المغيرة بن شعبة قد مر ذكره، ومحمد بن مسلمة هو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قوله: [زاد هارون: (فشهد له)].
هارون هو الشيخ الثاني في الإسناد، وهو مقبول.
قوله: [(فشهد له يعني: ضرب الرجل بطن امرأته)].
يعني: إذا حصل أن الرجل ضرب بطن امرأته وهي حامل وحصل إملاص، يعني: الضرب قد يحصل من الرجل لامرأته فيحصل الإملاص الذي هو خروج ما في بطنها ميتاً، والألباني صحح الحديث دون هذه الزيادة؛ من أجل أنها جاءت عن طريق هارون.(511/7)
تفسير أبي عبيد القاسم بن سلام لإملاص المرأة
[قال أبو داود: بلغني عن أبي عبيد: إنما سمي إملاصاً؛ لأن المرأة تزلقه قبل وقت الولادة، وكذلك كل ما زلق من اليد وغيره فقد ملص].
يعني: ذكر هذا الأثر عن أبي عبيد القاسم بن سلام في تفسير الإملاص، وأنه الإزلاق، وأن المرأة تزلقه قبل تمام أوانه، فيخرج بهذه الطريقة، كالشيء الذي يكون في اليد فينفلت منها بسبب وجود مادة لزجة فيها.
[قال أبو داود: بلغني عن أبي عبيد].
هو أبو عبيد القاسم بن سلام، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وفي جزء القراءة وأبو داود.(511/8)
حديث إملاص المرأة من طرق أخرى وترجمة رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب عن هشام عن أبيه عن المغيرة عن عمر رضي الله عنه بمعناه].
أورد أبو داود الحديث من طريق آخر وقال: بمعناه، أي: أحال على ما تقدم.
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا وهيب].
هو وهيب بن خالد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام عن أبيه عن المغيرة].
وقد مر ذكرهم.
[عن عمر].
عمر أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: رواه حماد بن زيد وحماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه، أن عمر رضي الله عنه قال].
الإسناد من طريق أخرى وليس فيه ذكر المغيرة.
[قال أبو داود: رواه حماد بن زيد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحماد بن سلمة].
حماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن هشام بن عروة عن أبيه أن عمر قال].
مر ذكرهم جميعاً.(511/9)
شرح حديث (كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى رسول الله في جنينها بغرة وأن تقتل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن مسعود المصيصي حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع طاوساً عن ابن عباس رضي الله عنهما عن عمر: (أنه سأل عن قضية النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، فقام حمل بن مالك بن النابغة رضي الله عنه فقال: كنت بين امرأتين، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنينها بغرة وأن تقتل)].
أورد أبو داود حديث حمل بن النابغة، وفيه: أن امرأة قتلت الأخرى بمسطح، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقتل القاتلة، وهذا يشعر بأنها قتلتها بما يحصل به القتل، الذي هو المسطح، والمسطح هو عود من عيدان الخباء.
قوله: [(فقضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنينها بغرة وأن تقتل)].
لكن جاءت الروايات أنهم أخذوا الدية، بل جاء في بعضها أنها على عاقلتها، ومعلوم أن العمد ليس على العاقلة، وإنما العاقلة تحمل الخطأ وشبه العمد، وأما الجناية التي هي التعمد فإن هذا يكون على الجاني؛ لأنه لو كان كل إنسان يُتحمل عنه جنايته لما تأخر عن الإقدام على الجناية، لكن الشيء الذي حصل خطأً هو الذي جاءت الشريعة بحمله عنه، أما العمد فلا، وإنما هو الذي يتحمل المال إن سلم من القتل، إلا إن أراد غيره أن يتحمل عنه، فهذا شيء آخر.(511/10)
تراجم رجال إسناد حديث (كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى رسول الله في جنينها بغرة وأن تقتل)
قوله: [حدثنا محمد بن مسعود المصيصي].
محمد بن مسعود المصيصي ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا أبو عاصم].
هو الضحاك بن مخلد النبيل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عمرو بن دينار].
هو عمرو بن دينار المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنه سمع طاوساً].
هو طاوس بن كيسان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
[فقام حمل بن مالك بن النابغة].
حمل بن مالك بن النابغة صحابي رضي الله عنه، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.(511/11)
معنى قوله (وأن تقتل) وحكمها
قوله: [(وأن تقتل)].
هذا يدل على أنه عمد، وأما كونه أمر بأن الدية على عاقلتها فهذا يدل على أنه شبه عمد، وكون الدية على العاقلة وردت فيها روايات كثيرة، لكن كونه ذكر أنه أمر بها أن تقتل فهذا مشكل؛ لأن الأمر بالقتل لا يكون إلا مع العمد، وكون العاقلة تحمل الدية، فالعاقلة لا تحمل دية العمد، إلا إذا أرادت أن تحمل، أما كونها تلزم فهو ليس بلازم لها؛ لأن لزوم دية العمد يسهل الجناية على الجناة ما دام أنهم سيفعلون وغيرهم يتحمل.
يقول الخطابي: قوله: [(وأن تقتل)] لم يذكر في غير هذه الرواية.
وكأنه يشير إلى شذوذ هذه اللفظة.
ويمكن أن تكون مع صحتها شاذة والألباني صححه وما ذكر شيئاً عن شذوذه.
[قال أبو داود: قال النضر بن شميل: المسطح: هو الصوبج].
النضر بن شميل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة والصوبج أو الصولج: عود الخباء.
[قال أبو داود: وقال أبو عبيد: المسطح: عود من أعواد الخباء].(511/12)
شرح حديث (كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى رسول الله في جنينها بغرة عبد أو أمة) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد الزهري حدثنا سفيان عن عمرو عن طاوس قال: (قام عمر رضي الله عنه على المنبر فذكر معناه، لم يذكر: وأن تقتل، زاد: بغرة عبد أو أمه، قال: فقال عمر: الله أكبر لو لم أسمع بهذا لقضينا بغير هذا)].
أورد أبو داود حديث طاوس رحمه الله تعالى، وليس فيه أنه أمر بها أن تقتل، وإنما فيه أنه أمر بغرة عن الجنين عبد أو أمة، وقال عمر: (الله أكبر لو لم نسمع بهذا لقضينا بغير هذا) يعني: هذا شيء غير معروف في الأحكام، وإنما هذا يعرف عن طريق النص، والاجتهاد يكون فيما عرفت فيه الديات، بأن يكون جزءاً من كذا أو يجتهد فيه، أما أن يكون غرة، فهذا حكم غريب فيما يتعلق بالديات، وهو أصل وحكم مستقل بنفسه، وقد ثبتت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فلا مجال للعدول عما ثبتت به السنة، وأنه لو لم يأت بذلك النص لكان الاجتهاد مؤدياً إلى شيء آخر.(511/13)
تراجم رجال إسناد حديث (كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها فقضى رسول الله في جنينها بغرة عبد أو أمة) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد الزهري].
هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، وهو صدوق، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو عن طاوس قال: قام عمر].
عمرو بن دينار وطاوس مر ذكرهما.
وقوله: [(قام عمر)] هذا فيه انقطاع؛ لأن طاوساً روايته عن عمر مرسلة، وبين وفاة عمر ووفاة طاوس ثلاث وثمانون سنة.(511/14)
شرح حديث (فأسقطت غلاماً قد نبت شعره ميتاً وماتت المرأة فقضى على العاقلة الدية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن عبد الرحمن التمار أن عمرو بن طلحة حدثهم قال: حدثنا أسباط عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قصة حمل بن مالك قال: (فأسقطت غلاماً قد نبت شعره ميتاً، وماتت المرأة، فقضى على العاقلة الدية، فقال عمها: إنها قد أسقطت يا نبي الله غلاماً قد نبت شعره، فقال أبو القاتلة: إنه كاذب، إنه والله ما استهل ولا شرب ولا أكل فمثله يطل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أسجع الجاهلية وكهانتها، أد في الصبي غرة) قال ابن عباس: كان اسم إحداهما: مليكة، والأخرى: أم غطيف].
أورد أبو داود حديث ابن عباس في قصة حمل بن مالك قال: (فأسقطت غلاماً قد نبت شعره).
يعني: في قصة المرأة التي ضربت فأسقطت غلاماً بسبب الضربة.
قوله: [(فأسقطت غلاماً قد نبت شعره ميتاً وماتت المرأة)].
يعني: كونه قد نبت شعره فهذا يدل على أنه كبير.
قوله: [(فقضى على العاقلة الدية)].
يعني: قضى على عاقلة القاتلة الدية.
قوله: [(فقال عمها: إنها قد أسقطت يا نبي الله غلاماً قد نبت شعره، فقال أبو القاتلة: إنه كاذب، إنه والله ما استهل ولا شرب ولا أكل فمثله يطل)].
جاء بعد ذلك ذكر الغرة.
قوله: [(فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أسجع الجاهلية وكهانتها؟! أد في الصبي غرة)].
هذا مثل الذي قبله فيه تقديم وتأخير، وفيه إثبات ديتها على العاقلة، وفيه إثبات أن الصبي الذي سقط ميتاً فيه غرة.
قوله: [قال ابن عباس: كان اسم إحداهما: مليكة والأخرى: أم غطيف].
يعني: القاتلة والمقتولة.(511/15)
تراجم رجال إسناد حديث (فأسقطت غلاماً قد نبت شعره ميتاً وماتت المرأة فقضى على العاقلة الدية)
قوله: [حدثنا سليمان بن عبد الرحمن التمار].
سليمان بن عبد الرحمن التمار صدوق، أخرج له أبو داود.
[أن عمرو بن طلحة حدثهم].
هو عمرو بن حماد بن طلحة، هو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة في التفسير.
[حدثنا أسباط].
هو أسباط بن نصر وهو صدوق كثير الخطأ، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سماك].
هو سماك بن حرب، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
وروايته عن عكرمة مضطربة.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.
والحديث ضعفه الألباني ولعله من أجل رواية أسباط وسماك.
فـ أسباط صدوق كثير الخطأ، وسماك روايته عن عكرمة مضطربة، وهذا منها، لكن الذي فيه مطابق لما تقدم.(511/16)
شرح حديث (أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى ولكل واحدة منهما زوج وولد، فجعل رسول الله دية المقتولة على عاقلة القاتلة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يونس بن محمد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا مجالد حدثنا الشعبي عن جابر بن عبد الله: (أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى، ولكل واحدةٍ منهما زوج وولد، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة، وبرأ زوجها وولدها، قال: فقال عاقلة المقتولة: ميراثها لنا؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا، ميراثها لزوجها وولدها)] أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: (أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى، ولكل واحدة منهما زوج وولد، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة وبرأ زوجها وولدها).
يعني: برأهما من أن يكون عليهما شيء من العقل، وجعل لهما الميراث.
قوله: [(قال: فقال عاقلة المقتولة: ميراثها لنا؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا، ميراثها لزوجها وولدها)].
يعني: العقل غير الميراث؛ لأنه كما سبق أن مر بنا فإن العقل يتحمله العصبة، والعصبة إن بقي شيء بعد أخذ الفروض صار لهم، وإلا فإنه لا شيء لهم.(511/17)
تراجم رجال إسناد حديث (أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى ولكل واحدة منهما زوج وولد، فجعل رسول الله دية المقتولة على عاقلة القاتلة)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يونس بن محمد].
يونس بن محمد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الواحد بن زياد].
عبد الواحد بن زياد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا مجالد].
هو مجالد بن سعيد، وهو ليس بالقوي، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا الشعبي].
هو عامر بن شراحيل الشعبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومجالد ليس بالقوي، ولكنه جاء ما يدل على ما في هذا الحديث.(511/18)
شرح حديث (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، فاختصموا إلى رسول الله فقضى رسول الله دية جنينها غرة عبد أو وليدة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بيان وابن السرح قالا: حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم، فقال حمل بن مالك بن النابغة الهذلي: يا رسول الله! كيف أغرم دية من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إنما هذا من إخوان الكهان؛ من أجل سجعه الذي سجع)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن امرأتين من هذيل تخاصمتا فضربت إحداهما الأخرى بحجر، وقد سبق أن مر أنها ضربتها بعمود أو مسطح، ولا تنافي بينها، فيمكن أن تكون فعلت هذا وهذا، يعني: رمتها بالحجر وضربتها بالعمود أو المسطح، فقتلتها وما في بطنها.
قوله: [(فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم دية جنينها غرة عبد أو وليدة)].
أي: أن الدية التي تلزم للجنين الذي سقط ميتاً هي غرة عبد أو وليدة.
قوله: [(وقضى بدية المرأة على عاقلتها)].
يعني: وقضى بالدية التي على المرأة القاتلة على عاقلتها.
قوله: [(وورثها ولدها ومن معهم)].
يعني: ومن يرث معهم، كالزوج، وهذا شاهد للذي تقدم، فيما يتعلق أنه ورثها زوجها وولدها.
قوله: [(فقال حمل بن مالك بن النابغة الهذلي: يا رسول الله! كيف أغرم دية من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل؟!)].
يعني: ما دام أنه خرج ميتاً فمثله يهدر، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إنما هذا من إخوان الكهان، من أجل سجعه الذي سجع) وذلك أنه كلام فيه مخالفة لحق.
وهذا يدل على أن حمل هو الذي قال هذا، وهو الزوج، وقد جاء في بعض الروايات أن القائل أبوها أو عمها، ولا تنافي بينها، إذ يمكن أن يكون كل واحد منهم قال هذا الكلام.(511/19)
تراجم رجال إسناد حديث (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، فاختصموا إلى رسول الله فقضى رسول الله دية جنينها غرة عبد أو وليدة)
قوله: [حدثنا وهب بن بيان].
وهب بن بيان ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[وابن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة].
سعيد بن المسيب ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة باتفاق، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.(511/20)
حديث (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها) من طريق أخرى، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة في هذه القصة، قال: (ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بأن ميراثها لبنيها، وأن العقل على عصبتها)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه أن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت، يعني: قضى لها، والمقصود أن المرأة التي توفيت هي المضروبة، وكأنها ما ماتت في الحال، وقضى أن ميراثها لورثتها، وأن العقل على عصبة القاتلة.
قوله: [حدثنا: قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
هو الليث بن سعد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة].
قد مر ذكرهم.(511/21)
شرح حديث (أن امرأة خذفت امرأة فأسقطت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عباس بن عبد العظيم حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا يوسف بن صهيب عن عبد الله بن بريدة عن أبيه: (أن امرأة خذفت امرأة فأسقطت، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجعل في ولدها خمسمائة شاة، ونهى يومئذ عن الخذف).
قال أبو داود: كذا الحديث: (خمسمائة شاة) والصواب مائة شاة.
قال أبو داود: هكذا قال عباس وهو وهم].
أورد أبو داود حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه: (أن امرأة خذفت امرأة) يعني: رمتها بحصاة.
قوله: [(فأسقطت)] أي: أسقطت ما في بطنها.
قوله: [(فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل في ولدها خمسمائة شاة)].
يعني: أنها ربع الدية؛ لأن الدية هي: ألفا شاة، وخمسمائة هي ربعها.
وقال: أبو داود: إن هذا وهم من عباس العنبري، فهي ليست خمسمائة وإنما هي مائة شاة، يعني: نصف عشر الدية؛ لأنها من ألفي شاة.(511/22)
تراجم رجال إسناد حديث (أن امرأة خذفت امرأة فأسقطت)
قوله: [حدثنا عباس بن عبد العظيم].
هو عباس بن عبد العظيم العنبري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبيد الله بن موسى].
عبيد الله بن موسى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يوسف بن صهيب].
يوسف بن صهيب ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عبد الله بن بريدة].
عبد الله بن بريدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
وهو بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(511/23)
معنى قوله (ونهى يومئذ عن الخذف)
قوله: [(ونهى يومئذ عن الخذف)].
الخذف هو الرمي بالحصى، والخذف غالباً يكون بحصى صغيرة تكون بين الأصابع، كما يقال: مثل حصى الخذف التي يرمى بها الجمار، وهي أكبر من الحمص قليلاً، فهو نهى عن الخذف؛ لأنه يحصل به فقء العين.(511/24)
شرح حديث (قضى رسول الله في الجنين بغرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا عيسى عن محمد -يعني ابن عمرو - عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجنين بغرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل).
قال أبو داود: روى هذا الحديث حماد بن سلمة وخالد بن عبد الله عن محمد بن عمرو لم يذكرا: (أو فرس أو بغل)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة وفيه: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل).
الذي جاء مطابقاً للأحاديث الكثيرة المختلفة هو غرة عبد أو أمة، وليس فيها ذكر الفرس والبغل، وأيضاً كذلك روى هذا الحديث نفسه جماعة وليس فيه ذكر البغل والفرس، فيكون شاذاً.(511/25)
تراجم رجال إسناد حديث (قضى رسول الله في الجنين بغرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي].
إبراهيم بن موسى الرازي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عيسى].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد -يعني ابن عمرو -].
هو محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، وهو صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة عن أبي هريرة].
أبو سلمة وأبو هريرة قد مر ذكرهما.
[قال أبو داود: روى هذا الحديث حماد بن سلمة وخالد بن عبد الله عن محمد بن عمرو، لم يذكرا: (فرس أو بغل)].
حماد بن سلمة مر ذكره، وخالد بن عبد الله الطحان الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(511/26)
أثر الشعبي وربيعة في تقدير الغرة بالنقدين وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سنان العوقي حدثنا شريك عن مغيرة عن إبراهيم وجابر عن الشعبي قال: الغرة خمسمائة درهم.
قال أبو داود: قال ربيعة: الغرة خمسون ديناراً].
أورد أبو داود أثرين: أحدهما عن الشعبي وهو خمسمائة درهم، والثاني عن ربيعة وهو خمسون ديناراً، وهذه آثار مقطوعة.
قوله: [حدثنا محمد بن سنان العوقي].
محمد بن سنان العوقي ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا شريك].
هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي، وهو صدوق يخطئ كثيراً، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن مغيرة].
هو مغيرة بن مقسم الضبي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم].
هو إبراهيم النخعي وقد مر ذكره.
[وجابر].
هو جابر الجعفي، وهو ضعيف، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن الشعبي].
الشعبي مر ذكره.
[قال أبو داود: قال ربيعة].
هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(511/27)
شرح سنن أبي داود [512]
إن المتأمل في هذه الشريعة المحمدية ليدرك أنها قد كرمت هذا الإنسان، وحافظت على دمه من الإهدار، حيث وقد جاءت بأحكام خاصة بالمكاتب وأهل الذمة، ومنها: أن المكاتب إذا استحق دية أو ميراثاً، فإنه يثبت له من الدية والميراث بحسب ما عتق منه، ومنها: أن المكاتب إذا قتل، فإن ديته دية حر بقدر ما قد أداه من مكاتبته، وما بقي فإنه يكون دية عبد، ومنها كذلك: أن دية الذمي والمعاهد والمستأمن نصف دية الحر.(512/1)
ما جاء في دية المكاتب(512/2)
شرح حديث (قضى رسول الله في دية المكاتب يقتل يودى ما أدى من مكاتبته دية الحر وما بقي دية المملوك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في دية المكاتب.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد وحدثنا إسماعيل عن هشام وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا حجاج الصواف جميعاً عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في دية المكاتب يقتل، يودى ما أدى من مكاتبته دية الحر، وما بقي دية المملوك)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في دية المكاتب].
المكاتب: هو العبد الذي اتفق معه سيده على أن يسعى للحصول على مال ليدفعه إلى سيده فيعتقه، ويكون منجماً، إذا أدى آخره فإنه يكون حراً، وقبل أن يؤديه يكون باقياً في رقه وفي عبوديته له؛ ولهذا جاء في الأحاديث التي سبق أن مرت: (المكاتب عبد ما بقي عليه درهم) وأنه إذا وجد ما يؤدي به المكاتبة، فإنه يُحتجب منه؛ لأنه عند ذلك يكون حراً، يعني: أن سيدته تحتجب منه، فقد كان لها ألا تحتجب منه وهو عبد، كما جاء في القرآن: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور:31].
أورد أبو داود حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى في المكاتب أنه إذا قتل، فإن ديته دية حر بقدر ما قد أداه من مكاتبته، وما بقي فإنه يكون دية عبد، بمعنى: أنه إذا كان قد أدى نصف ما عليه فإن نصفه يكون دية حر، والنصف الباقي يكون قيمة عبد، فتكون ديته مجموعة من هذا ومن هذا، فهذا هو معنى هذا الحديث وهذا هو مقتضاه، وقد جاء القول به عن بعض العلماء، وقال الخطابي: أجمع عامة الفقهاء على أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم في جنايته والجناية عليه.
ولكن هذا الحديث نص في الدية وبيان مقدارها، وهو ثابت.
فإذاً: مقتضاه أن الدية تكون بهذه الطريقة، ما سبق أن أداه يعامل معاملة الحر، وما بقي عليه ولم يؤده يعامل فيه معاملة العبد.(512/3)
تراجم رجال إسناد حديث (قضى رسول الله في دية المكاتب يقتل يودى ما أدى من مكاتبته دية الحر وما بقي دية المملوك)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحدثنا إسماعيل].
الذي يبدو أن كلمة حدثنا هذه زائدة؛ لأنه قد يفهم منها أنها راجعة لـ أبي داود، وأبو داود لا يروي عن إسماعيل بن علية، وإنما يروي عنه بواسطة والموجود في نسخة عون المعبود بدون حدثنا، فيكون مسدد يروي عن يحيى ويروي عن إسماعيل عن هشام.
[وإسماعيل].
هو إسماعيل بن علية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام] هو هشام الدستوائي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يعلى بن عبيد].
يعلى بن عبيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حجاج الصواف].
حجاج الصواف ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[جميعاً عن يحيى بن أبي كثير].
هو يحيى بن أبي كثير اليمامي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة عن ابن عباس].
عكرمة وابن عباس قد مر ذكرهما.(512/4)
شرح حديث (إذا أصاب المكاتب حداً أو ورث ميراثاً يرث على قدر ما عتق منه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا أصاب المكاتب حداً أو ورث ميراثاً يرث على قدر ما عتق منه)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا أصاب المكاتب حداً أو ورث ميراثاً يرث على قدر ما عتق منه).
يعني: أن المكاتب إذا استحق دية أو ميراثاً؛ فإن له على قدر ما عتق منه، ولكن جاء في بعض الأحاديث فيما يتعلق بالميراث: (أنه عبد ما بقي عليه درهم) والأحاديث سبق أن مرت بنا في كتاب العتق، لكن معنى الحديث: أنه إذا كان للمكاتب دية أو ميراث فإنه يثبت له من الدية والميراث بحسب ما عتق منه، كما لو أدى نصف كتابته ثم مات أبوه وهو حر ولم يخلف غيره، فإنه يرث منه نصف ماله.(512/5)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا أصاب المكاتب حداً أو ورث ميراثاً يرث على قدر ما عتق منه)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة].
مر ذكرهما.
[عن أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة عن ابن عباس].
وقد مر ذكرهما.(512/6)
حديث (إذا أصاب المكاتب حداً أو ورث ميراثاً) من طرق أخرى وتراجم رجال إسناده
[قال أبو داود: رواه وهيب عن أيوب عن عكرمة عن علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم].
يعني: ذكر طريقاً أخرى وهي عن علي رضي الله عنه.
قوله: [رواه وهيب عن أيوب عن عكرمة عن علي].
هو وهيب بن خالد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب عن عكرمة عن علي].
علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأرسله حماد بن زيد وإسماعيل عن أيوب عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم].
يعني: أنه ذكره عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر علياً ولا ذكر ابن عباس.
قوله: [وجعله إسماعيل بن علية قول عكرمة].
يعني: هو موقوف عليه وليس مرسلاً، وإنما هو يصير من قبيل المقطوع.
ورجال الإسناد مر ذكرهم كلهم.(512/7)
ما جاء في مقدار دية الذمي(512/8)
شرح حديث (دية المعاهد نصف دية الحر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في دية الذمي.
حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي حدثنا عيسى بن يونس عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (دية المعاهد نصف دية الحر)].
قوله: [باب في دية الذمي].
الذمي والمعاهد والمستأمن حكمهم واحد، والدية لهم هي نصف دية الحر كما جاء في هذا الحديث، وجاء في غير هذا الحديث أن دية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين.
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دية المعاهد نصف دية الحر).
يعني: أنها على النصف، فتكون على هذا خمسون من الإبل.(512/9)
تراجم رجال إسناد حديث (دية المعاهد نصف دية الحر)
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي].
يزيد بن خالد بن موهب الرملي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا عيسى بن يونس عن محمد بن إسحاق].
عيسى بن يونس مر ذكره، ومحمد بن إسحاق هو المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب].
هو عمرو بن شعيب بن محمد وهو صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو شعيب بن محمد، وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وجزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن جده].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وهم: عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(512/10)
حديث (دية المعاهد نصف دية الحر) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
[قال أبو داود: رواه أسامة بن زيد الليثي وعبد الرحمن بن الحارث عن عمرو بن شعيب مثله].
أسامة بن زيد الليثي صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
وعبد الرحمن بن الحارث صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب مثله].
يعني: مثل المتن الأول.
والإسناد الأول فيه رواية محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب، وقد روى بالعنعنة وهو مدلس، ولكن المتابعات التي ذكرها أبو داود عن أسامة بن زيد الليثي وعن عبد الرحمن بن الحارث تزيل احتمال التدليس في هذه الرواية.(512/11)
الأسئلة(512/12)
مقدار دية المرأة الذمية
السؤال
هل المرأة الذمية على النصف من دية الحرة المسلمة؟
الجواب
يبدو والله أعلم أن المرأة الذمية على النصف من المرأة المسلمة الحرة، ودية الرجل الذمي على النصف من دية الرجل؛ لأنه لو بقيت الذمية على النصف من الرجل المسلم صارت مساوية للمسلمة.(512/13)
بطلان وصية الشيخ أحمد حامل مفاتيح الحجرة النبوية
السؤال
إن الوصية المزعومة بوصية الشيخ أحمد حامل مفاتيح الحجرة توزع في الحرم خصوصاً عند النساء، فحبذا لو تكلم الشيخ عنها؛ لكي يسمع النساء كلام الشيخ؟
الجواب
هذه الوصية يتم إظهارها ونشرها من حين لآخر، وهي مشتملة على باطل واضح، ولشيخنا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمة الله عليه رسالة قيمة في بيان بطلانها وما فيها من الكذب، وأنه لا يجوز النظر فيها، وأنها حقيقة بالتمزيق والإتلاف، وهذه الرسالة مطبوعة ضمن أربع رسائل بعنوان: ((التحذير من البدع)) واحدة منها في بيان بطلان هذه الوصية، ومما يدل على ما فيها من بطلان أن فيها وعداً بأنه من فعل كذا فله كذا، ومن كتبها أو كذا فإنه يكون كذا وكذا، وهذا شيء لا يحصل في القرآن ولا في غيره، فكيف بهذا الكلام الباطل؟!! وفي آخرها يقول: وحلمت يوم الإثنين بأنه من قام بنشر ثلاثين ورقة من هذه الوصية بين المسلمين فإن الله يزيل عنه الهم والغم، ويوسع عليه رزقه، ويحل له مشاكله، ويرزقه خلال أربعين يوماً تقريباً، وقد علمت أن أحدهم قام بنشر ثلاثين ورقة من هذه الوصية، فرزقه الله بخمسة وعشرين ألف (روبية)، كما قام شخص آخر بنشرها فرزقه الله بستة ألاف (روبية).
وهذا من أعجب العجائب، وكيف تصدق العقول مثل هذا الكلام؟! أين الفقراء؟! أين أصحاب المشاكل؟! أين هم عن هذا الكلام الباطل، فهم لا يحصلون من ورائه إلا السراب والكلام الباطل؛ فالقرآن نفسه ليس فيه هذا الكلام، وحديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو خير الكلام بعد كلام الله عز وجل، ليس فيه هذا الكلام، فكيف يصدق بمثل هذا الباطل؟! الحاصل أن إظهارها ونشرها حرام؛ لأنه نشر للباطل، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) ونشرها هو من نشر الضلال، وكل من ابتلي بها أو حصل له ضرر بسببها فعلى الذي دله عليها أو أرشده إليها مثل آثامه، من غير أن ينقص من آثام الذي ضل شيئاً، بل الضال عليه إثم ضلاله، والمضل عليه إثم إضلاله مع ضلاله.(512/14)
ضابط قبول تبديع المشايخ لأحد من الناس
السؤال
لو قال أحد المشايخ عن أحد من الناس: هذا مبتدع، هل يلزم الطالب أن يأخذ بهذا التبديع؟ أم لا بد من معرفة وجه التبديع؛ لأنه قد يطلق هذا التبديع على من كان على سنة؟
الجواب
ما كل يقبل كلامه في هذا، إذا جاء عن مثل الشيخ ابن باز أو مثل الشيخ ابن عثيمين فيمكن أن يعول على كلامه، أما من هب ودب، فلا يأخذ منه مثل هذا الكلام.(512/15)
حكم قبول خبر الثقة دون تثبت
السؤال
هل يقبل خبر الثقة مطلقاً دون تثبت، كأن يقول أحد المشايخ: إن فلاناً سب وطعن في الصحابة، فهل يجب علي أن آخذ بهذا القول وأحكم عليه، أم لا بد من التثبت؟
الجواب
لا بد من التثبت, ولو كان القائل من أهل العلم، إلا إذا عزاه إلى كتاب له، والكتاب موجود وبإمكان الناس أن يرجعوا إليه، أما مجرد كلام من غير أن يذكر له أساساً، لا سيما إذا كان الشخص من الموجودين، أما إذا كان من المتقدمين، وهو معروف بالبدعة، أو من أئمة أهل البدع وكل الناس يعرفه، مثل: الجهم بن صفوان فلو قال: إنه مبتدع فإن كلامه صحيح، أما من يحصل منهم خطأ وزلة، وعندهم جهود عظمية في خدمة الدين، فتجد بعض الناس يقضي عليهم بمجرد هذه الزلة وهذا الخطأ، فهذا غير صحيح.(512/16)
ضرورة حمل المجمل على المفصل عند التعارض
السؤال
إذا وجد للعالم كلام مجمل في قضية ما، وقد يكون هذا الكلام المجمل ظاهره يدل على أمر خطأ، ووجد له كلام آخر في موضع آخر مفصل في نفس القضية موافق لمنهج السلف، فهل يحمل المجمل من كلام العالم على المفصل؟
الجواب
نعم، يحمل المجمل على المفصل، ما دام الشيء موهماً فالشيء الواضح الجلي هو المعتبر.(512/17)
دية الضرس المركب إذا خلع
السؤال
الضرس المركب إذا خلع هل فيه دية مثل الضرس الأصلي؟
الجواب
لا، ليس مثل الضرس الأصلي؛ لأن الضرس المركب يمكن أن يركب مكانه من جنسه، وليس الشيء الذي وضع تعويضاً كالشيء الذي أوجده الله عز وجل، بل إن هذا له قيمة وهذا له قيمة.(512/18)
شرح سنن أبي داود [513]
جاء في الدين الإسلامي تحديد دية القتل الخطأ الذي ليس فيه تعمد، ومقابل ذلك حدد مواطن أخرى ليس فيها دية، كمن رفسته دابة فآذته أو قتلته فليس له دية على صاحب الدابة، ومثله من انهدم عليه بئر أو أصابته نار بسبب انتقالها من مكانها دون تدخل من موقدها، أما من تعدى وتجاوز ما ليس أهلاً له كمن تطبب وليس بطبيب فيضمن، وإنما هذا للحفاظ على حياة الناس، وعدم انتشار الفوضى فيهم.(513/1)
حكم الرجل يقاتل الرجل فيدفعه عن نفسه(513/2)
شرح حديث يعلى بن أمية (قاتل أجير لي رجلاً فعض يده فانتزعها فندرت ثنيته فأتى النبي فأهدرها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يقاتل الرجل فيدفعه عن نفسه.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن جريج أخبرني عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه قال: (قاتل أجير لي رجلاً فعض يده، فانتزعها فندرت ثنيته، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأهدرها، وقال: أتريد أن يضع يده في فيك تقضمها كالفحل؟) قال: وأخبرني ابن أبي مليكة عن جده: أن أبا بكر رضي الله عنه أهدرها، وقال: بعدت سنه].
قوله: [باب في الرجل يقاتل الرجل فيدفعه عن نفسه].
أي: أنه خاصمه وتنازع معه.
قوله: [(قاتل أجير لي رجلاً فعض يده)].
يعني: أن رجلاً عض يد آخر فنزعها المعضوض فسقطت ثنية العاض بسبب تلك العضة، فلما رفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر ثنيته، ولم يجعل لها دية؛ لأن هذا النزع حصل بسبب الوجع الذي حصل من فعله، ومعلوم أن ذاك ظالم بالعض، ومعلوم أن الإنسان لا يستطيع أن يترك يده يعضها ويقطعها كيف يشاء بأسنانه، فإذا نزعها فهو محق في نزعه، فإذا ترتب على نزعه سقوط أسنانه، فإن ذلك هو الذي جنى على نفسه بالعض؛ ولهذا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أتريد أن يضع يده في فيك تقضمها كالفحل؟) يعني: تقضمها بأسنانك كما يقضم الفحل، هذا ليس بمعقول وليس بمسلم، بل إن الإنسان العاض هو الذي جنى على نفسه بكونه عض غيره، فإذا سقطت أسنانه أو بعض أسنانه؛ بسبب نزع المعضوض يده من فيه، فإنه لا يلزم ذلك المعضوض شيء في مقابل ذلك الانتزاع للسن أو الأسنان.(513/3)
تراجم رجال إسناد حديث يعلى بن أمية (قاتل أجير لي رجلاً فعض يده فانتزعها فندرت ثنيته فأتى النبي فأهدرها)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عطاء].
هو عطاء بن أبي رباح المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن صفوان بن يعلى].
صفوان بن يعلى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: وأخبرني ابن أبي مليكة عن جده: أن أبا بكر رضي الله عنه أهدرها، وقال: بعدت سنه].
يعني: قال ابن جريج: وأخبرني ابن أبي مليكة عن جده، وابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جده].
هو زهير بن عبد الله بن جدعان صحابي، أخرج له البخاري وأبو داود.
[أن أبا بكر].
أبو بكر الصديق رضي الله عنه، مشهور بكنيته واسمه: عبد الله، وأبوه: عثمان، وهو مشهور بكنيته أبي قحافة، وأبو بكر هو خير أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام وأفضلهم على الإطلاق، وهو خليفة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأول الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(513/4)
شرح حديث يعلى بن أمية (قاتل أجير لي رجلاً فعض يده فانتزعها فندرت ثنيته، فأتى النبي فأهدرها) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زياد بن أيوب أخبرنا هشيم حدثنا حجاج وعبد الملك عن عطاء عن يعلى بن أمية بهذا، زاد: (ثم قال: يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم للعاض: إن شئت أن تمكنه من يدك فيعضها ثم تنزعها من فيه.
وأبطل دية أسنانه)].
أورد أبو داود طريقاً أخرى، وفيها: إن شئت أن تجعله يعض يدك ثم تنزعها، وهو لا يفعل ذلك؛ لأنه لا يصبر على الوجع؛ ولكن قال له الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ليبين له أن هذا غير حاصل منك، فكيف تفعله مع غيرك؟ وعليك أن تقيس الناس على نفسك، فلو عض أحد يدك فإنك لا تصبر على تركها في فمه يقضمها ويقطعها، فكذلك عليك أن تفهم أن غيرك لا يصبر على أن تفعل به ذلك الفعل.(513/5)
تراجم رجال إسناد حديث يعلى بن أمية (قاتل أجير لي رجلاً فعض يده فانتزعها فندرت ثنيته، فأتى النبي فأهدرها) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا زياد بن أيوب].
زياد بن أيوب ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[أخبرنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حجاج].
هو حجاج بن أرطأة، وهو صدوق كثير الخطأ والتدليس، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[وعبد الملك].
هو عبد الملك بن أبي سليمان، وهو صدوق له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عطاء عن يعلى بن أمية].
عطاء بن أبي رباح ويعلى بن أمية قد مر ذكرهما.
وهو هنا ذكر أن عطاء يروي عن يعلى وهناك ذكر أنه يروي عن صفوان.(513/6)
حكم من تطبب بغير علم فأعنت(513/7)
شرح حديث (من تطبب ولا يعلم منه طب فهو ضامن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن تطبب بغير علم فأعنت.
حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي ومحمد بن الصباح بن سفيان أن الوليد بن مسلم أخبرهم عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (من تطبب ولا يعلم منه طب فهو ضامن).
قال نصر: قال: حدثني ابن جريج.
قال أبو داود: هذا لم يروه إلا الوليد لا ندري هو صحيح أم لا].
قوله: [باب من تطبب بغير علم فأعنت].
أعنت يعني: حصل له ضرر بسبب علاجه؛ لأنه غير طبيب وإنما هو متطبب، والمقصود من كونه ضامناً؛ لأنه أقدم على شيء لا يجيده وليس هو من أهله، ومقتضى هذا أن من تطبب أو من طب غيره وهو طبيب فإنه لا يضمن إذا كان لم يحصل منه خطأ، وذلك أنه لو كان طبيباً ماهراً فختن أو قطع الشيء الذي يقطع وحصل ضرر بسبب ذلك فإنه لا يضمن؛ لأنه قطع الشيء الذي يقطع، فإذا حصلت فيه سراية فسرايته هدر، ولكن لو أنه أخطأ وقطع رأس الذكر فإنه يضمن؛ لأنه فعل شيئاً لا يجوز فعله، وأقدم على شيء لا يجوز الإقدام عليه، ويكون على عاقلة الطبيب، وأما المتطبب فهو ضامن إن أخطأ وإن أصاب، يعني: إن أخطأ كما أخطأ الطبيب بأن قطع شيئاً لا يجوز قطعه، أو لم يخطئ ولكنه قطع الشيء الذي يقطع وحصلت سراية، فإنه يكون ضامناً؛ لأنه أقدم على شيء وهو ليس من أهله.
إذاً: فهناك طبيب ومتطبب، الطبيب إن حصل منه خطأ بأن فعل شيئاً ليس له أن يفعله خطأً فإنه يضمن، وعلى العاقلة الضمان، وإن كان لم يخطئ ولكن حصلت سراية مع إصابته فإنه لا شيء عليه، وأما المتطبب فهو ضامن سواء أخطأ أو لم يخطئ.
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو: (من تطبب ولا يعلم منه طب فهو ضامن).
يعني: يضمن ما تلف بسبب تطببه.
قوله: [(تطبب)] يعني: أنه تكلف التطبب أو فعل شيئاً لا يجيده.
قوله: [(ولم يعلم منه طب)] مفهومه: أن من عرف بالطب فإنه لا يضمن، ولكن هذا في حال إصابته، وأما في حال خطئه بأن أقدم على شيء وقطعه خطأً، فإنه يكون ضامناً.
والطبيب والمتطبب يضمنان وليس عليهما قصاص؛ لأن المتطبب جاهل فهو ضامن، والطبيب أخطأ فهو ضامن.(513/8)
تراجم رجال إسناد حديث (من تطبب ولا يعلم منه طب فهو ضامن)
قوله: [حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي].
نصر بن عاصم الأنطاكي لين الحديث، أخرج له أبو داود.
[ومحمد بن الصباح بن سفيان].
محمد بن الصباح بن سفيان صدوق، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[أن الوليد بن مسلم].
هو الوليد بن مسلم الدمشقي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب].
هو عمرو بن شعيب بن محمد، وهو صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو شعيب بن محمد وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وفي جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن جده].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، وهو صحابي ابن صحابي، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال نصر قال: حدثني ابن جريج].
يعني: أن الوليد صرح بالتحديث بينه وبين ابن جريج، وأما محمد بن الصباح الشيخ الثاني فإنه لم يأت بالتصريح بالتحديث.
[قال أبو داود: هذا لم يروه إلا الوليد لا ندري هو صحيح أم لا].
يعني: أنه متردد في صحته أو عدم صحته، لكن المرسل الذي بعده يشهد له، وفيه تدليس ابن جريج فقط، وأما تدليس الوليد بن مسلم فقد صرح بالتحديث.(513/9)
شرح حديث (أيما طبيب تطبب على قوم لا يعرف له تطبب قبل ذلك فأعنت فهو ضامن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حفص حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز حدثني بعض الوفد الذين قدموا على أبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما طبيب تطبب على قوم لا يعرف له تطبب قبل ذلك فأعنت، فهو ضامن) قال عبد العزيز: أما إنه ليس بالنعت، إنما هو قطع العروق والبط والكي].
أورد أبو داود الحديث من طريق مرسلة عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ولفظه قال: (أيما طبيب تطبب على قوم لا يعرف له تطبب قبل ذلك، فأعنت فهو ضامن).
يعني: أي معالج متطبب وليس بطبيب ماهر حصل بسبب تطببه ضرر فهو ضامن.
وهذا مثل الذي قبله.
قوله: [أما إنه ليس بالنعت] يعني: هذا التطبب ليس بالنعت بحيث يصف العلاج، ويقول: هذا ينفع في كذا وكذا، وهذا دواؤه كذا وكذا، وإنما هو الشيء المباشر كالبط والكي وقطع العروق.
يعني: أن الذي ينعت الدواء فقط ولا يباشر التطبب بالفعل ليس هو المقصود، وإنما المقصود من قطع عرقاً أو كوى أو بط للجسد فحصل له بسببه ضرر فهذا هو الذي يضمن، أما الناعت فيمكن أن يترك قوله ولا يؤخذ به.(513/10)
تراجم رجال إسناد حديث (أيما تطبب على قوم لا يعرف له تطبب قبل ذلك فأعنت فهو ضامن)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حفص].
هو حفص بن غياث، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز].
عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز صدوق يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال حدثني بعض الوفد الذين قدموا على أبي].
لا يعرف أحد منهم.(513/11)
ما جاء في جناية العبد يكون للفقراء(513/12)
شرح حديث (أن غلاماً لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء فلم يجعل عليه شيئاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في جناية العبد يكون للفقراء.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن أبي نضرة عن عمران بن حصين: (أن غلاماً لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء، فأتى أهله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنا أُناس فقراء، فلم يجعل عليه شيئاً)].
قوله: [باب في جناية العبد يكون للفقراء]، أي: أن العبد الجاني تتعلق جنايته وحق غيره برقبته، إما أنه يباع ويؤخذ الحق من قيمته، وإما أن سيده يدفع ذلك الحق الذي تعلق برقبة عبده، وتبقى رقبة العبد الجاني له، وإن لم يدفع فإن الحق متعلق بالرقبة، فصاحب الحق له أن يطالب به، فإما أن يعطى العبد، وإما أن يباع ويأخذ حقه من قيمته، وأما الحر فإن العاقلة هم الذين يتحملون جنايته إن أخطأ، والعاقلة إذا كانوا فقراء ليس عليهم شيء، ولكن الذي يظهر أن هذا يبقى في الذمة، كالحقوق التي لا يمكن أداؤها في الحال، فإنها تبقى متعلقة في الذمة، فإذا أيسروا وإذا قدروا يدفعون، إلا أن يتجاوز عنهم.
أورد أبو داود حديث عمران بن حصين: (أن غلاماً لأناس فقراء).
أي: أن لفظة الغلام ليست مختصة بالعبد ولا بالحر، بل تكون لهذا ولهذا، فكل واحد يقال له: غلام.
قوله: [(لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء)] يعني: أنه حصل منه جناية، والذين يتحملون العقل عنه هم فقراء، ومعلوم أن الفقير لا يلزم بشيء لا يطيقه، قال عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، لكن الأمر كما قال الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، أي: أنه لا يضيع الحق، ولكنه يبقى متعلقاً في الذمة.
قوله: [(فأتى أهله النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا أناس فقراء، فلم يجعل عليه شيئاً)].
لم يجعل عليه شيئاً؛ لأنهم فقراء لا يستطيعون الدفع، والله عز وجل يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
وقوله في الترجمة: [باب في جناية العبد يكون للفقراء] الذي يظهر أنه حر وليس عبداً؛ لأن العبد كما هو معلوم الجناية تتعلق برقبته.
والحديث واضح بأنه ألزمهم بأن يعقلوا عنه، وهذا يدل على أنه حر وليس عبداً، فبين الترجمة والحديث مباينة.
والعقل أو الدية إنما تكون في خطأ أو شبه عمد، أما العمد ففيه القصاص، إلا أن يعفو الولي، وعدم ذكر القصاص في هذا الحديث إما أن يقال: إن الغلام ليس بالغاً فعمده خطأ؛ لأنه غلام، أو يقال: إنه قطعها خطأً، لكن كلمة الغلام لا تعني: أنه صغير، قد يكون صغيراً وقد يكون كبيراً.
وكونهم وصفوا بأنهم فقراء فهذا يدل على أنهم يعقلون عنه لكنهم لم يطالبوا بشيء لا يستطيعونه؛ لأن العاقلة إذا كان فيهم فقير وفيهم غني، فالفقير لا يؤخذ منه شيء، وإنما يؤخذ من الأغنياء.(513/13)
تراجم رجال إسناد حديث (أن غلاماً لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء فلم يجعل عليه شيئاً)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معاذ بن هشام].
معاذ بن هشام صدوق ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبي].
هو هشام الدستوائي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي نضرة].
هو المنذر بن مالك بن قطعة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمران بن حصين].
هو عمران بن حصين أبو نجيد رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(513/14)
ما جاء في الدابة تنفح برجلها(513/15)
شرح حديث (الرجل جبار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الدابة تنفح برجلها.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا محمد بن يزيد قال حدثنا سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الرَّجْل جبار).
قال أبو داود: الدابة تضرب برجلها وهو راكب].
أورد أبو داود هذه الترجمة [باب في الدابة تنفح برجلها]، يعني: ترفس إنساناً أو تضرب إنساناً برجلها، وهذا فيما إذا كانت منفلته ليس معها صاحبها، فإذا جاء شخص إليها فرفسته برجلها، فليس على صاحبها شيء، لكن إذا كانت الدابة صائلة من الصوائل، فتركها صاحبها وآذت الناس، فإنه يكون ضامناً، وكان عليه أن يمسكها وألا يتركها ما دام أنها معروفة أنها من الصوائل، وأما إذا لم تكن صائلة ولكنها دابة ترعى، وجاءها أحد واقترب منها أو لمسها أو أراد منها شيئاً فرفسته برجلها فيكون جباراً، يعني: هدراً لا يضمن صاحبها.
إذاً: إذا كانت الدابة صائلة وتركها صاحبها فإنه يضمن، أما إذا انفلتت منه وهو قد ربطها، أو أغلق عليها، فإنه لا يكون ضامناً؛ لأنه لم يفرط، وأما إذا كان راكباً عليها، وحصل أن رفست برجلها، فمن أهل العلم من قال: إن رفسها برجلها لأحد وراءها لا يقدر راكبها أن يتصرف فيها من الوراء، ولكن لو حصل الضرر بمقدمها، فإن عليه أن يحول بينها وبين ذلك، لكونه يستطيع أن يمسك بخطامها، وأن يمنعها من أن تقدم على شيء من الأمام.(513/16)
تراجم رجال إسناد حديث (الرجل جبار)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا محمد بن يزيد].
هو محمد بن يزيد الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا سفيان بن حسين].
سفيان بن حسين ثقة في غير الزهري، وهنا يروي عن الزهري، فروايته عن الزهري فيها ضعف، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.
والحديث ضعيف؛ لأنه من رواية سفيان بن حسين عن الزهري، وهو ضعيف في روايته عن الزهري، وهذا منها، لكن التفصيل الذي ذكرته هو الذي يظهر.(513/17)
العجماء والمعدن والبئر جبار(513/18)
شرح حديث (العجماء جرحها جبار، والمعدن جبار، والبئر جبار، وفي الركاز الخمس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب العجماء والمعدن والبئر جبار.
حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة أنهما سمعا أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (العجماء جرحها جبار، والمعدن جبار، والبئر جبار، وفي الركاز الخمس).
قال أبو داود: العجماء المنفلته التي لا يكون معها أحد، وتكون بالنهار لا تكون بالليل].
قوله: [باب العجماء والمعدن والبئر جبار].
جبار يعني: هدر ليس فيها ضمان.
والعجماء هي الدابة، ويقال لها: عجماء جمع عجماوات.
والمقصود من ذلك أن الدابة إذا رفست برجلها أو وهي منفلتة ليس معها أحد، ولم تكن صائلة، فإن جرحها جبار، يعني: هدر لا يضمن صاحبها.
قوله: [(والمعدن جبار)] وهو كون إنسان يستأجر أناساً لاستخراج المعادن، ثم ينهار عليهم ذلك المكان الذي فيه المعادن، فإن الذي استأجرهم ليس ضامناً.
قوله: [(والبئر جبار)] هو كون إنسان استأجر أناساً يحفرون بئراً، ثم انهارت عليهم البئر فهي مثل المعدن، وهي هدر لا ضمان فيها، وكذلك كون إنسان استأجر إنساناً يبني له عمارة فسقط من العمارة ومات فإنه لا يضمنه، مثل هذه الأشياء لا ضمان فيها؛ لأن الإنسان ليس متسبباً فيه.
قوله: [(وفي الركاز الخمس)].
الركاز هو الدفن الذي يوجد من دفن الجاهلية للكفار، فإنه يكون فيه الخمس، وأما ما كان من المسلمين فإنه لقطة يعرف سنة، ثم يكون لمن وجده.(513/19)
تراجم رجال إسناد حديث (العجماء جرحها جبار، والمعدن جبار، والبئر جبار، وفي الركاز الخمس)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد مر ذكره.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعا أبا هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.
[قال أبو داود: العجماء المنفلتة التي لا يكون معها أحد، وتكون بالنهار لا تكون بالليل].
أي: لو أنها دخلت بالنهار في مزرعة وأكلت منها فإنه لا يضمن صاحبها؛ لأن على أهل المزارع أن يحفظوها بالنهار.(513/20)
حكم النار تعدى(513/21)
شرح حديث (النار جبار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النار تعدى.
حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني حدثنا عبد الرزاق ح وحدثنا جعفر بن مسافر التنيسي حدثنا زيد بن المبارك حدثنا عبد الملك الصنعاني كلاهما عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (النار جبار)].
أورد أبو داود: باباً في النار تعدى، والمقصود من ذلك أن الإنسان لو أوقد في مكانه أو في أرضه ناراً ثم طار منها شرر إلى جهة أخرى، وحصل تلف شيء بسبب ذلك فإنه لا ضمان عليه؛ لأن هذا شيء لا يملكه الإنسان.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(النار جبار)] يعني: ما حصل بسبب انتقالها من مكان إلى مكان، فإنه لا ضمان على صاحب النار.(513/22)
تراجم رجال إسناد حديث (النار جبار)
قوله: [حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني].
محمد بن المتوكل العسقلاني صدوق له أوهام كثيرة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا جعفر بن مسافر التنيسي].
جعفر بن مسافر التنيسي صدوق ربما أخطأ، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا زيد بن المبارك].
زيد بن المبارك صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الملك الصنعاني].
عبد الملك الصنعاني لين الحديث، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن همام بن منبه].
همام بن منبه ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة قد مر ذكره.(513/23)
القصاص من السن(513/24)
شرح حديث (كسرت الربيع أخت أنس بن النضر ثنية امرأة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: القصاص من السن.
حدثنا مسدد حدثنا المعتمر عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: (كسرت الربيع أخت أنس بن النضر ثنية امرأة، فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقضى بكتاب الله القصاص، فقال أنس بن النضر، والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها اليوم، قال: يا أنس! كتاب الله القصاص، فرضوا بأرش أخذوه، فعجب نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره).
قال أبو داود: سمعت أحمد حنبل قيل له: كيف يقتص من السن؟ قال: تبرد].
قوله: [باب القصاص من السن].
يعني: السن بالسن، ومن حيث الدية فكما عرفنا أن كل سن من الأسنان فيها خمس من الإبل، ولكن إذا حصل التعمد وطلب أولياء المجني عليه القصاص فإنه يقتص من الجاني، وذلك بنزع سنه إذا كانت السن كلها نزعت، أو ببردها إذا كانت كسرت، حتى تكون مماثلة للسن التي جني عليها.
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك قال: (كسرت الربيع أخت أنس بن النضر ثنية امرأة فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقضى بكتاب الله القصاص) يعني: ما دام أنه حصل تعد فإن الحكم في ذلك القصاص.
قوله: [(فقال أنس بن النضر: والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها اليوم)].
وهذا حلف، وليس المقصود من ذلك الاعتراض على حكم الله، وإنما المقصود من ذلك أنه يريد أن يحصل التنازل، أو يحصل التعويض، ثم إن الله عز وجل سخر أولئك الذين جني عليهم فقبلوا الأرش ولم يصروا على القصاص، فعند ذلك عجب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) أي: أنه حلف وحقق الله حلفه ولم يحنث، بأن سخر الله أولئك وتنازلوا عن المقاصة وأخذوا الأرش، فعند ذلك قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) يعني: أبر يمينه فلم يحنث فيها.
[قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل قيل له: كيف يقتص من السن؟ قال: تبرد].
يعني: لأنه حصل فيها كسر، لأنه قال في الحديث: (كسرت)، ومعنى ذلك: أن أصلها موجود، أما لو أنها نزعت من أصلها فتنزع، وأما الكسر فالأصل موجود وإنما كسر طرفها، فالطريقة أنها تبرد حتى تكون مساوية لسن المجني عليه؛ لأن التماثل يحصل بهذا، وعند ذلك تكون المقاصة بخلاف لو ضربها فإنها قد تزيد.(513/25)
تراجم رجال إسناد حديث (كسرت الربيع أخت أنس بن النضر ثنية امرأة)
قوله: [حدثنا مسدد عن المعتمر].
مسدد مر ذكره، والمعتمر هو ابن سليمان بن طرخان التيمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد الطويل].
هو حميد بن أبي حميد الطويل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا الإسناد من الرباعيات، وهي أعلى الأسانيد عند أبي داود رحمه الله.
[قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل].
أحمد بن حنبل مر ذكره.(513/26)
الأسئلة(513/27)
حكم الإقسام على الله عندما يسأل العبد شيئاً من الأمور
السؤال
هل يجوز للمسلم أن يقسم على الله في سؤاله لشيء من الأمور؟
الجواب
ليس له ذلك، وإنما يسأل الله عز وجل ويلح في الدعاء بدون أن يقسم، ولكن هذا في أمور تتعلق بالناس.(513/28)
حكم من قتل عبد غيره
السؤال
إذا قتل شخص عبد غيره فماذا عليه؟
الجواب
معلوم أن قيمة العبد لازمة لسيده؛ لأنه مال، وإذا كان هذا القاتل معروفاً بالفساد، فإنه يقتل تعزيراً.(513/29)
حكم إطلاق عبارة إن المعروف عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجبروت والشدة والغلظة في دين الله
السؤال
هل تصح هذه العبارة: إن المعروف عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجبروت والشدة والغلظة في دين الله؟
الجواب
كلمة الجبروت هذه لا تصلح، وأما قضية الشدة والقوة في دين الله، لاشك أنه كان شديداً وقوياً في دين الله؛ ولهذا قال الرسول الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم له: (ما سلكت فجاً إلا وسلك الشيطان فجاً غير فجك) فهو معروف بقوته وشدته في الدين، وأبو بكر رضي الله عنه كان معروفاً بلينه وبسهولته، لكنه كان أشد من عمر فيما يتعلق بالمرتدين وفي مانعي الزكاة، وجاء عن ابن مسعود في الصحيح أنه قال: (ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر) وذلك لشدته وقوته، فكان قبل أن يسلم شديداً على المسلمين، وبعد أن دخل في الإسلام صارت شدته على الكافرين، أما كلمة جبروت أو جبار أو أي عبارة قد يفهم منها ما لا ينبغي، فالمطلوب هو سلامة القلوب والألسنة من كل ما لا يليق بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(513/30)
لزوم كفارة العتق أو الصيام على القاتل شبه العمد أو الخطأ دون القاتل عمداً
السؤال
هل على القاتل عمداً أو شبه عمد أو خطأ صيام شهرين متتابعين؟
الجواب
القاتل شبه عمد أو خطأ عليه صيام شهرين، أما القاتل عمداً فليس عليه الصيام؛ لأن ذنبه كبير لا يكفره أنه يصوم شهرين، أو أنه يعتق رقبة، وإنما هذه كفارة للخطأ وشبه العمد، وأما العمد فلا يغني فيه التكفير ولا تنفع فيه الكفارة.(513/31)
طلب الإجازة من الشيخ بتدريس سنن أبي داود من أحد الطلبة
السؤال
يقول أحد الإخوة: قد درسنا معكم خلال أربع سنوات هذا الكتاب، فهل تجيزونا في تدريسه في بلادنا؟
الجواب
والله أنا لا أستطيع أن أجيز كل من سمع وكل من حضر بأن يدرس السنن، ولكن الإنسان هو أدرى بنفسه وهو أعرف بنفسه، فإذا كان يرى من نفسه القوة، فإن له أن يدرس، لكن الأولى له أن يدرس الأمور السهلة واليسيرة ويبدأ بها، هذا إذا كان لم يدرس شيئاً في الحديث غير هذا الكتاب، فلا يذهب ليدرس هذا الكتاب رأساً، وإنما عليه أن يبدأ بالأمور اليسيرة والسهلة قبل ما هو أعلى منها مثل: الأربعين النووية، ومثل: عمدة الأحكام، وعمدة الأحكام كلها أحاديث صحيحة متفق عليها، وإن كان بعضها قد حصل شيء من الوهم للمقدسي رحمه الله فيقول: متفق عليه ويكون في أحد الصحيحين وليس فيهما جميعاً.
إذاً: الإنسان يتقي الله ما استطاع وينفع ما استطاع، ولكن لا يقدم على شيء لا يجيده ولا يتمكن من إعطائه ما يستحق.(513/32)
نصيحة لطلاب العلم باستغلال العطلة الصيفية في الدعوة إلى الله
السؤال
قد أزف وقت الترحال إلى أوطاننا وأنا كلما أردت السفر وضعت لنفسي خطة دعوية وإرشادية أسير عليها في العطلة، ولكن العزائم تضعف بعد السفر وأنشغل بالدنيا، ولا أستطيع أن أؤدي واجبي على ما يرام، وأظن أنني لست وحيداً في هذا الأمر، فقد يشاركني غيري من الزملاء في هذا الشعور، فهل من نصيحة لأمثالي تقوي عزائمنا، ونستطيع إرشاد الأمة في مثل هذا الوقت الذي تحتاج فيه الأمة إلى دعاة ناجحين؟
الجواب
على الإنسان الذي وفقه الله لطلب العلم ودرس مدة من الزمان في تحصيل العلم، أن يبلغ وأن يدعو إلى الله عز وجل، وأن يبصر غيره، وأن يكون هو قبل ذلك عاملاً بعلمه، ثم قبل هذا كله أن يكون صادقاً في دعوته ومخلصا ًلله في قصده، حتى يحصل الأجر والثواب من الله عز وجل، وحتى يكون لدعوته فائدة، ويكون لها ثمرة، ثم عليه أن يحفظ وقته، وأن يقسمه -إذا كان محتاجاً إلى العمل من أجل كسب الرزق- بين الدعوة والتدريس وبين طلب الرزق، فعليه أن يخصص شيئاً من الوقت في هذه المهمة، ويخصص للدعوة أوقاتاً أخرى، وبذلك يكون الإنسان قد جمع بين ما يحتاج إليه وما تتطلبه ظروفه المعيشية من تحصيل القوت الذي يستغني به عن الناس ولا يشغل باله فيه، وفي نفس الوقت يخصص أوقاتاً أخرى للدعوة والتوجيه والإرشاد، ومعلوم أن الإنسان إذا كان ذا همة عالية فإنه ينتهز الفرص ويغتنم الأوقات، وإما أن تكون هناك جهات تجمع الناس ويقوم بتوجيههم وإرشادهم كالمدارس، أو أنه يحرص على أن يتكلم في المساجد بعد الصلوات بكلمات مفيدة بصفة مستمرة، بحيث تكون الكلمات قصيرة ولكنها نافعة، فهذا أمر طيب.
إذاً: المسألة تتوقف على قوة العزيمة والصدق والهمة العالية، وإلا فإن الإنسان إذا أرخى لنفسه العنان، ثم بدأ حياته بعد الدراسة بالكسل والخمول، فإنه يستمر على كسله وخموله، ولا تلبث معلوماته التي حصلها فيما مضى أن تتلاشى وتضمحل، ولكنه حين يكون مشتغلاً بالعلم تعلماً ومذاكرة واطلاعاً وتدريساً ودعوة وإرشاداً، فإن هذا هو الذي يبقي على علمه، ويزيد في علمه وفي معلوماته، وفي نفس الوقت ينفع نفسه وينفع غيره، فيكون مفيداً مستفيداً وراشداً مرشداً وهادياً مهدياً، المهم في الأمر قوة العزيمة والهمة العالية، وأسأل الله عز وجل أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يجعلنا جميعاً هداة مهتدين إنه سبحانه وتعالى جواد كريم.(513/33)
شرح سنن أبي داود [514]
إن الاختلاف والفرقة سنة من سنن الله التي قدرها على عباده، وكما افترقت الأمم السابقة إلى طوائف شتى فإن هذه الأمة ستفترق كذلك إلى طوائف وفرق، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الفرق كلها في النار غير فرقة واحدة، فإنها تبقى متمسكة بطريقته صلى الله عليه وسلم بسنن أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين.(514/1)
شرح السنة(514/2)
الفرق بين منهج المتقدمين والمتأخرين في التصنيف في مباحث العقيدة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب شرح السنة.
حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [كتاب السنة]، وهذا الكتاب من جملة كتب كتاب السنن لـ أبي داود، وهو يتعلق بمباحث العقيدة، ولفظ السنة يأتي عند السلف والمراد به ما يتعلق بالعقيدة، ولهذا نجد أن الكتب التي أفردت بهذا الاسم هي من كتب العقيدة، وغير أبي داود أفرد مباحث العقيدة بكتب، فمنها ما جاء بهذه التسمية وهو: كتاب السنة، وأما أبو داود رحمه الله فقد جعل هذا الكتاب ضمن كتابه السنن، فهو من جنس كتاب التوحيد عند الإمام البخاري، وكتاب الإيمان عند الإمام البخاري أيضاً، أي: أن الكتاب الجامع يشتمل على كتب في العقيدة: ككتاب الإيمان، وكتاب السنة، وكتاب التوحيد وغير ذلك من الكتب التي هي ضمن الكتب الجامعة.
ومن المعلوم أن التأليف في العقيدة له حالتان أو طريقتان: إحداهما طريقة المتقدمين، وهي أنهم يذكرون الأحاديث والآثار بالأسانيد، ويخصصون كتباً للعقيدة باسم السنة، أو باسم الإيمان، أو باسم الرد على الجهمية أو غير ذلك، ومن العلماء من يجعل في المؤلفات الجامعة العامة كتباً تشتمل على مباحث العقيدة، كما فعل أبو داود رحمه الله في هذا الكتاب، فقد ذكر كتاب السنة ضمن كتابه: (السنن).
وأما الطريقة الثانية فهي طريقة المتأخرين، فتجدهم يأتون إلى مباحث العقيدة فيذكرون في كل مبحث ما ورد فيه من الآيات والأحاديث، لكنهم لا يسندون ذلك، بل يعزون ذلك إلى الكتب المسندة، فيقولون مثلاً: روى البخاري في صحيحه كذا، وروى أبو داود في سننه كذا، وروى ابن ماجة في سننه كذا، دون أن يذكروا أسانيدهم بذلك، وإنما يذكر الكتب التي خرجت تلك الأحاديث، وكذلك يذكرون الآثار والرد على المخالفين.
ويأتي ضمن تأليفات المتقدمين أسماء عامة يدخل تحتها مسميات كثيرة، فمثل لفظ السنة جاء فيه مؤلفات عديدة، منها ما هو موجود ومنها ما ليس موجوداً، بل فُقد ولم يظفر منه على شيء، ومثال الكتب المؤلفة في السنة: كتاب السنة لـ ابن أبي عاصم، والسنة للطبراني، والسنة للالكائي، والسنة لـ محمد بن نصر المروزي، وكتب كثيرة بهذا اللفظ، ومنها ما هو باسم الإيمان، ومنها ما هو باسم الرد على الجهمية، وأما المتأخرون -فكما قلت- فإنهم يذكرون الآيات والأحاديث والآثار، ويردون على المخالفين في كل موضوع من الموضوعات، وذلك مثل شرح العقيدة الطحاوية، ومثل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية كمنهاج السنة، والعقيدة الواسطية والتدمرية والحموية، وغير ذلك من الكتب، ومثل كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ككتاب التوحيد وغيرها من الكتب.(514/3)
المعاني المرادة من إطلاق لفظ السنة
ولفظ السنة يطلق على أربعة معانٍ، أعمها وأشملها: أن السنة تطلق ويراد بها ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي، سواء كان كتاباً أو سنة، والمراد بالسنة هنا الطريقة، أي: طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به، ومن أمثلة ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن رغب عن سنتي فليس مني) أي: طريقته ومنهجه ودينه الذي جاء به عليه الصلاة والسلام؛ فالقرآن من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والحديث من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل ما جاء به الرسول من الوحي فهو داخل في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمعنى العام، فمن رغب عن سنتي التي جئت بها -سواء كانت في القرآن أو في السنة- فليس مني.
والمعنى الثاني: أن تأتي بمعنى الحديث، أي: خصوص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمحدثون والفقهاء عندما يأتون إلى الاستدلال على مسائل فإنهم يقولون: وهذه المسألة دل عليها الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، فالمراد بالسنة هنا الحديث؛ لأنها عطفت على الكتاب، فيراد بها خصوص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا ذكروها إجمالاً عادوا إليها تفصيلاً، فقالوا: فأما الكتاب فيقول الله عز وجل كذا وكذا، وأما السنة فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا، وأما الإجماع فقد حكى فلان الإجماع على كذا، وأما المعقول فإن القياس والعقل يدل على كذا وكذا مما هو مطابق للنقل، لذلك تطلق السنة على الحديث، فيقال: حديث ويقال: سنة، فهما بمعنى واحد، والحديث هو ما أضيف إلى النبي عليه الصلاة والسلام من قول، أو فعل، أو تقرير، أو وصف خَلقي أو خُلقي، وهذه هي السنة.
المعنى الثالث: أن يؤتى بالسنة في مقابل بدعة، ومنه ما نحن فيه هنا، فإن قوله: كتاب السنة، أي: ما يعتقد طبقاً للسنة، ومخالفاً ما هو مبتدع، وكذلك قولهم: فلان من أهل السنة، أي: ممن هو على عقيدة سليمة وصحيحة، ويقال: هذا سني وذاك بدعي، أي: إذا كان هذا من أهل السنة وذاك من أهل البدع.
والمعنى الرابع: أن يراد بالسنة: المندوب والمستحب في اصطلاح الفقهاء، أي: أنها مترادفات عندهم، لذلك فالفقهاء يقسمون الأحكام إلى خمسة أقسام، وهي: واجب ومندوب ومحرم ومكروه ومباح، فما أمر به على سبيل الإلزام يقال له: واجب، وهو الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وما أمر به ليس على سبيل الإلزام يقال: مندوب ومستحب، وهذا هو الذي يقال له في اصطلاح الفقهاء: سنة، فإذا جاء في كتب الفقهاء يسن كذا، أو يستحب كذا، أو يندب كذا، أو هذا سنة، أو هذا مندوب، أو هذا مستحب، فإنه يقصد بذلك ما كان الأمر فيه ليس على سبيل الإلزام.(514/4)
شرح حديث (افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة)
وأورد أبو داود رحمه الله باب: شرح السنة، والمقصود بذلك بيان وإيضاح المراد بالسنة، وقد جاء في حديث معاوية بيان أن المقصود بالفرقة الناجية التي هي واحدة من ثلاث وسبعين فرقة، والتي هي في الجنة، أنها الجماعة، وهم الذين كانوا على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فالمقصود بقوله: شرح السنة، أي: بيان وتوضيح السنة.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة)، وهذا الحديث يدل على حصول الافتراق في الأمم السابقة من اليهود والنصاري، وأنهم فرق شتى، ونحل متعددة، وأن هذه الأمة سيحصل لها مثل ما حصل لهم، وأنها ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، فرقة واحدة في الجنة، واثنتان وسبعون في النار، أي: أنها مستحقة لدخول النار، وهذا الحديث فيه الإخبار عن أمور مغيبة، ففيه الإخبار عن أمور مضت، وأمور مستقبلة، فالأمور التي مضت هي افتراق اليهود والنصارى إلى هذه الفرق الكثيرة، والأمر المستقبلي هو افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، ولا ينجو منها إلا فرقة واحدة، وهذه هي الفرقة الناجية، وهي الجماعة، أي: جماعة المسلمين الذين كانوا على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهجه وطريقته، واثنتان وسبعون فرقة مخالفة لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم ليسوا كفاراً، بل هم مسلمون، ولكنهم مستحقون للعذاب، وأمرهم إلى الله عز وجل، فمن شاء أدخله النار، ولكنه لابد أن يخرج منها؛ لأنه لا يبقى فيها أبد الآباد إلا الكفار، ومن شاء الله تعالى أن يعفو عنه عفا عنه وأدخله الجنة ولم يدخل النار، ومن دخلها فإنه لابد وأن يخرج منها، وهذه الفرق هي من أمة الإجابة، فهم مسلمون، ولكن عندهم بدع وأهواء ومخالفات، فهم يستحقون بسببها النار كما ذكرنا سابقاً، ولا يسلم من عذاب الله ويدخل الجنة من أول وهلة إلا فرقة واحدة وهم الجماعة، وهم الذين كانوا على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وهذا الحديث من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، فإن فيه إخباراً عن أمور ماضية وعن أمور مستقبلة، وقد وقعت تلك الأمور المستقبلة، طبقاً لما أخبر به صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فهو من الأحاديث المشتملة على علامة من علامات نبوته وهو الإخبار عن أمر مغيب.
قوله: [(وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة)]، المراد بذلك أمة الإجابة؛ لأن أمة الإجابة هم المسلمون الذين دخلوا في الإسلام، وفيهم من هو سالم من البدع، وفيهم من هو واقع في البدع، والأكثرون هم الواقعون في البدع، وهم مستحقون للنار، وأمرهم إلى الله عز وجل، وأمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أمتان: أمة دعوة، وأمة إجابة، فأمة الدعوة هم الإنس والجن، وذلك من حين بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، أي: أن الدعوة موجهة إليهم، فهم مكلفون ومطالبون بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن دخل في دينه، وآمن به، واتبع ما جاء به فقد سلم، ومن أعرض ولم يدخل فيما جاء به من الدين الحنيف فإنه يكون كافراً، ومآله إلى النار، ولو كان تابعاً لنبي من الأنبياء السابقين؛ لأنه ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم خُتمت الرسالات، وتعين على كل من جاء بعد بعثة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أن يدخل في دينه، وإلا فليس أمامه إلا النار، ويكون كافراً من الكفار؛ ولهذا جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار)، فقوله في هذه الحديث: (لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصران) المراد به أمة الدعوة؛ لأنه ذكر اليهود والنصارى فيها، واليهود والنصارى هم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم مدعوون ومطالبون بالدخول في دينه، ومن أبى ولم يدخل في دينه فهو كافر، وليس له إلا النار خالداً مخلداً فيها أبد الآباد ولا ينفعه أن يقول: إنه تابع لموسى إذا كان يهودياً، أو إنه تابع لعيسى إذا كان نصرانياً؛ لأن تلك الرسالات قد انتهت ونسخت ببعثة نبينا محمد عليه الصلا والسلام، فشريعته ناسخة لجميع الشرائع، ولا يقبل الله من أحد ديناً سوى الدين الذي جاء به الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، نعم ينفعهم قبل أن يبعث النبي عليه الصلاة والسلام أن يتبعوا موسى ويسيروا على طريقته، أو أن يتبعوا ما جاء به عيسى، فهم على حق في ذلك الوقت، وأما بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا ينفع أحداً أن يدعي أنه تابع لموسى أو عيسى، بل لا بد أن يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم وإلا كان كافراً ليس أمامه إلا النار.
وعلى هذا فالأمة أمتان كما ذكرنا سابقاً: أمة دعوة، وأمة إجابة، فأمة الدعوة هي التي جاء ذكرها في حديث: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة)، وأما أمة الإجابة فهي التي ذكرت في حديثنا هنا، وهو (إن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة: اثنتان وسبعون فرقة في النار، وواحدة في الجنة).
وقد جمع الله عز وجل بين الأمتين، وبين أن الدعوة موجهة إليهم على سبيل العموم، وبين من كان موفقاً للدخول في الإسلام، وذلك في قوله: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25]، فقوله: (والله يدعوا إلى دار السلام) فيه حذف المفعول، أي: فكل الناس مدعوون إلى دار السلام، فليس هناك تفريق بين الناس في ذلك؛ ولهذا أثبت الله لنبيه صلى الله عليه الهداية العامة، وهي: هداية الدلالة والإرشاد فقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، فالرسول صلى الله عليه وسلم دل وأرشد إلى الطريق المستقيم، وأوضح ذلك الطريق غاية الإيضاح؛ حتى يوصل إلى الله عز وجل، فمن أخذ به سلم، ومن أعرض عنه خسر، وهذا الإرشاد والبيان موجه إلى كل أحد من أمة الدعوة، ثم قال: ((وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ))، وهؤلاء هم الذين وفقوا للدخول في الإسلام، وهداهم الله إلى الصراط المستقيم، ((وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) منهم من هو على الجادة المستقيمة، ومنهم من عنده خلل، ولكنهم كلهم لا يخلد أحدٌ منهم في النار، وهذا قد بيناه سابقاً.(514/5)
تراجم رجال إسناد حديث (افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة)
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
هو وهب بن بقية الواسطي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن خالد].
هو خالد بن عبد الله الطحان الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عمرو].
هو محمد بن عمرو بن وقاص الليثي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو أكثرهم حديثاً على الإطلاق، رضي الله عنه وأرضاه.(514/6)
شرح حديث (ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى قالا: حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان ح وحدثنا عمرو بن عثمان حدثنا بقية قال: حدثني صفوان نحوه، قال: حدثني أزهر بن عبد الله الحرازي عن أبي عامر الهوزني عن معاوية بن أبي سفيان أنه قام فينا فقال: (ألا إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام فينا فقال: ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة).
زاد ابن يحيى وعمرو في حديثيهما: (وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه، -وقال عمرو: الكلب بصاحبه- لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)].
أورد أبو داود حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه في افتراق الأمم السابقة على اثنتين وسبعين، وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين، وأن اثنتين وسبعين منها في النار، وواحدة في الجنة، وأن هذه الواحدة التي في الجنة هي الجماعة، أي: الذين كانوا على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما جاء تفسير ذلك في بعض الروايات بقوله: (هم من كانوا على ما أنا عليه وأصحابي)، والحديث دال على ما دل عليه حديث أبي هريرة من افتراق الأمم السابقة، واللفظ الذي ذكره هو الذي جاء في بعض الأحاديث عن النصارى، وأنهم انقسموا على اثنتين وسبعين فرقة، وهذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وهو مطابق لما جاء في حديث أبي هريرة المتقدم من انقسام هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، وأن اثتنين وسبعين فرقة في النار، وواحدة في الجنة، ولكن -كما قلت- هذه الأمة هي أمة الإجابة، وهذه الفرق كلها من المسلمين، ولكن أكثرهم على انحراف عن الجادة، ومستحقون للنار، وأمرهم إلى الله عز وجل، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة، أو هم من كان على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
قوله: [(وأنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحب)]، أي: أنه يخرج أقوام وهم من هذه الفرق الثنتين وسبعين التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنهم في النار، تتجارى فيهم الأهواء، والأهواء هي: البدع التي يتبع فيها الهوى ولا تتبع فيها السنة فيكون عندهم انحراف، مع كونهم مسلمين، (تتجارى بهم الأهواء) أي: أن الأهواء توجد فيهم، وتتمكن من عقولهم (كما يتجارى الكلب بصاحبه)، والكلب: هو الداء الذي يحصل من الكلب الذي أصيب بداء الكلب، فإذا عضّ أحداً فإنه يحصل لذلك المعضوض بسبب هذه العضة ضرر وألم يصل إلى جميع جسده، ولا يبقى منه مفصل أو عرق إلا دخله.(514/7)
تراجم رجال إسناد حديث (ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، الإمام المحديث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ومحمد بن يحيى].
هو محمد بن يحيى الذهلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[قالا: حدثنا أبو المغيرة].
أبو المغيرة هو عبد القدوس بن حجاج، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا صفوان].
هو صفوان بن عمرو، وهو ثقة، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأصحاب السنن.
[ح وحدثنا عمرو بن عثمان].
هو عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي، وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا بقية].
هو بقية بن الوليد، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني صفوان].
صفوان هو ابن عمرو الذي مر ذكره.
[نحوه].
أي: أن السياق كان على الإسناد الأول، وأما السياق الثاني فهو على نحو السياق الأول.
[حدثني أزهر بن عبد الله الحرازي].
أزهر بن عبد الله الحرازي صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبي عامر الهوزني].
أبو عامر الهوزني هو عبد الله بن لحي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن معاوية بن أبي سفيان].
معاوية بن أبي سفيان، أمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
قوله: [(وهي الجماعة)]، أي: الذين كانوا على السنة؛ ولهذا يأتي في الكتب التي أُلفت في عقيدة أهل السنة والجماعة: هم جماعة المسلمين الذين هم على الحق، وعلى منهاج النبوة، وعلى ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان، فهؤلاء هم الجماعة، وقد جاء تفسيرها في بعض الأحاديث (هم من كان على ما أنا عليه وأصحابي) بدل ذكر الجماعة.
قوله: [زاد ابن يحيى وعمرو في حديثيهما].
ابن يحيى هو محمد بن يحيى الذهلي الذي جاء في الإسناد الأول، وعمرو هو الذي جاء في الإسناد الثاني.
[زاد في حديثيهما: (وإنه سيخرج من أمتي أقوام)].
أي: أن هذه الزيادة ليست عند الإمام أحمد، وإنما هي عند محمد بن يحيى الذهلي وعمرو بن عثمان.
قوله: [(كما يتجارى الكلب لصاحبه - وقال عمرو -الكلب بصاحبه)]، أي: أن محمد بن يحيى قال: لصاحبه، والثاني قال: بصاحبه.(514/8)
النهي عن الجدال واتباع المتشابه من القرآن(514/9)
شرح حديث (فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب النهي عن الجدال واتباع المتشابه من القرآن.
حدثنا القعنبي حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري عن عبد الله بن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة أنها قالت: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذه الآية: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ)) [آل عمران7] إلى ((أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) [آل عمران7]، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)].
أورد أبو داود باب النهي عن الجدال واتباع المتشابه من القرآن، والمراد: الجدال في القرآن بالباطل وبغير حق، وكذلك اتباع المتشابه من القرآن، وهو الذي يكون في دلالته خفاء، والقرآن فيه محكم ومتشابه، فالمحكم دلالته واضحة جلية لا خفاء فيها، والمتشابه هو الذي دلالته غير واضحة، وطريقة أهل السنة والجماعة في ذلك أنهم يردون المتشابه إلى المحكم، وأما طريقة أهل الأهواء فإنهم يتركون المحكم ويصيرون إلى المتشابه؛ ولهذا جاء في هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)، أي الذين يتبعون المتشابه، ولا يردونه إلى المحكم، ولو ردوه إلى المحكم لاتضح وتبين، ولكنهم يأخذون بالمتشابه ويفسرونه بما يريدون من الاحتمالات، فأولئك هم الذين ذمهم الله عز وجل، ولهذا قال: (فاحذروهم) أي: الذين هذا شأنهم.
وقد وصف القرآن بأنه كله محكم، ووصف بأنه كله متشابه، ووصف بأن منه المحكم ومنه المتشابه، فهناك إحكام عام، وهناك إحكام خاص، وهناك محكم ومتشابه متقابلان، ويفسر كل واحد منهما بمعنى، فمعنى كون القرآن محكماً أي: أنه في غاية الإتقان والإحكام، وهذا هو الإحكام العام، ومعنى كونه متشابهاً، أي: يشبه بعضه بعضاً في الحسن والإتقان، وقد جاء الإحكام العام في أول سورة هود في قوله: ((كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)) [هود:1]، وجاء التشابه العام في قوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23]، وأما آية آل عمران فقسمته إلى محكم ومتشابه، فالمحكم هو: الواضح الجلي، والمتشابه هو: الذي في دلالته خفاء ويحتمل احتمالات.(514/10)
تراجم رجال إسناد حديث (فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)
قوله: [حدثنا القعنبي].
القعنبي هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري].
يزيد بن إبراهيم التستري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن أبي مليكة].
هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن القاسم بن محمد].
هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وهو ثقة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(514/11)
مجانبة أهل الأهواء وبغضهم(514/12)
شرح حديث (أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب مجانبة أهل الأهواء وبغضهم.
حدثنا مسدد حدثنا خالد بن عبد الله حدثنا يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن رجل عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله)].
أورد أبو داود باب مجانبة أهل الأهواء وبغضهم، ومجانبة أهل الأهواء تعني البعد عنهم، وعدم مخالطتهم، وبغضهم يكون من أجل الله، ومن أجل ما هم عليه من الأهواء، ومن أجل مخالفتهم للسنة، وارتكابهم للبدع، فهم يُبغضون من أجل ذلك، ويبتعد عنهم، وهذا هو معنى المجانبة، أي: أن يكون المرء في جانب وهم في جانب حتى يسلم من بدعهم وبلائهم، وهو مع كونه يجانبهم ويبتعد عنهم فإنه يبغضهم؛ لأن من شأن المسلم أن يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويحب من يحبه الله ورسوله، ويحب ما يحبه الله ورسوله، ويبغض من يبغضه الله ورسوله، وما يبغضه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاء في الحديث (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله -أي: أن الحب يكون في الله ومن أجل الله- وأن يكره أن يعود للكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، وهذه الثلاث الخصال من وجدت فيه ذاق طعم الإيمان، وهذا يطابق ما نحن فيه من جهة أنه يبغض أهل الأهواء والبدع من أجل الله؛ لأنهم انحرفوا عن الجادة، وخرجوا عن الصراط المستقيم، وتركوا المنهج القويم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخروج منه قد يوصل إلى حد الكفر، فتكون تلك البدعة مكفرة، ويكون صاحبها كافراً وحكمه حكم الكفار، ومنها ما تكون بدعة مفسقة وليست مكفرة، وهذا هو الذي تدخل فيه الفرق التي مر ذكرها، وهم أمة الإجابة، وأما من كانت بدعته مكفرة فهذا ليس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم -أمة الإجابة-، وإنما هو من الكفار الذين مآلهم إلى النار، ويبقون فيها أبد الآباد إلى غير نهاية.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله)، وهذا الحديث ورد بهذا الإسناد وهو ضعيف، ولكنه ثابت بلفظ: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)، والحديث الذي أشرت إليه سابقاً، وهو: (أن يحب المرء لا يحبه إلا لله)، وأن من كان كذلك فقد ذاق حلاوة وطعم الإيمان؛ لأنه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويحب من يحبه الله ورسوله عليه الصلاة والسلام من الأشخاص، ويحب ما يحبه الله ورسوله من الأقوال والأعمال، فهو يحب في الله، ومن أجل الله.(514/13)
تراجم رجال إسناد حديث (أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا خالد بن عبد الله].
هو خالد بن عبد الله الطحان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يزيد بن أبي زياد].
يزيد بن أبي زياد ضعيف، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن مجاهد].
هو مجاهد بن جبر المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رجل عن أبي ذر].
رجل هنا مبهم، وأبو ذر جندب بن جنادة رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث في إسناده رجل ضعيف، ورجل مبهم.(514/14)
شرح حديث (نهي النبي عن كلام الثلاثة الذين خلفوا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب وأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك -وكان قائد كعب من بنيه حين عمي- قال: (سمعت كعب بن مالك وذكر ابن السرح قصة تخلفه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة، حتى إذا طال عليَّ تسورت جدار حائط أبي قتادة -وهو ابن عمي-، فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام! ثم ساق خبر تنزيل توبته)].
ذكر حديث كعب بن مالك رضي الله عنه المتعلق بتخلفه عن غزوة تبوك، وقد استنفر الرسول صلى الله عليه وسلم الناس، وأمرهم بالخروج، على ألا يتخلف إلا معذور، وقد تخلف هؤلاء الثلاثة وهم غير معذورين، فهجرهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر الناس بعدم مخاطبتهم، فحصل لهم ما حصل، ومكثوا على تلك الحال خمسين يوماً، ثم أنزل الله توبته عليهم، ومحل الشاهد من هذا الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تركهم خمسين ليلة، وأمر الصحابة بهجرهم وتركهم وعدم مخاطبتهم، حتى كانوا لا يردون عليهم السلام، وذلك للمعصية التي وقعوا فيها، وهي: تخلفهم عن غزوة تبوك بغير عذر، ولكنهم كانوا أهل صدق، فنجاهم الله تعالى بصدقهم، ولما أنزل الله توبته عليهم عاد حالهم إلى ما كانوا عليه من قبل، فالتوبة تجب ما قبلها، وأنزل الله تعالى فيهم قرآناً يتلى في سورة التوبة وهو قوله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118]، فتاب الله عليهم ونجاهم بصدقهم، ولهذا فـ كعب بن مالك رضي الله عنه لما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: لماذا تخلفت؟ قال مقالة عظيمة وهي: إنني قد أوتيت جدلاً، ولو كنت مع أحد غيرك من أهل الدنيا لأمكنني أن أتخلص منه، ولكن أما أنت فلو حدثتك بشيء خلاف الواقع فإن الوحي سينزل بتكذيبي، وإنني لا أكلمك إلا بالصدق، فكلمه بالصدق، وأخبره بالذي قد حصل، وأنه لم يكن له عذر، وأنه حصل منه التسويف والتأخر حتى حصل ما حصل، وقدر الله وما شاء فعل.
وتركهم الرسول صلى الله عليه وسلم مدة خمسين ليلة، وهذا يدل على أن هجر المبتدع لا يتقيد ولا يتحدد بوقت، وأما الحديث الذي جاء فيه النهي عن الهجر فوق ثلاث فإنما هو لأمور الدنيا وليس من أجل الدين، وأما إذا كان من أجل الدين فإنه يستمر حتى تحصل المنفعة والفائدة من ورائه إذا كان يترتب على ذلك فائدة.
يقول الخطابي رحمه الله: وفيه دلالة على أنه لا يحرج المرء بترك رد سلام أهل الأهواء والبدع.
أقول: ولا يصير رد السلام في هذه الحالة واجباً، فقد جاء في حديث كعب بن مالك أنه كان يسلم ولا يردون عليه السلام، كما في هذا الحديث الذي معنا، فقد ذكر أنه تسلق على حائط أبي قتادة الأنصاري -وهو ابن عمه- فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، وكذلك جاء عنه في الحديث الطويل أنه كان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم عليه، فينظر إلى شفتيه هل حركهما أو لم يحركهما.
وفيه دليل أيضاً على أن من حلف على ألا يكلم رجلاً فسلم عليه، أو رد عليه السلام كان حانثاً؛ لأن هذا كلام، فتلزمه الكفارة.(514/15)
تراجم رجال إسناد حديث (نهي النبي عن كلام الثلاثة الذين خلفوا)
قوله: [حدثنا ابن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح المصري، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أخبرنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك].
عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن عبد الله بن كعب بن مالك].
عبد الله بن كعب بن مالك ثقة، وقيل: له رؤية، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن كعب بن مالك].
كعب بن مالك رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(514/16)
ترك السلام على أهل الأهواء(514/17)
شرح حديث امتناع النبي عن رد السلام على عمار لتخلقه بالزعفران
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ترك السلام على أهل الأهواء.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا عطاء الخراساني عن يحيى بن يعمر عن عمار بن ياسر قال: (قدمت على أهلي وقد تشققت يداي، فخلقوني بزعفران، فغدوت على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسلمت عليه فلم يرد علي، وقال: اذهب فاغسل هذا عنك)].
أورد أبو داود باب ترك السلام على أهل الأهواء، والمقصود من ذلك هو التأديب لهم، وهذا فيه مصلحة وفائدة لهم؛ لأن المقصود من وراء ذلك هو الإصلاح والإحسان إليهم حتى ينزجروا ويرتدعوا.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه، قال: (قدمت على أهلي وقد تشققت يداي، فخلقوني بزعفران) أي: دهنوا يديه المشققتين بالزعفران، وكأن المقصود من ذلك هو التداوي؛ لأنه دواء لتتشقق اليدين، فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فلم يرد عليه السلام وقال: (اذهب فاغسل هذا عنك)، فالإنسان لا يستعمل الزعفران لا في جسده ولا في ثيابه.(514/18)
تراجم رجال إسناد حديث امتناع النبي عن رد السلام على عمار لتخلقه بالزعفران
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرني عطاء الخراساني].
هو عطاء بن أبي مسلم الخراساني، وهو صدوق يهم كثيراً، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن يحيى بن يعمر].
يحيى بن يعمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمار بن ياسر].
عمار بن ياسر رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(514/19)
شرح حديث هجر النبي لزينب بسبب سبها صفية بنت حيي
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت البناني عن سمية عن عائشة: (أنه اعتل بعير لـ صفية بنت حيي، وعند زينب فضل ظهر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لـ زينب: أعطيها بعيراً، فقالت: أنا أعطي تلك اليهودية! فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهجرها ذا الحجة والمحرم وبعض صفر)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: (إنه اعتل بعير لـ صفية بنت حيي) أي: أصابه علة، فصار لا يحمل عليه ولا يركب، (وكان عند زينب فضل ظهر) أي: عندها زيادة في الإبل، (فأمرها أن تعطيها بعيراً، فقالت: أنا أعطي هذه اليودية، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهجرها ذا الحجة ومحرم وبعض صفر) وهذا الحديث في إسناده سمية الراوية عن عائشة، وهي هنا غير منسوبة، وقد قال عنها الحافظ في (التقريب): إنها مقبولة، أي: أنه يحتج بحديثها حيث يعتضد، وقد ضعف هذا الحديث بسببها.(514/20)
تراجم رجال إسناد حديث هجر النبي لزينب بسبب سبها صفية بنت حيي
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت البناني] ثابت بن أسلم البناني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سمية].
سمية مقبولة، أخرج لها أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقد مر ذكرها.(514/21)
النهي عن الجدال في القرآن(514/22)
شرح حديث (المراء في القرآن كفر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب النهي عن الجدال في القرآن.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يزيد -يعني ابن هارون - أخبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (المراء في القرآن كفر)].
أورد المصنف هذه الترجمة وهي قوله: [باب النهي عن الجدال في القرآن]، أي: بالباطل، وأما البحث عما جاء في القرآن من المعاني والحكم والأسرار، وفهم معانيه على مقتضى اللغة، وعلى ما جاء عن الصحابة والتابعين، فهذا أمر مطلوب، وأما الجدال الذي يكون بالباطل، والذي يكون بغير حق، والذي يترتب عليه ضرر وفتن، والذي يترتب عليه ضلال وتنافر بين الناس فهو منهي عنه.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (المراء في القرآن كفر)، والمراء هو الجدال، والمقصود من ذلك المراء الذي يكون بالباطل، والذي يكون بضرب القرآن بعضه ببعض، بحيث يشكك فيه، أو يؤتى فيه بأمور غير سائغة تصرف الناس عن القرآن، فلا شك أن هذا كفر بالله عز وجل، وهو مخرج من الملة.(514/23)
تراجم رجال إسناد حديث (المراء في القرآن كفر)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يزيد -يعني ابن هارون -].
أحمد بن حنبل مر ذكره.
ويزيد بن هارون الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة].
محمد بن عمرو بن وقاص الليثي، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وأبو هريرة، مر ذكر ثلاثتهم في إسناد سابق.(514/24)
الأسئلة(514/25)
حكم استعمال الرجال للحناء
السؤال
ما حكم استخدام الزعفران والحناء للرجال للعلاج، وذلك في اليدين أو في الرجلين؟
الجواب
استعمال الحناء للرجال في حالة العلاج لا بأس به، وأما استعماله للزينة فلا يجوز، وإنما هو للنساء فقط؛ فهن اللاتي يتزين بالحناء، وأما الرجال فلا يتجملون بالحناء.(514/26)
البدعة أخطر من المعصية
السؤال
الأحاديث التي جاءت في الهجر وترك السلام هي فيمن وقع في معصية، فهل تقاس المعصية على البدعة؟
الجواب
نعم، فالترجمة هي في الأهواء والبدع، وإن كانت الأحاديث التي جاءت هي في المعاصي، إلا أن الحكم واحد؛ لأن هذا كله فيه مخالفة للسنة، إلا أن هذا يتعلق بالاعتقاد، وهذا يتعلق بالعمل، ومعلوم أن البدع أعظم وأخطر من المعاصي، وهي أيضاً أضر من المعاصي، وذلك أن صاحب المعصية يعرف أنه عاص، فهو يشعر بذنبه ويخاف منه، بخلاف المبتدع فإنه يرى أنه على حق، فيموت وهو على بدعته، ولهذا جاء في الحديث: (إن الله حجب التوبة عن صاحب بدعة حتى يتوب عن بدعته)، فلكونه يظن أنه على حق لا يحصل منه توبة، بخلاف العاصي فإنه يعرف أنه عاص، ويعرف أن فعله محرم فيتوب منه.(514/27)
حكم مدح أهل الأهواء
السؤال
ما حكم من يمدح أهل الأهواء؟
الجواب
إذا كان يمدحهم من أجل بدعهم فهو مدح للباطل -والعياذ بالله-، وأما إذا مدحهم لأمر هو موجود فيهم من صفات حميدة مثلاً فهذا أمره هين، ولكن لا ينبغي أن يمدح أهل البدع؛ لأنه بوجود هذا المدح قد يظنون أن أمرهم هين، وأن بدعهم هينة، وإن كان مدحهم على أمر موجود فيهم كالفصاحة أو البلاغة أو ما إلى ذلك، فعليه بالمقابل أن يحذر من بدعتهم، وهذا مثل ما ذكروا عن واصل بن عطاء المعتزلي، فقد كان فصيحاً بليغاً، وكانت عنده لثغة بالراء، لذلك كان يتجنب النطق بالراء، فكان يأتي بالقصيدة خالية من حرف الراء؛ وذلك لقدرته على صياغة الكلام.(514/28)
حديث كعب وعمار في الأبواب المتعلقة بأهل الأهواء
السؤال
الإمام أبو داود ترجم بقوله: مجانبة أهل الأهواء، ثم ذكر حديث كعب، وكذا عنون بترك السلام على أهل الأهواء، وذكر حديث عمار بن ياسر، فقد يفهم من ذلك إنزال لفظ الأهواء على الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وحاشاهم من كل لفظ سيئ؟
الجواب
لا ينزل هذا عليهم، وهذه الأمور التي حصلت منهم إنما هي معاص، والترجمة تتعلق بالأهواء، أي أن ذلك من باب أولى، فإذا كان من وقع منهم بعض المعاصي قد هجروا فأصحاب البدع من باب أولى.(514/29)
اجتماع الحب والبغض في العاصي
السؤال
إذا كانت البدعة غير مكفرة فهل يبغض صاحبها على الإطلاق، أم يجتمع فيه الحب والبغض؟
الجواب
يجتمع فيه الحب والبغض؛ لأن من كان عاصياً -أي: مرتكب الكبيرة- فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فيحب على ما عنده من الإيمان، ويبغض على ما عنده من الفسوق والعصيان، ولكن لا يُظهر حبهم ولا يُنشر، بل يحذر منهم.(514/30)
شرح سنن أبي داود [515]
من المسائل المعلومة عند أهل السنة أن كلاً من الكتاب والسنة وحي من الله عز وجل، أوحى الله بهما إلى محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أن الفارق بينهما: أن القرآن يتعبد بتلاوته والعمل به، بينما السنة إنما يتعبد بالعمل بها لا بتلاوتها، وقد حذر النبي صلوات الله وسلامه عليه من الإعراض عن السنة بحجة الاكتفاء بما في القرآن من تشريع، وحض صلوات الله وسلامه عليه على التمسك بسنته، وسنة من جاء بعده من خلفائه الأبرار رضوان الله عليهم أجمعين، وحذر من البدعة، وردها على صاحبها؛ لأنه متهم للنبي صلى الله عليه وسلم بانه قد خان الرسالة.(515/1)
ما جاء في لزوم السنة(515/2)
شرح حديث (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في لزوم السنة.
حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا أبو عمرو بن كثير بن دينار عن حريز بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عوف عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السبع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في لزوم السنة]، أي: ملازمتها والثبات عليها والأخذ بها، وعدم التهاون والتفريط بشيء منها.
أورد أبو داود رحمه الله حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ألا إني أوتيت الكتاب) أي: القرآن، فهو كتاب الله عز وجل المتعبد بتلاوته، والعمل به.
(ومثله معه): وهي السنة، ومن المعلوم أن كلاً من الكتاب والسنة وحي من الله عز وجل، وأن كل ما يأتي به النبي عليه الصلاة والسلام فهو من عند الله، سواء كان قرآناً أو سنة، وليس الوحي مقصوراً على القرآن بل السنة هي أيضاً وحي؛ ولهذا يقول الله عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، وجاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يغفر للشهيد كل شيء أو كل ذنب -إلى أن قال: إلا الدين، سارني به جبريل آنفاً) أي: نزل عليه جبريل واستثنى الدين، فقوله (سارني به جبريل آنفاً) هذا يدل على أن ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم وحي من الله عز وجل.
فالقرآن وحي والسنة كذلك، إلا أن القرآن متعبد بتلاوته والعمل به، وأما السنة فمتعبد بالعمل بها ولا يتعبد بتلاوتها كما يتعبد بتلاوة القرآن، فالقرآن يقرأ به في الصلاة ويقرأ به في جميع الأوقات، والسنة ليست كذلك، ولكن حكمهما من حيث العمل، فالكل يجب اتباعه والعمل بما جاء فيه.
ومن لم يؤمن بالسنة لن يؤمن بالكتاب، ومن كفر بالسنة فهو كافر بالقرآن، إذ الله سبحانه يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، فالمنكِر للسنة هو منكر للقرآن، والمكذب بالسنة مكذب بالقرآن، والكتاب والسنة متلازمان، فكل منهما يجب العمل والأخذ به، ولا يمكن أن يقال: إنه يمكن أن يستغني الإنسان بالقرآن عن السنة، ولو كان الأمر كذلك لما استطاع الناس أن يصلوا، ولما استطاعوا أن يزكوا، فالصلاة لم تُعرف أوقاتها ولا ركعاتها ولا هيئاتها وكيفياتها إلا بالسنة، فلا يوجد في القرآن أن الظهر أربع ركعات، ولا أن العصر أربع ركعات، ولا أن المغرب ثلاث ركعات، ولا أن الفجر ركعتان، والعشاء أربع ركعات، فهذا لا وجود له في القرآن، فالإنسان الذي يقول: إنه يأخذ بالقرآن ولا يأخذ بالسنة، نقول له: كيف ستؤدي الصلوات الخمس التي فرضها الله عز وجل على عباده في اليوم والليلة خمس مرات؟ فهذا لا تحصل معرفته إلا عن طريق السنة، وكذلك بالنسبة للزكاة، فلا يوجد في القرآن مقادير الأنصبة، ولا المقدار الذي يخرج في الزكاة، وهكذا، فالسنة موضحة للقرآن، وشارحة له، ودالة عليه، ومبينة له، والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله الكتاب والسنة، فهما وحي من الله عز وجل أوحاه إلى رسوله الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، (ألا إنني أوتيت القرآن ومثله معه).
قوله: [(ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم في هذا القرآن من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه)] أي: أنه يقتصر على ما في القرآن، فما كان في القرآن حلالاً فهو حلال، وما كان في القرآن حراماً فهو حرام، وأما السنة فليست كذلك، ولهذا فإن السيوطي رحمه الله لما ألف كتابه: (مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة) ذكر في مقدمته ومطلعه: أن سبب تأليفه للكتاب هو أن رافضياً زنديقاً قال: إنما يؤخذ بالقرآن دون السنة، وكان فيما قاله السيوطي: اعلموا رحمكم الله أن من العلم كهيئة الدواء، وإن من الآراء كهيئة الخلاء لا تذكر إلا عند الضرورة، أي: أنها آراء يضطر الإنسان إلى ذكرها وهي قبيحة وخبيثة وسيئة، ولكن الضرورة ألجأت إلى ذلك، وكان الإنسان يحب أن ينزه لسانه من أن يتكلم بمثل هذا الكلام، وكان الأمر الذي ألف كتابه السابق من أجله هو أن رافضياً زنديقاً قال: كذا وكذا، ثم بين ما جاء من النصوص في الاحتجاج بالسنة، وما جاء عن سلف هذه الأمة في الاحتجاج بالسنة، وأنه يحتج بها مثلما يحتج بالقرآن، ويعمل بها مثلما يعمل بالقرآن، ومن المعلوم أن المكذب بها مكذب بالقرآن؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
قوله: [(ألا يوشك رجل شبعان)]، كلمة (رجل) هنا ليس لها مفهوم، فالمرأة مثل الرجل في ذلك، ولكن ذكر الرجال على سبيل التغليب؛ لأن الخطاب لا يكون إلا معهم في الغالب، والأصل هو التساوي بين الرجال والنساء، إلا أن يأتي شيء يدل على تخصيص أحدهما دون الآخر، فذكر (الرجل) هنا لا مفهوم له، بمعنى: أن النساء قد يحصل منهن ذلك، ولهذا يأتي في كثير من النصوص التنصيص على الرجال في أمور يشترك فيها الرجال والنساء، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بصوم بيوم أو يومين، إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه)، فهذا يدخل فيه المرأة التي كان من عادتها أن تصوم الإثنين والخميس، ثم وافق الإثنين أو الخميس يوم الثلاثين، وكذلك قوله: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من الغرماء)، فكذلك لو وجد متاعه عند امرأة قد أفلست فإنه أحق به، فذكر الرجل هذا لا مفهوم له، والأصل هو التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام.
قوله: [(ألا يوشك رجل شبعان)]، وهذا يدل على التنعم، وقوله: (على أريكته) أي: سريره، فيقول مثل هذا الكلام دون أن يتعب نفسه في الاشتغال بالعلم وتحصيله، وإنما يقول مثل هذا الكلام الجائر والقبيح لجهله، فيقول: (عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال أحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه) أي: يقتصرون على ذلك ولا يلتفتون إلى السنة.
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى أمور ليست في القرآن، وإنما هي في السنة، فقال: (ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي)، فهذا في السنة وليس في القرآن، والواجب الأخذ به كما يؤخذ بما جاء في القرآن، والأخذ به داخل تحت قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
قوله: [(ولا كل ذي ناب من السبع)]، وذلك محرم أيضاً، وهو لا يوجد في القرآن، وإنما يوجد في السنة.
قوله: [(ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها)]، أي: إذا تركها واستغنى عنها، والتنصيص على المعاهد لا يعني أن الحكم يختص به، فإذا كان هذا في حق المعاهد الذي بقي في بلاد المسلمين فالمسلم من باب أولى، وقد جاءت النصوص عامة في ذلك، فلا يحل للإنسان أن يتملك اللقطة في الحال إلا إذا عرف أن صاحبها قد تركها مستغنياً عنها، أو كانت من الأشياء التافهة التي لا يؤبه ولا يهتم بها، وإلا فإن الأصل هو التعريف لها.
قولهه: [(ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه)] أي: أن يعطوه القرى، وهو الضيافة، قال: (فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه)، أي: أن يأخذ من مالهم بمثل الشيء الذي يستحقه عليهم، وقيل: إن هذا إنما هو في حق المضطر إلى ذلك، وأنه لو لم يحصل منه ذلك فإنه سيعود على نفسه بالضرر، أو يعرض نفسه للهلاك، وأما إذا لم يكن كذلك فإنه لا يفعل مثل هذا الفعل، وقال بعض أهل العلم: إن هذا منسوخ.(515/3)
تراجم رجال إسناد حديث (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته)
قوله: [حدثنا عبد الوهاب بن نجدة].
عبد الوهاب بن نجدة ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا أبو عمرو بن كثير بن دينار].
أبو عمرو بن كثير هو عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن حريز بن عثمان].
هو حريز بن عثمان الحمصي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن أبي عوف].
عبد الرحمن بن أبي عوف ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن المقدام بن معد يكرب].
المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه صحابي، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.(515/4)
وجوب العمل بالسنة
في هذا الحديث دليل على أنه لا حاجة أن يعرض الحديث على الكتاب؛ لأنه حكم مستقل، فإذا وجد حديث صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يعمل به دون أن ينظر هل معناه موجود في الكتاب أو لا، وهل يشهد له الكتاب أو لا، نعم هناك أحاديث لها شواهد في الكتاب لكن لا يقال: إن الحكم لا يثبت بها إلا بوجود هذه الشواهد في القرآن، فإن السنة أصل بنفسها، وهي أصل مستقل يؤخذ بما فيها وإن لم يكن ذلك موجوداً في الكتاب، وكما قلت آنفاً فإن في السنة أحكاماً لا بد للناس منها، وهي لا توجد في الكتاب، مثل عدد ركعات الصلوات، والصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وهي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، ومع ذلك فكيفيتها جاء بيانها في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد بيانها وتفصيلها في القرآن.
وبعض أهل العلم يقول: لا ينبغي أن يقال: إن السنة في المرتبة الثانية بعد القرآن، وإنما السنة مع القرآن في مرتبة واحدة، وهذا من حيث الاحتجاج والعمل بهما، فكلاهما يتعين الأخذ به، لكن -كما هو معلوم- أن القرآن كله متواتر، وأما السنة ففيها المتواتر وفيها الآحاد.
وقد جاء في حديث معاذ المشهور أنه يبحث في القرآن، فإن لم يوجد ففي السنة، فإن لم يوجد فيجتهد برأيه، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم وصححه بعضهم، ولكن يوجد له شاهد يدل عليه في (سنن النسائي)، وقد سبق أن مر بنا، وهو في باب الحكم بما قضى به أهل العلم، وقد جاء فيه أنه يبحث في الكتاب، ثم يبحث في السنة، ثم يقضي بما قضى به أهل العلم، فهذا يدل على أنه يبحث في القرآن أولاً، ثم يبحث في السنة، لكن إذا وجد حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يتعين العمل به، ومن المعلوم أن الإنسان يبحث في القرآن أولاً، فإذا كان الحكم موجوداً في القرآن فالأمر واضح، ولا يحتاج معه إلى شيء آخر، وإن جاء في السنة شيء يوافقه ويؤيده ويدل عليه، فإنهما يكونان متفقين على إثبات ذلك الحكم؛ ولهذا يقولون في بعض المسائل: وهذا الحكم دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب فكذا وأما السنة فكذا، وأما أن يغفل الإنسان عن الدليل الذي في القرآن ويذهب للبحث عنه في السنة فهذا قصور، وهذا مثل الإنسان الذي تجده يبحث عن حديث في كتب غير مشهورة، أو كتب غير معروفة بالصحة ويغفل ما هو موجود في الصحيحين، فإنهم يقولون في مثل هذا: أبعد النجعة، وهذه عبارة عند المحدثين والعلماء في مثل هذا، وكذلك لو أخذه من غير الصحيحين فإنه يقال عنه: أبعد النجعة، أي: أنه ذهب بعيداً، وترك الشيء الذي كان يمكنه أن يكتفي به عن غيره، فإذا كان الحديث موجوداً في الصحيحين فلا يحتاج إلى أن يبحث عنه في غير الصحيحين، إلا إذا كان ذلك من ناحية إثبات كثرة المصادر، وكثرة الطرق، وكثرة المخارج، وأما من ناحية الاكتفاء فما جاء في الصحيحين يكفي، وكون الإنسان يعزو شيئاً إلى السنن وهو موجود في الصحيحين فهذا قصور.(515/5)
شرح حديث (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل وعبد الله بن محمد النفيلي قالا: حدثنا سفيان عن أبي النضر عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)].
أورد المصنف حديث أبي رافع وهو بمعنى حديث المقدام بن معد يكرب المتقدم، وقوله صلى الله عليه وسلم: {لا ألفين -أي: لا أجد- أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه من الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه) أي: أننا نقتصر على ما جاء في الكتاب، ولا نأخذ شيئاً لم يأت في الكتاب، وهذا باطل ومخالف للحق.(515/6)
تراجم رجال إسناد حديث (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[وعبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا سفيان].
سفيان هو ابن عيينة المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي النضر].
أبو النضر هو سالم المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن أبي رافع].
عبيد الله بن أبي رافع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو أبو رافع رضي الله تعالى عنه، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(515/7)
شرح حديث (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا إبراهيم بن سعد ح وحدثنا محمد بن عيسى حدثنا عبد الله بن جعفر المخرمي وإبراهيم بن سعد عن سعد بن إبراهيم عن القاسم بن محمد عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد).
قال ابن عيسى: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من صنع أمراً على غير أمرنا فهو رد)].
أورد أبو داود حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا ما ليس فيه فهو رد) أي: من أحدث في دين الله عز وجل شيئاً ليس من الدين، وإنما هو من محدثات الأمور التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد بين عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أن ما أحدثه محدث فهو مردود عليه، وأن الأخذ به حرام، وهو من الأخذ بالباطل، وعمل بما هو محدث في الدين وليس منه، وهذا الحديث من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، فإن كل من أحدث في دين الله ما ليس منه فإنه رد، أي: مردود عليه، وإنما يكون الأخذ بما جاء في الكتاب والسنة.
وهذا الحديث موجود في الصحيحين بلفظ: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) وجاء عند مسلم بلفظ آخر أعم من هذا اللفظ، وهو: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، فهذا من أفراد مسلم، وهو أعم من الجملة الأولى؛ لأن الجملة الأولى فيها إحداث، وأما الثانية ففيها عمل، والعمل يدخل فيه ما كان محدثاً أو ما كان متابعاً لمحدث، أي: أن يكون هو المحدث لتلك البدعة، أو أن يكون سبقه غيره إلى إحداثها ولكنه عمل بها واتبع ذلك المبتدع الذي ابتدعها.
وقوله: (رد) بمعنى: مردود عليه، فلا يقبل منه، ولا ينفع صاحبه عند الله عز وجل كونه يتعبد بالبدع والمحدثات التي حذر منها رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوله: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
وحديث عائشة هذا يدل على تحريم كل ما أحدث في دين الله مما ليس له أصل فيه، وأما ما كان له أصل فيه، أو تدل عليه نصوص شرعية، أو تدل عليه القواعد العامة فهذا لا يقال: إنه محدث، وإنما يعول على ذلك الأصل الذي أخذ منه، وأما إذا أحدث عبادة، أو أحدث شيئاً ينسب إلى الدين وهو ليس منه فهذا هو الذي حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في حديث العرباض بن سارية، حيث رغب في السنن، وحذر من البدع.
ويؤخذ من هذا الحديث أن الأصل في النهي أنه يقتضي الفساد.(515/8)
تراجم رجال إسناد حديث (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد)
قوله: [حدثنا محمد بن الصباح البزاز].
محمد بن الصباح البزاز ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إبراهيم بن سعد].
إبراهيم بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا محمد بن عيسى].
(ح) معناها التحول من إسناد إلى إسناد آخر، ومحمد بن عيسى هو الطباع، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في (الشمائل) والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا عبد الله بن جعفر].
هو عبد الله بن جعفر المخرمي، وهو ليس به بأس، وذلك بمعنى: صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[وإبراهيم بن سعد عن سعد بن إبراهيم].
سعد بن إبراهيم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن القاسم بن محمد].
هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
وهي عمته عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [قال ابن عيسى: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صنع أمراً على غير أمرنا فهو رد)].
أي: أن هذا اللفظ جاء في رواية محمد بن عيسى الطباع وهو قوله: (من صنع أمراً على غير أمرنا فهو رد) أي: من عمل.(515/9)
شرح حديث (وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا ثور بن يزيد قال: حدثني خالد بن معدان حدثني قال: عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر قالا: (أتينا العرباض بن سارية رضي الله عنه -وهو ممن نزل فيه ((وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ)) [التوبة:92]- فسلمنا وقلنا أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين، فقال العرباض: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)].
أورد أبو داود حديث العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه، وهو ممن نزل فيه {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة:92] أي: أنه كان من أهل الحاجة، ومن الفقراء الذين كانوا يحرصون على أن يخرجوا للجهاد، ولكن لم يكن معهم ظهور يركبونها، فأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يحملهم، فاعتذر لهم؛ لأنه لم يجد ما يحملهم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع؛ لأنهم لم يتمكنوا من المجاهدة مع الناس.
قوله: [أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين] أي: جاءوا لزيارته وعيادته والاستفادة من علمه، فحدثهم بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إن الرسول صلى الله عليه وسلم وعظهم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون) يعني: حصل التأثر لقلوبهم وعيونهم، فعيونهم بكت، وقلوبهم وجلت، (فلما سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: كأنها موعظة مودع) أي: أنهم خشوا أن تكون نهايته قد قربت، فطلبوا منه أن يعهد إليهم، فالإنسان إذا أراد أن يسافر يبين ما يحتاج إلى أن يفعله أهله من ورائه، فيبين لهم ما يريد أن يفعلوه في حال غيبته، فأوصاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة، فقال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة)، وتقوى الله عز وجل هي أن يجعل الإنسان بينه وبين غضب الله وقاية تقية منه، وذلك يكون بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، فهذه هي التقوى بالمعنى الشرعي، وأما معناها اللغوي فهو أوسع من الشرعي، وهو أن يجعل الإنسان بينه وبين أي شيء مخوف وقاية تقيه منه، فكل ما تخافه فإنك تجعل بينك وبينه وقاية، فالبرد مخوف فتجعل بينك وبينه وقاية بلبس الألبسة التي تقيك منه، والشوك والحصى والرمضاء في الأرض مخوف، فتلبس النعال والخفاف، وكذلك تتخذ البيت من أجل أن تتقي الشمس والبرد وهكذا.(515/10)
الكلام في مسألة تولية العبد ولاية عامة
ثم أمر صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بالسمع والطاعة لمن ولاه الله الأمر، فقال: (وإن عبداً) أي: وإن كان الذي تولى عليكم عبداً، وهذا مما حذف فيه كان واسمها وبقي خبرها، ومثال ذلك أيضاً: إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وهذا مما حذف فيه كان واسمها، وهذا فيه الإرشاد إلى السمع والطاعة لمن تولى ولو كان عبداً، ومن المعلوم أن الإجماع منعقد على أنه لا يجوز للعبد أن يتولى، وإنما يكون ولي الأمر حراً لا عبداً؛ لأن العبد منافعه مملوكة لسيده، ومن شأن الذي يتولى أن يكون متصرفاً بمنافعه، وأن تكون منافعه بيده وليست بيد غيره، وقد أجاب العلماء على ما ورد من الأحاديث في السمع والطاعة للمتولي وإن كان عبداً بأربعة أجوبة، أحدها: أن المقصود من ذلك أن يولي ولي الأمر عبداً على ناحية أو على قرية أو على مدينة أو على جماعة، فتكون ولايته خاصة، وتكون صادرة من ولي الأمر، فإذا ولى ولي الأمر عبداً على جماعة سواء كانوا في سفر أو كانوا في حضر فعلى أولئك الذين وُلي عليهم أن يسمعوا ويطيعوا له، وقيل في معناه: أن الشيء يذكر -وإن كان لا يحصل- من باب الإشارة إلى تحتم ولزوم ذلك الشيء لو حصل، مع أنه لا يحصل، ولهذا نظائر وأمثلة، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] مع أنه لا يشرك ولا يحبط عمله، وكذلك ما جاء في بعض الأحاديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة)، والمسجد -كما هو معلوم- لا يكون بهذا المقدار ولا بهذا الحجم، وإنما هذا على سبيل المبالغة، وقال بعض أهل العلم: إن ذلك يكون بالمشاركة، أي: ولو كانت مشاركته بشيء يسير، فيكون بناء المسجد من قبله وقبل غيره، فالمقصود أن الله تعالى يأجره على ذلك وإن كان المسجد صغيراً، وغير ذلك من الأمثلة.
وقيل: إن المقصود به أنه يكون في حال توليته حراً، ولكنه كان عبداً فيما مضى، وذلك مثل عبد طرأ عليه عتق، فيقال له عبد باعتبار ما كان، لا باعتبار الحال، وذلك مثل قول الله عز وجل: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2] وقوله: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]، مع أنهم لا تدفع إليهم الأموال إلا بعد البلوغ وليس قبل البلوغ، وهم يتامى قبل أن يبلغوا وأما بعده فلا، وقيل لهم يتامى حال إعطائهم باعتبار ما كان؛ لأنه في حال يتمهم لا تدفع لهم الأموال، لأنه تعالى قال {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء:6] أي: إذا بلغ وصار رشيداً في إنفاق المال وتدبيره وعدم تضييعه وإتلافه بالسفه.
وقيل: إن المقصود من ذلك: أنه إذا تغلب وقهر الناس وصار عنده قوة وشوكة، واستتب له الأمن فإنه يُسمع له ويطاع.
وهذه الأجوبة الأربعة أجاب بها أهل العلم على ما ورد من الأحاديث في السمع والطاعة لمن تولى إذا كان عبداً، وقد انعقد الإجماع على أنه لا يجوز أن يولى العبد، فالتوفيق إذن بين ما جاء في النصوص وبين الإجماع المنعقد هو أن الحديث يفسر بأحد هذه التفسيرات.
قوله: [(وإن عبداً حبشياً)]، أي: وإن كان المتولي عليك عبداً حبشياً.(515/11)
الإخبار بحدوث الاختلاف في النحل والعقائد من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم
قوله: [(فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً)]، وهذا إخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم عن أمر سيقع، وهو من دلائل نبوته؛ لأنه يخبر عن الأمور الماضية فتكون واقعة طبقاً لما أخبر به، ويخبر عن الأمور مستقبلة فتقع طبقاً لما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أنه سيوجد الاختلاف، ومع وجوده فإنه يكون كثيراً، وهذا الاختلاف -كما هو معلوم- إنما يكون في النحل والعقائد، وفي الاتجاهات المخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك مثل البدع المختلفة التي حصلت في الأمة من التجهم والاعتزال والرفض، وغير ذلك من البدع التي حصلت بعد ذلك طبقاً لما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، وبعد هذا الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من وجود الاختلاف كأن قائلاً يقول: وما هو طريق السلامة والنجاة من هذه الاختلافات؟ لذلك بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك دون أن يسأل عنه؛ لأنه في ظل وجود هذا الاختلاف لابد من سلوك طريق مستقيم، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعد إخباره بهذا الاختلاف أرشد إلى طريق السلامة والنجاة، فقال: (فعليكم) و (وإياكم)، فرغّب ورهّب رغب في السنن، ورهب من البدع، فأرشد عليه الصلاة والسلام إلى السنن ورغب فيها، ثم حذر من البدع المخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.(515/12)
إرشاد النبي لأمته إلى اتباع السنة واجتناب البدعة عند ظهور الاختلاف
قوله: [(فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ)]، وهذا هو الذي رغب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو اتباع سنته وسنة خلفائه الراشدين رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وهذا يدل على أن طريق العصمة والسلامة والنجاة عند هذا الاختلاف أن يكون الإنسان على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، والخلفاء الراشدون هم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والحديث يدل على فضل هؤلاء الخلفاء رضي الله عنهم، وعلى فضل خلافتهم، حيث وصفها بأنها راشدة، فهؤلاء الخلفاء راشدون ومهديون، أي: أنهم على هدى ورشاد، وخلافتهم خلافة نبوة، كما جاء في حديث سفينة مولى رسول الله عليه الصلاة والسلام رفعه: (خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء)، فخلافتهم خلافة نبوة.
وفي قوله: (وعضوا عليها بالنواجذ) كناية عن شدة التمسك والأخذ بها، وعدم التهاون والتفريط بشيء منها، فعلى الإنسان أن يعول على السنن، وأن يحرص عليها كما يحرص على الشيء الذي يعض عليه بالنواجذ.
ثم إنه بعد أن رغب في السنن حذر من البدع، فقال: (وإياكم ومحدثات الأمور)، وهي البدع التي تحدث في دين الله وليست منه، وقد تقدم في حديث عائشة (من أحدث في أمرنا ما ليس فيه فهو رد) أي: فهو مردود عليه، فقوله: (إياكم ومحدثات الأمور) أي: احذروها وابتعدوا عنها ولا تأخذوا بها، واكتفوا واقتصروا على ما جاء في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه صحابته الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
قوله: [(فإن كل محدثة بدعة)] أي: كل محدثة في دين الله بدعة، (وكل بدعة ضلالة)، وهذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، فالبدع المحدثة في دين الله كلها ضلالة، فهذا حكم عام يشمل كل ما أحدث في الدين، فهي كلها ضد الهدى، والهدى إنما هو في الكتاب والسنة، وما جاء عن سلف هذه الأمة وهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وقد جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: (كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة).
فاللفظ عام باق على عمومه فلا يستثنى منه شيء، فكل البدع ضلالة، فلا يقال: إن هناك بدعة حسنة؛ لأنه يصادم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فإن كل بدعة ضلالة)، وقد تجد بعض المبتدعة، وبعض من يسهل عليهم الأخذ بالبدع، أو التهاون بشأنها يقولون: هذه بدع حسنة!! أما ما جاء في الحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها) فهو ليس من هذا القبيل، وإنما المقصود به: أن يحيي سنة قد أميتت، فمثلاً أن يأتي إلى بلد لا توجد فيه تلك السنة بل قد أهملت وأميتت فيحييها، فيكون بذلك محيياً لها لا محدثاً، أو يحمل على ما جاء في سبب الحديث، وهو: أن جماعة من مضر جاءوا وعليهم البؤس والفاقة وشدة الحاجة، ووجوههم شاحبة، وثيابهم بالية، والرسول صلى الله عليه وسلم كما وصفه الله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، فتأثر صلوات الله وسلامه عليه، فجمع الناس وحثهم على الصدقة والإحسان إلى هؤلاء، فجاء رجل من الأنصار معه صرة يكاد يعجز عن حملها فوضعها، وتتابع الناس وراءه، فعند ذلك قال عليه السلام: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها).(515/13)
تراجم رجال إسناد حديث (وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن حنبل مر ذكره.
[حدثنا الوليد بن مسلم].
هو الوليد بن مسلم الدمشقي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ثور بن يزيد].
ثور بن يزيد ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثني خالد بن معدان].
خالد بن معدان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عبد الرحمن بن عمرو السلمي].
عبد الرحمن بن عمرو السلمي مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[وحجر بن حجر].
حجر بن حجر مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي، وهذان أعني: عبد الرحمن السلمي وحجر كل واحد منهما مقبول، والمقبول هو الذي إذا وجد ما يشده ويقويه فإنه يحتج به، فكل واحد منهما هنا كمّل الآخر.
[عن العرباض بن سارية].
العرباض بن سارية رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب السنن.(515/14)
شرح حديث (ألا هلك المتنطعون)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن جريج حدثني سليمان -يعني ابن عتيق - عن طلق بن حبيب عن الأحنف بن قيس عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وعلى آله سلم أنه قال: (ألا هلك المتنطعون، ثلاث مرات)].
أورد المصنف حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا هلك المتنطعون، قالها ثلاثاً) أي: كررها ثلاثاً، والمتنطعون: هم المتكلفون المتعمقون، وقد أورده هنا في لزوم السنة؛ لأن فيه مخالفة للسنة، ويدخل في ذلك أهل الكلام الذين يتعمقون في الكلام، ويشتغلون به، ويعولون عليه في عقائدهم، ويهجرون السنن ولا يعولون عليها، فهؤلاء هم المتنطعون، أي: المتعمقون المتكلفون الذين يعولون على العقول ولا يشتغلون بالنقول، أو يتهمون النقول إذا لم تتفق مع العقول، والأصل: هو النقل، والعقول السليمة توافقه، فالعقل الصحيح -العقل السليم- لا يخالف النقل الصحيح، ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب اسمه: (درء تعارض العقل والنقل)، وأهل الكلام يعولون على العقول ولا يعولون على النقول، وأهل السنة يعولون على النقول ويعتبرون أن العقول إذا كانت سليمة فإنها لا تخالف النقول، وإذا وجد من العقول شيئاً يخالف النقول فإنه لا يلتفت إليه، ولا يعول عليه، ولهذا فإن العقول تتفاوت، وقد يرى الإنسان في وقت من الأوقات رأياً ثم في وقت آخر يتعجب هذا الرأي، مع أنه في حال رؤيته ذلك الرأي لا يرى أمامه سواه، ثم يتغير حاله، فيرى أن الرأي الذي رآه سابقاً غير صواب، ويتعجب كيف رأى هذا الرأي! ومن أمثلة ذلك ما حصل في صلح الحديبية، فلما أُُبرم العقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، كان من جملة ما اشتمل عليه العقد: أن من جاء من المسلمين إليهم فلا يرد، ومن جاء من الكفار مسلماً فإنه يرد، فتأثر بعض الصحابة رضي الله عنهم من هذا الذي رضي به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا: (كيف نعطي الدنية في ديننا)، وكانت النتيجة بعد ذلك أن الذين أسلموا فروا من الكفار، -والرسول صلى الله عليه وسلم لم يقبلهم بناءً على هذا الصلح، وهم لا يريدون أن يرجعوا إلى الكفار- وساروا في طريق على ساحل البحر، فكانوا يعترضون العير التي تأتي لقريش، فعند ذلك تأذى الكفار من هذا الفعل حتى رغبوا هم أنفسهم أن الرسول يقبل هؤلاء حتى لا يبقوا على هذا الوضع الذي هم عليه، مع أنهم هم الذين اشترطوا هذا الشرط ابتداء، فمحل الشاهد: أن بعض الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم تأثر من هذا العمل، وكانت النتيجة خيراً؛ ولهذا كان بعض الصحابة عندما يحصل شيء يستدل بهذه القصة، فيقول: (اتهموا الرأي في الدين)، قال ذلك سهل بن حنيف رضي الله عنه في إحدى المواقع التي حصلت بين علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما، وحصل على إثرها التحكيم، فكان بعض الناس الذين مع علي رضي الله عنه يريدون أن يواصلوا القتال وكان سهل ممن يرى أن يُترك القتال حقناً للدماء ويقول: يا أيها الناس! اتهموا الرأي في الدين، ويشير إلى قصة الحديبية.
فالعقول متفاوتة، بل إن عقل الإنسان بين حين وأخر يتغير من رأي إلى رأي، ومن حال إلى حال، فالأصل هو النقل، والعقل الصحيح لا يخالف النقل، والعقل إذا كان مخالفاً للنقل فإنه لا يلتفت إليه، وإنما يكون التعويل على النقل، وهذه هي طريقة أهل السنة والجماعة، فإنهم يعولون على النقل ويتهمون العقل، وهذا بخلاف أهل البدع فإنهم يعولون على العقل ويتهمون النقل.
يقول الخطابي: وفيه دليل على أن الحكم يكون بظاهر الكلام، وأنه لا يترك الظاهر إلى غيره ما كان له مساغ، أقول: هذا هو الأصل.(515/15)
تراجم رجال إسناد حديث (ألا هلك المتنطعون)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن جريج].
ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني سليمان -يعني ابن عتيق -].
سليمان بن عتيق صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن طلق بن حبيب].
طلق بن حبيب صدوق، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الأحنف بن قيس].
الأحنف بن قيس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن مسعود].
هو عبد الله بن مسعود الهذلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(515/16)
الأسئلة(515/17)
الكلام على بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج
السؤال
هل لكم في الكلام عن بدعة الرجبية، وعن الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج؟
الجواب
الإسراء هو الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم العروج به من هناك إلى السماء حتى تجاوز السماوات، وكلمه الله عز وجل، وفرض عليه الصلوات الخمس، وكان كليماً لله عز وجل كما كان موسى كليماً لله، وكان خليلاً له كما كان إبراهيم خليلاً، فاجتمع فيه ما تفرق في غيره صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وليلة الإسراء والمعراج ليست معروفة بالتحديد، ولم يثبت شيء يدل على تحديدها وبيان وقتها، ولو ثبت شيء من في بيان أنها في الليلة المعينة من الشهر الفلاني فلا يجوز لأحد أن يحدث فيها شيئاً، ولا أن يعمل فيها عملاً يخصها؛ لأن الأمور التي يتقرب بها إلى الله عز وجل فإنما يؤتى بها طبقاً للسنة، ولم يأت بذلك سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج مشروعاً لبينه وأوضحه الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، الذي هو أنصح الناس للناس، والذي هو أفصح الناس لساناً وأكملهم بياناً، ومع ذلك لم يأت عنه شيء من ذلك، فدل على أن هذه من البدع المحدثة التي يجب اجتنابها والحذر منها، ولشيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه رسالة قيمة باسم (التحذير من البدع)، وهي تشتمل على أربع بدع؛ بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج هذه، وقد بين وأوضح فيها أن هذه من البدع المحدثة التي ما أنزل الله بها من سلطان، فعلى الإنسان أن يحرص على اتباع السنن والاكتفاء بها، وألا يخرج منها أو يتجاوزها إلى أمور محدثة مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان.(515/18)
حكم أفعال الخلفاء الراشدين
السؤال
هل كل ما فعله الخلفاء الراشدون يعتبر سنة؟
الجواب
إذا لم يوجد لهم مخالف ففعلهم حجة، وإذا وجدت أقوال لغيرهم فإن أقوالهم مقدمة على أقوال غيرهم.(515/19)
الرد على من يرى عدم الاحتجاج بحديث العرباض بن سارية
السؤال
ما الرد على من يضعف حديث العرباض بن سارية، وحجته في ذلك أن العرباض رضي الله عنه ليس من الصحابة الملازمين للرسول صلى الله عليه وسلم، بل جاء من البادية وأخذ الحديث ورجع، وهذا الحديث على الرغم من أنه موعظة إلا أنه لم يروه إلا العرباض؟
الجواب
معلوم أن الأحاديث إذا ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق واحدة فإنها كافية، ولا يحتاج إلى أن يبحث لها عن أشياء تساندها، فما دام الحديث ثابتاً بإسناده فإنه يكفي ولو جاء عن شخص واحد، ولو أخذ بمثل هذا المبدأ لقيل في كثير من النصوص مثل هذا الكلام، ولأمكن أن يشكك فيها، فكل ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق صحابي من أصحاب رسول الله فإنه يقبل، وتقوم به الحجة سواء كان ملازماً أو غير ملازم، ولا يلتفت إلى كونه لم يلازمه، أو لازمه لفترة قليله، فهل يقال عن الذين جاءوا وحضروا حجة الوداع وشهدوا وسمعوا خطبه صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا إلى بلادهم وحدثوا بما سمعوه - هل يقال: لا يقبل الحديث عنهم؛ لأنهم لم يلازموا الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وهل يقال عمن حضر حجة الوداع وسمع والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)، وشاهدوه وعاينوه، وفيهم من لم يره بعد ذلك- هل يقال عنهم: إنهم لا يعول عليهم، ولا يلتفت إليهم!! هذا كلام باطل.(515/20)
حكم من يتقرب إلى الله تعالى ببدعة ويظن أنه على صواب
السؤال
من كان جاهلاً وعمل ببدعة وهو يظن أنه يتقرب بها إلى الله تبارك وتعالى، فهل يثاب على عمله ذلك ويعذر بجهله؟
الجواب
الأصل أن البدع مردودة على صاحبها، سواء عمل بها الإنسان وهو عالم، أو عمل بها وهو جاهل.(515/21)
صحة مقولة فلان سني مبتدع
السؤال
هل يجوز أن يقال: فلان سني مبتدع؛ لكونه يقول بقول أهل السنة في الأسماء والصفات والربوبية والألوهية، ولكن عنده بعض البدع كالأذان على القبر؟
الجواب
لا يقال: سني مبتدع، وإنما يقال: سني عنده بدعة، أو عنده بعض البدع، وأما سني ومبتدع فهما ضدان، فمعنى سني: أنه على السنة، ومعنى مبتدع: أنه ليس على السنة، وأما أن يكون عنده بدعة، أو عنده مخالفة، أو عنده بعض من الأمور التي تحذر، فهذا يمكن وجوده في السني، وهو مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: (إنك امرؤ فيك جاهلية) فلم يقل له: إنك جاهلي، أو إنك من أهل الجاهلية، ومعنى الحديث: فيك خصلة من خصال الجاهلية.(515/22)
شرح سنن أبي داود [516]
من أعظم النعم على المسلم أن يسن خيراً ثابتاً في الشريعة مسبقاً لم يكن يفعل، بل كان مجهوراً، فمن كان سبباً في إحياء وإظهار هذا الخير بين الناس، فله أجر من فعله، وفي مقابل هذا: من سن منكراً أو بدعة فاقتدى به الناس في ذلك فعليه أوزار من تبعه، والعياذ بالله، فياويل من فتحوا دور البغا، أو أحدثوا بدعة في دين الله، أو شرعوا تشريعات تضاهي شريعة الله، كم من الآثام سيحملون؟ والأوزار سيقلون؟(516/1)
باب لزوم السنة(516/2)
شرح حديث (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب لزوم السنة.
حدثنا يحيى بن أيوب حدثنا إسماعيل -يعني ابن جعفر - أخبرني العلاء -يعني ابن عبد الرحمن _ عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب لزوم السنة.
ولزوم السنة: هو الثبات عليها، والأخذ بها، والبعد والحذر مما يخالفها، وقد سبق أن مر قبل هذا الباب باب يشبهه، وهو بلفظ: باب في لزوم السنة، وهذا الباب: باب لزوم السنة، ومؤداهما واحد، إلا أننا نجد أن أكثر ما في هذا الباب الثاني هي الآثار، وأما الباب الأول الذي تقدم فكله أحاديث مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أدري ما وجه هذا التفاوت في التبويب مع أن الترجمة واحدة تقريباً، إلا أن الأول فيه زيادة (في)، أي: باب في لزوم السنة، وهذا باب لزوم السنة.
وأورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)، وهذا الحديث عظيم، وهو يدل على عظم شأن الدعوة إلى الخير، وكثرة ثوابها وأجرها، ويدل أيضاً على خطر الدعوة إلى الضلالة، وكثرة عذابها وآثامها.
وفي هذا الحديث أيضاً الحث على الدعوة إلى الخير، والدعوة إلى الهدى، والدعوة إلى الكتاب السنة، ولزوم ما كان عليه سلف هذه الأمة؛ لأن في ذلك الخير والثواب من الله عز وجل، والله تعالى يثيب الداعي على دعوته سواء قُبل منه أو لم يقبل، وسواء استجيب له أو لم يستجب؛ لأنه أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ولأنه دل على الخير وحذر من الشر، فهو مأجور على فعله، وإن استجيب له فإن الله تعالى يأجر ذلك المستجيب له على عمله، ويأجر من كان سبباً في هدايته مثل أجره، أي: أن الداعي يجد من الأجر مثل أجر المدعو الذي يستجيب للدعوة ويعمل عملاً صالحاً، ثم وضح ذلك بقوله: (من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئاً) أي: أن هذا الثواب الذي يجده الداعي بسبب اهتداء غيره على يديه ليس مأخوذاً من أجر المدعو، أو أنه بعض من أجر المدعو، وإنما يكون أجر المدعو له كاملاً، والله تعالى يثيب الداعي بمثل ما أثاب به المدعو تفضلاً منه وإحساناً؛ لأنه هو الذي دله على الخير، وهو السبب في هذا الخير الذي حصل لذلك المدعو، فقوله صلى الله عليه وسلم: (من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً) فيه احتراز لئلا يظن أن هذا الأجر الذي يناله الداعي من الله هو جزء من الأجر الذي يجده المدعو على عمله الصالح، والذي يظفر بهذا الأجر العظيم وهذا الثواب الجزيل على التمام والكمال هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي دل أمته على كل خير، وحذرها من كل شر، فله أجور أعماله صلى الله عليه وسلم، وله مثل أجور أمته كلها من أولها إلى آخرها، فمن دل على هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، وهذا يدل على عظم مكانته وعلو منزلته، وأسعد الناس حظاً ونصيباً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى هذا الحديث هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم وأرضاهم؛ لأنهم هم الذين تلقوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم الحق والهدى، ونقلوه إلى الناس، ودلوا الناس عليه، فكل من حفظ سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغها للناس، وعمل بها الناس من بعده، فإنه يكون مأجوراً على ذلك بمثل أجور كل الذين عملوا بهذه السنة التي جاءت من طريقه، ولهذا فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وأرضاهم، هم الواسطة بين الناس وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام، فما عرف الناس حقاً ولا هدىً إلا عن طريق الصحابة، فهم الذين تلقوا الكتاب والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين نقلوهما إلى الناس من بعدهم على التمام والكمال، فلهم أجور أعمالهم، ولهم مثل أجور من استفاد خيراً بسببهم، وكل سنة رواها صحابي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم تلقاها الناس عنه وعملوا بها، فإن ذلك الصحابي الذي حفظها وأداها له مثل أجور كل من عمل بهذه السنة التي جاءت من طريقه.
وعلى العكس من ذلك: الدعوة إلى الضلال، فإن من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه من غير أن ينقص من آثامهم شيئاً، أي: أن هذا الذي دعي إلى الإثم وأخذ به فإنه يعاقب ويؤاخذ على ضلاله الذي حصل، ثم يعاقب الداعي الذي دعاه إلى الضلالة، فيكون عليه من الإثم مثل آثام ذلك الذي دعي وعمل بتلك البدعة، أو بذلك الأمر المحرم، فكما أن من دعا إلى هدى له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، فكذلك من دعا إلى ضلالة فإن عليه من الإثم مثل آثام من تبعه ولا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً، فهذا يدلنا على الترغيب في الخير، والدعوة إلى الحق والهدى، وبيان ما فيه من الأجر العظيم والثواب الجزيل، ويدل أيضاً على خطر الدعوة إلى الضلال، وما فيها من الإثم العظيم، والخطر الكبير، وأن الواجب على الإنسان أن يحرص على أن يكون من دعاة الهدى، ليظفر بالثواب من الله عز وجل على دعوته سواء استجيب له أو لم يستجب، وإن استجيب له فإنه يؤجر بمثل أجور الذين تبعوه واستفادوا من دعوته، وعلى العكس من ذلك: من دعا إلى ضلالة فإنه يأثم، سواء تضرر بدعوته واستجيب إلى ما دعا إليه من الضلالة، أو لم يستجب؛ لأن مجرد دعوته إلى الضلال إضلال منه لغيره، فهو يأثم بهذه الدعوة، لكنه إن توبع على ذلك فإنه يأثم مثل آثام الذين استجابوا لدعوته إلى الضلال، وهذا من جوامع كلمه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهو حديث عظيم، فيه الترغيب والترهيب، وكثيراً ما يأتي في الكتاب والسنة الجمع بين الترغيب والترهيب الترغيب فيما هو خير، والتحذير مما هو شر.(516/3)
تراجم رجال إسناد حديث (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه)
قوله: [حدثنا يحيى بن أيوب].
يحيى بن أيوب ثقة، أخرج له البخاري في (خلق أفعال العباد) ومسلم وأبو داود والنسائي في (مسند علي).
[حدثنا إسماعيل -يعني ابن جعفر -].
كلمة: (يعني) قالها من دون يحيى بن أيوب: إما أبو داود أو من دون أبي داود، والمقصود من ذلك أن يحيى بن أيوب لما روى الحديث لم يعبر إلا بقوله: إسماعيل فقط، ولم يأت بالنسب، ولكن من دونه أراد أن يوضح هذا الراوي المهمل الذي ذكر باسمه فقط، فأضاف إليه هذه الجملة وهي قوله: (يعني ابن جعفر)، فالمقصود من ذلك أن هذه الزيادة جاءت للتوضيح، وهي ممن دون التلميذ، وكلمة (يعني) فعل مضارع وفاعلها ضمير مستتر يرجع إلى يحيى بن أيوب.
وإسماعيل بن جعفر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وفي طبقته إسماعيل بن علية، فكلاهما من شيوخ شيوخ أبي داود، فإذا جاء إسماعيل فيحتمل أن يكون هذا ويحتمل أن يكون هذا، لكن إذا جاءت مثل هذه العبارة وضحت من هو هذا المهمل، ولو لم تأت فإنه يمكن معرفة المهمل بشيوخه وتلاميذه.
[أخبرني العلاء -يعني ابن عبد الرحمن -].
العلاء هو ابن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي، وهو صدوق، أخرج له البخاري في (جزء القراءة) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه ثقة أخرج له البخاري في (جزء القراءة) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(516/4)
شرح حديث (إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن أمر لم يحرم فحرم على الناس من أجل مسألته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن أمر لم يحرم فحرم على الناس من أجل مسألته)].
أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه: (إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته) أي: أنه تسبب في حصول ذلك الضرر للناس، ومعلوم أن هذا إنما هو في زمن التشريع والوحي، والمقصود بذلك الأسئلة التي يكون فيها تجاوز وتشديد أو يكون فيها تعنت وتنطع، أو غير ذلك مما يترتب عليه إلحاق الضرر بالناس، وأما الأسئلة التي يحتاج إليها الناس في معرفة أمور الدين؛ فيعرفون ما هو واجب عليهم كي يفعلوه، وما هو محرم عليهم كي يتركوه، فإن هذا موجود وحاصل، وقد جاء في القرآن عدة أسئلة سألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابهم الله عز وجل عنها في القرآن في مواضع عديدة، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحتاجونه، وقد أمر الله تعالى بذلك فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وإنما المقصود من ذلك الأسئلة التي يترتب عليها مضرة، والتي لا يصلح ولا ينبغي أن يسأل عنها، وذلك مثل السؤال الذي سأله الرجل لما نزلت فريضة الحج، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إن الله فرض عليكم الحج فحجوا، فقام رجل وقال: يا رسول الله! أفي كل عام؟ أي: هل فرضه الله تعالى علينا في كل عام؟ فغضب الرسول لهذا السؤال، وقال: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) فكيف يحج الناس كلهم في كل سنة؟! ثم إن مكة لا تسع الناس، فهذا السؤل ما كان ينبغي أن يسأل عنه؛ ولهذا قال: (ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم) أي: الأسئلة التي فيها تكلف، وهذا من جنس أسئلة بني إسرائيل عن البقرة التي أمروا بذبحها، وكان يكفيهم أن يذبحوا أي بقرة فيحصل المقصود بها، لكنهم تشددوا تعنتوا، فسألوا ما لونها؟ وما هي؟ حتى جاء وصفها على هيئة، فقيل: إنهم بحثوا عن تلك البقرة المصوفة فصعب عليهم الحصول عليها، مع أنه كان يكفيهم أن يذبحوا أي بقرة، فتلك الأسئلة هي التي نهي عنها، وهي التي حذر منها، وما أعلم مثالاً على تحريم شيء بسبب مسألة إنسان فترتب على ذلك حرج بالمسلمين، ولكن هذا فيه ترهيب وتحذير من مثل هذه الأسئلة، والمقصود هو التنفير من مثل هذه الأسئلة التي هي من جنس ذلك السؤال الذي سأله السائل عن الحج.
وأما مناسبة هذا الحديث للباب فهو يشبه الجملة الثانية من الحديث السابق: (من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)، والمراد: أن من كان سبباً في لحوق الضرر بالمسلمين بسبب سؤاله عن أمر كان حلالاً فحرم عليهم، فإنه يصيبه ذلك الإثم بسبب ذلك الجرم الذي حصل منه، وهو يشبه ما جاء في الحديث الآخر (ما قُتلت نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل).(516/5)
تراجم رجال إسناد حديث (إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن أمر لم يحرم فحرم على الناس من أجل مسألته)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في (عمل اليوم والليلة).
[حدثنا سفيان عن الزهري].
سفيان هو ابن عيينة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عامر بن سعد].
هو عامر بن سعد بن أبي وقاص، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(516/6)
شرح أثر معاذ بن جبل (إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يزيد بن خالد بن يزيد بن عبد الله بن موهب الهمداني حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب أن أبا إدريس الخولاني عائذ الله أخبره أن يزيد بن عميرة -وكان من أصحاب معاذ بن جبل - أخبره قال: كان لا يجلس مجلساً للذكر حين يجلس إلا قال: الله حكم قسط، هلك المرتابون، فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه يوماً: إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق والرجل والمرأة والصغير والكبير والعبد والحر، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، قال: قلت لـ معاذ: ما يدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها: ما هذه؟! ولا يثنينك ذلك عنه؛ فإنه لعله أن يراجع، وتلقى الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً.
قال أبو داود: قال معمر عن الزهري في هذا الحديث: ولا ينئينك ذلك عنه، مكان: يثنينك، وقال صالح بن كيسان عن الزهري في هذا: المشبهات، مكان: المشتهرات، وقال: ولا يثنينك كما قال عقيل، وقال ابن إسحاق عن الزهري قال: بلى ما تشابه عليك من قول الحكيم حتى تقول: ما أراد بهذه الكلمة؟].
أورد أبو داود هذا الأثر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال يزيد بن عميرة وهو من أصحابه: إن معاذاً لم يكن يجلس مجلساً للذكر إلا قال: إن الله حكم قسط، هلك المرتابون، أي: إنه كان يقول هذه العبارة ويكررها في مجالسه التي يذكر فيها الناس ويعظهم، ثم إنه قال يوماً من الأيام: (إن من ورائكم -يعني: أمامكم- فتناً يكثر فيها المال) أي: يفيض فيها المال على الناس.
قوله: [(ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير)] أي: كلهم يقرأ القرآن، فالمؤمن يقرأ القرآن، والمنافق يقرأ القرآن، والصغير يقرأ القرآن، والكبير يقرأ القرآن، والمرأة تقرأ القرآن، والرجل يقرأ القرآن، فكل هؤلاء يكونون على علم ومعرفة بالقرآن.
قوله: [فيوشك قائل أن يقول: ما بال الناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟!] معنى ذلك: أنه يدعوهم إلى القرآن وإلى ما فيه فلا يستجيبون له، ثم بعد ذلك يقوم بأمر منكر، وهو: أنه يفكر أو تحدثه نفسه بأن يحدث لهم شيئاً غير القرآن حتى يتبعوه؛ لأنهم لم يتبعوه على الحق.
قوله: [(ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره)]، فيبتدع لهم بدعة فيدعوهم إليها، وعند ذلك قال معاذ: (فإياكم وما ابتدع) وهذا فيه تحذير وترهيب مما ابتدعه المبتدع ودعاهم إليه.
قوله: [(فإن ما ابتدع ضلالة)]؛ لأن كل بدعة ضلالة، وقد قال رسول الله صلى الله وسلم: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
قوله: [(وأحذركم زيغة الحكيم)] وهو الإنسان الذي عنده حكمة، وعنده كلام حسن جميل، فيحصل منه خطأ وزلل، أو يغويه الشيطان فيحصل منه سوء فهم، فيأتي بكلام باطل يعتبر زيغة وزلة من هذا الحكيم، فيجب أن يحذر من تلك الزلات، ويجب أن تجتنب حتى لا يغتر بها.
قوله: [(فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم)] أي: إن الشيطان قد يضل الإنسان حتى يقول كلمة الباطل والضلال، مع أنه معروف بالكلام الطيب والجميل، فإنه يحذر من زلله وخطئه وزيغه، وعكس ذلك أن المنافق قد يقول كلاماً حسناً جميلاً، فالحق يؤخذ ممن جاء به، والباطل يترك ممن جاء به.
قوله: [(قلت لـ معاذ: ما يدريني رحمك الله! أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟)] أي: أن يزيد بن عميرة سأل معاذ بن جبل عن ذلك، فأجابه معاذ بقوله: (بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها: ما هذه؟) أي: اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات أو المشبهات التي تجعل الإنسان يسأل عنها: ما هذه؟ أي: لكونها شيئاً غريباً يلفت النظر، فهي قد اشتهرت بغرابتها، وبمخالفتها للكلام الحسن الذي معه، وهذا يشبه ما جاء في الحديث الذي فيه: (استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك) أي: أن الإنسان قد يرتاب ويتوقف ويتردد في الشيء لأن فيه شبهة جعلته يتردد فيه، وجعلته يقف ويسأل عن ذلك، فالإنسان أحياناً قد يسأل عن شيء فيه اشتباه؛ لأن نفسه مترددة فيه، وهناك أشياء لا يسأل عنها، وهذا مثل بعض التسميات، فيأتي ويسأل عن بعض الأسماء: هل يجوز التسمية بهذا الاسم أو لا يجوز؟ لأنه في نفسه شيء من هذه التسمية، فهذا مثال يبين أن الإنسان قد يحصل منه التوقف أو التردد في شيء، فكلام الحكيم الذي يجتنب ويحذر هو الذي يشتهر بمخالفته لغيره مما هو مستقيم، مما يجعل الناس يقولون: ما هذا؟ فهذه هي علامة ذلك الكلام الذي يكون فيه زيغ الحكيم.
قوله: [(قال اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها: ما هذه؟ ولا يثنينك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع)]، أي: أن هذا الحكيم الذي حصل منه هذا الزلل والخطأ فأمرت باجتنابه وتركه، لا يثنينك ذلك عنه، بمعنى أنك لا تنابذه وتبتعد عنه وتعاديه، فلعله أن يراجع فيعود ما كان على ما كان، وقد يكون لُبس عليه، وقد يكون قال بقول خطأ فنبه عليه فرجع، فيجتنب خطؤه ولا يفاصل ويعادى، ولهذا قال: لا يثنينك، أي: لا يرجعنك ويعطفنك عنه، وفي بعض الروايات: لا ينئينك عنه، أي: لا يبعدك عنه ذلك؛ وهو من النأي، وهو البعد، {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26] أي: يبتعدون عنه.
قوله: [(وتلقى الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً)]، وهذا يرجع إلى المنافق، أي: إن الحق يعرف ممن هو مبطل وعلى ضلال، فإذا كان كلاماً حسناً وصحيحاً فهو مقبول، والحق ضالة المؤمن يأخذه حيث وجده؛ ولهذا جاء في القرآن لما ذكر الله عز وجل عن الكفار: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:28]، فأنكر الله عليهم واحدة وأقر الثانية؛ لأنها حق مطابق للواقع، فقولهم: ((وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا)) هذا حق، فلم يرد عليهم الله تعالى ذلك، ولم يتعرض لها، وإنما تعرض للفقرة الثانية وهي قولهم: ((وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا))، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف:28]، ولهذا جاء في القرآن: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، فهذا هو الواقع.
[قال أبو داود: قال معمر عن الزهري في هذا الحديث: ولا ينئينك ذلك عنه مكان (يثنينك)] أي: أن معمراً روى الحديث عن الزهري، ولكنه أتى بدل: (يثنينك) (ينئينك)، ومعنى (وينئينك): يبعدنك فهو من النأي، وهو: البعد، والمعنى: لا تنأ ولا تبتعد عنه، ولا تفاصله وتتركه وتنفض يدك منه، ولا تسلط لسانك عليه بسبب هذه الزلة، فإنه لا يسلم أحد من الزلل، ولا يسلم أحد من الخطأ، ولو كان كل من أخطأ ينابذ ويبتعد عنه لما سلم أحد من ذلك، فالعالم إذا حصل منه خطأ فإنه يقبل ما عنده من الحق، ويحذر مما عنده من الخطأ، ولا يترك ما عنده من العلم، فإن من العلماء من ابتلوا ببعض مشايخهم، فحصل لهم التضرر ببعض المشايخ، فصار عندهم شيء من الانحراف في العقيدة، ومع ذلك فهم علماء ومحدثون، ولهم مؤلفات واسعة، والناس لا يستغنون عن علمهم وعن حديثهم، فلو كان كل من حصل منه خطأ يترك ويترك ما عنده، لتركت هذه المجلدات الكثيرة التي ألفها بعض أهل العلم من المحدثين الذين حصل منهم شيء من الأخطاء في العقيدة، مثل ما حصل للإمام البيهقي رحمة الله عليه، فإن له كلاماً في العقيدة في بعض الجوانب لم يصب فيه، قيل: إن السبب في ذلك هو من المشايخ، حيث يحصل بسببهم شيء من المخالفة في بعض الأمور، والإمام البيهقي محدث وإمام كبير، وله كتاب (السنن الكبرى) في مجلدات كثيرة، والناس يرجعون إليه وإلى علمه، فلو كان كل من حصل منه خطأ يترك من أجل ذلك فلن يسلم أحد من أن يترك، وكل الناس سيتركون، أو لا يسلم من الترك إلا من شاء الله عز وجل، فمن ذا الذي يسلم من الخطأ؟ وإنما الذي ينابذ هو المبتدع الذي يدعو إلى بدعة، وأما إنسان من أهل السنة وممن خدم السنة، واجتهد في نفع الناس، ثم حصل منه خطأ فإنه لا يترك، ولا تترك جهوده، ولا يحذر منه، وإنما يحذر من خطئه وزلته، وينتفع بعلمه، ويدعا له، ويحث على الاستفادة من علمه.
قوله: [وقال صالح بن كيسان عن الزهري: في هذا المشبهات، مكان (المشتهرات)]، أي: أن صالح بن كيسان عبر بقوله: (المشبهات) بدل (المشتهرات)، وكل منهما صحيح، فالمشتهرات هي التي اشتهرت بغرابتها، والمشبهات هي التي فيها شبهة، وهذا مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى) الحديث.
قوله: [وقال: لا يثنينك، كما قال عقيل] أي: في الرواية التي ساقها المصنف، ولم يقل: (ينئينك) كما قال معمر.
قوله: [وقال ابن إسحاق عن(516/7)
تراجم رجال إسناد أثر معاذ بن جبل (إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال)
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد بن يزيد بن عبد الله بن موهب الهمداني].
يزيد بن خالد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عقيل].
هو عقيل بن خالد بن عقيل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب أن أبا إدريس الخولاني عائذ الله].
ابن شهاب مر ذكره، وأبو أدريس الخولاني اسمه: عائذ الله، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن يزيد بن عميرة].
يزيد بن عميرة ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[معاذ بن جبل].
معاذ بن جبل رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: قال معمر عن الزهري].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وقال صالح بن كيسان عن الزهري].
صالح بن كيسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وقال ابن إسحاق عن الزهري].
ابن إسحاق هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
ويؤخذ من قول معاذ رضي الله عنه: (ولا يثنينك ذلك عنه) أن إقامة الحجة واجبة على المخالف، وأنه لا ينابذ ابتداء.(516/8)
الأسئلة(516/9)
من ابتدع بدعة وسار عليها الناس، ثم تاب هو منها
السؤال
من ابتدع بدعة وسار الناس عليها، ثم تاب هذا المبتدع، ولكن الناس ما زالوا سائرين على منهجه، فهل يقال: إن عليه آثام من تبعه، مثل أبي الحسن الأشعري رحمه الله؟
الجواب
إذا تاب من بدعته فقد سلم من مغبتها، فلا يصل إليه إثم العاملين بها.(516/10)
حكم من يحج عنه من أسلم على يديه
السؤال
استدل العلماء بحديث (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه) على أنه لا يجوز أن يحج أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأجر له، فهل يشمل هذا من أسلم على يديه شخص أنه لا يحج عنه؛ لأن الأجر له؟
الجواب
أما بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم فالإنسان إذا أراد أن يصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم شيء من الأجر بسببه فما عليه إلا أن يعمل عملاً صالحاً، فإن الله تعالى يثيب نبيه عليه الصلاة والسلام بمثل ما أثابه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم له مثل أجور جميع أمته من أولها إلى آخرها، فهو الذي دلهم إلى الحق والهدى، ولهذا لم يكن الصحابة يحجون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كانوا يعملون الأعمال الصالحة، والله تعالى يثيب نبيه مثل ما أثابهم، لكن لا يقال: إن من أحسن إلى إنسان فإن ذلك المحسن إليه لا يحج عنه، سواء كان إحسانه بكونه أسلم على يديه، أو كونه رباه ونشأه، أو عمل له أعمالاً أخرى، فإن هذا من مقابلة الإحسان بالإحسان.(516/11)
طلب العلم عند أهل البدع
السؤال
هل يدل أثر معاذ على جواز طلب العلم عند أهل البدع إذا علمت بدعتهم؟ وكثير من طلاب العلم يقولون: إن الحق يؤخذ من كل أحد حتى من المبتدع، وبناء على ذلك فيجوز القراءة في كتب أهل البدع، ويجوز الاستماع لأشرطتهم، لأخذ الحق الذي عندهم، فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
لا يجوز القراءة في كتب أهل البدع، ولا الاستماع إلى أشرطتهم إلا لبيان ما عندهم من الضلال؛ حتى يحذر الناس ذلك، فعلى المسلم أن يشتغل بشيء لا يكون مظنة للضرر، بل يكون مأمون الجانب، فالإنسان يمكنه أن يستمع من الأشرطة، وأن يقرأ من الكتب الشيء الكثير مما هو سليم ومأمون الجانب، ويترك الذين عندهم اشتباه، أو عندهم انحرافات وأخطاء وزلات، ولا يقول: أنا آخذ وأترك، فعمرك لا يتسع لأن تقرأ كل شيء، وأن تستمع لكل شيء، فمادام أن الأمر كذلك فاشغل وقتك فيما السلامة فيه محققة.
وقد يستمع الإنسان لبعض الكلام في الأشرطة، أو يقرأ بعض الكتب فيكون ذلك سبباً في تضرره.(516/12)
شرح سنن أبي داود [517]
إن من أعظم النعم على المسلم بعد الإيمان أن يوفق إلى التمسك بالسنة، فإن ذلك نجاة له من الفتن والمحن، ونجاة من الأهواء والمحدثات، وصدق من قال: إن من نعمة الله على المحدث أن يوفقه إلى صاحب سنة.
ومن أعظم الناس تمسكاً بالسنة هم سلف الأمة الصالح، وصدرها الأول، فلتتبع آثارهم، ويهتدى بهديهم، فإن ظريقتهم أعلم وأسلم وأحكم.(517/1)
تابع لزوم السنة(517/2)
شرح أثر عمر بن عبد العزيز الطويل في التمسك بالسنة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان قال: كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر، ح وحدثنا الربيع بن سليمان المؤذن حدثنا أسد بن موسى حدثنا حماد بن دليل سمعت سفيان الثوري يحدثنا عن النضر ح وحدثنا هناد بن السري عن قبيصة حدثنا أبو رجاء عن أبي الصلت، وهذا لفظ حديث ابن كثير ومعناهم، قال: كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر، فكتب: (أما بعد، أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنته، وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة فإنها لك -بإذن الله- عصمة، ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها، فإن السنة إنما سنها من قد علم ما في خلافها -ولم يقل ابن كثير من قد علم- من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم إنما حدث بعدهم، ما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، فإنهم هم السابقون، فقد تكلموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم من مقصر، وما فوقهم من محسر، وقد قصر قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم أقوام فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم.
كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر، فعلى الخبير -بإذن الله- وقعت، ما أعلم ما أحدث الناس من محدثة، ولا ابتدعوا من بدعة هي أبين أثراً، ولا أثبت أمراً من الإقرار بالقدر، لقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء، يتكلمون به في كلامهم وفي شعرهم، يعزون به أنفسهم على ما فاتهم، ثم لم يزده الإسلام بعد إلا شدة، ولقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غير حديث ولا حديثين، وقد سمعه منه المسلمون فتكلموا به في حياته وبعد وفاته، يقيناً وتسليماً لربهم، وتضعيفاً لأنفسهم أن يكون شيء لم يحط به علمه، ولم يحصه كتابه، ولم يمض فيه قدره، وإنه مع ذلك لفي محكم كتابه، منه اقتبسوه، ومنه تعلموه، ولئن قلتم لم أنزل الله آية كذا؟ ولم قال كذا؟ لقد قرءوا منه ما قرأتم، وعلموا من تأوليه ما جهلتم، وقالوا بعد ذلك: كله بكتاب وقدر، وكتبت الشقاوة، وما يقدر يكن، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا نملك لأنفسنا ضراً ولا نفعاً، ثم رغبوا بعد ذلك ورهبوا)].
أورد أبو داود هذا الأثر عن عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه، وذلك أنه سئل عن القدر، فأجاب عنه بهذا الجواب الواسع، فقال في أوله: [كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر فكتب: أما بعد، أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم].
وهذا فيه الرجوع إلى أهل العلم، وسؤالهم عن أمور الدين، سواء كان ذلك في الأصول أو الفروع، فهذا الرجل كتب يسأل عن القدر، فأجابه عمر رضي الله عنه بهذا الجواب، وقد أوضح فيه ما يتعلق بهذا الموضوع الذي سأله عنه، وزاده تثبيتاً وإيضاحاً بقوله: (على الخبير وقعت) أي: أنك سألت من عنده علم بهذا الذي سألت عنه؛ ليطمئن إلى الجواب، وليكون على هذا النهج والطريق الصحيح الذي كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة، ومن سار على منوالهم، ثم إنه أوصاه في البداية بأربع جمل، فقال: (أوصيك بتقوى الله)، وتقوى الله عز وجل هي سبب كل خير وصلاح وفلاح وسعادة في الدنيا والآخرة، وتقوى الله عز وجل هي: طاعته، وهي: أن يجعل الإنسان بينه وبين غضب الله وقاية تقيه منه، وذلك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.(517/3)
موافقة عقيدة السلف الصالح وما كانوا عليه للفطرة السليمة
هذا الأثر الطويل هو عن تابعي، وهو عمر بن عبد العزيز الخليفة الإمام المشهور الذي كان على رأس المائة، وقد ولي الخلافة لمدة سنتين، وتوفي وعمره أربعون سنة -رحمة الله عليه- وكان إماماً فقيهاً محدثاً، وقد جاءت عنه نقول كثيرة في بيان السنة، وفي التحذير من البدع والأهواء، ومن ذلك هذا الأثر الطويل الذي ساقه المصنف هنا، وقد جاء عنه أثر آخر مشهور وهو أن رجلاً سأله عن شيء من الأهواء، فقال له: (الزم دين الصبي والأعرابي، والْهُ عما سوى ذلك) أي: خذ بما هو باقٍ على الفطرة، وهو الذي عليه العوام والصبيان والأعراب الذين لم تتلوث أفكارهم بشيء من الأهواء، فهم ما زالوا على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهذا كما كشأن الجارية التي سألها رسول الله صلى الله عليه فقال لها: (أين الله؟ فأشارت إلى السماء، وسألها عن نفسه، فأشارت إلى أنه رسول الله -صلوات الله وسلامه وبركاته عليه)، فعقيدة أهل السنة والجماعة مطابقة للفطرة، وعقائد المتكلمين خارجة عن الفطرة، ولهذا فإن العوام على عقيدة سليمة، وأما الذين تعلموا في المؤسسات العلمية التي تنهج مناهج مخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة فقد انحرفوا عن الجادة بسبب ذلك، ولهذا قال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه كما جاء في (طبقات ابن سعد): (إلزم دين الصبي والأعرابي)، أي: الزم الشيء الذي كان عليه الصبيان والأعراب، وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فصر إليه ولا تصر إلى شيء يخالفه، وهذا الذي قاله عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه قد جاء عن بعض المتكلمين الذين ابتلوا بعلم الكلام، ومنهم الرازي، فإنه كان من المتمكنين في علم الكلام، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمته في (لسان الميزان) نقلاً عن بعض أهل العلم عنه أنه كان يقول مع تبحره في علم الكلام: الفائز من كان على عقيدة العجائز، يعني: على الفطرة.
إن كثير ممن ابتلوا بعلم الكلام ندموا على ذلك، وأظهروا الندم والحسرة، وفيهم من ذم علم الكلام كما حصل من الغزالي في كتابه: (الإحياء) فإنه ذمه ذماً بليغاً، ونقل ذلك عنه في (شرح الطحاوية) وقال: كلامُ مثله في ذلك حجة بالغة؛ لأنه تكلم فيه عن علم، فقد كان متمكناً فيه، {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]، وقد ذمه ذماً بليغاً وعظيماً.
إذاً: فعقيدة العوام والأعراب والصبيان عقيدة مبنية على الفطرة، فلم تتلوث بأفكارٍ خارجة عن الفطرة جاءت نتيجةً للتعلم، أو بسبب الأخذِ عن أهل البدع والأهواء.(517/4)
الأمر بتقوى الله تعالى والاقتصاد في أمره
وقد أورد أبو داود رحمه الله هذا الأثر الطويل عن عمر بن عبد العزيز وقد سأله رجل عن القدر، فكتب إليه، وأوضح وبين له الجواب، وأتى قبل الإجابة على السؤال بتمهيد بيّن أموراً عامة تتعلق بالعقيدة، وبيّن المسلك الذي ينبغي على الإنسان أن يسلكه، فأوصاه أولاً بتقوى الله، وتقوى الله عز وجل هي وصية الله للأولين والآخرين، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] وتقوى الله عز وجل هي سبب كل خير، وهي سبب كل صلاح وفلاح في الدنيا والآخرة، وهي: أن يجعل الإنسان بينه وبين غضب الله وقاية تقيه منه، وذلك بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، والتصديق بالأخبار، فهذا هو المعنى الشرعي للتقوى، وأما المعنى اللغوي للتقوى فهو: أن يجعل الإنسان بينه وبين الشيء الذي يخافه وقاية تقيه منه، وهذا المعنى أعم من المعنى الشرعي، والمعاني الشرعية في الغالب هي جزء من المعاني اللغوية، فتجد المعنى اللغوي عاماً والمعنى الشرعي خاصاً، وذلك مثل الحج، فإنه في اللغة: القصد، وفي الشرع قصد خاص، وهو: قصد مكة لأداء مناسك مخصوصة، فهو إذاً جزء من جزئيات المعنى اللغوي وكذلك العمرة، فإن معناها لغة: الزيارة، وهذا معنى عام، وأما في الشرع: فهي زيارة البيت للطواف فيه، والسعي بين الصفا والمروة، وكذلك الصوم، فهو لغة: الإمساك، فيشمل الإمساك عن الكلام، والإمساك عن الأكل والشرب، فكل ذلك يقال له صوم في اللغة، وأما في الشرع: فهو إمساك مخصوص، أي: الإمساك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات، وذلك من طلوع الشمس إلى غروبها، وعلى هذا فإن تقوى الله عز وجل معناها لغة: أن يجعل الإنسان بينه وبين ما يخافه وقاية تقيه منه، فإنه إذا خاف التأثر من الرمضاء والشوك والحجارة يجعل وقاية بلبس النعال والخفاف، وكذلك إذا تأذى من البرد فإنه يلبس الألبسة الثقيلة التي تقيه شدة البرد، وهكذا، وأما في الشرع فكما ذكرنا سابقاً.
وكان أول شيء أوصى به ذلك الرجل هو تقوى الله، وهذه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان يوصي بها كثيراً، فكان إذا أمَّر أميراً على جيش أوصاه بتقوى الله، وأوصاه بمن معه من المسلمين خيراً، كما جاء في حديث بريدة بن الحصيب الطويل الذي اشتمل على وصايا عديدة تتعلق بالجهاد والغزو في سبيل الله، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)، فتقوى الله عز وجل هي وصية الله للأولين والآخرين، وهي التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي بها، وهي معنى جامع لكل خير، فهي تشتمل على فعل المأمورات، وترك المحذورات.
ثم أوصاه بعد ذلك بالاقتصاد فقال: (والاقتصاد في أمره) يعني: فيما يأمر الله تعالى به، فالإنسان يقتصد ويتوسط، فلا يكون مشدداً على نفسه، ولا مكثراً من الشيء حتى يمل منه ويفتر، ولا أن يكون مقصراً بحيث يكون مهملاً، ولكن عليه أن يأتي بالأشياء المشروعة، فيأتي بما هو واجب، ويحرص على أن يأتي بالأمور المستحبة، ويداوم على ذلك، وكما يقولون: قليلٌ تداوم عليه خير من كثير تنقطع عنه، وذلك أن الإنسان إذا داوم على الشيء -ولو كان قليلاً- فإنه يكون دائماً على صلة بالله، وذلك بالإتيان بالعبادة الواجبة، والتقرب إلى الله بالنوافل ولو كانت قليلة، وإذا داوم على ذلك فإنه في أي وقت يأتيه الموت يكون على حالة طيبة، وأما إذا كان يجتهد في بعض الأحيان ثم يهمل فقد يأتيه الموت في حال الإهمال، ولهذا جاء عن بعض العلماء أنه قيل له: إن أناساً يجتهدون في رمضان فإذا خرج تركوا، فقال: فبئس القوم هم، لا يعرفون الله إلا في رمضان.(517/5)
اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وترك البدع والمحدثات
قوله: [واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم]، ومعلوم أن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمعنى العام -كما مر في أول (كتاب السنة) - هي كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن رغب عن سنتي فليس مني)، فسنته هنا: ما جاء به من الكتاب والسنة، والتزام سنته يكون باتّباع كل ما جاء به عليه الصلاة والسلام من الوحي كتاباً وسنة، فمن فعل ذلك فهو سائر على منهاج النبوة، وهو سالك طريقة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الوصية الثالثة.
ومعنى اتباع السنة: أن يعرف السنة ويعمل بها، فيكون بذلك متبعاً لا مبتدعاً.
والوصية الرابعة -وهي تقابل اتباع السنة- وهي النهي عن اتباع المحدثات والأخذ بها، فعلى المسلم أن يترك ما أحدثه الناس في دين الله، وليكن متبعاً للسنة تاركاً للبدعة، وهاتان الوصيتان قد جاءتا في حديث العرباض بن سارية حيث قال: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، ثم أرشد إلى اتباع السنة بقوله: (فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، فأمر باتباع السنة، وحذر من الوقوع في البدعة، ففيهما ترغيب في السنن، وتحذير من البدع، فقوله: (فعليكم بسنتي) ترغيب، وقوله: (وإياكم ومحدثات الأمور) ترهيب، وقد مر حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه مشروحاً قريباً في الباب الذي قبل هذا.
قوله: [وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنته] أي: بعد أن جاءت الشريعة واكتملت، وثبتت السنة واستقرت، فلا يضاف إليها شيء؛ لأنها شريعة كاملة لا تحتاج إلى إضافات، فهي في غاية التمام والكمال، وكل ما يحتاج إليه الناس في أمور دينهم قد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، فالواجب هو الاتباع وترك الابتداع.
قوله: [بعد ما جرت به سنته] أي: بعدما جاءت السنة واستقرت وعرفت، فإن إحداث شيء بعدها يُعدُّ من البدع، ويعدّ من محدثات الأمور؛ ولهذا فإن إضافة شيءٍ إلى شريعة الله عز وجل وإلحاقه وإلصاقه بها ولم يشرعه الله يُعدُّ اتهاماً للشريعة بالنقصان، وأنها تحتاج إلى تكميل، وقد جاء عن مالك بن أنس رحمة الله عليه أثر عظيم ذكره الشاطبي في كتاب (الاعتصام) قال: (من قال: إن في الإسلام بدعة حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، ثم قال: ما لم يكن ديناً يومئذ فإنه لا يكون اليوم ديناً) يعني: أن ما لم يكن ديناً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنه لا يكون ديناً بعد ذلك، ومعنى ذلك: أن الإنسان عندما يأتي بشيءٍ لم يشرعه الله تعالى فيضيفه إلى الشريعة، فكأنه يزعم بلسان حاله أن الشريعة ناقصة تحتاج إلى تكميل، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ الرسالة كاملة، والحق أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمت إلا وقد بلغ كل شيءٍ أُمر بتبليغه، وقد ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه أثراً عن الزهري أنه قال: (من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم) فقوله: (من الله الرسالة) فقد حصل ذلك، وقد أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب (وعلى الرسول البلاغ)، وقد حصل ذلك أيضاً على التمام والكمال (وعلينا التسليم)، وهنا ينقسم الناس إلى موفق ومخذول، فمنهم من يسلِّم فيسلم، ومنهم من لا يحصل منه التسليم فيحصل له الانحراف والإعراض عن الجادة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فالحاصل أن الشريعة قد استقرت وليس هناك شيءٌ يضاف إليها بعدما أكملها الله عز وجل؛ ولهذا جاء عن الحسن البصري رحمة الله عليه في تفسير قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] أنه قال مشيراً إلى مذهب الجهمية الذي أحدثه الجعد بن درهم، (لو كان ما يقوله الجعد حقاً لبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى أمره بالتبليغ)، فكيف يكون حقاً ولم يبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم؟! إذاً فهو باطل، وهو من محدثات الأمور، وهو داخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي) وليس هذا من سنته، وإنما هو خارج عن سنته، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئاً يقرب إلى الله عز وجل إلا ودل عليه، ولم يترك شيئاً يباعد من الله عز وجل إلا حذر منه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
فهذه هي الوصايا الأربع النفيسة التي افتتح بها عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه إجابته لهذا الرجل الذي سأله عن القدر، ومهد له بهذا التمهيد، وأتى بهذه الأمور العامة التي عليه أن يأخذ وأن يتقيد بها؛ لأنها مدخل للقدر وغير القدر، فكل ذلك لابد أن ينبني على السنة، وأن يجتنب ما أحدث المحدثون، وابتدعه المبتدعون.
قوله: [واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنته، وكفوا مؤنته] أي: بما أنزل الله عز وجل من الحق والهدى على رسوله، واتبعه على ذلك أصحابه، فالواجب أن يسار على منوالهم، وأن يسلك مسلكهم، ولا يُخرج عن هذا الطريق المستقيم الذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد كفوا تلك الأمور المحدثة بما أنزله الله عز وجل من الوحي، وبما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من السنن، فليسوا بحاجة إلى أن يأتوا بأشياء خارجة عن ذلك، ولا يجوز لأحد أن يضيف إليها شيئاً ليس منها، وإن حصل شيء من ذلك فإنه مردود على صاحبه كما جاء في الحديث المتفق على صحته عن أم المؤمنين عائشة وقد مر قريباً: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد).
وقد عرفنا أيضاً أن العمل المقبول عند الله تعالى لا ينفع صاحبه إلا إذا توافر فيه أمران: الأول: أن يكون خالصاً لوجه الله، والثاني: أن يكون مطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا اختل أحد هذين الشرطين فإن العمل يكون مردوداً على صاحبه.(517/6)
التمسك بالسنة عصمة من الزيغ والضلال
قوله: [فعليك بلزوم السنة] أي: اتبع السنن، واحذر البدع، واسلك المسلك القويم، وسر على الصراط المستقيم الذي جاء به الرسول الكريم عليه أتم الصلاة وأزكى التسليم، وهو الذي كان عليه أصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فإنهم السباقون إلى كل خير، والحريصون عليه، ولتحذر من الأهواء والبدع التي أحدثت بعدهم، فإنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يقال: إن شيئاً من الأهواء والبدع المحدثة التي جاءت بعد الصحابة أو في زمنهم ولم يكونوا عليها إنها حق، بل هي باطل، والحق هو ما كان عليه أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ولو كانت تلك الأهواء التي ابتدعها من ابتدعها حقاً لبلغها الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال الحسن البصري، ولو كانت حقاً لسبق إليها السابقون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أحسنوا في أعمالهم، وتقيدوا بسنة الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وقد سلم من تلك الأهواء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابتلي بها من بعدهم، فلا يمكن أن يقال بحال من الأحوال: إنه حق حجب عن الصحابة وحيل بينهم وبينه، وادخر لأناس يجيئون بعدهم، فهذا لا يصح أن يقال، ولا يصح أن يفكر فيه.
قوله: [فعليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة] أي: عصمة من الزلل، وعصمة من الضلال؛ لأنها حق جاء من عند الله الذي هو بكل شيء عليم، ولم تأت من عند البشر، فالواجب اتباع السنن التي جاءت من عند الله، والتي أنزلها الله وحياً على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فإن العصمة فيها؛ لأن العصمة إنما تكون فيما جاء عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، وليست في كلام غير المعصوم، فغيره -عليه الصلاة والسلام- يخطئ ويصيب، وأما هو فهو معصوم فيما يبلغ عن الله، وكل ما يأتي به فهو حق، ومن أخذ به أخذ بما فيه من العصمة، ومن حاد عنه فإنه يقع في الأمور المنكرة والأمور المحدثة.
قوله: [ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها، أو عبرة فيها] أي: قد مضى في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبِّين أنها ليست حقاً -أي هذه البدعة-؛ لأنها مخالفة لما جاء في الكتاب والسنة، فهي خارجة عن الجادة، وليست على الصراط المستقيم، كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] فالدين قد كمل، والشريعة قد استقرت، ولهذا فإن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لما صلى بالناس في شهر رمضان بعض الصلوات جماعة ترك الصلاة بهم بعد ذلك خشية أن يفرض عليهم قيام رمضان، لأن الزمن زمن تشريع، ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستقرت الشريعة، وانقطع الوحي، وليس هناك مجال لفرض شيء، وعُلم بأن هذا الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم هو سنة ومستحب، فعند ذلك جمع عمر رضي الله عنه وأرضاه الناس إلى قيام الليل وصلاة التراويح في رمضان، فالذي خشي منه الرسول صلى الله عليه وسلم هو أن يفرض عليهم، أما وقد استقرت الشريعة، فليس هناك تشريع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فـ عمر رضي الله عنه أعاد الناس إلى ما كانوا عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [فإن السنة إنما سنها من قد علم ما في خلافها -ولم يقل ابن كثير: من قد علم- من الخطأ والزلل والحمق والتعمق]، لقد جاءت السنة من عند الله، فهو الذي سنها وشرعها وأوحاها إلى رسوله صلى الله علي وسلم، فهو يعلم ما في خلافها من الخطأ، وما في خلافها من الضلال، والحمق والتكلف، وعلى هذا فالسنة فيها العصمة كما مر في قوله: (عليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة)، والذي سنها وأنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم هو الله سبحانه وتعالى، وهو يعلم ما في خلافها مما يحدثه الناس من الحمق، ومن التكلف، ومن الخطأ والزلل والضلال.
إذاً: فالسنة سليمة من كل ضرر، وغيرها مما هو على خلافها كله ضرر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، وهذا فيه بيان عظم شأن الشريعة وشأن السنن، وأنها من عند الله، وأن الذي شرعها هو بكل شيء عليم، وهو يعلم ما في خلافها من الضرر، وما فيها من الخير؛ ولهذا فإن لزومها فيه السعادة والسلامة، والخروج عنها إلى محدثات الأمور وإلى البدع المحدثة فيه الصفات الذميمة التي أشار إلى شيءٍ منها في قوله: (يعلم ما في خلافها من الحمق، والخطأ، والتعمق) أي: التكلف.(517/7)
الرضا بما كان عليه السلف الأولون
قوله: [فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم]، القوم هنا هم: الصحابة، فلا تشذ عنهم، ولا تخرج عن طريقهم، ولا تتصور أن ما أنت عليه من الباطل حق ظفرت به، وأنه حُجب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يظفروا به، فمعاذ الله أن يكون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حيل بينهم وبين الحق، وأن يكون قد ادُّخر لأناس يجيئون من بعدهم؛ ولهذا فإن الخير كل الخير، والسعادة كل السعادة في اتباع ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وأما ما أحدث بعدهم فهو من البدع التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة) ولهذا قال هنا: (فارض لنفسك ما رضي به القوم) أي: يكفيك ما كفى الصحابة، فلا تخرج عن طريقهم، وقد جاء في الأثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي أورده الدارمي في سننه في قصة الجماعة الذين كانوا متحلقين في المسجد، وكانوا يسبحون بالحصى، وفيهم شخص يقول: كبروا مائة هللوا مائة سبحوا مائة، ويعدون ذلك بالحصى حتى يكملوا هذا العدد، فوقف على رءوسهم أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود وقال: [ما هذا يا هؤلاء؟! عدوا سيئاتكم فأنا ضامن ألّا يضيع من حسناتكم شيء، ثم قال: إما أن تكونوا على طريقة أهدى مما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنكم مفتتحو باب ضلال، قالوا سبحان الله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير في هذا الذي نفعله، فقال رضي الله عنه: (وكم من مريدٍ للخير لم يصبه)، أي: أن هذا من البدع والمحدثات، والحاصل أنه بيّن لهم أن الحق إنما هو في ما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن مخالفتهم وفعل شيء لم يكن على منهجهم وطريقتهم إنما هو من الضلال والبدع المحدثة.(517/8)
عظمة علم السلف وبعد نظرهم
قوله: [فإنهم على علم وقفوا] أي: أن المنهج الذي ساروا عليه، والمسلك الذي سلكوه إنما صاروا إليه عن علم وقفوا عليه من كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يحصل منهم شيء من الابتداع، وإنما صاروا إلى ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم قال: [وببصرٍ نافذٍ كفوا] أي: أن ما أقدموا عليه فقد أقدموا عليه على دليل واضح، وحجةٍ بيِّنة، وما تركوه وكفوا عنه وأعرضوا عنه من هذه الأمور المحدثة، وهذه الأمور التي تعمق فيها المتعمقون، وتكلف فيها المتكلفون، إنما تركوه ببصرٍ نافذ، فأخذوا بالحق والهدى على بيّنة من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو يبيّن أنّهم هدوا إلى الحق والهدى واتبعوه، وأن ذلك حصل بوقوفهم عليه، وأنهم كَفُّوا عن الأمور المحدثة والمنكرة، فلم يشغلوا أنفسهم بها، ولم يكلفوا أنفسهم شيئاً منها، وإنما التزموا المنهج القويم الذي جاء في القرآن الكريم، وتركوا السبل الخارجة عن ذلك الطريق الذي قال فيه الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]، فكلام هذا الإمام وهذا الخليفة العالم الفقيه المحدث رحمه الله تعالى درر، وهكذا من وفقه الله أن يكون على طريق الحق والهدى، فإنه يخرج منه درر.
قوله: [ولهم على كشف الأمور كانوا أقوى].
أي: هم أقوى من غيرهم على إيضاح ما يحتاج إلى إيضاح، وهم أبعد الناس عن الأشياء التي فيها ضرر، وما حصل ذلك إلّا بنفاذ بصيرتهم.
قوله: [وبفضل ما كانوا فيه أولى] أي: أولى من غيرهم في معرفة الحق والسير عليه، وأما الذين خرجوا عن منهجهم وطريقتهم فقد وقعوا في أمور سلم الله منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحدثوا أموراً وابتدعوها ما أنزل بها من سلطان، فعليهم آثامها وآثام كل من ابتلي بها.(517/9)
استحالة أن يكون المتأخرون على حق والسلف على خلافه
قوله: [فإن كان الهدى ما أنتم عليه] أيها المتأخرون! أي: أهل الأهواء والبدع، [فقد سبقتموهم إليه] أي: أن هذا الحق قد فات الصحابة ولم يظفروا به، وأنتم ظفرتم به، وهذا لا يمكن أن يكون؛ لأن الحق والهدى هو ما كان عليه أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، كما جاء في حديث الفرقة الناجية، قال: (هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي)، وكما قال عبد الله بن مسعود: (إما أنكم على طريقة أهدى مما كان عليه أصحاب الرسول، أو أنكم مفتتحو باب ضلالة).
قوله: [ولئن قلتم إنما حدث بعدهم ما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، فإنهم هم السابقون]، وهذا صحيح، فإن الذين أحدثوا ذلك هم الذين اتبعوا غير سبيل المؤمنين، ولهذا يقول الله عز وجل {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء:115]، إذاً: فهؤلاء خارجون عن سبيل المؤمنين، وصاروا إلى خلاف ذلك، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يقال: إن هؤلاء الذين أحدثوا تلك الأمور هم أولى بالحق من الصحابة، بل إن الحق ما كان عليه الصحابة، وأما هؤلاء فخذلوا وابتلوا بتلك الأهواء والآراء المحدثة التي ما أنزل الله تعالى بها من سلطان.(517/10)
الخير والهدى في اتباع سلف الأمة
قوله: [فإنهم هم السابقون، فقد تكلموا فيها بما يكفي ووصفوا منه ما يشفي] أي: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم السباقون إلى كل خير، وهم الحريصون عليه، فلا يمكن أن يسبقهم غيرهم إلى ذلك بأن يحجب الحق عنهم ويدَّخر لأناسٍ يجيئون من بعدهم، بل إن الحق والهدى هو ما كانوا عليه رضي الله عنهم، وما سوى ذلك فهو من محدثات الأمور.
قوله: [فإنهم هم السابقون، فقد تكلموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي] أي: بما يكفي عن ما أحدثه الناس، فقد تكلموا في أمور العقيدة، وفي مسائل العلم بما يكفي.
قوله: [ووصفوا منه ما يشفي] أي: يشفي غيرهم، وليس الحق والهدى في كلام غيرهم ممن جاء بعدهم وأحدث المحدثات، وإنما الحق والهدى فيما كانوا عليه، وفيما قالوه، وفيما دلوا وأرشدوا إليه.
قوله: [فما دونهم من مقصر، وما فوقهم من محسر] أي: أنهم حبسوا أنفسهم عن أشياء ولم يتكلموا فيها، فليس هناك أحدٌ سكت كسكوتهم، ولا هناك أحدٌ فوقهم كشف أشياء لم يكشفوها، أو أظهر أشياء لم يظهروها، بل إنهم سكتوا عن كل شر، وكذلك ليس فوقهم أحدٌ يكشف الأمور ويوضحها ويحسر عنها ويبينها، فهم قد بينوا كل حق، وسلموا من أن يقعوا في الأمور الباطلة والمحدثة.(517/11)
خطأ وضلال من ترك منهج السلف الصالح
قوله: [وقد قصّرَ قومٌ دونهم فجفوا، وطمح عنهم أقوامٌ فغلوا]، وهذا يوضح الجملة السابقة في التقصير والحسر، فإن أناساً قصروا عنهم فجفوا، وأناساً تجاوزوا ما هم عليه، وكشفوا عن الأمور على وجهٍ يخالف ما أوضحوه وبينوه، وذلك بالدخول في علم الكلام، وتأويلهم النصوص الشرعية من كتاب وسنة على ما يوافق بدعهم، وليّهم أعناق النصوص حتى تتفق مع الباطل الذي كانوا عليه، وأما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وقفوا عند النصوص فلم يقصروا عنها، ولم يتجاوزوها.
قوله: [وإنهم بين ذلك لعلى هدىً مستقيم] أي: بين الإفراط والتفريط، وبين الغلو والجفاء، فهم على صراط مستقيم، وكما قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: فلا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم فالطرفان اللذان يتوسطهما الحق مذمومان، وهما طرفا الإفراط والتفريط.(517/12)
الإيمان بالقدر ومنزلته في الدين ومراتبه
قوله: [كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر، فعلى الخبير بإذن الله وقعت]، الكلام الذي مضى كله كلام عام يتعلق باتباع السنن، واتباع منهج الصحابة، والحذر من البدع مطلقاً، فهو كلام عام فيه وصايا نافعة، وفيه بيان المنهج الصحيح، والطريق المستقيم؛ طريق الفرقة الناجية، وهو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن ما سوى ذلك فهو من البدع والمحدثات، وهذا الكلام يدخل فيه القدر وغير القدر، ثم إنه بعدما أتى بهذا الكلام المفيد العظيم رجع إلى سؤاله، ثم إنه قبل أن يجيبه على سؤاله في القدر قال له: (فعلى الخبير بإذن الله وقعت) أي: عندي علم ما تسأل عنه، وإنما قال هذا من أجل أن يحفزه على أن يعرف ما يقول له، وأنه إنما قال ذلك عن علمٍ وبصيرة، ثم أخذ يوضح له ذلك، ولم يقل هذا الذي قاله ثناءً على نفسه، وإنما قاله ترغيباً وتحفيزاً له إلى أخذ ما يقوله له، وحتى تطمئن إليه نفسه، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحصل منهم شيءٌ من هذا، وليس ذلك من أجل مدح النفس ولا الثناء عليها، وإنما هو من أجل أن يرغبوا الناس في تلقي ما يجيبون به، وهذا من كمال النصح من سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
ثم بدأ بالكلام على القدر فقال: [ما أعلم مما أحدث الناس من محدثة، ولا ابتدعوا من بدعة هي أبين أثراً، ولا أثبت أمراً من الإقرار بالقدر]، وهذا يحتمل وجهين: الوجه الأول: أن المقصود بذلك أنه بدعة لغوية، وليس من البدع الشرعية، والمقصود بكونه بدعة أن الكتابة والتبيين فيه إنما جاء متأخراً، وأما التبيين والإيضاح فقد جاء في الشريعة وبينه الصحابة، ولكن تدوين القدر والكلام فيه إنما جاء بعد ذلك، كما أن السنن كلها إنما دونت بعد ذلك، (وهذا ذكره صاحب عون المعبود).
الوجه الثاني: هذه البدع الواضحة الجلية التي أحدثها الناس فإن الإقرار بالقدر وأنه حق أوضح وأبين منها، فكما أنها ماثلة للعيان ومشاهدة ومعاينة وهي بدعٌ محققة ما أنزل الله بها من سلطان، فأمر القدر من حيث حصوله ووقوعه هو أبين من هذا الذي أحدثه الناس.
قوله: [لقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء، يتكلمون به في كلامهم وفي شعرهم، يعزون به أنفسهم على ما فاتهم] أي: أن القدر قد جاء في كلام أهل الجاهلية.
وقوله: (في الجاهلية الجهلاء) يحتمل وجهين: إما أن يكون: ولقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء، ويكون الجُهلاء فاعل، أو تكون: الجَهلاء بفتح وتكون وصفاً للجاهلية، أي: لقد كان ذكره في الجاهلية الجَهلاء، فيكون الفاعل محذوفاً دل عليه ما بعده، وتكون (الجَهلاء) وصفاً للجاهلية وأنها في غاية الجهالة والضلالة، فيكون الجهلاء إما أنه جمع جاهل، وإما أنه وصفٌ للجاهلية، فهي موصوفة بشدة الجهل.
قوله: [ثم لم يزده الإسلام بعدُ إلا شدة] أي: أنه جاء في إثباته وتقريره وتوضيحه، وأن كل شيء بقضاء وقدر، وأنه لا يقع في ملك الله إلا ما شاءه الله سبحانه وتعالى، وكل أمر واقع فقد سبق به علم الله أزلاً، وقد كتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما ثبت ذلك في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أوجده الله تعالى طبقاً لما علمه أزلاً، وطبقاً لما كتب في اللوح المحفوظ، وطبقاً لما شاءه الله وأراده، وهذه هي مراتب القدر الأربع التي لا بد منها في الإيمان بالقدر، وهي: الأولى: العلم الأزلي، فالله تعالى قد علم أزلاً كل ما هو كائن، ولم يتجدد لله علم بشيء لم يكن يعلمه من قبل، بل الله تعالى بكل شيء عليم، فكل حركة أو سكون في الوجود فقد علمه الله تعالى أزلاً، وأما ما جاء في بعض الآيات من ذكر الاختبار حتى يعلم الله تعالى ما سيفعل العباد، كما قال الله عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143]، فليس معنى ذلك: أنه يحصل لله علم لم يكن حاصلاً له من قبل، وإنما المقصود من ذلك: ظهور علم يترتب عليه ثوابٌ وعقاب، ويترتب عليه جزاء، فهذا هو المقصود من ذلك، وليس المقصود من ذلك أنه لم يكن يعلم حتى حصل هذا الشيء بهذا الاختبار والابتلاء، فالله تعالى يعلم كل شيء أزلاً.
والمرتبة الثانية من مراتب القدر: كتابة الله عز وجل تلك الأمور التي ستقع في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، كما ثبت ذلك في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمرتبة الثالثة: المشيئة والإرادة، وأن الله شاء وأراد وجود هذا الشيء.
والمرتبة الرابعة: الإيجاد، وهو إيجاد الله لذلك الشيء الذي أراد وجوده، فيقع طبقاً لما علمه أزلاً، وطبقاً لما كتب في اللوح المحفوظ، وطبقاً لما شاءه وأراده، فما من أمر يقع في الوجود إلا وقد اجتمع فيه هذه المراتب الأربع، فمثلاً: وجودنا في هذا المكان، وفي هذا الزمان، فإن هذه المراتب الأربع تتوافر فيه، فالله تعالى قد علم أزلاً أننا سنجتمع في هذا الزمان وفي هذا المكان، وكتب في اللوح المحفوظ أننا سنجتمع، وشاء الله أن نجتمع، وحصل اجتماعنا على هذه الهيئة طبقاً لما علمه الله أزلاً، ولما كتبه في اللوح المحفوظ، ولما شاءه وأراده، فكل ما يقع فقد شاءه الله، وأما ما لم يقع فلم يشأه الله، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، (واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك) أي: أن الشيء الذي قُدِّر أن يحصل لك لا يتخلف عنك، والشيء الذي قد تخلف عنك لا يحصل لك، وعقيدة المسلمين مبنية على هاتين الكلمتين: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.(517/13)
إثبات القدر وورود أدلته في الكتاب والسنة
قوله: [ولقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غير حديث ولا حديثين، وقد سمعه منه المسلمون فتكلموا به في حياته وبعد وفاته].
لقد جاء القدر في كتاب الله عز وجل، وذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، فقال الله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] وقال: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51]، وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان)، فقوله: (احرص على ما ينفعك) أي: خذ بالأسباب، ومع أخذك بالأسباب اعتمد على مسبِّب الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال: (واستعن بالله)؛ لأن الإنسان إذا أخذ بالأسباب ولم يحصل له عون وتوفيق من الله تعالى فلا يحصل ما يريد، فمجرد الأخذ بالأسباب لا يكفي، بل يُحتاج إلى شيء وراءه وهو توفيق الله وإعانته على حصول ذلك الشيء، كما أنه لا يترك الأسباب ويقول: أنا متوكل، وإذا قدر الله لي شيئاً فإنه سيأتيني، فهذا كلام باطل، فلو أن إنساناً قال: إذا قدر الله لي أن يأتيني ولد فسيأتيني ولو لم أتزوج، فيقال له: إن الولد لا يأتي إلا عن طريق الزواج، أو عن طريق التسرّي، لأن الزواج أخذ بالأسباب، ومع الأخذ بالأسباب قد يوجد الولد وقد لا يوجد، فالإنسان إذا تزوج فقد يولد له وقد لا يولد له.
فمجرد الأخذ بالأسباب ليس هو كل شيء، لكن السبب مشروع، ومع الأخذ بالأسباب يستعين الإنسان بالله عز وجل، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً) فالطير لم تجلس في أوكارها، وتقول: إن قدِّر لي شيء فسيأتيني، بل إنها تغدو في الصباح خاوية البطون، وترجع في المساء ممتلئة البطون، إذاً فلا بد من الأخذ بالأسباب.
وقال صلى الله عليه وسلم: (كل شيء بقدر حتى العجز والكسل)، فكسل الكسول، ونشاط النشيط، كله مقدّر، فالإنسان المتحرك حركته بقدر، والإنسان الخامل خموله بقدر، وكل شيء بقضاء وقدر، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكذلك جاءت نصوص كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، وقد عقد الإمام البخاري كتاباً في صحيحه سماه (كتاب القدر)، وكذلك مسلم عقد في صحيحه (كتاب القدر)، وكثير من المحدثين يعقدون في مؤلفاتهم كتباً باسم القدر، ويوردون الأحاديث التي وردت في ذلك عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والإيمان بالقدر هو أحد أصول الإيمان الستة المبينة في حديث جبريل، حيث سأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره).
قوله: [وقد سمعه منه المسلمون فتكلموا به في حياته وبعد وفاته يقيناً وتسليماً لربهم].
أي: أن الصحابة سمعوا الكلام في القدر، فتكلموا فيه في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، وآمنوا وسلموا به يقيناً وإيماناً وتصديقاً وإقراراً وتضعيفاً لأنفسهم، فلم يترددوا في شيء جاء عن الله ورسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وكذلك استبعدوا واستحالوا أن يقع شيء لم يقدره الله عز وجل.
قوله: [وتضعيفاً لأنفسهم أن يكون شيء لم يحط به علمه، ولم يحصه كتابه] أي: نزهوا الله عز وجل عن أن يكون هناك شيء لم يحط به علمه، بل إن كل شيء قد أحاط الله به علماً، وكل ما قدر فقد سبق به علم الله، وهو مكتوب في اللوح المحفوظ، فنزهوا الله عز وجل أن يكون هناك شيء لم يحط به علمه، أو لم يشتمل عليه اللوح المحفوظ، وهاتان هما المرتبتان الأوليان من مراتب القدر: علم الله الأزلي، وكتابته في اللوح المحفوظ.
قوله: [ولم يمضِ في قدره] أي: وقوع الشيء الذي قد شاءه الله وأراده، أو عدم وقوعه.
قوله: [وإنه مع ذلك لفي محكم كتابه].
أي: كما أنه جاء ذكر القدر في السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وسمعه الصحابة منه، وجاء في أحاديث كثيرة، فكذلك جاء في محكم كتاب الله عز وجل، ومما جاء في ذلك قول الله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] وقول الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] وقول الله عز وجل: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] وغير ذلك من الآيات، وهو في كتاب الله عز وجل واضح جلي لا خفاء فيه، وكذلك هو موجود في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في السنة على أنه أحد أركان الإيمان الستة كما في حديث جبريل: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره).
قوله: [منه اقتبسوه، ومنه تعلموه].
يعني: من القرآن اقتبسوه ومنه تعلموه كما تعلموه من السنة، فقد اجتمع على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، وهو أحد أصول الإيمان الستة المبينة في حديث جبريل.(517/14)
عموم قضاء الله وقدره وشموله
قوله: [ولئن قلتم: لم أنزل الله آية كذا؟ ولم قال كذا؟ لقد قرءوا منه ما قرأتم، وعلموا من تأويله ما جهلتم].
أي: ولئن حصل من أحد منكم إيراد بعض الآيات التي قد يكون فيها اشتباه، ثم قلتم: لم كذا ولم كذا؟! فإنهم قد قرءوا هذا الذي قرأتموه، لكنهم قد علموا منه ما جهلتم، فهم تميزوا عنكم بأنهم علموا ما قد جهلتم، فأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام -ومن سار على منوالهم - لا يضربون القرآن بعضه ببعض، ولا يأخذون بالمتشابه منه، وإنما يردون المتشابه إلى المحكم، والقرآن يصدق بعضه بعضاً، ويشبه بعضه بعضاً، ولا يضرب بعضه ببعض، ولا يُتبع منه المتشابه ويُترك المحكم، كما هي طريقة أهل الزيغ والضلال التي ذكرها الله في القرآن، والتي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم).
فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأوا القرآن، وعلموا ما فيه وفقهوا معانيه، وهؤلاء جهلوا.
قوله: [وقالوا بعد ذلك: كله بكتاب وقدر].
يعني: أنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ومقدّر بقضاء الله وقدره، فكل هذا الذي يحصل ويقع، وكل ما هو كائن في الوجود فهو بقضاء الله وقدره، ولا يمكن أن يكون في الوجود شيء إلا وقد قدّره الله وقضاه.
قوله: [وكتبت الشقاوة].
أي: أن السعيد قد كُتبت سعادته، والشقي قد كتبت شقاوته.
قوله: [وما يقدر يكن].
أي: كل ما هو مقدر لا بد وأن يكون، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ويمكن أن يُعرف الشيء الذي قدره الله وقضاه بأمرين: أحدهما: الوقوع، فكل شيء قد وقع فإنه مقدر؛ لأنه لو لم يُقدّر لما وقع، فما شاءه الله كان.
الأمر الثاني: أن يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن أمر مستقبل، فخبره حق يجب تصديقه، ويجب اعتقاد أن هذا الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم لا بد وأن يوجد طبقاً لما أخبر به، وهذا الذي سيوجد هو شيء مقدّر، أي: أنه لا يوجد إلا شيء مقدر ولا يقع في الكون إلا ما قدّره الله، والرسول صلى الله عليه وسلم أخباره صادقة؛ لأنه يخبر عن الله، وهو لا ينطق عن الهوى، كما أخبر عن خروج يأجوج ومأجوج، والدجال، ونزول عيسى بن مريم، وغيرها من الأمور التي تقع في آخر الزمان، فإنها مقدرة وسبق بها القضاء والقدر، ومثل ما حصل من إخباره صلى الله عليه وسلم عن أمور قريبة من زمانه، وقد وقعت طبقاً لما أخبر به عليه الصلاة والسلام، مثل قوله عن الحسن وهو معه على المنبر - حيث كان الحسن صغيراً فحمله النبي صلى الله عليه وسلم - فقال: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، وقد حصل ذلك بعد ثلاثين سنة من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، في عام (41هـ)، ووقع ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا فالمقدّر أمر من أمور الغيب، ولا يعلم ما قدّره الله وقضاه إلا هو سبحانه وتعالى.
قوله: [وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن].
هاتان الكلمتان فيهما بيان القدر، وأن كل شيء شاءه الله لا بد أن يكون، وكل شيء لم يشأه الله فلا يمكن أن يكون، كما قال الشاعر: فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن أي: إذا شاء الإنسان شيئاً والله لم يشأه فلا يمكن أن يكون؛ لأن الذي يقع هو ما شاءه الله عز وجل.
قوله: [ولا نملك لأنفسنا ضراً ولا نفعاً].
هذا فيه إشارة إلى مخالفة ما عليه القدرية الذين يزعمون بأن العباد يخلقون أفعالهم، وأنهم يملكون لأنفسهم الضر والنفع! فإن هذا كلام باطل، وأهل السنة والجماعة يخالفونهم في ذلك؛ لأن كل شيء بيد الله عز وجل، فالناس يفعلون الأسباب ويحصل منهم الاكتساب، ولكن لا يقع إلا ما قدره الله وقضاه، وكل ما أرادوه إذا لم يشأه الله فإنه لا يقع، وما شاءه الله عز وجل لا بد وأن يقع، حتى ولو لم يشاءوه.
وهذا فيه إشارة إلى أن العبد لا يخلق فعله ولا ينفذه، وأن الله تعالى هو الخالق لكل شيء، والعبد مشيئته تابعة لمشيئة الله، كما قال الله عز وجل: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28 - 29] فلا يمكن أن يوجد في ملك الله ما لم يشأه الله سبحانه وتعالى، وكل ما وقع فقد شاءه الله، ولا يمكن أن يقال: إنه قد وُجد شيء لم يشأه الله.
كما يزعم المعتزلة القدرية القائلين بأن العباد يخلقون أفعالهم، وأن الله تعالى لم يقدرها عليهم، وأن الله تعالى ما أرادها وما شاءها، وإنما هم الذي شاءوها وأوجدوها!! فقوله: (لا نملك لأنفسنا ضراً ولا نفعاً)، يعني: أن كل شيء بيد الله، وكل شيء بقضاء الله وقدره وبخلقه وإيجاده.(517/15)
أقسام أفعال العباد
وهنا مسألة يتكرر ذكرها وإيرادها، وهي: هل الإنسان مخيّر أو مسير؟
و
الجواب
أنه مُخيّر ومُسيّر، فلا يقال: ‘نه مخير فقط، ولا مسير فقط؛ لأن القول بأنه مسير فقط هو قول: الجبرية الذين يزعمون أن الإنسان ليس عنده مشيئة ولا إرادة، وأنه مجبور على ما يحصل منه، وأن حركاته كحركات الريشة المعلقة في الهواء.
والمعتزلة يقولون: إنه مخير، وإنه يخلق فعله ويوجده.
وأهل السنة والجماعة يقولون: هو مسير باعتبار، ومخير باعتبار، أي: مخير باعتبار أن الله عز وجل جعل له عقلاً وجعل له قُدرة، وقد أُمر ونُهي، وعَرَف الخير والشر، وقيل له: إن فعلت كذا فلك كذا، وإن فعلت كذا فعليك كذا، فقد بين الله له الخير والشر، فهو يُقدم على الشيء بمشيئته وإرادته، لكن العمل الذي يعمله بمشيئته وإرادته لا يخرج عن مشيئة الله وإرادته، بل هو تابع لمشيئة الله وإرادته، فهو مخير باعتبار أنه مكلف وأنه مأمور ومنهي، وأنه قد بين الله له طريق الخير وطريق الشر، وقيل له: هذا الطريق يوصلك إلى الجنة، وهذا الطريق يوصلك إلى النار.
فهو مخير بأن يسلك أحد الطريقين.
وهو مسير باعتبار أنه لا يحصل منه إلا ما قدره الله وقضاه، فقضاء الله وقدره لا بد أن يكون، ولكن لا يقال: إن الإنسان مجبور! بل يجب التفريق بين الفعل الذي يكون باختيار الإنسان، والفعل الذي يكون بغير اختياره، فالأكل والشرب والذهاب والإياب والسفر والبيع والشراء، كل هذه أفعال اختيارية، تُفعل بمشيئة الإنسان وإرادته، فيثاب على ما كان منها حسناً، ويعاقب على ما كان سيئاً.
وهناك حركات اضطرارية، مثل حركة المرتعش الذي ترتعش يده، فليست هذه الحركة اختيارية بمشيئته وإرادته، بل هي خارجة عن مشيئته وإرادته، فهذا هو الذي يقال: إنه مجبور عليه، وإنه لا يدخل في مشيئته وإرادته، وأما كون الإنسان يبين له طريق الخير وطريق الشر، وأن هذا يوصل إلى الجنة وهذا يوصل إلى النار، ثم بعد ذلك يُقدم على هذا أو هذا، فإقدامه هذا بمشيئته وإرادته، ولكن مشيئة الإنسان وإرادته هي تحت مشيئة الله وإرادته وتابعة لها، كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28 - 29].
فلا يقال: إنه مخير، بمعنى: أنه لم يُقدّر عليه شيء.
ولا يقال: إنه مسير، بمعنى: أنه مجبور، وأنه ليس له مشيئة ولا إرادة، بل له مشيئة وإرادة، ولكنها لا تخرج عن مشيئة الله وإرادته.
فهو باعتبار أنه يفعل ما يشاء بإرادته ومشيئته، فهو مخير، وباعتبار أنه لا يخرج عن مشيئة الله وإرادته فهو مسير.
فإذا سئل الإنسان: هل أنت مخير أو مسير؟ فلا يكون الجواب بواحدة من الاثنتين، ولا يقول: ميسر.
أو يقول: مخير، بل يكون الجواب بالجمع بينهما، أي: مسير ومخير، ويكون التفصيل كما سبق.
وهذا يشبه المسألة المعروفة التي يقال: إذا أقيم الحد على إنسان، هل يكون هذا الحد زاجراً أو جابراً؟
و
الجواب
أنه زاجر وجابر في نفس الوقت، إذ يكون جابراً للنقص الذي حصل؛ لأنه قد وقعت عقوبته في الدنيا بإقامة الحد عليه، وفي نفس الوقت هو زاجر عن أن يعود إلى ذلك الفعل، وزاجر لغيره أيضاً أن يقع فيما وقع فيه هذا الذي أقيم عليه الحد، فيتعرض لتلك العقوبة التي عوقب بها هذا الجاني، فهذا مما يكون الجواب فيه بالجمع بين الاثنين، وليس باختيار واحد منهما.
وكذلك يعرف النحويون الفاعل بتعريف يشمل الاثنين، فيقولون: الفاعل: اسم مرفوع يدل على من حصل منه الحدث أو قام به الحدث.
فإذا أكل زيد أو شرب، نقول: حصل منه الحدث، لكن إذا قيل: مات زيد مرض زيد ارتعشت يده، فلا يقال: إنه حصل منه الحدث، وإنما هذا وصف حصل له، فارتعاش يده ليس من فعله، وإنما هو وصف قام به، وكذلك: مات زيد، فالموت حلّ به وقام به، وكذلك المرض حصل له وهو ليس من فعله، وإنما الذي من فعله هو الذي يدخل تحت مشيئته وإرادته، مثل: أكل، وشرب، ودخل، وخرج وما إلى ذلك، فيقولون في تعريف الفاعل: اسم مرفوع يدل على من حصل منه الحدث وهو الأفعال الاختيارية- أو قام به الحدث -وهي الأمور الااضطرارية التي لا تدخل تحت مشيئته وإرادته.(517/16)
مسارعة السلف إلى الطاعات مع علمهم أن كل شيء مقدر
قوله: [ثم رغبوا بعد ذلك ورهبوا].
يعني: كانوا يعلمون أن كل شيء مقدر، ومع ذلك كانوا يرغبون ويرهبون، فيفعلون الأعمال الصالحة رغبة فيما عند الله، ويتركون المعاصي خوفاً من عقوبة الله عز وجل، ويتضح هذا من سؤال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم عندما قالوا له: (أنتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: لا، اعملوا فكلٌ ميسر لما خُلق له) فهم يعملون الأعمال الصالحة يرجون بذلك ثواب الله، ويتركون المعاصي خشية من عقاب الله عز وجل، وهذا الذي فعلوه من الرغبة والرهبة هو من أفعالهم الاختيارية، وحصول ذلك منهم يكون طبقاً لما شاءه الله وقدره وقضاه، ويوضح هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (اعملوا، فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة).(517/17)
تراجم رجال إسناد أثر عمر بن عبد العزيز في التمسك بالسنة
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير هو العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز].
هذا الكلام مرسل؛ لأن سفيان لم يدرك عمر بن عبد العزيز، فـ عمر بن عبد العزيز توفي سنة (101هـ)، وقد ولد سفيان قبل وفاة عمر بأربع سنوات، وتوفي سنة (161هـ) وعمره أربع وستون سنة، إذاً فهو لم يسمع من عمر بن عبد العزيز، وإنما أدركه وعمره ثلاث سنوات أو أربع سنوات، إذاً فالأثر مرسل، ولهذا جاءت طريق أخرى يروي فيها سفيان عن رجل وهو النضر.
وعمر بن عبد العزيز هو الخليفة الإمام، وهو محدث فقيه ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا الربيع بن سليمان المؤذن].
الربيع بن سليمان المؤذن هو المرادي، وهو صاحب الشافعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[حدثنا أسد بن موسى].
أسد بن موسى صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد بن دليل].
حماد بن دليل صدوق، أخرج له أبو داود.
[سمعت سفيان يحدث عن النضر].
سفيان هو الثوري، والنضر هو ابن عربي، وهو لا بأس به، أي: أنه صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي.
وهذا الإسناد الثاني أنزل من الإسناد الأول، فبين أبي داود وبين سفيان في الإسناد الأول واحد، وهو محمد بن كثير، وأما في الإسناد الثاني فبينه وبين سفيان ثلاثة أشخاص، فالأول يعتبر عالياً، وأما الثاني فهو نازل؛ لكثرة الوسائط بينه وبين سفيان.
[ح وحدثنا هناد بن السري].
هو هناد بن السري أبو السري، وهو ثقة، أخرج له البخاري في (خلق أفعال العباد) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن قبيصة].
هو قبيصة بن عقبة، وهو صدوق ربما خالف، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو رجاء].
أبو رجاء، يقول عنه: الحافظ في التقريب: قيل هو الهروي، والإ فمجهول، أخرج له أبو داود.
[عن أبي الصلت].
أبو الصلت، قيل: شهاب الخراشي وإلا فمجهول.
يعني: أن النسبة لهذا غير محققة, لكن كما هو معلوم قبله طريقان.
[وهذا لفظ حديث ابن كثير ومعناهم].
أي: لفظ حديث ابن كثير في الطريق الأولى، ومعناهم، أي: معنى الطرق الأخرى.
[ثم قال: كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر].
أي: وقد أجابه رحمة الله عليه بهذا الجواب العظيم، وبهذه الدرر التي تبين كيف كان سلف هذه الأمة، وكيف كانت سلامة معتقداتهم وسلامة ألسنتهم، وأنهم يتكلمون بالحق، ويتبعون النصوص، وليس كلامهم مبنياً على العقل، ولا علم الكلام المذموم، ولا على آراء الرجال، وإنما يتكلمون ويعولون على ما جاءت به نصوص الكتاب والسنة، فهم يأخذون بالنقول، ويأخذون بالعقول الصحيحة التي تطابق النقول، وأما غيرهم فإنهم يعولون على المعقول، ويحرفون المنقول.(517/18)
الأسئلة(517/19)
حكم ذكرنا للمدعو أنه اهتدى على أيدينا
السؤال
هل يجوز لنا أن نذكر للمدعو أنه اهتدى على أيدينا؟
الجواب
لا يصلح هذا؛ لأنه قد يكون فيه شيء من المنّ أو الإدلال عليه، وقد يظن أنك تبحث عن عوض، أو أنك تبحث عن مقابل، فمثل هذا لا يصلح، وإنما على الإنسان أن يفرح بهذا الذي حصل له من اهتداء بعض الناس على يديه، وعليه أن يرجو ثواب ذلك عند الله.(517/20)
اشتراط البيان على من تاب من بدعته
السؤال
ذكر ابن القيم رحمه الله أن المبتدع يشترط في توبته البيان، وتحذير الناس من هذه البدعة، لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة:160] فهل يقال: إن من دعا إلى ضلالة لا تقبل توبته ما لم يبين، حتى لا يحصل له آثام من تبعه؟
الجواب
نعم، لا بد من البيان، فمجرد التوبة بدون أن يبيِّن نقص فيها، فمن كمال توبته أن يبين حتى لا يغتر الناس بما حصل منه.(517/21)
وصف من كانت له أخطاء عقدية بالإمامة
السؤال
هل صحيح أنه لا يوصف بالإمامة من كانت له أخطاء في العقيدة، فلا يقال: مثلاً حجة الإسلام الغزالي، ولا الإمام ابن حجر؟
الجواب
من كان عنده علم واسع وغزير ووجد عنده شيء من الأخطاء فلا بأس أن يقال له: إمام، فأخطاؤه مغمورة في جانب صوابه فيشهد له بالإمامة والتقدم في العلم، ويدعى له ويستغفر له، ويستفاد من علمه، ويحذر من خطئه.
ومثل هذه الألقاب كحجة الإسلام مثلاً تركها أولى، وأما الغزالي فقد جاء عنه ما يدل على رجوعه وندمه على ما قد حصل منه فيما مضى، فيذكر بما حصل منه من الرجوع إلى الخير وينبه على ذلك، ويحذر مما في كتبه من الأمور الباطلة والمنكرة.(517/22)
التحذير من الدعاة الذين فُتنوا بالتحليلات السياسية ولم ينقادوا لكلام العلماء
السؤال
الدعاة الذين فتنوا بالتحليلات السياسية والحديث عن فقه الواقع، وناقشهم العلماء في ذلك ولم يرجعوا، هل يحذر منهم ومن أشرطتهم، وهل يصرح بأسمائهم ويوصفون بالبدعة؟
الجواب
نعم، يحذر منهم، فالذين يركبون رءوسهم ويتكلمون في أهل العلم، ويحصل منهم كلام في الولاة مما يترتب عليه فتن، ويترتب عليه أمور منكرة، لاشك أن الابتعاد عن أشرطتهم والاشتغال بما هو مأمون الجانب أولى، وكما أسلفت فإن على الإنسان أن يشغل نفسه بما فيه السلامة، وأما الإنسان الذي عنده خلط واشتباه، فيستغنى عما عنده بالكتب والأشرطة التي هي مأمونة الجانب، فالذين هذا شأنهم وطريقتهم لاشك أنه يحذر منهم، ولا يشتغل بكلامهم، وإنما يشتغل بكلام أهل العلم المأمونين الذين يدعون إلى الله عز وجل على بصيرة ويحذرون من الفتن وأسبابها، ومن الوقوع فيها.(517/23)
حكم امتحان الناس بالأشخاص
السؤال
هل يجوز أن يمتحن الناس بشخص معين، فيقال لأحدهم: ما قولك في فلان، ثم يصنَّف من خلال هذا الجواب؟
الجواب
لا يجوز مثل هذا، وهو من تلاعب الشيطان بالناس، فمن الخطأ أن يشغلوا أنفسهم بسؤال الأشخاص عن هذا، ثم بعد ذلك ينابذ ذلك الممتحن أو يقرَّب بناء على الجواب، والواجب على كل إنسان ناصح لنفسه أن يشتغل بطلب العلم، وأن يشغل نفسه بما ينفعه، وألا يشغل نفسه بما يضره ولا ينفعه.(517/24)
حكم عد التسبيحات بالسبحة، وكذلك عد الآيات في الصلاة بها
السؤال
هذه مطوية توزع في فضل الذكر، وفي الصفحة الأخيرة منها، قال: عدّ الذكر بالسبحة، قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله: وعد التسبيح بالأصابع سنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: (سبحن واعقدن بالأصابع؛ فإنهن مسئولات مستنطقات)، وأما عده بالنوى والحصى ونحو ذلك فحسن، وكان من الصحابة رضي الله عنهم من يفعل ذلك، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين تسبح بالحصى وأقرها على ذلك، وروي أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يسبح به، وأما التسبيح بما يُجعل في نظام من الخرز ونحوه فمن الناس من كرهه، ومنهم من لم يكرهه، وإذا حسنت به النية فهو حسن غير مكروه، وأما اتخاذه من غير حاجة، أو إظهاره للناس مثل تعليقه في العنق، أو جعله كالسوار في اليد أو نحو ذلك فهذا إما رياء للناس، أو مظنة المراءاة ومشابهة المرائين من غير حاجة، فالأول محرم، والثاني أقل أحواله الكراهة.
مجموع الفتاوى (22/ 506).
قال: وأما عن عد الآيات في الصلاة بالسبحة فسئل شيخ الإسلام رحمه الله عما إذا قرأ القرآن ويعد في الصلاة بسبحة هل تبطل صلاته أم لا؟ فأجاب: إن كان المراد بهذا السؤال أن يعد الآيات، أو يعد تكرار السورة الواحدة، مثل قوله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] بالسبحة، فهذا لا بأس به.
مجموع الفتاوى (2/ 625).
الجواب
هذا غير واضح، ولا يصلح مثل هذا، ولا يشترط أن الإنسان يأخذ سبحة يعد بها الآيات، أو يعد تكرار السور، ولا أدري ما صحته، والحقيقة أنه كلام غريب، بل إنّ الإنسان لا يحمل في صلاته شيئاً يعد به، لا سبحة ولا غيرها، وإنما يضع يده اليمنى على يده اليسرى ويجعلها على صدره، ولا يشغل نفسه بحمل شيء؛ فإن ذلك غير لائق.
وأما ما يتعلق بالتسبيح بالسبحة فما نعلم شيئاً يدل على ذلك، ولا شك أن الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عنه هو أنه كان يسبح بأصابعه، فيكفي الناس ما ثبت، وأما قضية الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فما نعلم شيئاً ثابتاً يدل على أنهم كانوا يعدون بالحصى، نعم أنه قد وجد ولكنه غير صحيح، وقد مر بنا في سنن أبي داود شيء من هذا، وهو غير ثابت، فما أعرف شيئاً ثابتاً في ذلك عن الصحابة، وإنما الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو التسبيح بالأصابع، فعلى الإنسان أن يحرص عليها، ولا يشتغل بشيء سواها.(517/25)
من دعا إلى هدى كان له مثل أجور من تبعه.
السؤال
قد يثبت الله عز وجل المدعو على أداء العبادة واستجابته للداعي، ثم إن الله عز وجل قد يضاعف لمن يشاء من عباده، فهل يعني ذلك: أن الداعي ينال مثل أجر المدعو، سواء ضوعف له في أجره أو لم يضاعف له؟
الجواب
الحديث يدل على هذا، ففيه: (فله مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)، ومعناه: أن الداعي يكون له من الأجر مثل أجر المدعو.(517/26)
حكم العمل خارج مؤسسة الكفيل
السؤال
هل علي إثم إن دفعتُ نسبة إلى كفيلي مقابل عملي خارج المؤسسة؟
الجواب
على الإنسان في مثل هذا أن يتقيد بأنظمة الدولة، وإن احتاج إلى عمال فإنه يأتي بهم ليعملوا تحت إشرافه، وأما أن يأتي بهم ويتركهم حتى يأتوه بشيء، فهذا غير صحيح، وهذا غير لائق، وهذا لا تقره الدولة، فعلى الإنسان أن يتقيد بالأنظمة في هذا.(517/27)
شرح سنن أبي داود [518]
إن الله تعالى يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقدر أرزاق العباد وأعمارهم وآجالهم وأعمالهم في الأزل جل في علاه، لكنه لم يجبرهم سبحانه على أعمالهم وتصرفاتهم، بل بين لهم الخير وحضهم عليه، وأظهر لهم الشر وحذرهم منه، فبين للإنسان الطريقين، وهداه النجدين، فليختر العاقل الطريق الذي يريد سلوكه، والدار الذي يريد سكناه.(518/1)
تابع لزوم السنة(518/2)
شرح حديث (إنه سيكون في أمتي أقوام يكذّبون بالقدر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل قال: حدثنا عبد الله بن يزيد قال: حدثنا سعيد -يعني ابن أبي أيوب - قال: أخبرني أبو صخر عن نافع قال: كان لـ ابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه، فكتب إليه عبد الله بن عمر: إنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، فإياك أن تكتب إلي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: إنه سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: وأنه كان له صديق يكاتبه من أهل الشام، وأنه بلغه عنه أنه يقول بشيء من القدر، فكتب إليه: لا تكاتبني؛ فإني سمعت أنك تتكلم بشيء من القدر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر).
أي: أن ابن عمر رضي الله عنه أراد أن يترك مراسلته وصداقته؛ لأنه سمع عنه أنه يتكلم في القدر.
وقد ساق ابن عمر رضي الله عنه حديث جبريل الشهير عن أبيه وذلك لما جاءه اثنان من العراق، وقالا: إنه ظهر قبلنا أناس يقولون بالقدر، فقال: إذا لقيتموهم فأخبروهم أنني بريء منهم، وأنهم برآء مني، ثم ساق حديث جبريل الطويل عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أول حديث في (صحيح مسلم) في كتاب الإيمان منه، وساقه من أجل قوله: (وتؤمن بالقدر خيره وشره).(518/3)
تراجم رجال إسناد حديث (إنه سيكون في أمتي أقوام يكذّبون بالقدر)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن يزيد].
هو عبد الله بن يزيد المقري المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سعيد -يعني ابن أبي أيوب -].
سعيد بن أبي أيوب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني أبو صخر].
هو حميد بن زياد، وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي في (مسند علي) وابن ماجة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهو الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وهم: عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(518/4)
شرح أثر الحسن البصري (إن الشياطين لا يفتنون بضلالتهم إلا من أوجب الله عليه الجحيم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن الجراح حدثنا حماد بن زيد عن خالد الحذاء، قال: (قلت للحسن: يا أبا سعيد! أخبرني عن آدم؛ أللسماء خلق أم للأرض؟ قال: لا، بل للأرض، قلت: أرأيت لو اعتصم فلم يأكل من الشجرة؟ قال: لم يكن له منه بد، قلت: أخبرني عن قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:162 - 163]؟ قال: إن الشياطين لا يفتنون بضلالتهم إلا من أوجب الله عليه الجحيم)].
أورد أبو داود هذا الأثر عن الحسن البصري رحمة الله عليه، وذلك أن خالد الحذاء سأله فقال: (يا أبا سعيد! أخبرني عن آدم؛ أللسماء خلق أم للأرض؟ قال: بل للأرض) أي: أن الله أسكنه الأرض وجعله خليفة فيها.
قوله: [قلت: أرأيت لو اعتصم فلم يأكل من الشجرة؟ قال: لم يكن له منه بد] أي: لم يكن له بد من أن يأكل من الشجرة؛ لأن الله قدر ذلك، وما دام أنه قدر فلا بد من وقوع المقدر، فلا يقال: إنه يمكن أن يعتصم أو يمتنع من الأكل بعدما وجد الأكل، وبعدما وجد المقدر، فهذا الجواب جواب عظيم، فالشيء المقدر الذي قد وقع بالفعل لا يقال: إنه يمكن خلافه؛ ولهذا قال رحمة الله عليه: (لم يكن له منه بد)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)؛ لأن ما قدره الله لا بد وأن يكون، فلا يصح أن يقول: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، فما الذي يدريك أنه سيكون؟ إذ إنك قد تريد شيئاً ولا يقع، ولكن ما قدر فهو كائن، ولهذا قال الحسن رحمة الله عليه هنا في قضية الأكل من الشجرة: (لم يكن له منه بد)، (ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك).
قوله: [قلت: أخبرني عن قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:162 - 163]؟ قال: إن الشياطين لا يفتنون بضلالتهم إلا من أوجب الله عليه الجحيم].
وهذا أيضاً يبين الإيمان بالقدر، وأن قوله: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:162] أي كون الشياطين أو المضلين يفتنون غيرهم، ولا يفتنون أحداً إلا وقد كتب الله أنه يُفتن، وليس معنى ذلك: أنهم يوجدون هذه الفتن وليس لله تقدير لها، بل إن كل ما يحصل من هداية وضلالة فإنما يكون بقضاء الله وقدره، {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17] فما قدره الله من خير أو شر، وما قدره الله من هداية أو ضلال فلابد أن يكون.(518/5)
تراجم رجال إسناد أثر الحسن البصري (إن الشياطين لا يفتنون بضلالتهم إلا من أوجب الله عليه الجحيم)
قوله: [حدثنا عبد الله بن الجراح].
عبد الله بن الجراح صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود والنسائي في (مسند مالك) وابن ماجة.
[حدثنا حماد بن زيد].
هو حماد بن زيد البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد الحذاء].
هو خالد بن مهران الحذاء وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، والحذاء لقب، وسبب تلقيبه بذلك أنه كان يجالس الحذائين، وهذه -كما يقولون- نسبة إلى أدنى مناسبة؛ لأن الأصل في الحذاء أنه هو الذي يبيع الأحذية، أو هو الذي يصنعها، وأما أن يلقب بذلك من يجلس عند الحذائين فهذا لا يسبق إلى الذهن، وهذا مثلما قالوا في يزيد الفقير، فالمتبادر إلى الذهن أن الفقير هو من الفقر، وهذا ليس مراداً، وإنما سبب ذلك أنه كان يشكو من فقار ظهره، فقيل له: الفقير.
وقيل في سبب تلقيب الحذاء بهذا اللقب: أنه كان يقول للحذاء: احذ على كذا، احذ على كذا، أي: أنه كان يرسم له على مقدار النعل في الجلد شيئاً ثم يقول له: احذ عليه، أي: قص على مقدار هذا الذي رسمته لك، ثم يأتي بالمقص فيقص على هذا الرسم، فيطلع على مقدار الرجل، وهذا تقدير، ويقال له: خلق، وهو بمعنى التقدير، ولهذا يقول الشاعر: ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ـض القوم يخلق ثم لا يفري يعني: أنت تقدر ثم تنفذ طبقاً لتقديرك، وغيرك يقدر ولكنه عندما يريد أن يقص فإن قصه لا يستقيم، فتجده يدخل ويخرج، فتكون فيه تعاريج.
[عن الحسن].
هو الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(518/6)
شرح أثر الحسن البصري في قوله تعالى (ولذلك خلقهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا خالد الحذاء عن الحسن في قوله تعالى: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:119] قال: خلق هؤلاء لهذه، وهؤلاء لهذه].
أورد المصنف هذا الأثر عن الحسن أنه قال في قوله تعالى: ((وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)): خلق هؤلاء لهذه، أي: خلق أهل السعادة للجنة، وأهل الشقاوة للنار، أي: أنه قد سبق قضاء الله وقدره بأن الأشقياء للنار، وأن السعداء للجنة، لكن لا يقال: إنهم مجبورون على هذا، بل لهم عقول وإرادة ومشيئة، وقد رُغِّبوا ورُهِّبوا، فمن أقدم على سلوك الطريق الموصل إلى الجنة انتهى إليها، ومن أقدم على سلوك الطريق الموصل إلى النار انتهى إليها، كما قال عليه الصلاة والسلام: (اعملوا، فكل ميسر لما خلق له، فأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة)، وكما قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] أي: بينا له طريق الخير والشر.(518/7)
تراجم رجال إسناد أثر الحسن البصري في قوله تعالى (ولذلك خلقهم)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد هو ابن سلمة بن دينار البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا خالد الحذاء عن الحسن].
خالد الحذاء والحسن قد مر ذكرهما.(518/8)
شرح أثر الحسن البصري في قوله (إلا من هو صال الجحيم) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو كامل حدثنا إسماعيل حدثنا خالد الحذاء قال: قلت للحسن: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:162 - 163] قال: إلا من أوجب الله تعالى عليه أنه يصلى الجحيم].
وهذا مثل الأثر السابق، وقوله: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:162 - 163] أي: إلا من قدر الله وقضى عليه أنه يصلى الجحيم، فهذا هو الذي يفتنه المضلون، وأما من لم يُكتب عليه ذلك فإنه لا يحصل له، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلى بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف).(518/9)
تراجم رجال إسناد أثر الحسن البصري في قوله (إلا من هو صال الجحيم) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا أبو كامل].
هو أبو كامل الجحدري، وهو فضيل بن حسين، وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا إسماعيل].
هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم ابن علية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا خالد الحذاء عن الحسن].
خالد الحذاء والحسن قد مر ذكرهما.(518/10)
شرح أثر الحسن (لأن أسقط من السماء إلى الأرض أحب إلى من أن أقول: الأمر بيدي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هلال بن بشر حدثنا حماد أخبرني حميد قال: كان الحسن يقول: (لأن يسقط من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يقول: الأمر بيدي)].
أورد المصنف هذا الأثر عن الحسن حيث قال: (لأن يسقط من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يقول: الأمر بيدي) أي: أنه يخلق فعله، وأن العباد يخلقون أفعالهم، وأن الله تعالى لم يقدر عليه شيئاً، بل إن الخالق لكل شيء هو الله تعالى، فهو يفعل بمشيئته وإرادته، ولكن لا يخرج بذلك عن مشيئة الله وإرادته، والمقصود من ذلك: نفي القول بالقدر الذي يقول به القدرية، وهو أن الإنسان يخلق فعله ويوجد فعله، وأن الله لم يقدر عليه شيئاً.(518/11)
تراجم رجال إسناد أثر الحسن (لأن أسقط من السماء إلى الأرض أحب إلى من أن أقول: الأمر بيدي)
قوله: [حدثنا هلال بن بشر].
هلال بن بشر، ثقة أخرج له البخاري في (جزء القراءة) وأبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد أخبرني حميد].
حماد هو ابن زيد، وهو ثقة، وقد مر ذكره.
[عن حميد].
هو حميد بن أبي حميد الطويل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
الحسن مر ذكره.(518/12)
شرح أثر الحسن البصري في قوله (هل من خالق غير الله) وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا حميد قال: قدم علينا الحسن مكة، فكلمني فقهاء أهل مكة أن أكلمه في أن يجلس لهم يوماً يعظهم فيه، فقال: نعم، فاجتمعوا فخطبهم، فما رأيت أخطب منه، فقال رجل: يا أبا سعيد! من خلق الشيطان؟ فقال: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3] خلق الله الشيطان، وخلق الخير، وخلق الشر، قال الرجل: قاتلهم الله! كيف يكذبون على هذا الشيخ؟!].
أورد أبو داود هذا الأثر عن الحسن، وهو أنه قدم مكة فقال حميد: إن أهل مكة طلبوا منه أن يكلمه بأن يذكرهم ويعظهم، فأجاب إلى ذلك، قال فاجتمعوا إليه، قال: فما رأيت أخطب منه، أي: أبلغ وأفصح منه، فقال له رجل: من خلق الشيطان؟ فقال: سبحان الله! {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3]؟! ثم قال: الله خلق الخير وخلق الشر، فقال الرجل: قاتلهم الله كيف يكذبون على هذا الشيخ؟! أي: كأنه نُسب إليه أنه يقول بشيء من القدر، ولهذا اختبره وسأله هذا السؤال؛ حتى يعرف هل الأمر كما يقولون أو أنه بخلاف ما يقولون، فلما تبين له أن الأمر بخلاف ما يقال دعا على أولئك الذين ينسبون إليه تلك المقولة.
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا حميد عن الحسن].
كلهم مر ذكرهم.(518/13)
شرح أثر الحسن البصري في قوله: (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن كثير أخبرنا سفيان عن حميد الطويل عن الحسن: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الحجر:12] قال: الشرك].
أورد المصنف هذا الأثر عن الحسن في قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الحجر:12] قال: الشرك] أي: أن كل شيء مقدر، فالهداية مقدرة، والغواية مقدرة، وشرك المشرك واقع بقضاء الله وقدره، وإيمان المؤمن واقع أيضاً بقضاء الله وقدره، لكن لا يقال: إنه مجبور وليس له إرادة ومشيئة، وإنما يحصل ذلك بمشيئته وإرادته التي لا تخرج عن مشيئة الله وإرادة الله.
قوله: [حدثنا ابن كثير أخبرنا سفيان عن حميد عن الحسن].
كلهم مر ذكرهم.(518/14)
شرح أثر الحسن البصري في قوله: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن رجل قد سماه غير ابن كثير عن سفيان عن عبيد الصيد عن الحسن في قول الله عز وجل: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] قال: بينهم وبين الإيمان].
أورد المصنف هذا الأثر عن الحسن قال: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] قال: الإيمان.
قيل: إن ذلك يكون عند البعث، فالإيمان لا ينفعهم إذا شاهدوا العذاب.
والإسناد الأول فيه رجل مبهم، وقد سماه غير ابن كثير عن سفيان وأنه عبيد الصيد، وهو صدوق، أخرج له أبو داود.
وهذا الأثر يضعفه الشيخ الألباني، ولعل وجه ذلك: أن الرجل الذي سمى المبهم عبيد بن الصيد هو أيضاً مبهم، فقد قال في الإسناد: عن ابن كثير عن سفيان، وقد سماه غير ابن كثير عن سفيان(518/15)
شرح أثر ابن عون قال (يكذبون على الحسن كثيراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبيد حدثنا سليم عن ابن عون قال: كنت أسير بالشام فناداني رجل من خلفي فالتفت فإذا رجاء بن حيوة، فقال: يا أبا عون! ما هذا الذي يذكرون عن الحسن؟! قال: قلت: إنهم يكذبون على الحسن كثيراً].
أورد المصنف هذا الأثر عن ابن عون وهو يشبه ذلك الجواب الذي قاله ذلك الرجل بمكة، وذلك لما قال: قاتلهم الله، كيف يكذبون على هذا الشيخ؟ فقال رجاء بن حيوة: ما هذا الذي نسمعه عن الحسن؟ قال: إنهم يكذبون عليه كثيراً، والمقصود من ذلك: أنه نسب إليه شيء من القدر، وقد تبين أنه سليم من ذلك.(518/16)
تراجم رجال إسناد أثر ابن عون قال (يكذبون على الحسن كثيراً)
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد].
هو محمد بن عبيد بن حساب، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا سليم].
سليم هو ابن أخضر وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن ابن عون].
ابن عون هو عبد الله بن عون، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
الحسن مر ذكره.(518/17)
شرح أثر أيوب السختياني (كذب على الحسن ضربان من الناس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد سمعت أيوب يقول: كذب على الحسن ضربان من الناس: قوم القدر رأيهم، وهم يريدون أن يُنَفِّقوا بذلك رأيهم، وقوم له في قلوبهم شنآن وبغض، يقولون: أليس من قوله كذا؟ أليس من قوله كذا؟].
أورد المصنف هذا الأثر عن أيوب السختياني أنه قال: كذب على الحسن ضربان من الناس -أي: صنفان من الناس- قوم أهل قدر يريدون أن يجروه إليهم وأن ينفقوا باطلهم بنسبة ذلك إلى الحسن، وقوم في قلوبهم شنآن -أي: بغض، فهم يضيفون إليه ما لم يقل به- فيقولون: أليس من قوله كذا؟ أليس من قوله كذا؟(518/18)
تراجم رجال إسناد أثر أيوب السختياني (كذب على الحسن ضربان من الناس)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد هو ابن زيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت أيوب].
هو أيوب السختياني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(518/19)
شرح أثر قرّة بن خالد (لا تُغلبوا على الحسن فإنه كان رأيه السنة والصواب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن المثنى أن يحيى بن كثير العنبري حدثهم قال: كان قرة بن خالد يقول لنا: يا فتيان! لا تغلبوا على الحسن فإنه كان رأيه السنة والصواب].
أورد المصنف هذا الأثر عن قرة بن خالد أنه قال: يا فتيان! لا تغلبوا على الحسن، فإن رأيه السنة والصواب.
أي: لا يغلبكم القدرية عليه، فإنه ليس منهم، وإنما هو منكم (فإن رأيه السنة والصواب)، فهو على الحق وليس على الضلالة.(518/20)
تراجم رجال إسناد أثر قرّة بن خالد: (لا تُغلبوا على الحسن فإنه كان رأيه السنة والصواب)
قوله: [حدثنا ابن المثنى].
هو محمد بن المثنى أبو موسى الزمن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن يحيى بن كثير حدثهم].
يحيى بن كثير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[كان قرة بن خالد].
قرة بن خالد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(518/21)
شرح أثر ابن عون (لو علمنا أن كلمة الحسن تبلغ ما بلغت لكتبنا برجوعه كتاباً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا مؤمل بن إسماعيل حدثنا حماد بن زيد عن ابن عون قال: لو علمنا أن كلمة الحسن تبلغ ما بلغت لكتبنا برجوعه كتاباً، وأشهدنا عليه شهوداً، ولكنا قلنا: كلمة خرجت لا تحمل].
أورد أبو داود هذا الأثر عن عبد الله بن عون قال: لو كنا نعلم أن هذه الكلمة التي خرجت من الحسن تبلغ ما بلغت لكتبنا برجوعه كتاباً، وأشهدنا على ذلك شهوداً، لكننا قلنا: كلمة خرجت لا تحمل.
أي: ولكنها حملت، وكأنه حصل منه كلام موهم، فتلقفه من تلقفه، وأشاعه من أشاعه، وما جاء عنه من النصوص الكثيرة تدل على سلامته.(518/22)
تراجم رجال إسناد أثر ابن عون (لو علمنا أن كلمة الحسن تبلغ ما بلغت لكتبنا برجوعه كتاباً)
قوله: [حدثنا ابن المثنى وابن بشار].
ابن المثنى مر ذكره، وابن بشار هو محمد بن بشار الملقب بندار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهما محمد بن المثنى ومحمد بن بشار من شيوخ أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا مؤمل بن إسماعيل].
مؤمل بن إسماعيل صدوق سيئ الحفظ، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود في (القدر)، وهنا أخرج له في السنن كما هو موجود، فما أدري ما وجه ذكر نسبته إلى كتاب (القدر) فقط مع أنه موجود هنا.
[حدثنا حماد بن زيد عن ابن عون].
قد مر ذكرهما.(518/23)
شرح أثر الحسن البصري (ما أنا بعائد إلى شيء منه أبداً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب قال: قال لي الحسن: ما أنا بعائد إلى شيء منه أبداً].
أورد المصنف هذا الأثر عن أيوب وأن الحسن قال: ما أنا بعائد إلى شيء منه أبداً.
وهذا الأثر يدل على أنه قد حصل منه شيء تلقفه الناس، وقد يكون هذا الذي حصل منه هو كلام مشتبه، ففهمه بعض الناس فهماًخاطئاً وأضيف إليه ذلك، فأخبر بأنه لا يعود إلى شيء مما نسب إليه.
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن الحسن].
قد مر ذكرهم جميعاً.(518/24)
شرح أثر عثمان البتي (ما فسَّر الحسن آية قط إلا على الإثبات)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هلال بن بشر حدثنا عثمان بن عثمان عن عثمان البتي قال: ما فسر الحسن آية قط إلا على الإثبات].
أورد أبو داود هذا الأثر عن عثمان البتي، أنه قال: (ما فسر الحسن آية إلا على الإثبات) أي: إثبات القدر، وهذا فيه بيان دفع ما نسب إليه، وأنه ما فسر آية إلا على إثبات القدر، وهذا خلاف الشيء الذي نسب إليه، وهذه نصوص كثيرة، وآثار متعددة كلها تدل على سلامة الحسن مما نسب إليه من القدر.(518/25)
تراجم رجال إسناد أثر عثمان البتي (ما فسَّر الحسن آية قط إلا على الإثبات)
قوله: [حدثنا هلال بن بشر حدثنا عثمان بن عثمان].
عثمان بن عثمان صدوق ربما وهم، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن عثمان البتي].
هو عثمان بن مسلم البتي، وهو صدوق، عابوا عليه الإفتاء بالرأي، أخرج له أصحاب السنن.(518/26)
الأسئلة(518/27)
حكم هجر صاحب البدعة إذا كان صديقاً، وقطع معاملته
السؤال
هل يهجر صاحب البدعة إن كان صديقاً لي؟ وهل أترك معاملته بسبب بدعته؛ استدلالاً بفعل ابن عمر؟
الجواب
ينبغي عليك أن تحرص على مناصحته وتوجيهه وإرشاده، فإن حصل أثر لذلك فهو المطلوب، وإن لم يحصل وكانت تلك البدعة تقتضي ذلك، وهي واضحة جلية، وكان تركه يمكن أن يؤثر فيه، فلك أن تفعل ذلك.(518/28)
التثبت في الأمور قبل الحكم على الآخرين
السؤال
لماذا تبرأ عبد الله بن عمر ممن تكلم في القدر ولم يتثبت أولاً قبل أن يتبرأ من صاحبه؟
الجواب
يمكن أنه قد تثبت، وأن هذا الذي قاله إنما قاله بناء على التثبت.(518/29)
ضعف حديث (اللهم أجرني من النار! سبع مرات)
السؤال
ما صحة حديث أن يقال دبر كل صلاة: (اللهم أجرني من النار! سبع مرات)؟
الجواب
ضعفه الألباني.(518/30)
عدم إخراج الإمام مسلم عن شيخه البخاري
السؤال
هل أخرج الإمام مسلم شيئاً من الأحاديث عن شيخه البخاري؟
الجواب
ما أخرج عنه شيئاً، وذكروا أن سبب عدم إخراجه له أنه قد أدرك الذين أدركهم البخاري، وشاركه في شيوخه، ومعلوم أنهم يأخذون بالعالي، ولا يصيرون إلى النازل إذا وجدوا العالي، ومعلوم أن بين وفاتيهما خمس سنوات، وقد أدرك مسلم شيوخ البخاري مثل الإمام أحمد وغيره.(518/31)
إخراج الإمام البخاري للإمام أحمد
السؤال
هل أخرج البخاري للإمام أحمد في كتابه؟
الجواب
نعم، أخرج له.(518/32)
حال الإمام الترمذي من حيث الحكم على الأحاديث
السؤال
ما حال الإمام الترمذي من حيث التصحيح والتضعيف: هل يعد من المعتدلين أم من المتشددين؟
الجواب
ليس من المتشددين، ومعلوم أن الإمام الترمذي رحمة الله عليه له عناية بهذا الفن -أعني: الحكم على الأحاديث وبيان ما كان صحيحاً، وما كان حسناً، وما كان ضعيفاً- فهو متميز على غيره من الكتب الستة بهذه العناية فيما يتعلق بالتصحيح، وكذلك فيما يتعلق بذكر كلام الفقهاء من الصحابة ومن بعدهم في المسألة، واختلاف العلماء في العمل به، لكن تصنيفه من حيث التشدد فما هو بمتشدد، ومن العلماء من نسبه إلى التساهل، لكن الذي يظهر أنه معتدل، وقد صحح بعض الأحاديث وعابوا عليه إخراجها، مثل حديث: (الصلح جائز بين المسلمين)، فقد ذكره الحافظ في (البلوغ) وقال: صححه الترمذي، وعابوا عليه تصحيحه، ولعله اعتبره بطرقه.(518/33)
حكم من بدع العلماء كشيخ الإسلام وأبي حنيفة وابن حجر وغيرهم
السؤال
ما قول فضيلتكم عن جماعة تبدع شيخ الإسلام وأبا حنيفة وابن حجر والنووي والألباني وغيرهم من علماء المسلمين؟ وما واجبنا نحو هؤلاء؟
الجواب
واجبكم نحو هؤلاء أن تناصحوهم، وأن تسألوا الله لهم الهداية، ولا تغتروا بكلامهم، ومثل هؤلاء يعتبرون قطاع طريق عن العلم.(518/34)
ترجمة الخطبة بلغة القوم الذين يخاطبهم
السؤال
هل يصح إذا أراد الإنسان أن يخطب بهذا الكلام الذي قاله عمر بن عبد العزيز في خطبة جمعة في بلده أن يترجمه على المنبر بلغة القوم؟
الجواب
يصلح، لكن هذا الأثر فيه خفاء، فما كل الحاضرين يفهمه، لكنه يأتي بمعناه بعبارات واضحة جلية.(518/35)
حكم إلقاء الخطبة بغير اللغة العربية
السؤال
ما حكم إلقاء الخطبة بغير العربية؟
الجواب
الأصل أن الخطبة لا تخلو من العربية، ولا تكون بالعربية في أناس لا يفهمون العربية؛ لأنها تعتبر صيحة في واد، ولا يستفاد منها، لكن يجمع بين العربية وغيرها.(518/36)
حكم هذا الدعاء (اللهم! إن كنت كتبتني عندك أن أضل بعد الهدى فاقبض روحي قبل أن أضل)
السؤال
ما حكم الدعاء: اللهم! إن كنت كتبتني عندك أن أضل بعد الهدى فاقبض روحي قبل أن أضل وأزيغ؟
الجواب
لا يصح مثل هذا الدعاء، وإنما يسأل الله الهداية، وأن يعصمه من الضلالة، فعليه أن يأتي بدعاء واضح.(518/37)
معنى قوله تعالى (ولا يزالون مختلفين)
السؤال
يقول ربنا: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119] قال بعضهم: أي: خلقهم للاختلاف، فما قولكم؟
الجواب
وهذا الاختلاف أيضاً إلى جنة وإلى نار.(518/38)
ضعف حديث (من لازم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً)
السؤال
ما صحة حديث: (من لازم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً)؟ وإذا كان الحديث ضعيفاً فهل يجوز للإنسان أن يكثر من الاستغفار رجاء تفريج الهموم؟
الجواب
الشيخ الألباني يضعفه.(518/39)
التفضيل بين الصحابة(518/40)
شرح حديث (كنا نقول في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التفضيل.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أسود بن عامر حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه قال: (كنا نقول في زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لا نعدل بـ أبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في التفضيل]، أي: التفضيل بين الأشخاص، وأن هذا أفضل من هذا، ومعلوم أن التفضيل الذي يتعلق بتفاوت الناس في الدرجات عند الله عز وجل لا بد فيه من دليل؛ لأن هذا من الأمور الغيبية التي لا تعرف إلا بالدليل، كأن يأتي ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، سواء كان من قوله أو من إقراره، وأما التفضيل بأمور تظهر كأن يكون فلان أعلم من فلان، أو بغير ذلك فهذا يمكن أن يعرف بالمشاهدة والمعاينة، كما جاء في حديث: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة)، فهذا يمكن أن يعرف.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (كنا والنبي صلى الله عليه وسلم حي نخير فنقول: لا نعدل بـ أبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم)، يعني: ما نقول: فلان أفضل من فلان، فهذا كان في زمنه صلى الله عليه وسلم وحياته، وأما بعد ذلك وبعد أن عرفت النصوص في التفضيل فإنه يتعين المصير إلى ما تثبت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن المعلوم أن الخلفاء الراشدين الأربعة رضي الله عنهم وأرضاهم هم أفضل من غيرهم، وهم خير هذه الأمة بعد نبيها، وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، فهذا هو الذي تم ووقع، وهم جميعاً خلفاء راشدون بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، وخلافتهم خلافة نبوة كما جاء ذلك في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء)، فأهل السنة والجماعة متفقون على أن ترتيبهم في الخلافة هو هذا الترتيب الذي وقع وحصل، ومن اعترض عليه، أو تكلم وقدح فيه فقد قدح فيما حصل من أصحاب رسول الله عليهم الصلاة السلام الذين هم خير هذه الأمة، والذين هم أحرص الناس على كل خير، وأسبق الناس إليه رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وأما بالنسبة للتفضيل فـ أبو بكر أفضل الصحابة ثم عمر ثم عثمان، وتقديم عثمان على علي هو المشهور عند أهل السنة والجماعة، وهو قول جمهورهم، وقد جاء عن بعض أهل السنة والجماعة أن علياً أفضل من عثمان، ولكن الذين يقولون بتفضيل علي على عثمان لا يقولون بأنه أحق وأولى منه بالخلافة، فقد جاء عن بعض السلف: أن من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار؛ لأن هذا اعتراض على ما حصل وجرى منهم من تقديم عثمان على علي رضي الله تعالى عن الجميع، فترتيبهم في الخلافة أمر متفق عليه بين أهل السنة، وإنما الخلاف فيما يتعلق بالتفضيل، ومن المعلوم أنه حتى على هذا القول الذي قاله بعض أهل السنة من أن علياً أفضل فإنه يجوز ويسوغ تولية المفضول مع وجود الفاضل، لكن الذي استقر عليه قول أهل السنة جميعاً هو أن عثمان رضي الله عنه أفضل من علي، وأن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في (العقيدة الواسطية): أن مسألة تقديم علي على عثمان ليست من المسائل التي يبدع فيها المخالف، فقد قال به جماعة من أهل السنة، وإن كان القول الصحيح خلاف ذلك القول، وهو ما عليه جمهور أهل السنة من تقديم عثمان على علي في الفضل، رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين.
قوله: [(كنا لا نعدل بـ أبي بكر أحداً)]، أي: لا نقدم عليه ولا نسوي به أحداً، بل هو مقدم على غيره، والنصوص الكثيرة التي جاءت في بيان فضله وبيان عظيم قدره ومنزلته لا تخفى، ومن أوضحها وأشهرها الحديث الذي رواه جندب بن عبد الله البجلي وهو في (صحيح مسلم) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: (إني أبرأ إلى الله أن يكون منكم خليل، فإن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)، فقد أخبر عليه الصلاة والسلام عن أمر لا يكون، وهو كونه يتخذ خليلاً من أمته، وأخبر أنه لو كان هذا الذي لا يكون فإن الذي سيكون أحق به، والذي سيظفر به هو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهذا يدل على فضله وعلى تقدمه على غيره، وكذلك ما جاء في تقديمه في الخلافة واتفاق المسلمين عليه، وقال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في حقه وفي حق خلافته: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، وقال عليه الصلاة والسلام: لـ عائشة: (ادعي لي أباك وأخاك؛ لأكتب كتاباً، فإني أخشى أن يتمنى متمن أو يقول قائل، ثم قال عليه الصلاة والسلام: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر)، يعني: أن الذي يريد أن يكتبه سيتحقق وسيتم؛ لأن الله تعالى يأبى إلا أبا بكر، والمؤمنون يأبون إلا أبا بكر، وقد حصل هذا الذي أخبر به النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وأبى الله إلا أبا بكر، وأبى المؤمنون إلا أبا بكر، فاتفق الصحابة والمسلمون على بيعة أبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسموه خليفة رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ورضي الله تعالى عن أبي بكر، وعن الصحابة أجمعين.
ثم يليه عمر في الفضل، وهذا متفق عليه، وهو أيضاً يليه في الخلافة، ثم عثمان رضي الله تعالى عنه، وقد عرفنا أن في ذلك خلافاً لبعض أهل السنة، وأن ذلك لا يؤثر، ولا يعتبر صاحبه مبتدعاً أو صاحب بدعة، وإن كان القول الحق خلاف ذلك، وهو تقديم عثمان رضي الله تعالى عنه على علي، فكون ابن عمر رضي الله عنه يقول: (كنا نخير ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي، فنقول: لا نعدل بـ أبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم).
قال الخطابي: لعل الحديث محمول على الكبار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما من وراءهم فلا يشك بأن علياً رضي الله عنه هو الذي يلي عثمان، وأنه أفضل من غيره، ولكنه اقتصر على ذكر الكبار المتقدمين في السن، والذين لهم المنزلة والمكانة الرفيعة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أهل مشورته والمقربون إليه، وعلي رضي الله عنه كان دونهم في السن فليس من كبارهم، ولكن لا شك أنه هو خير أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام بعد الثلاثة: أبي بكر وعمر وعثمان.
ثم إن هؤلاء الأربعة الذين هم خلفاؤه الراشدون، والذين هم أفضل هذه الأمة كلهم لهم صلة مصاهرة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فـ علي رضي الله عنه له القرابة والمصاهرة، وأبو بكر وعمر قد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ببنتيهما، فتزوج عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر، والأخيران عثمان وعلي تزوجا من بنات الرسول صلى الله عليه وسلم، فـ عثمان رضي الله عنه تزوج ابنتين من بنات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهما: رقية وأم كلثوم، ولذا فإنه يقال له: ذو النورين، وعلي رضي الله عنه تزوج بـ فاطمة، إذاً فكلهم أصهاره، وكلهم بمنزلة قريبة منه، فالأولان تزوج منهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخران تزوجا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين.
ومعنى أن خلافة هؤلاء الأربعة خلافة نبوة أنهم جاءوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهم خلفاؤه، وقد جاء الحديث باتباع سنتهم، ثم يكون بعد ذلك ملك كما جاء في الحديث: (وبعد ذلك يؤتي الله ملكه من يشاء)، فمعنى ذلك: أن الخلفاء الراشدين هم الذين جاءوا بعده مباشرة، ومدتهم ثلاثون سنة، فـ أبو بكر له سنتان وأشهر، وعمر له عشر سنوات وأشهر، وعثمان له اثنتا عشرة سنة وأشهر، وعلي رضي الله عنه مكث قريباً من خمس سنوات، فهذه ثلاثون سنة، فخلافتهم خلافة نبوة، أي: أنهم جاءوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا خلفاء له، وقاموا بالأمر بعده خير قيام.
وقد ذكر شيخ الإسلام في (العقيدة الواسطية): أن رأي أهل السنة استقر على تفضيل عث(518/41)
تراجم رجال إسناد حديث (كنا نقول في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فإنه إنما أخرج له في (عمل اليوم والليلة).
[حدثنا أسود بن عامر].
أسود بن عامر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة].
هو عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر العمري المصغر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(518/42)
شرح حديث (كنا نقول ورسول الله حي: أفضل أمة النبي بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة حدثنا يونس عن ابن شهاب قال: قال سالم بن عبد الله: أن ابن عمر قال: (كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حي: أفضل أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم أجمعين)].
أورد أبو داود أثر ابن عمر من طريق أخرى، وذلك من طريق ابنه سالم عنه قال: (كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حي: أفضل هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان).
وقوله: (بعد نبيها) أي: بعد بعثته، وليس معنى ذلك أنهم يفضلون على أحد من الأنبياء، بل إن الأنبياء أفضل من جميع البشر، ولكن المقصود بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، فخير هذه الأمة هم هؤلاء.(518/43)
تراجم رجال إسناد حديث (كنا نقول ورسول الله حي: أفضل أمة النبي بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في (الشمائل).
[حدثنا عنبسة].
هو عنبسة بن خالد الأيلي، وهو صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود.
[حدثنا يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال سالم].
هو سالم بن عبد الله بن عمر، وهو ثقة فقيه، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[أن ابن عمر قال].
هو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقد مر ذكره.(518/44)
شرح أثر محمد بن الحنفية (قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان حدثنا جامع بن أبي راشد حدثنا أبو يعلى عن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ قال: أبو بكر، قال: قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، قال: ثم خشيت أن أقول: ثم من؟ فيقول: عثمان، فقلت: ثم أنت يا أبت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين].
أورد أبو داود هذا الأثر عن علي رضي الله عنه أنه سأله ابنه محمد بن علي المشهور بـ ابن الحنفية: من خير الناس؟ فقال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول: عثمان، فقلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.
وهذا يدلنا على تقديم أبي بكر وعمر، وأن هذا أمر مستقر ومعروف، بل علي نفسه رضي الله عنه ثبت عنه ذلك كما جاء في هذا الأثر الصحيح الثابت عنه، وهذا -كما هو معلوم- مبني على ما يعلمونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عمرو بن العاص أنه سأله: (من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قال: ومن الرجال؟ قال: أبوها، قال: ثم من؟ قال: عمر)، فهم يعلمون ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقول محمد بن الحنفية: ثم خشيت أن يقول: عثمان.
كأنه قد استقر أيضاً واشتهر عندهم أن عثمان هو الذي يلي عمر، وهذا مر في كلام ابن عمر السابق، فكأن ذلك أمر معروف بينهم.(518/45)
تراجم رجال إسناد أثر محمد بن الحنفية (قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا جامع بن أبي راشد].
جامع بن أبي راشد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو يعلى].
أبو يعلى هو المنذر بن يعلى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن الحنفية].
هو محمد بن علي بن أبي طالب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: قلت لأبي].
أبوه هو علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(518/46)
شرح أثر سفيان الثوري (من زعم أن علياً رضي الله عنه كان أحق بالولاية منهما فقد خطأ أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن مسكين حدثنا محمد -يعني الفريابي - سمعت سفيان يقول: من زعم أن علياً رضي الله عنه كان أحق بالولاية منهما فقد خطّأ أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار رضي الله عنهم جميعهم، وما أراه يرتفع له مع هذا عمل إلى السماء].
ذكر المصنف هذا الأثر عن سفيان الثوري رحمه الله قال: من زعم أن علياً رضي الله عنه كان أحق بالولاية منهما فقد خطأ أبا بكر وعمر والمهاجرين.
لأن أبا بكر بويع بالخلافة وقبل البيعة بالخلافة ممن بايع، وكذلك المهاجرين والأنصار بايعوه، فمن زعم أنه أحق بالولاية منهما فقد خطأهم جميعاً، واتبع غير سبيل المؤمنين؛ لأنهم اتفقوا على ذلك، ولهذا جاء عن بعض العلماء أنه قال فيما يتعلق بتفضيل غيرهما عليهما: أنه قد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وكذلك من قال: إنه أحق منهما بالولاية فقد اعترض على المهاجرين والأنصار وخطأهم، وهم خير هذه الأمة، وأحرص الناس على كل خير، وأسبق الناس إليه، فرضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
قوله: [وما أراه يرتفع له مع هذا عمل إلى السماء] أي: أنه لن يقبل له عمل؛ لأنه خالف ما عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(518/47)
تراجم رجال إسناد أثر سفيان الثوري (من زعم أن علياً رضي الله عنه كان أحق بالولاية منهما فقد خطأ أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار)
قوله: [حدثنا محمد بن مسكين].
محمد بن مسكين ثقة، أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا محمد -يعني: الفريابي -].
هو محمد بن يوسف الفريابي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت سفيان].
سفيان هو الثوري، وقد مر ذكره.(518/48)
شرح أثر سفيان الثوري (الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا قبيصة حدثنا عباد السماك سمعت سفيان الثوري يقول: الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز].
ذكر المصنف هذا الأثر عن سفيان الثوري أنه قال: (الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز)، فهؤلاء هم الخلفاء، ولاشك أن عمر بن عبد العزيز من الخلفاء، وقد تقدمه خلفاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال أمر الناس قائماً ما وليهم اثنا عشر خليفة)، ولا شك أن عمر بن عبد العزيز منهم، ومعاوية رضي الله عنه قبله منهم، فبعد الخلفاء الراشدين ثمانية من بني أمية، وكلهم وصفوا بأنهم خلفاء، وقد كان الأمر كذلك، فكان أمر الناس ماضياً، وكان المسلمون لهم قوة، وكانوا يجاهدون، ويغزون الكفار في بلادهم، والجيوش في زمن بني أمية وصلت إلى المحيط الأطلسي غرباً، وإلى الصين والسند والهند شرقاً، وكان الأمر كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان أمر الناس قائماً في ذلك الوقت، والجهاد قائم، والقوة للمسلمين، والتغلب لهم على أعدائهم، وهم يغزونهم إلى بلادهم، ويخرجونهم من الظلمات إلى النور، ويهدونهم إلى الصراط المستقيم، ويبصرونهم بالدين، ولم يأت بعد الخلفاء الراشدين من الولاة والملوك والخلفاء مثل معاوية رضي الله عنه؛ لأنه صحابي، والصحابة أفضل من غيرهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، فالصحابة خير من التابعين، وكل واحد من الصحابة يعتبر خيراً من أي واحد من التابعين، فالصحابة لهم ميزة على غيرهم، وعمر بن عبد العزيز من التابعين، فـ معاوية خير وأفضل منه، وهو أفضل من كل تابعي.
وهذا الأثر الذي جاء عن سفيان غير صحيح؛ لأن في سنده عباد السماك وهو مجهول.(518/49)
تراجم رجال إسناد أثر سفيان الثوري (الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا قبيصة].
هو قبيصة بن عقبة، وهو صدوق ربما خالف، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عباد السماك].
عباد السماك مجهول، أخرج له أبو داود.
[سمعت سفيان الثوري].
سفيان الثوري قد مر ذكره.(518/50)
لزوم التقيد بالنصوص عند التفضيل بين الصحابة
ينبغي معرفة المراتب بين الصحابة ومن ذلك تفضيل المهاجرين على الأنصار، وتفضيل العشرة المبشرين بالجنة على غيرهم، وهكذا، واعتقاد أن فلاناً خير من فلان، وفلاناً أفضل من فلان؛ يترتب عليه اعتقاد أنهم بهذه الدرجات وبهذه المنازل، وأنه لا يجوز خلاف ذلك بأن يجعل المفضول أفضل من الفاضل، فتخالف بذلك النصوص، بل الواجب هو اتباع النصوص، وتقديم من قدم الدليل وتأخير من أخر، وكلهم متقدمون، وأصحاب فضل ونبل وشرف رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، لكنهم متفاوتون في الفضل، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21](518/51)
إطلاق اسم الخليفة على معاوية وعمر بن عبد العزيز
السؤال
هل تسمية عمر بن عبد العزيز رحمه الله (خليفة) قدح في خلافة معاوية رضي الله عنه؟ مع العلم أن معاوية خير من عمر؟!
الجواب
لا يقال إن تسميته خليفة قدح؛ لأن معاوية خليفة أيضاً، وقد ورد في الحديث: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر خليفة) وهم الخلفاء الراشدون وثمانية من بني أمية، وأولهم معاوية رضي الله عنه، فهو خير الثمانية وأفضلهم، كما قال شارح الطحاوية: وأول ملوك المسلمين معاوية وهو خير ملوك المسلمين، وقال الذهبي في كتابه السير: ملك الإسلام، يعني أول ملك في الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء) وقد آتى الله ملكه معاوية رضي الله عنه، ومكث في الخلافة عشرين سنة، من سنة واحد وأربعين إلى سنة ستين.(518/52)
حديث (أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة) لا يدل على أنها أفضل من كل الصحابة
السؤال
عندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها) فهل يدل هذا على تفضيل عائشة على أبيها؟
الجواب
لا يدل على ذلك؛ لأن الأصل عند أهل السنة والجماعة أن الصحابة جميعاً أفضلهم الخلفاء الراشدون: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان.
وبعض أهل العلم -وأظنه ابن حزم - يقول: إن أمهات المؤمنين أفضل من غيرهن؛ لأنهن مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وهن في درجته ومعه، فيكن أفضل من غيرهن، لكن النصوص على أن خير هذه الأمة -وهو الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة- بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي.(518/53)
حكم تسمية عمر بن عبد العزيز بـ (خامس الخلفاء الراشدين)
السؤال
هل يصح تسمية عمر بن عبد العزيز بالخليفة الخامس؟
الجواب
بعض أهل العلم قال هذا، لكنه غير صحيح؛ لأن معاوية رضي الله عنه هو الخليفة الخامس، وهو أول خليفة بعد الخلفاء الراشدين.(518/54)
شرح سنن أبي داود [519]
جعل سبحانه وتعالى النبوة رحمة ببني البشر وسراجاً كاشفاً لما يجب على الخلق تجاه خالقهم وأنفسهم، وجعل سبحانه الخلافة امتداداً لمهمة الأنبياء عليهم السلام، والواجب الملقى على عواتق ولاة الأمر عظيم، فهم ساسة الناس وعليهم القيام بمصالح العباد، وإقامة شرع الله في الأرض، ولهم فضل عظيم عند الله وعند الخلق إن قاموا بذلك، وإن لم يقوموا بواجبهم كانت ولايتهم وبالاً عليهم.(519/1)
ما جاء في الخلفاء(519/2)
شرح حديث الرؤيا التي فسرها أبو بكر عند النبي فقال (أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الخلفاء.
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الرزاق -قال محمد: كتبته من كتابه- قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: كان أبو هريرة يحدث: (أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أرى الليلة ظلة ينطف منها السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون بأيديهم، فالمستكثر والمستقل، وأرى سبباً واصلاً من السماء إلى الأرض، فأراك يا رسول الله! أخذت به فعلوت به، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع، ثم وصل فعلا به، قال أبو بكر: بأبي وأمي لتدعني فلأعبرنها، فقال: اعبرها، قال: أما الظلة فظلة الإسلام، وأما ما ينطف من السمن والعسل فهو القرآن لينه وحلاوته، وأما المستكثر والمستقل فهو المستكثر من القرآن والمستقل منه، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحق الذي أنت عليه، تأخذ به فيعليك الله، ثم يأخذ به بعدك رجل فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع، ثم يوصل له فيعلو به، أي رسول الله! لتحدثني أصبت أم أخطأت؟ فقال: أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً، فقال: أقسمت -يا رسول الله- لتحدثني: ما الذي أخطأت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقسم).
أورد أبو داود رحمه الله باباً في الخلفاء.
والخليفة هو الذي يلي الأمر، ويقال له: خليفة؛ لأنه يكون خليفة لمن قبله، ولهذا لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايع المسلمون أبا بكر صاروا يلقبونه بخليفة رسول الله، لأنه خلفه وقام بالأمر بعده، فيلقبونه: خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا اللقب اختص به؛ لأنه لما جاء عمر رضي الله عنه ثم عثمان ثم علي صار كل واحد منهم يقال له: أمير المؤمنين، وذلك لأن الإضافات ستكثر، فـ أبو بكر هو خليفة رسول الله، وعمر يصير خليفة خليفة رسول الله لو جعلت المسألة بالإضافة، وعثمان خليفة خليفة خليفة رسول الله، فتزاد كلمة، وعلي أيضاً يزيد كلمة، فهم بدلاً من هذه الإضافات اختاروا هذا اللقب الذي هو أمير المؤمنين، فصار أول من تلقب بلقب أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، ثم صار يقال لكل واحد من الخلفاء: أمير المؤمنين، فالخلفاء هم الولاة الذين يلون الأمر وكل واحد يخلف الثاني، ويأتي خليفة من بعده، فـ أبو بكر جاء بعده عمر وخلفه وولي الناس من بعده، وكان ذلك بعهد إليه أي أن أبا بكر عهد إلى عمر وأوصى بأن يكون هو الخليفة من بعده، واعتبر هذا الاختيار من أعظم حسنات أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنه اختار للمسلمين رجلاً قوياً شجاعاً حصل على يديه الخير الكثير حيث فتحت الفتوحات، واتسعت رقعة البلاد الإسلامية، وقضي على دولة الفرس، وحجّم دولة الروم، وأنفقت كنوز كسرى وفلول الروم في سبيل الله على يديه حيث أخذتها الجيوش المظفرة التي بعث بها وأتوا بها إلى المدينة، وتولى قسمتها بنفسه رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ثم اختار الصحابة من بعده عثمان ثم بعد ذلك اختاروا علياً رضي الله تعالى عن الجميع؛ فهؤلاء هم أول الخلفاء، ثم جاء خلفاء من بعدهم.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه رأى ظلة في منامه، والظلة: الشيء الذي له ظل، والمقصود بذلك سحابة لها ظل، تنطف السمن والعسل، يعني: يتساقط منها سمن وعسل، والناس يتكففون بأكفهم هذا السمن والعسل الذي ينزل، (فمنهم المستقل ومنهم المستكثر) أي: منهم الذي حصل شيئاً كثيراً وقع في كفه، ومنهم من حصل له شيء قليل، قال: (ورأيت سبباً نزل من السماء)، والسبب هو: الحبل.
قال: (فأخذت به)، يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، (فعلوت به ثم أخذه رجل آخر من بعدك فعلا به، ثم آخر فعلا به، ثم آخر انقطع فعلا به) فـ أبو بكر رضي الله عنه بادر وقال: إنني أريد أن أعبر هذه الرؤيا، وطلب منه أن يأذن له فأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: (أما الظلة فظلة الإسلام) يعني: هذا الدين الذي جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأما كونها تنطف السمن والعسل فإن ذلك ما جاء به من القرآن، وأن الناس يتفاوتون في الأخذ من القرآن وفي العمل بما جاء في القرآن، فمنهم المستقل ومنهم المستكثر، يعني: على حسب ما يحصل منهم من التطبيق والتنفيذ لما جاء في القرآن، ثم الحبل الذي نزل من السماء وعلا به الرسول صلى الله عليه وسلم هو إشارة إلى ذهابه وإلى الخلفاء من بعده، وأبو بكر رضي الله عنه هو الذي يليه، ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنه، ثم إنه يحصل ما يحصل له من قيام بعض الناس عليه وحصره في داره ثم قتله فيها، ثم إنه وصل بعد ذلك لـ علي رضي الله عنه، يعني: علا به عثمان ثم انقطع، ثم وصل وجاء رجل آخر فعلا به وهو علي رضي الله عنه وأرضاه، فهذا هو تعبير هذه الرؤيا، ولما فسر أبو بكر رضي الله عنه هذا التفسير وعبرها بهذا التعبير قال: (أخبرني هل أصبت؟ قال عليه الصلاة والسلام: أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً، قال: أقسمت لتخبرني بذلك، قال له: لا تقسم) فقوله: لا تقسم أو قال: أقسمت، قيل: المقصود أنه قال: أقسمت ولم يقل: أقسمت بالله، ومثل هذا لا يعتبر قسماً، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقسم، ومن العلماء من يقول: إنه قسم، ولكن اليمين لا تبر إلا إذا كان يترتب على عدم الإبرار مضرة، وأما إذا كان عدم البر فيه مصلحة فإنها لا تبر اليمين، وليس كل من حلف على شيء أن يخبر به فإنه يلزم من حلف عليه الإخبار، فإنه إذا لم يكن في إخباره مصلحة فإنه يحنث في يمينه ويكفرها، وهو خير وأولى من أن يخبر بأمر لا ينبغي الإخبار عنه، ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبره لأن في ذلك إشارة إلى ما حصل لـ عثمان رضي الله عنه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لو أخبر به لكان في ذلك حزن وتأثير على الناس بمثل هذا الخبر، فأخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه بعد ذلك وقع وعرفه الناس بالوقوع، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله رداً على من تساءل بقوله: كيف لم يفسره الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يخبر به، ثم بعد ذلك يأتي الناس ويفسرونه؟ فقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبر عن أمر سيقع لأنه يترتب عليه شيء، ولكنه بعدما وقع وبعدما ظهر والناس شاهدوه وعرفوه لم يعد هناك بأس أن يتحدث عنه الناس على ضوء ما وقع وعلى ضوء ما قد حصل.
ومن قال: حلفت عليك أن تعمل كذا أو لا تعمل كذا، ما دام أنه ليس فيه (بالله) فهو ليس بحلف، وكلمة: حلفت أو أقسمت من دون أن يقول: (بالله) ما يعتبر قسماً، لكن حتى لو قال: أقسمت بالله، أو حلف عليه بالله أنه يخبره بسر من الأسرار التي لا ينبغي أن يخبره بها، فالذي حلف هو مخطئ في حلفه، وعليه أن يكفر عن يمينه، لكن الحديث ظاهره أنه ليس فيه حلف، يعني ليس فيه إلا كلمة: (أقسمت).
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقسم).
معناه: نهي عن القسم في المستقبل، وليس بواضح أنه اعتبرها قسماً؛ لأن قوله: لا تقسم، تعني: لا يحصل منك قسم، لأنه هنا قال: (أقسمت) فقط.
والرواية عند البخاري: (فوالله يا رسول الله! لتحدثني) هذا يوضح كلمة (أقسمت) ويكون الجواب مثل ما ذكر أنه ما يلزم أن كل من حلف تبر يمينه؛ لأن الإنسان قد يحلف على أن يخبر بسر لا ينبغي أن يخبر به.
قوله: [(أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً)].
الإصابة معروفة في مسألة الحبل، والاتصال بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم وبالنسبة للسمن والعسل والظلة، ولكن يبدو أن الشيء الذي أخطأه هو بيان ما جاء في آخر القصة، مما حصل لـ عثمان، وتفسيره له قوله: (وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحق الذي أنت عليه، تأخذ به فيعليك الله، ثم يأخذ به بعدك رجل فيعلو به) هذا على أنه أبو بكر وهذا طبعاً فيما يتعلق بالخلافة، مجرد كونه يحكم بالحق، وأنه يعلو به، أو يكون عالياً به، بل أيضاً حتى في نفس كونه خليفة، وأنه تبعه ومات بعده.
وهكذا تفسير قوله: (ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به) على أنه عمر.
وقوله: (ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع، فيوصل له فيعلو به).
وهذا فيه إشارة إلى خلافة عثمان، وابن القيم رحمه الله قال: إن البخاري ما عنده كلمة: (له)، وإنما عنده: (فينقطع)، ثم يوصل، يعني: يوصل لغيره وليس له، والمقصود من ذلك: علي رضي الله عنه والخلافة التي جاءت بعد عثمان، فذكر ذلك ابن القيم في تهذيب السنن حيث قال: البخاري ما جاء عنده (له)، بخلاف مسلم وغيره فإنه جاء عندهم: (فيوصل له)، ومعنى ذلك: أنه يرجع إلى السابق، بينما المقصود عند البخاري: أنه يرجع إلى الذي جاء بعده، لأنه هو انتهى بكونه قتل رضي الله عنه.
وفي اللفظ هنا أنهم ثلاثة فقط: (ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع، ثم يوصل له فيعلو به) ولا يوجد رابع.
قوله: [(ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع، ثم يوصل له فيعلو به)].
الخلافة في حقه قطعت بموته، بخلاف غيره فإن الأول مات، وتاليه قتل ولكنه ما قتل على الخلافة رضي الله عنهم، وأما هذا فقد قتل على الخلاف(519/3)
شرح حديث (الرؤيا التي فسرها أبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له (أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا محمد بن كثير حدثنا سليمان بن كثير عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه القصة، قال: (فأبى أن يخبره)] أورد أبو داود الحديث عن ابن عباس وفيه: (فأبى أن يخبره) ومعناه: أنه طلب منه أن يخبره والرسول ما أخبره، والألباني ضعف هذه الرواية، وسبب التضعيف هو سليمان بن كثير؛ لأنه لا بأس به في غير الزهري، وهنا روايته عن الزهري، لكن قوله: (فأبى أن يخبره) هو مقتضى ما تقدم من أنه طلب وما تحقق له ذلك؛ لأن هذا إخبار عن الواقع، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما أخبره، وامتنع عن إخباره وقد طلب منه وأكد ذلك عليه.(519/4)
تراجم رجال إسنادي حديث الرؤيا التي فسرها أبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الرزاق].
محمد بن يحيى بن فارس مر ذكره، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال محمد: كتبته من كتابه].
محمد هو الذهلي، وقوله: كتبته من كتابه، أي: من كتاب شيخه عبد الرزاق.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
مر ذكره.
[عن عبيد الله بن عبد الله].
هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو ثقة فقيه أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير هو العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقد مر ذكره.
والعادة أن أبا داود يروي عنه مباشرة، إلا أنه هنا روى عنه بواسطة.
[حدثنا سليمان بن كثير].
هو سليمان بن كثير العبدي، وهو لا بأس به في غير الزهري، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس].
مر ذكرهم.
وهذا يعتبر مرسل صحابي؛ لأن الرواية السابقة تدل على ذلك.
فهناك يقول: (كان أبو هريرة يحدث)، وهنا (عن عبد الله).(519/5)
شرح حديث (من رأى منكم رؤيا؟ فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً نزل من السماء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: من رأى منكم رؤيا؟ فقال رجل: أنا، رأيت كأن ميزاناً نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر، فرجحت أنت بـ أبي بكر، ووزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان، فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم رؤيا؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله! رأيت كأن ميزاناً نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت بـ أبي بكر، ثم وزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، ثم وزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان، فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا مثل الذي قبله، يدل على خلافة الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الترتيب، وأن أبا بكر بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان بعد عمر رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين.
فهو دال على خلافتهم وعلى أن كل واحد منهم يأتي بعد الآخر، وأما ذكر أنهم رأوا الكراهية في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلعل ذلك لما يحصل لـ عثمان في آخر الأمر مما قد حصل ووقع.(519/6)
تراجم رجال إسناد حديث (من رأى منكم رؤيا؟ فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً نزل من السماء)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
هو محمد بن المثنى أبو موسى الزمن العنزي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري].
محمد بن عبد الله الأنصاري من كبار شيوخ البخاري، ممن روى عنه الثلاثيات، وهو ثقة أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأشعث].
الأشعث يحتمل أن يكون أشعث بن عبد الله الحداني، أو أن يكون أشعث بن عبد الملك الحمراني؛ لأن كلاً من هذين الاثنين روى عن الحسن البصري، وروى عنه محمد بن عبد الله الأنصاري، وكل منهما محتج به، فـ الحداني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن، والحمراني ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن الحسن].
هو الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بكرة].
أبو بكرة هو نفيع بن الحارث رضي الله عنه، صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(519/7)
شرح حديث (أيكم رأى رؤيا؟ فقال: خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك من يشاء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن علي بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: أيكم رأى رؤيا؟ -فذكر معناه، ولم يذكر الكراهية- قال: فاستاء لها رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: فساءه ذلك- فقال: خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء)].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، وما ذكر الكراهية، ولكن ذكر الاستياء، وهو بمعنى واحد، فكونه استاء أو أنهم رأوا الكراهية في وجهه معناهما واحد، وفيه أيضاً: أنه قال: (خلافة نبوة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء).(519/8)
تراجم رجال إسناد حديث (أيكم رأى رؤيا؟ فقال: خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك من يشاء)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة بن دينار البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن علي بن زيد].
هو علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن أبي بكرة].
عبد الرحمن بن أبي بكرة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
مر ذكره.
وهذا الإسناد فيه ابن جدعان، ولكن الحديث ثابت بالطريق التي قبله.
وقوله: [(خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء)].
جاء ما يدل عليه، وهو حديث سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء).(519/9)
شرح حديث (أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا محمد بن حرب عن الزبيدي عن ابن شهاب عن عمرو بن أبان بن عثمان عن جابر بن عبد الله أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بـ أبي بكر، ونيط عثمان بـ عمر قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما تنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم).
قال أبو داود: ورواه يونس وشعيب، لما يذكرا عمرو بن أبان].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن عمر نيط بـ أبي بكر، وعثمان نيط بـ عمر) فقالوا: أما الرجل الصالح -يعني أولوها- أن الرجل الصالح هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هؤلاء الذين ذكروا من الخلفاء هم ولاة الأمر من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنوط بعضهم ببعض أي أن كل واحد يلي الآخر ويخلفه ويجيء بعده، فرسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بعده أبو بكر، ثم أبو بكر جاء بعده عمر، ثم عمر جاء بعده عثمان.
والحديث في إسناده ضعف من جهة أن الذي يروي عن جابر في بعض الطريق الموجودة مقبول، وأيضاً جاء عن بعض الرواة أن ذلك المقبول لم يذكر فيكون فيه انقطاع بين الزهري وبين جابر رضي الله تعالى عنه.(519/10)
تراجم رجال إسناد حديث (أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم)
قوله: [حدثنا عمرو بن عثمان].
هو عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا محمد بن حرب].
هو محمد بن حرب الحمصي الأبرش، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزبيدي].
الزبيدي هو محمد بن الوليد الزبيدي الحمصي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن ابن شهاب].
هو ابن شهاب محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن أبان].
عمرو بن أبان مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو الصحابي الجليل، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود: ورواه يونس وشعيب، لم يذكرا عمرو بن أبان].
قال أبو داود: ورواه يونس وشعيب عن الزهري، ولم يذكرا عمرو بن أبان، فيكون منقطعاً، والزهري لا يروي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما فيكون منقطعاً، وعلى كل حال فهو إما منقطع وإما فيه ذلك الواسطة الذي هو مقبول ويحتاج إلى متابعة، ويونس هو ابن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وشعيب هو ابن أبي حمزة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(519/11)
شرح حديث (أن رجلاً قال: يا رسول! إني رأيت كأن دلواً دلي من السماء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثني عفان بن مسلم حدثنا حماد بن سلمة عن أشعث بن عبد الرحمن عن أبيه عن سمرة بن جندب (أن رجلاً قال: يا رسول الله! إني رأيت كأن دلواً دلي من السماء، فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها، فشرب شرباً ضعيفاً، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء عثمان فأخذ عراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء علي فأخذ بعراقيها فانتشطت وانتضح عليه منها شيء)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه رأى كأن دلواً دلي، فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بعراقي الدلو، والعراقي هي الخشبتان المعترضتان اللتان تربط بها أطراف الدلو، فهذه يقال لها: العراقي، قال: (فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شرباً ضعيفاً، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع).
حتى تضلع، يعني: ملأ بطنه واتصل بطنه بضلعه من امتلاء البطن، وكذلك جاء عثمان فشرب حتى تضلع، ثم أخذها علي رضي الله عنه فانتشطت، يعني: اضطربت، فأصابه شيء منها، وهذا يدل على خلافة كل واحد منهم، وأن أبا بكر رضي الله عنه مدته وجيزة، وعمر مدته طويلة، وهي عشر سنوات وأشهر، وعثمان رضي الله عنه مدته اثنتا عشرة سنة، وعلي رضي الله أربع سنوات وأشهر، ولكن الحديث في إسناده رجل فيه ضعف، وهو الذي يروي عن سمرة وهو مقبول.(519/12)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رجلاً قال: يا رسول! إني رأيت كأن دلواً دلي من السماء)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
محمد بن المثنى هو أبو موسى العنزي الملقب بـ الزمن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثني عفان بن مسلم].
هو عفان بن مسلم الصفار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد بن سلمة].
هو حماد بن سلمة بن دينار البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أشعث بن عبد الرحمن].
أشعث بن عبد الرحمن صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبيه].
مقبول أخرج له أبو داود.
[عن سمرة بن جندب].
سمرة بن جندب رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(519/13)
ثبوت حديث رؤيا النبي للبئر والنزع منها، ودلالة ذلك على خلافة أبي بكر وعمر)
ورد في الصحيحين (أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى أنه كان على بئر وأن معه دلواً فنزع بها ما شاء الله أن ينزع، فأخذها أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف، ثم أخذها عمر فاستحالت غرباً، أي: دلواً كبيرة جداً، فلم أر عبقرياً يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن) هذا ثابت في الصحيحين وفي غيرهما، وهو يدل على خلافة أبي بكر وأنها قصيرة، ويدل على خلافة عمر وأنها طويلة، وما حصل من النفع الكثير واتساع البلاد الإسلامية وقوة الإسلام وأهله في ذلك الزمان، حتى اتسعت رقعة البلاد الإسلامية، وفتحت الفتوحات الواسعة، وقضي على دولة الفرس وقوض دولة الروم، وهما الدولتان العظيمتان في ذلك الزمان، وأنفقت كنوز كسرى وقيصر ملكي الفرس والروم في سبيل الله، وذلك على يد الفاروق حيث أرسلت إليه في المدينة وتولى قسمتها رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
فالحديث الذي فيه رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف في حق أبي بكر وعمر ثابت في الصحيحين، وأما هذا الذي فيه نزول الدلو، وأن أبا بكر شرب شرباً ضعيفاً وعمر شرب حتى تضلع -يعني: حتى اتصل أو التصق بطنه بضلعه من امتلائه بالماء- وكذلك عثمان هذا الحديث فيه ضعف.(519/14)
شرح قول مكحول (لتمخرن الروم الشام أربعين صباحاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا علي بن سهل الرملي حدثنا الوليد حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن مكحول قال: لتمخرن الروم الشام أربعين صباحاً لا يمتنع منها إلا دمشق وعمان].
أورد أبو داود هذا الأثر عن مكحول قال: لتمخرن الروم الشام أربعين صباحاً، يعني: أربعين يوماً، ومعناه: أنهم يجوبونها مثلما تمخر السفينة في الماء حيث تشقه وتمضي فيه، لا يمتنع منها إلا دمشق وعمّان، وهما مدينتان من مدن الشام مشهورتان معروفتان.
ولا يظهر له مناسبة فيما يتعلق بالخلفاء، إلا إذا كان كما يقول صاحب العون: انقضاء الخلافة وظهور الفتن بعد زمن الخلفاء الراشدين.
لكن وكما هو معلوم فإن كانت الخلافة الراشدة قد انتهت، إلا أن الخلافة استمرت بعدها، وحصل لها ثبات واستقرار، وكلام مكحول كلام تابعي، فهو ليس ثابتاً، ولا يقال: له حكم الرفع؛ لأنه ما هو بكلام صحابي، وإنما هو كلام تابعي، وهو كلام مرسل، ويجوز أنه أخذ من بعض الكتب أو القصص أو الحكايات، فلا يعتبر ولا يعول عليه؛ لأنه ما جاء فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو صح فيمكن أن يكون في المستقبل، ولا يقال: إنه بعد الخلافة الراشدة، لأنه بعد الخلافة الراشدة -كما هو معلوم- كانت الأمور مستقرة والمسلمون متمكنون من الشام، ولم يحصل للروم دخول بعد أن خرجوا منه في زمن عمر، ومعاوية رضي الله عنه بعدما حصل تنازل الحسن مكث في الخلافة عشرين سنة والأمر بيده، وأمر الإسلام ظاهر وقوي وعزيز، وقد غزوا البلاد المختلفة والجهاد ماض، والروم ما دخلوا بلاد الشام إلا دمشق وعمان، فالقول بأن الخلافة ضعفت بعد الخلفاء الراشدين غير صحيح.(519/15)
تراجم رجال إسناد قول مكحول (لتمخرن الروم الشام أربعين صباحاً)
قوله: [حدثنا علي بن سهل الرملي].
علي بن سهل الرملي صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا الوليد].
الوليد هو ابن مسلم الدمشقي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سعيد بن عبد العزيز].
سعيد بن عبد العزيز ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن مكحول].
مكحول هو الشامي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
والألباني ضعف هذا الأثر، ولا أدري هل تضعيفه من جهة الوليد بن مسلم وأنه مدلس، أو شيء آخر، لكن كما هو معلوم من حيث الثبوت لا يعتبر ثابتاً؛ لأن هذا إخبار عن أمر مستقبل، وهذا لا يعتبر إلا إذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقال: إن له حكم الرفع؛ لأن هذا كلام تابعي، والصحابي إذا أخبر عن أمر ليس للرأي فيه مجال ولم يكن معروفاً بالأخذ بالإسرائيليات فإن له حكم الرفع -أي: كلام الصحابي- لأنه إخبار بالأمور المغيبة.(519/16)
قول أبي الأعيس (سيأتي ملك من ملوك العجم) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن عامر المري حدثنا الوليد حدثنا عبد العزيز بن العلاء أنه سمع أبا الأعيس عبد الرحمن بن سلمان يقول: سيأتي ملك من ملوك العجم يظهر على المدائن كلها إلا دمشق].
أورد هذا الأثر عن عبد الرحمن بن سلمان قال: يأتي ملك من ملوك العجم يظهر على المدائن كلها إلا دمشق، وهذا مثل الذي قبله، يعني: هو كلام تابعي وليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا كلام صحابي.
قوله: [حدثنا موسى بن عامر المري].
موسى بن عامر المري صدوق له أوهام، أخرج له أبو داود.
[عن الوليد عن عبد العزيز بن العلاء].
الوليد بن مسلم تقدم، وعبد العزيز بن العلاء صوابه: عبد الله بن العلاء وهو عبد الله بن العلاء بن زبر، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[أنه سمع أبا الأعيس عبد الرحمن بن سلمان].
عبد الرحمن بن سلمان، ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وأخرج له أبو داود.
والشيخ الألباني حكم عليه بأنه صحيح الإسناد مقطوع، والوليد بن مسلم صرح بالسماع هنا.(519/17)
شرح حديث (موضع فسطاط المسلمين في الملاحم أرض يقال لها الغوطة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا برد أبو العلاء عن مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (موضع فسطاط المسلمين في الملاحم أرض يقال لها: الغوطة)].
أورد أبو داود هذا الأثر عن مكحول، وقد رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (موضع فسطاط المسلمين في الملاحم أرض يقال لها: الغوطة) وهي البساتين التي حول دمشق، والفسطاط معناه: الخباء، ومعنى ذلك: أن جيوش المسلمين تكون في ذلك المكان، وهذا مرسل؛ لأن التابعي إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا فهذا هو المرسل في اصطلاح المحدثين، والمرسل ضعيف؛ لأنه يحتمل أن يكون الذي سقط صحابياً أو تابعياً، وعلى فرض أنه تابعي فيحتمل أن يكون ثقة وأن يكون ضعيفاً، فهو من أجل احتمال أنه تابعي وأن التابعي يكون ضعيفاً أو ثقة اعتبر من قبيل الضعيف، ولو كان الساقط الصحابي فقط فلا يؤثر؛ لأن الصحابة كلهم عدول، ولهذا فقول صاحب البيقونية: ومرسل منه الصحابي سقط هذا الكلام غير مستقيم؛ لأنه لو كان السقوط للصحابي فقط ما كان هناك إشكال، ولكن الإشكال في كون المحذوف الساقط يحتمل أن يكون صحابياً وأن يكون تابعياً، وعلى احتمال أنه تابعي يكون ثقة أو ضعيفاً، لكن الحديث جاء عن أبي الدرداء بهذا اللفظ وزيادة، وقد سبق أن مر في باب المعقل من الملاحم، فيكون أثر مكحول صحيحاً بذاك الذي سبق أن مر وهو صحيح، وإلا لو كان الحديث ما جاء إلا من هذا الطريق فإنه لا يعتبر لكونه مرسلاً، ولكنه جاء من طريق أخرى غير هذا الطريق ومتصل، فيكون هذا له أصل في الصحيح.(519/18)
تراجم رجال إسناد حديث (موضع فسطاط المسلمين في الملاحم أرض يقال لها الغوطة)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد هو ابن سلمة بن دينار، وإذا جاء حماد غير منسوب ويروي عنه موسى بن إسماعيل فهو حماد بن سلمة كما عرفنا ذلك مراراً، وحماد بن سلمة مر ذكره.
[أخبرنا برد أبو العلاء].
برد أبو العلاء صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن مكحول].
مكحول قد مر ذكره.(519/19)
شرح قول الحجاج بن يوسف: (إن مثل عثمان عند الله كمثل عيسى بن مريم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو ظفر عبد السلام حدثنا جعفر عن عوف قال: سمعت الحجاج يخطب وهو يقول: إن مثل عثمان عند الله كمثل عيسى بن مريم، ثم قرأ هذه الآية يقرؤها ويفسرها: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران:55] يشير إلينا بيده وإلى أهل الشام].
أورد أبو داود هذا الأثر عن الحجاج، وهو يتعلق بالخلفاء على اعتبار أنه أمير لـ عبد الملك بن مروان أحد خلفاء بني أمية، والحجاج -كما هو معلوم- معروف بالظلم، وقد قالت أسماء بنت أبي بكر لما قتل ابنها عبد الله بن الزبير: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج في ثقيف كذاب ومبير) فأما الكذاب فقد عرفناه، وأما المبير فلا أخاله إلا أنت، والمبير هو الظالم المهلك، والحجاج كان شديد البأس، وكان عنده ظلم وهو مشهور بذلك.
أورد أبو داود عنه هذا الأثر أنه قال: إن مثل عثمان كمثل عيسى الذي قال الله تعالى فيه: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55] ومعناه: أن قرابة عثمان وهم بنو أمية فيهم الخلفاء وهو أحد أمرائهم، وأنهم باقون، وأن لهم التفوق على غيرهم، يقول: يشير إلينا وإلى أهل الشام، يعني: إلى أهل العراق وإلى أهل الشام أي: الذين اتبعوا بني أمية وتابعوهم ولم يخالفوهم، فهو يشير إلى هؤلاء الذين رضوا والذين هم مطيعون وليسوا معارضين لخلافة بين أمية.(519/20)
تراجم رجال إسناد قول الحجاج بن يوسف: (إن مثل عثمان عند الله كمثل عيسى بن مريم)
قوله: [حدثنا أبو ظفر عبد السلام].
هو عبد السلام بن مطهر، وهو صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود.
[حدثنا جعفر].
جعفر هو ابن سليمان الضبعي، وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عوف].
هو عوف بن أبي جميلة الأعرابي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت الحجاج يخطب].
الحجاج ليس له رواية، وإنما ورد ذكره في الكتب.(519/21)
شرح قول الحجاج بن يوسف (رسول أحدكم في حاجته أكرم عليه أم خليفته في أهله؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني حدثنا جرير ح وحدثنا زهير بن حرب قالا: حدثنا جرير عن المغيرة عن الربيع بن خالد الضبي قال: سمعت الحجاج يخطب فقال في خطبته: رسول أحدكم في حاجته أكرم عليه أم خليفته في أهله؟ فقلت في نفسي: لله علي ألا أصلي خلفك صلاة أبداً، وإن وجدت قوماً يجاهدونك لأجاهدنك معهم.
زاد إسحاق في حديثه قال: فقاتل في الجماجم حتى قتل].
أورد أبو داود هذا الأثر عن الحجاج وفيه: أنه خطب فقال في خطبته: رسول أحدكم في حاجته أكرم عليه أم خليفته في أهله؟ والمقصود من ذلك: معرفة الفرق بين هذا وهذا، وهذا الذي فهمه الربيع بن خالد الضبي؛ ولذا قال: لله علي ألا أصلي خلفك صلاة أبداً، وفهم أنه يفضل الخلفاء على الرسل والأنبياء، ومعلوم أن هذا لو حصل أو ثبت يكون ردة، ولكن الإسناد لم يثبت؛ لأن فيه المغيرة بن مقسم الضبي وهو مدلس، ثم أيضاً يحتمل ألا يريد تفضيل الخلفاء على الأنبياء وعلى الرسل، وإنما يريد أن الإنسان إذا أرسل إنساناً في حاجة له وكذلك لو جعل أحداً يخلفه في أهله إذا غاب عنهم، فإن الذي يخلفه أولى من الذي يرسله في حاجة، فيكون من حيث المعنى لا شك أنه صحيح، وأما إذا أريد به المقارنة والموازنة بين الرسل وبين الخلفاء فإن هذا ردة والعياذ بالله وكفر بالله عز وجل.
فهذا الأثر لم يثبت، ولو ثبت أن الحجاج يقارن بين الرسل وبين الخلفاء فهذا ردة، وكلام الذي نذر لا شك أنه مبني على أنه فهمه أنه مقارنة بين الرسل وبين الخلفاء.(519/22)
تراجم رجال إسناد قول الحجاج بن يوسف (رسول أحدكم في حاجته أكرم عليه أم خليفة في أهله؟)
قوله: [حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني].
إسحاق بن إسماعيل الطالقاني ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح، وحدثنا زهير بن حرب].
(ح) وهي التحول من إسناد إلى إسناد.
وزهير بن حرب هو أبو خيثمة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[قالا: حدثنا جرير عن المغيرة].
المغيرة هو ابن مقسم الضبي، وهو ثقة ولكنه مدلس، وهنا روى بالعنعنة، فيكون ذلك الأثر غير صحيح، لعنعنة هذا المدلس.
[عن الربيع بن خالد الضبي].
الربيع بن خالد الضبي ثقة، أخرج له أبو داود.
[زاد إسحاق في حديثه قال: فقاتل في الجماجم حتى قتل].
أي: الربيع الذي نذر أنه إذا وجد أناساً يقاتلونه فسيقاتله معهم، وذلك في القتال الذي حصل بين الحجاج وبين عبد الرحمن بن الأشعث في دير الجماجم.(519/23)
شرح قول الحجاج بن يوسف (اتقوا الله ما استطعتم ليس فيها مثنوية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو بكر عن عاصم قال: سمعت الحجاج وهو على المنبر يقول: اتقوا الله ما استطعتم، ليس فيها مثنوية، واسمعوا وأطيعوا ليس فيها مثنوية لأمير المؤمنين عبد الملك، والله! لو أمرت الناس أن يخرجوا من باب من أبواب المسجد فخرجوا من باب آخر لحلت لي دماؤهم وأموالهم، والله! لو أخذت ربيعة بمضر لكان ذلك لي من الله حلالاً، ويا عذيري من عبد هذيل! يزعم أن قراءته من عند الله، والله! ما هي إلا رجز من رجز الأعراب ما أنزلها الله على نبيه عليه الصلاة والسلام، وعذيري من هذه الحمراء يزعم أحدهم أنه يرمي بالحجر فيقول إلى أن يقع الحجر: قد حدث أمر، فوالله! لأدعنهم كالأمس الدابر، قال: فذكرته للأعمش فقال: أنا والله سمعته منه].
أورد أبو داود هذا الأثر عن الحجاج عن الأعمش وعن عاصم بن أبي النجود بهدلة، يقول بأنه سمع الحجاج يخطب ويقول: (اتقوا الله ما استطعتم ليس فيها مثنوية) يعني: بدون استثناء، يعني: اتقوا الله عز وجل في امتثال أوامره ليس في ذلك استثناء، وليس فيه إلا الاستجابة والالتزام بما جاء عن الله عز وجل من تقوى الله على حسب الاستطاعة {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] (واسمعوا وأطيعوا ليس فيها مثنوية لأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان)، يعني: اسمعوا وأطيعوا بدون استثناء، ومعلوم أن السمع والطاعة لولاة الأمور فيها استثناء وليست على إطلاقها، بل ذلك في حدود طاعة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فيسمع له ويطاع في حدود طاعة الله ورسوله، وليس على الإطلاق؛ لأنه جاءت السنة عن الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه يسمع لولاة الأمر فيما أمروا به فيما كان ليس معصية، أما إذا أمروا بمعصية فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما جاءت السنة بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قال المفسرون في قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]: إن فعل الأمر (أطيعوا) أعيد مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعد مع ولاة الأمور، فلم يقل الله عز وجل: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم، وإنما قال: ((أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)) فأعاد الفعل (أطيعوا) مع الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يعده مع ولاة الأمور؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم لا يأمر إلا بما هو حق وهو مبلغ عن الله، وكل ما يأتي به فهو وحي من الله عز وجل، وأما ولاة الأمور فإنهم يصيبون ويخطئون، وليسوا بمعصومين، فلم يأت إعادة الأمر (أطيعوا) معهم كما أعيد مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتكون طاعتهم مقيدة في حدود ما هو طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو في حدود ما ليس بمعصية لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا حصل منهم الأمر بما هو معصية فلا يسمع لهم ولا يطاع، وإنما يطاع لله ولرسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ويستجاب لما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [اتقوا الله ما استطعتم ليس فيها مثنوية، واسمعوا وأطيعوا ليس فيها مثنوية لأمير المؤمنين عبد الملك، والله لو أمرت الناس أن يخرجوا من باب من أبواب المسجد فخرجوا من باب آخر لحلت لي دماؤهم وأموالهم].
هذا كلام باطل، نعم عليهم السمع والطاعة إذا أمرهم بأمر ليس فيه معصية، ولكن كونه تحل له الدماء والأموال بمجرد المخالفة في مثل هذا الأمر الذي ذكره حيث يقول لهم: اخرجوا من هذا الباب، فخرجوا من باب آخر غير الباب الذي قال لهم فهذا باطل إذ لا تحل له دماؤهم إلا بما جاءت به الشريعة، وهذا الكلام إنما يدل على ظلمه وعلى جوره وعلى شدة بطشه وبأسه.
قوله: [والله! لو أخذت ربيعة بمضر لكان ذلك لي من الله حلالاً].
وهذا كلام باطل أيضاً؛ فأخذ ربيعة بمضر يعني: يقتل قبيلة بقبيلة، أو يأخذ قبيلة بقبيلة، وربيعة بن نزار تنسب إليه القبيلة المشهورة الكبيرة الواسعة، ومضر بن نزار ينتهي إليه نسب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن مضر هو جد الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس بينه وبين عدنان إلا اثنان فهو مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وعدنان هو الأب الحادي والعشرون للرسول صلى الله عليه وسلم، فـ ربيعة ومضر أخوان وهما أولاد نزار بن معد بن عدنان، وهما قبيلتان مشهورتان كبيرتان واسعتان، فقوله: (لو أخذت ربيعة بمضر كان ذلك لي من الله حلالاً) لا يجوز أخذ شيء ولا قتل لأحد إلا في حدود ما هو سائغ شرعاً، أما مخالفة الشرع والقتل بالظلم فهذا حرام.
قوله: [ويا عذيري من عبد هذيل! يزعم أن قراءته من عند الله! والله! ما هي إلا رجز من رجز الأعراب ما أنزلها الله على نبيه صلى الله عليه وسلم].
وهذا كلام باطل، والمقصود بذلك عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن له مصحفاً، وهو ليس كما قال الحجاج وإنما هو عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا من ظلمه وبطشه وكذبه، فإن الأمر ليس كما يقول، ومعلوم أن عثمان رضي الله عنه وأرضاه جمع الناس على مصحف واحد، وأحرق ما سوى ذلك إلا ما كان عند عبد الله بن مسعود فإنه أبى أن يعطيهم إياه واحتفظ به، وقال الحجاج هذه المقالة لأنه لم يعط عثمان المصحف ليحرقه كما أحرق غيره، وبقي الناس على المصحف الذي جمعه عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فكلام الحجاج باطل.
قوله: [وعذيري من هذه الحمراء].
المقصود من ذلك الموالي الذين قيل: إن أمهم حمراء وليسوا من العرب.
قوله: [يزعم أحدهم أنه يرمي بالحجر فيقول: إلى أن يقع الحجر قد حدث أمر].
يزعم أحدهم أنه يرمي بالحجر فيقول: إلى أن يقع الحجر قد حدث أمر، ما أدري وجه هذا الكلام، يعني هل يقول: إنه قبل أن يقع الحجر، أنه حدث أمر، وأن هذا مبادرة أو سرعة إلى الكذب وإلى حصول شيء قبل أن يقع الحجر، في فترة وجيزة؛ لأن الحجر إذا رمي يقع بعد فترة وجيزة، ولا يطول بقاؤه في الهواء قبل أن يقع على الأرض، (قد حدث أمر) لعل المقصود أنه إخبار بأمور فيها إرجاف أو فيها أمور وفيها تنغيص وتكدير للصفو، أي: يريد الحجاج من وراء ذلك تخويف الناس وتهديدهم ألا يقع أمور فيها عدم بقاء الأمن واستمرار الأمن قوله: [والله! لأدعنهم كالأمس الدابر].
معناه: أنه يقضي عليهم فينتهي أمرهم مثلما انتهى أمس ومضى، ومعنى ذلك: أنه يقضي عليهم.
وهذه العبارة تشبهها العبارة التي عند الأدباء في هذا الزمان، يقولون: أصبح في خبر كان، يعني: أنه مضى وانتهى.
قوله: [قال: فذكرته للأعمش، فقال: أنا- والله- سمعته منه].
يعني: هذا الكلام الذي قلته أيضاً أنا سمعته.
وهذا كلام فيه حق، وفيه كلام فيه حق وباطل، وفيه كلام باطل، فالأول حق بلا شك، اتقوا الله ما استطعتم ليس فيها مثنوية، والثاني: اسمعوا وأطيعوا لأمير المؤمنين ليس فيها مثنوية، هذا فيه حق وباطل؛ لأنه إذا كان في غير معصية فهو حق، وإن كان في معصية فهو باطل، وأما ما بعد ذلك من التهديد والكلام فهو باطل.(519/24)
تراجم رجال إسناد قول الحجاج بن يوسف (اتقوا الله ما استطعتم ليس فيها مثنوية)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو بكر].
هو أبو بكر بن عياش، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن عاصم].
هو عاصم بن أبي النجود بهدلة، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وحديثه في الصحيحين مقروناً.
[ثم قال: فذكرته للأعمش].
الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(519/25)
هل الحجاج بن يوسف الثقفي كافر أم لا؟
ذكر الحافظ ابن حجر في التهذيب أن الشعبي والنخعي كفرا الحجاج.
ولا شك أن ذاك الكلام الذي مر قريباً لو ثبت لكان كفراً واضحاً وهو قضية المقارنة بين الرسل والخلفاء، وهذا لا شك أنه أمر خطير، ولا يبعد أن يكون كفراً، وكون الذي جاء عن عبد الله بن مسعود أنه مصحف وأنه تلقاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس من أراجيز الأعراب.(519/26)
شرح قول الحجاج (هذه الحمراء هبرٌ هبرٌ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن إدريس عن الأعمش قال: سمعت الحجاج يقول على المنبر: هذه الحمراء هبر هبر، أما -والله- لو قد قرعت عصا بعصا لأذرنهم كالأمس الذاهب، يعني: الموالي].
وهذا مثل الذي قبله إلا أن فيه زيادة (هبر هبر)، يعني: قطع قطع، وطبعاً هذا تهديد مثل الذي قبله، يعني: أجعلهم كالأمس الدابر.
قوله: [أما -والله- لو قد قرعت عصاً بعصا لأذرنهم كالأمس الذاهب].
معنى ذلك: أنه لو حصل منهم أي شيء ولو كان شيئاً يسيراً مثل المضاربة بالعصي وأنه كان سبباً لبدء الفتنة لأفعلن بهم كذا وكذا، وأجعلهم كالأمس الدابر، معناه: أقضي عليهم، إذا حصل منهم أي شيء ولو كان شيئاً يسيراً فإني أعاقبهم تلك العقوبة التي هي إفناؤهم، فكأن هذا يشعر بأنه لو حصل أي شيء يسير كقرع عصا بعصا فأنا أعقابهم بتلك العقوبة التي هي قطعهم وإفناؤهم وجعلهم كالأمس الدابر، وهذا كذلك من الظلم؛ لأن مجرد حصول ضرب بعصا أو حصول شيء يسير لا تكون المعاقبة عليه بالإفناء.(519/27)
تراجم رجال إسناد قول الحجاج (هذه الحمراء هبرٌ هبرٌ)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا ابن إدريس].
ابن إدريس هو عبد الله بن إدريس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
الأعمش مر ذكره.(519/28)
ذكر الأقوال عن الحجاج كان الأولى عدم نقلها
ذكر الإمام أبو داود هذه الأخبار عن الحجاج لأنها تتعلق بالخلفاء والسمع والطاعة للخلفاء والقضاء على من يعارض الخلفاء، والحقيقة أن عدم ذكرها أولى، مثلما قال صاحب عون المعبود.
ولأجل ذلك أُسقطت من رواية اللؤلؤي.(519/29)
قول الحجاج (اتقوا الله ما استطعتم ليس فيها مثنوية) من طريق أخرى، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قطن بن نسير حدثنا جعفر -يعني ابن سليمان - حدثنا داود بن سليمان عن شريك عن سليمان الأعمش قال: جمعت مع الحجاج، فخطب فذكر حديث أبي بكر بن عياش قال فيها: فاسمعوا وأطيعوا لخليفة الله وصفيه عبد الملك بن مروان وساق الحديث، قال: ولو أخذت ربيعة بمضر، ولم يذكر قصة الحمراء].
ذكر أبو داود هذا الكلام عن الحجاج بمثل الذي تقدم، والذي فيه: أخذ ربيعة بمضر، وما وراءه من الكلام الباطل، وقال: لم يذكر قصة الحمراء الذين هم الموالي.
قوله: [حدثنا قطن بن نسير].
قطن بن نسير صدوق يخطئ، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي.
[حدثنا جعفر -يعني ابن سليمان -].
هو جعفر بن سليمان الضبعي، وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا داود بن سليمان].
داود بن سليمان ذكر في تحفة الأشراف قال: سليمان بن داود، لكن ما أدري ما المقصود بـ سليمان بن داود، والإسناد هذا ما أدري هل هو متصل أو أن فيه تحويلاً؛ لأن شريكاً طبقته متأخرة، وفي الغالب أن يكون بينه وبين أبي داود واسطة واحدة، فيحتمل أن يكون هناك طريق أخرى، ولكن ما أدري ما المقصود بـ سليمان بن داود هذا الذي ذكره في تحفة الأشراف.
[عن شريك].
شريك هو ابن عبد الله النخعي الكوفي، وهو صدوق اختلط لما ولي القضاء، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الأعمش].
الأعمش مر ذكره.(519/30)
شرح حديث (خلافة النبوة ثلاثون سنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سوار بن عبد الله حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن سعيد بن جمهان عن سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك -أو ملكه- من يشاء) قال سعيد: قال لي سفينة: أمسك عليك: أبا بكر سنتين، وعمر عشراً، وعثمان اثنتي عشرة، وعلياً كذا قال سعيد: قلت لـ سفينة: إن هؤلاء يزعمون أن علياً لم يكن بخليفة، قال: كذبت أستاه بني الزرقاء، يعني: مروان].
أورد أبو داود هذا الحديث عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك -أو ملكه- من يشاء) هذا شك من الراوي، هل قال: ملكه، أو الملك، وهذا فيه دليل على أن خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة خلافة نبوة، وأنهم على منهاج النبوة، وهم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ) فهذا الحديث يدل على فضل الخلفاء، وحديث سفينة يدل على فضل الخلفاء وعلى فضل خلافتهم، وأنها خلافة نبوة، وذلك أنهم أتوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، وهم على منهاجه وعلى طريقته، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع سنتهم مع سنته صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض الذي أشرت إليه.
ثم إن سفينة أخبر سعيد بن جمهان بتفصيل هذه الثلاثين فقال: (امسك) يعني: اعدد (أبا بكر سنتين) يعني: ولي الخلافة سنتين، طبعاً وفيه كسر، (وعمر عشراً، وعثمان اثنتي عشرة، وعلياً كذا).
ولم يذكر المقدار، ولكن خلافتهم هذه المدة التي هي الثلاثون هي خلافة نبوة كما وصف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك يؤتي الله الملك من يشاء.(519/31)
تراجم رجال إسناد حديث (خلافة النبوة ثلاثون سنة)
قوله: [حدثنا سوار بن عبد الله].
سوار بن عبد الله ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الوارث بن سعيد].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن جمهان].
سعيد بن جمهان صدوق له أفراد، أخرج له أصحاب السنن.
[عن سفينة].
هو سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه مسلم وأصحاب السنن.(519/32)
شرح حديث (خلافة النبوة ثلاثون سنة) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن عون حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب عن سعيد بن جمهان عن سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء -أو ملكه من يشاء-)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله: (ثم يؤتي الله ملكه- أو يؤتي الملك- من يشاء) فهذه طريق أخرى إلى سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيه: قال سعيد بن جمهان قلت: لـ سفينة: (إن هؤلاء يزعمون أن علياً ليس خليفة، قال: كذبت أستاه بني الزرقاء يعني: مروان) يعني: مروان بن الحكم، الذي هو أحد خلفاء بني أمية.
وهذا كلام باطل، فخلافة علي رضي الله عنه خلافة ثابتة وخلافة راشدة، وبعد وفاة عثمان رضي الله عنه ما وجد على ظهر الأرض من هو أفضل منه؛ لأنه أفضل هذه الأمة بعد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عن الجميع.(519/33)
تراجم رجال إسناد حديث (خلافة النبوة ثلاثون سنة) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا عمرو بن عون].
عمرو بن عون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن العوام بن حوشب].
العوام بن حوشب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن جمهان عن سفينة].
مر ذكرهما.(519/34)
الأسئلة(519/35)
حكم القول بأن الصحابة جملة وتفصيلاً في الجنة
السؤال
هل يشهد لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كلهم في الجنة بلا استثناء؟
الجواب
جاء في القرآن ما يدل على ذلك كما قال الله عز وجل: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] والحسنى فسرت بأنها الجنة.(519/36)
سبب الخلاف على الخلافة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
لماذا اختلف المسلمون في أول الأمر عندما اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة مع أنهم قد عرفوا أن أبا بكر أفضلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
معلوم أن الاجتماع حصل من الأنصار أولاً، وأنهم رأوا أن الولاية تكون فيهم أو يكون لهم -على الأقل- نصيب من الولاية، وأرادوا أن يولوا سعد بن عبادة، ولكن أبا بكر وعمر وبعض المهاجرين بادروا إليهم لئلا يحصل اتفاقهم على شيء يترتب عليه أضرار ومفاسد، فأرادوا أن يحسموا الأمر وأن يبين الأمر للجميع قبل أن يتخذ شيء، وقبل أن يحصل شيء من الأنصار يتفقون عليه، فلما بين عمر رضي الله عنه منزلة أبي بكر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قدمه لإمامة الصلاة في مرض موته، وقد روجع في ذلك والرسول صلى الله عليه وسلم أصر على أن يكون هو الذي يتولى، قال عمر رضي الله عنه: رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ديننا، أفلا نرتضيك لأمر دنيانا؟ وبعد ذلك حصل الاتفاق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، ووقع الشيء الذي أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) وقد يكون بعضهم خفي عليه ما يتعلق بأن الخلافة في قريش، كما بينه أبو بكر رضي الله عنه للأنصار في ذلك الاجتماع.(519/37)
الحكم على حديث (من كنت مولاه فعلي مولاه) ومعناه
السؤال
هل يصح هذا الحديث: (من كنت مولاه فـ علي مولاه)؟ وما معناه؟
الجواب
حديث صحيح.
ومعناه: أن من كان الرسول صلى الله عليه وسلم مولاه فإن علياً مولاه، ومعنى ذلك: أن علياً رضي الله عنه بالمنزلة الرفيعة، ولكن لا يقال: إن هذا يختص بـ علي رضي الله عنه وأرضاه، كما جاء في الحديث الآخر: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)، وقد جاء هذا في حق الأنصار عموماً (آية الإيمان: حب الأنصار، وآية النفاق: بغض الأنصار)، ولكن التنصيص على علي رضي الله عنه في ذلك يدل على فضله، لا على أفضليته على من هو أفضل منه.(519/38)
حكم قول (الله والنبي يحييانكم)
السؤال
رجل قال لضيوفه: (تفضلوا إلى عشاكم، الله والنبي يحييانكم) فهل يصح هذا؟
الجواب
مثل هذا التعبير ما يصلح، وإنما يقول: تفضلوا حياكم الله، أما إضافة النبي صلى الله عليه وسلم فهذا خطأ ولا يصلح.(519/39)
المبالغة في التبديع والتفسيق
السؤال
ما رأي فضيلتكم فيمن يتسرع في التبديع والتفسيق بقوله: أخبث من في الأرض أو أخطر العالمين، لرجل عرف بالمنهج السلفي والدعوة إليه، وله جهود مباركة في الدعوة إلى الله، ثم يبني على ذلك لزوم هجر ومقاطعة من لم يبدعه، ويجعل الخلاف في الأشخاص خلافاً في المنهج، فيسبب ذلك تفريقاً بين الشباب وزرعاً للعداوة بينهم؟
الجواب
مثل هذا الكلام من الأخطاء البينة والأخطاء الواضحة، والواجب هو الاعتدال والتوسط في الأمور والتحرز من آفات اللسان وما يحصل بسببه مما لا تحمد عقباه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يضمن لي ما بين لحييه وبين رجليه أضمن له الجنة)، والمقصود من ذلك: اللسان والفرج، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في وصيته لـ معاذ: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم).
فالواجب على الإنسان أن يتحرز من لسانه وألا يطلقه فيما يعود عليه بالمضرة، ثم أيضاً كون الشخص يحصل منه خطأ ثم يقال كما جاء في
السؤال
إنه أخبث من كذا وأخطر من كذا وأشد من كذا هذا أيضاً زيادة في ضرر الإنسان نفسه، بكونه يأتي بمبالغات، ويأتي بكلام لا يكون صحيحاً، ولا يكون مستقيماً ولا يكون مطابقاً للواقع، ثم أيضاً ما يحصل بسبب ذلك من الفوضى ومن إساءة الظن بالإخوان بعضهم ببعض ومن هجر وما إلى ذلك؛ كل هذا من الأمور التي هي من عمل الشيطان، والتي فيها كيد الشيطان للإنسان ليوقعه في المهالك ويوقعه فيما يعود عليه بالمضرة.
والواجب أن يحاسب الإنسان نفسه ويحفظ لسانه، وآفات اللسان شأنها خطير وأمرها عظيم، ومن حظ الإنسان أن يحفظ لسانه عن أن يتكلم بشيء يعود عليه بالضرر، وما يحصل من بعض الإخوان من أهل السنة من أن يهتم بعضهم بالنيل من بعض والكلام في بعض وتصرف الجهود في ذلك ويترك الأعداء الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، هذا من الأمور التي فيها كيد الشيطان للإنسان بأن يصرفه عما ينبغي أن يكون عليه، وأن يصرفه إلى شيء ينبغي أن يصون نفسه منه.(519/40)
حكم التسرع في التبديع والتفسيق
السؤال
نود إيضاح خطر التسرع في التبديع والتفسيق لمن عرف بسلامة العقيدة، وما يترتب على ذلك من الشحناء والهجر والخلاف؟!
الجواب
الواجب على كل مسلم أن يحتاط لدينه وأن يحتاط لنفسه، وألا يقحم نفسه في أمور تعود عليه بالمضرة، بل الواجب هو التناصح بين المسلمين وخاصة أهل السنة والجماعة، ينصح بعضهم بعضاً، ويحسن بعضهم إلى بعض، ويتعاونون فيما بينهم على الخير، ويحذر بعضهم بعضاً مما وقع فيه ليرجع عنه، ولا ينقسم الناس بعد ذلك إلى من يؤيد هذا ضد هذا أو هذا ضد هذا، وإنما الإنسان يحرص على أن يكون الحق هو ضالته التي ينشدها، وأن يحب الخير لكل أحد، فيحب لمن أخطأ أن يرجع.
وأما حصول الاختلاف وشغل الأوقات فيما يحصل بين أهل السنة والجماعة من كلام بعضهم في بعض ومتابعة طلبة العلم لذلك وانشغالهم به ويكون هو شغلهم الشاغل؛ فهذا لا يليق بطالب العلم، بل على طالب العلم أن يحرص على الاشتغال بالعلم وألا يشغل نفسه بقال فلان وقال فلان، ولا يجوز له أن يتبع ذلك الذي اشتغل به من قول فلان وفلان لأنه يترتب على ذلك شحناء وعداوة وهجر وتباغض وتباعد، فإن الواجب هو التناصح والواجب أن يحسن كل واحد إلى الآخر ويحب الخير لنفسه، ويحصل التعاون على البر والتقوى، وأما انقسام أهل السنة إلى متنازعين متخاصمين يتكلم بعضهم في بعض ويبدع بعضهم بعضاً وينال بعضهم من بعض ويهجر بعضهم بعضاً، فهذا ليس فيه مصلحة وإنما فيه مضرة، وكان ينبغي أن تشغل الأوقات في الكلام مع أعداء السنة الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وأما من كان من أهل السنة وعنده خطأ فإنه يناصح ويجادل بالتي هي أحسن، ويحرص على هدايته وعلى تقريبه وعدم إبعاده ورميه ونبذه.
فالواجب هو التوسط في الأمور والاعتدال فيها، وعدم الإفراط والتفريط، وما يحصل من التفسيق والتبديع والهجر وما إلى ذلك هذا من عمل الشيطان، وهذا من كيد الشيطان للإنسان، بل الواجب كما أشرت هو الاشتغال بالعلم وعدم الاشتغال بمتابعة ما يحصل بين بعض أهل السنة من كلام بعضهم في بعض؛ لأن ذلك يشغل عن العلم ويترتب عليه أمور منكرة مثل ما أشير إليه من حصول الهجر من بعضهم لبعض، وهذا غلط، إذ لو كان كل من حصل منه خطأ يهجر أو يهجر من يقرأ في كتبه أو يسمع كلامه لما سلم من ذلك أحد لأن الجميع معرّض للخطأ وبعض العلماء -ما نقول: كثير من العلماء- حصل منهم أخطاء، والناس ما هجروهم ولا تركوهم ولا تركوا كتبهم، وإنما استفادوا منهم، والخطأ يرد على صاحبه، لكن لا يكون ذلك سبباً لانقسام الناس إلى أقسام وإلى أحزاب، فإن هذا من كيد الشيطان للإنسان.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(519/41)
حكم القول بوجود خلل في التربية حتى في الصحابة رضي الله عنهم
السؤال
ما حكم من يقول: إن هناك خللاً في التربية لا يستطيع أحد أن ينكره، ولم يخل منه حتى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
هذا من أبطل الباطل، وإضافة خلل أو نقص أو تنقيص أو ذم لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ هذا يدل على أن هذا المتكلم هو الحقيق بالذم، كما قال أبو المظفر السمعاني: إن القدح في أحد من الصحابة علامة على خذلان فاعله، بل هو بدعة وضلالة، فكيف ينال من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ويتكلم في حقهم، ويقال: إن فيهم خللاً ونقصاً في التربية، فمن هم المربون إذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسوا متصفين بهذا الوصف؟! وهذا كلام سيئ وكلام باطل، ولا يجوز أن تحرك الألسنة بمثل هذا الكلام الباطل.(519/42)
قول التابعي الذي لا مجال فيه للرأي هل يعتبر مرسلاً؟!
السؤال
الحافظ ابن حجر رحمه الله ذكر في نتائج الأفكار أن التابعي إذا قال قولاً مما لا مجال للرأي فيه فله حكم الإرسال، فعلى هذا يكون أثر مكحول في غزو الروم للشام مرسلاً؟!
الجواب
ما ندري عن هذا، لكن لو كان مرسلاً معناه أنه ما له قيمة، النتيجة واحدة؛ لأن المرسل لا عبرة به ولو صرح بإضافته للرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون غير ثابت؛ لأن المرسل فيه سقوط، وقد يكون الساقط تابعياً كما أشرت.
فالحاصل أنه حتى لو قيل: إنه يكون مرسلاً؛ فالنتيجة واحدة، وهي أنه لا يحتج به ولا يثبت.(519/43)
هل الجرح أو التعديل الصادران من متفرس يعتبران
السؤال
إذا كان هناك شخص لا تخطئ له فراسة وقال في أحد جرحاً أو تعديلاً؛ فهل هذا يعتبر رجماً بالغيب؟
الجواب
هذا كلام ليس بمستقيم، وكون الإنسان له فراسة وأنه يصيب كثيراً وأنه دائماً وأبداً يكون كما يخمن هذا كلام غير مستقيم، وإذا جرح أحداً عن علم فهو كغيره، ولكن بعض الناس كما هو معلوم أشد تثبتاً من بعض، مثلما قال الذهبي رحمه الله في كتابه من يعتمد قوله في الجرح والتعديل، لما ذكر يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وأشار إلى تمكنهما في علم الجرح والتعديل قال: إذا جرحا شخصاً فلا يكاد يندمل جرحه، معناه: أنهما يصيبان، لكن كما هو معلوم كل يصيب ويخطئ.
وقولهم في فلان: لا تكاد تخطئ له فراسة، إن كان المقصود به: أن صوابه كثير.
فهذا معقول، وأما كونه يقال عن شخص: إنه لا يخطئ.
فهذا القول ليس بصحيح؛ لأنه لا أحد يسلم من الخطأ.(519/44)
شرح سنن أبي داود [520]
إن الجمادات خلق من خلق الله تعالى، فتعظم ما عظم رب العزة سبحانه، وليس معظم في الإسلام شيء ككتاب الله تعالى؛ ولذا لو أنزل على جبل لخشع وتصدع من خشيته للمتكلم بهذا الكتاب وتعظيمه.
وكذا عظم الجبل سيد البشر وأذعن لأمره؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام مرسل من خالقه ومرسيه، وكان تعظيمه له بأن كف عن ارجافه؛ لأن عليه النبي الكريم خير من مشى على ظهر المعمورة، وعليه صديق الأمة وأفضلها بعد نبيها، والشهيدان بكل ما تعنيه معنى الشهادة، وعما أفضل الأمة بعد صديقها بإجماع أهل السنة.
فسبحان الله ما أطوع أحر لأمر النبي ومعرفته لمنازل الرجال.(520/1)
تابع ما جاء في الخلفاء(520/2)
شرح حديث (اثبت حراء؛ إنه ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء عن ابن إدريس أخبرنا حصين عن هلال بن يساف عن عبد الله بن ظالم، وسفيان عن منصور عن هلال بن يساف عن عبد الله بن ظالم المازني، ذكر سفيان رجلاً فيما بينه وبين عبد الله بن ظالم المازني قال: سمعت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قال: لما قدم فلان إلى الكوفة أقام فلان خطيباً، فأخذ بيدي سعيد بن زيد فقال: ألا ترى إلى هذا الظالم، فأشهد على التسعة إنهم في الجنة، ولو شهدت على العاشر لم إيثم -قال ابن إدريس: والعرب تقول: آثم- قلت: ومن التسعة؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حراء: (اثبت حراء؛ إنه ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد.
قلت: ومن التسعة؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف قلت: ومن العاشر؟ فتلكأ هنية ثم قال: أنا)].
سبق أن مر جملة من الأحاديث في باب الخلفاء، ولكن فيها تفضيل منزلتهم، وليس هناك تعرض للخلافة أو الخلفاء، وإنما فيها التفضيل، كهذا الحديث، وإن كان أوله يتعلق بالأمراء وذكر الأمير، ولكن الحديث الذي سيق يدل على التفضيل، وفيه ذكر العشرة المبشرين بالجنة.
وأورد أبو داود حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وقد حدث به بمناسبة، وهي أنه لما قدم فلان الكوفة أقام فلان خطيباً، ولعل الذي قدم هو المغيرة بن شعبة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أقيم خطيباً لعله شخص آخر أقامه المغيرة بن شعبة، وهو الذي حصل منه الكلام الذي أنكره سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقال: انظر إلى هذا الظالم، يعني: الذي خطب، والذي أقيم خطيباً، ثم ذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر تسعة في الجنة، وقال: لو شئت لسميت العاشر، ويعني بذلك نفسه رضي الله عنه وأرضاه، فإنه هو أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه، فأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد حراء وأنه اضطرب فقال له: (اثبت حراء؛ إنما عليك نبي أو صديق أو شهيد) وكان معه أبو بكر وهو الصديق، وشهيدان وهما: عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما، وذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى تسعة أو عشرة وقال: إنهم من أهل الجنة، وقال سعيد عن نفسه: لو شئت لسميت العاشر، فقيل له: من؟ فقال: أنا، وهذا يدل على تواضع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهضمهم لأنفسهم تواضعاً لله عز وجل، فهو مع كونه أحدهم لم يبادر إلى إظهار نفسه وإلى إبراز نفسه وإضافة هذا الفضل إلى نفسه، وإنما ذكر فضل غيره ممن كان معه وسكت، فروجع في ذلك فقيل: من العاشر؟ فتلكأ وما استعجل في الجواب، بل تردد وتمهل، ثم بعد ذلك قال: أنا، مخبراً بالواقع وبما جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يدل على فضل هؤلاء، وفي هذا الحديث إثبات أن أولهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون معه تسعة، لكن العشرة هم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في بعض الروايات، والعاشر أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه، والعشرة هم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح، فهؤلاء وصفوا بهذا الوصف وحصل لهم لقب العشرة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سردهم في حديث واحد فقال: فلان في الجنة وفلان في الجنة، فكل واحد منهم يكون مبتدأ ويخبر عنه بأنه في الجنة، فلهذا اشتهروا بهذا اللقب، وصار ينص عليهم بهذا الوصف الذي هو العشرة، والترضي عن العشرة وبيان فضل العشرة الذين هم هؤلاء.
والحديث ليس فيه أبو عبيدة بن الجراح، وإنما فيه أولهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاشرهم سعيد بن زيد الذي أخبر عن نفسه في آخر الأمر بعدما سئل وتلكأ، وهو العاشر رضي الله تعالى عنه وعن الصحابة أجمعين، وهذا يدل على فضلهم وأنهم من أهل الجنة، والشهادة بالجنة حصلت لغيرهم في مناسبات، لكنهم وصفوا بهذا الوصف أو لقبوا بهذا اللقب لأنهم سردوا في حديث واحد وهم عشرة، وأما غيرهم فقد جاء في مناسبات مختلفة، مثل: ثابت بن قيس بن شماس، وعكاشة بن محصن، والحسن والحسين، وبلال، وغيرهم من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام أكرمهم الله وتفضل عليهم بأن جعلهم من أهل الجنة وشهد لهم بذلك رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
[أقام فلان خطيباً].
في عون المعبود قال: المقصود من فلان وفلان: معاوية والمغيرة بن شعبة، ولا أدري هل معاوية قدم الكوفة هو والمغيرة، وأنه المقصود من الاثنين، أو أن المقصود به المغيرة وأنه قدم الكوفة أميراً عليها(520/3)
تراجم رجال إسناد حديث (اثبت حراء؛ إنه ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إدريس].
هو عبد الله بن إدريس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا حصين].
هو حصين بن عبد الرحمن السلمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هلال بن يساف].
هلال بن يساف ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن ظالم].
عبد الله بن ظالم صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[وسفيان عن منصور].
وهذه طريق ثانية عن منصور، فيحتمل أن يكون سفيان بن عيينة وأن يكون سفيان الثوري، والمعروف في الرواية عن المنصور بن المعتمر هو سفيان الثوري، وهلال بن يساف معروف بالرواية عن سفيان الثوري، وكلاهما بصري، وسفيان بن عيينة مكي، فكون عبد الله بن إدريس يروي عن حصين ويروي عن سفيان عن منصور هو الذي لا إشكال فيه، وأما كون الراوي محمد بن العلاء يروي عن سفيان فهذا غير واضح، وإنما إذا كانت الرواية عن سفيان بن عيينة إذ قد أدركه، وأما سفيان الثوري فلم يدركه، فقد توفي سفيان الثوري وعمر محمد بن العلاء ست سنوات؛ لأن الثوري توفي سنة مائة وواحد وستين، ومحمد بن العلاء توفي سنة سبع وأربعين وعمره ست وثمانون سنة، فمعناه أنه أدرك أربعين وسبع، وذاك توفي سنة واحد وستين، فيكون لما توفي الثوري عمره ست سنوات، فلم يدركه إدراكاً بيناً، وإنما أدركه وهو صغير، لكن إذا كان عبد الله بن إدريس هو الذي يروي عن سفيان، والذي يروي عن الحصين يكون ليس فيه إشكال، وسفيان هو الثوري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن المعتمر الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هلال بن يساف عن عبد الله بن ظالم المازني].
مر ذكرهما.
ذكر سفيان رجلاً فيما بين هلال بن يساف وبين عبد الله بن ظالم المازني في الذي بعد هذا هو ابن حيان.
وهنا سفيان جزماً هو الثوري فعليه يحمل الأول.
وقول صاحب العون هو ابن عيينة أو الثوري ما هو بواضح، ثم أيضاً كونه يروي عن منصور هذا يوضح أنه سفيان الثوري.
[سمعت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل].
سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(520/4)
تراجم رجال إسناد حديث (اثبت حراء إنه ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد) من طريق أخرى، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو داود: رواه الأشجعي عن سفيان عن منصور عن هلال بن يساف عن ابن حيان عن عبد الله بن ظالم بإسناده نحوه].
أورد أبو داود الطريق التي ذكر فيها سفيان رجلاً بين هلال بن يساف وبين عبد الله بن ظالم وهذا الرجل ذكر هنا في هذه الطريق المعلقة، وأنه ابن حيان.
[رواه الأشجعي].
الأشجعي هو عبيد الله بن عبيد الرحمن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا أبا داود، وهنا ذكره تعليقاً، ومعلوم أن التعاليق عند أبي داود لا يعتبر من رجاله إذا كان ما روى له في المتصلات، ولهذا يأتي كثيراً ذكر هؤلاء الذين يأتون في التعاليق ولا يرمز لهم برواية أبي داود عنهم.
[عن سفيان عن منصور عن هلال بن يساف عن ابن حيان].
ابن حيان لا يعرف ولم يسم، ويقال: اسمه حيان بن غالب، أخرج له أبو داود والنسائي.(520/5)
أبو عبيدة بن الجراح من العشرة وإن لم يذكر في هذا الحديث
ترك سعيد بن زيد رضي الله عنه ذكر أبي عبيدة مع كونه -بلا شك- من العشرة لعله على اعتبار أنه ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون عشرة برسول الله صلى الله عليه وسلم.(520/6)
إنكار سعيد بن زيد على المغيرة كونه لم ينكر الطعن في آل البيت
جاء في مسند الإمام أحمد: أن الخطيب هو غير المغيرة، وفيه: إنكار سعيد بن زيد على المغيرة وذلك لعدم إنكاره على هذا الخطيب، فقال له: أيسب عندك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تنكر؟! وسيأتي في حديث آخر أنه قيس بن علقمة، وهو الذي حصل منه الطعن وأنكر عليه سعيد بن زيد، لكن كون الذي قدم وأقام خطيباً، لعله المغيرة، وقد قدم أميراً على الكوفة، وأقام خطيباً يعني: شخصاً آخر، ويكون هذا هو الذي حصل منه الكلام الذي عيب وأنكر عليه.(520/7)
شرح حديث (عشرة في الجنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة عن الحر بن الصياح عن عبد الرحمن بن الأخنس أنه كان في المسجد، فذكر رجل علياً رضي الله عنه، فقام سعيد بن زيد رضي الله عنه فقال: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أني سمعته وهو يقول: (عشرة في الجنة: النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف) ولو شئت لسميت العاشر، قال: فقالوا: من هو؟ فسكت، قال: فقالوا: من هو؟ فقال: هو سعيد بن زيد].
ذكر أبو داود رحمه الله تعالى: الحديث من طريق أخرى وهو مثل الذي قبله تماماً، يعني عشرة وذكر منهم: الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفيه أن رجلاً تكلم، وذكر علياً؛ فأتى بالحديث، وبيّن أن علياً من أهل الجنة رضي الله تعالى عنه وأرضاه.(520/8)
تراجم رجال إسناد حديث (عشرة في الجنة)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر النمري].
حفص بن عمر النمري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحر بن الصياح].
الحر بن الصياح ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عبد الرحمن بن الأخنس].
عبد الرحمن بن الأخنس مستور -أي: مجهول الحال- أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[فقام سعيد بن زيد].
سعيد بن زيد مر ذكره.(520/9)
شرح حديث سعيد بن زيد في ذكر العشرة من أهل الجنة من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو كامل حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا صدقة بن المثنى النخعي حدثني جدي رياح بن الحارث قال: (كنت قاعداً عند فلان في مسجد الكوفة وعنده أهل الكوفة، فجاء سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، فرحب به وحياه وأقعده عند رجله على السرير، فجاء رجل من أهل الكوفة يقال له: قيس بن علقمة، فاستقبله فسب وسب، فقال سعيد: من يسب هذا الرجل؟! فقال: يسب علياً، قال: ألا أرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبون عندك ثم لا تنكر ولا تغير؟! أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -وإني لغني أن أقول عليه ما لم يقل فيسألني عنه غداً إذا لقيته-: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة وساق معناه، ثم قال: لمشهد رجل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغبر فيه وجهه خير من عمل أحدكم عمره ولو عمر عمر نوح)].
أورد أبو داود حديث سعيد بن زيد من طريق أخرى وفيه أن فلاناً وهو لم يسم، ولعله يشير بذلك إلى أمير الكوفة المغيرة بن شعبة، وأنه جاء فحياه ورحب به، يعني: المغيرة رحب بـ سعيد بن زيد وأجلسه معه، ثم جاء رجل يقال له قيس بن علقمة، فسب وسب، فقال: من يسب هذا؟! قالوا: علياً، فقال: ما هذا؟! يعني: كيف يسب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأنت لا تنكر ولا تغير؟! ثم قال: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عشرة في الجنة) وإني لغني عن أن أقول عليه ما لم يقل، يعني: أنه لا يكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يضيف إليه شيئاً لم يقله، وهذا يدل على تثبته وعلى تحققه مما يحدث به ومما يخبر به، ثم ذكر معنى الحديث المتقدم، ثم قال: (لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر فيه وجهه خير من عمل أحدكم عمره ولو عمر عمر نوح) يعني: أن عمل الرجل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته وفي جهاده لا يساويه عمل الكثير ممن جاء بعدهم؛ وذلك لأن الذي حصل منهم إنما حصل لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم والذب عنه ونشر دينه والأخذ عنه والتلقي عنه.
قوله: [(لمشهد)] معناه: كونه يشهد غزوة من الغزوات فيحصل له الغبار في وجهه بسبب هذه الغزوة؛ شأن ذلك عظيم عند الله عز وجل.
(خير من عمل أحدكم عمره ولو عمر عمر نوح) ومدة دعوة نوح عليه السلام تسعمائة وخمسين سنة {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14] وهذا قبل أن يبعث ويرسل إلى قومه، ومعنى ذلك: أن العمل القليل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لا يساويه عمل الكثير من غيرهم، وهذا يدل على فضلهم ونبلهم رضي الله عنهم وأرضاهم، والمقصود بالمشهد: مشاهد الغزوات، ولهذا يأتي في تراجم الرجال من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم: وشهد المشاهد كلها، يعني: شهد الغزوات كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما طعن هذا الرجل في علي رضي الله عنه وسبه أمام المغيرة وسكوته عنه وعدم إنكاره عليه لا ندري به، لكن المظنون بأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم واللائق بهم أنهم على أحسن حال، ويجب أن تحسن بهم الظنون ولا يذكرون إلا بخير.(520/10)
تراجم رجال إسناد حديث سعيد بن زيد في ذكر العشرة من أهل الجنة من طريق أخرى
قوله: [حدثنا أبو كامل].
هو أبو كامل الجحدري الفضيل بن حسين، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الواحد بن زياد].
عبد الواحد بن زياد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا صدقة بن المثنى النخعي].
صدقة بن المثنى النخعي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثني جدي رياح بن الحارث].
رياح بن الحارث ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[فجاء سعيد بن زيد].
سعيد بن زيد رضي الله عنه مر ذكره.(520/11)
سب الصحابة من الكبائر
الوقوع في واحد من الصحابة وسبه لا يجوز، فهذا من الأمور الخطيرة والأمور الكبيرة، والذهبي رحمه الله ذكر ذلك في كتابه الكبائر، حيث جعل سب أصحاب رسول الله الكبيرة السبعين التي ختم بها كتابه الكبائر، وسب أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم أمر خطير؛ وذلك أنه سب لخير الناس وأفضل الناس، فـ: (سباب المسلم فسوق) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وقتاله كفر) فكيف بسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا شك أنه من أخطر ما يكون ومن أسوأ ما يكون؛ لأنه سب لخير الناس.(520/12)
شرح حديث (اثبت أحد؛ نبي وصديق وشهيدان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع ح وحدثنا مسدد حدثنا يحيى المعنى -قالا: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم صعد أحداً فتبعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فضربه نبي الله صلى الله عليه وسلم برجله وقال: اثبت أحد؛ نبي وصديق وشهيدان)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو يدل على فضل هؤلاء الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد أحداً فتبعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف الجبل فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم برجله وقال: (اسكن أحد؛ نبي وصديق وشهيدان) والشهيدان هما: عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما، وهذا يدل على فضلهما وعلى أنهما نالا الشهادة.(520/13)
تراجم رجال إسناد حديث (اثبت أحد؛ نبي وصديق وشهيدان)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا مسدد عن يحيى].
مسدد تقدم ذكره، ويحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[المعنى قالا: حدثنا سعيد بن أبي عروبة].
ما أدري وجه التحويل مع أن الشيخ واحد والصيغة متفقة وهي التحديث فيما بين مسدد وشيخيه.
[حدثنا سعيد بن أبي عروبة].
سعيد بن أبي عروبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(520/14)
شرح حديث (أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري عن عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن عبد السلام بن حرب عن أبي خالد الدالاني عن أبي خالد مولى آل جعدة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فأخذ بيدي فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي، فقال أبو بكر: يا رسول الله! وودت أني كنت معك حتى أنظر إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتاني جبريل فأخذ بيدي فأراني باب الجنة، فقال أبو بكر: وددت أن أكون معك حتى أراه، فقال: أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي) يعني: أنك لن تراه فقط وإنما تأتيه وتتجاوزه داخلاً الجنة وتسبق كل أمتي، ولكن الحديث في إسناده رجل ضعيف، وهو الذي يروي عنه أبو خالد الدالاني، ولا شك أن أبا بكر رضي الله عنه من أول من يدخل الجنة من هذه الأمة إن لم يكن أول من يدخلها منهم.(520/15)
تراجم رجال إسناد حديث (أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي)
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هناد بن السري أبو السري، وهو ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن محمد المحاربي].
عبد الرحمن بن محمد المحاربي لا بأس به، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد السلام بن حرب].
عبد السلام بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي خالد الدالاني].
أبو خالد الدالاني صدوق يخطئ كثيراً، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبي خالد مولى آل جعدة].
هذا مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(520/16)
شرح حديث (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد ويزيد بن خالد الرملي أن الليث حدثهم عن أبي الزبير عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة)].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة) وهذا يدل على فضل أهل بيعة الرضوان عموماً، وكانوا ألفاً وأربعمائة، وقوله: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة) أي: في بيعة الرضوان، فهو دال على فضلهم رضي الله عنهم وأرضاهم، ولهذا يأتي في تعريف الصحابة أن يقال: شهد بيعة الرضوان، شهد أحداً، فينصون على أنه من أهل بيعة الرضوان أو أنه ممن شهد بدراً، وذلك للفضل الذي ورد فيهما، فيذكر مع كونه صحابياً أنه من أهل بيعة الرضوان؛ لأن أهل بيعة الرضوان ورد فيهم فضل خاص وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة) فهو دال على فضلهم جميعاً، وأنهم لا يدخلون النار، وإنما يدخلون الجنة رضي الله عنهم وأرضاهم.(520/17)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ويزيد بن خالد الرملي].
يزيد بن خالد الرملي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أن الليث حدثهم].
هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
هو أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي جليل، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وعنعنة أبي الزبير لا تضر؛ لأن الحديث من رواية الليث، وما رواه الليث عن أبي الزبير فهو مما سمعه من جابر.
والحديث نفسه ورد من طريق أخرى عن صحابي آخر، وهو في صحيح مسلم من حديث أم مبشر، وهو بهذا الذي دل عليه حديث جابر.
والإسناد رباعي؛ لأن أبا داود روى عن اثنين في طبقة واحدة، فلا يقال: إنه خماسي؛ لأن الاثنين في طبقة واحدة، وهما شيخا أبي داود.(520/18)