شرح حديث (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة.
فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن أحد جانبي إزاري يسترخي، إني لأتعاهد ذلك منه.
قال: لست ممن يفعله خيلاء)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة).
قوله: (ثوبه) لفظ الثوب واسع، يشمل الإزار وغير الإزار، والإزار: هو القطعة الواحدة تشد على وسط الجسد وتستر من وسط الجسد حتى قرب الكعبين، ويقال لها -أيضاً- ثوب، وكذلك القميص يقال له ثوب، وكلها مجموعة يقال لها: ثياب، سواءً كانت قميصاً أو إزاراً أو قطعة واحدة ليست إزاراً ولا رداءً.
وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) يدل على أن إسبال الثياب من الكبائر، وأنه خطير، وأنه إذا كان موصوفاً بهذا الوصف الذي هو الخيلاء فهو في غاية الخطورة، وإذا لم يكن بوصف الخيلاء -أو قصد الخيلاء- فإن ذلك حرام.
والأحاديث جاءت في النهي عن الإسبال على سبيل العموم؛ لكن جاء في بعضها بيان خطورة الإسبال مع الخيلاء، فدل ذلك على أن الإسبال بقصد الخيلاء فيه وعيد شديد، وأن الإسبال بدون قصد الخيلاء فيه وعيد، ولكنه دون الشيء الذي جاء فيه الخيلاء، وجاء في بعض الأحاديث العموم من غير تقييد، يعني: أن المسبل ذنبه كبير وجرمه عظيم، ولكن يشمل ما كان بخيلاء وما كان بغير خيلاء، وما كان فيه تقييد بالخيلاء يكون أخطر وأشد، وحديث ابن عمر فيه تقييد بالخيلاء.
وقوله: (لم ينظر الله إليه يوم القيامة) المقصود به أنه لا ينظر إليه نظر رحمة وإحسان، بل نظر غضب وسخط، فهذا من جنس الكلام الذي يأتي مضافاً أو منفياً عن بعض الناس يوم القيامة ويكون مثبتاً لهم في بعض المواضع، والمثبت غير المنفي كما في قوله: (ثلاثة لا يكلمهم يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم) فإن قوله: (لا يكلمهم) هذا نفي للتكليم الذي فيه رحمة وإحسان إليهم، وأما التكليم الذي فيه توبيخ وتقريع فهو ثابت في حقهم كما في قوله عز وجل: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، فإن هذا كلام ولكنه كلام توبيخ وتقريع، وعلى هذا فالمنفي هو الذي يعود عليهم بالخير وهو الذي فيه إحسان إليهم ورحمة بهم، والذي فيه الإثبات هو الذي فيه توبيخ وتقريع لهم، فيكون النظر من هذا القبيل، فالنظر الذي فيه إحسان ورحمة بهم هو المنفي، ولا ينفي وجود نظر مع سخط وغضب، وعلى هذا فالمنفي المراد به ما كان من جنس الكلام المنفي.
قوله: (قال أبو بكر رضي الله عنه: إن أحد شقي إزاري يسترخي فأتعاهده) أبو بكر رضي الله عنه كان إزاره يسترخي من غير قصد منه، ومع ذلك فإنه يجذبه ويرفعه ويتعاهده بالرفع كلما نزل، وقد خشي أبو بكر أن يكون ممن يعنيهم هذا الكلام، فذكر ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام فقال: (أنت لست ممن يفعله خيلاء) أي: أنه يحصل منه بغير قصد سيئ، وليست فيه تلك النية السيئة.(458/6)
تراجم رجال إسناد حديث (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)
قوله: [حدثنا النفيلي].
هو عبد الله بن محمد النفيلي، ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا موسى بن عقبة].
هو موسى بن عقبة المدني، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم بن عبد الله].
هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(458/7)
تفسير قوله (لم ينظر الله إليه)
أما تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: (لم ينظر الله إليه) بـ (لم يرحمه) كما قال الحافظ ابن حجر فلا يقال: إن النفي يراد به نفي الرحمة؛ ولكنه من نتائجه ومن لوازمه عدم الرحمة.(458/8)
النهي عن الإسبال خاص بالرجال دون النساء
وقوله: (من جر ثوبه) الحديث؛ لا يشمل النساء، فقد ورد في حقهن أنهن يرخين ثيابهن ويطلنها وراءهن، فدل ذلك على أن هذا خاص بالرجال، وليس ذلك في حق النساء؛ لأن المطلوب في حقهن الستر والتستر، ولهذا جاء الإذن لهن بإرخاء ذيولهن.(458/9)
حكم القول بجواز الإسبال إذا كان بدون خيلاء
هناك من يقول: إن المذاهب الأربعة على جواز الإسبال من غير خيلاء، ولا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة، فنقول: أولاً: لا نعلم أن هذا الكلام الذي قيل صحيح، وأن هذا في المذاهب الأربعة؛ ولكن المسلم عليه أن يعول على الدليل، ومعلوم أن الدليل واضح في تحريم الإسبال، والأئمة الأربعة يوصون باتباع الدليل، ويحثون على اتباع الأدلة والأخذ بالسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام ما ذكر فرقاً بين أن يكون بقصد الخيلاء أو من غير قصد له، هناك فرق من ناحية شدة الجرم والذنب، لا أنه شيء سائغ بدون خيلاء غير سائغ معها.
والنبي صلى الله عليه وسلم عندما أرشد رجلاً إلى رفع ثوبه ما قال له: أنت تفعله خيلاء أو ما تفعله خيلاء؟! وإنما أرشد إلى رفع الثوب، وفي قصة عمر رضي الله عنه مع قصة الشاب الذي جاء يعوده في مرض موته وقد امتدحه وأثنى عليه، أنه لما ذهب الشاب إذا ثوبه يمس الأرض، فقال: ردوا علي الغلام، ثم قال له: ارفع ثوبك، فإنه أتقى لربك وأبقى لثوبك، ما قال له: هل أنت تريد الإسبال خيلاء أو ما تريده خيلاء؟ إن كنت تريد خيلاء فهو حرام وعليك أن ترفعه، وإن كنت لا تريد خيلاء فما في ذلك بأس! ليس هناك إلا: ارفع ثوبك، ليس هناك سؤال واستفسار، وإنما هناك: ارفع ثوبك، وأرشده إلى فائدتين تعود مصلحتهما على المنصوح: إحداهما: دنيوية بحتة، وهي كون الإنسان يبقي على ثوبه، وأنه لا يتعرض للوسخ ولا يتعرض للبلى.
والثانية: دنيوية وأخروية، وهي تقوى الله.
وهذا من جنس ما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب) فائدة دنيوية بحتة، وهي طهارة الفم، وفائدة أخروية ودنيوية وهي: مرضاة الله عز وجل، ومعلوم أن مرضاة الله عز وجل تحصل فوائدها في الدنيا وفي الآخرة.(458/10)
الإسبال دون قصد وتعمد الخيلاء من الكبائر
إسبال الإزار بغير قصد الخيلاء من الكبائر؛ لأن النهي عنه جاء مطلقاً يشمل ما كان بخيلاء وما كان بغير خيلاء، والكبائر تتفاوت، فليست على حد سواء؛ والأحاديث في تحريم الإسبال وردت على سبيل الإطلاق، فلا يقال: إنه يحمل على الخيلاء فقط، وإنه يجوز في غير الخيلاء، وإنما الراجح أن الإسبال يحرم وهو من الكبائر وإن انضاف إليه قصد الخيلاء فهو أعظم إثماً(458/11)
شرح حديث (لا يقبل الله صلاة رجل مسبل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا يحيى عن أبي جعفر عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: (بينما رجل يصلي مسبلاً إزاره فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فتوضأ.
فذهب فتوضأ ثم جاء، فقال: اذهب فتوضأ.
فقال له رجل: يا رسول الله! ما لك أمرته أن يتوضأ؟ ثم سكت عنه.
قال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وإن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل)].
هذا الحديث يدل على خطورة إسبال الإزار، وأن الله تعالى لا يقبل صلاة المسبل.
ولكن الحديث ضعيف؛ لأن فيه رجلاً لا يحتج به، وأيضاً المتن فيه نكارة من ناحية كون صلاة الإنسان لا تصح ولا يصح وضوءه إن صلى مسبلاً، وأن عليه أن يعيد الوضوء ويعيد الصلاة؛ فقد جاءت نصوص أخرى تدل على أن الله لا يقبل صلاة بعض الناس بسبب المعاصي، ومع ذلك لا يقال إن عليهم أن يعيدوها، مثلما جاء في الذي يأتي ساحراً أو كاهناً أنه لا تقبل له صلاة أربعين يوماً، وليس معنى ذلك أنه يعيد الصلاة؛ ولكنه يحرم ثوابها، ويحال بينه وبين ثوابها، وهذا الحديث الذي معنا فيه أن الوضوء يعاد، وبعض أهل العلم قال: إن هذه معصية، والمعصية فيها خطورة، والإنسان إذا توضأ وصلى يكون في ذلك جهاد للنفس، وإغاظة للشيطان، وقد جاء في بعض الأحاديث أن الإنسان يتوضأ عند الغضب ويصلي، لكن القول بأن صلاته تبطل فيه نظر.
والراجح أن الصلاة صحيحة والإسبال حرام، فيعاقب على إساءته ويثاب على صلاته، مثلاً: لو أن إنساناً صلى في ثوب حرير، فإنه مطيع عاص، ولو صلى في أرض مغصوبة فهو مطيع عاص؛ فصلاته صحيحة وهو آثم لفعله المعصية، فكذلك الذي يصلي وهو مسبل إزاره، صلاته صحيحة وهو آثم في الإسبال، أما كون وضوئه ينتقض أو أنه يحتاج إلى إعادة الوضوء ثم إعادة الصلاة فهذا مشكل وفيه نكارة، ومع ذلك فالإسناد فيه أبو جعفر وهو لا يحتج به.(458/12)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبان].
هو أبان بن يزيد العطار، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن أبي كثير اليمامي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي جعفر].
أبو جعفر وهو المدني الأنصاري، وهو مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجة.
[عن عطاء بن يسار].
عطاء بن يسار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.(458/13)
شرح حديث (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم وذكر منهم المسبل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن علي بن مدرك عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن خرشة بن الحر عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم.
قلت: من هم يا رسول الله؟ قد خابوا وخسروا! فأعادها ثلاثاً قلت: من هم يا رسول الله؟ خابوا وخسروا! فقال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب أو الفاجر)].
أورد أبو داود حديث أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم.
فقالوا: خابوا وخسروا يا رسول الله! من هم؟ قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب أو الفاجر).
قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) هذا يدل على أن تلك الأعمال من الكبائر، وهي الإسبال والمن بالعطية وكذلك الحلف كذباً في السلع لتنفيقها وترويجها وترغيب الناس في الشراء منها.
وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الثلاث بالعدد، ثم وصفها بهذه الأوصاف قبل أن يذكرها؛ من كمال بيانه عليه الصلاة والسلام، وذلك أن النفوس عندما تذكر لها هذه الصفات الثلاث فإنها تتشوق وتتشوف وتكون متهيئة لمعرفة هذه الثلاث التي وصفت بهذه الأوصاف الدالة على خطورتها؛ فهذا من كمال بيانه صلى الله عليه وسلم ونصحه لأمته عليه الصلاة والسلام.
أيضاً ذكر العدد فيه فائدة وهي أن الإنسان يطالب نفسه بالعدد، وأن العدد اكتمل أو لم يكتمل، فإما أن يستوفي وإما أن يكون هناك نقص حصل فيبحث عنه، فهذه فائدة العدد وفائدة ذكر الأوصاف، فهذا التقديم لأجل الاهتمام وتحفيز النفوس على الاستعداد والتهيؤ لاستيعاب الشيء الذي سيذكر؛ لأن مثل ذلك دال على أهميته، وهذا من بيانه عليه الصلاة والسلام والطريقة التي يتبعها في بيان الأحكام، ومن كمال نصحه لأمته عليه الصلاة والسلام.
ولذلك نظائر كثيرة منها ما يكون بالعدد الذي هو (ثلاثة) ومنها ما يكون أكثر، ومنها ما هو أقل من ذلك، كما في الحديث الذي أخرجه البخاري في آخر صحيحه من حديث أبي هريرة: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) فإنه بين صلى الله عليه وسلم أن الكلمتين الموصوفتين بهذه الصفات الثلاث شأنهما عظيم، ثم بينهما بقوله: (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، فعندما يسمع الإنسان قوله: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان) يتساءل: ما هما الكلمتان اللتان هذا شأنهما؟ فيتحفه بالإجابة (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).
وقوله: [(ولا ينظر الله إليهم)] هذا من جنس الذي مر: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء) يعني: النظر الذي يترتب عليه فائدة للمنظور إليه، والنفي هنا هو لتلك الفائدة، وأما النظر الذي فيه مضرة فهو من جنس الكلام الذي فيه مضرة كقوله تعالى: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] فهذا كلام، وهنا نفى الكلام (لا يكلمهم الله يوم القيامة) يعني: لا يكلمهم كلاماً فيه مصلحتهم، وكلاماً هو مفيد لهم، وكلاماً فيه إحسان إليهم.
قوله: [(المسبل)] هذا هو محل الشاهد، وهو مطلق يدل على تحريم الإسبال مطلقاً، ولكن إذا كان بقصد خيلاء صار أشد وأعظم، وإذا كان بدون خيلاء فهو شديد وعظيم.
قوله: [(والمنان)] والمنان: الذي يمن بما أعطى، أي: إذا أعطى شيئاً مَنَّ به على من أعطاه.
قوله: [(والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)] أي: يروجها، ويجعل الذي يريد الشراء يرغب في السلعة ويحرص عليها تصديقاً لبائعها الحالف كذباً ليوهمه.
وكذلك يدخل في الإثم إذا كان يصف السلعة بأنها كذا ويقسم: والله إنها كذا والله إنها بكذا؛ من أجل أن يرغب فيها الناس، وهذا علاوة على أن الكذب في حد ذاته خطير، ولكنه إذا كان لأمر باطل يكون أشد وأشد.(458/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم) وتراجم رجال إسناده
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي بن مدرك].
علي بن مدرك ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير].
أبو زرعة بن عمرو بن جرير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خرشة بن الحر].
مختلف في صحبته، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
الملقي: [عن أبي ذر].
أبو ذر الغفاري جندب بن جنادة رضي الله عنه وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(458/15)
شرح حديث أبي ذر (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان عن الأعمش عن سليمان بن مسهر عن خرشة بن الحر عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا والأول أتم.
قال: (المنان الذي لا يعطي شيئاً إلا مِنَّة)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله.
[والأول أتم] أي: الذي سبق وذكر متنه في الإسناد السابق، وذكر أن مما جاء في الطريق الثاني من الزيادة توضيح المنان بأنه الذي لا يعطي شيئاً إلا مِنَّة، يعني: مِنَّة على من أعطاه إياه.
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
سفيان هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
وهو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن مسهر].
هو سليمان بن مسهر، ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن خرشة بن الحر عن أبي ذر].
وقد مر ذكرهما.(458/16)
شرح حديث (نعم الرجل خريم الأسدي لولا طول جمته وإسبال إزاره)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا أبو عامر -يعني: عبد الملك بن عمرو - حدثنا هشام بن سعد عن قيس بن بشر التغلبي أخبرني أبي -وكان جليساً لـ أبي الدرداء - قال: كان بدمشق رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: ابن الحنظلية رضي الله عنه، وكان رجلاً متوحداً قلما يجالس الناس إنما هو في صلاة، فإذا فرغ فإنما هو تسبيح وتكبير حتى يأتي أهله، فمر بنا ونحن عند أبي الدرداء فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك! قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فقدمت، فجاء رجل منهم فجلس في المجلس الذي يجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لرجل إلى جنبه: لو رأيتنا حين التقينا نحن والعدو فحمل فلان فطعن فقال: خذها مني وأنا الغلام الغفاري كيف ترى في قوله؟ قال: ما أراه إلا قد بطل أجره، فسمع بذلك آخر فقال: ما أرى بذلك بأساً، فتنازعا حتى سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سبحان الله! لا بأس أن يؤجر ويحمد، فرأيت أبا الدرداء سر بذلك، وجعل يرفع رأسه إليه ويقول: أنت سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: نعم.
فما زال يعيد عليه حتى إني لأقول: ليبركن على ركبتيه.
قال: فمر بنا يوماً آخر فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك! قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: المنفق على الخيل كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها.
ثم مر بنا يوماً آخر فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك! قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل خريم الأسدي لولا طول جمته وإسبال إزاره.
فبلغ ذلك خريماً فعجل فأخذ شفرة فقطع بها جمته إلى أذنيه، ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه.
ثم مر بنا يوماً آخر فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك! فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنكم قادمون على إخوانكم، فأصلحوا رحالكم وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش.
قال أبو داود: وكذلك قال أبو نعيم عن هشام قال: حتى تكونوا كالشامة في الناس)].
أورد أبو داود حديث رجل من الصحابة، هو سهل بن الحنظلية رضي الله عنه وكان في الشام، وكان رجلاً معتزلاً للناس، وليس كثير المخالطة، وإنما هو مشتغل بالعبادة والذكر والتسبيح والتهليل، فمر يوماً على مجلس فيه أبو الدرداء، فقال أبو الدرداء: (كلمة تنفعنا ولا تضرك) يعني: ذكّرنا بشيء أو حدثنا بشيء ينفعنا ولا يضرك، والكلمة يراد بها الكلام لا يقصد بها كلمة واحدة؛ لأن الكلمة يراد بها الكلمة الواحدة ويراد بها الكلام، كما يقال: فلان ألقى كلمة أو عنده كلمة، أي: كلام، وكذلك جاء في اللغة وفي الحديث، ومنه حديث: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان) وكلمة الإخلاص (لا إله إلا الله)، وهي عدة كلمات، فالكلمة تطلق على الكلمة الواحدة، وتطلق على الكلام، ولهذا يقول ابن مالك في أول الألفية عن الكلام: واحده كلمة والقول عم وكلمة بها كلام قد يؤم أي: الكلمة قد يقصد بها الكلام، وهنا قوله: (كلمة تنفعنا ولا تضرك) يعني: حدثنا بحديث وبكلام ينفعنا ولا يضرك، وليس المقصود منه الكلمة المفردة، وإنما المقصود منه الكلام؛ لأن الكلمة تطلق على الكلام.
وقوله: (تنفعنا ولا تضرك) يعني: نحن نربح وأنت لا تخسر، وفي الحقيقة أن الكلمة منه تنفعهم وتنفعه وليست المسألة فقط مجرد ارتفاع الضرر عنه، بل النفع حاصل؛ لأن الإنسان إذا دل إلى خير وأرشد إلى خير وحدث بخير فإنه ينتفع، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى كان له أجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه إثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً).
والمخالطة مع النفع خير من العزلة، وإذا كانت المخالطة فيها ضرر ولا يترتب من ورائها نفع فالعزلة أفضل.
فالعزلة تكون أفضل باعتبار والمخالطة تكون أفضل باعتبار آخر، فالذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم وينفعهم خير من الذي يعتزلهم ولا يفيدهم شيئاً؛ ولكن إذا لم يحصل منه نفع، لعلة لا تمكنه من النفع، أو كانت الخلطة تؤدي إلى ضرر؛ فعند ذلك تكون العزلة خيراً له.
قوله: [(بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية)].
السرية هي قطعة من الجيش تقتطع وترسل لمهمة ثم تعود، وقيل: إن غايتها إلى أربعمائة شخص، وقد تكون أقل من ذلك، فمن حين خروجها إلى رجوعها يقال لها سرية، فإذا دخلت في الجيش خرجت عن كونها سرية وصارت من ضمن الجيش، وفي جملة الجيش.
فرجعت السرية، وجاء رجل منهم وجلس في المجلس الذي كان يجلس فيه النبي صلى الله عليه وسلم وجلسوا في انتظاره، وكانوا يتحدثون قبل أن يصل صلى الله عليه وسلم، فقال ذلك الرجل الذي جلس لرجل بجواره: (لو رأيتنا حين التقينا نحن والعدو فحمل فلان فطعن وقال: خذها مني وأنا الغلام الغفاري؛ كيف ترى في قوله؟ قال: ما أراه إلا قد بطل أجره) يعني: كونه قال هذا الكلام، لأن فيه سمعة وفيه ثناء على نفسه بالشيء الذي قد حصل منه.
فقال الآخر: (ما أرى بذلك بأساً!) يعني: عكس كلام صاحبه الأول.
فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (سبحان الله! لا بأس أن يؤجر وأن يحمد) يعني: يحصل له هذا وهذا، يحصل الأجر ويحصل الحمد.
قوله: [(فرأيت أبا الدرداء سر بذلك، وجعل يرفع رأسه إليه، ويقول: أنت سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: نعم.
فما زال يعيد عليه حتى إني لأقول: ليبركن على ركبتيه)].
وهذا الذي جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أيد كلام الثاني الذي قال: لا بأس به، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا بأس أن يؤجر ويحمد) أي: أنه يحصل له الأجر ويحصل له الحمد، فسرَّ بذلك أبو الدرداء وصار يردد عليه: (أأنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) حتى قال بشر: (حتى إني لأقول: ليبركن على ركبتيه) يعني: من شدة اهتمامه ومطالبة ذلك الشخص بتأكيد هذا الكلام، وأنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(فمر بنا يوماً آخر فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك! قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: المنفق على الخيل كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها)].
أي: أنه مر بهم مرة ثانية فقال له أبو الدرداء مثلما قال في اليوم الأول: (كلمة تنفعنا ولا تضرك! فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المنفق على الخيل كالباسط يده في الصدقة لا يقبضها).
ومعناه: كأنه مستمر في الإنفاق، فالذي ينفق على الخيل أجره مستمر متتابع كثير؛ لأن شأن الخيل في الجهاد عظيم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة)، والإنفاق على الخيل هو في سبيل الله، وهو صدقة جارية مستمرة كشأن الذي يده مبسوطة منفقة ومستمرة بالإنفاق.
قوله: [(ثم مر بنا يوماً آخر فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك! قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل خريم الأسدي لولا طول جمته وإسبال إزاره.
فبلغ ذلك خريماً فعجل فأخذ شفرة فقطع بها جمته إلى أذنيه، ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه)].
مر بهم الثالثة فقال أبو الدرداء الكلمة السابقة نفسها: (كلمة تنفعنا ولا تضرك).
قوله: [(فبلغ ذلك خريماً فعجل فأخذ شفرة فقطع بها جمته إلى أذنيه، ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه) يعني: القطع للشعر والرفع للإزار إلى أنصاف الساقين، وهذا هو محل الشاهد من إيراد الحديث الطويل في هذا الباب.
قوله: [(ثم مر بنا يوماً آخر فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك! فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنكم قادمون على إخوانكم، فأصلحوا رحالكم وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش)].
أي أنه مر بهم في المرة الرابعة فقال له الكلمة نفسها: (كلمة تنفعنا ولا تضرك!) فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم قادمون على إخوانكم) أي: أنهم كانوا في سفر فقال لهم: (إنكم قادمون على إخوانكم، فأصلحوا رحالكم وأصلحوا ثيابكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس) والمقصود كالشيء الواضح الجلي في الناس.
[(فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش)].
الفحش: يطلق على الفحش من القول، لكن سياق الكلام عن إصلاح الظاهر بالثياب الحسنة والترجل، وكأنه يطلق على الحالة السيئة والحالة القبيحة غير الجميلة.(458/17)
تراجم رجال إسناد حديث (نعم الرجل خريم الأسدي لولا طول جمته وإسبال إزاره)
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هارون بن عبد الله الحمال البغدادي ثقة، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو عامر -يعني: عبد الملك بن عمرو -].
أبو عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام بن سعد].
هشام بن سعد صدوق له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن قيس بن بشر التغلبي].
قيس بن بشر التغلبي مقبول أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
أبوه بشر التغلبي صدوق أخرج له أبو داود.
أما ابن الحنظلية فهو سهل بن الحنظلية رضي الله عنه، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي، والحديث في إسناده هذا الرجل المقبول، وقد ضعفه الألباني بسببه.
[قال أبو داود: وكذلك قال أبو نعيم عن هشام].
أبو نعيم هو الفضل بن دكين الكوفي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهشام هو ابن سعد الذي تقدم في الإسناد.(458/18)
السنة في الشعر وحكم طوله
الحديث يدل على عدم تطويل الشعر حتى يصل إلى الأذنين لقوله: (لولا طول جمته)، وقد قصر خريم شعره حتى صار إلى شحمة الأذنين رضي الله عنه، مثلما كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصل شحمة الأذنين لا ينزل عن ذلك، وهذا قد نزل فأعاده امتثالاً حتى كان كشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم.(458/19)
فضيلة العناية بالخيل في سبيل الله والإعداد للجهاد
المراد بقوله: [(المنفق على الخيل)] أي: في الجهاد وفي غير الجهاد، يعني: في تهيئة أهل الجهاد، ففي تهيئة أهل الجهاد وفي إعداد أهل الجهاد كذلك هو إنفاق عليها؛ لأن بقاءها والتمكن من الاستفادة منها إنما هو بصيانتها واقتنائها والإنفاق عليها والإحسان إليها حتى يستفاد منها عند الحاجة إليها، وليس بلازم أن يكون الإنفاق وقت الجهاد فقط، وأن الإنفاق عليها في غير الجهاد ليس فيه أجر.
ويقاس عليه كذلك تعاهد ورعاية الأسلحة للمسلمين؟ فيؤجر فاعل ذلك قياساً على المنفق على الخيل، ولا شك أن في إعداد العدة وتهيئتها والمحافظة عليها أجراً عظيماً.(458/20)
سرور أبي الدرداء بقول النبي صلى الله عليه وسلم (سبحان الله لا بأس أن يؤجر ويحمد)
علة سرور أبي الدرداء بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله! لا بأس أن يؤجر ويحمد) لأن فيما أن عمله لا يحبط بقوله ذلك، يعني: كون الشخص يحصل منه شيء مثل هذا الذي جرى في هذا الحديث؛ لا يحبط عمله؛ لأن الذي شق عليه خشية أن يحبط عمله، فالرسول صلى الله عليه وسلم بين أنه لا يحبط عمله، وأنه لا بأس أن يؤجر ويحمد.(458/21)
حكم ذكر الرجل بما يكره في غيبته لمصلحة تعود عليه
وفيه دلالة على جواز ذكر المسلم بما يكره وإن كان غائباً، لقوله عليه الصلاة والسلام: (نعم الرجل خريم الأسدي لولا طول جمته وإسبال إزاره) وهذا إذا كان في ذكره بعيبه مصلحة له، ومنها أن يتدارك النقص الحاصل، فهذه نصيحة بطريقة غير مباشرة، وتعتبر دواءً ناجحاً، وكأن هذا من جنس الحديث الآخر الذي قال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل).(458/22)
معنى قوله (كأنكم شامة)
أما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (كأنكم شامة) فليس المقصود لبس ثياب الشهرة، لكنه ظهور بالخير وبروز بالخير وإظهار لنعمة الله شكراً لله سبحانه.(458/23)
شرح سنن أبي داود [459]
الكبر من كبائر الذنوب، وصاحبه متوعد بالعذاب والنار، لأن الكبير هو الله، وهو صاحب العظمة والكبرياء، فمن نازعه في ذلك عذبه، كما أن الكبر ينافي التواضع والاستكانة التي حض الشارع وأمر على لزومها وترك التعالي والترفع عن العباد.(459/1)
تحريم الكبر(459/2)
شرح حديث (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الكبر.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد.
ح: وحدثنا هناد -يعني: ابن السري - عن أبي الأحوص المعنى: عن عطاء بن السائب -قال موسى: عن سلمان الأغر، وقال هناد: عن الأغر أبي مسلم - عن أبي هريرة رضي الله عنه -قال هناد: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: (قال الله عز وجل: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار)].
قوله رحمه الله تعالى: [باب في الكبر] يعني: في تحريمه، وأن صاحبه مذموم ومتوعد، وأن الكبرياء والعظمة إنما هي لله عز وجل، وهو الكبير العظيم المتعالي سبحانه وتعالى، والتعالي والترفع والتكبر والتعاظم من الخلق مذموم؛ لأن المطلوب في حقهم أن يكونوا عبيداً لله مستضعفين، فعليهم أن يتواضعوا لله عز وجل، وألا يتعالوا ويتكبروا على غيرهم.
فأورد أبو داود هذه الترجمة، وهي عن الكبر وبيان ما ورد فيه من الوعيد، ومن التخويف والزجر والردع لمتعاطيه.
أورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً وهو حديث قدسي: (قال الله عز وجل: العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني في شيء منهما قذفته في النار).
قوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (العظمة إزاري والكبرياء ردائي) يعني: أن هذه من الخصائص التي يختص بها سبحانه وتعالى، وهي ملازمة لله، وليس لغيره أن يبحث عنها وأن يتطلبها؛ لأن هذه من خصائص الله عز وجل.
وقوله: (إزاري وردائي) الشاهد من الحديث أن الله تعالى مختص بها وأنه لا ينازعه أحد فيها، كما أن من يكون له إزار ورداء من الخلق فإن ذلك الإزار والرداء مختص به ليس لأحد غيره مشاركته فيه.
ومن صفات الله عز وجل (صفة العظمة) و (صفة الكبرياء)، وذكر الإزار والرداء إشارة إلى الاختصاص، وإلى عدم الأحقية في المنازعة فيها، فلا يقال: إن لله إزاراً.
ويُسْكَت عن التفصيل، وإنما يقال: إن لله الكبرياء وله العظمة، وأن الله عز وجل بين أنه مختص بها كما أن من يكون من الناس عليه إزار ورداء فإن إزاره ورداءه مختصان به، فدل هذا على أن ذلك من خصائص الله سبحانه وتعالى، وأن ليس لأحد أن يتعاطى ذلك أو يتطلب ذلك أو يبحث عن ذلك أو يؤمل أن يحصل له ذلك؛ لأن هذا خصائص الله سبحانه وتعالى.
وهذا اللفظ الذي جاء في هذا الحديث من جنس اللفظ الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأنصار في غزوة حنين لما وجدوا في أنفسهم أنهم لا يحصل لهم ما حصل للناس، فجمعهم في مكان وتحدث معهم، وقال: بلغني أنكم وجدتم في أنفسكم، إذ لم يحصل لكم ما حصل للناس، قالوا: نعم، يا رسول الله! قال: (أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ ثم قال: الأنصار شعار، والناس دثار) يعني: الأنصار بمنزلة الشعار، وهو ما يلي الجسد من الثياب، لقربهم منه ولاتصالهم به، (والناس دثار) يعني: مثل الثوب الذي بعد الشعار وليس ملاصقاً للجسد، فهذا بيان للقرب والاختصاص به، وأن لهم الصلة الوثيقة بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا الذي في الحديث فيه اختصاص الله عز وجل بالكبرياء، وأنه ليس لأحد أن ينازعه فيها سبحانه وتعالى، فهو الكبير المتعالي ذو الجلال والإكرام والعظمة والكبرياء، والعظمة لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى.
أما الفرق بين الكبرياء والعظمة فالمعاني متقاربة، والعظمة تكون مثلاً صفة لله عز وجل, والكبرياء تتعلق بأنه ذو الكبرياء على غيره، وأن غيره مفتقر إليه، وأنه بحاجة إليه، يعني: فبعض الصفات وبعض الأسماء تتقارب في معانيها، ويكون بينها فروق دقيقة، وبعضها يكون مماثلاً، مثل: الرحمن والرحيم، كل منهما مشتق من الرحمة، ولكن (الرحمن) أعظم من (الرحيم) ولهذا يطلق على غير الله: رحيم، ولا يطلق على غير الله رحمان، فالرحمن من الأسماء الخاصة به التي لا تطلق على غيره، لا يقال: فلان رحمان، ويقال: فلان رحيم، وقد وصف الله نبيه بأنه {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، ولهذا لما قيل لـ مسيلمة الكذاب: رحمان اليمامة حصل له لقب ملازم لاسمه وهو الكذاب؛ بحيث لا يقال: مسيلمة فقط، بل يقال: مسيلمة الكذاب كأنه اسم مركب.(459/3)
تراجم إسناد حديث (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد].
موسى بن إسماعيل مرَّ ذكره.
وحماد هو: ابن سلمة بن دينار، ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ح: وحدثنا هناد بن السري].
(ح) معناها التحول من إسناد إلى إسناد.
وهناد بن السري أبو السري ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي الأحوص].
أبو الأحوص سلام بن سليم الحنفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن السائب].
عطاء بن السائب صدوق اختلط، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن، وهنا يروي عنه أبو الأحوص، وحماد بن سلمة، وليسا من الذين سمعوا منه قبل الاختلاط؛ لأن حماد بن سلمة مختلف فيه، ومعلوم أن المختلف فيه كأنه يعتبر غير سامع؛ لأنه لابد من تحقق السماع قبل الاختلاط حتى يقبل حديثه، وأبو الأحوص لم يسمع منه قبل الاختلاط؛ لكن الحديث ورد في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة وصحابي آخر بنفس المعنى إلا أن فيه لفظ (العزة) بدل (العظمة).
وعطاء بن السائب ليس من رجال مسلم ولهذا قيل: إنه من رجال البخاري وأصحاب السنن.
[قال: موسى عن سلمان الأغر، وقال هناد: عن الأغر أبي مسلم].
(قال: موسى) الذي هو الشيخ الأول: (عن سلمان الأغر)، وقال الشيخ الثاني -وهو هناد -: عن الأغر أبي مسلم، وهما رجلان، ولكن كل منهما ثقة.
سلمان أخرج له أصحاب الكتب الستة، والأغر أبو مسلم أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة رضي الله عنه مر ذكره.
[قال هناد: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل].
أي: أن الذي قال: (قال رسول الله) هو هناد الشيخ الثاني في السند.(459/4)
حكم القول بأن لله إزاراً ورداء دون تفصيل
في ذكر الإزار والرداء لله سبحانه وتعالى فنقول كما قال الله عز وجل: (العظمة إزاري والكبرياء ردائي) لكن كنوننا نقول: (له إزار) أو (له رداء) ونطلق قد يقطع الكلام ولا يتصل بشيء فيكون شيئاً خطيراً غير لائق بالله سبحانه وتعالى.(459/5)
وجه إيراد النهي عن الكبر في كتاب اللباس
وجه إيراد أبي داود [باب الكبر] في كتاب اللباس أنه لما ذكر الإسبال، والإسبال يكون للكبر ولغيره، وقد ذكر الحديث الذي فيه النهي عن الإسبال لأجل التعاظم والخيلاء، فذكر -بالمناسبة- الكبر الذي ذم الإسبال لأنه يؤدي إليه أو لأنه سبب للوصول إليه، وأنه يضاعف إثم الإسبال.(459/6)
حكم لفظ (العظمة) من ناحية المتن
الحديث في صحيح مسلم فيه لفظ (العزة) بدلاً عن (العظمة) لكن لا يقال: لفظة (العظمة) شاذة أو منكرة؛ لأنها جاءت من حديث عطاء؛ لأن وصف الله عز وجل بالعظمة لا يشاركه فيه أحد، والعزة لا يشاركه فيها أحد.(459/7)
شرح حديث (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو بكر -يعني: ابن عياش - عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر) هذا في ذم الكبر وبيان خطورته، وأنه من الكبائر، وأن صاحبه متطلب ما ليس له، وتارك للشيء الذي هو له، وهو التواضع الذي يقابله التكبر والترفع والتعاظم.
قوله: (مثقال حبة من خردل من كبر) يعني: شيئاً يسيراً من الكبر؛ فإن ذلك سبب في عدم دخول الجنة، والمقصود من ذلك بيان الزجر والتحذير من الكبر، ولا يعني ذلك أن من يكون كذلك يكون من أهل النار الذين هم الكفار، فإن مرتكب الكبيرة أمره إلى الله عز وجل إن شاء تجاوز عنه وإن شاء عذبه، ولكنه إذا عذبه لا يخلده في النار خلود الكفار، بل لا بد أن يخرج منها ويدخل الجنة، فيكون فاته ما حصل لغيره ممن سلم من الكبر وكان فيمن يدخلون الجنة ولا يعذبون في النار، فإن أهل الجنة في الجنة ينعمون وهو في النار يعذب بسبب كبره.
فهذا لا يعني أنه لا يدخل الجنة أصلاً، فإن الله عز وجل أخبر بأن كل ذنب دون الشرك فهو تحت مشيئته سبحانه وتعالى، وكل ذنب لم يغفره الله عز وجل لمن كان غير مشرك فإنه لا يخلد صاحبه في النار، وإنما يدخل النار إذا شاء الله أن يدخلها ويعذب فيها على مقدار جرمه، ثم يخرج من النار ويدخل الجنة، ولا يبقى في النار إلا الكفار الذين هم أهلها والذين لا سبيل لهم إلى الخروج منها فإن الجنة عليهم حرام.
(ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان) يعني: أنه لا يدخلها دخولاً يكون له خلوداً، وأما كونه يدخلها جزاء على ما عنده من الكبائر التي لم يتجاوز الله عنها فذلك وارد، كما جاءت بذلك الأحاديث الدالة على أن أصحاب الكبائر يدخلون النار إذا لم يعف الله عنهم، ولكنه إذا دخل لا يدخل دخول خلود.(459/8)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو بكر -يعني: ابن عياش -].
أبو بكر بن عياش وهو ثقة أخرج له البخاري ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة].
الأعمش مر ذكره.
وإبراهيم هو: ابن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، ثقة محدث فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وعلقمة هو: النخعي الكوفي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله].
هو عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه الصحابي الجليل، وهو أحد فقهاء الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: رواه القسملي عن الأعمش مثله].
القسملي عبد العزيز بن مسلم، ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب إلا ابن ماجة.(459/9)
الكبر والإيمان لا يجتمعان
والإيمان يجتمع مع الكبائر مع المعاصي، والمؤمن يكون عنده إيمان وعنده معاص كبائر -إذا كان قد ارتكب كبائر- وصغائر، فيكون عنده إيمان وعنده نقص في الإيمان بسبب الكبائر، فلا يقال: إنهما لا يجتمعان بحيث لا يكون المؤمن موصوفاً بالإيمان إلا إذا كان خالياً من الكبر، يمكن أن يكون مؤمناً ناقص الإيمان لما عنده من الكبر فالجمع بين الإيمان وحصول الكبيرة هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وهم وسط بين المرجئة وبين الخوارج والمعتزلة.
المرجئة فرطوا وأهملوا وقالوا: مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، فلا فرق بين أتقى الناس وأفجر الناس في الإيمان، ولا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
وهذا تغليب لجانب الوعد وإهمال لجانب الوعيد.
في مقابل ذلك الإفراط والتشديد والغلو الذي حصل من الخوارج والمعتزلة، فاتفق الخوارج والمعتزلة على خروج مرتكب الكبيرة من الإيمان، لكن هل دخل في الكفر؟ الخوارج قالوا: دخل في الكفر.
والمعتزلة قالوا: خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فهو في منزلة بين المنزلتين، وهم متفقون على أنه في الآخرة مخلد في النار، وفي الدنيا مختلف عليه بينهم، هؤلاء قالوا إنه كافر، وهؤلاء قالوا إنه في منزلة بين المنزلتين، وهم متفقون على أنه ليس بمؤمن، فقد خرج من الإيمان فكان كافراً على قول الخوارج، وفي منزلة بين المنزلتين على قول المعتزلة.
وأهل السنة والجماعة قالوا: هو مؤمن ناقص الإيمان وهذا القول وسط، فأهل السنة وسط بين طرفين وهدىً بين ضلالتين هما غاية التفريط وغاية الإفراط، فقالوا: هو مؤمن عاصٍ وليس بكافر، ما خرج من الإيمان، وبذلك خالفوا الخوارج والمعتزلة الذين قالوا: ليس بمؤمن.
أهل السنة والجماعة توسطوا بين الخوارج والمعتزلة من جهة وهم المفرطون الغالون، وبين المرجئة المفرطون المتساهلون المتسيبون الذين جعلوا الأمور كلها فوضى، وأنه لا فرق بين أتقى الناس وأفجر الناس.
فأهل السنة قالوا في مرتكب الكبيرة: مؤمن ناقص الإيمان، فقولهم: (مؤمن) خالفوا به الخوارج والمعتزلة الذين قالوا: ما هو بمؤمن، وقولهم: (ناقص الإيمان) خالفوا به المرجئة الذين قالوا: كامل الإيمان.
فالمرجئة غلبوا جانب الوعد وأهملوا جانب الوعيد، والخوارج والمعتزلة غلبوا جانب الوعيد وأهملوا جانب الوعد، وأهل السنة أخذوا بالوعد والوعيد فقالوا: (هو مؤمن) وهذا أخذٌ منهم بالوعد وقالوا: (إنه ناقص الإيمان) وهذا أخذ منهم بجانب الوعيد.
فهم وسط بين أبواب العقيدة المتناقضة المختلفة، وسط في هذا الباب بين المرجئة وبين الخوارج والمعتزلة، ووسط في الصفات بين المشبهة والمعطلة، ووسط في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بين الروافض والنواصب فعندهم محبة الجميع وعدم الغلو في أحد ولا الجفاء لأحد، فلا جفاء عندهم ولا إفراط.
فهم وسط في أبواب العقيدة المختلفة، وهذا الباب الذي معنا فيما يتعلق بمرتكب الكبيرة واضح، يعني: بأنهم قالوا عن مرتكب الكبيرة: مؤمن ناقص الإيمان، فيُحَبّ على ما عنده من الإيمان ويُبْغَض على ما عنده من الفسق والعصيان فيكون جامعاً بين كونه محبوباً وكونه مبغوضاً، والحب والبغض في الشيء الواحد يجتمعان، فالحب باعتبار والبغض باعتبار، ولا يكون محبوباً بإطلاق ولا مبغوضاً بإطلاق.
أما عند المرجئة فهو محبوب بإطلاق، وعند الخوارج والمعتزلة مبغوض بإطلاق، وعند أهل السنة محبوب باعتبار ومبغوض باعتبار، ويجتمع في الإنسان محبة على ما عنده من الإيمان وبغض على ما عنده من الفسق والفجور والعصيان، وهناك مثال يتضح به الجمع بين الحب والبغض وهو الشيب، الشيب إذا نظر إلى ما قبله وهو الشباب صار غير مرغوب فيه، ولكن بالنسبة لما بعده وهو الموت يصير مرغوباً، فإذا نظر إلى ما بعده صار مرغوباً فيه؛ لأن من هو في المشيب لا يريد الموت، ولكنه بالنسبة للشباب غير مرغوب فيه؛ لأن الشباب هو المرغوب فيه، ولهذا يقول الشاعر: الشيب كره وكره أن يفارقني ف أعجب لشيء على البغضاء مودود وكذلك مرتكب الكبيرة محبوب باعتبار ما عنده من الإيمان ومبغوض على ما عنده من الفجور والعصيان.(459/10)
شرح حديث (الكبر من بطر الحق وغمط الناس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب حدثنا هشام عن محمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم -وكان رجلاً جميلاً- فقال: يا رسول الله! إني رجل حبب إليَّ الجمال وأعطيت منه ما ترى حتى ما أحب أن يفوقني أحد -إما قال: بشراك نعلي وإما قال: بشسع نعلي- أفمن الكبر ذلك؟ قال: لا.
ولكن الكبر من بطر الحق وغمط الناس)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان جميلاً ويحب الجمال فقال: إني كما ترى، ولا أحب أن يفوقني أحد بشراك نعلي أو بشسع نعلي -شك من الراوي- أفمن الكبر ذلك؟ قال عليه الصلاة والسلام: لا.
ولكن الكبر من بطر الحق وغمط الناس.
وبطر الحق رده وعدم قبوله، وغمط الناس احتقارهم وازدراؤهم، وأما إذا كان الإنسان يحب الجمال، وليس عنده الشهرة التي هي مذمومة، ولا التعالي والترفع على الناس الذي هو مذموم، فإن ذلك يكون محموداً.(459/11)
تراجم رجال إسناد حديث (الكبر من بطر الحق وغمط الناس)
قوله: [قال: حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى].
أبو موسى محمد بن المثنى الزمن العنزي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الوهاب].
هو عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام].
هو هشام بن حسان، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد].
هو محمد بن سيرين، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه، وقد مر ذكره.(459/12)
الأسئلة(459/13)
تفسير (ما أسفل من الكعبين في النار)
السؤال
بعض الناس يفسر الحديث: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) بأن الذي في النار القطعة التي نزلت من الإزار لا الكعبان؟
الجواب
المقصود أن الشخص يعذب، ولكن بسبب هذا الذي حصل من النزول عن الأمر المشروع الذي هو النزول عن الكعبين يعني: كونه إن كان في النار يعذب به فيمكن، وهو من جنس قوله: (ويل للأعقاب من النار) والعقب: خلف الرجل، وهو موضع ينبو عنه الماء إذا لم يتعاهد، فيعذب صاحبه، لأجل الإخلال بما هو واجب وبما هو مطلوب في الوضوء، فليس المقصود أن ذلك يقذف في النار، ولكن يعذب به في النار بأن يكون ناراً تحرقه ويتلظى بها.
ومعلوم أن العذاب يكون للإنسان كله، مثلما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أخف الناس عذاباً أبو طالب، فهو في ضحضاح من نار عليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه) يعني: النار في أسفل شيء وأعلى شيء منه يغلي من شدة حرارة ذلك الذي يجد في رجليه.(459/14)
حكم التوسل بالمصطفى صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل يجوز التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
يجوز التوسل بمحبة الإنسان للرسول صلى الله عليه وسلم وباتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم، أما التوسل بشخصه وبذاته فهذا لم يأت عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك، بل جاء عن الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم ما يدل على خلافه، وهو أنهم كانوا في حياته صلى الله عليه وسلم يأتون إليه ويطلبون منه الدعاء ويتوسلون إليه بدعائه صلى الله عليه وسلم، ولما توفي عليه الصلاة والسلام ما كانوا يأتون إلى قبره أو يتوسلون به، ويقولون: نتوسل إليك بنبيك، وإنما يطلبون من الشخص الذي يكون معهم أن يدعو ويتوسلون بدعاء ذلك الداعي الذي اختاروه لأن يدعو، وقد جاء ذلك في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه أنه لما كان عام قحط وجدب وخرج يستسقي بالناس طلب من العباس أن يدعو، وقال رضي الله عنه: (اللهم! إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا وتسقينا)، يعني: في حياته كنا نتوسل إليك به فنطلب منه الدعاء وأنك تسقينا وأنك تجيب دعاءه.
(وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قم يا عباس! فادع الله).
فلو كان التوسل به صلى الله عليه وسلم وبشخصه مشروعاً ما كان عمر رضي الله عنه يعدل إلى التوسل بأحد غير النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان حياً بين أظهرهم كانوا يأتون ويطلبون منه الدعاء ويتوسلون بدعائه، ولما مات صلى الله عليه وسلم ما كانوا يتوسلون به، وإنما طلبوا من عمه العباس في عهد عمر أن يدعو، واختار عمر رضي الله عنه العباس مع وجود من هو خير من العباس وأفضل من العباس، وعمر نفسه أفضل من العباس؛ ولكنه اختاره لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: (وإنا نتوسل إليك بعم نبينا)، ما قال: نتوسل إليك بـ العباس، لأن المقصود هو القرابة والصلة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكونه أقرب قريب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
علي رضي الله عنه أفضل من العباس، وكلهم من أهل البيت، وكان علي موجوداً في ذلك الوقت؛ لأن علياً رضي الله عنه بعد عمر وبعد عثمان وولي الخلافة، والعباس هو الذي طلب منه الدعاء لأنه أقرب أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه عمه، ولو كان صلى الله عليه وسلم يورث لورثه العباس ولم يرثه علي، ولو كان عليه الصلاة والسلام يورث عنه المال لكان لزوجاته من ميراثه الثمن(459/15)
ما جاء في قدر موضع الإزار(459/16)
شرح حديث (إزرة المؤمن إلى نصف الساق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قدر موضع الإزار.
حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه قال: سألت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه عن الإزار قال: على الخبير سقطت! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إزرة المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج -أو لا جناح- فيما بينه وبين الكعبين، ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، من جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [قدر موضع الإزار].
أي: موضع نهايته من الأسفل، وهو أن يكون إلى نصف الساق، ولا ينزل عن الكعبين، بل يكون بين الكعبين ونصف الساق، فهو المكان الذي يكون فيه منتهى الثوب سواء كان إزاراً أو قميصاً.
وقد أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سأله رجل عن قدر موضع الإزار فقال: (على الخبير سقطت) يعني: أنك سألت من عنده علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
وهذا يقوله أبو سعيد رضي الله عنه من أجل طمأنة الشخص السائل إلى أن عنده علماً وأنه خبير بذلك، ففيه حث له على أن يتلقى عنه ذلك العلم الذي تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يبين ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحرص على الخير وبذل العلم ونشره رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إزرة المسلم إلى نصف الساق) أي: أنها تنتهي إلى نصف الساق من الجهة العليا وتنتهي إلى الكعبين من الجهة السفلى، فيكون ما بين هذين المكانين هو الذي يجوز للإنسان أن يفعله، وليس له أن ينزل الثوب عن الكعبين؛ لأنه إذا نزل عن ذلك فإنه يكون قد وقع في الإسبال المحرم المنهي عنه المتوعد عليه بالوعيد الشديد الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (من جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه).
(من جر إزاره) أي: أنزله عن الكعبين، فإنه بذلك يكون مسبلاً، وهذا محرم، وقد عرفنا فيما مضى أن من جر الإزار متعمداً وقاصداً به الخيلاء فإن إثمه يكون أكبر وأعظم، وإن كان متعمداً ولكنه لم يرد الخيلاء فإن ذلك حرام ومن كبائر الذنوب.
قوله: [(إزرة المسلم إلى نصف الساق ولا حرج -أو لا جناح- فيما بينه وبين الكعبين، ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار)].
وما كان بين الكعبين إلى نصف الساق فهذا هو السائغ المشروع الذي لا بأس به.
قوله: [(فهو في النار)] المقصود من ذلك أن صاحبه يكون معذباً على هذا الفعل، ويحتمل أن يكون المراد أنه يعذب بهذا الذي نزل في النار يوم القيامة؛ لأن ذلك هو سبب العذاب وهو نزوله عن الكعبين.
قال الخطابي: (فهو في النار) يتأول على وجهين: أحدهما: أن ما دون الكعبين من قدم صاحبه في النار عقوبة له على فعله.
والوجه الآخر: أن يكون معناه أن صنيعه ذلك وفعله الذي فعله في النار، على معنى أنه معدود ومحسوب من أفعال أهل النار.
ولا شك أن هذا يؤدي إلى النار، وهو فعل يستحق عليه العقوبة بالنار، ويحتمل أن يعذب بنفس هذا الذي نزل من الكعبين بحيث يكون ناراً تتلظى يوم القيامة؛ لأنه فعل أمراً منكراً فيعذب به يوم القيامة، ومعلوم أنه قد جاءت أحاديث بأن من فعل أمراً محرماً فإنه يعذب به نفسه في الآخرة، مثل الذي تحسى سماً، وكذلك الذي تردى من شاهق، فنفس العمل الذي عمله يعذب به يوم القيامة.
ولو قال قائل: ألا يحتمل أن يراد أن الجزء من الإزار أو الثوب النازل تحت الكعبين يكون في النار على حد قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] فيكون جزء الثوب من حصب جهنم مثل الناس والحجارة وما ورد فيه نص بذلك؟! فيقال: لا.
هذا المقدار هو الذي يعذب به صاحبه مثلما يعذب الذي يتحسى السم في النار، ومن يقذف نفسه من شاهق فيعذب بنفس العمل، فهكذا القطعة من الثوب النازلة عن الكعب تلتهب عليه ناراً ويعذب بها، وكذلك جاءت أحاديث كثيرة في أن نفس الذنب يعذب صاحبه بمثله، والجزاء من جنس العمل.
قوله: [(ومن جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه)].
أي: النظر الذي يكون فيه رحمة له وإحسان إليه، وأما النظر الذي هو عام أو يكون فيه غضب وتبكيت وتقريع فهذا لا ينفيه الحديث، مثل قوله: (لا يكلمهم الله يوم القيامة)؛ جمعاً بين ذلك وبين قوله: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] ونحوه، فـ ((اخْسَئُوا)) كلام، ولكنه كلام تقريع وتبكيت، و (لا يكلمهم) أي: التكليم الذي فيه منفعة لهم وإحسان إليهم، فالمنفي غير المثبت، المنفي نوع من الكلام، والمثبت نوع من الكلام، وفي النظر أيضاً المنفي نوع والذي يثبت نوع آخر.
أما حقيقة النظر فهو تقليب الحدقة، هذا بالنسبة للمخلوقين، أما الله عز وجل وصفاته فعلى خلاف عما يوصف به خلقه، والفرق بين صفات الخلق وصفات الله كالفرق بين الخالق والمخلوق.(459/17)
تراجم رجال إسناد حديث (إزرة المؤمن إلى نصف الساق)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي البصري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن العلاء بن عبد الرحمن].
هو العلاء بن عبد الرحمن الحرقي، صدوق أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه -كذلك- ثقة أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي سعيد الخدري].
هو سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(459/18)
شرح حديث (الإسبال في الإزار والقميص والعمامة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري حدثنا حسين الجعفي عن عبد العزيز بن أبي رواد عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جر منها شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر، وهو يدل على أن الإسبال يكون بكل لباس يلبسه الإنسان، سواء كان قميصاً أو إزاراً أو جبة أو مشلحاً أو أي شيء يلبسه الإنسان، وإنما ذكر الإزار في كثير من الأحاديث؛ لأن هذا هو الذي كان يلبس كثيراً، ولأن الإزار أيضاً يسترخي، فجاء التنصيص عليه حتى يُحذر نزوله عن الكعبين.
أما العمامة وكيف يكون الإسبال فيها فالذي يبدو أنه مثلما ذكر بعض أهل العلم أنه الشيء الذي يكون خارجاً عن المعتاد أو عن المألوف بأن يطول طولاً فاحشاً كمن يسحب العمامة وراءه من فوق رأسه، فالإسبال في العمامة هو ما يكون فيه زيادة فاحشة كبيرة عن القدر المحتاج إليه.(459/19)
تراجم رجال إسناد حديث (الإسبال في الإزار والقميص والعمامة)
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هناد بن السري أبو السري ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا حسين الجعفي].
حسين بن علي الجعفي صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد العزيز بن أبي رواد].
عبد العزيز بن أبي رواد صدوق ربما وهم، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن سالم بن عبد الله].
هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو تابعي ثقة أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه] عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهو الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(459/20)
شرح قول ابن عمر (ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإزار فهو في القميص)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد حدثنا ابن المبارك وعباد].
(عباد) هذه زائدة.
[حدثنا ابن المبارك عن أبي الصباح عن يزيد بن أبي سمية قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإزار فهو في القميص)].
أورد أبو داود هذا الأثر عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو قوله: (ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإزار فهو في القميص) يعني: أن وكل ما ذكر مما يتعلق بالإزار من ناحية الإسبال فإنه يقال في القميص، وكذلك في غير القميص من الألبسة الأخرى التي هي مثل المشلح والجبة وما إلى ذلك.(459/21)
تراجم رجال إسناد قول ابن عمر (ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإزار فهو في القميص)
قوله: [حدثنا هناد عن ابن المبارك].
ابن المبارك هو: عبد الله بن المبارك المروزي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الصباح].
هو سعدان بن سالم، صدوق أخرج له أبو داود.
[عن يزيد بن أبي سمية].
يزيد بن أبي سمية مقبول، أخرج له أخرج له أبو داود.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر ذكره.(459/22)
شرح حديث ابن عباس أنه ائتزر فوضع حاشية إزاره على ظهر قدميه ورفعه من مؤخره
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن محمد بن أبي يحيى حدثني عكرمة أنه (رأي ابن عباس رضي الله عنهما يأتزر فيضع حاشية إزاره من مقدمه على ظهر قدميه، ويرفع من مؤخره، قلت: لم تأتزر هذه الإزرة؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتزرها)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس وفيه بيان كيفية الاتزار، وهي أنه كان يأتزر ويضع مقدم إزاره على ظهر قدميه ويرفعه من الخلف فقال عكرمة (لم تفعل ذلك؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلها) يعني: أن هذه من الهيئات التي جاءت عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وإذا أصابت الحاشية ظهر قدميه فيمكن أن تكون موازية للكعب؛ لأن الكعب نابٍ مرتفع.(459/23)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس أنه ائتزر فوضع حاشية إزاره على ظهر قدميه ورفعه من مؤخره
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد هو ابن مسرهد البصري، ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن أبي يحيى].
محمد بن أبي يحيى صدوق أخرج له أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[حدثني عكرمة].
عكرمة مولى ابن عباس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنه رأى ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.(459/24)
الأسئلة(459/25)
حكم من كان في ثوبه طول لكنه لا ينزل عن مستوى الكعبين
السؤال
تركت ثوبي عند الخياط من أجل أن يجعله إلى نصف الساق، فلما لبسته خرج إلى فوق الكعب، فهل يجوز لبسه؟
الجواب
البسه.
وإذا كان الثوب ينزل عن الكعبين حال الركوع فلا يؤثر هذا النزول بسبب الركوع ما دام أنه في المعتاد ضمن المسافة المشروعة.(459/26)
حكم رفع الإزار إلى عضلة الساق
السؤال
هل ورد ما يدل على رفع الإزار إلى تحت الركبة بأربع أصابع أو إلى عضلة الساق؟
الجواب
لا أعرف شيئاً يدل على أكثر من نصف الساق.
وأما حديث كعب بن عجرة (أنه كان يرفع إزاره إلى تحت الركبة بأربعة أصابع) فما أدري عن ثبوته، ولا أعلم هل هو حديث أم أثر؟(459/27)
شرح سنن أبي داود [460]
من آداب اللباس ألا تتشبه النساء بالرجال ولا الرجال بالنساء، وذلك لأن لكل جنس لباس يخصه، وقد دل الشرع على وجوب تستر المرأة واحتجابها عن غير محارمها وما ملكت يمينها، وقد مدح المهاجرات ونساء الأنصار بمبادرتهن إلى استعمال الخمر والجلابيب فور أمر الشارع بذلك.(460/1)
لباس النساء(460/2)
شرح حديث (لعن المتشبهات من النساء بالرجال)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب لباس النساء.
حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لعن المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء)].
أورد أبو داود باباً في لباس النساء، والنساء يلبسن اللباس السائغ في حقهن الذي لا يكون فيه مشابهة للرجال، وما وردت به السنة من لباسهن فلهن لبسه، لكن جاءت السنة بمنع النساء من التشبه بالرجال، ومنع الرجال من التشبه بالنساء، وأن ذلك من الكبائر.
وأورد أبو داود حديث عبد الله بن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام: لعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء، أي: أن المتشبه بغيره من رجال أو نساء ملعون، واللعن يدل على أن التشبه من أي الجنسين بالآخر من الكبائر.
كل شيء يعتبر من خصائص النساء لا يحق للرجال التشبه بهن فيه وهو حرام، وكل شيء يعتبر من خصائص الرجال فتشبه النساء به يكون حراماً.(460/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لعن المتشبهات من النساء بالرجال)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن معاذ].
عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
هو معاذ بن معاذ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة مر ذكره.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة عن ابن عباس].
عكرمة عن ابن عباس مر ذكرهما.(460/4)
شرح حديث (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زهير بن حرب حدثنا أبو عامر عن سليمان بن بلال عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل) يعني: الهيئة والكيفية وطريقة اللبس، فإن ذلك من التشبه الذي ورد عليه اللعن من رسول الله عليه الصلاة والسلام.(460/5)
تراجم رجال إسناد حديث (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل)
قوله: [حدثنا زهير بن حرب].
زهير بن حرب أبو خيثمة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا أبو عامر].
هو أبو عامر العقدي عبد الملك بن عمرو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن بلال].
سليمان بن بلال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهيل].
هو سهيل بن أبي صالح، صدوق أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، والبخاري إنما روى له مقروناً.
[عن أبيه].
هو أبو صالح السمان ذكوان، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أكثر أصحابه حديثاً.(460/6)
شرح حديث (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجلة من النساء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سليمان لوين -وبعضه قراءة عليه- عن سفيان عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة قال: قيل لـ عائشة رضي الله عنها: إن امرأة تلبس النعل! فقالت: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجلة من النساء)].
أورد أبو داود حديث عائشة أنها سئلت عن المرأة تلبس النعل، أي: النعل الذي يخص الرجال، وإلا فإن كون المرأة تلبس النعل الخاص بالنساء هو الأصل، ولابد منه، وإنما المقصود أنها تلبس لبسة الرجل أو النعال الخاصة بالرجال، فهذا هو الذي قالت فيه: (لعن الله الرجلة من النساء) يعني: التي تتشبه بالرجال أو تحاكي الرجال في لباسهم وهيئاتهم، فهذا هو المقصود بالرجلة، نسبة إلى الرجل، يعني: أنها تجعل نفسها كأنها رجل، أو أنها من الرجال، وهذا مثلما يقولون في المثل عندما يتشبه الرجل بالمرأة (استنوق الجمل) وفي المرأة: (استديكت الدجاجة)، (استنوق الجمل) يعني: بدلاً من أن يكون ذكراً صار من قبيل الإناث أو لحق بالإناث.
و (استديكت الدجاجة): خرجت من كونها دجاجة إلى أن صارت من قبيل الديكة.
ومعنى النعل هنا: ما كان خاصاً بالرجال، و (أل) هنا للعهد الذهني الذي يرجع إلى ما عُهد في الأذهان وهو الخاص بالرجال، وإلا فإن المرأة لها أن تلبس النعل الخاص بها.(460/7)
تراجم رجال إسناد حديث (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجلة من النساء)
قوله: [حدثنا محمد بن سليمان لوين].
لوين هذا لقب لـ محمد بن سليمان وهو ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[وبعضه قراءة عليه].
يعني: أن بعضه سماع وبعضه قراءة وتسمى العرض، والرواية به صحيحة، وغالباً ما يفرقون بين المسموع والمقروء عليه بأن يقال: (حدثنا) في المسموع و (أخبرنا) في المقروء، وكثيراً ما يسوون بينهما، ويطلقون التحديث والإخبار عليهما فيأتون بـ (حدثنا) في المقروء ويأتون بـ (أخبرنا) في المسموع.
[عن سفيان عن ابن جريج].
سفيان هو ابن عيينة المكي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي مليكة].
هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي من أوعية السنة وحفظتها.(460/8)
الأسئلة(460/9)
حكم لبس المرأة لبسة الرجل في البيت والعكس
السؤال
لو لبس الرجل لبسة المرأة أو المرأة لبسة الرجل لكن في البيت ومع الأهل؟
الجواب
لا يجوز ولو كان كذلك، فالنهي عن التشبه لا يخص البيت ولا الشارع، وإنما هو في الجميع.(460/10)
حكم لبس المرأة (بجامة) رجالية اتقاءً للبرد
السؤال
ما حكم لبس المرأة لبجامة رجالية في البرد؟
الجواب
البجامة إذا كانت من خصائص الرجال فليس لها ذلك.(460/11)
حكم لبس المرأة فروة أو غيرها من ملابس الرجال
السؤال
قد تحتاج المرأة إلى لبس فروة الرجال؟
الجواب
تبتعد المرأة عن لبس أي شيء يتعلق بالرجال أو من ألبسة الرجال.(460/12)
حكم لبس ملبوسات مشتركة بين الجنسين
السؤال
في بعض البلاد يكون زي النساء مثل زي الرجال ويشبهه، ولا فرق بينهما إلا أن النساء عندهن الاحتجاب فقط؟
الجواب
إذا وجد هذا الشيء وكان هذا هو الواقع فيكون التشبه في الأمور الأخرى، يعني: من ناحية الثوب إذا كان اللون الفلاني من خصائص الرجال أو من خصائص النساء وتعارف عليه أهل البلد؛ فلا يقدم الرجل على أن يلبس شيئاً عرف بأنه من خصائص المرأة أو اشتهر بأنه من خصائص المرأة، وكذلك العكس.(460/13)
حكم لبس شيء مشترك بين الجنسين للحاجة مثل نعل الحمام
السؤال
هناك نعال من خشب تستعمل للدخول في الحمامات يستعملها الرجال والنساء، فما الحكم؟
الجواب
هذا ما فيه بأس، لأنها ليست للرجال خاصة ولا للنساء خاصة، هي لمن يدخل الحمام.(460/14)
حكم تغطية المرأة رأسها في الصلاة بما يخص الرجال من الملابس
السؤال
بعض النساء إذا أرادت أن تصلي وتكون على عجلة تأخذ الشماغ وتلفه على رأسها كوضع الخمار وتصلي به!
الجواب
ليس لها ذلك، ما دام أن هذا من ألبسة الرجال فإنها تبحث عن شيء غيره، أما إذا لم تجد غيره فلها ذلك.(460/15)
حكم تشبه المرأة بالرجل في الحزم والأمر والنهي في أسرتها
السؤال
بعض النساء متسلطات وتريد أن تكون الآمرة الناهية في البيت كالرجل، فهل هذا من التشبه بالرجال؟
الجواب
هذا من قبيل (استديكت الدجاجة).(460/16)
حكم لبس الكعب العالي
السؤال
ما حكم لبس الكعب العالي للمرأة؟
الجواب
لا شك أن مثل ذلك فيه تشبه بالكافرات، وأيضاً هي تعرض نفسها للانزلاق وللسقوط وللحوق الضرر بها، وأيضاً قد يكون فيه تأثير على الجسم من ناحية أن الاعتماد حيث يكون على بعض أجزاء القدم فيكون بذلك مضرة، فهو لا يسوغ ولا يصلح من وجوه متعددة.(460/17)
حلق اللحية تشبه بالنساء
السؤال
هل حلق اللحية يكون من التشبه؟
الجواب
حلق اللحية من الرجال تشبه بالنساء؛ لأن النساء لا شعر لهن، والرجال إذا فعلوا ذلك فإنهم يكونون بذلك متشبهين بالنساء.(460/18)
حكم لبس البنطال للرجل والمرأة
السؤال
هل لبس المرأة للبنطلون تشبه بالرجال؟
الجواب
لا شك أنه تشبه، والرجال أيضاً ليس لهم أن يلبسوا البنطلون.(460/19)
قوله تعالى: (يدنين عليهن من جلابيبهن)(460/20)
شرح حديث (لما نزلت سورة النور عمدن إلى حجور فشققنهن فاتخذنه خُمُراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59].
حدثنا أبو كامل حدثنا أبو عوانة عن إبراهيم بن مهاجر عن صفية بنت شيبة عن عائشة رضي الله عنهما أنها ذكرت نساء الأنصار فأثنت عليهن، وقالت لهن معروفاً، وقالت: لما نزلت سورة النور عمدن إلى حجور أو حجوز -شك أبو كامل - فشققنهن فاتخذنه خمراً].
أورد أبو داود باب قول الله عز وجل: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] أي: لما نزلت آية الحجاب بادرن إلى أخذ هذه الحجوز، وهي التي تأتزر بها المرأة، وتتخذها إزاراً [فقطعنها وجعلنها خمراً] يعني: يغطين بهن رءوسهن ووجوههن، وهذا فيه المبادرة إلى الامتثال للأوامر واتباع السنن التي تأتي عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
والجلباب قيل: إنه شيء يكون مثل العباءة التي تكون فوق اللباس الداخلي المعتاد الذي هو كالخمار يعني: فالجلباب واسع، وهو غير الخمار.
[عن عائشة رضي الله عنهما أنها ذكرت نساء الأنصار فأثنت عليهن، وقالت لهن معروفاً].
يعني: قولاً معروفاً من ناحية الثناء عليهن.
[وقالت: لما نزلت سورة النور عمدن إلى حجور أو حجوز -شك أبو كامل -].
الأقرب أنها الحجوز؛ لأنها ما يشد على الحجزة، والحجزة هي موضع عقد الإزار.
[فشققنهن فاتخذنه خمراً].
يعني: يغطين بهن رءوسهن ووجوههن.(460/21)
تراجم رجال إسناد حديث (لما نزلت سورة النور عمدن إلى حجور فشققنهن فاتخذنه خمراً)
قوله: [حدثنا أبو كامل].
هو أبو كامل الجحدري فضيل بن الحسين وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والترمذي.
[حدثنا أبو عوانة].
هو: أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم بن مهاجر].
إبراهيم بن مهاجر صدوق لين الحفظ أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن صفية بنت شيبة].
صفية بنت شيبة لها رؤية، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
وقد مر ذكرها.(460/22)
شرح حديث (لما نزلت (يدنين عليهن من جلابيبهن) خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من الأكسية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبيد حدثنا ابن ثور عن معمر عن ابن خثيم عن صفية بنت شيبة عن أم سلمة رضي الله عنهما أنها قالت: [لما نزلت {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من الأكسية]].
أورد أبو داود حديث أم سلمة: [لما نزل قول الله عز وجل: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من الأكسية] يعني: من ناحية الخمر، والمقصود من ذلك أنهن بادرن إلى تغطية رءوسهن ووجوههن حتى صرن: [كأن على رءوسهن الغربان]، يعني: من حيث اللون، ولون الغربان أسود ولون الخمر التي كانت عليهن كذلك.
ولا يلزم أن يكون الحجاب أسود.(460/23)
تراجم رجال إسناد حديث (لما نزلت (يدنين عليهن من جلابيبهن) خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من الأكسية)
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد].
محمد بن عبيد يحتمل أن يكون ابن حساب، وأن يكون المحاربي، وكل منهما روى عنه أبو داود وروى عن ابن ثور؛ لأنهما في طبقة واحدة، وابن حساب ثقة والمحاربي صدوق، وكل منهما حجة ومعتد به.
[عن ابن ثور].
هو محمد بن ثور، ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن خثيم].
هو عبد الله بن عثمان بن خثيم، ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن صفية عن أم سلمة].
صفية مر ذكرها، وأم سلمة هي أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(460/24)
قوله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)(460/25)
شرح حديث (يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31].
حدثنا أحمد بن صالح ح وحدثنا سليمان بن داود المهري وابن السرح وأحمد بن سعيد الهمداني قالوا: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني قرة بن عبد الرحمن المعافري عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] شققن أكنَف -قال ابن صالح: أكثَف- مروطهن فاختمرن بها).
حدثنا ابن السرح قال: رأيت في كتاب خالي عن عقيل عن ابن شهاب بإسناده ومعناه].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب قول الله عز وجل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31]] وأورد حديث عائشة رضي الله عنها أنها أثنت على المهاجرات، وقالت: (يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما نزل قول الله عز وجل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] شققن أكنف أو أكثف)] يعني: بعض الرواة قال: أكنف، وبعضهم قال: أكثف.
ومعنى (أكنف) الأستر والأصفق.
و (الأكثف) من ناحية السماكة، مثل الأصفق.
[فاختمرن بها].
هو مثل الرواية السابقة التي جاءت عن عائشة التي فيها أنهن أخذن حجزهن، وهنا: [مرطهن] والمرط هي مثل الحجز التي تلف على الجسد من الأسفل، فمعناهما واحد، والألباني ضعف الأول وصحح هذا، والحقيقة أنه لا فرق بينهما، أعني: ما دام أن هذا صحيح فذاك يصح بسبب هذا؛ لأن المعنى واحد والمؤدى واحد ولا فرق بينهما، إلا أن ذاك فيه (حجوز) وهذا فيه: (مرطهن) وكل منهما صحيح.
وهناك أثنت على نساء الأنصار، وهنا أثنت على نساء المهاجرات الأول، وكل منهما محل الثناء، فيصحح هذا مع هذا، ولا يقال: إن ذاك يكون ضعيفاً غير ثابت؛ لأنه بمعنى هذا، ذاك فيه إبراهيم بن مهاجر الذي هو صدوق لين الحفظ؛ ولكن هذا الحديث يدل على ما دل عليه.(460/26)
تراجم رجال إسناد حديث (يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[ح.
وحدثنا سليمان بن داود المهري].
وهو مصري ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[وابن السرح].
هو أحمد بن عامر بن السرح ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[وأحمد بن سعيد الهمداني].
أحمد بن سعيد الهمداني وهو صدوق أخرج له أبو داود.
[قالوا: أخبرنا ابن وهب].
قالوا: (أخبرنا) والأول قال: (حدثنا).
وفي النسخة الأولى ليس هو بواضح، لعدم وجود لفظ (حدثنا) قبل التحويل للسند؛ لكن النسخة الثانية أوضح؛ لأنها فيها: (حدثنا) والتحويل من أجل الفرق بين (حدثنا) و (أخبرنا).
[قالوا: أخبرنا ابن وهب].
ابن وهب مر ذكره.
[عن قرة بن عبد الرحمن المعافري].
قرة بن عبد الرحمن المعافري صدوق له مناكير، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب.
ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة بن الزبير].
عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة قد مر ذكرها.
[حدثنا ابن السرح قال: رأيت في كتاب خالي عن عقيل عن ابن شهاب بإسناده ومعناه].
أورد طريقاً أخرى عن ابن السرح وأحال على الطريق السابقة.
وابن السرح مر ذكره، وخاله هو: عبد الرحمن بن عبد الحميد بن سالم وهو ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن عقيل].
هو عقيل بن خالد بن عقيل المصري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
وقد مر ذكره.(460/27)
الأسئلة(460/28)
حكم وضع المرأة عباءتها على كتفيها
السؤال
ما حكم وضع المرأة العباءة على الكتفين كثوب الرجل؟
الجواب
لا يجوز؛ لأن هذا تشبه بالرجال، ومن خصائص الرجال الآن لبس العباءة على الكتفين على ما تعارف عليه الناس.(460/29)
حكم كشف المرأة قدميها في الصلاة أو خارج بيتها
السؤال
هل يجوز للمرأة كشف قدميها، أم يجب عليها أن تغطي القدمين سواء في الصلاة أو في الشارع إذا خرجت؟
الجواب
عليها أن تغطيهما، وقد جاء الإرخاء في حديث: (يرخينه شبراً، فقالت إحداهن: إذاً تنكشف أقدامهن، فقال: يرخينه ذراعاً ولا يزدن عليه)، وذلك حين سئل عليه الصلاة والسلام عن ذيول النساء، وهو ما زاد من الثوب.(460/30)
حال النساء قبل نزول آية الحجاب
السؤال
هل يفهم من فعل الصحابيات من المبادرة إلى الخُمُر والاختمار بها أنهن لم يكن يختمرن ولا يغطين رءوسهن فيما سبق؟
الجواب
الذي يفهم أن الحجاب كان غير واجب، ثم أوجب فتغير الحال.(460/31)
ما يجوز للمرأة إبداؤه من زينتها(460/32)
شرح حديث (إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيما تبدي المرأة من زينتها.
حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي ومؤمل بن الفضل الحراني قالا: حدثنا الوليد عن سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد -قال يعقوب: ابن دريك - عن عائشة رضي الله عنها (أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب، رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا أسماء! إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يري منها إلا هذا وهذا.
وأشار إلى وجهه وكفيه) قال أبو داود: هذا مرسل، خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها].
أورد أبو داود باباً فيما تبدي المرأة من زينتها.
هذا الذي تبديه من زينتها هو ظاهر اللباس، الذي يبدو لكل أحد، وأما الوجه والكفان فإنما تبديهما لمن يجوز الإبداء له من المحارم غير الأجانب، وأما الذي يبدى للجميع ويظهر للجميع فهو اللباس الظاهر يعني: ما يظهر من لباسها، وأما وجهها والكفان فهذان لا يظهران إلا للمحارم.
فأورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر -وهي أختها الكبرى-دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها، وقال: إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يكن لها أن تبدي إلا هذا وهذا، وأشار إلى الوجه والكفين.
والحديث يدل على أن الوجه والكفين من الأمور التي تبدى وتكشف للرجال؛ ولكن الحديث غير صحيح لأن فيه انقطاعاً، وفيه أيضاً سعيد بن بشير ضعيف، وأيضاً فيه تدليس الوليد.
وأيضاً: في متنه نكارة، وهو كون أسماء تأتي بثياب رقاق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي كبيرة، فهذا شيء مستبعد، فلم تكن صغيرة مراهقة أو قريبة من المراهقة؛ لأن عمرها في أول الهجرة سبع وعشرون سنة، وقد قيل: إنها عمّرت مائة سنة، وتوفيت سنة ثلاث وسبعين من الهجرة أو أربع وسبعين، فإذا طرحنا ثلاثاً وسبعين أو أربعاً وسبعين بقيت سبع وعشرون عند الهجرة، وهي أم عبد الله بن الزبير التي ولدته في قباء أول ما وصلوا مهاجرين إلى المدينة، وكان هو أول مولود بعد الهجرة.
فمن المستبعد أن تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي بهذا السن في هذه الثياب الرقيقة المستنكرة التي أعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببها.
والحاصل أن الحديث فيه ضعف من جهة الإسناد، وفيه نكارة من جهة المعنى.
وعلى هذا فالزينة التي قال الله عز وجل: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] المقصود بها: ما هو ظاهر للجميع، وأما قوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] الآية، فالمقصود بذلك الوجه والكفان، وما يمكن أن يطلع عليه المحارم.(460/33)
تراجم رجال إسناد حديث (إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا)
قوله: [حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي].
يعقوب بن كعب الأنطاكي ثقة أخرج له أبو داود.
[ومؤمل بن الفضل الحراني].
مؤمل بن الفضل الحراني صدوق أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا الوليد].
هو الوليد بن مسلم الدمشقي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن بشير].
سعيد بن بشير ضعيف، أخرج له أصحاب السنن.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقد عنعن هنا، وهو مدلس.
[عن خالد -قال يعقوب: ابن دريك -].
يعقوب الأنطاكي الشيخ الأول قال: خالد بن دريك، وأما مؤمل بن الفضل فقال: خالد فقط ولم يزد عليها، فهنا أشار أبو داود إلى الفرق بين ما عبر به شيخاه.
وخالد بن دريك ثقة يرسل، أخرج له أصحاب السنن.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين مر ذكرها.
ثم قال أبو داود: [هذا مرسل؛ خالد بن دريك لم يدرك عائشة].
أي: فيه انقطاع، وذكر الإرسال على المعنى العام الذي هو الانقطاع، وليس هو الإرسال المشهور في اصطلاح المحدثين وهو الانقطاع من الأعلى بحيث يقول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، بل هذا انقطاع في أثناء الإسناد ويقال له: مرسل؛ لأن الراوي يضيف الحديث إلى من لم يدركه، فهذا يقال له مرسل بالمعنى العام.
فالحديث غير صحيح.
أما ما ورد عن بعض الصحابة والتابعين في تفسير قوله تعالى: ((إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا)) أنه الوجه والكفان كما جاء عن ابن عباس، فإنه قد جاء عنه تفسيرها باللباس الظاهر أيضاً، ولكن يمكن أنه جاء عنه أنه الوجه والكفان وجاء عنه أنه اللباس الظاهر.
أما هل يجوز للمرأة إظهار القدمين للمحارم؟ فنعم.
يجوز، لأنه يجوز إظهار الوجه والوجه أهم من القدمين، وإنما الذي يحرم هو إظهارهما لغير المحارم.(460/34)
العبد ينظر إلى شعر مولاته(460/35)
شرح حديث أن أم سلمة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجامة فأمر أبا طيبة أن يحجمها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في العبد ينظر إلى شعر مولاته.
حدثنا قتيبة بن سعيد وابن موهب قالا: حدثنا الليث عن أبي الزبير عن جابر (أن أم سلمة رضي الله عنهما استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجامة، فأمر أبا طيبة أن يحجمها.
قال: حسبت أنه قال: كان أخاها من الرضاعة أو غلاماً لم يحتلم)].
قوله: [العبد ينظر إلى شعر مولاته] أي: أن العبد هو من جملة المحارم الذين محرميتهم مؤقتة، بمعنى أنه ليس أجنبياً من المرأة، فله أن ينظر إليها، وبعد أن يعتق أو يباع تنتهي تلك العلاقة، وذلك الذي يكون بينهما كما يكون الحال بين الزوج وامرأته إذا طلقها، فإن العلاقة التي بينهما تنقطع وتكون من جملة الأجنبيات بالنسبة له، فيكون الأمر كذلك بالنسبة للعبيد في حال كون النساء تملكهم، فإنهم لهم أن يروا منهن ما يراه المحارم من نسائهم أو من أقاربهم، فإذا خرج من ملكها ببيع أو هبة أو عتق أو ما إلى ذلك فإنه يكون أجنبياً منها، وقد جاء في الحديث الذي سبق في باب الإرث أنه إذا كان العبد مكاتباً وصار عنده ما يوفي به ما بقي عليه فإنها تحتجب منه، أي: أن العلاقة التي كانت تسوِّغ له أن ينظر إليها انتهت بكونه نال الحرية بأدائه آخر قسط من نجوم الكتابة، فصار بذلك حراً فيكون أجنبياً منها.
فأورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه: (أن أم سلمة استأذنت الرسول صلى الله عليه وسلم في الحجامة، فأمر أبا طيبة أن يحجمها.
وقال: حسبته قال: كان أخاها من الرضاعة، أو غلاماً لم يحتلم) ويكون حكمه حكم الذي لم يحتلم فلا تحتجب عنه النساء، والذي جاء في القرآن استئذان الذين ملكت الأيمان، وكذلك الذين لم يبلغوا الحلم، وذلك في الأوقات الثلاثة التي يكون فيها نزع الثياب أو الحالة التي تختلف عن الحالات التي تكون عليها النساء في غيرها، وهي قبل صلاة الفجر، وحين وضع الثياب من الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء الذي وقت للنوم، فقالوا: إنه يحتمل أن يكون هذا وهذا.
والمصنف هنا بوب بالنظر إلى الشعر؛ لأن الحجامة لعلها في الرأس، والذي سيحجم إنما ينظر إلى مكان الحجامة.
قال: (حسبته قال: كان أخاها من الرضاع، أو غلاماً لم يحتلم) فيكون العبد مقيساً عليه؛ لكن جاءت أحاديث أخرى، وجاء القرآن يدل على استثناء ملك اليمين، كما في هذه الآية التي في سورة النور: ((وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ)) إلى أن قال: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور:31]، وكذلك في سورة الأحزاب: ((لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ)) إلى أن قال: {وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [الأحزاب:55].(460/36)
تراجم رجال إسناد حديث (أن أم سلمة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجامة فأمر أبا طيبة أن يحجمها)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وابن موهب].
ابن موهب هو يزيد بن خالد بن موهب وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الليث].
الليث بن سعد المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(460/37)
شرح حديث (إنه ليس عليكِ بأس إنما هو أبوك وغلامك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عيسى حدثنا أبو جميع سالم بن دينار عن ثابت عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة رضي الله عنها بعبد كان قد وهبه لها.
قال: وعلى فاطمة رضي الله عنها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: إنه ليس عليك بأس؛ إنما هو أبوك وغلامك)].
أورد أبو داود حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء لـ فاطمة بعبد، وكان عليها ثوب لا يكفي لجميع بدنها، إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، أي: إن رفعته إلى رأسها بدت القدمان، وإن أنزلته إلى القدمين لتغطيهما بدا الرأس.
فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ما عندها من الحياء في ذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك) وهذا محل الشاهد، وهو قوله: (وغلامك) يعني: أن الغلام له أن ينظر إلى ما يراه منها محارمها.(460/38)
تراجم رجال إسناد حديث (إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
محمد بن عيسى الطباع ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا أبو جميع سالم بن دينار].
أبو جميع سالم بن دينار مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا إسناد رباعي، وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(460/39)
الأسئلة(460/40)
حكم سفر المرأة مع عبدها
السؤال
هل للمرأة السفر مع عبدها؟
الجواب
هذا هو الذي يظهر؛ ما دام أنه له أن يخلو بها وله أن ينظر إلى زينتها التي يراها المحارم، وفيه خلاف من ناحية السفر؛ لكن الذي يظهر أن له ذلك.(460/41)
حكم نظر الطبيب إلى المرأة بقدر الاحتياج
السؤال
ألا يقال: إن أبا طيبة كالطبيب يجوز له أن يرى للحاجة؟
الجواب
يمكن أن يقال هذا؛ لكن المصنف أورده للاستدلال على كون العبد يرى شعر سيدته.
وإن كان أبو طيبة ليس عبداً لـ أم سلمة، لكن هو قياس، وأبو داود أورد الباب على أنه من ناحية القياس، وليس المقصود أن ذلك هو سبب جواز نظره إليها، والطبيب عند الحاجة يمكن أن يعالجها وينظر إلى ما لابد من النظر إليه؛ لكن إذا لم يكن طبيبة تقوم بذلك، والمرأة يرى منها ما يحتاج إليه للضرورة؛ ولكن الآن القضية هي قضية التبويب، وهي كون العبد يرى، والحديث ليس فيه ذكر العبد، وإنما فيه ذكر الصغير الذي لم يحتلم، وقد جاء قرنه مع ملك اليمين في الاستئذان في سورة الأحزاب: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58] فيصير مقيساً عليه.
أما على الاحتمال الثاني أنه أخوها من الرضاعة فليس هناك إشكال.
أما الخدم في هذا الزمن فلا يأخذون حكم العبد والأمة أبداً، لأنهم أجراء أجانب وليسوا ملك يمين.(460/42)
قوله تعالى: (غير أولي الإربة)(460/43)
شرح حديث (كان يدخل على أزواج النبي رجل مخنث)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قوله: {غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ} [النور:31]].
حدثنا محمد بن عبيد حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن الزهري وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة فقال: إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا! لا يدخلن عليكن هذا.
فحجبوه)].
أورد أبو داود باباً في قوله تعالى: {غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ} [النور:31].
وغير أولي الأربة هو من ليس له رغبة في النساء ولا يشتهي النساء، فهذا الاحتجاب عنه ليس بلازم، ويمكن أن يرى ما يرى غيره؛ لأنه مثل النساء، لا فرق بينه وبينهن، وإذا تبين أو ظُنَّ أنه ليس من أولي الإربة بأن ظهر منه شيء يدل على أنه تصنع مشابهة النساء من حيث التكسر والتثني ورقة الكلام وما إلى ذلك وليس عن طريق الخلقة، وإنما ذلك على سبيل الاحتيال والوصول إلى أن يرى النساء، وأن يكون معهن، فمثل هذا يبتعد عنه ويعاقب على ما حصل منه من كونه يظهر بمظهر غير أولي الإربة.
وأورد أبو داود حديث عائشة أنها قالت: (كان يدخل على أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم مخنث) أي: رجل يشبه المرأة في حركاته وكلامه وهيئته وأنه ليس ممن له حاجة بالنساء، أي: ليس لديه شهوة الجماع والرغبة في النساء، فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، وأنه يمكن أن ينظر إلى ما يراه المحارم.
(فدخل النبي وهو عند بعض نسائه ينعت امرأة) أي: يصفها بأوصاف دقيقة تدل على معرفة وخبرة بالنساء وميل إليهن.
(فقال: إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان) والمراد بذلك العكن التي في بطنها فلأنها سمينة إذا نُظِرَ إليها من الأمام تُرى أربع عكن، وإذا نظر إليها من الوراء صارت ثمانياً؛ لأن كل واحدة لها طرفان، فتكون من الأمام أربعاً ومن الخلف ثمانياً، وهذا وصف دقيق لا يعرفه إلا صاحب خبرة.
فأمر صلى الله عليه وسلم بإخراجه والاحتجاب منه، وأن يكون حكمه حكم الأجانب الذين يحتجب منهم، ولا يعتبر من غير أولي الإربة الذين يمكن أن يروا من النساء ما يراه منهن المحارم، ولذا قال: (ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا! لا يدخلن عليكن هذا.
فحجبوه).(460/44)
تراجم رجال إسناد حديث (كان يدخل على أزواج النبي رجل مخنث)
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن الزهري وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة].
هشام بن عروة، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، والباقون مر ذكرهم.(460/45)
شرح حديث (كان يدخل على أزواج النبي مخنث) من طريق أخرى وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن داود بن سفيان حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة بمعناه].
قوله: [حدثنا محمد بن داود بن سفيان].
مقبول أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة].
مر ذكرهم.(460/46)
شرح حديث (كان يدخل على أزواج النبي مخنث) من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها بهذا الحديث، زاد: (وأخرجه فكان بالبيداء يدخل كل جمعة يستطعم)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه زيادة أنه أخرجه إلى البيداء.
يعني: عقوبة له على كونه كان يدخل بين النساء موهماً بأنه من غير أولي الإربة مع أنه في الحقيقة من أولي الإربة.
(فكان بالبيداء) يعني: في مكان خالٍ.
(يدخل كل جمعة يستطعم) يعني: يأخذ قوته وطعامه الذي يحتاج إليه.(460/47)
تراجم رجال إسناد حديث (كان يدخل على أزواج النبي مخنث) من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب].
يونس بن يزيد الأيلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، والباقون مر ذكرهم.(460/48)
شرح حديث (كان يدخل على أزواج النبي مخنث) من طريق رابعة وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمود بن خالد حدثنا عمر عن الأوزاعي في هذه القصة (فقيل: يا رسول الله! إنه إذاً يموت من الجوع، فأذن له أن يدخل في كل جمعة مرتين فيسأل ثم يرجع)].
قوله: [حدثنا محمود بن خالد].
هو محمود بن خالد الدمشقي، ثقة أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عمر].
هو عمر بن عبد الواحد، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن الأوزاعي].
هو: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[في هذه القصة].
يعني: في هذه القصة التي تقدمت والزيادة التي ذكرت.(460/49)
الأسئلة(460/50)
حال حديث (إنما هو أبوك وغلامك)
السؤال
حديث أنس الذي فيه أبو جميع سالم بن دينار في قصة فاطمة (إنما هو أبوك وغلامك) هل يصح إسناده؟
الجواب
الألباني صححه؛ لكن ما أدري هل له شواهد، لكن معناه جاء في القرآن، أما هذه الحادثة بعينها فلا أعرف حكمها، أما حكم إبداء الزينة لملك اليمين كما تبدى للمحارم فقد جاء في القرآن في موضعين، موضع في سورة الأحزاب وموضع في سورة النور.(460/51)
حكم اعتبار العجوز من غير أولي الإربة
السؤال
هل الرجل العجوز الشائب يعتبر من غير أولي الإربة؟
الجواب
إذا بلغ الرجل سن التخريف فنعم، وأما إذا كان بكامل وعيه وعقله فليس من أولي الإربة، فقد يكون الرجل كبيراً جداً ومع ذلك يشتهي النساء، أو أنه يكون عنده خبرة بالنساء فيصفهن، ولو كان عنده العجز الفعلي؛ لكن عنده الخبرة والمعرفة، فيصف لغيره ما يراه.(460/52)
حكم إلباس البنات الصغار البنطال
السؤال
ما حكم لبس البنات الصغار للبنطال؟
الجواب
لا يصلح؛ لأن الصغار ينشأن على ما يكون عليه الكبار، وقد يعتدنه إذا كبرن.(460/53)
حكم العباءة للمرأة إذا كانت مفتوحة من الأمام
السؤال
العلماء هنا في هذه البلاد عند ذكر عباءة المرأة يقولون: يجب أن تكون مفتوحة من الأمام، ما هي العلة في ذلك، مع العلم أن فتح العباءة من الأمام يسبب أشياء مخالفة للتستر؟
الجواب
لا نعلم أحداً يقول بوجوب أن تكون مفتوحة من الأمام، لكن هذه طبيعة العباءة الموجودة التي تعارف عليها الناس، وأما القول بالوجوب فلا نعلم أحداً يقول إنه يجب أن تكون مكشوفة من الأمام، وكونها مكشوفة من الأمام يكون أسهل لخلعها ونزعها، بخلاف ما لو كانت غير مفتوحة فإنه يكون خلعها ونزعها بمشقة.(460/54)
حكم وضع المرأة العباءة على الكتف
السؤال
قلتم في وضع العباءة على الكتف إنه تشبه بالرجال، لكن هذه الصفة منتشرة في كثير من بلدان العالم، أما وضع العباءة على الرأس فلا يوجد إلا في بعض دول الخليج، وإذا سلمنا بذلك فإن ما تلبسه النساء من قمصان تحتها تكون على الكتف؟!
الجواب
ثياب النساء التي تلبسها تجعلها على الكتف، وإنما الكلام عن وضع العباءة الذي صار زياً للرجال يضعونها على أكتافهم، والنساء تضعها على رءوسها، فإذا فعلت الشيء الذي للرجال فمعناه أنها خالفت.(460/55)
شرح سنن أبي داود [461]
كما أن الله جعل اللباس ستراً للعورات وغيرها من الحكم الربانية العظيمة، فإن هذا لا يكون كافياً حتى يصحبه عفة وحياء، وبما أن الحجاب جعل لرد البصر وكذا الاستئذان شرع لأجل النظر، ناسب هذا أن يذكر في كتاب اللباس ما يحث على غض البصر استكمالاً للستر وإتماماً لمقاصد الشرع الحنيف، وجعل هذا الباب ضمن باقة من الأبواب والأحاديث في ستر المرأة ووصف ثيابها وما ينبغي أن يكون عليه حالها إذا خرجت من بيتها وفي مجتمعها؛ فكانت باقة رائعة تفوح بالطهر وتعبق بالفضيلة.(461/1)
قول الله عز وجل: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)(461/2)
شرح حديث استثناء القواعد من آية (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قوله عز وجل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31].
حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ)) الآية فنسخ واستثنى من ذلك: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحَاً} [النور:60] الآية].
أورد أبو داود رحمه الله تعالى: [باب قول الله عز وجل: ((وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ))] وأورد تحت ذلك حديث ابن عباس في قول الله عز وجل: ((وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ)) قال: (فنسخ واستثنى من ذلك قوله: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحَاً} [النور:60] الآية).
والمقصود من هذا أن العموم في قوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} قد استثني منه القواعد من النساء، وهن الكبيرات المتقدمات في السن اللائي لا يشتهين ولا يشتهين؛ أنه ليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن أي: الثياب التي تستر الوجه يعني: أن لهن أن يبدين وجوههن، وإن استعففن واختمرن وأبقين الغطاء على الوجه فهو خير وهو أولى؛ ولكن ذلك مباح في حقهن كما تدل عليه الآية الأخيرة.
وكلا الآيتين في سورة النور إلا أنه استثني من الآية الأولى القواعد، والقواعد هن الكبيرات في السن اللاتي لا يرجون نكاحاً، يعني: لا يوجد لديهن رغبة في النكاح أو التفكير في النكاح؛ لأنهن تجاوزن السن التي تكون فيها الرغبة منهن والرغبة فيهن.(461/3)
تراجم رجال إسناد حديث استثناء القواعد من آية (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد المروزي].
أحمد بن محمد المروزي هو ابن ثابت بن شبويه وهو ثقة أخرج له أبو داود.
[حدثنا علي بن الحسين بن واقد].
علي بن الحسين بن واقد وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو ثقة له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد النحوي].
وهو يزيد بن أبي سعيد ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(461/4)
شرح حديث (أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء حدثنا ابن المبارك عن يونس عن الزهري حدثني نبهان مولى أم سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: (كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة رضي الله عنها، فأقبل ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احتجبا منه, فقلنا: يا رسول الله! أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه؟!).
قال أبو داود: هذا لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، ألا ترى إلى اعتداد فاطمة بنت قيس عند ابن أم مكتوم قد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: (اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده)؟!].
أورد أبو داود حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: (كانت عند ميمونة وعندهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل ابن أم مكتوم).
وهو عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه.
قولها: (وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب) أي: بعد أن نزلت آية الحجاب، وأمرنا بالاحتجاب عن الرجال.
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احتجبا منه، فقلنا: أليس أعمى لا يبصرنا؟! قال: أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه؟).
هذا الحديث فيه الدلالة على أن النساء تحتجب عن الرجال، وحتى عمن كان أعمى، ولكن الحديث ليس بصحيح، لأن فيه رجلاً لا يحتج بحديثه.
ولكن النساء لا تمتع بالنظر إلى الرجال سواء كانوا مبصرين أو غير مبصرين، وأما بالنسبة للرجل الأعمى فكونها تحتجب منه أو تستعمل الحجاب وتغطي وجهها غير متعين إذا تحققت أنه لا يبصر؛ لأنه ليس هناك شيء يدل عليه، وقد جاء ما يدل على خلاف هذا الحديث، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر) يدل على أن الاحتجاب إنما هو من أجل الرؤية، أي: رؤية الرجل يرى المرأة، أما إذا كان لا يراها فلا بخلاف من يكون عنده شيء من البصر أو شيء من إمكان الرؤية فهذا يحتجب منه، ولا يجوز للمرأة كشف الوجه عنده.
فالكلام فيمن يكون أعمى لا يرى أبداً، فهذا لا يلزم الاحتجاب منه، ولكن ليس للمرأة أن تحد النظر إليه، ولا فرق في ذلك بين المبصر وغير المبصر من حيث نظر النساء.
والحديث الذي أشرت إليه، وهو حديث صحيح: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر) يدلنا على أن الأعمى لا يلزم الاحتجاب منه، وإن احتجبت المرأة وتعودت على أنها تحتجب عن الرجال فإن ذلك لا بأس به، وأما من حيث اللزوم فليس بلازم.
[قال أبو داود: هذا لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، ألا ترى إلى اعتداد فاطمة بنت قيس عند ابن أم مكتوم، قد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: (اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده)].
هذا مبني على اعتبار صحة الحديث الأول، ولكن الحديث غير صحيح، وحديث اعتداد فاطمة بنت قيس عند ابن أم مكتوم صحيح، يعني: ليس هناك الاحتجاب أو لا يلزم احتجاب عن الرجل الأعمى الذي لا يبصر تماماً ولا يرى شيئاً أبداً؛ لأن المحظور غير موجود وهو كونه يرى؛ لأن المرأة تحتجب عن الرجال لئلا يروها، والرجل الأعمى ليس عنده ما تحصل به الرؤية، فإذاً المحظور قد زال؛ لكن إذا عودت المرأة نفسها الاحتجاب دائماً وأبداً حتى مع من يكون أعمى فقد احتاطت وابتعدت من أن تتعرض لأن يراها من يظن أنه فاقد البصر تماماً وليس هو كذلك، بل عنده شيء من البصر.
وهذا الأمر قال أبو داود: إنه مختص بزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا -كما هو معلوم- على اعتبار أن الحديث المذكور صحيح؛ ولكن الحديث غير ثابت فليس حكمه ثابتاً وليس ذلك خاصاً بزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بغيرهن، وإنما الحكم عام في المسألة، وهو أ، المرأة لا يلزمها الاحتجاب عن الرجل الأعمى، وإن احتجبت لتلتزم العادة في الاحتجاب عن الرجال، وحتى لا يكون هناك من يظن أنه أعمى وعنده شيء من الرؤية فلا بأس بذلك.(461/5)
تراجم رجال إسناد حديث (أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك المروزي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني نبهان مولى أم سلمة].
نبهان مولى أم سلمة مقبول، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أم سلمة].
أم سلمة رضي الله عنها أم المؤمنين هند بنت أبي أمية، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(461/6)
حكم نظر المرأة إلى الرجل لحاجة أو في التلفاز نظراً ليس فيه ريبة
بالنسبة لنظر المرأة إلى الرجل الأجنبي بغير شهوة لأجل التعامل، كأن تريد أن تشتري فتنظر؛ لا يصلح، لأنه يمكن التعامل معه بدون أن تحدد النظر إليه، فليس بلازم أن تنظر إليه.
أما كيف نجمع بين هذا وبين أن عائشة رضي الله عنها كانت تنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد؟ فذاك كما هو معلوم نظر من بعد، وأيضاً كان في حال صغرها.
والنظر عن بعد يختلف عن النظر عن قرب، فالنظر من قرب يكون فيه تحديد، بخلاف ما إذا رأت ناساً يقفزون ويقومون ويقعدون من بعيد فإنه يختلف الحكم وتختلف الرؤية.
أما مشاهدة البرامج الدينية التي تعرض في التلفاز؛ فلا تنظر فيها المرأة إلى الرجال، ولو كان بالتلفاز، ولكن تسمع بدون أن ترى.(461/7)
شرح حديث (إذا زوج أحدكم أمته فلا ينظر إلى عورتها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبد الله بن الميمون حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا زوج أحدكم عبده أمته فلا ينظر إلى عورتها)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا زوج أحدكم أمته فلا ينظر إلى عورتها) لأن الرجل عندما يملك الأمة فهي حلال له: خدمتها والاستمتاع بها، يملك بضعها ويملك شخصها وعينها والانتفاع بها من ناحية الخدمة ومن ناحية الاستمتاع؛ لكنه إذا زوجها بقيت له منفعة الخدمة والملك، أي: أنه يملكها، ولكن تخرج منه منفعة البضع وتصير للزوج خاصة.
وقبل ذلك كان بإمكانه أن يستمتع بها، وأن ينظر إلى عورتها، ولكن بعدما تتزوج لا يجوز له ذلك؛ لأن هذا صار من خصائص الزوج بعد أن كان من خصائص السيد المالك.(461/8)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا زوج أحدكم أمته فلا ينظر إلى عورتها)
قوله: [حدثنا محمد بن عبد الله بن الميمون].
محمد بن عبد الله بن الميمون صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا الوليد].
الوليد بن مسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب].
هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، صدوق أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو شعيب بن محمد، صدوق أخرج له البخاري في الأدب المفرد وجزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن جده].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي جليل، وأبوه صحابي، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وهم: عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث صحيح.(461/9)
شرح حديث (إذا زوج أحدكم خادمه عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زهير بن حرب حدثنا وكيع حدثنا داود بن سوار المزني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا زوج أحدكم خادمه عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو مثل الذي قبله (إذا زوج أحدكم خادمه) والمقصود به هنا المرأة الأمة، فإذا زوجها (عبده أو أجيره) أي: زوجها عبداً يملكه أو أجيراً يعمل عنده، (فلا ينظر إلى ما بين السرة والركبة) التي هي العورة؛ لأن وقال في الحديث الذي قبله: (فلا ينظر إلى عورتها).(461/10)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا زوج أحدكم خادمه عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة)
قوله: [حدثنا زهير بن حرب].
زهير بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا وكيع].
وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا داود بن سوار المزني].
داود بن سوار المزني وقيل: الصحيح أنه سوار بن داود وهو صدوق له أوهام، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده].
قد مر ذكرهم.
[قال أبو داود: وصوابه سوار بن داود المزني الصيرفي وهم فيه وكيع].
انقلب عليه فقدم (داود) على (سوار) فهذا وهم من وكيع الذي هو أحد رجال الإسناد، وإلا فالصحيح أنه سوار بن داود عكس ما هو موجود في رواية وكيع.(461/11)
الأسئلة(461/12)
حكم استبراء الأمة الموطوءة قبل تزويجها
السؤال
هل يجوز للسيد أن يزوج أمته بعد أن جامعها؟
الجواب
نعم.
لكن لابد من استبرائها بحيضة.(461/13)
هل السرة والركبة من العورة أم لا
السؤال
نقل في عون المعبود عن صاحب المرقاة الاتفاق على أن السرة ليست عورة، فهل يصح هذا النقل؟
الجواب
المقصود أن الغاية لم تدخل في المغيا، يعني: السرة هل هي داخلة أو غير داخلة؟ فكأن المقصود أنها خارجة عن المغيا، أما الركبة ففيها خلاف.
ومعروف أن الغاية تدخل في المغيا مثل المرفقين داخلة في الغسل في قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] ولكنه إذا جاء شيء يدل على عدم دخولها فالمعول على الشيء الذي يدل على ذلك إن كان هذا الإجماع صحيحاً.
والإجماع فيه قولان للعلماء، هل يكون مبنياً على دليل أو يكون مستقلاً دون أن يُبنى على دليل، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الإجماع إنما يكون مستنداً إلى دليل، وذكر هذا في كتابه: معارج الوصول إلى معرفة أن أصول الدين وفروعه قد بينها الرسول صلى الله عليه وسلم" وقال: إن ابن حزم قال في كتابه مراتب الإجماع: ما من مسألة أجمع عليها إلا وفيها نص، ثم قال: حاشا القراض، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذه المعاملة -وهي القراض- التي أشار إليها ابن حزم دل عليها الدليل وهو من المعاملات التي كانت في الجاهلية، وقد أقرها الإسلام، ومعلوم أن الإقرار طريق من طرق إثبات الأدلة، والسنة تتكون من قول وفعل وتقرير، ولهذا يعرفون الحديث فيقولون: هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، أو وصف خلقي أو خلقي، كل هذا يقال له: حديث، فالمضاربة أو القراض من المعاملات التي كانت في الجاهلية وجاء الإسلام بإقرارها.
نرجع إلى مسألة السرة فنقول: لا ندري هل هذا النقل للإجماع صحيح؛ لأنه أحياناً يُنقل الإجماع ثم لا يكون صحيحاً نقله.
يقول في العون: (فلا ينظر إلى ما دون السرة والركبة) هذا تفسير العورة، وظاهر الحديث أن السرة والركبة كلتيهما ليستا بعورة، وكذا ما وقع في بعض الأحاديث: (ما بين السرة والركبة).
قال في المرقاة: ذكر في كتاب الرحمة في اختلاف الأمة: اتفقوا على أن السرة من الرجل ليست بعورة، وأما الركبة فقال مالك والشافعي وأحمد: ليست من العورة، وقال أبو حنيفة رحمه الله وبعض أصحاب الشافعي: إنها منها.
وعلى هذا فالركبة فيها خلاف، والسرة ليس فيها خلاف؛ لكن الشأن في صحة حكاية الإجماع.
وهنا تساؤل: المعلوم أن المرأة كلها عورة، فكيف يجوز له أن ينظر ما فوق السرة ودون الركبة في هذه الحالة؟ فجواب ذلك: أنه مالكها، وله أن ينظر إليها، ولكن ذكر أن هذه العورة، فلا ينظر إلى العورة، وقد مر في الحديث أنه لا ينظر إلى عورتها، فإذاً: هذه العورة التي لا يجوز النظر إليها، وأما ما سواها فله أن ينظر؛ لكن كما هو معلوم أن الاحتشام أمر مطلوب في جميع الأحوال.(461/14)
الاختمار(461/15)
شرح حديث أم سلمة في الخمار (لية لا ليتين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الاختمار.
حدثنا زهير بن حرب حدثنا عبد الرحمن ح وحدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن وهب مولى أبي أحمد عن أم سلمة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي تختمر فقال: لية لا ليتين) قال أبو داود: معنى قوله: (لية لا ليتين) يقول: لا تعتم مثل الرجل، لا تكرره طاقاً أو طاقين].
أورد أبو داود باب: الاختمار، والاختمار: هو استعمال الخمار، والخمار: هو الذي يغطى به الرأس والوجه، وقد قيل للخَمْر خمراً لأنها تغطي العقل، وكذلك الأحاديث التي وردت في تخمير الإناء، أي: تغطيته، وأنه لو لم يجد إلا عوداً يعرضه عليه.
فالتخمير هو التغطية، والخمار هو الغطاء الذي يغطى به الوجه والرأس.
وقد أورد أبو داود في هذه الترجمة حديث أم سلمة رضي الله عنها أن الرسول جاءها وهي تختمر، يعني: تضع الخمار على رأسها، فقال: (لية لا ليتين)؟ يعني: أنها لا تكرر وضعه على الرأس بعدة ليات، وإنما بلية واحدة، لأنه لو حصل ليه عدة مرات لصار شبيهاً بالعمامة التي يتخذها الرجل، والتي تكون عدة ليات على رأسه.
والحديث ضعيف فيه رجل لا يحتج به، فهو غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(461/16)
تراجم رجال إسناد حديث أم سلمة في الخمار (لية لا ليتين)
قوله: [حدثنا زهير بن حرب حدثنا عبد الرحمن].
زهير بن حرب مر ذكره.
وعبد الرحمن بن مهدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حبيب بن أبي ثابت].
حبيب بن أبي ثابت ثقة كثير التدليس والإرسال، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن وهب مولى أبي أحمد].
وهب مولى أبي أحمد مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن أم سلمة].
أم سلمة قد مر ذكرها.
في الحديث حبيب بن أبي ثابت وهو كثير التدليس والإرسال، وأيضاً فيه وهب مولى أبي أحمد، قال المنذري: [وهب هذا يشبه المجهول] انتهى.
وعلى كل هذا مدلس ويرسل، وذاك مجهول.(461/17)
لبس القباطي للنساء(461/18)
شرح حديث (وأمر أمرأتك أن تجعل تحته ثوباً لا يصفها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في لبس القباطي للنساء.
حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح وأحمد بن سعيد الهمداني قالا: أخبرنا ابن وهب أخبرنا ابن لهيعة عن موسى بن جبير أن عبيد الله بن عباس حدثه عن خالد بن يزيد بن معاوية عن دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه أنه قال: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباطي فأعطاني منها قبطية، فقال: اصدعها صدعين فاقطع أحدهما قميصاً وأعط الآخر امرأتك تختمر به، فلما أدبر قال: وأمر امرأتك أن تجعل تحته ثوباً لا يصفها).
قال أبو داود: رواه يحيى بن أيوب فقال: عباس بن عبيد الله بن عباس].
أورد أبو داود [باب القباطي للنساء] والقباطي هي أكسية بيض رقيقة تأتي من مصر، ولهذا جاء في الحديث أنه قال: (وأعط الآخر امرأتك تختمر به) ثم قال: (وأمر امرأتك أن تجعل تحته ثوباً لا يصفها) يعني: أن هذا رقيق يصف فتحتاج إلى أن تضع معه شيئاً حتى لا ينكشف جسدها من وراء ذلك الرقيق.
وقد أورد أبو داود حديث دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه (أن الرسول صلى الله عليه وسلم أتى بقباطي فأعطاه قبطية، وقال له: اصدعها) صدعين، أي: شقها قطعتين، (فاقطع أحدهما قميصاً وأعط الآخر امرأتك تختمر به، فلما أدبر قال: وأمر امرأتك أن تجعل تحته ثوباً لا يصفها) يعني: حتى لا يصفها؛ لأن هذه القباطي رقيقة تصف البشرة ويظهر ما تحتها وما يكون وراءها؛ ولكن الحديث ضعيف غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن الستر لابد منه وأنه لابد من وجود ما يستر، وأن الشيء الذي يصف البشرة لا يجوز للمرأة أن تستعمله، وإنما تستعمل شيئاً ساتراً لا يرى ما وراءه.
فإذا كان الثوب رقيقاً فتجعل تحته شيئاً لا يصف البشرة، وإن كان كثيفاً فلا حاجة إلى ثوب تحته، مثلما جاء عن عائشة: (كنا مسافرين، وإذا حاذانا الركبان سدلت إحدانا خمارها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه).(461/19)
تراجم رجال إسناد حديث (وأمر امرأتك أن تجعل تحته ثوباً لا يصفها)
قوله: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح].
أحمد بن عمرو بن السرح المصري ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وأحمد بن سعيد الهمداني].
أحمد بن سعيد الهمداني صدوق أخرج له أبو داود.
[أخبرنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن لهيعة].
هو عبد الله بن لهيعة المصري، صدوق اختلط بعدما احترقت كتبه، ورواية العبادلة الأربعة عنه معتبرة؛ لأنهم سمعوا منه قبل الاختلاط، وهم عبد الله بن وهب الذي جاء في الإسناد، وعبد الله بن يزيد المقري وعبد الله بن المبارك وعبد الله بن مسلمة القعنبي، وهذا منها؛ ولكن الإشكال في أن في الإسناد من هو متكلم فيه، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن موسى بن جبير].
موسى بن جبير مستور أخرج له أبو داود وابن ماجة.
ومستور أي: مجهول الحال.
[عن عبيد الله بن عباس].
عبيد الله بن عباس وقال في الآخر: الصحيح أنه عباس بن عبيد الله بن عباس.
أنه عباس بن عبيد الله بن عباس وهو مقبول أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن خالد بن يزيد بن معاوية].
خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان وهو صدوق أخرج له أبو داود.
[عن دحية بن خليفة الكلبي].
دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أجمل الصحابة، وكان جبريل يأتي بصورته في بعض الأحيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أبو داود.
وعلى هذا ففيه مجهول الحال، وفيه مقبول.
[قال أبو داود: رواه يحيى بن أيوب فقال: عباس بن عبيد الله بن عباس].
يعني: بدل عبيد الله بن عباس.
[يحيى بن أيوب].
صدوق ربما أخطأ أخرج له، أصحاب الكتب الستة.(461/20)
الأسئلة(461/21)
معنى الخمار والفرق بينه وبين القميص
السؤال
ذكر في حديث دحية الاختمار، ثم أمره بأن تجعل المرأة تحته ثوباً لا يصفها، فهل معنى هذا أن الاختمار يكون للبدن وللرأس؟
الجواب
الاختمار هو للرأس وللوجه، وأما البدن فلا يقال لما يستر به خمار، بل يقال له ثوب، أو يقال له قميص، أو يقال له درع.(461/22)
قدر الذيل لثوب المرأة(461/23)
شرح حديث أم سلمة في الذيل (فذراعاً ولا تزيد عليه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قدر الذيل.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي بكر بن نافع عن أبيه عن صفية بنت أبي عبيد أنها أخبرته (أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر الإزار: فالمرأة يا رسول الله؟ قال: ترخي شبراً.
قالت أم سلمة: إذاً: ينكشف عنها! قال: فذراعاً لا تزيد عليه)].
قوله: [في قدر الذيل] أي: في بيان مقدار الذيل الذي ترخيه المرأة من ثوبها.
أورد أبو داود حديث أم سلمة رضي الله عنها (لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الإزار) يعني: في حق الرجال، قال: (ومن جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه) قيل: إن هذا من نصف الساق، قالت: إذا ينكشف عنها! قال: ترخي ذراعاً، يعني: شبرين، فتكون بذلك قد غطت قدمها ومعنى ذلك أنها تجر هذا الشيء الذي رخص لها فيه مما يستر قدمها ويزيد على ذلك، فإنها تجر ذلك الذيل الزائد على ستر قدميها، لأنها قالت: (إذاً: تنكشف رجلها) ومعنى هذا أن المرأة لا يجوز لها كشف رجليها.
وهذا الحديث من الأدلة الواضحة الجلية على وجوب ستر الوجه، لأنه إذا كانت الشريعة جاءت بتغطية الرجل فالوجه أولى منها بالتغطية؛ لأن الفتنة في الوجه أكثر منها في الرجل، بل لا نسبة بين الفتنة بالوجه والفتنة بالرجل، والناظر إلى المحاسن أول ما ينظر إلى الوجه، لا إلى الرجل.
فهذا من أوضح الأدلة الدالة على أن الحجاب واجب وأنه متعين، لأن النساء إذا كن قد أمرن بأن يغطين أرجلهن وألا يكشفن أرجلهن للرجال الأجانب فمن باب أولى أن يغطين وجوههن، وهذا من جملة الأدلة العديدة الدالة على وجوب ستر الوجه وعدم كشفه للرجال الأجانب.
قوله: [(فذراعاً لا تزيد عليه)].
لأنه إذا حصلت زيادة فمعناه أن فيه إضاعة للمال؛ لأنها ستسحب في الأرض شيئاً كثيراً فيكون في ذلك إتلاف للمال، وإتلاف لذلك الثوب الذي يستعمل.
وهذا المقدار إنما هو لطرف الثوب من المؤخر فقط، وكما هو معلوم أن السحب سيكون من الوراء؛ لأنه لو كان من قدام لتعثرت به، ولكنه من الأمام يكون بحيث يغطي قدميها فلا ترى؛ لكن لا يطول أكثر بحيث تتعثر به، أما من الخلف فنعم.(461/24)
تراجم رجال إسناد حديث أم سلمة في الذيل (فذراعاً ولا تزيد عليه) في ذيول النساء
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بكر بن نافع].
أبو بكر بن نافع صدوق أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي في مسند مالك.
[عن أبيه].
هو نافع مولى ابن عمر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن صفية بنت أبي عبيد].
صفية بنت أبي عبيد الثقفية وهي زوجة عبد الله بن عمر، وهي أخت المختار بن أبي عبيد الثقفي الذي جاء في ذمه حديث: (يخرج من ثقيف كذاب ومبير) فهو الكذاب الذي خرج من ثقيف، وأخته صفية هذه زوجة عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما.
قيل: لها إدراك، يعني: أدركت النبي صلى الله عليه وسلم، وقال العجلي: ثقة، أخرج حديثها البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أن أم سلمة].
عن أم سلمة رضي الله عنها مر ذكرها.(461/25)
تراجم رجال إسناد طريق أخرى لحديث أم سلمة (فذراعاً ولا تزيد عليه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا عيسى عن عبيد الله عن نافع عن سليمان بن يسار عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث].
أورد الحديث من طريق أخرى وأحال على الطريق السابقة.
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى].
إبراهيم بن موسى الرازي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عيسى].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
عبيد الله بن عمر العمرى المصغر، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
نافع مر ذكره.
[عن سليمان بن يسار].
سليمان بن يسار ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين.
[عن أم سلمة].
أم سلمة مر ذكرها.
[قال أبو داود: رواه ابن إسحاق وأيوب بن موسى عن نافع عن صفية].
ابن إسحاق هو محمد بن إسحاق المدني، صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
وأيوب بن موسى ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن صفية] نافع هو مولى ابن عمر، وصفية يعني: بنت أبي عبيد.(461/26)
شرح حديث (رخص النبي صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين في الذيل شبراً ثم استزدنه فزادهن شبراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان أخبرني زيد العمي عن أبي الصديق الناجي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين في الذيل شبراً ثم استزدنه فزادهن شبراً، فكن يرسلن إلينا فنذرع لهن ذراعاً)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لأمهات المؤمنين أن يرخين شبراً، ثم استزدنه فزاد شبراً، وهذا مثل الذي قبله؛ لأنه كان أولاً شبراً ثم صار ذراعاً، والشبران ذراع، فهو في الأول قال: (شبراً) ثم قال: (ذراعاً) أي: أنه داخل فيه الأول، وليس ذراعاً بعد الشبر الأول فيكون ثلاثة أشبار، وإنما هو شبران فقط، فهو مطابق لهذه الرواية أنه شبر وراء شبر.
[(فكن يرسلن إلينا فنذرع لهن ذراعاً)].
يعني: نذرع لهن ذراعاً بالقصبة، أي: بالمقدار الذي يذرع به.(461/27)
تراجم رجال إسناد حديث (رخص النبي صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين في الذيل شبراً، ثم استزدنه فزادهن شبراً)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد مر ذكره.
[حدثنا يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد القطان، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
عن سفيان هو الثوري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني زيد العمي].
زيد العمي ضعيف أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبي الصديق الناجي].
أبو الصديق الناجي هو بكر بن عمرو، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في إسناده زيد العمي وهو ضعيف؛ لكن الحديث الأول بمعناه، فهو صحيح بالذي قبله.(461/28)
الأسئلة(461/29)
مقدار الذراع
السؤال
ما حد الذارع؟
الجواب
الذراع مبدؤه من المرفق إلى أطراف الأصابع.(461/30)
حكم من تكتفي بإرخاء ثوبها شبراً وقد تنكشف قدماها
السؤال
هل ينكر على من تكتفي بشبر في ذيل ثوبها مع أنها قد تنكشف قدماها؟
الجواب
ينكر عليها، فعليها أن تغطي رجليها.(461/31)
حكم تغطية قدمي المرأة في الصلاة
السؤال
هل تجب على المرأة تغطية القدم في الصلاة؟
الجواب
نعم، في الصلاة تغطي المرأة القدمين واليدين إلا الوجه.(461/32)
حكم النيابة في رمي الجمار
السؤال
هل تجوز النيابة في رمي الجمار عن امرأة ضعيفة البصر ورجل كبير في السن ويده مقطوعة؟
الجواب
الرجل الذي هو كبير في السن له أن ينيب، وأما من يكون ضعيف البصر مع قوته فيرمي في وقت لا يوجد فيه أي زحام، مثلاً: بعد المغرب وبعد العشاء.(461/33)
كيفية الرمي عن شخص يعجز عن رمي الجمرات
السؤال
أرجو أن توضح لي كيفية الرمي عن العاجز؟
الجواب
الإنسان يرمي عن نفسه أولاً عند كل جمرة، فيرمي كل حصاة على حدة حتى يكمل سبعاً عن نفسه، ثم يرمي سبعاً عن موكله كل حصاة على حدة، هذا يكون عند الأولى، ثم يذهب إلى الثانية فيفعل كما فعل عند الأولى، ثم عند الثالثة كذلك.(461/34)
حكم اكتفاء المرأة بالجوارب عن إرخاء الثوب
السؤال
قلتم إن الجورب يحل محل الذيل؛ ولكن الجورب يصف فيكون نصف الساق محجماً!
الجواب
المرأة لا تجعل ثيابها إلى نصف الساق؛ ولكن المقصود بالجورب أنها لا يلزمها أن تجر ثيابها، ولكن يمكن ألا تجر ثيابها، وتأتي بثياب ساترة قد لا تغطي القدم وتكون مغطاة بالجورب، أما كون المرأة تلبس ثوباً قصيراً، ثم تجعل الجورب يسترها، فهذا لا يصلح، بل هو غلط.
لكن إذا كان الجورب لستر القدم فقط فنعم.(461/35)
حكم المرور بين المصلي والسترة
السؤال
بعض الناس يمرون بيني وبين سترتي وأنا أصلي صلاة النافلة، ما حكم صلاتي؟
الجواب
عليك أن تردهم، ولا تتركهم يمرون بينك وبين سترتك، وإن ذهب أحد ومضى فلا يضر صلاتك، أي أنها صحيحة.(461/36)
حكم وصية الرجل بماله كله لزوجته
السؤال
مات رجل وله مال وأولاد فأخذت زوجته كل المال بحجة أنه أوصى لها به كله، فما الحكم؟
الجواب
الوصية غير صحيحة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث) وهي ترث الثمن ما دام له أولاد، والباقي بعد الثمن للأولاد إلا أن يكون هناك أبوان أو جدة، فيأخذ أصحاب الفروض فروضهم، والباقي للأولاد إذا كانوا ذكوراً وإناثاً للذكر مثل حظ الأنثيين.(461/37)
مشاهدة أهوال القيامة
السؤال
هل أهوال يوم القيامة لن يشهدها إلا من كان حياً وقت القيامة؟
الجواب
قيام الساعة التي هي النفخة الأولى معلوم أنها لا تقوم إلا على الذين يكونون موجودين في ذلك الوقت وهم شرار الخلق، (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء) فهم الموجودون في ذلك الزمان، وعندما تحصل الصعقة يموتون، لكنهم لا يرون تلك الأهوال، والأهوال يراها الناس بعد البعث والنشور، وكذلك يرونها في القبور، وأما في آخر الدنيا فتحصل النفخة فيموت من كان حياً.(461/38)
معنى مقالة (يرخص للصغار ما لا يرخص للكبار)
السؤال
ما رأيكم في القاعدة التي ذكرها شيخ الإسلام: (يرخص للصغار ما لا يرخص للكبار)؟
الجواب
معلوم أن الصغار ينشئون على ما يكون عليه الكبار، فلا يلبس الذكور الحرير ولا الذهب، والإناث الصغيرات لا بأس أن يلبسن الحرير ويلبسن الذهب؛ لأن حكم الصغير حكم الكبير؛ لكن من ناحية اللعب واللهو فالصغار يرخص لهم ما لا يرخص للكبار.(461/39)
حكم إرخاء المرأة ذيلها
السؤال
هل يمكن أن نقول: إن الحد الأقصى والواجب لستر قدمي المرأة من الثوب هو الشبر، والحد المستحب هو الذراع؟
الجواب
ستر القدمين مطلوب وهو لا يحصل بالشبر.(461/40)
حكم ستر المرأة يديها وقدميها في بيتها
السؤال
قلتم بأن المرأة تحجب القدمين واليدين في الصلاة فهل هذا خاص بالصلاة؟ وهل عليها سترهما إن كانت داخل غرفتها؟
الجواب
لا تغطي قدميها ويديها في غير الصلاة إذا لم يكن عندها أحد يراها فلها أن تكشف ذلك، ولكن قد عرفنا أن الإنسان لا يتعرى، وكما جاء في الحديث (فإذا كان أحدنا خالياً؟ قال: الله أحق أن يستحيا منه).(461/41)
حكم التبرك بماء زمزم في غير الشرب
السؤال
التبرك بماء زمزم هل هو مختص بالشرب أو عام في الشرب والرش على البدن والثوب؟
الجواب
يعم الشرب والرش على البدن.(461/42)
حكم حلق المعتمر لنفسه
السؤال
رجل أتم مناسك العمرة ثم حلق رأسه بنفسه فهل عليه شيء؟
الجواب
ليس عليه شيء، يمكن للإنسان أن يحلق لنفسه أو يقصر لنفسه، فلا بأس بذلك ولا مانع منه؛ لأن هذا تحلل وليس ارتكاب محظور.(461/43)
حكم الصلاة على الميت الغائب
السؤال
ما حكم الصلاة على الغائب الذي قد صلي عليه؟
الجواب
الأصل أن صلاة الغائب جاءت في حديث النجاشي، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى عليه، والأحاديث الصحيحة ثابتة في ذلك، وبعض أهل العلم لم يجز الصلاة على الغائب ولو لم يصل عليه؛ ولكن الصحيح هو ما دلت عليه الأحاديث المتفق عليها في قصة النجاشي وأنه يصلى عليه، فمن لم يصل عليه صلي عليه؛ ولكن إذا حصل أن رأى الإمام أنه يصلي على بعض الأشخاص الذين لهم شأن ولهم منزلة كالعلماء الكبار، فإن ذلك لا بأس به، وقد قال ذلك بعض أهل العلم.(461/44)
حكم مصافحة الرجل للقواعد من النساء
السؤال
كثير من القواعد من النساء إذا سلم عليهن الرجل يصافحنه، فإذا أنكر عليهن غضبن، فما الحكم؟!
الجواب
جاءت الأحاديث مطلقة في أنه لا يصافح الرجل النساء، والذي عنده جهل إذا بين له الحق وبين له أن هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم وعمله لا شك أنه يستسلم وينقاد لذلك.
والغضب المذكور يكون في أول الأمر، وبعد ذلك يصير شيئاً عادياً، غير مستغرب، ولا يكون معه غضب ولا تأثر.
وقد اعتاد بعض الناس في بعض البلاد أن المرأة تصافح الرجل وصار ذلك مألوفاً لا بأس به، مع أنه لا يجوز، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يصافح النساء، وعند البيعة للنساء كان يبايع الرجال بالمصافحة والكلام وأما النساء فكان يبايعهن بالكلام، فإذا جاءت المرأة وقالت: يا رسول الله! أبايعك على كذا وكذا يقول: عليه الصلاة والسلام: (قد بايعتك) يعني: كلاماً لا مصافحة.
فإذاً: هذه هي السنة التي جاءت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، والدرس يسمعه بعض الحجاج وبعضهم أو كثير منهم يعلم أن هذا شيء معروف في بلادهم؛ ولكن الإنسان إذا رجع إلى بلده وجاءت المرأة الأجنبية لتصافحه كالعادة يقول لها: نحن في هذه الرحلة استفدنا علماً واستفدنا فقهاً في الدين، وقد بلغنا أنه لا يجوز مصافحة النساء، فنحن لا نصافح النساء منذ علمنا أن السنة في عدم مصافحتهن.
والمرأة قد تتأثر في أول الأمر، ولكن بعد ذلك يكون شيئاً عادياً، فلا تفكر أن تمد يدها إلى الرجل الذي سمعت منه هذا الكلام.(461/45)
حكم من يصلي صلاة الغائب يومياً على من مات من المسلمين
السؤال
هناك رجل يصلي صلاة الغائب يومياً على من مات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟!
الجواب
هذا أمر منكر ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولا فعله خيار هذه الأمة، وإنما المشروع أن يدعو لهم، والدعاء صلاة.(461/46)
حكم مس المرأة الأجنبية
السؤال
هل مس المرأة من الكبائر؛ لأن الحديث: (لأن يغرز في رأس أحدكم بحديدة خير له من أن يمس امرأة لا تحل له)؟
الجواب
هذا يدل على أنه من الكبائر.(461/47)
حكم التبرك مطلقاً بماء المطر
السؤال
هل التبرك بماء المطر مطلق بحيث يعلق المرء ثيابه على حبل لتمطر ويصيبها بلل الماء؟
الجواب
الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يخرج ويصيبه المطر، وأما كون الإنسان يخرج ثيابه وينشرها في المطر فلا أعلم شيئاً يدل عليه.(461/48)
الاستئذان في حق الأعمى
السؤال
قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر) هل يعني هذا أن الأعمى لا يستأذن إذا أراد دخول البيوت؟
الجواب
لابد أن يستأذن من ناحية الدخول على الناس، لأن على الإنسان الذي يأتي البيت أن يستأذن ثلاثاً فإن أذن له دخل وإلا انصرف، وليس معناه غير المبصر يدخل متى شاء ويخرج متى شاء، وليست القضية قضية بصر؛ ولكن من ناحية الدخول على النساء، فالاستئذان الذي يترتب عليه دخول أو عدم دخول مشروع لكل أحد، وأما الدخول الذي يمكن أن يكون بين الأقارب -مع أن بعضهن يحتجبن عنه- فهذا يكون معه استئذان، حتى إذا وجدت أجنبية لا يراها ولا يبصرها، أي أن من يكون محرماً لبعض أهل البيت قد يدخل عليهم وعندهم امرأة أجنبية منه، فالاستئذان من أجل أن تتغطى الأجنبية، وأما بالنسبة للأعمى فلا يحتاج إلى هذا الذي يحتاج إليه غيره إذا كان من أهل البيت.(461/49)
حكم كشف الرأس عند نزول المطر
السؤال
هل كشف الغطاء عن الرأس عند نزول المطر ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
يوجد حديث في صحيح مسلم في هذا، وأنه قال: (إنه حديث عهد بربه).(461/50)
الضوابط الشرعية لمن يحاضر النساء من الرجال
السؤال
إذا كان النساء في محاضرة والمحاضر رجل، فهل يجب أن يكون بينهن وبينه ساتر، أم يجوز بشرط أن يغطين وجوههن؟
الجواب
إذا كان المحاضر رجلاً فلابد من وضع فاصل بينهن وبينه، وأما أن يكون الرجل مبصراً ويكون مع النساء فهذا لا يصلح.
والأعمى يمكن أن يحاضرهن دون حجاب؛ لأنه لا ينظر إليهن، لكنهن قد ينظرن إليه، فينصحن بعدم النظر إليه، والأسلم أن يكون هناك ستار وحاجز، وهذا هو المطلوب والذي ينبغي؛ لأن بعض النساء قد تكون عندها قلة حياء وعدم مبالاة.(461/51)
حكم نظر الخاطب إلى شعر مخطوبته
السؤال
هل يجوز النظر إلى شعر البنت التي أريد أن أتزوجها؟
الجواب
الخاطب ينظر إلى الوجه والكفين، وأما النظر إلى الشعر وغيرها فلا يجوز، وهذا يبين لنا أيضاً أن الوجه هو مكان الزينة، وأن الوجه يجب ستره عن الرجال الأجانب، وإنما رخص للخاطب أن ينظر إلى الوجه الذي هو مكان الزينة، ولم يشرع له أن ينظر إلى رجليها! وإنما ينظر إلى وجهها، وأهم شيء ينظر إليه الوجه، وهو مجمع الحسن والجمال.(461/52)
حكم جلوس الإخوة وزوجاتهم في مجلس واحد مع لبسهن الحجاب
السؤال
إذا اجتمعت العائلة في بيت واحد ويكون من الجالسين الوالدان والإخوان وزوجاتهم، فكيف يكون ذلك بحيث لا ترى المرأة أخا زوجها، مع العلم أن النساء يلبسن الحجاب؛ لكنهم جالسون في مجلس واحد؟
الجواب
الذي ينبغي أن يحرص الناس على ابتعاد الرجال عن النساء الأجنبيات، فلا تجلس النساء الأجنبيات مع الرجال؛ لأن جلوسهن معهم يؤدي إلى التحدث وإلى الانبساط في الحديث وإلى تجاذب أطراف الحديث، وإذا ابتعدن عن ذلك صرن أبعد عن مظان الفتنة، وحتى في التليفون عندما يحصل الاتصال ينبغي ألا يكون هناك كلام وأخذ ورد، ولكن إخبار وسؤال عن الشيء الذي اتصل من أجله، وإعطاء الجواب باختصار ثم إقفال الاتصال.(461/53)
القول في توثيق نبهان مولى أم سلمة في الكاشف مع أن الحافظ حكم عليه بأنه مقبول
السؤال
مر معنا نبهان وذكر أن الحافظ حكم عليه بأنه مقبول؛ لكن الذهبي قال عنه: ثقة، فلماذا لا يقدم قول الذهبي في الكاشف؟
الجواب
لعله قال: وثق، وما قال: ثقة، وكلمة (وثق) عند الذهبي غير كلمة ثقة؛ لأنه عند توثيق ابن حبان يقول: ولا يقول: (ثقة)؛ لكن هذا لا يعني التوثيق؛ لأن توثيق ابن حبان وحده لا يعتبر ولا يعول عليه، فلعل الذي عند الذهبي فيه أنه وثق، وكثيراً ما يستعمل هذه اللفظة في الكاشف، يشير بها إلى مثل توثيق ابن حبان.
ولعله وثقه ابن حبان في الثقات، أو ذكره في الثقات؛ لكن لا أدري هل هناك أحد قال: إنه غير مقبول؟ أو أنزل من مقبول؟ أو مجهول؟(461/54)
حكم تصوير مناسك الحج والعمرة في شريط فيديو
السؤال
ما حكم تصوير مناسك الحج والعمرة في شريط فيديو؟
الجواب
وجود الأشرطة ووجود الكتيبات التي توضح ذلك يغني ويكفي.(461/55)
حكم من طهرت من حيضها وصامت أكثر من أسبوعين قبل أن تغتسل
السؤال
امرأة طهرت من حيضتها ولم تغتسل -جهلاً- وصامت من رمضان أكثر من أسبوعين بغير طهارة!
الجواب
كيف كانت تصلي؟! الطهارة للصيام ليس فيها إشكال، فلو طلع الفجر عليها وقد طهرت فصامت ولم تغتسل إلا بعد الفجر صح صيامها، كما أن الإنسان لو أجنب قبل الفجر ثم أصبح ولم يغتسل من الجنابة إلا بعد الفجر فصيامه صحيح، وإنما الكلام الآن على الصلاة، كيف كانت تصلي هذه؟! أم أنها لا تصلي أصلاً؟! إذ كيف تمر عليها أيام دون طهارة وصلاة؟! وإن صلت كيف كانت صلاتها؟! المرأة التي لا تصلي والعياذ بالله شأنها أخطر من مسألة الصيام! فبعض الناس قد يصوم ولا يصلي، ويحرص على الصيام ولا يحرص على الصلاة، والصلاة أهم من الصيام.
فإذا كانت جاهلة أو كانت هذه أول مرة يحصل لها الحيض وعندها جهل فإنها تصلي، وأما كون المرأة يأتيها الحيض ويتكرر عليها ولا يكون عندها علم بالصلاة فمعناه أنه قد يكون مضى عمرها، وهي على هذه الحالة السيئة من عدم الصلاة أو الصلاة دون طهارة.
الحاصل أنها إذا كانت جاهلة وأن هذه أول حيضة حصلت لها وأنها مضى عليها أوقات ما صلت فإنها تصلي، وأما الصيام فإنه يصح بدون اغتسال من الحيض، وإنما الذي لا يصح هو الصلاة.(461/56)
حكم نظر الرجل إلى البنات ونظرهن إليه حال تدريسه إياهن
السؤال
هل يجوز للشيخ المعلم أن ينظر إلى الطالبات اللاتي يدرسهن وينظرن إليه؟ وهل يجوز له التدريس في هذه المدرسة إذا كان لا يمكنه أن يجتنب النظر إليهن؟
الجواب
لا يدرس إذا كان سيكون مدرس نساء وينظر إليهن وينظرن إليه، فلا يشتغل في هذه المهنة، بل يبتعد عنها ويدرس رجالاً، أو ينظر له عملاً ليس من هذا القبيل الذي فيه الوقوع في أمر محرم باستمرار.(461/57)
ضابط عورة الأمة المملوكة
السؤال
ما هي عورة الأمة؟
الجواب
عورة الأمة هي التي ذكرت في الحديث (ما بين السرة إلى الركبة) ولكن التستر فهذا واجب، فالمرأة لا تكشف جسدها للرجال؛ لأن هذا ينافي الحشمة؛ ولكن جاء في هذا الحديث أن الرجل لا ينظر إلى عورة أمته، ومعلوم أن الرجل ينظر إلى أمته وأنها لا تحتجب منه، وهو يختلف عن الأجانب.(461/58)
احتمال النجاسة في طرف ثوب المرأة لملامسته للأرض
السؤال
هل صحيح أن المرأة إذا أطالت ثوبها تحت القدمين فربما يعلق بثوبها من النجاسة شيء فيعفى عنه، خاصة إذا تحققت أن في طرف الثوب نجاسة؟
الجواب
إذا لم تتحقق معرفة النجاسة فالأصل هو عدمها، والأصل هو الطهارة حتى تثبت النجاسة.(461/59)
مرجع قول ابن عباس في تفسير (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها)
السؤال
لو تفضلتم وذكرتم لنا المصدر الذي ذكر فيه عن ابن عباس أن المراد بقوله: ((وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا)) الزينة الظاهرة!
الجواب
هو في كتب التفسير، وذكره الشيخ عبد العزيز بن باز في رسالته في الحجاب والسفور، أو ذكره الشيخ ابن عثيمين في رسالته؛ لكنه موجود في كتب التفسير، جاء عنه هذا وجاء عنه غيره، وهذا يؤخذ من كتب التفسير.(461/60)
حكم بيع السيد أمته المزوجة
السؤال
ذكرتم أنه إذا زوج السيد أمته خرج البضع من ملكه، وبقي له ملك العين، فهل يعني هذا أنه متى شاء باعها؟
الجواب
نعم.
له أن يبيعها، وإذا باعها تخرج من ملكه مسلوبة البضع، أي: فالذي اشتراها يملكها كما يملكها البائع، والبائع يملكها مسلوبة منفعة البضع، فالمشتري يشتريها مسلوبة منفعة البضع؛ لأن الزوجية قائمة، فهي تنتقل إلى المالك الجديد على نفس الهيئة التي كانت عند المالك الأول، والمالك الأول يملكها إلا بضعها، فإنه ملك للزوج وحق للزوج.(461/61)
حكم من تجاوز الميقات من غير إحرام
السؤال
من جاء من بلده قاصداً الحج فجاوز الميقات ولم يحرم ثم أحرم من جدة، فما حكمه، علماً بأن ميقاته يلملم؟
الجواب
هذا قد تجاوز الميقات وأحرم بعده فعليه فدية، وهي شاة تذبح بمكة وتوزع على فقراء الحرم إن كان مستطيعاً، وإلا صام عشرة أيام.(461/62)
حكم طواف الحائض بالبيت الحرام
السؤال
المرأة الحائض هل تطوف بالبيت؟
الجواب
الحائض لا تطوف بالبيت حتى تطهر، كما قال عليه الصلاة والسلام: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري).(461/63)
الجوارب الساترة تجزئ عن الذيل لثوب المرأة
السؤال
هل يكفي الجورب وتستغني به المرأة عن الذيل؟
الجواب
نعم.
إذا حصلت التغطية والستر.(461/64)
شرح سنن أبي داود [462]
جعل الله سبحانه وتعالى لبني آدم في حيواناتهم فوائد جمة ومنافع كثيرة، ومنها استخدام جلودها والانتفاع بها لبساً وافتراشاً ونحو ذلك، ولم يهمل الشرع الحنيف هذا الباب بل شرع فيه أحكاماً كي تكتمل المنافع ونهاهم عما ليس في صالحهم عاجلاً أو آجلاً، فالإهاب يتبع أصله حلاً وحرمة، فجلود ما يؤكل لحمه مباحة، وجلود ما لا يجوز أكله محرمة كالسباع، وقد نص الشرع على تحريم جلود السباع وبالأخص النمور.(462/1)
أهب الميتة(462/2)
شرح حديث (ألا دبغتم إهابها واستنفعتم به إنما حرم أكلها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في أهب الميتة.
حدثنا مسدد ووهب بن بيان وعثمان بن أبي شيبة وابن أبي خلف قالوا: حدثنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما -قال مسدد ووهب: عن ميمونة رضي الله عنها أنها قالت-: (أهدي لمولاة لنا شاة من الصدقة فماتت فمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا دبغتم إهابها واستنفعتم به؟! قالوا: يا رسول الله! إنها ميتة! قال: إنما حرم أكلها)].
قوله: [باب في أهب الميتة] الأهب: جمع إهاب، وهو الجلد، والمقصود من هذه الترجمة أن الأهب تستعمل في اللباس وتستعمل في الفراش، وأن الميتات يمكن أن يستفاد من جلودها، وإن كان قد حرم أكلها، وذلك بدبغها والاستفادة منها بعد الدبغ، فالترجمة فيها التنبيه إلى الانتفاع بأهب الميتة بعد دبغها، والأهب التي ينتفع بها فيما يتعلق بالميتات اختلف العلماء فيها: فمنهم من رأى أنه لا ينتفع بأهب الميتة، لا بدبغ ولا بغيره.
ومنهم من رأى أنه ينتفع بأهب الميتات مطلقاً من جميع الحيوانات.
ومنهم من قال: إنما ينتفع بأهب الميتات التي يؤكل لحمها كبهيمة الأنعام مثلاً، فإن هذه هي التي ينتفع بجلودها بعد دبغها، تدبغ وينتفع بجلودها، وأما غيرها فإنها لا تدبغ ولا ينتفع بجلودها، أي: مما لا يؤكل لحمه.
ففي المسألة أقوال عديدة منها هذه الثلاثة، وأظهرها هو أن الإباحة مقصورة على ما هو مأكول اللحم، أي: الذي تطهره الذكاة، وأما الأشياء التي لا تطهرها الذكاة فهي ميتة سواء ذكيت أو لم تذك، فإنه لا ينتفع بجلودها، لا بدبغ ولا بغيره.
وعلى هذا فإن السنة دلت على الانتفاع بجلود الميتة بعد الدبغ وذلك إنما هو فيما يؤكل لحمه أي: مما تنفع فيه الذكاة، أما من كانت لا تنفع فيها الذكاة من السباع والحمير والكلاب وغيرها فإن هذه لا ينتفع بجلودها لا بدبغ ولا بغيره؛ لأن المذكى منها والميت على حد سواء، وقد أورد أبو داود حديث ميمونة وحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن ميمونة قالت: (أهديت لمولاة لنا شاة من الصدقة فماتت فمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا دبغتم إهابها واستنفعتم به؟!).
يعني: أرادوا أن يؤكدوا ويبينوا الشيء الذي منعهم من أن ينتفعوا بها وهو أنها ميتة، والله تعالى قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنما حرم من الميتة أكلها) فدل هذا على أن الدباغ يطهر الجلد من الميتة التي هي مأكولة اللحم، وأن الانتفاع بها بعد الدبغ -أي: بالجلود- أن ذلك سائغ ومباح، ولا بأس به، وهذا -كما قلت- إنما هو في حق مأكول اللحم، والرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك في حق شاة وهي من بهيمة الأنعام وهي مأكولة اللحم، وأُبيح الانتفاع بجلدها بعد الدبغ.
وفي هذا دليل على أن السنة تفسر القرآن وتوضحه وتشرحه؛ وذلك أنه قد جاء في القرآن: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، فيدخل في ذلك كل ما يتعلق بها؛ لكن جاءت السنة ببيان أن الجلد يمكن أن يستفاد منه بعد الدبغ وأنه ينتفع به، ولكن هذا فيما هو مأكول اللحم؛ لأن ما لا يؤكل لحمه كله حرام مذكى أو غير مذكى.
وقول ميمونة رضي الله عنها: (أهدي لمولاة لنا شاة من الصدقة)، يعني: يحتمل أن يكون قولها: (أهدي لمولاة لنا) أنها أُعطيت لمن يستحقها ومن استحقها أهداها، ومعلوم أن من يستحق الصدقة إذا ملكها يتصرف فيها كيف يشاء، فله أن يهديها وله أن يبيعها، وله أن يأكلها، وله أن ينتفع بها.
ويحتمل أن يكون المراد: أنها أُعطيت شاة من الصدقة، على أنها من مصارفها.
ومعلومٌ أن الرسول صلى الله عليه وسلم وبني هاشم وذريته وزوجاته، لا تحل لهم الصدقة، بل تحرم عليهم الصدقة؛ لكن موالي زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم تحل لهم الصدقة، فزوجات رسول الله لا تحل لهن الصدقة؛ لأنهن تابعات له صلى الله عليه وسلم وهن محبوسات عليه، وهن زوجاته في الدنيا والآخرة، والصدقة لا تحل لهن، وقد جاء تفسير الآل بأنهم الأزواج والذرية، فأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم هن من أهل بيته ولا تحل لهن الصدقة، لكن مواليهن تحل لهم الصدقة، بخلاف بني هاشم فإن مواليهم حكمهم كحكمهم لا تحل لهم الصدقة.
قالوا: والفرق بين موالي زوجاته وموالي بني هاشم: أن موالي بني هاشم فرع عن أصل، وأما موالي زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم فهم فرع عن فرع؛ ولهذا تحل لهم الصدقة، هذا إذا كان المقصود أنها أعطيت من الصدقة.
ومعلوم أن المُتَصَدَّق عليه سواء كان مولى أو غيره وهو فقير، إذا تصدق أو وهب أو أعطى أو باع ما وصل إليه عن طريق الصدقة، فإن ذلك يحل لمن وصل إليه ولو كان أصله صدقة، وإنما الذي لا يجوز أن يصل إلى من لا تحل له الصدقة وهو صدقة، أما أن يصل إليه على سبيل الهبة أو على سبيل البيع ممن حلت له الصدقة، فإن ذلك لا يؤثر؛ لأنها لم تصل وهي صدقة، وإنما وصلت وهي هدية، أو وصلت وهي مبيعة.
قوله: [قالت: أهدي لمولاة لنا شاة من الصدقة فماتت فمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا دبغتم إهابها واستمتعتم به؟ قالوا: يا رسول الله إنها ميتة قال: إنما حرم أكلها)].
وهذا بيان من الرسول الكريم صلى الله عليه سلم أن التحريم الذي جاء في الآية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، لا يشمل الجلد بعد الدبغ، وإنما يشمل أكل الميتة، وأما الجلد بعد الدبغ فإنه يحل الانتفاع به، ويجوز الانتفاع به كما جاء بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قلت إن السنة مبينة للقرآن وشارحة له، ومفصلة له؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن في هذا الحديث أن الذي يحرم هو أكلها، أي الذي جاء في القرآن، وأن مما يدخل تحت أجزاء الميتة جلدها، وقد استثني في السنة في هذا الحديث عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(462/3)
تراجم رجال إسناد حديث (ألا دبغتم إهابها واستنفعتم به إنما حرم أكلها)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[ووهب بن بيان].
وهب بن بيان ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[وعثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، والنسائي أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[وابن أبي خلف].
هو: محمد بن أحمد بن أبي خلف وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[قالوا: حدثنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة المكي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهنا سفيان مهمل غير منسوب، وشيخه الزهري، وإذا جاء سفيان غير منسوب يروي عن الزهري، فهو يحمل على سفيان بن عيينة، ولا يحمل على الثوري.
[عن الزهري].
هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ثقة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال مسدد ووهب: عن ميمونة].
يعني عن ابن عباس عن ميمونة، بزيادة ميمونة، فتكون من رواية ابن عباس عن خالته ميمونة.
وميمونة هي: أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية، أخرج حديثها أصحاب الكتب الستة، وهي خالة ابن عباس؛ لأن ابن عباس أمه لبابة بنت الحارث أم الفضل الهلالية.(462/4)
تراجم رجال إسناد طريق أخرى لحديث (ألا انتفعتم بإهابها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد، قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا معمر عن الزهري بهذا الحديث لم يذكر ميمونة رضي الله عنها، قال: فقال: (ألا انتفعتم بإهابها)، ثم ذكر معناه لم يذكر الدباغ].
ذكر الحديث عن ابن عباس ولم يذكر ميمونة يعني: أنه من حديث ابن عباس وفيه: (ألا انتفعتم بإهابها) ولم يذكر الدباغ، وهذا الذي جاء في بعض الروايات مطلقاً يحمل على المقيد الذي فيه ذكر الدباغ.
قوله: [حدثنا مسدد عن يزيد].
يزيد بن زريع، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري بهذا الحديث، لم يذكر ميمونة].(462/5)
شرح قول الزهري (يستمتع به على كل حال) في جلود الميتة وأنه ينكر الدباغ
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الرزاق قال: قال معمر: وكان الزهري ينكر الدباغ ويقول: يستمتع به على كل حال].
وهذا القول عن الزهري وعن غيره مقتضاه أن الجلد أو الإهاب ينتفع به على كل حال دُبغ أو لم يُدبغ، ولكن ما جاء في بعض الروايات من بيان الدبغ، وأنه يُطهر بالماء والقرظ يدل على أن الانتفاع بالجلد إنما يكون بعد دبغه، لا بدون الدبغ، وفيه خلاف بين أهل العلم، والزهري ممن يرى أنه ينتفع بالجلد مطلقاً دُبغ أو لم يدبغ.(462/6)
تراجم رجال إسناد قول الزهري في جلود الميتة (يستمتع بها على كل حال)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
محمد بن يحيى بن فارس الذهلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر عن الزهري].
عن معمر عن الزهري، وهو أثر مقطوع، يعني: ينتهي إسناده إلى الزهري.
والمتن الذي ينتهي إسناده إلى التابعي أو من دون التابعي يقال له: المقطوع.
وأما الذي ينتهي إلى صحابي فيقال له: الموقوف.
والذي ينتهي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقال له: المرفوع.
غير المنقطع.
فالمنقطع: من صفات الأسانيد، والمقطوع: من صفات المتون؛ وهنا متن انتهى سنده إلى من دون الصحابي فقيل له: مقطوع.(462/7)
ذكر أصحاب الزهري الذين ذكروا الدباغ والذين لم يذكروه وتراجمهم
[قال أبو داود: لم يذكر الأوزاعي ويونس وعقيل في حديث الزهري: الدباغ، وذكره الزبيدي، وسعيد بن عبد العزيز، وحفص بن الوليد، ذكروا الدباغ].
ثم ذكر أن الذين رووا عن الزهري منهم من ذكر الدباغ، ومنهم من لم يذكر الدباغ، والزهري لا يعتبر الدباغ كما مر في الأثر الذي قبل هذا، فذكر بعض أصحاب الزهري الذين رووا عنه أنهم لم يذكروا الدباغ، وذكر أيضاً الذين ذكروا الدباغ.
والمعتبر هو الدباغ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.
[قال أبو داود: لم يذكر الأوزاعي].
الأوزاعي: هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ويونس].
يونس بن يزيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعقيل].
عقيل بن خالد بن عقيل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وذكره الزبيدي].
الزبيدي: هو محمد بن الوليد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[وسعيد بن عبد العزيز].
سعيد بن عبد العزيز ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[وحفص بن الوليد].
حفص بن الوليد صدوق، أخرج له النسائي.
[ذكروا الدباغ].
ذكروا الدباغ، أي: أن هؤلاء ذكروا الدباغ في حديث الزهري.(462/8)
شرح حديث (إذا دبغ الإهاب فقد طهر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن وعلة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس من طريق أخرى: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر)، وهذا يفيد أن تطهير الدباغ، يعني: تطهير الجلد يكون بالدباغ، وأن الإهاب يطهره الدباغ، ويدل على ما دلت عليه الأحاديث السابقة التي فيها ذكر الدباغ، واعتبار الدباغ يطهر جلد الميتة.(462/9)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا دبغ الإهاب فقد طهر)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد مسروق الثوري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن أسلم].
زيد بن أسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن وعلة].
عبد الرحمن بن وعلة صدوق، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن عباس].
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قد مر، وهذا طريق غير طريق الزهري، وفيه ذكر الدباغ، والذي مر عن الزهري أن من الرواة عنه من ذكر الدباغ، ومنهم من لم يذكره، وهذه الطريق التي ليست من طريق الزهري تقوي ما جاء في ذكر الدباغ واعتبار الدباغ.(462/10)
شرح حديث (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أمه عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت)، وهذا يدل على ما دل عليه ما تقدم من الانتفاع بجلود الميتات بعد دبغها.
ومعنى الأمر هنا: الإذن، أي: أذن لهم أن يستعملوه ولهم ألا يستعملوه، وإذا استعملوه فهو سائغ، وإذا لم يستعملوه فهو سائغ.(462/11)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن عبد الله بن قسيط].
يزيد بن عبد الله بن قسيط ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان].
محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أمه].
وهي مقبولة أخرج لها أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عُرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والألباني يضعف هذا الإسناد، ولعله من أجل هذه المرأة المقبولة؛ لكن الحديث مثل الأحاديث السابقة وأكثر ما فيه ذكر الأمر، والأمر لا يدل هنا على وجوب ولا استحباب، وغاية مدلوله أنه للإذن باستعمالها وإباحتها.(462/12)
شرح حديث (دباغها طهورها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر وموسى بن إسماعيل قالا: حدثنا همام عن قتادة عن الحسن عن جون بن قتادة عن سلمة بن المحبق رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أتى على بيت فإذا قربة معلقة فسأل الماء، فقالوا: يا رسول الله! إنها ميتة، فقال: دباغها طهورها)].
أورد أبو داود حديث سلمة بن المحبق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في غزوة تبوك قربة معلقة فيها ماء (فسأل الماء) يعني: طلب الشرب، فقيل: (إنها ميتة)، يعني: أن هذا جلد ميتة، فقال: (دباغها طهورها) يعني: الدباغ مطهر للميتة، ولجلد الميتة فهو مثل ما تقدم في الأحاديث السابقة الدالة على ذكر الدباغ، وأنه يطهر جلود الميتات.(462/13)
تراجم رجال إسناد حديث (دباغها طهورها)
[حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[وموسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن همام].
همّام بن يحيى العوذي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
هو: الحسن بن أبي الحسن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جون بن قتادة].
جون بن قتادة مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن سلمة بن المحبق].
سلمة بن المحبق رضي الله عنه، صحابي أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.(462/14)
شرح حديث (يطهرها الماء والقرظ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو -يعني: ابن الحارث - عن كثير بن فرقد عن عبد الله بن مالك بن حذافة قال: حدثه عن أمه العالية بنت سبيع أنها قالت: كان لي غنم بأحد فوقع فيها الموت فدخلت على ميمونة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك لها، فقالت لي ميمونة: لو أخذت جلودها فانتفعت بها! فقالت: أو يحل ذلك؟! قالت: نعم، مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحمار فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أخذتم إهابها، قالوا: إنها ميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطهرها الماء والقرظ)].
أورد أبو داود حديث ميمونة رضي الله تعالى عنها أن امرأة جاءتها -وهي: العالية بنت سبيع، وكانت لها غنم ترعاها في أحد- فحصل فيها الموت فقالت: (هلا انتفعت بأُهُبها؟ فقالت: أو يحل ذلك؟! فقال: مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من قريش يجرون شاة كالحمار)، يعني: إما أنهم يجرونها كجر الحمار لإبعادها والتخلص منها، أنها كالحمار في ضخامتها، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لو أخذتم إهابها، قالوا: إنها ميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطهرها الماء والقرظ) يعني: الدباغ، والقرظ: هو شجر تدبغ به الجلود.
وقوله: (الماء والقرظ)، يدل على أن التطهير إنما يكون بالماء، وأنه لا يكون بغيره؛ لأنه قال: (الماء والقرظ).
ويحتمل أن القرظ والماء يجمعان، ويحصل الدبغ بهما، أو أن المقصود أنه يدبغ بالقرظ ثم بعد ذلك يغسل بالماء لتذهب الآثار التي بقيت على الجلد بسبب دبغه فيكون نظيفاً صالحاً للاستعمال.(462/15)
تراجم رجال إسناد حديث (يطهرها الماء والقرظ)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في شمائله.
[حدثنا ابن وهب].
عبد الله بن وهب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عمرو -يعني ابن الحارث -].
عمرو بن الحارث المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن كثير بن فرقد].
كثير بن فرقد وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[عن عبد الله بن مالك بن حذافة].
عبد الله بن مالك بن حذافة مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أمه العالية بنت سبيع].
وثقها العجلي، وأخرج لها أبو داود والنسائي.
[عن ميمونة].
هي ميمونة أم المؤمنين وقد مر ذكرها.(462/16)
من روى ألا ينتفع بإهاب الميتة(462/17)
شرح حديث (أن لا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من روى أن لا ينتفع بإهاب الميتة.
حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عكيم قال: (قرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرض جُهينة وأنا غلام شاب: أن لا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب)].
أورد أبو داود: باب من روى أن لا ينتفع بإهاب الميتة.
لما ذكر في الباب السابق الأحاديث التي فيها الانتفاع بإهاب الميتة؛ ذكر بعد ذلك الرواية التي فيها أنه لا ينتفع بإهاب الميتة، وتكون بذلك معارضة لما تقدم من الأحاديث، والحديث فيه كلام من حيث الثبوت؛ ولكن على فرض أنه ثابت فإنه يجمع بينه وبين ما تقدم من جهة أنه يحمل على ما كان بدون دبغ، وأن الأحاديث السابقة التي جاءت في طهارة جلود الميتة بالدبغ تحمل على ما إذا حصل الدبغ.
فإذاً لا ينتفع بجلود الميتة إذا كانت غير مدبوغة، وأما إذا دُبغت فإنه يُنتفع بها، فبعض أهل العلم وفق وجمع بين الأحاديث، ومنهم من رجح، الأحاديث السابقة عن ابن عباس وعن ميمونة وغيرهما، وبعضها في الصحيحين، ومنها ما هو في غيرهما، وقد جاءت من طرق متعددة، وهي تدل على ثبوت الانتفاع بأُهب الميتات، فتكون مقدَّمة على غيرها؛ ولكن إذا ثبت هذا الحديث الذي فيه ذكر عدم الانتفاع، فإنه يجمع بينه وبين ما تقدم بأن يحمل على ما كان بغير دبغ، وما كان في غيره من الأحاديث السابقة تحمل على ما دبغ.(462/18)
تراجم رجال إسناد حديث (أن لا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر عن شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحكم].
الحكم بن عتيبة الكندي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن أبي ليلى].
عبد الرحمن بن أبي ليلى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عكيم].
عبد الله بن عكيم مخضرم، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.(462/19)
شرح حديث (أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب من طريق ثانية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن إسماعيل مولى بني هاشم حدثنا الثقفي عن خالد عن الحكم بن عتيبة: (أنه انطلق هو وناس معه إلى عبد الله بن عكيم رجل من جهينة، قال الحكم: فدخلوا وقعدت على الباب، فخرجوا إلي فأخبروني أن عبد الله بن عكيم أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى جهينة قبل موته بشهر: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب).
قال أبو داود: قال النضر بن شميل يسمى إهاباً ما لم يدبغ، فإذا دبغ لا يقال له: إهاب، إنما يسمى شناً وقربة].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عكيم من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، وفيه تفسير النضر بن شميل أنه يقال للجلد: إهاب ما لم يدبغ، وهذا فيه إشارة إلى الجمع؛ لأن معناه: أنه لا ينتفع بإهاب غير مدبوغ؛ لأنه إذا دبغ صار له اسم آخر هو شن أو قربة أو سقاء.
ولكن من حيث الإطلاق يطلق الإهاب على الجلد مطلقاً؛ لكنه جاء أنه بعد الدبغ، وبعد دبغه أن له اسماً آخر، ويقال له: شن، والشن القربة القديمة، ويقال له: سقاء.(462/20)
تراجم رجال إسناد حديث (أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا محمد بن إسماعيل مولى بني هاشم].
محمد بن إسماعيل مولى بني هاشم يحتمل أن يكون: هو محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود وإلا فهو مقبول أو مجهول؛ لأن المقبول: هو الذي يُعرف، وحديثه يحتاج إلى اعتضاد؛ ولكن ما أدري: هل هو مقبول أو مجهول.
[حدثنا الثقفي].
هو عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد].
خالد بن مهران الحذاء ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحكم بن عتيبة: أنه انطلق مع أناس إلى عبد الله بن عكيم].
الحكم بن عتيبة مرّ ذكره.
[قال أبو داود: قال النضر بن شميل].
النضر بن شميل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث ظاهره الإرسال؛ لأنه ما ذكر الواسطة، أما الذين صححوه فقالوا: إن هذا إخبار عن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك الكتاب بلغ رجلاً مخضرماً من جهينة، وهو عبد الله بن عكيم؛ ولهذا فإن بعض الذين ضعفوا هذا الحديث قالوا: إنه غير متصل، ومنهم من جاء بعلل أخرى، ومنهم من قال: -كما ذكرت- من ناحية الإطلاق اللغوي، وأنه ما ذكر الدبغ فيكون الحمل على ما لم يدبغ.(462/21)
شرح سنن أبي داود [463]
استعمال جلود النمور والسباع مما بينت الشريعة الإسلامية تحريمه، وذلك لما فيه من السرف والخيلاء، واستعمال الأعاجم له، إضافة إلى أن هذه الجلود الميتة مذكاها كميتتها، وأيضاً من أسباب ابتعاد الملائكة عن الرفقة الذي يصحبهم جلد النمور وغيرها من الأحكام التفصيلية.(463/1)
جلود النمور والسباع(463/2)
شرح حديث (لا تركبوا الخز ولا النمار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في جلود النمور والسباع.
حدثنا هناد بن السري عن وكيع عن أبي المعتمر عن ابن سيرين عن معاوية رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تركبوا الخزّ ولا النمار).
قال: وكان معاوية رضي الله عنه لا يتهم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال لنا أبو سعيد: قال لنا أبو داود: أبو المعتمر اسمه يزيد بن طهمان كان ينزل الحيرة].
قوله: [باب في جلود النمور والسباع] يعني: هل تستعمل أو لا تستعمل؟ وقد أورد الحديث الدال على أنها لا تستعمل.
والنمور: جمع نمر، وهو نوع من السباع، وعطف السباع على النمور من عطف العام على الخاص؛ لأن النمور من السباع، والسباع أعم من النمور، ولعله جاء ذكر النمور؛ لأنه جاء في بعض الأحاديث التنصيص عليها، وإلا فإن الحكم شامل لها ولغيرها من السباع.
وقد قيل: إن تحريم ذلك لأنه من فعل الأعاجم.
ومنهم من قال: لأن فيه سرفاً وخيلاء وكبرياء.
ومنهم من قال: لأن ميتة مذكاها كميتتها، وهو لا يحله الدباغ، فيكون استعماله غير جائز، ولا تحصل له الطهارة، فإذاً: لا يجوز استعماله.
وقد أورد أبو داود حديث معاوية رضي الله عنه [(لا تركبوا الخز)].
الخزّ: نوع من الحرير، والمقصود بذلك: أنه لا يكون فراشاً فلا يركب عليه ولا يجلس عليه، ولا يكون على الرحل، أو على السرج وقد كان الناس في الجاهلية يفترشون الحرير ويركب الإنسان على البعير وهو عليه وطاء، وتسمى المياثر، وهي التي تتخذ على الرحل فوق البعير، أو على السرج فوق الفرس.
[(ولا النمار)] يعني: جلود النمار، فلا يركب ولا يجلس على جلودها، ولا تتخذ وطاءً على السرج أو على الرحل، هذا هو المقصود بالنهي.
[قال: وكان معاوية لا يتهم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم].
المقصود من ذلك تأكيد صدقه، وليس معنى ذلك رفع احتمال اتهامه، وإنما المقصود بذلك تأكيد الصدق؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتاجون إلى توثيق أحد، يكفيهم ثناء الله عز وجل وثناء رسوله صلى الله عليه وسلم عليهم، فهم لا يحتاجون إلى تعديل المعدلين وتوثيق الموثقين بعد أن حصل لهم الثناء من الله في كتابه ومن رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وهذا من جنس ما جاء عن ابن مسعود: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق) ومعنى ذلك: أنه تأكيد لصدقه لا أن ذلك رفع لاحتمال أو لتوهم أو ما إلى ذلك.
أما قائل: (وكان معاوية لا يتم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) فهو ابن سيرين وقوله هذا يحتمل أنه رد على من يطعن في معاوية رضي الله عنه، ويحتمل أنه إنما أراد بذلك تأكيد الأمر، كما ذكرنا.
والنهي في الحديث: (لا تركبوا الخزّ ولا النمار)، يشمل النساء والرجال على حد سواء لبساً وافتراشاً.
[قال لنا أبو سعيد، قال لنا أبو داود: أبو المعتمر اسمه: يزيد بن طهمان: كان ينزل الحيرة].
هذا توضيح لهذا الذي ذُكر بكنيته، فبُيّن اسمه: وأنه يزيد بن طهمان.
والقائل هنا هو أبو سعيد أحد الرواة عن أبي داود.(463/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تركبوا الخز ولا النمار)
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هناد بن السري أبو السري ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن وكيع].
عن وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي المعتمر].
هو يزيد بن طهمان، ثقة أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن ابن سيرين].
هو محمد بن سيرين، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معاوية].
معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(463/4)
شرح حديث (لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو داود حدثنا عمران عن قتادة عن زرارة عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة قال عليه السلام: (لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر) وهذا يدل على أنه لا يجوز استعمال جلود النمار كما دل عليه الحديث السابق، ومعنى قوله: (رفقة) أنه قد يستعمل على الرحل، وأنه يستعمل وطاء، فبين صلى الله عليه وسلم أن هذا من أسباب ابتعاد الملائكة عمن يكون كذلك، وهو دال على تحريمه، وأنه لا يجوز استعماله.(463/5)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر)
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
محمد بن بشار الملقب: بندار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو داود].
هو سليمان بن داود الطيالسي ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عمران].
هو ابن داور صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن قتادة عن زرارة].
قتادة بن دعامة مر ذكره.
وزرارة هو: ابن أوفى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة هو: عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق.(463/6)
شرح حديث المقدام بن معد يكرب أنه قال لمعاوية (فأنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس جلود السباع والركوب عليها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن عثمان بن سعيد الحمصي حدثنا بقية عن بحير عن خالد قال: وفد المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه وعمرو بن الأسود ورجل من بني أسد من أهل قنسرين إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، فقال معاوية للمقدام: أعلمت أن الحسن بن علي رضي الله عنهما توفي؟ فرجّع المقدام، فقال له رجل: أتراها مصيبة؟ قال له: ولم لا أراها مصيبة وقد وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره فقال: (هذا مني وحسين من علي)، فقال الأسدي: جمرة أطفأها الله عز وجل، فقال المقدام: أما أنا فلا أبرح اليوم حتى أغيظك وأسمعك ما تكره، ثم قال: يا معاوية! إن أنا صدقت فصدقني وإن أنا كذبت فكذبني، قال: أفعل، قال: فأنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الذهب؟ قال: نعم، قال: فأنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن لبس الحرير؟ قال: نعم، قال: فأنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن لبس جلود السباع والركوب عليها؟ قال: نعم، قال: فوالله! لقد رأيت هذا كله في بيتك يا معاوية! فقال معاوية: قد علمت أني لن أنجو منك يا مقدام! قال خالد: فأمر له معاوية بما لم يأمر لصاحبيه، وفرض لابنه في المائتين، ففرقها المقدام في أصحابه قال: ولم يعط الأسدي أحداً شيئًا مما أخذ، فبلغ ذلك معاوية، فقال: أما المقدام فرجل كريم بسط يده، وأما الأسدي فرجل حسن الإمساك لشيئه].
أورد أبو داود حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه: أنه جاء إلى معاوية يعني في زمن خلافته وافداً عليه ومعه اثنان هما عمرو بن الأسود ورجل من بني أسد.
فقال معاوية للمقدام: [أعلمت أن الحسن بن علي رضي الله عنهما قد توفي؟! فرجّع المقدام] يعني أتى بالاسترجاع، وهو قول: ((إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)) عند المصيبة كما قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]، هذا هو الترجيع الذي جاء في الحديث.
قوله: [قال له رجل: أتراها مصيبة؟] يعني: أنك استرجعت، والاسترجاع إنما هو للمصائب! قال: (وكيف لا أراها وقد وضعه النبي صلى الله عليه وسلم في حجره، وقال: هذا مني وحسين من علي) يعني: إنه شبيهٌ بي، وحسين شبيه بـ علي.
[وقال الأسدي: جمرة أطفأها الله].
يقصد هنا أن الحسن جمرة أطفأها الله.
وهذا كلام سيئ في حق الحسن رضي الله تعالى عنه وأرضاه، بل هي مصيبة كبيرة وعظيمة، وهذا الذي قاله ذلك الأسدي كلام قبيح سيئ.
[فقال المقدام: أما أنا فلا أبرح اليوم حتى أغيظك وأسمعك ما تكره].
يعني بعدما حصل في هذا المجلس ما حصل، قال: أنا لا أبرح حتى أغيظك وأسمعك ما تكره -يخاطب معاوية رضي الله عنه- ثم سأله قال: (أنشدك بالله! هل تعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرم الذهب؟ قال: نعم، قال: أنشدك بالله! هل تعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير؟ قال: نعم، قال: أنشدك بالله! هل تعلم أن الرسول نهى عن لبس جلود السباع، والركوب عليها؟ فقال: نعم، قال: فوالله لقد رأيت هذا كله في بيتك يا معاوية!).
يعني: في بعض حاشيته وبعض من هو من أهل بيته، ومعلوم أن معاوية رضي الله عنه لا يقر هذا ولا يرضاه، وقد يكون غافلاً عنه، وقد يكون علمه ونهى عنه، ويحمل ما جاء عن الصحابة من قبيل هذا على أحسن المحامل من باب إحسان الظن بهم.
[فقال معاوية: قد علمت أني لن أنجو منك يا مقدام!].
يعني: من كلامك، ومن نيلك مني.
[قال خالد: فأمر له معاوية بما لم يأمر لصاحبيه].
خالد هو خالد بن معدان الذي روى عن المقدام، وفي عون المعبود أنه خالد بن الوليد، وهذا غير واضح؛ لأن الكلام يدل سياقه على أن خالداً هو الذي روى عن المقدام.
[فأمر له معاوية بما لم يأمر لصاحبيه].
أي: اللذين معه الأسدي، وعمرو بن الأسود.
[وفرض لابنه في المائتين].
أي: ابن المقدام في المائتين، أو في المئين يعني: من العطاء الكثير، الذي هو في المئين، أو مائتين، أو مقداراً يتجاوز المائة.
[ففرقها المقدام في أصحابه].
أي: هذا العطاء الذي أعطيه، فرقه في أصحابه.
[ولم يعط الأسدي أحداً شيئاً مما أخذ].
ذلك الذي قال: جمرة أطفأها الله، لم يعط أحداً شيئاً مما أعطاه معاوية.
[فبلغ ذلك معاوية، فقال: أما المقدام فرجل كريم بسط يده].
أي أنه بلغ معاوية الذي حصل من توزيع المقدام ما أعطي من مالٍ، فقال: أما المقدام فكريم بسط يده، يعني: في البذل والعطاء والإحسان، وأما الأسدي فرجل حسن الإمساك لشيئه، يعني: أنه أمسك ما أعطاه معاوية ولم يبذل ماله كله كما حصل من المقدام رضي الله عنه.
محل الشاهد هو الجملة الثالثة من الجمل التي قالها.
المقدام: (أنشدك الله! هل تعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ركوب جلود السباع والجلوس عليها؟) وهذا فيه لفظ السباع، وهو أعم من النمر؛ لأنه يشمل النمور وغير النمور.(463/7)
تراجم رجال إسناد حديث المقدام بن معد يكرب أنه قال لمعاوية (فأنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس جلود السباع والركوب عليها)
قوله: [حدثنا عمرو بن عثمان بن سعيد الحمصي].
عمرو بن عثمان بن سعيد الحمصي صدوق، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن بقية].
بقية بن الوليد صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن بحير].
بحير بن سعد، ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن خالد].
خالد بن معدان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
و [المقدام بن معد يكرب].
رضي الله عنه صحابي، وحديثه أخرجه البخاري وأصحاب السنن.
[ومعاوية].
معاوية رضي الله عنه، أمير المؤمنين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والإسناد فيه بقية، وهو مدلس، لكن أظن أنه ذكر في عون المعبود أنه صرح بالتحديث كما في المسند، والألباني صححه.(463/8)
شرح حديث (نهى عن جلود السباع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد بن مسرهد أن يحيى بن سعيد وإسماعيل بن إبراهيم حدثاهم المعنى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه رضي الله عنه: (سأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن جلود السباع)].
أورد حديث أسامة بن عمير والد أبي المليح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع)، يعني: عن استعمالها لبساً وافتراشاً وركوباً.
وهذا فيه التعبير بالسباع كالذي قبله، فهو أعم من جلود النمور.(463/9)
تراجم رجال إسناد حديث نهى عن جلود السباع)
قوله: [حدثنا مسدد بن مسرهد أن يحيى بن سعيد].
يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وإسماعيل بن إبراهيم].
إسماعيل بن إبراهيم ابن علية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن أبي عروبة].
سعيد بن أبي عروبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة، مر ذكره.
[عن أبي المليح بن أسامة].
أبو المليح بن أسامة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
وهو صحابي أخرج له أصحاب السنن.(463/10)
الأسئلة(463/11)
وجه اقتصار طهارة جلود الميتة بدباغها على ما كان من مأكولات اللحم
السؤال
وردت ألفاظ متكاثرة في طهارة جلود الميتة بالدباغ، والملاحظ في الألفاظ أنها جاءت مطلقة: (ألا انتفعتم بإهابها)، (أيما إهاب دبغ فقد طهر)، (يطهرها الماء والقرظ)، دون تخصيص بمأكول اللحم أو دونه غيره، فما وجه تخصيصها بمأكولات اللحم؟!
الجواب
أولاً: من جهة أنه جاء في بعض الأحاديث ذكر الشاة.
ثانياً: أن الميتة هي خلاف المذكاة، وهذا إنما يكون في مأكول اللحم، وأما غير مأكول اللحم فسواء كان مذكىً أو غير مذكىً فهو ميتة؛ لأن الذكاة لا تحله، فمذكى غير مأكول اللحم كميتته.
ثالثاً: إنما ذكر الانتفاع بجلد الميتة ونص عليه لأن حلية المذكاة كانت لديهم أمراً معلوماً ومسلماً به ولا إشكال فيه، وأن العموم الذي جاء في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، يقصد به ما ليس بمذكى مما هو مأكول اللحم، أما الذي لا يؤكل لحمه، فهو محرمٌ مذكى أو غير مذكى، ولا يدخل تحت قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]؛ لأن المقصود بالميتة -كما تقدم- مباحة الأكل، وحرمت من أجل الموت من غير ذكاة، وأما غير مأكول اللحم فهو محرم سواء ذبح أو لم يذبح، مات حتف نفسه أو مات بذبحه؛ لأن ذبحه لا يجعله مذكى.
والسنة بينت أن جلد الميتة التي حرمت لأجل عدم الذكاة مستثنى من عموم النهي الوارد في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، فجاء بيان أن التحريم إنما هو للأكل، وأن التعميم الذي جاء في تحريم الميتة استثني منه -بالسنة- الجلد إذا دبغ.
رابعاً: الأحاديث التي جاءت في تحريم استعمال جلود السباع، تدل على أن الذي لا يؤكل لحمه لا يطهره الدبغ، ولا يحل استعماله بدبغه.(463/12)
حكم اتخاذ الأحذية من جلود الثعابين
السؤال
في بلادنا تُجعل جلود الثعابين أحذية؟
الجواب
هي من هذا الباب، أعني أن دباغتها لا تحلها؛ لأنها ليست من جلود ما يؤكل لحمه.(463/13)
حكم أخذ الميراث من مال مورث مشعوذ
السؤال
مات عمي مصدوماً بسيارة في اليمن، وكان مشعوذاً، وأنا وأبي مقيمان في المملكة، وأخرجت له دية في المحكمة من القاتل، واتصلت بأهلي فأرادوا مني أن أخبر أبي بأن يوكل من يقوم باستلام نصيبه من الدية؛ لأنه أحد الورثة، فهل لي أن أخبر أبي بذلك، وهل له الحق بأن يأخذ نصيبه من الدية، حيث إننا لا ندري بماذا ختم لعمي الميت الذي كان يعمل بالشعوذة؟
الجواب
الشعوذة لابد أولاً من تحديدها وتفسيرها، وبيان المقصود منها، وهل هذا الادعاء ثابت صحيح أو غير صحيح؟ وعلى كلٍ: الذي يظهر أن له أن يأخذ هذا الميراث، وإن تنزه عنه فهو خير إن شاء الله.(463/14)
حكم الاكتفاء بالشق عن اللحد عند دفن الميت
السؤال
قوله صلى الله عليه وسلم: (اللحد لنا والشق لغيرنا)، ما هو حكم الشق؟
الجواب
الشق جائز، ولكن اللحد أفضل منه، واللحد: هو الذي يحفر في جانب القبر من جهة القبلة، بحيث يميل عن فتحة القبر، فيدخل الميت فيه، ثم توضع عليه اللبن، فيكون فوق الميت جزء لم يحفر.
وسمي اللحد لحداً لميله عن فتحة حفر القبر.
وأما الشق: فهو يشق في وسط الحفرة التي حفرت، ويوضع الميت فيها وتوضع اللبن فوقه، وكل ذلك سائغ، وإن كان قوله: (الشق لغيرنا) إلا أن الشق أيضاً هو لنا، وهو جائز، ولكن اللحد أفضل منه وأولى منه.(463/15)
حكم أكل بعض الحيوانات غير المنصوص عليها في الكتاب والسنة
السؤال
هل يجوز أكل لحم الفيل والزرافة والكنغر، وما هي القاعدة في أكل لحوم الحيوانات؟
الجواب
معلوم أن الشريعة جاءت بقواعد في هذا الباب: فكل ذي مخلب من الطير وناب من السباع حرام، كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكذلك أيضاً فيما يتعلق بالاستخباث والمستخبث، وأما التفاصيل فيما يتعلق بأنواع من الحيوانات فهذا يرجع فيه إلى النصوص؛ ولكن الأصل الحل حتى يأتي شيء يدل على التحريم، أو يكون داخلاً في عمومات كالحيوان الذي يفترس بأنيابه أو مخالبه سواء من السباع أو الطيور أو يكون من المستخبثات ونحو هذا.
وينسحب هذا الحكم على سائر الحيوانات.(463/16)
حكم امتهان الشخاذة والسؤال وترك العمل
السؤال
وجدت بعض الناس في الحرم وداخل المسجد يسألون الناس بإلحاف، وسمعت أنهم يسألون للزيادة في المال واستكثاراً منه دون حاجة مبيحة للسؤال.
فهل هذا العمل حرام أم مكروه؟ وهل لي أن أستدعي لهم الشرطة ليأخذوهم؟
الجواب
الناس منهم المحتاج ومنهم الكاذب المتزيد، ولا شك أن من يسأل الناس تزيداً وتكثراً مذموم، ومن سأل الناس وهو محتاج فهو معذور؛ ولكن الإلحاف في الأسئلة والشدة في السؤال غير سديدة، فكون الإنسان يتعرض ويسأل إذا كان محتاجاً ولم يجد ما يكفيه، وهو مضطر إلى ذلك، له هذا.
وأما أن تستدعي الشرطة فلا تستدع الشرطة.(463/17)
حكم الصلاة خلف ابن زنا وحكم تعييره بذلك
السؤال
زنت امرأة فحملت ثم ولدت، واليوم أصبح هذا الولد عالماً بالدين، هل يصح أن نصلي وراءه، وهل يصح أن نقول له: ابن زنا؟
الجواب
لا ينبغي للإنسان أن يعير غيره، ولا أن يصفه بتلك الأوصاف، وابن الزنا إذا كان مستقيماً فذلك من فضل الله عز وجل عليه، وإن كان سيئاً وخبيثاً فهو كما جاء في الحديث: (شر الثلاثة)، يعني: إذا كان مثل أبويه فيكون شرهما؛ لأنه من ماء خبيث فيكون بهذا خبيثاً كأبويه، بل هو شر منهما لأنهما طيبان في الأصل إذا كانا من نكاح لا من سفاح؛ ولكنهما خبيثان من حيث فعلهما الزنا، وإذا كان ولد الزنا زانياً والعياذ بالله فهو شر الثلاثة؛ لأنه من أصل خبيث وفعله أيضاً خبيث، وأما إذا كان مستقيماً فليس له ذنب.
ولا يجوز تعيير المسلم ولا التنبيش عن الأشياء التي تسيئ إليه ويلحقه بسببها ضرر، وما دام أنه على خير، فليحرص الجميع على التسابق في الخير.
أما عن الصلاة وراءه فلا مانع، والصلاة صحيحة ولا يحق -بأي حال- التفتيش عن أصله.(463/18)
حكم أرباح الأسهم في شركة (صافولا)
السؤال
لي أسهم بشركة صافولا ونشاطها -في الغالب- بالمواد الغذائية، والزيوت النباتية، توزع في آخر العام أرباحاً بواقع أحد عشر ريالاً سعودياً للسهم الواحد، فما حكم ذلك؟
الجواب
الشركات إذا كان عملها صحيحاً، والمهنة التي تقوم بها طيبة، وليس فيها محذور، وإن حصل منها أرباح استفاد منها الجميع، وإن حصل ضرر تضرر منها الجميع، فهي جائزة.(463/19)
حكم طلاق الحامل
السؤال
هل طلاق الحامل يقع؟
الجواب
نعم يقع، لأنها إن طلقت المرأة حاملاً أو حائلاً يقع.
(حائلاً) معناها: ليست حاملاً، ولهذا تعتد المرأة التي تحيض بثلاث حيضات حتى يتحقق براءة رحمها، وأيضاً من باب حق الزوج، وأما الحامل فهي تطلق؛ وعدتها وضع الحمل.(463/20)
حكم سؤال الشخص غيره أن يناوله شيئاً
السؤال
ورد في الخبر أن الصحابة رضي الله عنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يسألوا الناس شيئاً، فهل يجوز أن أقول لأخ لي وأنا جالس: ناولني كذا، أو أعطني كذا، أو هات هذا الشيء؟
الجواب
الإنسان عندما يحتاج إلى غيره لا بأس أن يسأله؛ ولكن ما ورد عن الصحابة نابع من ورعهم ومن حرصهم على أن يستغنوا عن غيرهم.(463/21)
حكم الحديث الوارد من طريقين في كل واحدة منهما مجهول
السؤال
إذا كان للحديث طريقان أو أكثر وكان في إسناد الأول مجهول، وفي الثاني مجهول فهل يرتقي إلى درجة الحسن لغيره؟
الجواب
إذا كانت الجهالة جهالة حال، فهذا يمكن أن يقوي بعضهما بعضاً، إذا كانا من طريقين مختلفين.(463/22)
الحكم على حديث (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا) وبيان معناه
السؤال
ما صحة هذا الحديث وما معناه: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا)؟
الجواب
لا أتذكر شيئاً عن صحته؛ لكن معناه: أنه من يأتي بنعرات الجاهلية وأشياء كان يتعزى بها في الجاهلية كالنعرات التي تكون بين القبائل، وانتصار بعضهم لبعض بحق وبباطل؛ فمثل هذا يشنع عليه ولو استدعى الأمر للتصريح وترك الكناية.(463/23)
من صيغ الإباحة (أمر) في حالات مخصوصة
السؤال
هل من صيغ الإباحة (أمر) مثل: أمر النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
نعم، الأمر قد يأتي للإباحة، وللإنسان أن يأخذ به، وله أن لا يأخذ به، وهذا من جنس: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] معناه: أنه كان محرماً عليهم الاصطياد، وبعد ذلك أبيح، وليس معناه: أن المحرم إذا أحل من إحرامه فإنه يجب عليه الاصطياد والبحث عن الصيد، وإنما معناه أنه مباح له أن يصطاد.(463/24)
معنى (المقطوع) من أنواع الحديث حسب المتن
السؤال
هل المقطوع يشمل ما أضيف لغير التابعي ممن هو دونه؟
الجواب
المتن الذي انتهى سنده إلى التابعي أو من دون التابعي يقال له: مقطوع؛ مثل ما يروى عن الزهري وغيره من التابعين ومن بعدهم.(463/25)
حكم من أناب شخصاً يرمي عنه الجمار مع أن الموكِّل ليس في منى
السؤال
ناب رجل عن امرأة مسنة في رمي الجمرات في اليوم الثاني عشر، وهي غادرت منى ضحى؛ لكنها طافت طواف الوداع في اليوم الثالث عشر، والنائب رمى الجمرات في اليوم الثاني عشر بعد الزوال؛ لكن المرأة ما كانت في ذلك الوقت في منى، فهل العمل صحيح؟
الجواب
الرمي صحيح.(463/26)
حكم الاتجار بجلود الميتة
السؤال
هل يجوز بيع جلد الميتة؟
الجواب
ما دام أنه يجوز الانتفاع به فيجوز بيعه.(463/27)
حكم دباغة الجلود باللبن بدون ماء
السؤال
الجلد عندنا يدبغ باللبن، فهل يجوز هذا؟
الجواب
دبغه بأي شيء طاهر جائز.
أما هل يجوز استعماله دون غسل بالماء؟ معلوم أنه جاء في الحديث: (يطهره الماء والقرظ)، فقيل إن المقصود بأنه يقرظ بالماء، وقيل: إنه يغسل به بعد دبغه حتى يذهب ما علق به بسبب الدبغ.
وعلى كلٍ يجوز الدبغ باللبن، ولكن لابد من إزالة آثار الدبغ، وذلك يكون بالماء.(463/28)
حكم افتراش النساء للحرير
السؤال
هل يجوز على النساء الجلوس على الخزّ؟
الجواب
هذا هو الذي يظهر؛ لأن الذي أبيح لهن اللبس، مثل استعمال آنية الذهب والفضة، يباح لهن استعمال الذهب والفضة في اللبس، ولا يجوز لهن استعمالهما في الأواني للأكل والشرب.(463/29)
حكم الصلاة على ما فيه صور
السؤال
ما حكم الجلوس والصلاة والنوم على المفارش التي يوجد عليها صورة عامة مثل النمور وغيرها؟
الجواب
كونه يجلس عليها وتمتهن وتفترش لا بأس به، هذا إذا ابتلي بها الإنسان، أعني فلا يحرقها ولا يتلفها إذا ابتلي بها بأن ورثها أو وصلت إليه، وأما إن كان عن طريق الشراء، فلا يشتري شيئاً فيه تلك المحاذير، وإنما يشتري شيئاً سليماً، لكن إذا وصلت إليه بميراث أو غيره فإنه يستعملها ولا يتلفها إذا كان يمتهنها.
وأما الصلاة فلا يصح للإنسان أن يصلي عليها وفيها صور، كما أن الإنسان لا يصلي في ثوب فيه صور؛ فكذلك لا يصلي على فرش فيها صور.(463/30)
حكم الخلافة الملكية
السؤال
جاء في الحديث: (ستكون بعدي الخلافة ثلاثون عاماً ثم يكون بعدها الملك)، فهل الملك من شريعتنا، وهل هو جائز؟
الجواب
هذا جاء في حديث سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء)، وأيضاً: جاء في بعض الأحاديث أن هؤلاء الذين وصفوا بأنهم ملوك أيضاً خلفاء، حيث جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر خليفة)، فإن ثمانية من هؤلاء الاثني عشر هم من الملوك، ومع ذلك وصفوا بأنهم خلفاء، والمعلوم أن المقصود في الشريعة حصول الولاية، وتكون باتفاق أهل الحل والعقد، وتكون بعهد الخليفة إلى خليفة بعده، وتكون بالتغلب والقهر والغلبة، ويلزم في كل ذلك السمع والطاعة.(463/31)
شرح سنن أبي داود [464]
من عظمة هذا الدين أنه ما ترك أمراً إلا ذكر أحكامه الشرعية، ومن ذلك أحكام لبس النعلين وآدابه، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة ينبغي الإلمام بها والعمل بآدابها.(464/1)
الانتعال(464/2)
شرح حديث (أكثروا من النعال فإن الرجل لا يزال راكباً ما انتعل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الانتعال.
حدثنا محمد بن الصباح البزاز، حدثنا ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فقال: (أكثروا من النعال، فإن الرجل لا يزال راكباً ما انتعل)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في الانتعال] أي: في لبس النعال.
وأورد حديث جابر رضي الله عنه أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال: (أكثروا من النعال، فإن الرجل لا يزال راكباً ما انتعل).
فقوله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من النعال) يستفاد منه أن الإنسان خاصة المسافر -كما جاء في الحديث أنه في السفر- يجعل معه نعالاً من باب الاحتياط، إذ إنه قال: (أكثروا من النعال)، ومعنى ذلك أن الإنسان يأخذ حاجته من النعال في سفره، سواء الذي يلبسه أو الذي يحمله معه على سبيل الاحتياط.
وفي هذا الزمان مع سهولة المواصلات ووجود النعال في كل مكان يحل فيه الإنسان، فيمكن أن يحصل ذلك عن طريق الشراء، إذا لم يحمل معه زيادة على ما يستعمله؛ وذلك لأنه إذا حصل أن فسدت نعلاه أو انقطعتا، فإنه يكون عنده شيء يقوم مقام ذلك؛ لأن الإنسان إذا مشى بغير نعال، فإنه يعرض رجليه للضرر بأن يطأ على شوك، أو على زجاج، أو يطأ على شيء يلحق به ضرراً.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فإن الرجل لا يزال راكباً ما انتعل)؛ لأن الانتعال مثل الركوب، ومعلوم أن الإنسان الراكب تسلم رجلاه من الضرر الذي يكون في الأرض؛ لأنه راكب ورجلاه لا تمسان الأرض؛ فكذلك إذا كان منتعلاً، فإنه بمثابة الراكب؛ لأن هناك شيئاً يحول بينه وبين الأرض وهو النعال، فيسلم مما فيها من ضرر.
وفي هذا الإشارة إلى الأخذ بالأسباب، وأن فعل الأسباب مأمور به ومطلوب، والأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل كما هو معلوم، ومعلوم أيضاً أن اتخاذ النعال من أجل الوقاية مما يحصل في الأرض من ضرر إما من شوك أو من زجاج أو من حر رمضاء إذا كان في شدة الصيف أو غير ذلك من الأمور التي قد تحصل للإنسان ضرر بسببها، فيكون في ذلك وقاية لرجليه.
والتقوى في اللغة -كما يقول العلماء- أن يجعل الإنسان بينه وبين الشيء الذي يخافه وقاية تقيه منه، وذلك مثل استعمال النعال للوقاية من الأشياء الضارة التي تكون على الأرض، فيتخذ النعال لتقيه ذلك، وتحول بينه وبين ذلك الشيء الذي يضره.
فالحديث دليل على الأخذ بالأسباب وأن الأخذ بها لا ينافي التوكل، وفيه أن الإنسان يأخذ في سفره ما يحتاج إليه من نعال وغيرها احتياطاً، لأن السفر مظنة أن يضطر إليها خلال الطريق.
وكذلك أيضاً فيه بيان فوائد النعال وأن المنتعل كالراكب، وأن الراكب يأمن من الأضرار التي تكون في الأرض كونه راكباً على الدابة؛ وكذلك الذي يكون منتعلاً قد اتخذ ما يقيه من الضرر الذي يكون في الأرض.(464/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أكثروا من النعال فإن الرجل لا يزال راكباً ما انتعل)
قوله: [حدثنا محمد بن الصباح البزاز].
محمد بن الصباح البزاز ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي الزناد].
هو عبد الرحمن بن أبي الزناد، صدوق أخرج له في البخاري تعليقاً ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن، وأبو الزناد أبوه، واسمه عبد الله بن ذكوان، وأبو الزناد لقب وأما كنيته فهو أبو عبد الرحمن يكنى بابنه هذا ولقبه على صيغة الكنية.
[عن موسى بن عقبة].
موسى بن عقبة المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي، صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(464/4)
شرح حديث (أن نعل النبي صلى الله عليه وسلم كان لها قبالان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا همام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه: (أن نعل النبي صلى الله عليه وسلم كان لها قبالان)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن نعل النبي صلى الله عليه وسلم كان له قبالان.
وقيل في معنى القبالين: هما الخيوط التي تكون في مقدم النعل، والتي تكون بين الأصابع، يعني: متصلة بالشسع الذي يكون على جانبي وظهر القدم.
وذكر بعضهم أن كل رجل لها قبال، وهو الذي يكون بين الوسطى والتي تليها يعني: أنه سير يكون بين الإصبعين الوسطى والتي تليها.
وقيل: إنهما قبالان لكل رجل، فيكون بين الإبهام وبين التي تليها سير، وبين الوسطى والتي تليها سير آخر، فتكون كل رجل فيها قبالان، كما قاله بعض أهل اللغة.
وهو غير الشراك، فالشراك: هو الشسع، الذي يكون معترضاً.(464/5)
تراجم رجال إسناد حديث (أن نعل النبي صلى الله عليه وسلم كان لها قبالان)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا همام].
همام بن يحيى العوذي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد من أعلى الأسانيد عن أبي داود، وهي رباعيات.(464/6)
شرح حديث (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتعل الرجل قائماً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى أخبرنا أبو أحمد الزبيري حدثنا إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتعل الرجل قائما)].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى أن ينتعل الرجل قائماً.
والمقصود كما هو واضح من لفظ الحديث: أن ينتعل الإنسان وهو جالس؛ وذلك لأنه يكون أسهل وأرفق به.
والحديث فيه النهي عن الانتعال قائماً، وقيل: إن سبب ذلك أنه قد يؤدي إلى سقوطه إذا أراد أن يشد نعليه وهو قائم، ويحتاج إلى معالجتها بيده وقد يؤدي بذلك إلى سقوطه؛ ولكنه إذا كان جالساً يكون أريح؛ أما إذا كان الأمر لا يحتاج إلى عناء وإلى مشقة، ولا يشق عليه لبسه وهو قائم كما هو موجود في كثير من النعال التي لا تحتاج إلى أن تشد، وإنما يدخل الإنسان قدمه فيها، فإنه لا بأس بلبسه قائماً، ويكون النهي محمولاً على ما إذا كان يترتب عليه مضرة، أو يخشى أن يترتب عليه مضرة، أما إذا كان ما يخشى حصول مضرة فإنه لا بأس بذلك.(464/7)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتعل الرجل قائماً)
قوله: [حدثنا محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى].
محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى هو الملقب: صاعقة، وهو ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[أخبرنا أبو أحمد الزبيري].
هو محمد بن عبد الله، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إبراهيم بن طهمان].
إبراهيم بن طهمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير عن جابر].
أبو الزبير مر ذكره، وجابر قد مر ذكره.(464/8)
الحكم على الحديث وبيان عموم معناه
والحديث فيه عنعنة أبي الزبير، وهو مدلس.
وعنعنة المدلسين في غير الصحيحين إذا لم يوجد ما يدل على الاتصال تكون مؤثرة، بخلاف ما إذا كانت في الصحيحين؛ لأن صاحب الصحيح اشترط الصحة فيما يذكره وفيما يأتي به، وإذا كان خارج الصحيحين لا يسلم من المقال.
إذا كان الحديث ليس له إلا الإسناد الذي فيه عنعنة أبي الزبير فعنعنته في غير الصحيحين مؤثرة، وإن صح فهو محمول على ما ذكرت، والألباني يصححه، ولكنه محمول على ما ذكرت من ناحية ما قد يحصل بسببه من الضرر، وأنه قد يحصل الوقوع.
وذكر الرجل لا مفهوم له؛ وكذلك ذكره في الحديث الذي سبق: (فإن الرجل لا يزال راكباً ما انتعل)، فهو أيضاً لا مفهوم له؛ لأن حكم الرجال والنساء واحد، ولا فرق بين الرجال والنساء في الأحكام إلا فيما يأتي نص خاص يميز الرجال عن النساء، أو يميز النساء عن الرجال، وإلا فإن الأصل هو التساوي بين الرجال والنساء فذكر الرجل في الحديثين اللذين وردا في هذا الباب لا مفهوم لهما؛ لأن الرجال والنساء في ذلك سواء، ولكن الغالب أن الخطاب مع الرجال، فمن أجل ذلك جاء ذكر الرجل، وهذا كثيراً ما يأتي في الأحاديث النبوية، مثل (نهى عن تقدم رمضان بيوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه)، يعني: وكذلك المرأة، ومثل: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من الغرماء)، ومثله المرأة فالأصل عموم التشريع إلا ما خصه الدليل.
نُهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، للتنزيه، ومثل هذه الأمور في الآداب الغالب أنها للتنزيه.(464/9)
شرح حديث (لا يمش أحدكم في النعل الواحدة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمش أحدكم في النعل الواحدة، لينتعلهما جميعاً أو ليخلعهما جميعاً)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة: (لا يمش أحدكم في النعل الواحدة، لينتعلهما جميعاً أو ليخلعهما جميعاً)، هذا يدل على أن من آداب الانتعال أن الإنسان عليه أن ينتعل في رجليه جميعاً، وهو إما أن يحفيهما جميعاً أو ينتعل فيهما جميعاً، أما أن يمشي برجل انتعلت ورجل حافية، فهذا هو الذي جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عنه؛ وذلك أنه يترتب على ذلك محاذير: منها: أن توازن الإنسان لا يحصل إذا كان لابس النعل في إحدى رجليه والأخرى حافية، وقد تكون مشيته كمشية الأعرج، لأن إحداهما عالية والأخرى منخفضة، وغير المنتعلة تتأثر فيكون ماشياً على حذر وعلى حرص على مراقبة تلك الرجل حتى لا يصيبها شيء؛ بخلاف ما إذا كان الإنسان قد نعلهما جميعاً أو أحفاهما جميعاً، فإن التوازن موجود، وقد سلم من تبعة الحفا لإحدهما والانتعال للأخرى.
وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشبه هذه المسألة، وهي النهي عن أن يكون الإنسان بعضه في الظل وبعضه في الشمس؛ لأن ذلك يكون له تأثير على الجسد؛ لأن بعضه قد يصيبه برودة لأنه في الظل، وبعضه يصيبه حرارة لأنه في الشمس، فهو إما أن يكون في الشمس كله أو يكون في الظل كله، وكذا من ينام أو يضطجع بعضه في الشمس وبعضه في الظل، ففيه ذلك المحذور الذي هو مثل محذور نعل أحد الرجلين وإحفاء أحدهما.
ومثل ذلك أيضاً القزع الذي يكون فيه حلق بعض الرأس وترك بعض الرأس، فهذا أيضاً لا يجوز؛ ولهذا جاء في قصة لأحد أبناء جعفر لما حلقوا بعض رأسه قال: (احلقوه كله أو دعوه كله)، معناه: أن الرأس يعامل معاملة واحدة فإما أن يحلق كله أو يبقى كله، ولا يحلق بعضه ويترك بعضه.(464/10)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يمش أحدكم في النعل الواحدة)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
عن مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة، المشهورة من مذاهب أهل السنة، والحديث أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزناد].
عبد الله بن ذكوان المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعرج].
هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.(464/11)
العلة في النهي عن الانتعال بنعل واحدة وترك الرجل الأخرى حافية
أورد الشيخ الألباني رحمه الله حديثاً صحيحاً عند الطحاوي، فيه: أن العلة من النهي عن لبس نعل واحدة أنها مشية الشيطان، والحديث ذكره في السلسلة الصحيحة.
وهذا تعليل بالنص، بالإضافة إلى هذه المعاني التي ذكرها العلماء.(464/12)
شرح حديث (إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمش في نعل واحدة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا زهير حدثنا أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمش في نعل واحدة حتى يصلح شسعه، ولا يمش في خف واحد، ولا يأكل بشماله)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه، وهو بمعنى الحديث الأول الذي قبله، وفيه ذكر هذه الهيئة في الانتعال، والإشارة إلى طروئها، وهي كون الإنسان لابساً نعليه ثم ينقطع الشسع، فلا يمش في الرجل الأخرى حتى يصلحه، وهذا يفيد أنه في جميع الأحوال لا تتخذ هذه الطريقة التي هي الانتعال بإحدى الرجلين دون الأخرى، ولو كان ذلك طارئاً، ومن باب أولى إذا لم يكن طارئاً.
ثم أيضاً مما ذكروه في بيان العلة من ذلك: أنه إذا كان يمشي بنعل واحدة فهذا يستدل به على قلة الرأي، وعلى خلل في العقل، وأن من يفعل مثل هذا قد يتهم في عقله، لأن هذه هيئة قبيحة غير حسنة.
فالحديث هنا يدل على أنه في جميع الأحوال حتى في حالة انقطاع شسع إحدى النعلين فإنه يحفي الرجل الثانية، بحيث يمشي حافي الرجلين، ولا يمشي بالنعل الثانية حتى يصلح الأولى فيمشي فيهما، سواء كان ذلك طارئاً أو كان ذلك من غير طروء، كأن يكون ذلك ابتداء، فكل ذلك لا يجوز، وإذا حصل النهي عنه فيما إذا كان طارئاً كانقطاع شسع إحدى النعلين، فمن باب أولى أن يبتدئ المشي منتعلاً لإحدى الرجلين دون الأخرى.
[(ولا يمش في خف واحد)].
الخف مثل النعل، فلا يمشي الشخص في نعل ولا في خف واحد، لكن في الخفين جميعاً أو في النعلين جميعاً، والخف مثل النعل، إلا أن الخف كما هو معلوم يغطي الرجل ويمسح عليه بخلاف النعل.
وكذلك لا يستعمل الجورب الواحد على رجل والأخرى بلا جورب؛ لأن الجورب مثل النعل والخف.
[(ولا يأكل بشماله)].
أيضاً: مما جاء الحديث بمنعه الأكل بالشمال، وورد في بعض الأحاديث: (فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله)، وهو حديث صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(464/13)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمش في نعل واحدة)
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
هو: هشام بن عبد الملك الطيالسي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو الزبير عن جابر].
وقد مر ذكرهما.
وهذا من الرباعيات، عند أبي داود.(464/14)
شرح حديث (من السنة إذا جلس الرجل أن يخلع نعليه فيضعهما بجنبه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا عبد الله بن هارون عن زياد بن سعد عن أبي نهيك عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (من السنة إذا جلس الرجل أن يخلع نعليه فيضعهما بجنبه)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس قال: (من السنة إذا خلع الإنسان نعليه أن يضعهما بجنبه) يعني: لا يضعهما أمامه ولا عن يمينه ولا من ورائه، وإنما يضعهما بجنبه.
قيل: إنها لا توضع في اليمين؛ إكراماً لجهة اليمين، ولا يضعهما أمامه؛ لأنه يكون مستقبلاً لهما، ولا خلفه لئلا يذهب وينساهما، أو تسرقان فلا يشعر بهما؛ لكن الحديث في إسناده ضعف، وهو غير ثابت؛ لأن في سنده عبد الله بن هارون، وهو مقبول، يعني: فهو غير ثابت.
[عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (من السنة)].
الصحابي عندما يقول: (من السنة) فإنه له حكم الرفع، أي أنه مضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الحديث في إسناده ضعف.(464/15)
تراجم رجال إسناد حديث (من السنة إذا جلس الرجل أن يخلع نعليه فيضعهما بجنيه)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا صفوان بن عيسى].
صفوان بن عيسى ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الله بن هارون].
عبد الله بن هارون مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود.
[عن زياد بن سعد].
زياد بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي نهيك].
أبو نهيك هو عثمان بن نهيك، ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(464/16)
شرح حديث (إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين) وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا نزع فليبدأ بالشمال، ولتكن اليمين أولهما ينتعل وآخرهما ينزع)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين وإذا نزع فليبدأ بالشمال، ولتكن اليمنى أولهما تنتعل وآخرهما تنزع).
هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يبدأ باليمين في جميع الأمور التي هي محل تكريم، وتستعمل الشمال في الأمور التي بخلاف ذلك، فيبدأ باليمين في اللبس -عندما يلبس النعلين أوالخفين أو الثوب- وكذلك عند دخول المسجد، وكذلك في جميع الأمور التي من شأنها التكريم، فإنه يبدأ باليمين، واليمنى هي التي تكرم، ولهذا كان نصيبها في التكريم أنه يبدأ بها عند اللبس، وعند النزع يبدأ باليسرى ثم تنزع اليمنى بعد ذلك، فيكون نصيبها من اللبس ومن التكريم أوفر من اليسرى؛ لأنه بدأ بها قبل اليسرى، وأيضاً ختم بها فصارت اليسرى أقل منها حظاً وأقل منها شأناً في ذلك؛ لأن تلك زادت عليها بالبداية وزادت عليها بالنهاية، وكذلك أيضاً في دخول المسجد والخروج منه، فإن اليمين تكرم بأن يبدأ دخول المسجد بها، ثم أيضاً تكرم بأن تكون اليسرى هي التي تخرج أولاً، وتبقى اليمنى فيكون نصيبها أكثر من المسجد والمكث فيه.
[حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة].
هؤلاء مر ذكرهم جميعاً.(464/17)
شرح حديث (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله في طهوره وترجله وتنعله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر ومسلم بن إبراهيم قالا: حدثنا شعبة عن الأشعث بن سليم عن أبيه عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله، في طهوره وترجله ونعله قال: مسلم: وسواكه، ولم يذكر: في شأنه كله).
قال أبو داود: رواه عن شعبة معاذ ولم يذكر (سواكه)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله).
أي: في الأمور التي تحتاج إلى تكريم، فيبدأ بالشق الأيمن إذا جاء للترجل، وكذلك عند لبس النعل، وكذلك لبس الثوب، وهكذا في شأنه كله، والمقصود ما هو محل تكريم، ومن ذلك الوضوء والسواك.
[قال مسلم: وسواكه].
هو أحد شيخيه، وهو مسلم بن إبراهيم.
(وسواكه) يعني: يحب التيمن أيضاً في سواكه، فيبدأ بالشق الأيمن من فمه.
يعني: أن مسلماً ذكر سواكه.
[ولم يذكر: في شأنه كله].
يعني: عنده تلك الزيادة وعنده نقص، والنقص هو أنه لم يذكر: [وفي شأنه كله].
وأما حفص فإنه لم يذكر السواك.(464/18)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله في طهوره وترجله وتنعله)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[ومسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأشعث بن سليم].
الأشعث بن سليم وهو ابن أبي الشعثاء، ثقة أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو سليم بن الأسود، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسروق].
مسروق بن الأجدع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود: رواه عن شعبة معاذ، ولم يذكر سواكه].
يعني: كرواية حفص بن عمر شيخه الأول، فما ذكر السواك، والذي ذكره مسلم بن إبراهيم الشيخ الثاني.
ومعاذ بن معاذ ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.(464/19)
شرح حديث (إذا لبستم وإذا توضأتم فابدءوا بأيمانكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا لبستم وإذا توضأتم فابدءوا بأيمانكم)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة: (إذا لبستم وإذا توضأتم فابدءوا بأيمانكم).
[إذا لبستم].
يعني: ثياباً أو نعالاً، فابدءوا بأيمانكم.
[وإذا توضأتم فابدءوا بأيمانكم].
يعني: أن يبدأ باليد اليمنى ثم اليد اليسرى، وكذلك الرجل اليمنى ثم الرجل اليسرى.
والبدء باليمين ليس بواجب بل هو مستحب، وقد أجمع العلماء على أنه مستحب، وأنه لو حصل أن غسل الرجل اليسرى قبل اليمنى فإنه يصح، ولكنه ترك الأمر المستحب.(464/20)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا لبستم وإذا توضأتم فابدءوا بأيمانكم)
قوله: [حدثنا النفيلي].
هو: عبد الله بن محمد النفيلي، ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا زهير].
زهير مر ذكره.
[حدثنا الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
أبو صالح وهو ذكوان السمان، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.(464/21)
الأسئلة(464/22)
كيفية التيمن في السواك
السؤال
ألا يحمل قوله في حديث التيمن: (وسواكه) على أنه يستاك بيمينه؟
الجواب
الذي يظهر أن المقصود به التيمن؛ لأنه قال: (يعجبه التيمن في كذا) ومعناه البداءة؛ لأن هذه الأمور التي ذكرت هي بداءة، يعني: يبدأ بالشق الأيمن في نعله وفي طهوره وفي كذا وفي سواكه، فيكون هذا هو معناه، والله أعلم.(464/23)
حكم لبس الساعة في اليمين
السؤال
هل يدخل لبس الساعة في اليمين في (يعجبه التيمن في كل شيء)؟
الجواب
الذي يبدو أن الأمر في ذلك واسع، وإذا لبسها الإنسان في اليمين على اعتبار عموم هذا الحديث فله وجه، ويمكن أيضاً ألا تكون من هذا القبيل؛ لأن المقصود بالذي مر ما فيه بدء ونهاية، وأما لبس الساعة فليس ما فيه بدء ونهاية، وهي مثل الخاتم، فكما أن الإنسان يضع الخاتم في اليمين أو في الشمال، فكذلك الساعة يضعها في اليمين أو في الشمال.(464/24)
استحباب الجهة اليمنى في الصف للصلاة
السؤال
هل يدل حديث التيمن على استحباب الجهة اليمنى في صفوف الصلاة؟
الجواب
نعم، يدل على ذلك.(464/25)
الإكراه في الشرك والكفر
السؤال
هل الإكراه في الشرك كالإكراه على الكفر؟
الجواب
لا فرق بين هذا وهذا، فالإنسان قد يكره على أن يقول شيئاً ويتكلم بشيء، سواء كان شركاً أو كفراً، والكفر أوسع وأعم من الشرك؛ لأن الكفر يشمل الشرك وغيره، والشرك داخل في الكفر، فهو أخص.(464/26)
حكم تكرار السورة في صلاة واحدة
السؤال
ما حكم تكرار السورة في صلاة واحدة؟
الجواب
لا بأس بتكرار السورة في صلاة واحدة، فقد سبق أن مر بنا في سنن أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم كرر إذا زلزلت في الركعتين، ومما يدل على ذلك قصة الرجل الذي كان يقرأ بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، ويكررها مع السورة التي يقرؤها؟!(464/27)
حكم الصلاة في الصفوف المقطوعة
السؤال
ما حكم الصلاة في الصفوف المقطوعة؟
الجواب
الصلاة صحيحة، ولكن قطع الصفوف يحصل به الإثم؛ لأن التسوية مطلوبة وقطعها حرام، ومن كان سبباً في ذلك أو حصل منه ذلك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تقدموا فأتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله).(464/28)
حكم من طاف في الصحن وعند محاذاة الحجر اتجه خطوات إلى المسعى لشدة الزحام
السؤال
ما حكم من طاف من الصحن، وعند محاذاة الحجر نزل خطوات إلى المسعى لشدة الزحام؟
الجواب
لا بأس؛ لأن المسعى من المسجد، وسطح المسعى من المسجد.(464/29)
حكم من طاف أشواطاً في الدور الثاني والبقية في صحن المسجد أو العكس
السؤال
ما حكم من طاف ثلاثة أشواط من الدور الثاني وأكمل في الصحن، أو العكس؟
الجواب
لا بأس بأن يطوف في الأسفل ويجد الزحام شديداً ثم ينتقل، لكنه يبدأ في كل شوط من محاذاة الحجر الأسود.(464/30)
حكم الخطوط في المساجد لتسوية الصفوف
السؤال
هذا يذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم (سووا صفوفكم وحاذوا بين المناكب)، قال: ياحبذا لو يكلم المسئول عن المسجد النبوي أن تُعمل خطوط لتنظيم الصفوف، فما رأيكم؟!
الجواب
لا يحتاج الأمر إلى خطوط، وإنما الناس يصفون بدون خطوط وكلٌ ينظر إلى من بجواره إلى جهة الإمام، فإذا كانوا على يسار الإمام فكل واحد ينظر إلى جهة اليمين، وإذا كانوا من جهة اليسار من الإمام ينظر إلى جاره من جهة اليسار، وتسوى الصفوف.(464/31)
حكم من أتى أهله في دبرها في نهار رمضان
السؤال
من أتى امرأته في دبرها في نهار رمضان، فهل عليه القضاء والكفارة، كما لو أتاها في قبلها؟!
الجواب
لا شك أن القضاء لازم له، حتى لو حصل منه قضاء الشهوة في غير جماع، فمن أفطر بإنزال المني باختياره وبتعمده وبتسببه، فعليه القضاء، وهو لازم له.
وأما ما يتعلق بالكفارة، فالكفارة وقعت بالجماع، لكن لا أدري ما الحكم بالنسبة لهذا العمل المحرم فيما يتعلق بالكفارة، لكنه من ناحية القضاء لابد منه.(464/32)
حكم من أوصى بتغسيل كفنه بماء زمزم
السؤال
من أمره والده أن يغسل له كفنه بماء زمزم، فهل يفعل؟
الجواب
لا بأس بذلك، لكن كون الناس يتخذون ذلك طريقة يلزمونها كأنه مستحب وأنه سنة، لا نعلم شيئاً يدل عليه، ولو أقنع والده وقال له: إن العبرة بالأعمال الصالحة فهو خير، فإن حصل أنه غسله بماء زمزم فلا بأس بذلك.(464/33)
حكم بيع السلع بضعف ثمنها
السؤال
هل يمكنني أن أبيع السلع التي أشتريها بأن أزيد على ثمنها أكثر من نصف الثمن -بضعفي الثمن مثلاً- أم أن ذلك يعتبر ربا؟
الجواب
لا يقال له ربا، لكن كون الإنسان يزيد في الأسعار زيادة فاحشة، فذلك به غبن للناس وأما إذا باعها في بلد آخر، وكانت الأسعار في ذلك البلد مرتفعة، فلا بأس ولو كانت بأضعاف مضاعفة وأما في نفس البلد الذي فيه السعر فإنه يمكن أن يكون ذلك من باب الغبن.(464/34)
حكم رفع الصوت بـ (لا إله إلا الله) حال اتباع الجنازة وتلقين الميت بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
السؤال
عندنا في البلد إذا حملوا الجنازة فإنهم جميعاً يقولون بصوت واحد: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) إلى أن يصلوا إلى القبر، وإذا بدءوا بدفنها قالوا بصوت واحد: (إذا ضاق عليك الحال فناد يا رسول الله) إلى حين الفراغ من دفنها، فما الحكم؟!
الجواب
أما ذكر التهليل فلا نعلم له أصلاً، والكلام الآخر كلام قبيح، وفيه دعوة إلى الشرك، وإلى الاستغاثة بغير الله، فهذا بالإضافة إلى كونه أمراً منكراً ليس له أساس؛ وهو في الحقيقة دعوة إلى الشرك، وإظهار للشرك.(464/35)
حكم كف الثوب قبل الصلاة إذا كان دون الكعبين
السؤال
بعض المصلين إذا أراد الدخول في الصلاة، وكانت ثيابه أسفل من الكعبين، كفها حتى تكون فوق الكعبين، فهل هذا العمل صحيح؟
الجواب
الواجب هو أن يكفها دائماً برفعها أو قطعها، وأما رفع ثيابه وكف ثيابه فقد جاء ما يدل على منعه.(464/36)
تضاعف الأجر والإثم في المكان الفاضل والوقت الفاضل
السؤال
هل تضاعف السيئات وتعظم الحسنات في الحرمين؟!
الجواب
الذي ورد بالنسبة للصلاة أنها تضاعف في مكة والمدينة، أما غيرها فلا نعلم شيئاً يدل على التضعيف في العدد، ولكن لا شك أن الحسنة في المكان المقدس وفي الزمان المقدس لها شأنها، ولها فضلها، وكذلك السيئة في المكان المقدس، وفي الزمان المقدس، لها خطرها، لكن التضعيف بالعدد، لا نعلم شيئاً يدل عليه إلا فيما يتعلق بالصلاة، فإنه الذي ورد فيه التضعيف في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وفي المسجد الحرام.
والسيئات لا تضاعف بأعدادها، ولكنها قد تضخم من ناحية الكيفية، بمعنى أن السيئة لا تكون سيئتين أو ثلاثاً، وإنما تضخم وتعظم، وذلك أن السيئة ومعصية الله في الحرم ليست كمعصيته في غير الحرم، من يعص الله عند الكعبة ليس كمن يعصيه في مكان بعيد عن الكعبة، وهذا نظير ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: (لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار) لأن الصغيرة مع الإصرار تضخم، حتى تلحق بالكبائر، يعني: قلة الاهتمام والمبالاة يجعلها تضخم، وكذلك المعاصي في الحرم والأماكن المقدسة تضخم في كيفيتها، لا في كميتها، بمعنى أنها تكون كما هي من حيث الأعداد؛ لأن السيئة بالسيئة، فلا يعاقب بالسيئة سيئتين، وإنما يعاقب على سيئة واحدة، لكن السيئة الواحدة تختلف، فقد تكون في مكان أكبر منها في مكان آخر، السيئة في الحرم أضخم وأعظم من السيئة في مكان آخر.
والحاصل أن التضعيف بالنسبة للحسنات جاء في الصلاة بالنسبة للعدد، وفي غير ذلك لا نعلم شيئاً؛ لكن لا شك أن الحسنة في الحرم لها شأنها ولها فضلها، والسيئة في الحرم لها خطرها.(464/37)
حكم تعليق جلود السباع للزينة أو التداوي بها
السؤال
ما حكم تعليق جلود السباع مثل الذئب والثعلب في البيوت من أجل الزينة أو التداوي بها؟!
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم حرم ذلك، وقال: (لا تصحب الملائكة رفقة فيهم جلد نمر)، فهذا إذا كانت الملائكة تبتعد عن الرفقة لأن فيهم ذلك الإهاب الذي هو من جلود السباع فكذلك البيوت؛ لأن كون الملائكة تبتعد عنهم وهم مسافرون؛ لأن فيهم أو معهم ذلك الذي يتخذونه وطاءً يجلسون عليه ويستخدمونه، فكذلك إذا كان معهم في البيوت.(464/38)
حكم الكتابة باليد اليسرى
السؤال
ما حكم الكتابة باليد اليسرى؟!
الجواب
إذا كان الإنسان محتاجاً إلى ذلك أو كانت يده متعودة على ذلك فلا بأس به، أما إذا كان يستطيع أن يكتب باليمنى، فليس له أن يستعمل اليسرى مع قدرته على اليمنى.(464/39)
حكم لبس الرجال للبنطال وحكم القول بأن لبس الثوب تشبه بالنساء
السؤال
بعض الطلاب عندما نصح بعدم لبس البنطال، قال: لبس الثوب فيه تشبه بالنساء، وبدأ يستهزئ بلبس الثوب؟!
الجواب
الثياب هي لبس الرجال والنساء، ولكلٍ ثوب يخصه، فالنساء لها ثياب تخصها والرجال لهم ثياب تخصهم، وأما البنطال فإنما جاء من الكفار، فهو من أصله وافد على المسلمين من أعدائهم، وليس من لباس المسلمين، والإنسان إذا احتاج إلى أن يلبس هذا فليكن واسعاً إذا كان في بلد يحتاج أن يلبس مثل ذلك، ولا يكون بهيئة تضيق على الجسم وتصف الأعضاء والأحجام.(464/40)
بنو هاشم وبنو المطلب الذين لا تجوز لهم الصدقة
السؤال
من هم بنو هاشم وبنو المطلب الذين لا تجوز لهم الصدقة؟!
الجواب
بنو هاشم هم أولاد هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، وهاشم نسله محصور في عبد المطلب؛ لأنه ليس له نسل من غير عبد المطلب، فإذاً الذين لا تحل لهم الصدقة هم نسل عبد المطلب بن هاشم، والذين لا تحل لهم الصدقة هم زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وذريته وكل مسلم ومسلمة من نسل عبد المطلب، هؤلاء هم الذين لا تحل له الصدقة، لأن نسل هاشم محصور في نسل عبد المطلب؛ والرسول هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم.(464/41)
الجمع بين الأدلة الحاثة على الانتعال واحتفاء النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً
السؤال
حديث: (استكثروا من النعال) يدل على أفضلية النعال، فكيف نوفق بينه وبين الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يمشي حافياً أحياناً؟!
الجواب
كونه يمشي أحياناً حافياً لا ينافي الحث على الانتعال، ولكن كونه يستعمل النعال هذا هو الغالب، ولاسيما إذا كان في الأسفار، ولاسيما إذا كانت الأرض فيها أشياء مضرة كالشوك وكالزجاج وكالحصى وكالرمضاء وقت الصيف وغير ذلك من الأشياء.
فالحاصل أن الاحتفاء أحياناً لا ينافي ما جاء من أن الإنسان يستكثر من النعال، ولهذا حث الرسول صلى الله عليه وسلم على الاستكثار من النعال وقال: (فإن أحدكم لا يزال راكباً ما انتعل) ومعلوم أن الناس في السفر يكونون راكبين، والذي يكون منتعلاً هو مثل الراكب.(464/42)
حكم السير في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حافياً
السؤال
هل من السنة المشي بدون نعل في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رأيت بعض الناس يفعل ذلك؟!
الجواب
ليس من السنة، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يمشي فيها بالنعل، والصحابة كانوا يمشون بالنعال، وهم خير الناس وأفضل الناس.(464/43)
حكم من قتل ابنه
السؤال
ما هو حد من قتل ابنه غضباً؟!
الجواب
لا يقتص من الوالد إذا قتل ولده، ولكن إذا رئي أن يقتل من باب التعزير أو ما إلى ذلك فهذا يرجع إلى القاضي أو الإمام الذي يتولى ذلك، وأما قضية القتل فإنه لا يقتل الوالد بولده.(464/44)
حكم النظر إلى البنت الصغيرة دون البلوغ وتقبيل رأسها
السؤال
هل يجوز النظر للبنت الصغيرة التي لم تبلغ وتقبيل رأسها؟!
الجواب
الصغيرة التي تشتهى لا يجوز النظر إليها، وأما التي لا تشتهى لكونها صغيرة جداً فلا بأس بالنظر إليها.(464/45)
حكم استعمال كراسي المصاحف الموقوفة للمسجد في وضع الكتب
السؤال
ما حكم استعمال هذه الكراسي التي نراها في الحرم -كراسي القرآن- لنضع عليها كتبنا؟! وهل هي موقوفة للقرآن فقط، وكذلك جعلها وسائد عند النوم كما نراه من كثير من الناس؟
الجواب
هي إنما وضعت للمصاحف، واستعمالها للكتب هو مثل استعمالها للمصاحف؛ لأن الفائدة في هذا وفي هذا، وإن كان الأصل هو استعمالها للمصاحف، وإذا حصل شح فيها فإن المصاحف أولى ممن يستعملها في الكتب، وإذا لم يكن هناك شح واحتاج الإنسان إلى استعمالها للكتب ولا يترتب على ذلك تضييق على من يستعملون المصاحف فإنه لا بأس باستعمالها؛ لأن هذا من جنس هذا، وأما استعمالها وسائد أو للاعتماد عليها وراء الظهر؛ فهذا شيء ما وضعت له.(464/46)
حكم حديث المدلس إذا توبع بمدلس
السؤال
إذا جاء الحديث من طريقين، وفي كلا الطريقين مدلس، فهل يتقوى الإسناد بالطريق الثانية؟
الجواب
نعم.(464/47)
حكم حلق الرأس في غير الحج والعمرة
السؤال
هل هناك نهي عن حلق جميع الرأس في غير الحج أو العمرة؟!
الجواب
ليس هناك نهي، بل هناك حديث يدل على جوازه في غير الحج والعمرة، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (احلقه كله أو دعه كله)، وهناك حديث آخر ذكره النووي في رياض الصالحين.(464/48)
حكم حلق جزء من الشعر وإبقاء جزء
السؤال
هل يشترط في القزع أن يكون المحلوق أقل من المتروك أو أكثر؟
الجواب
لا ينظر إلى الكثرة والقلة، وإنما العبرة في الحكم بكون شيء منه محلوقاً وشيء غير محلوق قل أو كثر.
ويدخل في ذلك ما يفعله بعض الشباب في صوالين الحلاقة من حلق شعر القفا طلباً للزينة؛ لأن حلق بعض الرأس وترك بعضه يؤدي نفس النتيجة، سواء أريد به زينة أو أريد به غير زينة، اللهم إلا إذا كان الحلق من أجل علاج أو للحجامة، فهذا لا بأس به.(464/49)
حكم المشي بنعلين مختلفتين
السؤال
ما حكم المشي في نعلين مختلفتين لا تشبه إحداهما الأخرى، أو إحداهما أعلى من الأخرى؟
الجواب
الأصل هو أن يكون هناك تماثل وتناسب بينهما؛ لأنه لو لبس واحدة أعلى من الأخرى يصير كما لو كانت رجل منتعلة ورجل غير منتعلة، والإنسان عند الحاجة له أن يستعمل ذلك، كما إذا لم يجد إلا نعلين مختلفتين، وأما إذا لم تكن هناك حاجة، فإن هذا ينسب صاحبه إلى النسيان وأنه ما درى كيف انتعل أو أن في عقله شيئاً.(464/50)
شرح سنن أبي داود [465]
الافتراش لبس، وقد ذكر في ثنايا هذه المادة أحكام الفرش ووصف فراش خير الخلق إمام المتقين صلوات ربي وسلامه عليه، وما يتعلق بالاقتصاد والاقتصار على ما يحتاج إليه، والبعد عن السرف والتباهي، كذلك ذكر حكم وضع الستور على الجدران أو النوافذ، وما نهي عنه في ذلك من صلبان أو صور تكون في الثياب أو الستور ونحوها.(465/1)
أحكام الفُرُش(465/2)
شرح حديث (فراش للرجل وفراش للمرأة وفراش للضيف والرابع للشيطان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الفرش.
حدثنا يزيد بن خالد الهمداني الرملي، حدثنا ابن وهب، عن أبي هانئ عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرش، فقال: (فراش للرجل، وفراش للمرأة، وفراش للضيف، والرابع للشيطان)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب في الفرش، يعني: ما يتخذ من الفرش.
وكيف تتخذ الفرش.
لما ذكر اللباس سواء كان يتعلق بالجسد، أو يتعلق بالرجلين، ذكر ما يتعلق بالافتراش، وهو ما يفترش ويتخذ فراشاً يجلس عليه.
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الفرش فقال: (فراش للرجل، وفراشٌ للمرأة، وفراش للضيف، والرابع للشيطان) وهذا على حسب عادة الإنسان، فإذا كان من عادته أنه كثير الضيفان فهو يعدد الفرش من أجل الضيفان، وأما إذا كانوا قليلين أو أنه نادر أو قليل أن يأتيه الضيف، فإنه يضع على قدره، والمقصود من ذلك أنه لا يوضع شيء للمباهاة ولغير الحاجة إليه، وأما إذا كانت الحاجة إليه موجودة، فإن ذلك سائغ.
ومعلوم أن الضيف يطلق على الواحد وعلى الأكثر، فإذاًَ: المقصود بالضيف، ما يحتاج إليه الضيف، سواء كان واحداً أو أكثر، وهذا على حسب عادة الإنسان، فإذا كان من عادته أنه يعدد الضيوف؛ فهو يعدد الفرش انتظاراً للضيوف، وإذا كان ليس كذلك فإنه يكون عنده زيادة واحد.
وهذا فيما إذا كان مع أهله فقط، أما إذا كان البيت مكوناً من أفراد، فكلٌ له فراش، ولكن المقصود من ذلك هو ألا يتخذ شيئاً من أجل المباهاة ومع عدم الحاجة، فتبقى الفرش مدة طويلة لا يستفاد منها لعدم الحاجة إليها، أما مع الحاجة فإنه لا بأس في ذلك.
وقوله: [للشيطان].
قيل: يحتمل أنه إذا كان للمباهاة فهو مما يريده الشيطان، ومما يحبه الشيطان، وقيل: إن الشيطان يتخذه فراشاً بمعنى أنه يفترشه ويستعمله؛ لكن كما عرفنا أنه قد جاء في الحديث أن الإنسان إذا دخل وذكر الله عز وجل فإن الشيطان يقول لأصحابه ولأتباعه فاتكم المبيت، وإذا لم يذكر الله عز وجل يقول: أدركتم المبيت، أدركتم المبيت، معناه أنهم يدخلون ويبيتون، وأما إذا حصل من الرجل التسمية فإنهم لا يدخلون.(465/3)
تراجم رجال إسناد حديث (فراش للرجل وفراش للمرأة وفراش للضيف والرابع للشيطان)
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد الهمداني الرملي].
يزيد بن خالد الهمداني الرملي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هانئ].
هو حميد بن هانئ، وهو لا بأس به، بمعنى صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي عبد الرحمن الحبلي].
هو عبد الله بن يزيد، ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قد مر ذكره.(465/4)
حكم اتخاذ فراش واحد للرجل وزوجته
أما قول الخطابي: بأن فيه دليلاً على أن المستحب -وأنه من أدب السنة- أن يبيت الرجل على فراش وزوجته على فراش آخر، ولو كان المستحب لهما أن يبيتا معاً على فراش واحد لكان لا يرخص له في اتخاذه فراشين لنفسه ولزوجته.
فالذي يبدو أنه لا بأس بأن يتخذ الفراش الواحد لهما جميعاً، ولكن كونه يصير لها فراش وله فراش، فذلك حتى يمكن أن ينفرد به كل واحد منهما إذا حصل مرض، أو أنها تستقل عنه لحاجة، وأما إذا جمع بينهما في فراش واحد وفي لحاف واحد؛ فإن ذلك لا بأس به.(465/5)
شرح حديث جابر بن سمرة أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على وسادة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع، ح وحدثنا عبد الله بن الجراح، عن وكيع عن إسرائيل عن سماك عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما أنه قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، فرأيته متكئاً على وسادة -زاد ابن الجراح: على يساره -)].
أورد أبو داود حديث جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما قال: (دخلت على الرسول صلى الله عليه وسلم فرأيته متكئاً على وسادة).
الوسادة تطلق على الفراش الذي يفترشه الإنسان وينام عليه، وتطلق أيضاً على ما يجعله تحت رأسه.
[متكئاً] يعني: مفترشاً معتمداً على وسادة، فالمقصود بذلك الفراش؛ لأنه جاء في بعض الأحاديث أنه عندما يكون للإنسان إكرام يضع وسادة تحته، يعني فراشاً.
[زاد ابن الجراح: على يساره].
يعني: أنه معتمد على يساره، من جهة أنه على جنبه الأيسر، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من عادته أنه ينام على جنبه الأيمن، ولكن لعله رآه على تلك الحال، لحالة من الحالات.(465/6)
تراجم رجال إسناد حديث جابر بن سمرة أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على وسادة
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة، المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا وكيع].
وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح.
وحدثنا عبد الله بن الجراح].
عبد الله بن الجراح صدوق يخطئ أخرج له أبو داود والنسائي في مسند مالك وابن ماجة.
[عن وكيع].
[عن وكيع عن إسرائيل].
إسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سماك].
سماك بن حرب صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن جابر بن سمرة].
جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: رواه إسحاق بن منصور عن إسرائيل أيضاً: على يساره].
إسحاق بن منصور، صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسرائيل أيضاً: على يساره].
أي: كما قال ابن الجراح.(465/7)
شرح حديث ابن عمر في الثناء على رفقة من أهل اليمن
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري عن وكيع عن إسحاق بن سعيد بن عمر القرشي، عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنه (أنه رأى رفقة من أهل اليمن، رحالهم الأدم، فقال: من أحب أن ينظر إلى أشبه رفقة كانوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هؤلاء)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه رأى رفقة -أي: جماعة- من أهل اليمن، على دوابهم، وفي رحالهم الأدم.
الأدم: جمع أديم، والمقصود به الوطاء الذي يكون من جلد على الرحل يرتفقون به.
فقال: [(من أحب أن ينظر إلى أشبه رفقة كانوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هؤلاء)].
يعني: في قناعتهم وزهدهم وعدم توسعهم، وأنهم كانوا يتخذون الأديم أو الأدم وطاء على رحالهم، فهذه إشارة إلى زهدهم وقناعتهم وعدم توسعهم.(465/8)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر في الثناء على رفقة من أهل اليمن
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هناد بن السري أبو السري ثقة أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن وكيع].
وكيع مر ذكره.
[عن إسحاق بن سعيد بن عمرو القرشي].
ثقة أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة.
[عن أبيه].
أبوه ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن ابن عمر].
عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين، بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(465/9)
شرح حديث (أتخذتم أنماطاً؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن السرح، حدثنا سفيان، عن ابن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتخذتم أنماطاً؟ قلت: وأنى لنا الأنماط، قال: أما إنها ستكون لكم أنماط)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله تعالى عنهما قال: قال لي رسول الله (أتخذتم أنماطاً؟!) والأنماط، قيل هي الفرش التي تكون عليها أغطية، أو أغطية تكون على الفرش يرتفق بها ويستفاد منها.
قوله: (وأنى لنا الأنماط؟!) يعني من أين لنا؟ فقال: (إنها ستكون لكم)، يعني: أنه ستفتح عليهم الدنيا، وأنه سيحصل لهم التوسع، وأنه ستحصل لهم هذه الأنماط، وأنهم يضيفونها إلى فرشهم التي كانوا يستعملونها بغير ذلك.
وقد وقع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من علامات نبوته، ومن دلائل نبوته، فإن الأمر وقع كما أخبر به الصادق المصدوق، فإن الجهاد في سبيل الله حصل بسببه الغنائم وفتحت الفتوحات وكثرت الخيرات، فصاروا يستعملون ذلك.
والحديث لا يدل على منعه، بل يدل على جوازه وأنه سائغ، ولكنهم كانوا في قلة وفي حالة شديدة، وبعد ذلك أوسع الله عز وجل عليهم، فلا بأس أن يستعملوا ذلك، وأن يحصل لهم ذلك؛ لأن الحديث لا يدل على المنع.(465/10)
تراجم رجال إسناد حديث (أتخذتم أنماطاً؟)
قوله: [حدثنا ابن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا سفيان].
سفيان بن عيينة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن المنكدر].
وهو محمد المنكدر، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر رضي الله تعالى عنهما.
وهذا الإسناد من الرباعيات التي هي من أعلى الأسانيد عند أبي داود، والله تعالى أعلم.(465/11)
شرح حديث (كانت وسادة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم حشوها ليف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وأحمد بن منيع قالا: حدثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كانت وسادة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم -قال ابن منيع: التي ينام عليها بالليل، ثم اتفقا:- من أدم حشوها ليف)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (كانت وسادة رسول صلى الله عليه وسلم التي ينام عليها بالليل من أدم حشوها ليف).
وهذا يدل على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من القناعة والزهد في الدنيا، وكون فراشه الذي ينام عليه صلى الله عليه وسلم من أدم، يعني: من جلد.
وحشوها ليف: والمراد بالليف ما يتخذ من النخل الذي يكون في أصول العشب، والذي تتخذ منه الحبال، ويتخذ حشواً للفرش.
والمراد بالوسادة الفراش، وقيل: المقصود بها ما يتخذ للرأس، وكل منهما صحيح، ولكن الأقرب أن المقصود به الفراش؛ لأن الوسادة تطلق على الفراش، كما يأتي في بعض الأحاديث وفي بعض الآثار أنه جعل تحت الضيف وسادة إكراماً له ليجلس عليها.
والمقصود من هذا أن فراش النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان ينام عليه كان من أدم، والأدم جمع أديم وهو الجلد، وحشوه من ليف النخل، وهذا من زهده وقناعته صلى الله عليه وسلم.(465/12)
تراجم رجال إسناد حديث (كانت وسادة النبي صلى الله عليه وسلم من أدم حشوها ليف)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[وأحمد بن منيع].
أحمد بن منيع ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قالا: حدثنا أبو معاوية].
وهو محمد بن خازم الضرير الكوفي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة بن الزبير بن العوام ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وهم: عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسليمان بن يسار والسابع مختلف فيه على ثلاث أقول: قيل: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وقيل: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وقيل: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
[عن عائشة].
هي أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من أوعية السنة وحفظتها، حفظت الكثير من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لاسيما ما يتعلق بما كان يجري في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حفظت ووعت الكثير من ذلك رضي الله عنها وأرضاها.(465/13)
شرح حديث (كانت ضجعة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم حشوها ليف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو توبة حدثنا سليمان -يعني: ابن حيان - عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كانت ضجعة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم حشوها ليف).
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ: (كانت ضجعة أي: الشيء الذي يضطجع عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وينام عليه، وهو مثل الذي قبله، وهناك قالت: (وسادة)، وهنا قالت: (ضجعة)، أي: ما يضطجع عليه، وكانت من أدم حشوها ليف.(465/14)
تراجم رجال إسناد حديث (كانت ضجعة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم حشوها ليف)
قوله: [حدثنا أبو توبة].
أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا سليمان يعني: ابن حيان].
سليمان بن حيان هو أبو خالد الأحمر، صدوق يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام عن أبيه عن عائشة].
قد مر ذكرهم.(465/15)
شرح حديث أم سلمة أن فراشها كان حيال مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا خالد الحذاء عن أبي قلابة عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: (كان فراشها حيال مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم).
أورد أبو داود حديث أم سلمة رضي الله عنها أن فراشها -أي: أم سلمة - كان حيال مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، أي: قبالة مصلاه الذي كان يصلي فيه في الحجرة، وهذا من جنس ما سبق أن جاء في حديث عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى وهي معترضة في قبلته، ولم يكن في البيوت مصابيح، فكان إذا سجد غمزها، فكفت رجليها.
فهنا لفظ: (مسجده) يعني: مصلاه، أي: المكان الذي يصلي فيه النوافل في الحجرة، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي النوافل من الرواتب وغير الرواتب في بيته عليه الصلاة والسلام، وقد قال: (صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في مسجدي إلا المكتوبة).
والمسجد هو اسم يطلق على مكان السجود، وقيل للمساجد مساجد؛ لأن من هيئات المصلي السجود، وأيضاً التمكن على الأرض إنما يكون في حالة السجود؛ لأن الإنسان في صلاته له أحوال أربعة لا خامس لها، فهو إما قائم، والقيام قبل الركوع وبعده، وإما راكع، وإما ساجد، والسجود سجدتان في كل ركعة، وإما جالس والجلوس للتشهد والجلوس بين السجدتين.
وقيل لأبنية الصلاة مساجد أخذاً من أماكن السجود، فلا يقال لها: مواقف، ولا مراكع، ولا مجالس، وإنما قيل لها: مساجد، أخذاً من حالة السجود؛ لأنها الهيئة التي يكون فيها تمكن المصلي من الأرض؛ لأنه إذا كان ساجداً تكون يداه وركبتاه ووجهه -جبهته وأنفه- على الأرض، بخلاف ما إذا كان قائماً فليس عليها إلا رجلاه، وكذلك إذا كان راكعاً، وإذا كان جالساً فرجلاه وركبتاه، ولكنه إذا كان ساجداً فكل هذه الأعضاء تلتصق بالأرض لاسيما الوجه الذي هو أشرف أعضاء الإنسان، فهو يعفره في التراب ويضعه على الأرض خضوعاً لله سبحانه وتعالى.
فالمسجد هو اسم لمكان السجود، ولهذا يقال للركعة سجدة؛ لأن مما تشتمل عليه الركعة سجدتين.(465/16)
تراجم رجال إسناد حديث أم سلمة أن فراشها كان حيال مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد الحذاء].
خالد بن مهران الحذاء ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، ويقال له: الحذاء، وهو لقب، والمتبادر من لفظ الحذاء أنه كان يصنع الأحذية أو يبيع الأحذية، مثل البزاز والخباز للذي يقوم بهذه المهنة، ولكن هذه نسبة إلى غير المهنة، وإنما هي لأدنى مناسبة، وذلك أنه كان يجلس عند الحذائين ولم يكن حذاءً، وإنما كان يجلس عندهم فقيل له الحذاء.
وقيل: إنه كان يقول للحذاء الذي يصنع الأحذية: احذُ على كذا، احذ على كذا، يعني: اقطع على كذا، فقيل له الحذاء؛ فهي نسبة إلى غير ما يتبادر إلى الذهن، مثل الرجل الذي يقال له: يزيد الفقير، المتبادر إلى الذهن أنه نسبة إلى الفقر، ولكن الواقع أنه كان يشكو فقار ظهره، فقيل له الفقير.
[عن أبي قلابة].
أبو قلابة هو عبد الله بن زيد الجرمي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زينب بنت أم سلمة].
وهي ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أم سلمة].
أمها أم سلمة هند بنت أبي أمية رضي الله عنها، أم المؤمنين، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(465/17)
اتخاذ الستور(465/18)
شرح حديث (ما أنا والدنيا وما أنا والرقم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في اتخاذ الستور.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير حدثنا فضيل بن غزان عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة رضي الله عنها فوجد على بابها ستراً، فلم يدخل، قال: وقل ما كان يدخل إلا بدأ بها، فجاء علي رضي الله عنه فرآها مهتمة، فقال: ما لك؟ قالت جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلي فلم يدخل، فأتاه علي رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله! إن فاطمة اشتد عليها أنك جئتها فلم تدخل عليها، قال: وما أنا والدنيا وما أنا والرقم؟ فذهب إلى فاطمة فأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: قل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يأمرني به؟ قال: قل لها فلترسل به إلى بني فلان)].
أورد أبو داود باباً في الستور، والستور هي ما يتخذ ستراً على شباك أو على باب، أو يكون على الجدران، فما كان لحاجة من أجل أن يدخل الهواء ويستر من رؤية المارة أو رؤية من كان في الجهة المقابلة، فإن ذلك لا بأس به، وقد كان بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء من ذلك.
وقد جاء الحديث في مرض موته أنه رفع الستر ووجدهم يصلون خلف أبي بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ثم خرج وجلس عن يسار أبي بكر، وصار يصلي جالساً وأبو بكر على يمينه وأبو بكر يصلي بصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، أي أن أبا بكر هو الذي يبلغهم، ويسمعون صوته، وصوت الرسول صلى الله عليه وسلم كان منخفضاً لا يسمعونه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
فإذا كان الستر لحاجة كما لو كان على شباك وعلى باب تدعو الحاجة إليه؛ فإنه لا بأس به، وأما إذا كان لغير الحاجة أو كان فيه شيء من الزينة أو فيه شيء من التكلف أو فيه مغالاة وإسراف؛ فإن هذا لا يصلح ولا ينبغي أن يتخذ.
وكذلك ما يكون كسوة الجدران التي لا حاجة إليها ولا فائدة من ورائها، بخلاف الستر التي يكون على الأبواب، وعلى الشبابيك للحاجة، وأما الجدران فلا حاجة إلى سترها بسجاد ولا بغيره؛ لأن ذلك من الترف؛ ولأن ذلك من استعمال الشيء فيما لا ينبغي أن يستعمل فيه، وهذا هو الذي لا ينبغي أن يفعل، ولا ينبغي أن يتخذ.
وما دعت إليه الحاجة فيما يتعلق بالأبواب والشبابيك، فإن ذلك لا بأس به لكن من غير إسراف، ومن غير مغالاة، وإنما يكون بالشيء المناسب الذي ليس فيه إسراف ولا تكلف ولا مغالاة، فهذا هو التفصيل، فيما يتعلق بالستور، وستر الجدران في شيء مخصص لها كالورق الذي اتخذ في هذا الزمان مكان الدهان، فإن هذا لا بأس به؛ لأن هذا مثل الدهان، يعني: بدل أن يدهن يؤتى بهذا الورق ويلصق عليه، وهو خاص به، وإنما وضع من أجله، فهو من جنس الدهانات التي تدهن بها الجدران لتحفظها وتكون نظيفة، فإذا كان شيئاً من هذا القبيل فإنه لا بأس به؛ لأنه وضع له وهو قائم مقام تلك الدهانات.
ثم أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى فاطمة فوجد على بابها ستراً فلم يدخل فرجع، وتأثرت فاطمة رضي الله عنها وأرضاها لهذا الذي حصل، وأخبرت علياً رضي الله عنه بذلك، فذهب علي رضي الله عنه إلى الرسول صلى الله عليه سلم وأخبره باهتمام فاطمة وتأثرها فأخبره الرسول بالسبب، وأمره بأن ترسل بذلك الستر إلى بني فلان، ليستفيدوا منه ويتخذوه أكسية وألبسة.
وكأنه والله أعلم لم يكن هناك حاجة إلى اتخاذ هذا الستر، إما لأنه يوجد ما يغني عنه من وجود فاصل يحول دون مشاهدة من يكون في الداخل، أو لغير ذلك.
وأما إذا كان للحاجة ولأمر يقتضيه، وكونه إذا فتح الباب يكون هناك شيء يمنع كما لو كان قبالة محل الجلوس أمام ممر الناس، أو في مقابل باب، فلو بقي الباب مفتوحاً لرأى المارة من يكون في الداخل فلا بأس، ولعل ذلك الستر كان فيه إسراف أو مغالاة، والرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى أن يستعمل في مصلحة أولى وفي شيء أفضل، وهو أن يعطى لأولئك الذين أرشد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى أن يرسل إليهم ليستفيدوا منه أكسية وألبسة.
[(ما أنا والدنيا)].
يعني: ما لي وللدنيا، ولا يشتغل في الدنيا ولا يتنافس في الدنيا ولا يستمتع بالدنيا مثل هذا الاستمتاع الذي هو اتخاذ الستور من غير حاجة.
[(وما لي والرقم)]، قيل: إنه هو الصورة أو الشيء الذي يكتب على الستور زينة.
وسيأتي في الحديث الذي بعده: (وكان ستراً موشياً) يعني: مزركشاً.
فيحتمل أنه لكونه ستراً، ويحتمل أنه لما فيه من هذه الزخارف والزينة والمبالغة.(465/19)
تراجم رجال إسناد حديث (ما أنا والدنيا وما أنا والرقم)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير].
عثمان بن أبي شيبة مر ذكره.
ابن نمير هو عبد الله بن نمير، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا فضيل بن غزان].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو مولى ابن عمر، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(465/20)
شرح حديث ابن عمر (ما أنا والدنيا.
ما أنا والرقم) من طريق ثانية وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا واصل بن عبد الأعلى الأسدي حدثنا ابن فضيل عن أبيه بهذا الحديث قال: (وكان ستراً موشياً).
أورد الحديث من طريق أخرى، وفيه زيادة: (وكان ستراً موشياً) يعني: مزركشاً منقوشاً، وفيه وشي وهو الزينة.
قوله: [حدثنا واصل بن عبد الأعلى] هو ثقة، أخرج مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا ابن فضيل].
هو محمد بن فضيل بن غزوان، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه بهذا الحديث].
أبوه قد مر ذكره.(465/21)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر (ما أنا والدنيا ما أنا والرقم) بزيادة (وكان ستراً موشياً)(465/22)
الصليب في الثوب(465/23)
شرح حديث (كان لا يترك شيئاً فيه تصليب إلا قضبه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الصليب في الثوب.
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبان حدثنا يحيى، حدثنا عمران بن حطان، عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يترك شيئاً فيه تصليب إلا قضبه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة [باب في الصليب في الثوب].
الصليب هو الذي يتخذه النصارى إشارة إلى أن عيسى عليه الصلاة والسلام صلب ويتخذون ذلك الرسم من أجل تذكر تلك الحال التي يزعمونها، وأن اليهود قتلوه وصلبوه، فهم يتذكرون تلك الحال التي كان عليها عيسى عليه الصلاة والسلام، والتي يزعمون أنها هي الواقع، وهي ليست الواقع؛ لأنه ما قتل وما صلب صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وإنما رفع إلى السماء وسينزل في آخر الزمان يحكم بشريعة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام كما جاء ذلك في الكتاب والسنة.
فالصليب هو ما يتخذ مشيراً إلى الصلب، وإلى الهيئة التي يزعمون أن عيسى كان عليها بعد أن قتله اليهود وصلبوه، وذلك كذب وغير صحيح، وقد جاء تكذيبه في القرآن وبيان أنه ما قتل وما صلب صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وقد أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها.
(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يترك في بيته شيئاً فيه تصليب إلا قضبه).
(فيه تصليب) هو صورة الصليب، (إلا قضبه) يعني: إلا قطعه ولم يبقه، إلا إذا كان مستخدماً ومستفاداً منه كالقماش وكالفراش فإنه يمتهن ويوطأ، وإذا كان في ورق أو في غيره فإنه يتلف ولا يبقى؛ لأنها قالت: (إلا قضية) أي: إلا أزاله بحيث لا يبقى له أثر.
والصليب يذكر في هذا الزمان أن له أشكالاً متعددة، ولكن الأصل فيه أنه يكون خطين متقاطعين والذي يكون أسفل يكون أطول، بخلاف الذي يكون في الجوانب والذي يكون فوق؛ لأنه على هيئة الإنسان، ومعلوم أن الإنسان إذا مد يديه من اليمين والشمال فإن الذي يكون تحت وهو بقية جسمه أطول، بخلاف امتداد اليمين والشمال، وكذلك الذي يكون فوق اليدين يكون قصيراً، وهو محل الرأس، هذا هو الأصل فيه، لأنه يشير إلى هيئة الإنسان.
وفي هذا الزمان يذكرون أن له أشكالاً عند النصارى، لكن في هذا الزمان صار بعض الناس كلما رأى خطين متقاطعين قال هذا هو الصليب، حتى الخشبتين المعترضتين اللتين للدلو.
وكذلك علامة (+) وعلامة الضرب (×) في الحساب، كل ذلك يقول له صليب.
وفي الحقيقة أن الشيء الذي يعرف ويظهر بأنه صليب هو الذي يجتنب، ولا يجتنب كل تقاطع يكون بين خطين مثل علامة الجمع، وعلامة الضرب في الحساب.
وأما عن حكم الصلاة في الثوب الذي عليه الصليب فإنه لا يجوز، لا يجوز أن يصلى في ثوب فيه صورة ولا صلبان.
لكن الصلاة صحيحة أو غير صحيحة؟ لا أدري، لكن كل منهما سيئ، وكل منهما محظور، والصليب لا شك أنه أشد من الصور.
ومن اتخذ في بيته صليباً أو علقه على جسده فهذا لا يجوز، وإذا استحل الإنسان أن يفعل فعل النصارى أو صدق بما عليه النصارى من أن عيسى صلت وأن هذا رمز لذلك؛ فإنه هذا تكذيب لما جاء في القرآن، وهو كفر إذا كان بهذه الصورة.
وبالنسبة لإخراج البخاري لـ عمران بن حطان مع أنه متصف برأي الخوارج، فقد قيل: إنه رجع عن ذلك.
ولكن البخاري أخرج له في أحاديث قليلة حديثاً أو حديثين وقد ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في ترجمته في هدي الساري مقدمة فتح الباري، في الذين تكلم فيهم من رجال البخاري، فقد ترجم لهم في الفتح وأجاب عما أضيف ونسب إليهم.
وهنا يقول الحافظ ابن حجر في التقريب: قيل: إنه رجع عن رأي الخوارج، وكذلك أيضاً في مقدمة الفتح روى عنه -فيما أظن- حديثاً أو حديثين، أحدهما في لبس الحرير.
ويذكر أن الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله يقول: إن البخاري لم يخرج لـ عمران بن حطان إلا متابعة، ولم يخرج له في أصل الصحيح.
وأنا لا أتذكر الآن، لكن الذي أذكر أنه ذكره وأنه أجاب عنه، وإنما خرج له حديثاً أو حديثين، ولا أدري هل فيه هذا الذي ذكره الشيخ مقبل، فأنا بعيد العهد بهذا، لكن يمكن أن يرجع إلى مقدمة الفتح.
والحافظ ابن حجر أحياناً إذا كانت أحاديث الراوي قليلة يذكرها ويشير إليها، وممن يذكر أحاديث المقلين في الصحيحين ابن طاهر المقدسي في كتابه الجمع بين رجال الصحيحين؛ فإن الشخص إذا كان مقلاً ذكر أنه روى له البخاري في كذا وكذا، وروى له مسلم في كذا وكذا، ويشير إلى أماكن الأحاديث من الصحيحين.(465/24)
تراجم رجال إسناد حديث (كان لا يترك شيئاً فيه تصليب إلا قضبه)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبان].
أبان بن يزيد العطار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا يحيى].
يحيى بن أبي كثير اليمامي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عمران بن حطان].
عمران بن حطان هو صدوق، أخرج البخاري وأبو داود والنسائي.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وقد مر ذكرها.(465/25)
شرح سنن أبي داود [466]
التصوير نوعان: ما له روح كالإنسان والحيوان وما ليس له روح كالبنيان والنبات، أما الأول فمحرم بالأدلة الصريحة الثابتة، وأما الثاني فجائز، والأحكام المتعلقة بالتصوير في الشريعة الإسلامية كثيرة، وتجد غالبها مبثوثاً في ثنايا هذه المادة.(466/1)
الصور(466/2)
شرح حديث (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا كلب ولا جنب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الصور.
حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن علي بن مدرك عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن عبد الله بن نجي عن أبيه عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا كلب ولا جنب).
أورد أبو داود باباً في الصور، والمقصود بالصور صور الآدميين والحيوانات وما فيه روح؛ فإن ذلك لا يجوز تصويره، وأما تصوير ما لا روح فيه كالبنيان والجدران والأشجار وما إلى ذلك فإنه لا بأس به، وإنما الذي فيه بأس هو تصوير ما له روح من الإنسان والحيوان، هذا هو المقصود بالصور التي يحرم تصويرها.
وأورد أبو داود أحاديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة ولا جنب) والكلب والصورة جاء ذكرها في بعض الأحاديث، وأما الجنب فقد جاء في هذا الحديث، وفيه رجل فيه ضعف وهو نجي بن سلمة الذي جاء ذكره في الإسناد وهو مقبول.
وقال بعض أهل العلم: إن المقصود بالجنب هو الذي لا يتطهر من الجنابة، وأنه اعتاد ألا يغتسل من الجنابة بالوضوء -كما جاء في بعض الأحاديث-.
والحديث فيما يتعلق بذكر الجنب ضعيف غير ثابت؛ لأن فيه ذلك الرجل الذي جاء من طريقه وهو نجي بن سلمة، فإذاً ما يتعلق بالصورة والكلب قد جاء في بعض الأحاديث، فله شواهد، وأما الجنب فهو إنما جاء في هذا الحديث وهو غير ثابت عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ومن العلماء أيضاً من تأوله على أن المقصود به من كان ليس من عادته أن يغتسل من الجنابة.(466/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا كلب ولا جنب)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن حجاج الواسطي البصري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي بن مدرك].
علي بن مدرك ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير].
أبو زرعة بن عمرو بن جرير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن نجي].
عبد الله بن نجي صدوق أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبيه].
واسمه نجي وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن علي].
علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، رضي الله عنه وأرضاه.(466/4)
شرح حديث (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا تمثال)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية أخبرنا خالد عن سهيل، يعني: ابن أبي صالح، عن سعيد بن يسار الأنصاري، عن زيد بن خالد الجهني عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا تمثال.
قال: انطلق بنا إلى أم المؤمنين عائشة نسألها عن ذلك، فانطلقنا فقلنا: يا أم المؤمنين! إن أبا طلحة حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا، فهل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر ذلك، قالت: لا، ولكن سأحدثكم بما رأيته فعل: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، وكنت أتحين قفوله، فأخذت نمطاً كان لنا فسترته على العرض، فلما جاء استقبلته، فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته! الحمد لله الذي أعزك وأكرمك، فنظر إلى البيت فرأى النمط، فلم يرد علي شيئاً، ورأيت الكراهية في وجهه فأتى النمط حتى هتكه، ثم قال: (إن الله لم يأمرنا فيما رزقنا أن نكسو الحجارة واللبن.
قالت: فقطعته وجعلته وسادتين وحشوتهما ليفاً فلم ينكر ذلك علي)].
أورد أبو داود حديث أبي طلحة وحديث عائشة رضي الله تعالى عنهما، وحديث أبي طلحة: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا تمثال)، وهذا الحديث ذكر فيه الكلب كما ذكر في الحديث الذي قبله وفيه ضعف وهنا ذكر (التمثال) وفي الذي قبله قال: (صورة) والتمثال هو صورة إلا أنها على هيئة مجسمة.
فحدث أبو طلحة رضي الله عنه بهذا الحديث، فقالوا: نذهب إلى عائشة نسألها عما حدث به أبو طلحة فذهبوا إليها رضي الله عنها، وسألوها: هل سمعته يذكر شيئاً من ذلك فقالت: لا، ولكن أحدثكم بالذي حصل أنه كان الرسول صلى الله عليه وسلم قدم من سفر، وأنها عمدت إلى نمط فعلقته أو رفعته على عرض أو على عرص، فالرسول صلى الله عليه وسلم جاء تغير فهتك الستر وقطعه، ثم إنها اتخذت من ذلك وسادتين وحشتهما ليفاً فلم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إن الله لم يأمرنا فيما رزقنا أن نكسو الحجارة واللبن)، والحجارة واللبن هي الجدران يعني: سواء كانت من حجارة أو من لبن، يعني: وهذا يتعلق بالكسوة فقد سبق أن مر في الستور، وهو يدل على أن كسوة الجدران بالسجاد وغيره لا ينبغي، وفي ذلك خلاف بين أهل العلم، منهم من قال: بكراهته، وأنها كراهة تنزيه، ومنهم من قال: بتحريمه.
وقد جاء في بعض هذا أن فيه صورة فيكون المنع من الجهتين، من جهة ما فيه من الصور، ومن جهة الكسوة للجدر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم علل بكسو الجدران والحجارة واللبن، فهو يدل على منع ذلك، والذي ينبغي هو أن لا يفعل؛ لأن فيه إسرافاً واستعمالاً للشيء فيما لا حاجة إليه ولا داعي له.
قول عائشة: (فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، الحمد لله الذي أعزك وأكرمك، فنظر إلى البيت فرأى النمط) ليس في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليها السلام، وليس فيه ما يدل على أنه ما رد عليها السلام؛ ويمكن أنه رد عليها السلام ولكنها لم تذكر ذلك، فالحديث لا يدل على أنه لم يرد عليها السلام؛ لأن أكثر ما فيه السكوت، وليس فيه أنه لم يرد عليها السلام، حتى يقال: إن رد السلام مثبت أو منفي، وإنما كان مسكوتاً عنه، فيحتمل أنه رد السلام ولكنه سُكِتَ عنه.
قوله: [(لم يأمرنا فيما رزقنا أن نكسو الحجارة واللبن)].
باستثناء كسوة الكعبة فقد كانت كسوتها ثابتة، وكانت موجود قبل الإسلام، وجاء الإسلام وأقرها، وهي مما أُقر في الإسلام، وكون الكعبة خصصت بذلك؛ هناك دليل يدل على التخصيص، وهو أنها كانت مكسوة، والرسول صلى الله عليه وسلم أقر الكسوة، وقد جاء في حديث فتح مكة: (اقتلوا ابن خطل ولو وجدتموه متعلقاً بأستار الكعبة).
وقول عائشة: [(فلم يرد علي شيئاً)].
كأنه ما تكلم عن الشيء الذي رآه والذي ساءه إذ نظر إليه، ومن فوره جاء وهتكه صلى الله عليه وسلم، لكن لا يدل على أنه ما رد عليها السلام.(466/5)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا تمثال)
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
وهب بن بقية الواسطي ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[أخبرنا خالد].
خالد بن عبد الله الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهيل يعني: ابن أبي صالح].
سهيل بن أبي صالح صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة، ورواية البخاري له مقروناً.
[عن سعيد بن يسار الأنصاري].
سعيد بن يسار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن خالد الجهني].
زيد بن خالد الجهني، صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي طلحة].
أبو طلحة هو زيد بن سهل أبو طلحة، مشهور بكنيته، وهو زوج أم سليم، والدة أنس بن مالك، وهو صحابي مشهور، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عائشة].
عائشة أم المؤمنين، وقد مر ذكرها.(466/6)
ذكر حديث (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا تمثال) من طريق ثانية وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن سهيل بإسناده مثله، قال: فقلت: يا أمه! إن هذا حدثني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وقال فيه: سعيد بن يسار مولى بني النجار].
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهيل بإسناده مثله].(466/7)
شرح حديث (إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن بكير عن بسر بن سعيد عن زيد بن خالد عن أبي طلحة رضي الله عنهما أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، قال بسر: ثم اشتكى زيد، فعدناه، فإذا على بابه ستر فيه صورة، فقلت لـ عبيد الله الخولاني ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟! فقال عبيد الله: ألم تسمعه حين قال: إلا رقماً في ثوب).
أورد أبو داود حديث أبي طلحة مرفوعاً قال: [(إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة)].
وهذا جاء في أحاديث متعددة، أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، والمقصود بذلك صورة ما فيه روح.
[قال بسر: ثم اشتكى زيد فعدناه].
يعني: زيد بن خالد الجهني، فعادوه في مرضه، من باب: عيادة مريض.
[(فإذا على بابه ستر فيه صورة)].
هذا يحمل على أساس أنها ليست محرمة، وإنما هي من غير ذوات الأرواح، أو أنها من ذوات الأرواح ولكنها عمل فيها شيء أزال الهيئة التي كانت عليها والتي لا يجوز أن تقرّ.
[فقلت لـ عبد الله الخولاني ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟! فقال: ألم تسمعه حين قال: (إلا رقماً في ثوب).
أي: كتابة في ثوب، ويكون محمولاً على أنها ليست صورة ممنوعة أو صورة باقية على تحريمها، فإما أنها ليست من ذوات الأرواح أو أنها من ذوات الأرواح ولكن قطع رأسها وأزيل شيء منها يرفع حكمها(466/8)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
الليث بن سعد المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بكي].
بكير بن عبد الله الأشج ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بسر بن سعيد].
بسر بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن خالد عن أبي طلحة].
هما صحابيان رضي الله عنهما، وقد مر ذكرهما.(466/9)
شرح حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن الصباح، أن إسماعيل بن عبد الكريم حدثهم قال: حدثني إبراهيم -يعني ابن عقيل - عن أبيه عن وهب بن منبه عن جابر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه زمن الفتح، وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها النبي صلى الله عليه وسلم حتى محيت كل صورة فيها)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر رضي الله عنه أن يذهب إلى الكعبة ويمحو كل ما فيها من صور، فذهب ومحا جميع ما فيها من الصور، فلم يدخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد طهرت من هذه الصور، طهرت من هذه الصور.
وقد جاء أن في تلك الصور صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام وهما يستقسمان بالأزلام، وهذا من الافتراء والكذب، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنهما ما فعلا ذلك قط، وإنما ذلك من الكذب.(466/10)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب زمن الفتح أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها)
قوله: [حدثنا الحسن بن الصباح].
الحسن بن الصباح صدوق يهم، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[أن إسماعيل بن عبد الكريم حدثهم].
إسماعيل بن عبد الكريم، صدوق، أخرج له أبو داود وابن ماجة في التفسير.
[حدثني إبراهيم يعني ابن عقيل].
ابراهيم بن عقيل صدوق، أخرج أبو داود.
[عن أبيه].
أبوه صدوق، أخرج له أبو داود.
[عن وهب بن منبه].
وهب بن منبه ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا ابن ماجة فقد أخرج له في التفسير.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(466/11)
شرح حديث أن جبريل قال (إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب عن ابن السباق، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حدثتني ميمونة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (إن جبريل عليه السلام كان وعدني أن يلقاني الليلة فلم يلقني، ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت بساط لنا، فأمر به فأخرج، ثم أخذ بيده ماء فنضح به مكانه، فلما لقيه جبريل عليه السلام قال: إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة، فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بقتل الكلاب حتى إنه ليأمر بقتل كلب الحائط الصغير، ويترك كلب الحائط الكبير)].
أورد أبو داود حديث أم المؤمنين ميمونة رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان وعده جبريل أن يلقاه، وتأخر فلم يأت، ووقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أن في البيت كلباً، فوجد جرواً، وهو ولد الكلب الصغير وجده تحت بساط، فأخرجه النبي صلى الله عليه وسلم، وأتى بماءٍ ونضح فيه مكانه، فجاءه جبريل، وقال: (إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة)، وهذا يدل على ابتعاد الملائكة عن البيوت والأماكن التي فيها الكلاب والصور، ولكن يستثنى من الكلاب ما جاء في السنة استثناؤها، مثل: كلب الصيد، وكلب الزرع، وكلب الماشية، فإن هذه مستثناة بالسنة، وما عداها فإن الكلاب لا تتخذ.
والرسول صلى الله عليه وسلم، أمر بقتل الكلاب، يعني بعد تلك الحادثة، فكانوا يقتلون الكلاب حتى إنهم يقتلون الكلب يكون في الحائط الصغير، ويتركون كلب الحائط الكبير الذي يتخذ للحراسة، ولكنه جاء بعد ذلك ما يدل على نسخ قتل الكلاب وأنها لا تقتل، وإنما يقتل منها ما حصل منه أذى.(466/12)
تراجم رجال إسناد حديث أن جبريل قال (إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن وهب].
عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس].
يونس بن يزيد الأيلي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن مسلم بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن السباق].
هو عبيد بن السباق، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس وقد مر ذكره رضي الله عنه.
[عن ميمونة].
أم المؤمنين وقد مر ذكرها.(466/13)
شرح حديث (أتاني جبريل عليه السلام فقال لي أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن يونس بن أبي إسحاق عن مجاهد قال: حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل عليه السلام، فقال لي: أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب؛ فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتين منبوذتين توطأان، ومر بالكلب فليخرج، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا الكلب لـ حسن أو حسين كان تحت نضد لهم فأمر به فأخرج).
قال أبو داود: والنضد شيء توضع عليه الثياب شبه السرير].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة، وهو مثل الذي قبله فيما يتعلق بامتناع الملائكة عن دخول البيوت التي فيها كلاب وصور.
وقوله: [(أتاني جبريل عليه السلام فقال لي: أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة)].
يعني التماثيل التي في الستور، أو في القماش، فأمر بها أن تقطع حتى تكون كهيئة الشجرة، ويقطع ذلك القماش حتى يكون فرشاً، ويخرج الكلب.
قوله: [(ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتين منبوذتين توطأان)].
(منبوذتين) يعني: ممتهنتين.(466/14)
تراجم رجال إسناد حديث (أتاني جبريل عليه السلام فقال لي أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل)
قوله: [حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى].
صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا أبو إسحاق الفزاري].
أبو إسحاق الفزاري وهو إبراهيم بن محمد بن الحارث ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يونس بن أبي إسحاق].
يونس بن أبي إسحاق صدوق يهم قليلاً أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن مجاهد].
مجاهد بن جبر المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو هريرة].
أبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(466/15)
الأسئلة(466/16)
حكم الاتجار بالفيز للعمل
السؤال
ما حكم التجارة بفيز الإقامة، حيث إن الدولة تمنحها بألفي ريال، وتباع بمبلغ يبدأ من ثمانية إلى عشرة آلاف أو أكثر؟
الجواب
هذا لا يجوز؛ لأن هذه التراخيص التي منحت لأناس من أجل حاجتهم، فكونهم يأخذونها وهم غير محتاجين، ثم يتاجرون بها؛ فهذا لا يجوز، لكن من كان محتاجاً ومضطراً استصدر فيزة لمن يعمل لديه، ومن كان غير محتاج فليترك.(466/17)
حكم دخول الحمام بهاتف جوال مكتوب على شاشته ذكر الله تعالى
السؤال
هل يجوز الدخول بالجوال المكتوب على شاشته (لا إله إلا الله) أو أي ذكر آخر إلى الحمام؟
الجواب
لا ينبغي أن يكون في شيء من تلك الأدوات كتابة ذكر الله؛ لأن هذا يؤدي إلا امتهان ذكر الله سبحانه وتعالى، وامتهان اسم الله سبحانه وتعالى؛ فالواجب أن يمسح، وألا يبقى شيء في مثل هذه الآلات التي ينتفع بها الناس.
ثم أيضاً مما ينبغي التنبيه عليه: أن الذي ينبغي أن تقفل تلك الجوالات، بحيث لا يحصل تشويش على الناس في الصلاة، أحياناً الجوال يرن لمدة وصاحبه يتركه، وأسوأ من ذلك بعض الجوالات التي يكون فيها موسيقى، وتكون في المسجد، وتشتغل هذه الموسيقى في الجوال، وهذا من أسوأ ما يكون.(466/18)
حكم إرسال رسائل جوال تحث على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وتحث على إرسال الرسالة لعدة أشخاص
السؤال
أصحاب الجوالات الآن عندهم رسائل فيها: صل على النبي صلى الله عليه وسلم عشر مرات وأرسلها إلى عشرة آخرين، أمانة عليك أن تفعل ذلك؟
الجواب
لا يفعل هذا، وإنما هو يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكثر من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يشغل نفسه برسائل على الجوالات، افعلوا كذا؛ لا تفعلوا كذا.(466/19)
من علامات الخوارج الإكثار من الحلق للرأس
السؤال
جاء في الخوارج أن سيماهم التحليق فهل هذا صحيح، وما معناه؟!
الجواب
الخوارج علامتهم التحليق، وهذه سمة وعلامة لهم، ولكن قد جاء في السنة ما يدل على أن التحليق في غير الحج والعمرة سائغ وأنه لا بأس به، وإنما المحذور أن يتخذ اقتداءً بالخوارج وتشبهاً بهم.(466/20)
حكم تكلم حارس الحرم أثناء خطبة الجمعة مع الحجاج الحاملين لبعض العفش
السؤال
بواب الحرم يضطر إلى أن يتكلم يوم الجمعة أثناء الخطبة مع الحجاج الذين معهم شيء من العفش، فهل تلغى جمعته؟
الجواب
الحراس الذين هم مكلفون بأعمال لهم أن يتكلموا في الشيء الذي فيه المصلحة، فهذا من جنس الحارس المؤتمن على شيء فإنه يؤدي الأمانة، فإذا حصل شيء لا يناسب أو نبه على خطأ، فهذا لا بأس به؛ لأن هذا قائم بالحراسة ويمنع من الشيء الذي لا ينبغي أن يدخل في المسجد.(466/21)
حكم المسح على عضو من أعضاء الوضوء عليه رباط أو ضمادة على جرح
السؤال
المريض الذي يضع على ذراعه شيئاً لمرضه بحيث لا يتمكن من غسل هذا الموضع، هل يتوضأ أم يتيمم؟
الجواب
إذا كان الشيء ثابتاً على محل الوضوء مثل الجبيرة، أو كان في نزعه مضرة، فإنه يغسل البارز ويمسح على المكان المغطى، هذا إذا كان المسح ممكناً ولا يترتب عليه ضرر، وإذا كان الجرح مكشوفاً فله أن يتيمم عن هذا الموضع ويتوضأ عما بقي، وإذا كان مغطى والمسح ممكن فإنه يمسح على المغطى ولا يتيمم.(466/22)
حكم الصلاة على من أسلم في آخر حياته ودفنه ذووه على طريقتهم الكتابية
السؤال
رجل مسلم له أخوان شقيقان على دين النصارى، أسلمت الأم في آخر حياتها دون أولادها النصارى، عرفوا إسلامها وتوفيت على الإسلام، ولكن ابنها المسلم لم يتول دفنها على طريقة الإسلام، بل دفنها أولادها النصارى، على الطريقة النصرانية بالذهاب بها إلى الكنيسة، وإلى الآن لم يصل عليها صلاة الجنازة، بل دفنت على طريقة النصارى فما الحكم؟
الجواب
إذا كان ابنها ما عرف إسلامها، وإسلامها بالنسبة له مجهول، فالأصل بقاؤها على ما كانت عليه، وأما إذا ثبت إسلامها، فالواجب على ابنها المسلم أن يتولى دفنها مع المسلمين، وعلى طريقة أهل الإسلام.
وإذا كان الابن المسلم يعلم بإسلام أمه، ولكن يقول: إذا توليت دفنها على طريقة الإسلام فقد يحدث لي مشاكل مع إخواني النصارى، فلأجل ذلك تركهم؛ فلا ينبغي له ذلك؛ لأنه سيرثها، أما إخوانه النصارى فليس لهم دخل بها.
على كل هذا العمل غير صحيح، وكان الواجب عليه أن يقوم بما يلزم؛ لأنه وليها، والكفار أولادها ليسوا أولياء لها.
وإذا أمكن التدارك بأن يحملها من مقابر الكفار إلى مقابر المسلمين، فهذا هو الذي عليه أن يفعله.
وإذا كانت لم تغسل ولم تكفن التكفين الصحيح، ولم يصل عليها، وإنما دفنت على طريقة النصارى؛ فليدع لها بدل الصلاة عليها، وأما التغسيل فقد يكون جسدها تغير فالتغسيل عندئذٍ يؤثر، ولذا فإنها تُيمم بدلاً عن التغسيل.(466/23)
حكم التنكيس في قراءة القرآن
السؤال
هل التنكيس في القراءة في الصلاة يجوز؟
الجواب
إذا كان المقصود بالتنكيس تنكيس الآيات فهذا لا يجوز، بمعنى أنه تقرأ آية ثم تقرأ الآية التي قبلها.
فهذا لا يجوز؛ لأن قراءة الآيات لابد أن تكون على ترتيبها، تقرأ الآية ثم التي تليها.
إذاً: التنكيس فيما يتعلق بالآيات غير سائغ، ولا يجوز أن تقرأ آية ثم تقرأ الآية التي قبلها، وإنما يقرأ كل آية بعد التي قبلها.
وأما تقديم السور بعضها على بعض فالأصل أن كل سورة تقرأ بعد التي قبلها، فلا يقدم سورة متأخرة على سورة متقدمة، هذا هو الأصل والذي ينبغي، لكن إذا حصل فإنه لا بأس به، وهو جائز، ولكن الأولى عدمه.
والأصل أن يؤتى بالقراءة على ترتيب القرآن، ومما يدل على جوازه قصة الرجل الذي جاء في الحديث أنه كان يقرأ شيئاً من القرآن ويقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فإنه من المعلوم أن: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ليس بعدها في المصحف إلا سورتان، وهما: سورة الفلق وسورة الناس، ومعنى ذلك أنه سيحصل قراءة شيء متقدم مع قراءة تلك السورة المتأخرة، والأصل الترتيب في السور كما يكون الترتيب للآيات، لكن يختلف حكم ترتيب السور عن ترتيب الآيات.(466/24)
حكم الانتعال قائماً
السؤال
هل النهي عن الانتعال قائماً للتحريم أو الكراهة؟!
الجواب
حديث ابن عمر: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتعل الرجل قائماً)، قال المناوي: والأمر في الحديث للإرشاد؛ لأن لبسهما قاعداً أسهل وأمكن، ومنه أخذ الطيبي وغيره تخصيص النهي بما في لبسه قائماً تعب، كالخف وغيره.
وحديث: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتعل الرجل قائماً) رواه أبو داود من حديث جابر، وقال النووي في رياض الصالحين: رواه أبو داود بإسناد جيد، مع أن فيه عنعنة، لكن الشيخ الألباني ذكره عن غير جابر.
ورواه ابن ماجة في سننه: كتاب اللباس، باب الانتعال قائماً، فقال: حدثنا علي بن محمد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى الحديث.
هذا حديث أبي هريرة، قال الشيخ الألباني رحمه الله: صحيح.
وقال ابن ماجة: حدثنا علي بن محمد حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن عمر قال: نهى الحديث.
قال الشيخ الألباني: صحيح.
وقال الشيخ عبد العزيز السدحان في محاضرة له عن الشيخ الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله بالجامعة الإسلامية قال: قرئ على الشيخ ابن باز رحمه الله هذا الحديث من السلسلة الصحيحة، وبعد البحث أعل الشيخ ابن باز رحمه الله الحديث بعلة، وهي أن شيخ ابن ماجة في الحديث هو علي بن محمد وهو يرويه عن وكيع بن الجراح، ووكيع إمام مشهور وطلابه كثر، فكيف يتفرد هذا الراوي علي بن محمد بهذه السنة عن وكيع دون بقية طلاب وكيع ففي النفس منه شيء هكذا قال الشيخ ويقال: هل هذه علة قادحة في الحديث مع وجود رواية أبي داود من طريق أخرى، وله شواهد من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمر وأنس! الذي يظهر أنه لو كان ما فيه إلا هذا يمكن أن يقال ذلك، لكن ما دام له شواهد وجاء من طرق أخرى غير هذه الطريق، فالذي يظهر أنه صحيح.(466/25)
حكم الدعاء في الركوع والجمع بين أذكار عدة في الركوع والسجود
السؤال
هل يجوز الجمع بين الأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في السجود أو الركوع مثل قول: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) مع: سبوح قدوس رب الملائكة والروح؟
الجواب
معلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) في ركوعه وسجوده، وهذا يدل على أن السجود يمكن أن يثنى على الله فيه، وأن الركوع يمكن أن يدعى فيه؛ لأن قوله: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) مشتمل على ثناء ودعاء، والأصل أن يكون في الركوع التعظيم والثناء، والأصل في السجود أن يكون للدعاء، وإذا أثنى على الله عز وجل في السجود أو دعا الله في الركوع، فإن ذلك سائغ، وقد جاء في الحديث (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم).
أما جمع أذكار عدة من الأذكار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموطن فلا بأس بذلك، لكن الركوع يكثر فيه التعظيم، والسجود يكثر فيه الدعاء.(466/26)
حكم دعاء الله بغير الأسماء الحسنى الواردة
السؤال
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] هل معنى هذه الآية أنه لا يدعى الله عز وجل إلا بما ورد من أسمائه الحسنى، وهل يجوز قول الرجل: يا ستار أو يا فراج أو يا دايم؟
الجواب
أولاً: لا يضاف إلى الله عز وجل من الأسماء إلا ما جاء في كتاب الله أو ثبت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الألفاظ الأخرى التي لم ترد، ولكن الله عز وجل هو المتصف بها، فهذا يقولون عنه إنه من باب الإخبار عن الله، وليس من باب الإثبات للصفات أو الأسماء لله عز وجل.(466/27)
حكم الاستثناء في السلام
السؤال
عندنا أحد المدرسين في المدرسة إذا دخل الفصل يقول: السلام عليكم جميعاً إلا واحداً، فما حكم هذا القول؟!
الجواب
هذا كلام باطل، كيف يحرم بعض الناس من السلام؟! فهذا كلام غير مستقيم.(466/28)
حكم تعليق صور الحرمين وغيرها من المساجد على الجدران للزينة
السؤال
ما حكم إلصاق صور المساجد كصورة الحرمين -المسجد النبوي والمسجد الحرام- على الجدران؟
الجواب
لا بأس بذلك.(466/29)
كيفية صلاة من يعجز عن السجود
السؤال
رجل حصل له كسر في إحدى رجليه، وهو لا يستطيع السجود، فكان يصلي قائماً حيث يقرأ قائماً ويركع قائماً وفي حال السجود يفعل كهيئة الركوع، ويتشهد وهو قائم، فما الحكم فيما يفعل؟!
الجواب
إذا كان لا يشق عليه أن يقوم فيصلي قائماً ويركع قائماً، وفي حال سجوده يشير إذا كان لا يستطيع أن يصل إلى الأرض.(466/30)
شرح سنن أبي داود [467]
الإسلام دين الوسطية والاعتدال في كل شيء، ومن ذلك الاعتدال في الملبس والترجل والتنعم والتطيب، فلا يكون الإنسان مبالغاً أو مفرطاً، وإنما يلزم الوسط في جميع أموره وأحواله.
وقد حرم الإسلام تغيير خلق الله، فلعن الواصلة والمستوصلة والنامصة والمتنمصة والواشمة والمستوشمة.(467/1)
ما جاء في الترجل والإرفاه والبذاذة(467/2)
شرح حديث (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الترجل إلا غباً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أول كتاب الترجل.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن هشام بن حسان عن الحسن عن عبد الله بن مغفل قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الترجل إلا غباً)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى كتاب الترجل.
والترجل هو تحسين الشعر ومشطه بالمشط ودهنه والعناية به، هذا هو المقصود بالترجل، وقد سبق أن مر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله، أي: أنه كان يبدأ بالميامن، فعند الترجل كان يبدأ بيمين الرأس ويبدأ بيمين اللحية، فهذا هو الترجل، والترجل مشروع وسائغ، ولكن لا يفرط الإنسان فيه ولا يبالغ فيه، أو يكون مستمراً عليه بحيث تكون عنايته في شعره، وفي تنعمه، وإنما يكون الإنسان معتدلاً وسطاً لا إفراط ولا تفريط، لا غلو ولا جفاء، وإنما توسط واعتدال.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن المغفل رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الترجل إلا غباً) يعني: لا يكون في كل الأيام، ولا يكون الإنسان مستمراً على ذلك؛ لأن هذا ديدن أهل الترفه والتنعم، فعلى الإنسان ألا يكون مشغولاً بهيئته، وتكون عنايته بذلك أكثر من غيره، فالاعتدال والتوسط هو المطلوب، ولهذا جاء النهي عن الترجل إلا غباً، يعني: لا ترك ولا مداومة، وإنما اعتدال وتوسط، والغب: هو فعل يوم وترك يوم، وقد يزيد على ذلك، ولكن الذي جاء فيه النهي هو المداومة على ذلك، وأن يكون ذلك باستمرار.(467/3)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الترجل إلا غباً)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد القطان البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن حسان].
هشام بن حسان ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
الحسن بن أبي الحسن البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن مغفل].
عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(467/4)
شرح حديث (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الإرفاه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد المازني أخبرنا الجريري عن عبد الله بن بريدة أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عبيد رضي الله عنه وهو بمصر فقدم عليه فقال: أما إني لم آتك زائراً، ولكني سمعت أنا وأنت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم رجوت أن يكون عندك منه علم، قال: وما هو؟ قال: كذا وكذا قال: فما لي أراك شعثاً وأنت أمير الأرض؟ قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الإرفاه، قال: فما لي لا أرى عليك حذاءً؟ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نحتفي أحياناً)].
أورد أبو داود حديث فضالة بن عبيد رضي الله تعالى عنه أنه كان أميراً وجاءه رجل من الصحابة، وهو مبهم هنا لم يسم، وكان قد سمع حديثاً هو وإياه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحل إليه ليستثبت منه ذلك الذي سمعه هو وإياه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء وأخبره بالمقصد، ثم قال: ما لي أراك شعثاً وأنت أمير الأرض؟ شعثاً يعني: غير مترجل وغير مستعمل الترجل.
فقال: (إن رسول صلى الله عليه وسلم نهانا عن كثير من الإرفاه) يعني: التوسع والتنعم وكثرة الاشتغال بتحسين الجسد، وبتحسين الشعر، فيكون الإنسان يده فيه دائماً ويكون مشغولاً فيه بحيث يقضي جزءاً من أوقاته في هذه المهمة، وفي هذه الأغراض، فهذا من الترفه، والمطلوب هو أن يكون بين بين أي: وسطاً بحيث لا يكون تاركاً بالمرة، ولا متوسعاً مبالغاً، وإنما يكون معتدلاً، ولهذا قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن كثير من الإرفاه) يعني: عن التنعم كثيراً أو التوسع كثيراً، ولم ينههم عن الترجل وعن تحسين الهيئة، وإنما الذي نهاهم عنه هو التوسع في ذلك، ولهذا قال: (عن كثير من الإرفاه) ولم يقل: نهانا عن الإرفاه، وهذا معناه أن يكون هناك توسط، وأن يكون هناك اعتدال.
ثم قال: (ما لي لا أرى عليك حذاءً؟ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نحتفي أحياناً).
وهذا فيه إشارة إلى الانتعال والاحتفاء، وأن هذا ليس هو ديدنه وليست هذه هي طريقته، وإنما وافق أنه كان على هذه الحالة في هذا الحين من الأحيان الذي كان يحتفي فيه امتثالاً لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو من جنس الذي قبله، فالحديث الذي قبله فيه عدم توسع، وهنا كذلك فيه عدم توسع.
لكن إذا كانت الأرض فيها أمور تقتضي الانتعال فإن الإنسان ينتعل، فإذا كانت الأرض مثلاً فيها زجاج أو فيها حديد أو كان فيها حجارة أو شوك، أو رمضاء في شدة حرارة الشمس فإن الإنسان يجعل هذه الوقاية التي أنعم الله تعالى بها عليه وهي استعمال النعال، ولكن كونه يترك النعال في بعض الأحيان هذا هو الذي جاء في هذا الحديث عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يأمرهم بالاحتفاء أحياناً، وذلك حتى لا يحصل هناك تنعم زائد ومغالاة فيه وإنما يحصل شيء من الخشونة والبذاذة، ولكن لا يكون ذلك دائماً وأبداً، وإنما يكون في بعض الأحيان.(467/5)
تراجم رجال إسناد حديث (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الإرفاه)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا يزيد المازني].
هو يزيد بن هارون الواسطي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وكلمة المازني هذه لا أدري كيف جاءت؛ فهو واسطي، وقيل: أصله من بخارى، فلا أدري هل هذه الكلمة لها أصل أو جاءت خطأً.
[أخبرنا الجريري].
سعيد بن إياس الجريري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عبد الله بن بريدة].
عبد الله بن بريدة بن الحصيب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عبيد].
فضالة بن عبيد رضي الله عنه صحابي أخرج له البخاري في الأب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
وهذا الحديث هو عن فضالة، وهو حديث طويل، ولكنه أشار إليه هنا إشارة، وأنه قال كذا وكذا، وأنه بعد ذلك سأله، والسؤال والجواب هما محل الشاهد لهذه الترجمة.(467/6)
حكم الاهتمام بالمظهر
في بعض البلدان يهتم الناس بالمظاهر، ويحتقرون أصحاب الهيئات الرثة وخاصة من كان ملتزماً، والتوسط هو المطلوب في جميع الأحوال، فلا تفريط وإهمال، ولا إفراط وغلو وإسراف.(467/7)
شرح حديث (إن البذاذة من الإيمان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي قال حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي أمامة عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً عنده الدنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟ إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان) يعني: التقحل.
قال أبو داود: هو أبو أمامة بن ثعلبة الأنصاري].
أورد أبو داود حديث أبي أمامة وهو إياس بن ثعلبة الأنصاري رضي الله تعالى قال: (ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده الدنيا يوماً فقال: ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟ إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان) والمقصود بالبذاذة: التقحل، يعني: ألا يكون الإنسان متوسعاً ولا متنعماً، وألا يكون شغله الشاغل جسمه ومظهره، وكأنه ليس عنده إلا هذه المهمة، وليس له إلا هذه الغاية، وإنما يكون معتدلاً متوسطاً في هذه الأمور.
فالبذاذة هي التقشف، وكون الإنسان لا يكون معنياً بجسده حتى يكون في غاية النعومة وغاية التنعم، وإنما يتوسط ويعتدل.
وكون البذاذة من الإيمان معناه: أن الإنسان يكون معتدلاً متوسطاً في أموره، وذلك مما جاء به الإسلام، ومما جاء به الشرع، وكون الإنسان يتبع الشيء الذي أرشد إليه الشرع ودل عليه هو من إيمانه ومن استسلامه وانقياده للشرع.
فإن قيل: ما وجه الجمع بين حديث: (إن الله جميل يحب الجمال) وبين هذا الحديث: (البذاذة من الإيمان)؟ ف
الجواب
أنه لا تنافي بينها؛ لأن الجمال بدون مبالغة وبدون إسراف وبدون غلو مطلوب، والبذاذة ليس المقصود بها سوء الهيئة، وأن الإنسان يكون على هيئة ليست بطيبة، وإنما المقصود أن يكون معتدلاً.
وهذا الحديث هو للنساء والرجال سواء، إلا أن النساء فيما بينهن وبين أزواجهن يتجملن بالشيء الذي هو سائغ.(467/8)
تراجم رجال إسناد حديث (إن البذاذة من الإيمان)
قوله: [حدثنا النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن سلمة].
محمد بن سلمة الباهلي الحراني ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
ومحمد بن سلمة هو من شيوخ أبي داود، وله شيخ آخر اسمه محمد بن سلمة وهو المرادي المصري، وإذا جاء غير منسوب وهو في طبقة شيوخ أبي داود فيتعين أنه المصري وإذا كان في طبقة شيوخ شيوخه فيتعين أنه الحراني، وهذا علم من علوم الحديث، يسمونه المتفق والمفترق، يعني: تتفق أسماء الرواة وأسماء آبائهم وتختلف أشخاصهم، فهذا الراويان كل منهما اسمه محمد بن سلمة إلا أن هذا شخص وهذا شخص، وكل منهما في طبقة: هذا في طبقة متقدمة وهذا في طبقة متأخرة، فالذي في الطبقة المتأخرة وهو من شيوخ أبي داود هو المرادي المصري، والذي هو في طبقة شيوخ شيوخه هو الحراني الباهلي.
[عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن أبي أمامة].
هو عبد الله بن ثعلبة صدوق أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن عبد الله بن كعب بن مالك].
عبد الله بن كعب بن مالك ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن أبي أمامة].
أبو أمامة هو إياس بن ثعلبة صحابي أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
وهو غير المشهور بالكنية فالمشهور بالكنية الذي يأتي ذكره كثيراً في الأحاديث هو أبو أمامة صدي بن عجلان الباهلي، وهذا كنيته هي نفس كنية أبي أمامة الباهلي ولكنه لا يأتي كثيراً كما يأتي أبو أمامة صدي بن عجلان الباهلي.(467/9)
ما جاء في استحباب الطيب(467/10)
شرح حديث (كانت للنبي صلى الله عليه وسلم سكة يتطيب منها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في استحباب الطيب.
حدثنا نصر بن علي حدثنا أبو أحمد عن شيبان بن عبد الرحمن عن عبد الله بن المختار عن موسى بن أنس عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كانت للنبي صلى الله عليه وسلم سكة يتطيب منها)].
أورد أبو داود باب ما جاء في استحباب الطيب، يعني: كون الإنسان يتطيب ويستعمل الطيب، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب الطيب، وكان يتطيب، وكان صلوات الله وسلامه وبركاته عليه دائماً طيب الرائحة.
وقد أورد أبو داود حديث أنس بن مالك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له سكة يتطيب منها) والمراد بالسكة: وعاء طيب يكون فيه طيب يتطيب منه.
والمقصود من ذلك أن منهجه صلى الله عليه وسلم كان استعمال الطيب.(467/11)
تراجم رجال إسناد حديث (كانت للنبي صلى الله عليه وسلم سكة يتطيب منها)
قوله: [حدثنا نصر بن علي].
نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو أحمد].
أبو أحمد محمد بن عبد الله الزبيري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شيبان بن عبد الرحمن].
شيبان بن عبد الرحمن النحوي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن المختار].
عبد الله بن المختار لا بأس به أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[عن موسى بن أنس].
[عن موسى بن أنس ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(467/12)
باب في إصلاح الشعر(467/13)
شرح حديث (من كان له شعر فليكرمه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في إصلاح الشعر.
حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب حدثني ابن أبي الزناد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان له شعر فليكرمه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في إصلاح الشعر، وهذه الترجمة هي بمعنى ما قلناه في الترجل، والترجل هو تحسين الشعر، والمقصود: الاعتدال والتوسط في ذلك.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة مرفوعاً: (من كان له شعر فليكرمه) يعني: يكرمه بعدم إهماله، ولكن بالاعتدال والتوسط كما سبق أن مر، فليس هناك مخالفة بين هذا وبين الحديث السابق؛ لأن هذا فيه عدم الإهمال، وذاك يدل على التوسط والاعتدال، فلا تنافي بين ما جاء هنا وما جاء هناك؛ لأن قوله (فليكرمه) ليس معناه أنه يكون هو شغله الشاغل ويعتني به دائماً وأبداً ويشغل نفسه بالترفه والتنعم، وإنما يكون بالتوسط والاعتدال كما جاء توضيح ذلك في الأحاديث السابقة.(467/14)
تراجم رجال إسناد حديث (من كان له شعر فليكرمه)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
سليمان بن داود المهري المصري ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا ابن وهب].
ابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني ابن أبي الزناد].
ابن أبي الزناد هو عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[سهيل بن أبي صالح].
سهيل بن أبي صالح صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو أبو صالح السمان اسمه ذكوان ولقبه السمان ويقال: الزيات؛ لأنه كان يجلب الزيت ويبيعه ويجلب السمن ويبيعه، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق، فرضي الله عنه وأرضاه.(467/15)
باب في الخضاب للنساء(467/16)
شرح حديث عائشة في خضاب الحناء (لا بأس به ولكني أكرهه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الخضاب للنساء.
حدثنا عبيد الله بن عمر حدثنا يحيى بن سعيد عن علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير قال: حدثتني كريمة بنت همام أن امرأة أتت عائشة رضي الله عنها فسألتها عن خضاب الحناء فقالت: (لا بأس به ولكني أكرهه؛ كان حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره ريحه).
قال أبو داود: تعني خضاب شعر الرأس].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة بعنوان: باب في الخضاب للنساء.
والمقصود من ذلك خضاب اليدين بالحناء، وكذلك خضاب الشعر، لكن خضاب الشعر لا يختص بالنساء وإنما هو للرجال والنساء، ويكون ذلك بتغيير الشيب بالحناء، وأما بالنسبة لليدين فالنساء يخضبن أيديهن، وهو من الزينة التي تتخذها النساء للتجمل، والترجمة هنا هي في الخضاب للنساء.
وأورد أبو داود حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: أن امرأة أتتها فسألتها عن خضاب الحناء.
فقالت: لا بأس به ولكني أكرهه؛ كان حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره ريحه.
يعني: أنها تكرهه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره ريحه.
قال أبو داود: تعني خضاب شعر الرأس.
يعني: في خضاب شعر رأسها، وفيما يتعلق باليدين لا بأس به، وعائشة رضي الله عنها وأرضاها كما جاء في هذا الحديث إنما كانت تتركه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحب رائحته، وكان عليه الصلاة والسلام يحب الرائحة الطيبة، ولكن الحديث غير صحيح ففي إسناده كريمة بنت همام مقبولة.(467/17)
ترجمة رجال إسناد حديث عائشة في خضاب الحناء (لا بأس به ولكني أكرهه)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر].
عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري ثقة أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا يحيى بن سعيد].
يحيى بن سعيد القطان مر ذكره.
[عن علي بن المبارك].
علي بن المبارك ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن أبي كثير].
يحيى بن أبي كثير اليمامي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني كريمة بنت همام].
كريمة بنت همام مقبولة أخرج لها أبو داود والنسائي.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(467/18)
حكم خضاب الرجل ليديه والخضاب بالأسود
وخضاب اليدين بالنسبة للرجل لا يجوز إلا إذا كان لعلاج أو للتداوي، فلا بأس بذلك.
واستخدام الحناء الأسود الذي يغير الشعر الأبيض إلى أسود منهي عنه، سواء قيل: إنه حناء أو غير حناء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (غيروا هذا الشيب بشيء وجنبوه السواد) أي: السواد مطلقاً، أما إذا كان ليس بسواد، ولكنه شيء بين السواد والصفرة أو الحمرة فلا بأس به، وهذا هو الذي يقال له الكتم.
وهذا لا يقال له سواد؛ لأنه بين السواد والحمرة والصفرة.(467/19)
شرح حديث (أن هند بنت عتبة قالت: يا نبي الله بايعني)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم قالت حدثتني غبطة بنت عمرو المجاشعية حدثتني عمتي أم الحسن عن جدتها عن عائشة رضي الله عنها: (أن هند بنت عتبة قالت: يا نبي الله! بايعني، قال: لا أبايعك حتى تغيري كفيك كأنهما كفا سبع)].
أورد أبو داود حديث عائشة: (أن هند بنت عتبة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: بايعني، قال: لا أبايعك حتى تغيري كفيك كأنها كفا سبع) يعني: تغيرهما بالخضاب فتخضبها، ولكن هذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه ثلاث نساء: واحدة مقبولة واثنتان مجهولتان، وهذا الحديث أكثر إسناده نساء وليس فيه إلا مسلم بن إبراهيم الذي هو شيخ أبي داود، ولكن ثلاث من هؤلاء النساء دون عائشة واحدة مقبولة واثنتان مجهولتان.(467/20)
تراجم رجال إسناد حديث (أن هند بنت عتبة قالت: يا نبي الله بايعني)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثتني غبطة بنت عمرو المجاشعية].
غبطة بنت عمرو المجاشعية مقبولة أخرج لها أبو داود.
[قالت: حدثتني عمتي أم الحسن].
عمتها أم الحسن لا يعرف حالها أخرج لها أبو داود.
[عن جدتها].
وجدتها أيضاً لا تعرف أخرج لها أبو داود.
[عن عائشة].
عائشة مر ذكرها.
وهذا الحديث فيه نكارة من ناحية كونها كانت مكشوفة اليدين، والسنة أن يدي المرأة تكون مغطاة وغير مكشوفة.(467/21)
شرح حديث (لو كنت امرأة لغيرت أظفارك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن محمد الصوري حدثنا خالد بن عبد الرحمن حدثنا مطيع بن ميمون عن صفية بنت عصمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أومأت امرأة من وراء ستر بيدها كتابٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبض النبي صلى الله عليه وسلم يده فقال: ما أدري أيد رجل أم يد امرأة؟ قالت: بل امرأة، قال: لو كنت امرأة لغيرت أظفارك) يعني: بالحناء].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: (أومأت امرأة من وراء ستر بيدها كتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبض يده) يعني: لم يستلم الكتاب منها ولم يأخذه، فقال: لا أدري أيد رجل أو امرأة؟ فقالت: بل امرأة، قال: لو كنت امرأة لغيرت أظفارك، يعني: بالحناء، وهذا الحديث فيه ضعيفان: فيه مطيع بن ميمون، وفيه المرأة التي روى عنها.(467/22)
تراجم رجال إسناد حديث (لو كنت امرأة لغيرت أظفارك)
قوله: [حدثنا محمد بن محمد الصوري].
محمد بن محمد الصوري صدوق أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا خالد بن عبد الرحمن].
خالد بن عبد الرحمن صدوق له أوهام، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا مطيع بن ميمون].
مطيع بن ميمون لين أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن صفية بنت عصمة].
صفية بنت عصمة لا تعرف أخرج لها أبو داود والنسائي.
[عن عائشة].
عائشة قد مر ذكرها.(467/23)
شرح سنن أبي داود [468]
للشعر أحكام في الشريعة الإسلامية سواء فيه ما يتعلق بالرجال أو النساء، أما ما يختص بالنساء، فقد حرمت السنة النبوية للمرأة أن تصل شعرها بشعر غيرها، سواء كان الواصل لذلك هي المرأة نفسها أو غيرها، ومن فعلت ذلك فعليها الإقلاع والتوبة، لأن فعلها يعد من كبائر الذنوب، وفيه شبه بنساء إسرائيل الذي كان الوصل سبب في هلاكهم.(468/1)
باب في صلة الشعر(468/2)
شرح حديث (إنما هلك بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب صلة الشعر.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما عام حج وهو على المنبر، وتناول قصة من شعر كانت في يد حرسي يقول: (يا أهل المدينة! أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه ويقول: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب ما جاء في صلة الشعر.
يعني: وصل الشعر بشيء زائد من أجل التطويل.
وقد أورد أبو داود رحمه الله عدة أحاديث أولها حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أنه قدم من الشام قدمة لحج أو عمرة، فمر بالمدينة وخطب الناس، وأخذ قصة من شعر كانت بيد حرسي، يعني: واحداً من الحرس، وكأنه أتى بها أو رآها وأراد أن ينبه الناس عليها بالمشاهدة والمعاينة، فكانت مع هذا الحرسي فأخذها حتى يقول للناس: إن هذا اللون أو هذا الشيء الذي حصل واتخذته النساء لا يجوز، فقال: (يا أهل المدينة! أين علماءكم؟) وقوله: (أين علماؤكم) لعل المقصود من ذلك: أين علماؤكم الذين لم ينبهوكم على هذا ولم يبينوا لكم حكم هذا، وأن هذا غير سائغ؟ لأن العلماء هم الذين يبينون الأحكام الشرعية، وهم الذين يبينون ما يسوغ وما لا يسوغ، وإذا رأوا أمراً مخالفاً للسنة نبهوا عليه وبينوه؛ لأنهم هم الذين يتكلمون بعلم ويقولون بعلم، فهذا شأن العلماء.
فالمقصود من قوله: (أين علماؤكم؟) أن هذا خلل وأن هذا نقص وأن هذا تقصير، وأن هذا شيء غير سائغ، ومهمة العلماء أنهم ينبهون على هذا، وهذا يدل على ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيان السنن والتحذير من المعاصي والمخالفات لما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيان ذلك على المنابر حتى تعم الفائدة وحتى يعم النفع، فإن أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه وأرضاه حدث بذلك وهو على المنبر لتعم المنفعة، ولينتشر العلم، ويكثر الآخذون عنه العلم.
وقوله: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه ويقول: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم).
هذا فيه بيان أن هذا من أفعال الأمم السابقة، وأن هذا من الأمور المحرمة، وأن هذا من أسباب هلاكهم، وفي هذا بيان أن المعاصي ضررها كبير، وخطرها عظيم، وذلك أن من أسباب هلاك الأمم السابقة اتخاذ نسائهم مثل هذه الأعمال والاتصاف بمثل هذه الأوصاف.(468/3)
تراجم رجال إسناد حديث (إنما هلك بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
ابن شهاب هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد بن عبد الرحمن].
حميد بن عبد الرحمن ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنه سمع معاوية بن أبي سفيان].
معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه وأرضاه أخرج له أصحاب الكتب الستة.(468/4)
شرح حديث (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد قالا: حدثنا يحيى عن عبيد الله قال: حدثني نافع عن عبد الله رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة).
الواصلة هي: التي تصل شعرها بنفسها، أو تصل شعر غيرها، والمستوصلة هي: التي تطلب من غيرها أن يفعل ذلك بها، أي: تطلب من أحد أن يصل شعرها لها.
فقوله: (لعن رسول صلى الله عليه وسلم الواصلة).
الواصلة: يدخل تحتها من تصل شعرها بنفسها، ومن تصل شعر غيرها، والمستوصلة: هي التي تطلب من غيرها أن يفعل بها ذلك.
وهذا يدل على أن هذا الفعل من الكبائر؛ لأنه مشتمل على لعن، ومما يدل على أن الذنب من الكبائر أن يترتب عليه حد في الدنيا، أو يتوعد عليه بلعن أو غضب أو نار أو إحباط عمل، أو ما إلى ذلك من الأوصاف التي تدل على كبر الذنب وعلى عظم الذنب.
وقوله: (والواشمة والمستوشمة).
الواشمة هي: التي تفعل الوشم في جسدها أو في جسد غيرها، وذلك بأن تطعن في جسدها بإبرة وإذا خرج الدم تحشو مكانه كحلاً أو غيره فيصير لون ذلك الموضع لون ذلك الشيء الذي حشي به والذي وضع عليه، فيكون سمة وعلامة بارزة تستمر وتدوم مع المرأة، وهذا منهي عنه.
والمستوشمة هي: التي تطلب من غيرها أن يفعل بها ذلك.(468/5)
تراجم رجال إسناد حديث (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ومسدد].
مسدد بن مسرهد مر ذكره.
[قالا: حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد القطان مر ذكره.
[عن عبيد الله].
عبيد الله بن عمر بن حفص العمري المصغر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثني نافع].
نافع مولى ابن عمر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله].
عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(468/6)
شرح حديث ابن مسعود (لعن الله الواشمات والمستوشمات)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عيسى وعثمان بن أبي شيبة المعنى قالا: حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: (لعن الله الواشمات والمستوشمات، قال محمد: والواصلات، وقال عثمان: والمتنمصات، ثم اتفقا -والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب - زاد عثمان: كانت تقرأ القرآن ثم اتفقا -فأتته فقالت: بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات- قال محمد: والواصلات وقال عثمان: والمتنمصات ثم اتفقا -والمتفلجات، قال عثمان: للحسن المغيرات خلق الله تعالى! فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى؟! قالت: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته، فقال: والله لئن كنت قرأته لقد وجدته، ثم قرأ: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] قالت: إني أرى بعض هذا على امرأتك قال: فادخلي فانظري فدخلت ثم خرجت فقال: ما رأيت؟ وقال عثمان: فقالت: ما رأيت، فقال: لو كان ذلك ما كانت معنا)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: (لعن الله الواشمات والمستوشمات -قال: محمد: والواصلات، وقال عثمان: والمتنمصات، ثم اتفقا: والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله).
هذا أيضاً فيه دلالة على ما ترجم له المصنف من ذكر الوصل، وأن ذلك ورد فيه اللعن، وقد مر ذلك من حديث ابن عمر، وهنا جاء من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
وقوله: (الواشمات والمستوشمات) مر ذكره في الحديث السابق.
وقوله: (والواصلات) أيضاً مر ذكره في الحديث السابق.
وقوله: (والمتنمصات).
المتنمصات هن اللاتي ينتفن شعور حواجبهن من أجل التجمل وتحسين الحاجب.
وقوله: (والمتفلجات للحسن).
هن اللاتي يحصل منهن التفليج بين أسنانهن بحيث تكون هناك فرجة يسيرة من أجل التجمل، والفلج هو ما يكون من فرجة يسيرة بين سنين من أجل التجمل، وكل ذلك جاء النهي عنه.
وقوله: (للحسن).
أي: للتجمل، أما إذا كان للعلاج أو لإصلاح خلل في الأسنان وعلاجه لا يكون إلا بذلك فإن هذا لا بأس به، وإنما المحذور أن يكون للحسن، أي: للتجمل.
وقوله: (المغيرات لخلق الله).
يعني: بهذه الهيئات أو بهذه الهيئة التي جاءت بأن تكون أسنان المرأة على هيئة معينة، ثم تعمل هذا العمل فيها من أجل أن تظهر الجمال في هيئتها، وذلك لم يحصل بخلق الله عز وجل، وإنما حصل بفعلها وبكسبها وبتصرفها.
وقوله: (فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم يعقوب) أي: بلغها الخبر أو الحديث الذي جاء عن ابن مسعود في لعن هؤلاء النسوة.
وقوله: (كانت تقرأ القرآن ثم اتفقا: فأتته فقالت: بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات! قال محمد: والواصلات قال عثمان: والمتنمصات ثم اتفقا: والمتفلجات، قال عثمان: للحسن المغيرات خلق الله تعالى، فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله تعالى؟ قالت: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته، قال: والله! لئن كنت قرأته لقد وجدته، ثم قرأ: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]).
يعني: أن هذه المرأة جاءت إلى عبد الله بن مسعود بعد أن سمعت الحديث وبلغها الحديث عنه رضي الله عنه فقالت: بلغني عنك أنك تلعن كذا وكذا، فقال: (وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله وهو في كتاب الله؟) وكانت قارئة للقرآن، فجاءت إليه وقالت: إنني قرأت ما بين لوحي المصحف، يعني: قرأت المصحف من أوله إلى آخره، فما وجدت فيه: (لعن الله النامصة والمتنمصة والواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة، والمتفلجات للحسن) فقال لها رضي الله عنه: (إن كنت قرأته فقد وجدته؛ قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]).
فهذا يدلنا على أن السنة كلها موجودة في القرآن وفي هذه الآية في قول الله عز وجل: ((وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)) أي: كل شيء جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم يجب الأخذ به، وكل نهي نهى عنه الرسول فيجب تركه والابتعاد عنه، وذلك هو من كتاب الله عز وجل؛ لأن الله تعالى أمر بأخذ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ونهى عن فعل الشيء الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإذاً: هو موجود في القرآن، وهو مما أمر الله به في القرآن، فالسنة مأمور بها كما أن أوامر القرآن جاءت في القرآن وقد أمر الناس بها، فكذلك السنة هي مأمور بها؛ لأنها جاءت من الله عز وجل بتبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم، وأيضاً كل الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم داخل تحت قوله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
إذاً: السنة مأمور بها في القرآن، والمأمورات بها مأمور بالأخذ بها في القرآن، والمنهيات الواردة في السنة منهي عن تعاطيها وفعلها في القرآن، فبين رضي الله عنه أن هذا الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كله داخل في قوله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
قوله: (قالت له: أني أرى بعض هذا على امرأتك، فقال: ادخلي فانظري، فدخلت ثم خرجت فقال: ما رأيت؟).
فأخبرت بأنها ما رأت ذلك الشيء الذي قالته، ولعل ذلك أنها كانت رأته من قبل أو أنها توهمت أنها رأته، ولكنها عندما أدخلها عليها لترى لم تجد ذلك الشيء الذي ادعته.
فقال: رضي الله عنه: (لو كان ذاك ما كانت معنا)، يعني ما بقيت معنا، وما أبقيناها وهي مخالفة للسنة، يعني: أننا لا نبقيها على هذا الوضع، بل إما أن تتبع السنة، وإن أبت فإنه يحصل التخلص منها.(468/7)
تراجم رجال إسناد حديث ابن مسعود (لعن الله الواشمات والمستوشمات)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
محمد بن عيسى الطباع ثقة أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[وعثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فأخرج له في عمل اليوم والليلة.
[قالا: حدثنا جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
منصور بن المعتمر الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم].
إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علقمة].
علقمة بن قيس ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله].
عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد فقهاء الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(468/8)
شرح حديث (لعنت الواصلة والمستوصلة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن السرح حدثنا ابن وهب عن أسامة عن أبان بن صالح عن مجاهد بن جبر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لُعنت الواصلة والمستوصلة، والنامصة والمتنمصة، والواشمة والمستوشمة من غير داء)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس: (لعنت الواصلة والمستوصلة، والنامصة والمتنمصة، والواشمة والمستوشمة من غير داء).
وقوله: (لعنت) مبني للمجهول، ومعلوم أن اللعن إذا ذكر عن الصحابة فهو منسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى الله، يعني: لعن الله أو لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أنها ملعونة في كتاب الله، أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاللعن إما أن يضاف إلى الله، وإما أن يضاف إلى رسول الله.
وقد مر في الأحاديث السابقة ذكر الواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والواصلة والمستوصلة، وهنا قال: (من غير داء) يعني: الواشمة والمستوشمة من غير داء، وقد يفهم منه أنه إذا كان له سبب فإنه لا بأس به، لكن قد جاء في بعض الأحاديث ما يدل على أن ذلك غير سائغ، وذلك في قصة المرأة التي أخبرت أنها تريد أن تزوج ابنتها وأن رأسها تمزق، وأنها تريد أن تصله، فالرسول صلى الله عليه وسلم بين أن ذلك لا يجوز ولا يسوغ.(468/9)
تراجم رجال إسناد حديث (لعنت الواصلة والمستوصلة)
قوله: [حدثنا ابن السرح].
ابن السرح هو أحمد بن عمرو بن السرح ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب عن أسامة].
أسامة هو ابن زيد الليثي وهو صدوق يهم أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبان بن صالح].
أبان بن صالح ثقة أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن مجاهد بن جبر].
مجاهد بن جبر المكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(468/10)
تفسير الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة
[قال أبو داود: وتفسير الواصلة: التي تصل الشعر بشعر النساء، والمستوصلة: المعمول بها، والنامصة: التي تنقش الحاجب حتى ترقه، والمتنمصة: المعمول بها، والواشمة: التي تجعل الخيلان في وجهها بكحل أو مداد، والمستوشمة: المعمول بها].
ذكر أبو داود هذه التفسيرات بهذه الكلمات فقال: تفسير الواصلة: التي تصل الشعر بشعر النساء، وهذا التفسير غير واضح؛ لأن المقصود: وصل الشعر بالشعر، وحتى بغير الشعر، فما دام أنه شيء يكون فيه مخالفة، ويدخل تحت عموم النهي، فلا يجوز إلا لدليل يدل عليه، أعني: لا يجوز غير ما يقتضيه اللفظ إلا لدليل يدل عليه، ولا نعلم دليلاً يدل على ذلك.
فإذاً: ليس ذلك خاصاً بشعر النساء بمعنى أنه يقص من امرأة ويوصل بشعر امرأة أخرى وأنه لا يكون الوصل إلا بهذه الطريقة، بل الآن صارت الشعور يظهر فيها أشكال وهيئات وصناعة وتفنن في الأشياء، حتى لا يكاد يتميز الشعر الصناعي من الشعر الطبيعي والحقيقي.
وقوله: (والمستوصلة: المعمول بها) يعني: التي تطلب أن يعمل بها ذلك.
والنامصة: التي تنقش الحاجب حتى ترقه، والمتنمصة: التي تطلب أن يفعل بها ذلك.
وقوله: (والواشمة: التي تجعل الخيلان في وجهها بكحل أو مداد).
الخيلان جمع خال، والخال هو: علامة سوداء، والخال أحياناً يكون طبيعياً ويكون فيه حبة سوداء أو شيء في جسد المرأة، وبعض النساء قد تفعله عن طريق الوشم.
والوشم أحياناً يتخذ للزينة، فإن ذلك اللون الذي يغاير اللون الطبيعي يعتبرونه جمالاً، والناس يتفاوتون في رغباتهم وفي اعتبار الجمال عندهم، فمن الناس من يرى أن هذا من الجمال، وأن وجود هذه العلامة التي يقال لها الخال جمال، وبعضهم لا يعتبر ذلك جمالاً بل صفاء اللون وخلوه من أشياء مغايرة له يكون أحسن وأجمل، ولهذا يأتي ذكر مثل هذا في شعر الشعراء كما يذكر النحويون في باب تقديم مفعول خبر كان على الاسم والخبر قول الشاعر: باتت فؤادي ذات الخال سالبة يعني باتت ذات الخال سالبة فؤادي، ففؤادي الذي هو مفعول للخبر قدم على اسم بات وخبرها.
وبات من أخوات كان.(468/11)
شرح أثر سعيد بن جبير في تجويز القرامل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن جعفر بن زياد قال: حدثنا شريك عن سالم عن سعيد بن جبير قال: لا بأس بالقرامل.
قال أبو داود: كأنه يذهب إلى أن المنهي عنه شعور النساء.
قال أبو داود: كان أحمد يقول: القرامل ليس به بأس].
أورد أبو داود هذا الأثر عن سعيد بن جبير أنه قال لا بأس بالقرامل.
قال أبو داود: كأنه يذهب إلى أن المنهي عنه شعور النساء.
يعني: وصله بشعر النساء مثلما تقدم في تفسير أبي داود، وقد ذكرنا أن الوصل بالشعر منهي عنه سواء كان شعر النساء أو غير شعر النساء، وسواء كان حقيقياً أو صناعياً؛ لأن المحذور في ذلك واحد.
والقرامل: جمع قرمل، والمراد به خيوط من حرير أو صوف تصل النساء به شعورها، وهذا كما ذكرنا غير سائغ، وهذا الذي ذكره عن سعيد بن جبير يدل على أنه كان يرى ذلك.
ثم ذكر أيضاً أبو داود عن الإمام أحمد أنه كان لا يرى في ذلك بأساً، ولكن عموم الحديث يدل على المنع من الجميع.(468/12)
تراجم رجال إسناد أثر سعيد بن جبير في تجويز القرامل
قوله: [حدثنا محمد بن جعفر بن زياد].
محمد بن جعفر بن زياد ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي صدوق يخطئ كثيراً وساء حفظه لما ولي القضاء، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سالم].
سالم هو الأفطس وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.(468/13)
الأسئلة(468/14)
حكم إزالة الحواجب
السؤال
هل المراد بالنمص إزالة الشعر بالكلية أو يدخل في ذلك ترقيق شعر الحاجبين؟
الجواب
إزالة الشعر بالكلية ليس بجمال، بل هو تشويه فإن المرأة التي ليس لها حاجب يكون منظرها كريهاً، فالحواجب من أحسن ما يعتبر جمالاً في حق النساء، ولهذا يعتنين بترقيقها وتهذيبها، وإزالة ما بجوانبها حتى تكون على هيئة حسنة، أما كونه يزال كله فهذا لا تفعله النساء وهذا يعتبر تشويهاً وليس تزييناً.
وبعض النساء يقال: إنهن يزلن الحواجب ثم يجعلن خطاً أسود بالكحل مكانه، وهذا كله غير سائغ إذا كان هذا يحصل، ثم كيف يكون الجمال في خط أسود غير الشعر؟! فالجمال إنما هو في الشعر البارز الظاهر وليس في خطوط تكون على الجسد.(468/15)
حكم الوصل والوشم والنمص بالنسبة للرجال
السؤال
هل الحكم في الوصل والوشم والنمص يتعلق بالرجال والنساء، أم بالنساء فقط؟
الجواب
الرجال والنساء كلهم سواء، والرجال طبعاً كما هو معلوم ليسوا بحاجة إلى وصل الشعر فهم يحلقون شعور رءوسهم في الحج والعمرة أو يقصرون، والحلق أفضل من التقصير، وفي غير ذلك لهم أن يحلقوا ولهم أن يقصروا ولهم أن يتركوا.(468/16)
حكم إزالة الشعر الذي بين الحاجبين
السؤال
ما حكم إزالة الشعر الذي بين الحاجبين والذي على الأنف؟
الجواب
الذي يظهر أنه لا يتعرض للشعر الذي بين الحاجبين؛ لأنه من جملة ذلك الشعر الذي خلقه الله عز وجل، وهذا يسمى القرن، والذي يكون كذلك يقال له أقرن، وكان صهيب الرومي رضي الله عنه أقرن الحاجبين، يعني: أن الشعر متصل بين حاجبيه.(468/17)
حكم تقويم الأسنان المتراكبة
السؤال
ما حكم تقويم الأسنان المتراكبة؟
الجواب
هذا لا بأس به؛ لأنه علاج، فإذا كانت أسنان الإنسان بعضها بارز وبعضها داخل لا يستفاد منه كما ينبغي، ثم عمل لها تقويماً بحيث تكون على نسق وعلى هيئة يستفاد منها فلا بأس بذلك.(468/18)
حكم نمص الشعر غير شعر الوجه
السؤال
هل النمص خاص بشعر الوجه أم هو عام لجميع الشعر كشعر اليدين والرجلين رجالاً ونساءً؟
الجواب
الذي يبدو أنه ليس بعام، وأنه يجوز إزالة الشعور التي على اليدين والرجلين للرجال والنساء، ولا نعلم شيئاً يمنع منه، لكن كما هو معلوم فيما يتعلق بالرجال أنهم إذا أزالوا الشعر يظهر بقوة ويصير أشد مما كان أولاً.(468/19)
حكم رسم حبة الخال بأدوات التجميل
السؤال
هناك بعض الناس رسم حبة الخال على وجهه بأدوات التجميل ثم يذهب هذا مع الماء إذا غسلت فما الحكم؟
الجواب
لا ينبغي هذا.(468/20)
حكم تشقير الحواجب
السؤال
ما حكم تشقير الحواجب بحيث يصبغ من أعلى الحاجب وأسفله بلون كلون البشرة؟
الجواب
هذا مثل التهذيب ومثل كونه يزال، والنتيجة واحدة، فإنه إذا غير اللون يصير كأنه محلوق أو كأنه منتوف.(468/21)
وجوب إزالة الوشم على من قد حصل منه
السؤال
هناك شخص لما كان نصرانياً فعل الوشم على يده والآن أسلم وصار مسلماً فهل يجب عليه أن يزيل هذا الوشم؟
الجواب
فإذا كان لا يترتب عليه مضرة في إزالته فعليه أن يزيله.(468/22)
أفضل مراتب صيام عاشوراء
السؤال
هل صحيح أن أفضل مراتب صيام عاشوراء أن يصوم الإنسان يوماً قبله ويوماً بعده؟
الجواب
بعض أهل العلم قال هذا، لكن لا نعلم شيئاً يدل عليه.(468/23)
حكم ثقب المرأة أنفها
السؤال
بعض النساء تثقب أنفها وتجعل فيه حلياً فهل هذا جائز؟
الجواب
إذا جرت عادة النساء بالتجمل بهذا فلا بأس به، ويكون مثل ثقب الأذن، وكان هذا موجوداً حتى أزمان قريبة، ولكنه ترك في هذا الزمان.(468/24)
حكم لعب الأطفال التي على صورة إنسان أو حيوان
السؤال
ما حكم ألعاب الأطفال التي تكون على صورة إنسان أو صورة حيوان؟
الجواب
لا يجوز تعاطيها ولا يجوز استعمالها؛ لأن هذه صور مجسمة على هيئة حيوان فلا يجوز اتخاذها، ولا يجوز اقتناؤها، وإنما الذي يجوز هو الشيء الذي ليس على صورة معينة مثل ما كانت لعب عائشة رضي الله عنها؛ فإنها كانت عودين معترضين، ثم يلف عليهما خرق، وهذه هي على هيئة إنسان في الجملة لكن ليس فيها تصوير، ولا فيها هيئة الإنسان، أما هذه الصور المجسمة التي هي من البلاستيك فتظهر على هيئة الإنسان كاملة فتجتنب ولا ينبغي للإنسان أن يتعاطاها.(468/25)
ترجيل اللحية غباً
السؤال
الترجل غباً هل يدخل فيه شعر اللحية؟
الجواب
نعم، فشعر اللحية هو من جنس شعر الرأس.(468/26)
حكم ترجيل الشعر كل يوم للضرورة
السؤال
الشعر يختلف من شخص إلى شخص في طوله وكثرته وتجعده فإذا ترك يوماً بعد يوم ربما خرج الرجل أشعث فهل يرجله كل يوم؟
الجواب
جاء هذا في قصة أبي قتادة رضي الله عنه وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره بأن يدهن، وقيل: كان شعره كثيفاً، فهذا يختلف باختلاف الناس، فمن كان كذلك وكان تركه يؤدي إلى كونه يتأثر ويتغير لكثرته فقد قالوا: إن ما جاء في حق أبي قتادة هو من هذا القبيل.(468/27)
حكم ترجل النساء كل يوم
السائل: هل تدخل النساء في النهي عن الترجل كل يوم؟ الشيخ: هذا النهي لا تدخل فيه النساء؛ لأن هذا في حق النساء يعد من التجمل لأزواجهن، ولهن أن يتجملن لهم في كل وقت.(468/28)
حكم الاغتسال يومياً
السؤال
هل الاغتسال يومياً يدخل في الإرفاه؟
الجواب
كون الإنسان يغتسل يومياً من غير عارض ومن غير مقتضٍ لذلك قد يعد هذا زيادة في التنعم، ومن الناس من يغتسل أكثر من مرة في اليوم.(468/29)
حكم صبغ الشعر بالأصباغ
السؤال
هل يجوز استخدام صبغ الشعر بالأصباغ الموجودة الآن غير الحناء؟
الجواب
الذي ينبغي ألا تستعمل هذه الأصباغ التي تغير الألوان إلى ألوان مختلفة، لاسيما أن بعض تلك الألوان تشبه ألوان الأوروبيين في صفتها، واللون الأسود هو أحسن الألوان فيما يتعلق بالشعور وهو أجمل شيء يكون في الشعور وتغييرها إلى تلك الهيئات لا ينبغي.(468/30)
بيان أن الخضاب ليس خاصاً بالمتزوجات
السؤال
سمعت من يقول: إن الخضاب إنما يخص النساء المتزوجات، فهل هذا صحيح؟
الجواب
هذا ليس بصحيح كما هو معلوم، ولا شك أن النساء المتزوجات يحتجن إلى التجمل لأزواجهن، وتعويد البنات الصغيرات على الخضاب لا بأس به، ولا يشترط أن يكون التجمل إنما هو للأزواج، بل يجوز أن تتجمل المرأة بالحناء وتستعمل الحناء وإن لم تكن متزوجة ما دام أنه لا يترتب عليه مضرة، ولا يترتب عليه الفتنة؛ لأن هذا الأمر من شأن النساء.(468/31)
حكم اتخاذ الباروكة
السؤال
هل يجوز للمرأة التي ليس في رأسها شعر أن تتخذ ما يسمى بالباروكة؟
الجواب
لا يجوز؛ لأن هذا كله من جنس الوصل المنهي عنه.(468/32)
وجوب إزالة وصل الشعر
السؤال
من وصلت شعرها فهل يجب عليها الإزالة؟
الجواب
نعم؛ لأنه أمر منكر تجب إزالته.(468/33)
حكم وصل الشعر بشعر الواصلة نفسها
السؤال
هل يجوز وصل الشعر بالشعر الأصلي وبنفس اللون أو بلون آخر على شكل ضفائر؟
الجواب
لا يجوز وصل الشعر بشعر لا من شعر امرأة نفسها ولا من شعر غيرها؛ لأن الوصل لا يجوز مطلقاً.(468/34)
الفرق بين الشعر الطبيعي والشعر الصناعي في حكم الوصل
السؤال
هل هناك فرق بين الشعر الطبيعي وبين الشعر الصناعي في حكم الوصل؟
الجواب
لا فرق بينها، بل النتيجة واحدة والمؤدى واحد.(468/35)
حكم وصل الشعر بغير الشعر
السؤال
ما حكم وصل الشعر بغير الشعر مثل خيوط الحرير؟
الجواب
كل ذلك لا يجوز؛ لأن الحديث مطلق في النهي عن الوصل، وكل ذلك يدخل تحت قوله: (لعن الله الواصلة والمستوصلة).(468/36)
حكم زراعة الشعر طبياً
السؤال
ما حكم زرع الشعر طبياً؟
الجواب
إذا زرع بحيث يصير شيئاً ثابتاً فيبدو أنه لا بأس به، وذلك إذا كان لا يترتب عليه مضرة في الرأس، ولا يترتب عليه منظر كريه، فإذا حصل ذلك بشيء وكان ثابتاً مستقراً وليس بشيء يوضع عليه كالباروكة أو غيرها فيبدو أنه لا بأس به.(468/37)
شرح سنن أبي داود [469]
من الآداب التي بينتها الشريعة الإسلامية آداب استعمال الطيب، وقد ميزت بين ما يجوز للرجال دون النساء والعكس، وبينت ما يشرع للمرء إذا أهدي إليه طيب، وحرمت على النساء الخروج متطيبات لمصالح عظيمة تعود بعضها للمرأة وبعضها للرجال.(469/1)
باب في رد الطيب(469/2)
شرح حديث (من عرض عليه طيب فلا يرده)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في رد الطيب.
حدثنا الحسن بن علي وهارون بن عبد الله المعنى أن أبا عبد الرحمن المقرئ حدثهم عن سعيد بن أبي أيوب عن عبيد الله بن أبي جعفر عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عرض عليه طيب فلا يرده فإنه طيب الريح خفيف المحمل)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: باب في رد الطيب.
يعني: أنه لا ينبغي رده، ولكن هذا كما هو معلوم فيه تفصيل: فإذا كان هذا الطيب هدية لشخص موظف أو لشخص مسئول فإنه يجب عليه أن يرده؛ لأن هدايا العمال غلول، وأما إذا لم يكن شيئاً من هذا القبيل، وإنما هو شيء لا مجال فيه لأمر محذور فلا ينبغي للإنسان أن يرده؛ لأن الطيب في ذاته خفيف المحمل وريحه طيبة تنشرح لها النفوس وترتاح.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عرض عليه طيب فلا يرده فإنه طيب الريح خفيف المحمل) يعني: وهذا فيه بيان وجه عدم رده، وذلك أنه ليس هناك كلفة على من يعطاه من حيث الحمل، وأيضاً هو شيء ريحه طيبة، وذلك مما ترتاح له النفوس ومما يدخل السرور.(469/3)
تراجم رجال إسناد حديث (من عرض عليه طيب فلا يرده)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[وهارون بن عبد الله].
هارون بن عبد الله الحمال البغدادي ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[المعنى].
يعني أن الطريقين متفقتان في المعنى وإن كان بينهما اختلاف في اللفظ.
[أن أبا عبد الرحمن المقرئ].
أبو عبد الرحمن المقرئ هو عبد الله بن يزيد المقرئ المكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن أبي أيوب].
سعيد بن أبي أيوب المصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن أبي جعفر].
عبيد الله بن أبي جعفر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعرج].
عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق فرضي الله عنه وأرضاه.(469/4)
ما جاء في المرأة تتطيب للخروج(469/5)
شرح حديث (إذا استعطرت المرأة فمرت على القوم ليجدوا ريحها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في المرأة تتطيب للخروج.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى أخبرنا ثابت بن عمارة حدثني غنيم بن قيس عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استعطرت المرأة فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا.
قال قولاً شديداً)].
أورد أبو داود باب ما جاء في المرأة تتطيب للخروج.
أي: إذا اتخذت العطر والطيب لخروجها، وذلك لما يحصل بسبب ذلك من الفتنة للرجال بها وما يترتب على ذلك من المفاسد، فتطيبها في بيتها وتطيبها لزوجها أمر مطلوب، ولكن كونها تتطيب للخروج ثم تخرج وريح طيبها تفوح، فينظر الرجال إليها وتدعو الرجال إلى نفسها بتلك الرائحة فهذا لا يجوز ولا يسوغ، وهذا هو الذي منع وحرم وجاءت الأحاديث في الزجر عنه، ومن ذلك حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استعطرت المرأة فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا).
أي أنها تطيبت ومرت بالناس من أجل أن يجدوا ريحها، وهذا معناه أنها متعمدة لذلك، وأنها تريد ذلك، فهي كذا وكذا.
وقوله: (وقال قولاً شديداً) هذا كناية عن الشيء الذي ذكر، وبيان هذا الذي أبهم وكني عنه بقوله: (كذا وكذا)، وجاء في بعض الروايات: (فإنها زانية)، وذلك أن هذا من دواعي الزنا وأسبابه وهذا بريد الزنا، والمقصود من قوله: (قال قولاً شديداً) أنه قال: (إنها زانية) كما جاء في بعض الروايات، وهذا يدل على خطورة هذا العمل، وفيه دليل على سد الذرائع؛ لأن هذا من سد الذرائع، فكون المرأة تتعطر هذا ذريعة إلى الفتنة بها، وإلى رغبة الرجال السفهاء بها بحيث يطمعون بها ويحاولون الوصول إليها؛ لأن مثل هذا العمل يمكن أن يستدل به على أنها فعلت ذلك لأنها ترغب أن تراود أو أن يتصل بها.(469/6)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا استعطرت المرأة فمرت على القوم ليجدوا ريحها)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد القطان البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ثابت بن عمارة].
ثابت بن عمارة صدوق فيه لين أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثني غنيم بن قيس].
غنيم بن قيس أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي موسى].
أبو موسى هو عبد الله بن قيس الأشعري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهور بكنيته وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(469/7)
شرح حديث (لا تقبل صلاة لامرأة تطيبت لهذا المسجد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن عاصم بن عبيد الله عن عبيد مولى أبي رهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقيته امرأة وجد منها ريح الطيب ينفح ولذيلها إعصار، فقال: يا أمة الجبار! جئت من المسجد؟ قالت: نعم.
قال: وله تطيبت؟ قالت: نعم.
قال: إني سمعت حبي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تقبل صلاة لامرأة تطيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة).
قال أبو داود: الإعصار: غبار].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه لقيته امرأة وجد منها ريح الطيب ينفح.
ولذيلها إعصار.
يعني: يخرج من ذيلها غبار.
فقال: يا أمة الجبار! جئت من المسجد؟ قالت: نعم.
قال: وله تطيبت؟ أي تطيبت لمجيئك للمسجد؟ فقالت: نعم.
فقال: إني سمعت حبي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تقبل صلاة لامرأة تطيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة).
وقوله: (حبي رسول الله) يعني: محبوبي؛ لأن الحب بمعنى المحبوب، ولهذا يقال لـ أسامة بن زيد: حبه وابن جبه، يعني: محبوبه وابن محبوبه.
وقوله: (لا تقبل صلاة امرأة تطيبت لهذا المسجد حتى ترجع وتغتسل غسلها من الجنابة) يعني: أنها تزيل أثر ذلك الطيب الذي اتخذته لخروجها للمسجد حتى لا يبقى ذلك الأثر الذي اتخذ لأمر وهو لا يجوز ولا يسوغ.
وقوله: (قال أبو داود: الإعصار غبار).
الإعصار: هو غبار يتصاعد من ذيلها وكأنها كانت مسرعة فكان يظهر ذلك الغبار من ذيلها الذي تجره وراءها، ومعروف أن النساء يرخين من ذيولهن حتى يغطين أرجلهن، فهذا الإعصار المقصود به أنه غبار يتصاعد من ذيلها وكأنها كانت مسرعة، فمن أجل ذلك حصل هذا الغبار الذي كان يتصاعد من ذيلها.
والحديث يدل على ما دل عليه الحديث السابق من عدم جواز تعطر المرأة للخروج وسواء كان للمسجد أو لغير المسجد، وذلك لما فيه من الفتنة للرجال في الطريق، وكون ذلك وسيلة إلى إقدام بعض السفهاء على التعرض لها، وتكون متسببة لذلك.
والحديث في إسناده ضعف؛ لأن فيه من هو متكلم فيه، ولو صح فإنه يحمل على أن ذلك عقوبة لها، بمعنى: أنها لا تثاب على تلك الصلاة التي صلتها وأنها تحرم أجرها وثوابها، وهي إنما جاءت من أجل أن تحصل الثواب فحصلت الإثم وفات عليها تحصيل الأجر على تلك الصلاة التي صلتها.
وقد ذكرنا فيما مضى أنه لا يلزم من كون الصلاة لا تقبل أن الذي وصف بأن صلاته لا تقبل يعيدها، فهو قد أدى الصلاة، وإنما هذا فيه بيان أن هذا فيه حرمانه من الثواب بسبب هذا الذنب الذي ارتكبه واقترفه.(469/8)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تقبل صلاة لامرأة تطيبت لهذا المسجد)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
سفيان هو الثوري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عاصم بن عبيد الله].
عاصم بن عبيد الله العمري ضعيف أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد وأصحاب السنن.
[عن عبيد مولى أبي رهم].
عبيد مولى أبي رهم مقبول أخرج له أبو داود.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة رضي الله عنه قد مر ذكره.(469/9)
إزالة الطيب بدون الغسل إذا أمكن
وإذا كان الطيب له مكان معين محصور فأزيل من ذلك المكان فإنه يحصل المقصود، ولكن إذا كان منتشراً ولا يتأتى زواله إلا بالاغتسال فالغسل.(469/10)
حكم الإنكار على المرأة المتعطرة في الطريق
وهذا الحديث يدل على أن من شم في طريقه رائحة عطر من امرأة له أن ينكر عليها مثلما أنكر عليها أبو هريرة رضي الله عنه فيقول: إن خروج المرأة متطيبة لا يجوز.(469/11)
عدم اختصاص المسجد النبوي بعدم التعطر من المرأة
وقوله: (لهذا المسجد)، لا أدري هل يقصد المسجد النبوي؛ لكن الذي يبدو أنه يشمل كل المساجد وأن كون المرأة تخرج وتتطيب من أجل الذهاب إلى المسجد لا يجوز، سواء كان المسجد النبوي أو غيره.
ومعلوم أن أبا هريرة سكن المدينة وكان مقيماً في المدينة، فيحتمل أن يكون المقصود بقوله: (لهذا المسجد) مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الحكم ليس خاصاً به؛ لأن خروج النساء للمساجد متعطرات متطيبات مثله في الحكم.
وأبو هريرة رضي الله عنه كان من المقيمين في المدينة، ومن أسباب كثرة حديثه مع أنه إنما أسلم عام خيبر أنه كان مقيماً في المدينة، والناس كانوا يقصدون المدينة ويلتقون بالصحابة الذين هم فيها فيأخذون عنهم ويتلقون عنهم، فهذا من أسباب كثرة حديثه؛ لأن كثرة حديثه لها أسباب، منها إقامته في المدينة، ومنها طول حياته وأنه عاش حتى احتاج الناس إليه.(469/12)
شرح حديث (إيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي وسعيد بن منصور قالا: حدثنا عبد الله بن محمد أبو علقمة قال: حدثني يزيد بن خصيفة عن بسر بن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهدن معنا العشاء.
قال ابن نفيل: عشاء الآخرة)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة أصابت بخوراً) يعني: أنها تطيبت بالبخور، والبخور هو الدخان الذي يتصاعد بوضع العود الذي فيه الطيب على الجمر، هذا هو البخور، فتكون رائحته موجودة فيها وقوله: (فلا تشهد معنا العشاء) أي: عشاء الآخرة، وليس المقصود من ذلك خصوص صلاة العشاء بل الصلوات كلها يكون الأمر فيها كذلك، وإنما خص العشاء لأن النساء كان من عادتهن أنهن يذهبن لمثل هذه الصلاة، ولأن صلاة العشاء في الليل، فتكون الفتنة فيها أشد وإلا فإن المنع هو للذهاب إلى المسجد مطلقاً سواء كان الفرض عشاءً أو غير عشاء.(469/13)
تراجم رجال إسناد حديث (إيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء)
قوله: [حدثنا النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[وسعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قالا: حدثنا عبد الله بن محمد أبو علقمة].
عبد الله بن محمد أبو علقمة صدوق أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثني يزيد بن خصيفة].
يزيد بن خصيفة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بسر بن سعيد].
بسر بن سعيد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة قد مر ذكره.(469/14)
باب في الخلوق للرجال(469/15)
شرح حديث (إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير، ولا المتضمخ بالزعفران)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الخلوق للرجال.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا عطاء الخراساني عن يحيى بن يعمر عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: (قدمت على أهلي ليلاً وقد تشققت يداي فخلقوني بزعفران، فغدوت على النبي صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فلم يرد علي ولم يرحب بي، وقال: اذهب فاغسل هذا عنك.
فذهبت فغسلته، ثم جئت وقد بقي علي منه ردع فسلمت عليه فلم يرد علي ولم يرحب بي، وقال: اذهب فاغسل هذا عنك.
فذهبت فغسلته ثم جئت فسلمت عليه فرد علي ورحب بي وقال: إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير، ولا المتضمخ بالزعفران، ولا الجنب.
قال: ورخص للجنب إذا نام أو أكل أو شرب أن يتوضأ)].
أورد أبو داود باباً في الخلوق للرجال، والخلوق هو نوع من الطيب، وهو مثل الزعفران الذي جاء ذكره في الحديث، وهو من الطيب الذي يظهر لونه، وهو من طيب النساء، والتزعفر في حق الرجال جاء المنع منه في هذا الحديث وغيره من الأحاديث.
وأورد أبو داود حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: (جئت إلى أهلي وقد تشققت يداي فخلقوني بزعفران) يعني: أنهم وضعوا على تلك الشقوق التي في يديه زعفران كدواء وعلاج لها، وفيه تلك الرائحة، وهو أيضاً يظهر لونه، وهو من طيب النساء.
فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فلم يرد عليه ولم يرحب به، وقال: اذهب واغسل هذا عنك، فذهب وغسل ورجع فسلم فلم يرد عليه ولم يرحب به وقد بقي شيء منه وقال: اذهب واغسله فذهب وغسله وجاء وسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم فرد عليه ورحب به.
يعني: أتى بكلام زائد على رد السلام الذي هو الترحيب كأن يقول: مرحباً، وقد جاء في أحاديث عديدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان بعد رد السلام يرحب ويقول: (مرحباً)، فقوله: (رحب بي) يعني: أتى بشيء فوق رد السلام يدل على الترحيب والاستئناس والفرح والسرور.
ثم بين الرسول صلى الله عليه وسلم السبب في كونه أنكر عليه وأمره بأن يرجع مرتين حتى يزيل أثر ذلك الطيب عن نفسه، فقال (إن الملائكة -أي: ملائكة الرحمة- لا تحضر جنازة الكافر بخير) والنفي هنا هو نفي الحضور بخير، وأما كونها تحضر في غير خير فهذا لا ينفيه الحديث، وإنما الحضور من أجل الخير الذي تكون فيه رحمة وفائدة وفيه مصلحة هو المنفي.
وقوله: (والمتضمخ بالزعفران).
يعني لكونه متطيباً بالزعفران سواء في جسده أو ثيابه، وهذا هو محل الشاهد من إيراد الحديث.
(والجنب) المراد به كما سبق أن مر في حديث آخر هو الذي من عادته أنه لا يتطهر من الجنابة أو أنه يتهاون في التطهر من الجنابة مع أنه يمكنه أن يتطهر، ومع ذلك يبقى مدة وعليه ذلك الأثر.
وقوله: (ورخص للجنب إذا نام أو أكل أو شرب أن يتوضأ) لأن الوضوء فيه تخفيف الجنابة.(469/16)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير، ولا المتضمخ بالزعفران)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد هو ابن سلمة ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا عطاء الخراساني].
عطاء الخراساني صدوق يهم كثيراً أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن يحيى بن يعمر].
يحيى بن يعمر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمار بن ياسر].
عمار بن ياسر رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(469/17)
حكم رد السلام على أهل المعاصي والبدع
وقوله: (قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فلم يرد علي ولم يرحب بي) فيه دليل على عدم رد السلام على أهل المعاصي والبدع إذا كان يترتب عليه مصلحة وفائدة؛ لأن كون الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرد السلام هذا من أكبر المصائب على من حصل له ذلك.
وإذا كان رد السلام يترتب عليه مصلحة وفائدة ولاسيما إذا كان سيكون معه دعوة وإرشاد إلى الخير، فإن هذا مطلوب.(469/18)
حكم التداوي بالزعفران
والزعفران محرم استعماله في الطيب، والمحرم طبعاً لا يجوز التداوي به، ولكنه ليس محرماً مطلقاً بل هو مباح في حق النساء، وإذا كان سيترتب عليه علاج ولا يترتب على ذلك ظهوره بمظهر مخالفة السنة، وذلك بأن يتخذ مثلاً في البيت فإنه لا بأس بذلك؛ لأن المحذور هو كونه يتطيب بهذا الطيب الممنوع.
وهذا يقال فيه مثلما يقال في الحناء للرجل، أي: أنه لا يجوز التزين به ولكنه للعلاج جائز.(469/19)
حكم الهجر قبل النصح
وهذا الحديث لا يصح الاستدلال به على جواز الهجر قبل النصح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يبلغ الشريعة وهو الذي يبين للناس أحكام دينهم، فهو فعل هذا من أجل أن يبين لهم خطورة ذلك الشيء.
والرسول لم يهجره وإنما قال له: اذهب فاغسل هذا عنك، فذهب وغسل ورجع، فليس في الحديث أنه تركه أو هجره وإنما قال له: اذهب وافعل كذا وكذا، فلم يتركه أياماً ولا أعرض عنه أياماً وإنما بين له السبب الذي جعله يتأثر منه وأرشده إلى إزالة ذلك الأثر الذي كان هو السبب في الإعراض عنه.(469/20)
حكم نوم الجنب من غير وضوء
والجنب إذا لم يتوضأ ونام على حاله لم يرد ما يدل على أنه يعتبر آثماً، لكن الكمال والأفضل أن ينام متوضئاً.(469/21)
جواز مس الرجل زوجته إذا كان عليها زعفران
وأما ما جاء في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عبد الرحمن بن عوف وعليه ردع زعفران فقال: مهيم؟ قال: تزوجت، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم) فهذا ليس فيه أنه تطيب، وإنما هذا من طيب المرأة وأنه ناتج من مماسته امرأته، ولهذا استدل على ذلك بقوله: إنه تزوج، ومعنى هذا أنه كان بسبب المرأة، وأنه ناتج عن مماسة المرأة ولم يكن متطيباً وإنما علق به طيب المرأة.(469/22)
شرح حديث (إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير ولا المتضمخ بالزعفران) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا نصر بن علي حدثنا محمد بن بكر أخبرنا ابن جريج أخبرني عمر بن عطاء بن أبي الخوار أنه سمع يحيى بن يعمر يخبر عن رجل أخبره عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما -زعم عمر أن يحيى سمى ذلك الرجل فنسي عمر اسمه- أن عماراً قال: (تخلقت بهذه القصة، والأول أتم بكثير، فيه ذكر الغسل قال: قلت لـ عمر: وهم حرم؟ قال: لا، القوم مقيمون)].
أورد أبو داود هذا الحديث من طريق أخرى وفيه: أن الطريق الأولى السابقة المذكورة أتم من هذه الطريق؛ لأن فيها ذكر الغسل الذي حصل منه مرتين.
ثم إنه قال: سمع يحيى بن يعمر يخبر عن رجل أخبره عن عمار بن ياسر، زعم عمر أن يحيى سمى ذلك الرجل فنسي عمر اسمه.
ومعناه: أن في هذه الطريق واسطة، وليس في الطريق السابقة واسطة.
وقوله: [(قال: تخلقت بهذه القصة، والأول أتم بكثير فيه ذكر الغسل قال: قلت لـ عمر: وهم حرم؟ قال: لا، القوم مقيمون)].
يعني: أنه ظن أن هذا الامتناع كان بسبب أنهم محرمون، والمحرم لا يقرب الطيب ولا يتطيب، فقال: لا، القوم مقيمون، يعني: أن هذا الحكم ليس متعلقاً بالإحرام وإنما هو متعلق بالرجال، وأن الرجال لا يتطيبون بالزعفران، ولا يتزعفرون، فهذا ليس متعلقاً بالإحرام؛ لأن الإحرام يمنع منه كل طيب، يعني: ما منع منه في حال السعة وما منع منه في حال الإحرام.
والذي منع منه في حال السعة وفي غير حال الإحرام هو التزعفر، هذا هو المقصود من الحديث، ولهذا ظن ابن جريج أن سبب هذا الامتناع هو كونه تطيب وهو محرم فقال: وهم محرمون؟ فقال: لا، القوم مقيمون، ومعنى هذا: أن الامتناع وأن الحكم إنما هو متعلق بمنع الرجال من هذا الطيب الذي هو طيب النساء.
وطيب النساء هو ما يظهر لونه وتخفى ريحه، وطيب الرجال ما يخفى لونه وتظهر ريحه؛ لأن النساء إذا تطيبن بهذا الطيب وخرجن لا يظهر لهن ريح محذورة، وأما الرجال فلا مانع إذا خرجت منهم الريح؛ لأن كونهم يظهرون برائحة طيبة وتشم منهم الريح الطيبة ليس في هذا محذور، بل المحذور في حق النساء.
وأما فيما يتعلق بالبيوت فللمرأة أن تتطيب بالذي يظهر ريحه وبما يسعد زوجها.(469/23)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير، ولا المتضمخ بالزعفران) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا نصر بن علي].
نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن بكر].
محمد بن بكر صدوق قد يخطئ أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن جريج].
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عمر بن عطاء بن أبي الخوار].
عمر بن عطاء بن أبي الخوار ثقة أخرج له مسلم وأبو داود.
[أنه سمع يحيى بن يعمر يخبر عن رجل أخبره عن عمار].
يحيى بن يعمر قد مر ذكره، وعمار قد مر ذكره.
وهذا الإسناد ليس فيه إلا هذا الرجل المبهم ولكنه قد جاء في الطريق السابقة متصلاً.(469/24)
شرح حديث (لا يقبل الله صلاة رجل في جسده شيء من خلوق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زهير بن حرب الأسدي حدثنا محمد بن عبد الله بن حرب الأسدي حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن جديه قالا: سمعنا أبا موسى رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله تعالى صلاة رجل في جسده شيء من خلوق).
قال: أبو داود: جداه: زيد وزياد].
أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة رجل في جسده شيء من خلوق) يعني: من الزعفران وشبهه، والحديث في إسناده ضعف؛ لأن فيه جدي الربيع بن أنس وهما مجهولان.
والخلوق هو نوع من الطيب فيه زعفران وأنواع أخرى فيبتعد عنه الإنسان.(469/25)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يقبل الله صلاة رجل في جسده شيء من خلوق)
قوله: [حدثنا زهير بن حرب الأسدي].
زهير بن حرب أبو خيثمة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي].
محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم أبو أحمد الزبيري الذي يأتي ذكره في بعض الأسانيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو جعفر الرازي].
أبو جعفر الرازي هو عيسى بن عبد الله بن ماهان وهو صدوق سيئ الحفظ، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن الربيع بن أنس عن جديه].
الربيع بن أنس صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب السنن.
وجداه هما: زيد وزياد وهما مجهولان أخرج لهما أبو داود.
[قالا: سمعنا أبا موسى].
أبو موسى قد مر ذكره.
والحديث فيه هذان الرجلان المجهولان وهما جدا الربيع بن أنس وفيه أيضاً أبو جعفر الرازي.(469/26)
شرح حديث (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التزعفر للرجال)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد أن حماد بن زيد وإسماعيل بن إبراهيم حدثاهم عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التزعفر للرجال) وقال عن إسماعيل: (أن يتزعفر الرجل)].
أورد أبو داود حديث أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التزعفر للرجال) يعني: أن يستعملوا الزعفران في التطيب.
وفي لفظ إسماعيل: (وأن يتزعفر الرجل) وهنا ذكر الرجل له مفهوم، وهو أن هذا الحكم خاص بالرجال وإلا فإن النساء لا يمنعن من ذلك.(469/27)
تراجم رجال إسنادحديث (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التزعفر للرجال)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد مر ذكره.
[أن حماد بن زيد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وإسماعيل بن إبراهيم حدثاهم].
إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد العزيز بن صهيب].
عبد العزيز بن صهيب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد رباعي؛ وحماد وإسماعيل هما في طبقة واحدة فهو رباعي.(469/28)
شرح حديث (ثلاثة لا تقربهم الملائكة جيفة الكافر والمتضمخ بالخلوق) وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي حدثنا سليمان بن بلال عن ثور بن زيد عن الحسن بن أبي الحسن عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا تقربهم الملائكة: جيفة الكافر، والمتضمخ بالخلوق، والجنب إلا أن يتوضأ)].
أورد أبو داود حديث عمار رضي الله عنه وهو مثل الحديث الأول الذي مر في أول الباب؛ وفيه ذكر ثلاثة لا تقربهم الملائكة، وهم نفس الثلاثة الذين مروا في الحديث السابق.
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هارون بن عبد الله الحمال البغدادي ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي].
عبد العزيز بن عبد الله الأويسي ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في مسند مالك وابن ماجة.
[حدثنا سليمان بن بلال].
سليمان بن بلال ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثور بن زيد].
ثور بن زيد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن بن أبي الحسن].
الحسن بن أبي الحسن البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمار بن ياسر].
عمار بن ياسر مر ذكره.
والإسناد فيه متابعة الحسن بن أبي الحسن لـ يحيى بن يعمر عن عمار.
والحسن لم يسمع من عمار فهو منقطع، لكن الطريق الأولى متصلة، وعلى هذا يصح الحديث.(469/29)
شرح حديث (لما فتح نبي الله صلى الله عليه وسلم مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أيوب بن محمد الرقي حدثنا عمر بن أيوب عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج عن عبد الله الهمداني عن الوليد بن عقبة رضي الله عنه قال: (لما فتح نبي الله صلى الله عليه وسلم مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيدعو لهم بالبركة ويمسح رءوسهم، قال: فجيء بي إليه وأنا مخلق فلم يمسني من أجل الخلوق)].
أورد أبو داود حديث الوليد بن عقبة رضي الله عنه: (أنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جيء بالصبيان إليه فكان يمسح رءوسهم، وجيء به فلم يمسه رأسه؛ لأنه كان فيه خلوق).
وهذا هو المقصود من الترجمة هنا: لأنه ذكر أنه كان فيه خلوق، وهذا يدل على أن الحكم يكون للصغار والكبار، وأن ما يمنع منه الرجال الكبار يمنع منه الصغار، وكما أن الحرير لا يستعمله الكبار فكذلك الصغار والذهب لا يستعمله الكبار وكذلك الصغار، وكذلك التزعفر أو الطيب الذي يمنع منه الرجال يمنع منه الصغار؛ لأنهم قد يتعودون على ذلك، لكن الحديث فيه شيء من جهة أن الوليد كان كبيراً وليس من الصغار الذين يؤتى بهم ويمسح على رءوسهم.
ففيه نكارة، بالإضافة إلى أن في الإسناد أيضاً عبد الله الهمداني.
قال ابن عبد البر: خبره منكر.(469/30)
تراجم رجال إسناد حديث (لما فتح نبي الله صلى الله عليه وسلم مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم)
قوله: [حدثنا أيوب بن محمد الرقي].
أيوب بن محمد الرقي ثقة أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا عمر بن أيوب].
عمر بن أيوب صدوق له أوهام أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن جعفر بن برقان].
جعفر بن برقان صدوق أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ثابت بن الحجاج].
ثابت بن الحجاج ثقة أخرج له أبو داود.
[عن عبد الله الهمداني].
عبد الله الهمداني هو مجهول أخرج له أبو داود.
[عن الوليد بن عقبة].
الوليد بن عقبة له صحبة أخرج له أبو داود.(469/31)
شرح حديث (أن رجلاً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا حماد بن زيد حدثنا سلم العلوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلاً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم قلما يواجه رجلاً في وجهه بشيء يكرهه، فلما خرج قال: لو أمرتم هذا أن يغسل هذا عنه)].
أورد أبو داود حديث أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة، وكان قلما يواجه أحداً بشيء يكرهه فقال: لو أمرتم هذا فغسل هذا عنه)، والحديث في إسناده ضعف.(469/32)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رجلاً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة].
عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري ثقة أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد بن زيد حدثنا سلم العلوي].
حماد بن زيد مر ذكره.
وسلم هو ابن قيس العلوي وهو ضعيف أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي في عمل اليوم والليلة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك مر ذكره.
وهذا الإسناد رباعي.(469/33)
الأسئلة(469/34)
حكم صيام يوم السبت
السؤال
بعض الإخوان يرون أن صيام يوم السبت لا يجوز وإن صيم معه غيره، فما هو رأيكم في المسألة؟
الجواب
القول بعدم جواز صيامه مطلقاً غير صحيح، فصيام يوم السبت من حيث هو ليس متفقاً عليه، فمن العلماء من قال بترجيح الأدلة الدالة على صيامه، والحافظ ذكر في فتح الباري هذه المسألة وقال: إنه ألف في ذلك كتاباً، وكلامه يشير إلى جواز صيامه.
أما مع ثبوت الحديث فإنه إذا صيم ومعه غيره فلا بأس بذلك، ويحمل النهي على ما إذا أفرد بالصوم وقصد إفراده كالجمعة، ويدل على ذلك حديث جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها في صحيح البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال لها: أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: أتصومين غداً؟ قالت: لا، قال: فأفطري)، فقوله: (أتصومين غداً) أي: السبت، وهذا معناه أنها لو صامت مع الجمعة السبت فإنه يصح؛ لأن المحذور هو إفراد الجمعة بالصوم، وهكذا حديث أبي هريرة في الصحيحين: (من أراد صيام يوم الجمعة فليصم يوماً قبله أو بعده)، فإذا صيم ومعه يوم قبله أو يوم بعده فإن ذلك جائز، وهذا يدلنا على أن ما ورد من النهي عن صوم يوم السبت إذا صح فإنه محمول على قصد إفراده كالجمعة.
وأما إذا صيم ومعه غيره فحديثا جويرية وأبي هريرة يدلان على جوازه.(469/35)
حكم الصناديق التي توضع لدفع الديات
السؤال
ما حكم الصناديق التي توضع لدفع الديات عن أعضاء الصندوق، علماً أنه ليس فيها إجبار على أحد بالدفع، والمبالغ التي تجمع تشغل في السيارات؟
الجواب
الأصل أن دية الخطأ على العاقلة، فعاقلة عاقبة الرجل هم الذين يتحملون عنه دية الخطأ.
وإذا رأوا أنهم يخرجون أو أنهم يتبرعون أو كل يخرج من ماله شيئاً يوضع في صندوق وذلك الصندوق تخرج منه الدية بدلاً من كونهم يجمعون كلما حصل نكبة، فإذا حصل شيء يدفع من هذا الصندوق، ويكون كل واحد قد تبرع وأخرج من ماله هذا المقدار الذي تبرع به فصار المال المخرج ليس له وإنما هو تبرع موضوع في ذلك السبيل الذي هو للدية فلا بأس.
وأيضاً لو اتفق جماعة من الناس من أصحاب المهن على أنهم يجمعون ويضعون مالاً في صندوق وأنه إذا حصل نكبة يؤخذ من هذا الصندوق أيضاً فلا بأس بذلك؛ لأن هذا من باب التبرع والتعاون.
وليس هناك أحد يملك هذا المال؛ لأن هذا المال تبرع في وجه من وجوه الخير.
وأما غير هذا المال كالزكاة فيجوز أن يعطى منها من كان محتاجاً؛ لأن هذا لا يتعلق بمال الصندوق وهذا ليس فيه بأس.
وأما مال الصندوق هذا فليس له مالك، وإنما يعتبر مثل المال الذي خرج من ملك الإنسان وهو ليس له مالك وإنما هو موضوع في وجه من وجوه الخير مثل الأوقاف.(469/36)
معنى العذر بالجهل
السؤال
ما معنى العذر بالجهل؟
الجواب
العذر بالجهل يكون إذا عمل الإنسان شيئاً وهو جاهل ومثله يمكن أن يجهل أو قد يحصل فيه الجهل، وذلك مثل شيء يفعله بعض الناس ويظنون أنهم على حق مع أنهم على باطل، مثل افتتان كثير من الناس بالطواف بالقبور، وبالاستغاثة بأصحاب القبور، ودعوة أهل القبور، فإن من العلماء من يقول: إنه يحكم بكفرهم مطلقاً، ومنهم من يقول: تقام عليهم البينة أولاً لأنهم معذورون بالجهل، ثم بعد ذلك يكون الحكم عليهم بالكفر وأنهم يعاملون معاملة الكفار أو معاملة المرتدين.
والذي يظهر أنها تقام عليهم البينة.(469/37)
الذكر الذي يقال بعد المؤذن عند الشهادتين
السؤال
متى يقال هذا الذكر: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، هل هو في أثناء الأذان أو بعده؟ وكم مرة؟
الجواب
هذا الذكر يقال عند قول المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله، فيقول وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنا أشهد أن محمداً رسول الله.(469/38)
حكم الاستقراض بعملة والوفاء بعملة أخرى
السؤال
اقترضت من شخص مبلغاً من المال بالريال، فهل يجوز أن أرد إليه القرض بالدينار إذا وافق؟
الجواب
نعم يمكن، فكون الإنسان استقرض مالاً بعملة ثم يؤديه بعملة أخرى بسعرها في ذلك الوقت ليس فيه بأس.(469/39)
حكم صيام من أكل بعد الأذان الثاني ظاناً أنه الأذان الأول
السؤال
من أكل أو شرب بعد أذان الصبح الثاني ظاناً أن هذا الأذان إنما هو الأذان الأول فتبين خلافه، فهل يصح صومه؟
الجواب
الذي يظهر أن عليه أن يقضي، والواجب على الإنسان أن يحتاط.(469/40)
حكم صوم يوم بنيتين
السؤال
هل يجوز لمن كان عليه صوم واجب، مثل صوم من لم يجد الهدي وقد تمتع ووافق يوم عاشوراء، فهل له أن يصومه جامعاً بين النيتين؟
الجواب
هذا يجوز، ولكنه ينوي الأصل الذي هو الواجب، فحتى لو كان عليه قضاء من رمضان فإن له أن يصوم في ذلك اليوم ولكنه ينوي الأصل الذي هو الفرض والواجب ولا ينوي النفل، ويرجى أن ينتفع، لكن الإنسان لا ينبغي أن يضيق على نفسه ويفوت الخير الكثير على نفسه، فيؤدي الواجب والفرض في وقت آخر، ويغتنم الفرصة مع الناس بحيث يحصل ثواب ذلك النفل، ولكنه يمكن أن يصوم مثل يوم عرفة ومثل يوم عاشوراء إن كان عليه قضاء من رمضان بنية الفرض.(469/41)
حكم المداومة على دعاء الصائم قبل المغرب
السؤال
بعض الناس نراهم في كل صيام كصيام الإثنين والخميس وشهر رمضان يرفعون أيديهم قبل أذان المغرب، فهل المداومة على هذا الفعل جائز؟
الجواب
لا أعلم دليلاً ينفيه ولا يثبته، والأصل أن الشيء الذي ليس فيه دليل يمنعه ولا يدل عليه جائز، فالإنسان في هذه الحال له أن يفعل وله ألا يفعل.
لكن ليس للإنسان أن يأتي بشيء يفعله ويداوم عليه على أنه سنة إلا بدليل.
ومن آداب الدعاء: رفع اليدين، ولكن المداومة على ذلك بحيث يعتقد الإنسان أنه سنة ليس له ذلك.
وهذا من الأمور المطلقة التي ما جاء شيء يثبت ولا ينفي، فالأصل في ذلك أنه سائغ وأن له أن يرفع وله ألا يرفع.(469/42)
حكم قول الإنسان لآخر جمعني الله وإياك في مستقر رحمته
السؤال
هل يصح أن يقول الإنسان لآخر: جمعني الله وإياك في مستقر رحمته؟
الجواب
نعم يجوز، والمقصود بالرحمة الجنة، وليس المقصود الرحمة التي هي صفة الله؛ لأن الرحمة تطلق على صفة الله وتطلق على أثر الصفة التي هي الجنة، ولهذا جاء في الحديث إطلاق الرحمة على الجنة، كما في الحديث القدسي: (قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء).
فهناك رحمة مخلوقة وهي من أثر الصفة، ولهذا يقول عز وجل: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:50].
فصفة الله عز وجل (الرحمة) صفة قائمة بذاته، وهناك مخلوقات يطلق عليها الرحمة وهي من أثر تلك الصفة، ولهذا إذا قيل: (جمعنا الله في مستقر رحمته) فمعناه: جمعنا في الجنة، وهذا لا بأس به.
وفي الحديث: (إن الله خلق مائة رحمة).(469/43)
استمرار نعيم القبر إلى قيام الساعة
السؤال
هل نعيم القبر مستمر لصاحبه إلى أن يبعث؟
الجواب
من صار منعماً في قبره فالذي يظهر أن نعيمه مستمر وأما العذاب فإنه بالنسبة للكفار مستمر وبالنسبة لغيرهم لا يستمر، بل قد ينقطع، ولهذا جاء في الحديث: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)، ومن الأسباب التي تكفر الذنوب ويكون فيها السلامة من آثار الذنوب كون الإنسان يحصل جزاؤه في القبر ويحصل له العذاب في القبر.
وأما ما يتعلق بالكفار فعذابهم دائم كما قال الله عز وجل: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].(469/44)
مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب في العذر بالجهل
السؤال
يقول الشيخ محمد رحمه الله: وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر أحمد البدوي، والصنم الذي على قبر عبد القادر؛ لأجل جهلهم وعدم من يفهمهم، فكيف نكفر من لم يهاجر إلينا؟! ألا تدل هذه العبارة على أن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يرى العذر بالجهل ولو في الشرك؟
الجواب
الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو من القائلين بهذا.(469/45)
حكم رد الطيب
السؤال
جاء الحديث بالنهي عن رد الطيب وقد يكون الإنسان عنده حساسية أو كان الطيب الذي عرض عليه لا يعجبه، فهل يجوز له رده؟
الجواب
إذا كان الطيب يؤثر عليه فرده واعتذر بأن عليه مضرة فهذا لا بأس به، فإن بعض الناس يكون عنده حساسية من بعض الطيب أو يتأثر منه ويكره استعماله، وإذا رآه مع غيره يشق عليه ذلك فكيف إذا استعمله؟ فإذا رده فلا بأس، ولكن يبين السبب.
وأما إذا كان الطيب رديئاً وليس فيه ما يؤثر عليه فلا يصلح أن يرده.
والنهي عن رده لا أدري هل يكون للتحريم أو أنه من باب الآداب والإرشاد، ولكن لا شك أن رده يترتب عليه تأثر.
والإهداء قد يكون بأن الإنسان يفتح القارورة ويطيب الموجودين حوله، ونحو ذلك، ولكن إذا كان الإهداء في إبطال الحق وفيه رشوة أو يكون فيه اتهام، فهذا ليس للإنسان أن يقدمه وليس للمهدى إليه أن يأخذه.
وأما الطيب الذي هو عام يطيب به الناس ولا يختص بذلك الشخص فلا بأس، أما إذا اختص به فلا.(469/46)
نهي المرأة عن التعطر عند الخروج مطلقاً
السؤال
في الحديث نهي المرأة عن الطيب والخروج ليجد الرجال ريحها، فهل يفهم منه أن هذا فيما إذا تعمدت المرأة أن يجد الرجال ريحها أو أن النهي لمجرد التطيب والخروج وإن لم تتعمد ذلك؟
الجواب
النهي عام حتى لو لم تتعمد؛ لأن وجود ذلك منها لا شك أنه سيكون فيه مضرة على الناس، لكنها إذا كانت تقصد ذلك فهذا أسوأ، مثل الإنسان الذي يجر ثوبه خيلاء أو يجر إزاره بدون خيلاء، فكل ذلك ممنوع ولكن الخيلاء أشد وأخطر.(469/47)
حكم إعطاء الولد مالاً لوالده الذي يدعو غير الله عز وجل
السؤال
والدي رجل متصوف يدعو غير الله ويطوف بالقبور ويعمل الحولية -يعني: المولد النبوي- وقد أخبرني أنه محتاج لمبلغ من المال، فهل أرسل له وأنا على علم أنه يتقوى به على البدع؟
الجواب
الذي ينبغي لك قبل كل شيء الحرص على هدايته وإنقاذه وإخراجه من الظلمات إلى النور، هذا أهم وأعظم بر تقدمه له؛ لأنك بذلك تساعده على الخلاص من العذاب ومن البدع ومن الشرك إذا كان عنده استغاثة بغير الله، هذا هو الواجب عليك، فقبل أن تفكر في مسألة المال وما يتعلق بالمال عليك أن يكون شغلك الشاغل الحرص على هدايته بمختلف الطرق بنفسك وبطلبك من غيرك ممن يمكن أن يساعدك على هدايته، فاحرص على هذا.
وأما ما يتعلق بالإحسان إليه فأحسن إليه.
وإذا أمكن أنك تعطيه المال على وجه يفيده ولا يستعمله بأن تشتري له لباساً وتشتري له أشياء من أثاث البيت أو غير ذلك مما يفيده فافعل.
وأما إعطاؤه النقود لاسيما في وقت يكون فيه استعمالها في أمر لا يجوز فلا تفعل، ولكن احرص قبل كل شيء على هدايته، وفي نفس الوقت أحسن إليه لاسيما في أمور لا يكون فيها استعانة على بدعته.(469/48)
حكم رجوع المرأة إلى بيتها متعطرة
السؤال
إذا تطيبت المرأة في المكان الذي ذهبت إليه، فلما أرادت الرجوع إلى بيتها كانت الرائحة قد انتشرت ولازالت توجد منها، فهل عليها نفس الإثم؟
الجواب
النتيجة واحدة ما دام أنها ستمشي في الشارع.
وأما إذا كانت في سيارة والسيارة مغلقة وتنزل من هذا البيت إلى بيتها مباشرة فالأمر في ذلك سهل، ولكن الكلام هو فيما يترتب عليه مضرة ومحذور، وهو أن الناس يشمون منها الطيب فينظرون إليها ويتعلقون بها، وقد يتخذون من ذلك وسيلة إلى التعرض لها.(469/49)
حكم الطيب للصائم
السؤال
بعض أهل العلم يرى أن الطيب لا ينبغي للصائم أثناء الصيام فهل لي أن أرده وأنا صائم إذا قدم لي؟
الجواب
الطيب ليس فيه مانع للصائم، وإنما الذي فيه مانع هو شم الطيب إذا كان بخوراً؛ لأن كونه يشمه ويستسعطه قد يصل إلى حلقه وإلى جوفه.
وأما كونه يتطيب على ثيابه أو على يده أو على شعره من غير بخور فهذا ليس فيه بأس، وليس هناك مانع من التطيب للصائم، وإنما الذي يمنع هو شم البخور الذي يذهب إلى حلق الصائم.(469/50)
حكم الصلاة في المساجد التي كانت كنائس على شكل صليب
السؤال
من آثار الاستعمار الفرنسي أنه توجد في بلادنا كنائس على شكل الصليب، والآن بحمد الله أصبحت مساجد، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا رأى الصليب نقضه) فهل تجوز الصلاة في هذه المساجد؟
الجواب
تجوز الصلاة، ولكن الواجب أن يكسر الصليب ويزال والكنيسة تعدل، وإذا كان فيها شيء تتميز به أُتي بشيء يخرجها عن هذا التميز، والصليب يجب كسره وإزالته وعدم بقائه سواء كان ثابتاً أو موضوعاً على مئذنة أو على محل مرتفع أو غير ذلك.(469/51)
حكم قول (والله من وراء القصد)
السؤال
هل تصح هذه العبارة: والله من وراء القصد؟
الجواب
الذي يبدو أنه ليس فيها بأس، ومعناها: الله المطلع على قصدي وعلى ما في نفسي.(469/52)
شرح سنن أبي داود [470]
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوفر الناس شعراً، وكان عليه الصلاة والسلام يرسل شعره أحياناً إلى شحمة أذنيه، وأحياناً يضرب منكبيه وأحياناً بين ذلك، وكان عليه الصلاة والسلام يجعله أحياناً ضفائر، كما كان عليه الصلاة والسلام يفرق شعر رأسه، فإذا اقتدى الإنسان بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر فإنه يؤجر على نيته، والأمر في ذلك واسع، إلا ما جاء النهي عنه كالقزع والتشبه بالنساء والكفار ونحو ذلك.
ومن سنته صلى الله عليه وسلم الإتيان بسنن الفطرة من إعفاء اللحى وحف الشوارب، والاستحداد ونتف الإبط ونحو ذلك مما هو دليل على سلامة الفطرة.(470/1)
ما جاء في الشعر(470/2)
شرح حديث (ما رأيت من ذي لمة أحسن في حلة حمراء من رسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الشعر.
حدثنا عبد الله بن مسلمة ومحمد بن سليمان الأنباري قالا: حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه أنه قال: (ما رأيت من ذي لمة أحسن في حلة حمراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، زاد محمد بن سليمان: له شعر يضرب منكبيه).
قال أبو داود: كذا رواه إسرائيل عن أبي إسحاق قال: (يضرب منكبيه) وقال شعبة: (يبلغ شحمة أذنيه)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب ما جاء في الشعر.
والمقصود بهذه الترجمة كما أورد الأحاديث في ذلك ما يتعلق بالرأس وشعر الرأس، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرسل شعره حتى يكون أحياناً إلى شحمة أذنيه وأحياناً إلى المنكبين وأحياناً يكون بين ذلك.
وقد أورد أبو داود جملة أحاديث تتعلق ببيان شعر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه كان على هذه الأحوال الثلاث التي هي: إلى شحمة الأذنين أو إلى الأذنين، ثم يليه إلى ما بين الكتفين: بين المنكبين وبين الأذنين، ثم ما كان إلى المنكبين، فهذه ثلاثة أحوال لشعر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد أبو داود حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (ما رأيت من ذي لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، واللمة فسرت بأنها تكون بين الأذنين والمنكبين أي: في الوسط بين ذلك.
والشعر يقال له: وفرة، ويقال له: لمة، ويقال له: جمة، فالوفرة إلى الأذنين، واللمة إلى ما بين المنكبين والأذنين، والجمة إلى المنكبين، وكل ذلك جاء عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
فـ البراء رضي الله عنه يخبر بأنه ما رأى صاحب لمة مثلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أنه أحسن شخص رآه على هذه الهيئة، وكذلك كونه كان لابساً لباساً أحمر الذي هو الحلة.
وسبق أن مر ما يتعلق باللباس الأحمر وأنه جاء ما يدل على منعه، وهذا يدل على استعماله، وجمع بين هذا وهذا بأنه لا يكون أحمر خالصاً وإنما يكون فيه حمرة وغير حمرة.(470/3)
تراجم رجال إسناد حديث (ما رأيت من ذي لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[ومحمد بن سليمان الأنباري].
محمد بن سليمان الأنباري صدوق أخرج له أبو داود.
[قالا: حدثنا وكيع].
وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
سفيان هو الثوري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق].
أبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن البراء].
البراء بن عازب رضي الله عنه صحابي أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وقوله: [زاد محمد بن سليمان: (له شعر يضرب منكبيه)].
يعني: الذي هو الجمة.
وقوله: [قال أبو داود: كذا رواه إسرائيل عن أبي إسحاق قال: (يضرب منكبيه)].
يعني: كما قال محمد بن سليمان الأنباري؛ فإنه قال: (يضرب منكبيه).
وقوله: [وقال شعبة: (يبلغ شحمة أذنيه)].
قول شعبة هو الذي سيأتي في الحديث الذي بعد هذا.
وإسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وشعبة هو ابن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.(470/4)
شرح حديث (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم له شعر يبلغ شحمة أذنيه) وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر قال: حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم له شعر يبلغ شحمة أذنيه)].
أورد أبو داود حديث البراء من طريق أخرى بلفظ: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم له شعر يبلغ شحمة أذنيه) وهذا يحمل على اختلاف الأحوال، وأنه أحياناً يكون كذا وأحياناً يكون كذا، أي: أحياناً يتركه فيصل إلى كذا وأحياناً يقصه فيصل إلى ما بين المنكب والأذن، وأحياناً يرفعه حتى يصل إلى الأذنين.
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن البراء].
وهؤلاء قد مر ذكرهم.
وهذا إسناد رباعي من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(470/5)
شرح حديث (كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شحمة أذنيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مخلد بن خالد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: (كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شحمة أذنيه)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شعره إلى شحمة أذنيه) وهذا يوافق حديث البراء الذي جاء من طريق شعبة فإن طريق شعبة متفقة مع هذا الحديث الذي هو حديث أنس: أن شعره عليه الصلاة والسلام كان إلى شحمة أذنيه.(470/6)
تراجم رجال إسناد حديث (كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شحمة أذنيه)
قوله: [حدثنا مخلد بن خالد].
مخلد بن خالد الشعيري ثقة أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
معمر بن راشد الأسدي البصري ثم اليماني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثابت].
ثابت بن أسلم البناني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(470/7)
شرح حديث (كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنصاف أذنيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل أخبرنا حميد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنصاف أذنيه)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك: (كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنصاف أذنيه)، وكما هو معلوم أن كل هذه الروايات صحيحة ويجمع بينها أنه أحياناً يكون كذا وأحياناً يكون كذا، وكل كان يصفه على الهيئة التي رآها، فمن الناس من رآه كذا ومنهم من رآه كذا، وقد يكون الصحابي نفسه رآه على عدة أحوال فيرويه على حسب الأحوال التي رآها.(470/8)
تراجم رجال إسناد حديث (كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنصاف أذنيه)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا إسماعيل].
إسماعيل هو ابن علية ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا حميد].
حميد بن أبي حميد الطويل ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك قد مر ذكره.
وهذا الإسناد رباعي وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(470/9)
شرح حديث (كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق الوفرة ودون الجمة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن نفيل حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق الوفرة ودون الجمة)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: (أن شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فوق الوفرة ودون الجمة) والوفرة: هي التي إلى الأذنين، والجمة: هي التي إلى الكتفين، والذي ذكرته عائشة أنه كان بينهما، يعني: أنه أكثر من الوفرة ودون الجمة، بمعنى أنه يقصر عن أن يصل إليها.
وليست الفوقية المذكورة من ناحية الهيئة والوصف؛ فإن الوفرة أعلى من حيث العلو وتلك أنزل، ولكن المقصود بذلك أنه أكثر منها من ناحية المقدار، وهو أيضاً دون الجمة بحيث إنه لم يصل إلى الجمة التي هي بين الكتفين.
فحديث عائشة هذا يدل على أن شعر رسول الله عليه الصلاة والسلام كان بين الوفرة التي هي إلى الأذنين والجمة التي هي إلى المنكبين، فهذه أحوال ثلاث: إلى الأذنين، وإلى المنكبين، وإلى ما بين ذلك.(470/10)
تراجم رجال إسناد حديث (كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق الوفرة ودون الجمة)
قوله: [حدثنا ابن نفيل].
ابن نفيل هو عبد الله بن محمد النفيلي ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد].
عبد الرحمن بن أبي الزناد صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(470/11)
حكم إطالة شعر الرأس في هذا العصر
ويجوز للإنسان في هذا العصر أن يطيل شعره، ويجوز أن يحلق أو يقصر، كل ذلك جائز وسائغ، ولكن الإطالة إذا كانت فيها فتنة كأن يكون ذلك من بعض الشباب الذين يحصل بهم فتنة للنساء، ويترتب على ذلك مضرة؛ فليس لهم ذلك.(470/12)
حكم قص المرأة شعرها
الأصل في حق النساء ألا يقصصن شعورهن، وأن يبقين شعورهن، والنساء جمالهن في شعورهن، وطول الشعر وكثرته جميل في حق النساء، لكن إذا كان شعرها كثيفاً وطويلاً ويصعب عليها صيانته وخدمته وملاحظته فلها أن تقص منه، لكن لا يكون ذلك تشبهاً بالكافرات ولا بالرجال.
ويمكن أن يقال: إنه لا يجوز لها أن تقص أدنى من المنكبين حتى لا تتشبه بالرجال؛ لأنه يجوز لهم أن يطيلوا إلى هذا الموضع.
لكن كما ذكرنا أنه ليس للنساء أن يقصصن شعورهن مطلقاً، وإنما يكون ذلك في حق من يكون شعرها كثيفاً ويصعب عليها خدمته والعناية به، وإلا فإن زينة المرأة في شعرها.(470/13)
ما جاء في الفرق(470/14)
شرح حديث (فسدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته ثم فرق بعد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الفرق.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن سعد أخبرني ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان أهل الكتاب يعني يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رءوسهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به، فسدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته ثم فرق بعد)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب ما جاء في الفرق.
والفرق: هو قسمة شعر الرأس من الوسط حتى يكون قسم منه على الجانب الأيمن وقسم على الجانب الأيسر، ويكون فيه خط في الوسط يقسم شعر الرأس إلى قسمين فتبدو من ذلك المكان جلدة الرأس؛ هذا هو الفرق.
والسدل: هو عدم فرقه، وكونه يذهب كما اتجه إلى الأمام وإلى اليمين وإلى الشمال وإلى الخلف، فما ليس فيه فرق فهو مسدل، يعني: أن السدل ترك الشعر على وجهه دون أن يفرق ودون أن يميز إلى جهة اليمين أو إلى جهة الشمال.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعر رأسه ويحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به ويخالف المشركين، وكانوا المشركون يفرقون وأهل الكتاب يسدلون).
وقوله: (كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به)، يعني: فيما لم يؤمر فيه بمخالفتهم أو فيما لم يؤمر فيه بشيء يفعله، وأما شيء يكون أهل الكتاب لهم فيه هيئة والكفار لهم هيئة فإنه كان يحب موافقة أهل الكتاب؛ لأن أهل الكتاب أهل دين وأهل رسالة ولكنها محرفة ومبدلة، بخلاف الكفار فإنهم وثنيون يعبدون الأوثان ولا ينتمون إلى دين.
وأما أهل الكتاب فإنهم يتبعون من الرسل موسى وعيسى، ولكنه بعد بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يجز لهم أن يتبعوا أحداً سوى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع، ولا يقبل الله من أحد أن يكون متبعاً لغيره بعد بعثته عليه الصلاة والسلام؛ لأن بعثته إلى الناس عامة، وكل إنسي وجني من حين بعثته إلى قيام الساعة فهو من أمته عليه الصلاة والسلام، أعني أمة الدعوة، فالكل مدعو إلى أن يدخل في دينه، وإذا لم يدخل في دينه فليس أمامه إلا النار؛ لقوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار).
وقوله: (ثم إنه فرق بعد ذلك) يعني: أنه استعمل الفرق.
فمن العلماء من قال: إن الفرق ناسخ للسدل، ومنهم من قال: إن الكل جائز، يعني: هذا بناء على ما فعله أولاً وهذا بناء على ما فعله أخيراً.(470/15)
تراجم رجال إسناد حديث (فسدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته ثم فرق بعد)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إبراهيم بن سعد].
إبراهيم بن سعد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني ابن شهاب].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة].
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ثقة أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(470/16)
شرح حديث عائشة (كنت إذا أردت أن أفرق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن خلف حدثنا عبد الأعلى عن محمد -يعني: ابن إسحاق - قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت إذا أردت أن أفرق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم صدعت الفرق من يافوخه وأرسل ناصيته بين عينيه)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها في صفة فرق شعر رسول صلى الله عليه وسلم، وأنها تبدأ الفرق من يافوخه، واليافوخ هو في مقدم الرأس من أعلاه.
وقولها: (وأرسل ناصيته بين عينيه) يعني: أن الفرق إنما يكون من اليافوخ يعني: من مقدم الرأس من فوق ويذهب به إلى الخلف فينقسم قسمين: إلى اليمين وإلى الشمال.
وأما مقدمة الناصية فإنه يسدلها.
والفرق من جانب الرأس الأيمن أو الأيسر لا نعلم له أصلاً، وإنما يكون الفرق من الوسط.(470/17)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة (كنت إذا أردت أن أفرق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم)
قوله: [حدثنا يحيى بن خلف].
يحيى بن خلف صدوق أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا عبد الأعلى].
عبد الأعلى بن عبد الأعلى ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد يعني: ابن إسحاق].
محمد بن إسحاق صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير].
محمد بن جعفر بن الزبير ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة عن عائشة].
عروة وعائشة قد مر ذكرهما.(470/18)
باب في تطويل الجمة(470/19)
شرح حديث وائل بن حجر (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولي شعر طويل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في تطويل الجمة.
حدثنا محمد بن العلاء حدثنا معاوية بن هشام وسفيان بن عقبة السوائي -هو أخو قبيصة - وحميد بن خوار عن سفيان الثوري عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ولي شعر طويل، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذباب ذباب.
قال: فرجعت فجززته ثم أتيته من الغد فقال: إني لم أعنك، وهذا أحسن)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: باب في تطويل الجمة.
والجمة كما عرفنا هي التي تصل إلى المنكبين.
وأورد أبو داود حديث وائل بن حجر رضي الله عنه، وفيه أنه أطال شعره حتى تجاوز الجمة، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وله شعر طويل، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ذباب ذباب) وفهم منه أنه يعنيه، وأنه ينكر عليه الهيئة التي هو عليها، ولعله فهم أن ذلك مخالف للهيئة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظن أن هذا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكار عليه، فذهب وجزها ثم رجع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لم أعنك، وهذا أحسن) يعني: هذا الذي فعلته والهيئة التي أنت عليها الآن أحسن من الهيئة الأولى.
فقوله: (هذا أحسن) يدل على أن الذي تركه سائغ؛ لأن قوله: (أحسن) يدل على تفضيل حالة على حالة وكل من الحالتين سائغة: الحالة التي فيها التطويل والحالة التي فيها الاقتصار على الجمة.
فقوله: (هذا أحسن) يدل على تفضيل وأولوية هذه الحالة، كما يدل على جواز ما كان عليه وائل بن حجر والذي عمد إلى قصه بعد أن سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الكلام وهو لم يعنه.
ولا أدري ماذا يراد بقوله: (ذباب ذباب) فبعض الشراح قالوا إن معناه: شؤم، ولكني لا أعرف ما هو المقصود من هذه الكلمة.(470/20)
ترجمة رجال إسناد حديث وائل بن حجر (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولي شعر طويل)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثنا معاوية بن هشام].
معاوية بن هشام صدوق له أوهام أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[وسفيان بن عقبة السوائي هو أخو قبيصة].
سفيان بن عقبة السوائي أخو قبيصة صدوق أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[وحميد بن خوار].
حميد بن خوار لين الحديث أخرج له أبو داود.
وهؤلاء ثلاثة كلهم في طبقة واحدة وكلهم يروون عن سفيان.
[عن سفيان الثوري].
سفيان الثوري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عاصم بن كليب].
عاصم بن كليب صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه صدوق أخرج حديثه البخاري في رفع اليدين وأصحاب السنن.
[عن وائل بن حجر].
وائل بن حجر رضي الله عنه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحديثه أخرجه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.(470/21)
باب في الرجل يعقص شعره(470/22)
شرح حديث (قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة وله أربع غدائر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يعقص شعره.
حدثنا النفيلي حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قالت أم هاني رضي الله عنها: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة وله أربع غدائر، تعني: عقائص)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في الرجل يعقص شعره، يعني: يجعله ضفائر وغدائر.
وأورد حديث أم هاني رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة -تعني: عام الفتح- وعليه أربع غدائر) يعني: عقص شعره، وبدلاً من أن يتركه مرسلاً جعله على هذه الهيئة التي هي أربع عقائص.(470/23)
تراجم رجال إسناد حديث (قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة وله أربع غدائر)
قوله: [حدثنا النفيلي].
النفيلي هو عبد الله بن محمد النفيلي مر ذكره.
[حدثنا سفيان].
سفيان هو ابن عيينة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي نجيح].
عبد الله بن أبي نجيح ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجاهد].
مجاهد بن جبر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: قالت أم هاني].
أم هاني بنت أبي طالب أخت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(470/24)
باب في حلق الرأس(470/25)
شرح حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في حلق الرأس.
حدثنا عقبة بن مكرم وابن المثنى قالا: حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي قال: سمعت محمد بن أبي يعقوب يحدث عن الحسن بن سعد عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ثم قال: ادعوا لي بني أخي، فجيء بنا كأنا أفرخ فقال: ادعوا لي الحلاق.
فأمره فحلق رءوسنا)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في حلق الرأس.
أي: حلقه في غير حج ولا عمرة، وأما فيما يتعلق بالعمرة والحج فإنه قد جاء ذلك مع تفضيل الحلق على التقصير، وذلك أن الحلق فيه ترك الشعر كله لله مع حصول الرغبة فيه من بعض الناس، ولهذا صار أفضل وأولى من التقصير، ولهذا أيضاً دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاث مرات وللمقصرين مرة واحدة؛ لأن المقصرين احتفظوا بشيء من شعرهم الذي يرغبون فيه ويحبون أن يبقوا عليه، وأما أولئك فتركوه من أجل الله كاملاً وأزالوه ولم يبقوا منه شيئاً، فصار أولئك أفضل من هؤلاء فدعا لهم ثلاث مرات، وهؤلاء دعا لهم مرة واحدة.
والترجمة التي هنا إنما هي في غير الحج والعمرة، وذلك أن إبقاء الشعر سائغ وحلقه وتقصيره سائغ، وكل ذلك جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما استشهد جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة أمهلهم ثلاثة أيام، يعني: لم يأتهم وجعل لهم أن يبكوا في هذه الأيام؛ لأن البكاء سائغ ودمع العين سائغ وإنما المحذور هو النياحة وإطلاق الأصوات بالنياحة على الميت، وبعد ذلك جاءهم وقال: (لا تبكوا على أخي بعد اليوم) يعني: بعدما مضى ثلاثة أيام ليس لهم أن يبكوا؛ لأن الصدمة الأولى وزمن الحزن لا يطول ولا يستمر.
ثم قال: (ادعوا لي بني أخي، فجيء بنا كأنا أفرخ)، الأفراخ هي أولاد الطير الصغار.
ثم قال: (ادعوا لي الحلاق، فأمره فحلق رءوسنا) قيل: إن سبب حلقه لهم أن أمهم كانت منشغلة عن إصلاح شعرهم فخشي أن يترتب على ذلك حصول القمل وحصول الأوساخ، فإذا أزيل صار في ذلك فائدة ومصلحة وراحة لأمهم التي جاءها ما يشغلها عن العناية بشعر أولادها.
فقيل: إن هذه هي الحكمة في كونه أمر بحلقهم وهي الحاجة.
ومعلوم أن الحلق عند المصيبة لا يجوز، وقد جاء في الحديث: (لعن الرسول صلى الله عليه وسلم الصالقة والحالقة والشاقة) والحالقة: التي تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة: التي تشق ثوبها عند المصيبة، والصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة، ولكن المقصود من هذا الحلق لأولاد جعفر بعد موته رضي الله تعالى عنه وأرضاه هو كون أمهم كانت منشغلة عن العناية برءوسهم، فخشي أن يصيبهم شيء من القمل فأمر بحلق رءوسهم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فدل هذا على أن الحلق سائغ في غير حج ولا عمرة.
والذي يظهر من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تبكوا على أخي بعد اليوم) أن البكاء بعد اليوم الثالث لا يصلح، وأن الإنسان يبقى التأثر معه في حدود ثلاثة أيام، وهذا لا بأس به كما جاء في هذا الحديث.
ولابد من السلوان، ولكن كون الإنسان يستمر ويتذكر المصيبة ويولد البكاء فهذا ليس له، لكن عند الصدمة الأولى وفي الأحوال الأولى للإنسان أن يبكي كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم! لمحزونون) قال ذلك عندما مات ابنه إبراهيم.(470/26)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم)
قوله: [حدثنا عقبة بن مكرم].
عقبة بن مكرم ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[وابن المثنى].
محمد بن المثنى أبو موسى العنزي الملقب بـ الزمن ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[قالا: حدثنا وهب بن جرير].
وهب بن جرير بن حازم ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبي].
أبوه ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت محمد بن أبي يعقوب].
محمد بن أبي يعقوب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن بن سعد].
الحسن بن سعد ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عبد الله بن جعفر].
عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما صحابي ابن صحابي، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(470/27)
شرح سنن أبي داود [471]
الإسلام دين الأخلاق والنظافة والنظام، وقد حث الشارع على الاهتمام بذلك، ورغب في الاهتمام بالمظاهر فهي دالة على المخابر، من ذلك النهي عن القزع وما شابهه من الأعمال المشابهة لغير المسلمين.(471/1)
باب في الذؤابة(471/2)
شرح حديث (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الذؤابة.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عثمان بن عثمان -قال أحمد: كان رجلاً صالحاً- قال: أخبرنا عمر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع) والقزع: أن يحلق رأس الصبي فيترك بعض شعره].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في الذؤابة، يعني: ذؤابة الرأس، فالرأس حين يترك جزء منه ويؤخذ جزء منه يكون هذا الذي بقي ذؤابة.
أورد أبو داود حديث ابن عمر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع) والقزع هو: أن يحلق بعض شعر الصبي ويترك بعضه، والواجب أن يحلق كله أو يترك كله كما سيأتي في الحديث: (احلقه كله أو دعه كله).
فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع، وهذا من الأشياء التي سبق أن أشرت إليها قريباً وهي النهي عن كونه يؤخذ شيء ويترك شيء، أو يفعل شيء ويترك شيء كما سبق في قضية الانتعال وأن الإنسان لا يلبس في إحدى رجليه نعلاً ويترك الأخرى حافية، وكذلك لا يأخذ بعض شعر الرأس ويترك بعضه، وكذلك لا يكون بعضه في الشمس وبعضه في الظل.(471/3)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عثمان بن عثمان].
عثمان بن عثمان صدوق ربما وهم أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[قال أحمد: كان رجلاً صالحاً].
هذا ثناء من أحمد عليه، والمقصود بالصلاح صلاح الدين، أي: أنه صالح في دينه، وقد يطلق الصلاح على صلاح الرواية، لكن الذي يبدو أنه أراد صلاح الدين.
[قال: أخبرنا عمر بن نافع].
عمر بن نافع ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن أبيه عن ابن عمر].
أبوه هو نافع مولى ابن عمر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وابن عمر قد مر ذكره.(471/4)
طريق أخرى لحديث (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع) وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع.
وهو أن يحلق رأس الصبي فتترك له ذؤابة)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر من طريق أخرى وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يحلق بعض رأس الصبي ويترك له ذؤابة) يعني: أن يحلق بعضه ويترك بعضه وهذا المتروك يكون ذؤابة.
والقزع هو حلق بعض الرأس وترك بعضه، سمي قزعاً تشبيهاً بقزع السحاب إذا كان قطعاً متفرقة في السماء، فيكون أخذ بعض الرأس وترك بعضه مثل قطع السحاب؛ لأنه أخذ بعضه وترك بعضه.
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد هو ابن سلمة ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا أيوب].
أيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن ابن عمر].
نافع وابن عمر قد مر ذكرهما.(471/5)
حكم تخفيف بعض أجزاء الشعر دون بعض
والقزع الذي يبدو أنه ليس خاص بالحلق، بل يكون أيضاً بتخفيف بعض الأجزاء من الشعر دون بعض؛ لأن كون الإنسان يقصر بعض شعر رأسه ويترك بعضه بحيث يكون طويلاً هذا مثل القزع.(471/6)
حكم حلق بعض الرأس لأجل الحجامة
وحلق بعض الرأس من أجل الحجامة لا بأس به؛ لأنه إنما أزيل ذلك المكان من أجل الحجامة، وكذلك لو أزيل من أجل مرض كقرح مثلاً وأريد إزالة ما حوله من أجل معالجته وعدم اتصال الشعر به، فلا بأس بذلك، وإنما المقصود من النهي عن القزع أن يكون من غير أمر يقتضيه ومن غير حاجة تدعو إليه، وإلا فلا بأس ككونه يحلق جزءاً للحجامة أو من أجل دفع الضرر عن ذلك المكان الذي حصل فيه الجرح.(471/7)
حكم القزع للنساء والصبيان
في بعض الأماكن يفعل القزع للبنت الصغيرة دون الابن للتفريق بين البنت والابن وهذا لا يجوز؛ لأن هذا الفعل لا يجوز للرجال ولا النساء.(471/8)
شرح حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبياً قد حلق بعض شعره) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبياً قد حلق بعض شعره وترك بعضه، فنهاهم عن ذلك وقال: احلقوه كله أو اتركوه كله)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبياً قد حلق بعض شعره وترك بعضه فقال عليه السلام: احلقوه كله أو دعوه كله) فدل هذا على أن إبقاء الجميع سائغ، وأن حلق الجميع سائغ، وأن الذي لا يسوغ هو حلق بعضه وترك بعضه، وهذا مثل الحديث الذي مر في قصة عبد الله بن جعفر وإخوته حيث أمر صلى الله عليه وسلم بحلق رءوسهم.
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر].
هؤلاء قد مر ذكرهم جميعاً.(471/9)
شرح حديث أنس (كانت لي ذؤابة فقالت لي أمي لا أجزها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الرخصة.
حدثنا محمد بن العلاء حدثنا زيد بن الحباب عن ميمون بن عبد الله عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال (كانت لي ذؤابة فقالت لي أمي: لا أجزها؛ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمدها ويأخذ بها)].
أورد أبو داود باب الرخصة في ذلك، والمصنف أورد ما جاء في الذؤابة وأنه لا يجوز ترك ذؤابة وذلك بأن يحلق بعض الرأس ويترك بعضه، وإنما يحلق كله أو يبقى كله، ثم أورد هذه الترجمة وهي (باب الرخصة في ذلك)، أي: ما يدل على أنه جائز، لكن الذي ورد في هذا الباب هو حديث وأثر ولا يثبت منهما شيء، وعلى هذا فلا يدل شيء على جواز اتخاذ الذؤابة وحلق بعض الرأس وترك بعضه، وأدلة النهي باقية على أصلها وليس لها معارض.
وأورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كانت لي ذؤابة فقالت أمي: لا أجزها؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم يمدها ويأخذ بها) يعني: أنه كان يمسح عليها ويمدها بيده، والحديث غير صحيح؛ لأن في إسناده رجلاً ضعيفاً.
والذؤابة لا تكون إلا بحلق بعض الرأس، ويمكن أن تكون بالحلق أو بالتقصير، وذلك بكونه يقصر بعضه بحيث يكون كالحلق ويبقى بعضه طويلاً جداً.
وإذا كان الشعر طويلاً فجمع من الخلف وربط بدون عقص وبدون ضفيرة فذلك لا يسمى ذؤابة؛ لأن الشعر مادام موجوداً كله فليس ذؤابة؛ لأن الذؤابة لا تكون إلا بأن يؤخذ بعضه ويترك بعضه.(471/10)
تراجم رجال إسناد حديث أنس (كانت لي ذؤابة فقالت لي أمي لا أجزها)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء حدثنا زيد بن الحباب].
محمد بن العلاء مر ذكره.
وزيد بن الحباب صدوق أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ميمون بن عبد الله].
ميمون بن عبد الله مجهول أخرج له أبو داود.
[عن ثابت البناني عن أنس بن مالك].
ثابت البناني وأنس بن مالك قد مر ذكرهما.
والحديث فيه رجل مجهول.(471/11)
شرح أثر أنس بن مالك (احلقوا هذين أو قصوهما فإن هذا زي اليهود)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هارون حدثنا الحجاج بن حسان قال: دخلنا على أنس بن مالك رضي الله عنه ففحدثتني أختي المغيرة قالت: وأنت يومئذٍ غلام ولك قرنان أو قصتان، فمسح رأسك وبرك عليك وقال: احلقوا هذين أو قصوهما، فإن هذا زي اليهود].
أورد أبو داود هذا الأثر عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وذلك أنه جيء بـ الحجاج بن حسان إلى أنس بن مالك عندما كان صغيراً ولا يعقل وإنما حدثته أخته المغيرة بالذي حصل، وأنه كان له قرنان أو قصتان، وقالت تخاطب أخاها: فمسح رأسك وبرك عليك، يعني: دعا له بالبركة.
وقال: احلقوا هذين أو قصوهما، أي: القصتين أو القرنين.
والحديث في ظاهره لا يدل على الترجمة؛ لأن فيه إزالة لهذين الشيئين أو قصهما حيث قال: (احلقوا هذين أو قصوهما فإن هذا زي اليهود) قال صاحب عون المعبود: إن مطابقة الترجمة هي من جهة أن زي اليهود يكون بهذا التعدد الذي هو قصتان أو قرنان، أما إذا كان شيئاً واحداً فإن هذا هو الذي لا بأس به، يعني: ويكون مثلما جاء في حديث أنس ذؤابة؛ لأنه شيء واحد وليس شيئاً متعدداً.
فقال صاحب عون المعبود: إن وجه مطابقة الترجمة هي من هذه الناحية، وإلا فإن هذا الأثر في الظاهر لا يدل على الترجمة، ولكن الحديث أيضاً فيه هذه المرأة التي هي أخت الحجاج بن حسان وهي المغيرة وهذا اسم من الغرائب في أسماء النساء؛ لأنه من أسماء الرجال.
ومعلوم أن هناك من النساء من جاءت تسميتها بأسماء الرجال مثل المغيرة هذه، وجاء تسمية بعض الرجال بأسماء النساء مثل: جويرية بن أسماء فاسمه واسم أبيه مطابق لأسماء النساء.(471/12)
تراجم رجال أثر أنس بن مالك (احلقوا هذين أو قصوهما فإن هذا زي اليهود)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا يزيد بن هارون].
يزيد بن هارون الواسطي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الحجاج بن حسان].
الحجاج بن حسان لا بأس به -وهي بمعنى صدوق- أخرج له أبو داود.
[قال: دخلنا على أنس بن مالك فحدثتني أختي المغيرة].
المغيرة مقبولة أخرج لها أبو داود.
[عن أنس].
وأنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد مر ذكره.(471/13)
الأسئلة(471/14)
حكم حلق جميع شعر الرأس
السؤال
كثر في هذه الأيام حلق الشعر جميعه تشبهاً ببعض الكفار، فهل يجوز حلق جميع الرأس؟ وهل صح أن ذلك فيه تشبه بالخوارج؟
الجواب
إذا كان قصد الإنسان بحلق رأسه التشبه بالكفار أو بالخوارج فهذا لا يجوز.
والخوارج جاء أنهم يتخذون ذلك وأن هذا من سيماهم ومن علاماتهم، لكن لا يدل هذا على أن كل حلق يكون ممنوعاً لأن فيه تشبهاً بهم، نعم إذا كان المقصود التشبه بهم أو بغيرهم فهذا القصد لا يجوز، ويكون هذا الفعل حراماً بسبب هذا القصد.
وأما إذا كان لمصلحة، أي: لكونه ليس عنده قدرة على العناية به ولا يريد أن يشتغل بالعناية به، وإنما يريد أن يتخفف منه ولا يشغل نفسه بمتابعته وخدمته، فإن ذلك لا بأس به.
وهذا الحديث يدل على كونه سائغاً وكذلك الأحاديث الأخرى التي وردت في هذا الباب.
فالإنسان إذا طال شعره له أن يحلقه.(471/15)
مدة التعزية
السؤال
هل يدل حديث عبد الله بن جعفر على أن مدة التعزية ثلاثةأيام فقط؟
الجواب
الحديث لا يدل؛ لأن هذا فيه إشارة إلى قضية البكاء، وأنه لا يصلح أن يطول، ولكن ليس فيه شيء يدل على تحديده بثلاثة أيام، ولم يأت شيء يدل تحديد التعزية بثلاثة أيام، لكنها تكون في الأيام الأولى للمصيبة، ولا تكون بعدما يمضي عليها زمن طويل والسلوان قد حصل.(471/16)
حكم تحديد الزيارة بوقت معين
السؤال
نحن نزور المرأة التي توفي زوجها بعد أسبوع من وفاته، فهل زيارتنا هذه جائزة؟
الجواب
التحديد بوقت معين لا نعلم له أصلاً، وأما كون الأقارب يزور بعضهم بعضاً في أي وقت فهذا لا بأس به، لكن التحديد بأوقات معينة بحيث يقال: إنه لا تكون الزيارة إلا في كذا وكذا لا نعلم له وجهاً.(471/17)
حكم إتيان الرجل زوجته في مدة ثلاثة أيام من موت أبيها
السؤال
زوجتي مات أبوها، فهل صحيح أن لا أقربها لمدة ثلاثة أيام؟
الجواب
لا نعلم شيئاً يمنع من هذا، لكنها إذا كانت متأثرة ويؤثر عليها ذلك ولا ترضى به، فينبغي للإنسان أن يراعي رغبتها.(471/18)
تحمل الصغير والكافر للحديث
السؤال
هل في هذا حديث عبد الله بن جعفر في حلق رءوس أولاد جعفر دلالة على تحمل الصبي الحديث؛ لأن عبد الله بن جعفر قال: فجيء بنا كأننا أفرخ؟
الجواب
يصح أن يتحمل الصغير في حال صغره ويؤدي في حال كبره، والكافر يتحمل في حال كفره ويؤدي في حال إسلامه، وهذا هو المعتبر والمعول عليه عند المحدثين وقد جاء في ذلك أحاديث.
فـ عبد الله بن جعفر استشهد أبوه في غزوة مؤتة وهو صغير وقد جيء به وبإخوانه وهم صغار، ولا شك أنه تحمل هذا الحديث وهو صغير، وكذلك غيره من الصحابة مثلما جاء عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما: أنه لما توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام كان عمره ثماني سنوات، وقد روى أحاديث تحملها في صغره وأداها في حال كبره، ومنها الحديث المشهور الذي هو متفق عليه وهو من قواعد الإسلام: (الحلال بين والحرام بين) فإنه قال فيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا، وهذا معناه أنه سمعه وعمره ثمان سنوات أو أقل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي وعمره ثمان سنوات، وهذا يدل أنه تحمل في حال صغره وأداه في حال كبره.
وكذلك الكافر يتحمل في حال كفره ويؤديه في حال إسلامه، فإن ذلك سائغ.
وحديث هرقل الذي رواه أبو سفيان رضي الله تعالى عنه وحكاه كان قد تحمله في حال كفره وأخبر عما حصل من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جرى لـ هرقل وكذلك ما جرى من الأمور التي أخبر بها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن الكافر يتحمل في حال كفره ويؤدي في حال إسلامه.(471/19)
حكم حلق رأس المرأة الكبيرة التي لا تعقل
السؤال
هل يجوز حلق رأس امرأة كبيرة لا تعقل شيئاًَ، وقد أصاب رأسها القمل ولكنها لا تسمح بذلك؛ علماً أنها لا تعقل؟
الجواب
إذا كانت لا تسمح فيخفف عنها حتى يحصل المقصود، وأيضاً يحصل مراعاة رغبتها.(471/20)
حكم أمر الطالب بأن يحلق رأسه كل ثلاثة أسابيع
السؤال
يؤمر الطالب في بعض المدارس بحلق شعر رأسه بعد كل ثلاثة أسابيع، فهل يعد هذا من صفة الخوارج؟
الجواب
لا أدري أولاً شيئاً عن صحة هذا الخبر وصحة هذا الكلام، والثلاثة الأسابيع مدة قصيرة، لا يحصل فيها نبات الشعر، والرسول صلى الله عليه وسلم وقت لإزالة الشارب والأظفار والعانة ألا تتجاوز أربعين يوماً، ومعنى ذلك أنه يجوز أن يكون قبل ذلك، لكن كونه يحدد بمدة معينة لا أعلم له وجهاً، والخبر هذا لا ندري هل هو صحيح أو غير صحيح؟(471/21)
حكم الأكل متربعاً
السؤال
هل صحيح أنكم تقولون: إن من أكل متربعاً يدخل فيمن يأكل متكئاً؟
الجواب
نعم؛ فقد جاء في تفسير التربع بأنه اتكاء، وقد سبق أن مر أن الاتكاء فسر بمعنيين: أحدهما: التربع؛ لأنه يدل على التوسع والنهم في الأكل، والثاني: الاعتماد على أحد الجانبين، ويدل له الحديث الذي فيه (وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور)، فجاء تفسير الاتكاء فيما يتعلق بالأكل بأن من معانيه التربع، وذلك بكونه يجلس متربعاً، وعللوا ذلك بأنه يدل على التوسع في الأكل والنهم فيه، وهذا موجود في كتب الحديث.(471/22)
حكم حلق الرأس وإبقاء قرنين فيه
السؤال
ألا تكون مناسبة الترجمة في أثر أنس بن مالك (احلقوا هذين أو قصوهما، فإنه زي اليهود) هو كون المأمور بقصه القرنين فقط دون سائر الرأس؟
الجواب
الذي يبدو أن الذي بقي القرنان، وأما غير القرنين فليس فيه شيء، يعني: أن الرأس قد حلق إلا القرنين، ولكن صاحب عون المعبود قال: إن المقصود من ذلك التعدد لأن فيه مشابهة، وأنه لو كان واحداً فإنه يكون مطابقاً للحديث السابق فيكون لا بأس به، ولكن الأمر كما تقدم أن كلاً من الحديث والأثر غير صحيح.(471/23)
حكم الأحمر الخالص بالنسبة للنساء
السؤال
هل لبس الأحمر الخالص نهي عنه الرجال والنساء على سواء، أو هذا خاص بالرجال؟
الجواب
النهي عن الأحمر الخالص خاص بالرجال فقط، أما النساء فلا ينهين عن ذلك.(471/24)
حكم لبس الكوفية في الصلاة
السؤال
هل ثبت حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس الكوفية في الصلاة؟
الجواب
كلمة (الكوفية) لا أعرف ما المقصود بها، وإنما الذي كان يستعملها الرسول صلى الله عليه وسلم هي العمامة، والرسول كان في أكثر هيئاته لابساً العمامة، وأما الكوفية فلا أدري ماذا يقصد بها، ولعله يقصد بها الطاقية الموجودة في هذا الزمان.(471/25)
حكم التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في سنن العادات
السؤال
ما حكم التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في سنن العادات؟
الجواب
الأمر في ذلك واسع.(471/26)
حكم فرق المرأة شعرها
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تفرق شعرها مثل الرجال؟
الجواب
نعم، لها أن تفرق شعرها، ولا بأس بذلك.(471/27)
حكم قصد التشبه بالنساء
السؤال
بعض الشباب اليوم يفرقون الشعر، والغالب في ذلك أنهم يقصدون التشبه بالنساء، فهل هم آثمون؟
الجواب
الذي يقصد التشبه بالنساء لا شك أنه آثم، لقوله صلى الله عليه وسلم (وإنما لكل امرئ ما نوى)، فمن قصد التشبه بالنساء أو بالكفار أو بالكافرات فهو آثم.(471/28)
حكم ترك إطالة الشعر لأجل إنكار الناس
السؤال
إذا ترك الإنسان إطالة الشعر لأجل أن الناس ينكرون ذلك ويعدونه من زي الفساق وتأليفاً لقلوبهم، فهل يؤجر؟
الجواب
الأمر في ذلك واسع، لكنه يمكن أن يبين لهم أن هذا سائغ وهذا سائغ.(471/29)
الفرق بين اليافوخ والناصية
السؤال
ما الفرق بين اليافوخ والناصية؟
الجواب
الناصية: هي مقدمة شعر الرأس.
واليافوخ: هو أيضاً في مقدم الرأس، لكن اليافوخ في داخل الرأس، وأما الناصية فتطلق على الشعر الذي هو مقدم الرأس.(471/30)
حكم حبس بعض الطيور للزينة
السؤال
هل يجوز حبس بعض الطيور في قفص للزينة؟
الجواب
الأولى ترك هذا، وإذا فعل ذلك وأحسن إليها ولم يعذبها ولم يحصل لها ضرر بذلك، فلا بأس، وأما إذا كان يغفل عنها ويهملها، فتجوع وتهلك، فلا يجوز، وأما إذا اعتنى بها فإن ذلك جائز والأولى أن يترك ذلك، ويستدل على هذا بقصة صاحبة الهرة التي دخلت بها النار، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (دخلت النار امرأة في هرة حبستها، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض).(471/31)
الجمع بين حديث حصين (أنه أتى النبي فوضع يده على ذؤابته) وبين أحاديث النهي عن القزع
السؤال
ورد في سنن النسائي بسند صحيح كما قال في عون المعبود من حديث حصين: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده على ذؤابته، ثم سمت عليه ودعا له)، فكيف الجمع بين هذا الحديث وأحاديث الباب؟
الجواب
لا أدري أولاً شيئاً عن صحة الحديث، لكن إذا صح يمكن أن يكون المراد بقوله: (على ذؤابته) يعني: على شعره، وليس بلازم أن يكون محلوقاً بعضه ومتروكاً بعضه؛ لأن هذا يخالف ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.(471/32)
معنى النياحة على الميت
السؤال
ما معنى قول الصحابة: (كنا نعد الاجتماع عند أهل الميت من النياحة)، وما معناه؟
الجواب
كون الناس يجتمعون ويكثرون ويحصل منهم أمور ليست بطيبة، هذا هو المعنى.
والأصل أن التعزية تكون في أي مكان، فتكون في المقبرة، وتكون في المسجد، وتكون في الطريق، وتكون في البيت، ولا يقال: إنها ممنوعة في البيت، بل كون الإنسان يزور المصاب في بيته، ويهون عليه ويذكره بالشيء الذي يخفف وطأة المصيبة عليه، لا بأس بذلك، وإنما المحذور أن يتخذ ذلك سمة وعلامة، كما يفعل الآن بعض الناس حيث يجعلون لذلك علامة وسمة، ويجعلون أنواراً، وبعض الناس يجعل كراسي في الشوارع وأنواراً وكأنه صارت عنده مناسبة فيها لفت نظر، وبعض الناس يتخذ تلك المناسبة من أجل صنع الطعام، وتجميع الناس من أجل الطعام، فتكون المناسبة كأنها مناسبة سرور، حتى إن الذي يريد الأكل يجدها فرصة ليحصل على الأكل، وكل هذا من الأمور المنكرة.(471/33)
حكم الاختلاط في الجامعات وغيرها
السؤال
ما حكم الاختلاط في الجامعات وفي الأعمال، وخاصة أن معظم الجامعات في بلادنا فيها الاختلاط، وكذلك الأشغال موجودة عندنا بالاختلاط، ونحن سمعنا أنكم تفتون بجواز الاختلاط بين الرجال والنساء في الجامعات والمدارس وكذلك في الأعمال، وتقولون: أن الإثم يعود على النساء، وليس على الرجال؟
الجواب
أنا لا أقول إنه يجوز الاختلاط بين الرجال والنساء لا في الجامعات ولا في المؤسسات ولا في أي مكان، لكن الذي أقوله: إن المرأة لا يجوز لها أن تدرس في جامعة مختلطة أبداً في جميع الأحوال، وأما الرجل إذا لم يجد جامعة إلا هذه الجامعة المختلطة فله أن يدرس فيها، فلا أقول بجواز الاختلاط، ولكن أقول: إن الرجل الذي لم يجد إلا جامعة مختلطة فله أن يدرس فيها ويبتعد عن النساء؛ لأنه يستطيع أن يبتعد عن النساء.
وأما المرأة لو ابتعدت عن الرجال فلن تستطيع؛ لأنهم يلاحقونها ويتبعونها، وأما الرجل فإنه يمكن أن يتخلص من النساء ويبتعد عن النساء، فإذا كان مضطراً إلى هذا ولم يجد جامعة أخرى فله أن يدرس، لكن عليه أن يبتعد عن النساء، وأما المرأة فلا يجوز لها في جميع الأحوال؛ لأنها لا تستطيع أن تتخلص من الرجال، والرجل يستطيع أن يتخلص من المرأة.
هذا هو الذي قلته، فلا يجوز أن يفهم هذا الفهم الخاطئ: أنه يجوز الاختلاط، بل الاختلاط حرام لا يجوز، وإنما قلت ما ذكرته.(471/34)
حكم حلق شعر القفا
السؤال
لو أن إنساناً قصر من شعر رأسه، ولكن في أطراف شعره مما يلي الرقبة استخدم الحلق بالموسى، فهل هذا يدخل في القزع؟
الجواب
الشعر الذي يكون على الرقبة ليس من شعر الرأس، وكون الإنسان يزيله ليس في ذلك بأس، وأما كونه يأخذ شعر الرأس من أطرافه فإن هذا هو القزع.(471/35)
باب في أخذ الشارب(471/36)
شرح حديث (الفطرة خمس أو خمس من الفطرة)
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في أخذ الشارب.
حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: (الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب).
].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: باب في أخذ الشارب، وعبر هنا بالأخذ ليشمل كل إزالة للشعر الذي على الشفة العليا الذي هو الشارب، فيدخل فيه القص، ويدخل فيه المبالغة فيه، لأن كلمة (الأخذ) عامة، تشمل الأخذ من الشارب، أو إزالة الشارب مطلقاً على أي وجه كانت.
وقد جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة تتعلق بالشارب، منها الجز، ومنها القص، ومنها الإحفاء، ومنها الإنهاك، وأما الحلق فلا أعرف نصاً فيه الحلق، ومن العلماء من قال: إن الإنهاك هو المبالغة في الأخذ، وإنه قد يؤدي إلى الحلق، فتعبير المصنف رحمه الله بقوله: (أخذ الشارب) يشمل كل أخذ للشارب على أي وجه كان.
وأورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (خمس من الفطرة، أو الفطرة خمس) وهذا شك من أحد الرواة هل قال هذا أو قال هذا.
قال: (الختان) وهو قطع الغلاف الذي على حشفة الذكر من الإنسان، وقطع طرفي ما يكون من المرأة.
وهو في حق الرجال واجب ومتعين، وأما في حق النساء فهو مستحب، وذلك لأن أخذه من الرجال فيه تحصيل الطهارة، لأنه إذا كان تلك القلفة موجودة فإن النجاسة تكون في ذلك الغلاف الذي يغطي الذكر، فجاءت الشريعة بإزالته وقطعه.
وقوله: [(الاستحداد)].
الاستحداد هو: إزالة العانة، وقيل له الاستحداد لأنه أخذ الشعر النابت حول القبل بالحديدة التي هي الموسى.
وقوله: [(ونتف الإبط)].
يعني: نتف الشعر النابت على الإبط، وينتف لأنه يكون في مكان يكون فيه العرق، وتتغير فيه الرائحة، فإزالته بالنتف تكون أمكن، وإذا كان لا يمكن إلا بالحلق فإنه يحلق ولا بأس بذلك، ولكن النتف هو الأولى.
قوله: [(وتقليم الأظفار)].
تقليم الأظافر مأخوذ من القلم وهو القطع، وليس هناك شيء يدل على الترتيب في تقليم الأظفار، لأنه لم يرد في ذلك شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض الفقهاء يقولون: بأنها تقلم ليس على سبيل الترتيب، وإنما على سبيل التفاوت، يعني: يقلم أصبعاً ويترك التي بجانبها، ثم يقلم الأصبع التي تليها، ويرتبونها بحروف، وذلك بأن تكون اليمنى بترتيب لفظ: (خوابس) أي: الخنصر ثم الوسطى، ثم الإبهام، ثم يرجع إلى البنصر ثم السبابة، واليسرى بلفظ: (أوخسب) يبدأ بالإبهام، ثم الوسطى، ثم الخنصر، ثم يرجع إلى السبابة ويصير بعد ذلك إلى البنصر.
ترتيب يمناها بلفظ خوابس وترتيب يسراها بلفظ أوخسب هذا قول لبعض الفقهاء؛ لكن لم يأت فيه حكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحصل التقليم كيفما اتفق.
وقوله: [(وقص الشارب)].
أتى هنا بلفظ القص، والقص هو الجز، أي: أنه يؤخذ بعضه ويترك بعضه، هذا هو القص، وهو بمعنى الجز مثلما يجز النبات، بمعنى: أنه يؤخذ منه ويترك.(471/37)
تراجم رجال إسناد حديث (الفطرة خمس أو خمس من الفطرة)
قوله: [قال: حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا سفيان].
سفيان هو ابن عيينة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد].
سعيد بن المسيب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق فرضي الله عنه وأرضاه.
[يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم].
يبلغ به هي بمعنى: سمعت، أو بمعنى: قال؛ لأن هذه عبارة بمعنى الرفع، والذي أتى بها لا يجزم باللفظ الذي قاله، فيأتي بكلمة يصلح فيها كل لفظ فيه رفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فلعل سبب الإتيان بمثل هذه العبارة هو عدم الجزم بالصيغة التي قالها، هل قال: سمعت، أو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.(471/38)
حكم الختان والاستحداد وحلق العنفقة والشارب
والمبادرة في الختان في حال الصغر لا شك أنها الأولى، ولكنهم يقولون: يجب بالبلوغ، لأنه مناط التكليف، والإنسان المكلف لابد له من الطهارة، وهذا به حصول الطهارة، وأما قبل ذلك فهو غير مكلف، لكن لا يصلح أن يؤخر عن الصغر.
وبالنسبة للاستحداد فليس خاصاً بشعر القبل دون الدبر، بل الذي يبدو أنه يحلق كله.
والعنفقة من اللحية، فلا يجوز للإنسان أن يتعرض لها؛ لأنها من اللحية، والعنفقة هي الشعر الذي تحت الشفة السفلى، وهي من اللحية، فحكمها حكم اللحية، ولا يجوز التعرض لها.
وحلق جوانب الشارب وإبقاء الوسط لا يصلح، وإنما يقص كله، فلا يترك شيء منه ويحلق شيء.(471/39)
شرح حديث (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن أبي بكر بن نافع عن أبيه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحى)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحى).
وإحفاؤها هو الأخذ منها أو قصها، ومنهم من يقول: إنه المبالغة في إزالتها؛ لأنه مأخوذ من الإحفاء، يقال: أحفى في الشيء إذا بالغ فيه، وأحفى في المسألة إذا بالغ فيها.
والحاصل أنه يزال، ولكن الحلق بالموسى بحيث يذهب كله لا أعرف شيئاً أو لفظاً يدل عليه.
وإعفاء اللحى هو إبقاؤها وعدم التعرض لها، وأصل الإعفاء مأخوذ من كثرة الشيء وبقائه، ومنه قوله: {حَتَّى عَفَوا} [الأعراف:95].
، يعني: حتى كثروا.(471/40)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحى)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بكر بن نافع].
أبو بكر بن نافع العدوي صدوق أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي في مسند مالك.
[عن أبيه].
أبوه نافع مولى ابن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر].
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(471/41)
شرح حديث (وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق العانة وتقليم الأظفار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا صدقة الدقيقي حدثنا أبو عمران الجوني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق العانة وتقليم الأظفار وقص الشارب ونتف الإبط أربعين يوماً مرة).
قال أبو داود: رواه جعفر بن سليمان عن أبي عمران عن أنس رضي الله عنه لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (وقت لنا) وهذا أصح].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، في بيان الوقت الذي لا يزاد عليه ولا يتجاوز دون أن تؤخذ هذه الأشياء التي هي حلق العانة وتقليم الأظفار، وقص الشارب ونتف الإبط.
وقوله: [(وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق العانة، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط أربعين يوماً مرة)].
يعني: وقت لهذه الأشياء أن تزال كل أربعين يوماً مرة، أي: أنه يحصل التقصير، ويحصل الحلق، ويحصل أخذ الشارب مرة في هذه المدة، ولا يعني هذا أنها لا تؤخذ قبل ذلك، بل يمكن أن تؤخذ قبل ذلك، ولو لم تبلغ الأربعين، وإنما المقصود بالتوقيت أنه لا يتجاوز الأربعين.
وفي لفظ: (وُقت لنا) بلفظ المبني للمجهول، ومعلوم أن الصحابي إذا قال: (وُقت لنا)، فالمقصود أن الذي وقت هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا مثل قول الصحابي: أمرنا بكذا، ونهينا عن كذا، وهكذا قوله: وقت لنا، وكله بمعنى واحد له حكم الرفع.
وقد جاء هذا الحديث من طريقين: طريق فيها إسناد الحديث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهي الأولى، والطريق الثانية هي التي أشار إليها أبو داود، وهي قوله: وقت لنا، وكلها بمعنى واحد؛ لأن الموقت هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو من جنس: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا، وغيرها من الصيغ التي لها حكم الرفع.
ولا ينبغي للإنسان أن يتجاوز الأربعين؛ لأن هذا فيه كثرة الشعر الذي يطلب إزالته ووفرته، ويحصل سوء المنظر.(471/42)
تراجم رجال إسناد حديث (وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق العانة وتقليم الأظفار)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا صدقة الدقيقي].
صدقة بن موسى الدقيقي صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي.
[حدثنا أبو عمران الجوني].
أبو عمران الجوني عبد الملك بن حبيب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد السبعة المعرفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد من الرباعيات التي هي من أعلى الأسانيد عند أبي داود.
[قال أبو داود: رواه جعفر بن سليمان عن أبي عمران عن أنس لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وُقِّت لنا) وهذا أصح].
يعني: أنه لم يصرح بالرفع، لكن قوله: (وقت لنا) يعرف أن الموقت هو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من جنس: أمرنا بكذا، ونهينا عن كذا، فله حكم الرفع، وليس مرفوعاً تصريحاً، ولكنه مرفوع حكماً.
وجعفر بن سليمان صدوق أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.(471/43)
حكم تحديد يوم في الشهر أو الأسبوع للإتيان بسنن الفطرة
ومن حدد يوماً معيناً في الشهر أو في الأسبوع لتعاهد هذه الأشياء فالذي يبدو أنه لا بأس، فإذا حدد الإنسان وقتاً يتعاهد هذه الأشياء بحيث يكون عادة له فلا بأس بذلك، لكن لا يقال: إنه سنة، وإنما هو تنظيم لنفسه، وتكريم لنفسه.(471/44)
شرح حديث جابر (كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن نفيل حدثنا زهير قال: قرأت على عبد الملك بن أبي سليمان وقرأه عبد الملك على أبي الزبير ورواه أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: (كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة).
قال أبو داود: الاستحداد حلق العانة].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله قال: (كنا نعفي السبال إلا في حج وعمرة) والسبال هو الشارب، وهذا الحديث منكر؛ لأنه مخالف لما ثبت في الأحاديث الصحيحة من أن الشارب يحفى ويجز، وأنه وقت للإنسان مدة أربعين بحيث يأتي بهذه الأشياء المطلوبة منه، وهذا الحديث يعارضه، ولكنه غير صحيح.
وهذا الإسناد الذي ذكره أبو داود هنا صيغته ولفظه يختلف عن الصيغ التي سبق أن مرت؛ لأنه كله حكاية من شيخ شيخ أبي داود: قرأته وقرأه فلان على فلان، وفلان رواه عن فلان، ومعلوم أن أبا الزبير المكي مدلس، وهذه العبارة التي روى بها لا تدل على السماع، وإنما فيها الإخبار بالرواية، والرواية يدخل فيها كونه يقول: عن فلان، أو يقول: قال فلان، والحديث من حيث الإسناد فيه ما فيه، ومن حيث المتن أيضاً هو منكر؛ لأنه مخالف لما ثبت في الأحاديث الصحيحة الدالة على أخذ الشارب وعدم تركه، وهذا الحديث فيه تركه إلا في حج أو عمرة، والإنسان قد لا يحج ولا يعتمر مدة طويلة فإذا تركه سيكون من أكره المناظر، وأشوه ما يكون في المنظر، فالحديث غير صحيح لا من حيث الإسناد، ولا من حيث المتن.(471/45)
تراجم رجال إسناد حديث حديث جابر (كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة)
قوله: [حدثنا ابن نفيل].
عبد الله بن محمد بن نفيل النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا زهير].
زهير بن معاوية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: قرأت على عبد الملك بن أبي سليمان].
عبد الملك بن أبي سليمان صدوق له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ورواه أبو الزبير عن جابر].
أبو الزبير هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث فيه نكارة في متنه من جهة إعفاء الشارب وعدم أخذه إلا في حج أو عمرة، يعني: أنهم يتركونه إلا في حج أو عمرة.
والسند ليس فيه تصريح بالتحديث، وإنما هو محتمل لعدة صيغ؛ لأن هذا الذي ورد من الألفاظ المجملة التي تدخل تحتها عدة صيغ، فلا يدرى هو قال: قال، أو قال: سمعت، أو قال: عن جابر، فكل هذه الألفاظ تدخل تحت كلمة (رواه).(471/46)
شرح سنن أبي داود [472]
الإسلام دين الفطرة، ومن الفطرة خصال ينبغي على المسلم أداؤها، ومن تلك الخصال: إعفاء اللحية وقص الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وتقليم الأظافر، وإعفاء اللحية جاء الأمر به من الرسول صلى الله عليه وسلم، كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يخضبها، فعلى المسلم أن يكون مقتدياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في جميع أموره.(472/1)
باب في نتف الشيب(472/2)
شرح حديث (لا تنتفوا الشيب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في نتف الشيب.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى ح وحدثنا مسدد قال: حدثنا سفيان المعنى عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنتفوا الشيب ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نوراً يوم القيامة) وقال في حديث يحيى: (إلا كتب الله له بها حسنة، وحط عنه بها خطيئة)].
أورد أبو داود هذه الترجمة في نتف الشيب، يعني: أنه لا ينتف بل يترك.
ونتفه يكون عندما يبدأ يخالط السواد، فتؤخذ الشعرة البيضاء فتنتف حتى يبقى أسود ليس معه أبيض، وهذا يكون عند بدايته، رغبة في إبقاء الشعر أسود، وأنه ليس فيه شيب، وليس فيه بياض، فالنتف يكون في مثل هذه الحالات من أجل أن يبقى الشعر الأسود ليس معه بياض، وليس معه شيب.
وأورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنتفوا الشيب، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نوراً يوم القيامة)، وفي حديث يحيى: (إلا كتب الله له بها حسنة).
فقوله: (لا تنتفوا الشيب) بين السبب في ذلك فقال: (ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نوراً يوم القيامة) وهذا لفظ أحد الرواة، واللفظ الثاني: (إلا كتب الله له بها حسنة، وحط عنه بها خطيئة)، فهذا يدل على منع أو تحريم نتف الشيب، وأن الإنسان يبقي شعره ويتركه ولا يتعرض له.(472/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تنتفوا الشيب)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى].
مسدد مر ذكره ويحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا مسدد قال: حدثنا سفيان المعنى عن ابن عجلان].
سفيان بن عينية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وابن عجلان هو محمد بن عجلان المدني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده].
عمرو بن شعيب هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو صدوق أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
وأبوه هو شعيب بن محمد وهو صدوق أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة والأدب المفرد وأصحاب السنن، وهو يروي عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد صح سماعه منه، وليست روايته عن أبيه محمد الذي هو جد عمرو، فإنه يكون بذلك مرسلاً، وغير متصل.
ولكن شعيب بن محمد روى عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمرو بن العاص صحابي ابن صحابي، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(472/4)
صبغ الشيب لا يخرجه عن كونه نوراً
ولا يشترط لكون الشيبة نوراً ألا يصبغها بحمرة أو بحناء، وإنما المقصود أنه قد شاب، والإنسان إذا غير شيبه بما يجوز التغيير به لا يخرج عن كونه قد شاب، فالشيب موجود، ولكنه غيَّر لونه مع بقائه، فتغييره بالحناء والكتم لا يعني أنه لم يحصل؛ لأنه قد وجد، وإنما المحذور هو نتفه، حتى لا يكون له وجود.
والأصل أن الإنسان لا يتعرض لشعره، سواء حصل التغير والشيب بمرض أو بغير مرض.(472/5)
باب في الخضاب(472/6)
شرح حديث (إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الخضاب.
حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن أبي سلمة وسليمان بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في الخضاب.
والخضاب: هو تغيير الشيب بغير السواد، فالسواد لا يجوز، ويجوز بغيره سواء كان حمرة أو صفرة أو كدرة، -لون بين السواد والحمرة، أو بين السواد والصفرة- المهم أن يكون الشعر الظاهر غير أسود على أي صفة كان، سواء كانت صبغته حمرة أو صفرة أو كدرة، وتكون الكدرة بالكتم وهي بين السواد والحمرة؛ لأنه ليس أحمر خالصاً، ولا أسود خالصاً، وإنما هو بينهما.
فالحاصل: أن الخضاب جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه بغير السواد، كما سيأتي في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم)، أي: لا يصبغون شيبهم وشعرهم الأبيض، سواء كان ذلك للرأس أو للحية.
وقوله: (فخالفوهم)، يعني: فاصبغوا ولا تكونوا مثلهم.(472/7)
تراجم رجال إسناد حديث (إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن أبي سلمة].
مسدد وسفيان والزهري مر ذكرهم.
وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ثقة، وأحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثالثة في السابع منهم.
[وسليمان بن يسار].
سليمان بن يسار ثقة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة قد مر ذكره.(472/8)
حكم تغيير الشيب
وتغيير الشيب قال بعض العلماء باستحبابه، وبعضهم قال بوجوبه، وقد جاء عن بعض الصحابة أنه كان يصبغ، ومنهم من لا يصبغ، ولكن السنة جاءت بالصبغ، ولعل الذين لم يصبغوا لم يبلغهم الحديث، أو اعتبروا ذلك ليس على سبيل الوجوب، أو أن بعضهم لم يحصل منه؛ لأنه لم يوجد الشيب الخالص الذي ليس معه سواد، وهذا يمكن أن يكون للإنسان، والشيب يغير إذا كان خالصاً، وإذا كان غير خالص فيمكنه ألا يغير حتى يكون خالصاً، فيمكن أن يكون بعضهم كان كذلك.(472/9)
شرح حديث (غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح وأحمد بن سعيد الهمداني قالا: حدثنا ابن وهب قال: أخبرني ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (أتي بـ أبي قحافة رضي الله عنه يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد)].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (أتي بـ أبي قحافة -وهو والد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم- ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً).
والثغامة: نبت أبيض يشبه به الشيب.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (غيروا هذا وجنبوه السواد).
يعني: غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد، فدل هذا على تغيير الشيب، لكن بغير السواد، وذلك أن السواد فيه تدليس، وفيه إيهام بأن الإنسان شاب وهو ليس بشاب.(472/10)
تراجم رجال إسناد حديث (غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد)
قوله: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح].
أحمد بن عمرو بن السرح ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وأحمد بن سعيد الهمداني].
أحمد بن سعيد الهمداني صدوق، أخرج له أبو داود.
[قالا: حدثنا ابن وهب].
ابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: أخبرني ابن جريج].
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله].
أبو الزبير وجابر قد مر ذكرهما.
وأبو قحافة هو والد أبي بكر رضي الله عنه، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أكرم الله أبا بكر بأن أسلم أبواه وأولاده، فظفر بحصول الإسلام لأصوله وفروعه.
وأبو قحافة اسمه عثمان، وأبو بكر اسمه عبد الله، وقد اشتهر رضي الله عنه بكنيته، فلا يكاد يعرف باسمه، وأبوه كذلك اشتهر بكنيته، فلا يكاد يعرف باسمه، وأبو بكر بن أبي قحافة هو عبد الله بن عثمان التيمي رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
وأبو بكر كنية له، وليس له ولد اسمه بكر، وكذلك عمر رضي الله عنه كنيته أبو حفص وليس له ولد اسمه حفص، فأحياناً تحصل الكنى وتشتهر دون أن يكون هناك ولد يسمى به، وقد يكون سبب ذلك أنه يكنى بكنية وهو صغير، ثم لا يسمي أحداً من أولاده بهذا الاسم الذي تكنى به، واشتهر به، فتبقى تلك الكنية التي نشأت معه من حال صغره، وتستمر معه في حال كبره، وإن لم يكن له ولد بهذا الاسم.(472/11)
شرح حديث (إن أحسن ما غير به هذا الشيب الحناء والكتم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن سعيد الجريري عن عبد الله بن بريدة عن أبي الأسود الديلي عن أبي ذر رضي الله عنه: أنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إن أحسن ما غير به هذا الشيب الحناء والكتم)].
أورد أبو داود حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحسن ما غير به هذا الشيب الحناء والكتم)، والحناء معروف، والكتم: هو نبت لونه بين الحمرة والسواد.(472/12)
تراجم رجال إسناد حديث (إن أحسن ما غير به هذا الشيب الحناء والكتم)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد الجريري].
سعيد بن إياس الجريري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن بريدة].
عبد الله بن بريدة بن الحصيب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الأسود الديلي].
أبو الأسود الديلي هو ظالم بن عمرو، وهو ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي ذر].
أبو ذر هو جندب بن جنادة رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(472/13)
حكم استخدام الأصباغ الحديثة في تغيير الشيب
واستخدام الأصباغ الحديثة في تغيير الشيب غير الحناء والكتم ليس به بأس إذا لم تكن سواداً، ولا تغطي الشعر، وإنما تغير لونه؛ لأن التغطية إذا حصلت لا يصل إليه الماء، ولكن إذا كانت لا تغطيه وإنما تغير لونه فلا بأس بها.(472/14)
حكم استخدام الكتم وحده
واستخدام الكتم وحده قد يظهر من بعيد كأنه أسود خالص، ولكن الذي يظهر أنه لا بأس به، فيستخدم الحناء وحده أو الكتم وحده، أو يجمع بينهما، كل ذلك سائغ.(472/15)
شرح حديث أبي رمثة (انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو ذو وفرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا عبيد الله -يعني: ابن إياد - قال: حدثنا إياد عن أبي رمثة رضي الله عنه: قال: (انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو ذو وفرة بها ردع حناء، وعليه بردان أخضران)].
أورد أبو داود حديث أبي رمثة رضي الله عنه قال: (انطلقت مع أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا هو ذو وفرة بها ردع حناء -يعني: بها صبغ بالحناء- وعليه بردان أخضران) يعني: هذا وصف للباسه، ووصف لشعره، وأنه كان قد صبغ شعره بالحناء.
وقوله: [(فإذا هو ذو وفرة بها ردع حناء)].
يحتمل أن يكون المقصود به اللحية، ويحتمل أن يكون المقصود به الرأس.(472/16)
تراجم رجال إسناد حديث أبي رمثة (انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو ذو وفرة)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبيد الله يعني: ابن إياد].
عبيد الله بن إياد صدوق أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[قال: حدثنا إياد].
إياد بن لقيط ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبي رمثة].
أبو رمثة رضي الله عنه صحابي، وحديثه أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.(472/17)
شرح حديث أبي رمثة (انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو ذو وفرة) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء قال: حدثنا ابن إدريس قال: سمعت ابن أبجر عن إياد بن لقيط عن أبي رمثة رضي الله عنه في هذا الخبر قال: (فقال له أبي: أرني هذا الذي بظهرك فإني رجل طبيب قال: الله الطبيب، بل أنت رجل رفيق، طبيبها الذي خلقها)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وفيها أنه قال: (أرني هذا الذي في ظهرك؛ فإني رجل طبيب.
فقال: الله الطبيب)، يعني: أن الله تعالى هو الشافي، وهو المعافي، وهو الذي يشفي الأمراض.
ثم قال له: (بل أنت رجل رفيق)، ولا أدري ما المقصود بكلمة (رفيق)، هل هو نسبة إلى الرفق، أو إلى المرافقة أو غير ذلك؟ ثم قال له: (طبيبها الذي خلقها) يعني: أن الله تعالى هو الذي بيده شفاء كل مرض؛ لأنه هو خالق الداء والدواء، وكل شيء هو من خلق الله عز وجل، ومن إيجاده، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
وقوله: (الله الطبيب) الذي يبدو أن هذا الاسم مما يطلق على الله عز وجل، لكن لا يقال: إن من أسماء الله الطبيب، كما لا يقال: من أسماء الله المسعر.(472/18)
تراجم رجال إسناد حديث أبي رمثة (انطلقت مع أبي نحو النبي) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن إدريس].
ابن إدريس هو عبد الله بن إدريس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت ابن أبجر].
ابن أبجر هو عبد الملك بن سعيد بن حيان وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن إياد بن لقيط عن أبي رمثة].
إياد بن لقيط وأبو رمثة قد مر ذكرهما.(472/19)
شرح حديث (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد لطخ لحيته بالحناء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن إياد بن لقيط عن أبي رمثة رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأبي فقال لرجل أو لأبي: من هذا؟ قال: ابني، قال: لا تجن عليه؛ وكان قد لطخ لحيته بالحناء)].
محل الشاهد هو قوله: وكان قد لطخ لحيته بالحناء، وهنا قال: (لحيته)، وهناك قال: (وفرة)، وهذا يبين أن المقصود بالوفرة: اللحية، وقد يكون المقصود الرأس، وأن يكون حصل هذا وهذا، وعبر في بعض الروايات بالوفرة عن الرأس، وعبر في بعضها عن اللحية، وقد تكون الصيغتان واللفظان يرجعان إلى اللحية.
قوله: (لا تجن عليه) قيل: إن المراد بذلك أنك لا تذنب ذنباً يلحق ابنك مذمته، أو يؤخذ به، وهذا يعني أنهم كانوا يؤاخذون الوالد بالولد، أو الولد بالوالد، فيكون الإنسان إذا أحسن إلى نفسه فقد أحسن إلى غيره، وإذا حصل منه ذنب فقد ينتقل الضرر منه إلى غيره.(472/20)
تراجم رجال إسناد حديث (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد لطخ لحيته بالحناء)
قوله: [حدثنا ابن بشار].
ابن بشار هو محمد بن بشار الملقب بندار البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرحمن].
عبد الرحمن بن مهدي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إياد بن لقيط عن أبي رمثة].
إياد بن لقيط وأبو رمثة قد مر ذكرهما.(472/21)
شرح حديث أنس (أنه سئل عن خضاب النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه لم يخضب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أنه سئل عن خضاب النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه لم يخضب، ولكن قد خضب أبو بكر وعمر رضي الله عنهما].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سئل عن خضاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: إنه لم يخضب، ولكن خضب أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما.
وهذا يخالف ما تقدم من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم خضب، وأنه كان عليه الحناء في لحيته أو وفرته، وقيل في الجمع بينهما: إن أنساً نافٍ وغيره مثبت، والمثبت مقدم على النافي.
وقيل: إنه يحتمل أنه لم يحصل منه أن يشيب شعره كله حتى يحتاج إلى أن يصبغ.
وقوله: (وأبو بكر وعمر كانا يصبغان) يعني: أنهما احتاجا إلى ذلك؛ لكونه حصل البياض في شعرهما بكثرة، أو أن شعرهما صار أبيض فحصل منهما التغيير.
الحاصل: أن هذا فيه نفي، والذي تقدم فيه إثبات، والإثبات مقدم على النفي، ويحتمل أنه لم يحصل منه، أو أنه لم يكن يبلغ إلى حد أن شعره كان أبيض يحتاج إلى أن يغيره، كما احتاج أبو بكر وعمر إلى تغييره؛ لأن شعرهما تغير إلى البياض، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما شاب منه إلا شعرات قليلة، وأكثر شعره كان أسود والذي ابيض منه قليل، فلعل أنساً رضي الله عنه لم يطلع على ذلك الشيب لقلته، وغيره اطلع عليه.(472/22)
تراجم رجال إسناد حديث أنس (أنه سئل عن خضاب النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه لم يخضب)
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد].
محمد بن عبيد بن حساب الغبري ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد].
حماد هو ابن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثابت عن أنس].
ثابت بن أسلم البناني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وأنس رضي الله عنه قد مر ذكره.
وهذا السند من الرباعيات، وهي من أعلى الأسانيد عند أبي داود رحمه الله.(472/23)
ما جاء في خضاب الصفرة(472/24)
شرح حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس النعال السبتية ويصفر لحيته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في خضاب الصفرة.
حدثنا عبد الرحيم بن مطرف أبو سفيان قال: حدثنا عمرو بن محمد حدثنا ابن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس النعال السبتية، ويصفر لحيته بالورس والزعفران)، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يفعل ذلك].
أورد أبو داود باب ما جاء في خضاب الصفرة، يعني: الخضاب بشيء لونه أصفر، ومعلوم أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد) يدل على التغيير بأي لون غير السواد، لقوله: (غيروا هذا وجنبوه السواد) وهذا معناه: أنه يغير بكل شيء غير السواد، فالصفرة والحمرة وغيرها يمكن أن يغير بها، ولكن الممنوع منه هو اللون الأسود الذي يشعر بأن صاحبه لا يزال شاباً.
وأورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس النعال السبتية) والسبتية: هي النعال من الجلد المدبوغ الذي أزيل شعره.
قال: (ويصفر لحيته بالورس والزعفران) يعني: يغيرها، وقد مر أن الزعفران لا يستعمله الإنسان وأنه قد جاء النهي عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مخالف لما تقدم من الأحاديث، ولا أدري ما وجه الجمع بينها، ويبعد كونه حصل منه؛ لأن الشيب إنما كان في آخر أيامه وليس في أول الأمر، فلا أدري ما وجه ما جاء في هذا الحديث من جهة تغييره بالزعفران، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التزعفر، وأن الإنسان لا يتطيب بزعفران، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الطيب ويرغب فيه، فالمخالفة بينه وبين ما تقدم واضحة، ولا أدري ما وجه الجمع بين هذا الحديث وبين ما تقدم من الأحاديث المانعة.(472/25)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس النعال السبتية ويصفر لحيته)
قوله: [حدثنا عبد الرحيم بن مطرف أبو سفيان].
عبد الرحيم بن مطرف أبو سفيان ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[قال: حدثنا عمرو بن محمد].
عمرو بن محمد العنقزي ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا ابن أبي رواد].
عبد العزيز بن أبي رواد صدوق ربما وهم، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن نافع عن ابن عمر].
نافع وابن عمر قد مر ذكرهما.(472/26)
حكم استعمال الرجل للزعفران
ولا يمكن أن يقال: إن النهي إنما هو عن الزعفران وحده، فإذا جمع بين الزعفران والورس كما هنا زال النهي؛ لأن الزعفران لا يجوز استعماله لا وحده ولا مع غيره.
يقول صاحب العون: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التزعفر للرجال، وهو دليل لـ أبي حنيفة والشافعي ومن تبعهما في تحريم استعمال الرجل الزعفران في ثوبه وبدنه، ولهما أحاديث أخر صحيحة، ومذهب المالكية أن الممنوع إنما هو استعماله في البدن، دون الثوب، ودليلهم حديث أبي موسى المتقدم؛ فإن مفهومه أن ماعدا الجسد لا يتناوله الوعيد.
فإن قلت: قد ثبت في الصحيحين من حديث أنس أن عبد الرحمن بن عوف جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه أثر صفرة، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه تزوج امرأة، وفي روية: (عليه ردع زعفران)، فهذا الحديث يدل على جواز التزعفر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكر على عبد الرحمن بن عوف، فكيف التوفيق؟ قلت: أشار البخاري إلى الجمع بأن حديث عبد الرحمن للمتزوج وأحاديث النهي لغيره.
وأيضاً قد يكون مما علق به من امرأته؛ لأن النساء تستعمل هذا الطيب الذي هو الزعفران؛ لأنه ممنوع منه الرجال دون النساء، فيمكن أن يكون علق به شيء من امرأته، ولم يكن متطيباً به.
هذا ما ذكره الحافظ ورجحه النووي، وأما البخاري فإنه ترجم عليه بقوله: (باب الصفرة للمتزوج).(472/27)
شرح حديث (مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل قد خضب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا محمد بن طلحة عن حميد بن وهب عن ابن طاوس عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل قد خضب بالحناء فقال: ما أحسن هذا! قال: فمر آخر قد خضب بالحناء والكتم، فقال: هذا أحسن من هذا، قال: فمر آخر قد خضب بالصفرة فقال: هذا أحسن من هذا كله)].
أورد أبو داود رحمة الله عليه حديث ابن عباس: (مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل قد خضب بالحناء فقال: ما أحسن هذا! ثم مر آخر قد خضب بالحناء والكتم فقال: هذا أحسن من هذا، ثم مر ثالث قد خضب بالصفرة فقال: هذا أحسن من هذا كله)، وهذا فيه ترتيب هذه الألوان؛ لأن أحسن هذه الألوان الثلاثة: الصفرة، ثم الكتم، ثم يليه الحناء؛ ولكن الحديث ضعيف؛ لأن في إسناده رجلاً مجهولاً.(472/28)
تراجم رجال إسناد حديث (مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل قد خضب)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا إسحاق بن منصور].
إسحاق بن منصور السلولي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهناك إسحاق بن منصور في طبقة متأخرة، وهذا في طبقة متقدمة، والذي في الطبقة المتقدمة هو إسحاق بن منصور السلولي، وأما ذاك فهو إسحاق بن منصور الكوسج، فهما متفقان في الأسماء، وأسماء الآباء، ولكنهما مختلفان في الطبقات فـ السلولي متقدم على الكوسج.
[حدثنا محمد بن طلحة].
محمد بن طلحة صدوق له أوهام، أخرج أصحاب الكتب الستة إلا النسائي فأخرج له في مسند علي.
[عن حميد بن وهب].
حميد بن وهب لين الحديث، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن ابن طاوس عن طاوس عن ابن عباس].
عبد الله بن طاوس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأبوه طاوس بن كيسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما صحابي وقد مر ذكره.
والحديث آفته وعلته حميد بن وهب.(472/29)
شرح حديث (يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في خضاب السواد.
حدثنا أبو توبة حدثنا عبيد الله عن عبد الكريم الجزري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: باب في خضاب بالسواد، والخضاب سبق أن ذكرنا أنه يكون بغير السواد، وقد مر الحديث في قصة أبي قحافة، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (غيروا هذا بشيء وجنبوه السواد)، وهذا فيه الأمر بتجنب السواد عند الخضاب.
أورد أبو داود هنا حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يكون أناس في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة)، وهذا فيه ترهيب من الخضاب بالسواد، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن هذا سيكون، وذم الذين يكونون كذلك، وذكر أنهم متوعدون بهذا الوعيد، وهذا دليل على تحريم الخضاب بالسواد.
وقوله: (كحواصل الحمام) حواصل الحمام سود، يعني: أن شكل الذي يفعلونه في شعرهم كشأن السواد الذي يكون على حواصلها، والحواصل هي مكان اجتماع الطعام فيها، فإنه في الغالب يكون أسود.
وقوله: (لا يريحون رائحة الجنة) يعني: لا يجدون ريحها.(472/30)
تراجم رجال إسناد حديث (يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد)
قوله: [حدثنا أبو توبة].
أبو توبة الربيع بن نافع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا عبيد الله].
عبيد الله هو ابن عمرو الرقي ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الكريم الجزري].
عبد الكريم الجزري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(472/31)
حكم الخضاب بالسواد
ذكر بعض أهل العلم حالات يستثنى فيها تحريم الخضاب بالسواد، منها: في حال الجهاد؛ لأن في ذلك إظهار القوة للأعداء، ويكون من جملة الخدعة في الحرب، فمن غير شيبه بالسواد يظهر أمام الكفار بمظهر القوة، ومظهر الجلد، فيكون في ذلك مصلحة، وهذا من قبيل المكيدة في الحرب، ومعلوم أن اتخاذ ما يغيظ الأعداء ويرهبهم بإظهار القوة والجلد؛ لا بأس به، ولا مانع منه، وقد جاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما قدموا مكة في عمرة القضية في السنة السابعة، كان الكفار قد جلسوا أمام الكعبة من جهة الحجر، وقالوا: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه إذا كانوا بين الركنين أن يروحوا على أنفسهم ويمشون، وفي غير هذا الموضع حيث لا تكون الكعبة حاجزة بينهم وبين الكفار يرملون، فيظهرون الجلد، ويظهرون أنهم بخلاف الذي قاله الكفار من كونهم قد وهنتهم حمى يثرب، وهذا الذي عمله الرسول صلى الله عليه وسلم من أمرهم بأن يسرعوا فيه خدعة، وفيه إغاظة للعدو، وهكذا من غير الشيب بالسواد من أجل إغاظة العدو، ومن أجل النكاية به، ومن باب الخدعة في الحرب، فلا بأس به.
وكذلك يستدل بما جاء من جواز الخيلاء في الحرب، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه مشية يبغضها الله، إلا في مثل هذا).
أجاب بعضهم عن هذا الحديث: بأنه في أشراط الساعة، فلا يلزم منه التحريم، لاسيما وأن الخضاب بالسواد حصل من بعض الصحابة، كما ذكره ابن الجوزي،
و
الجواب
لعله لم يبلغهم الحديث، وكونه من أشراط الساعة ومما يكون في آخر الزمان لا يدل على كونه سائغاً، ولكنه إخبار من الصادق المصدوق عن أمر سيكون، ولا يعني الإخبار بالشيء أنه سيكون أنه سائغ؛ لأن نفس الحديث جاء فيه الوعيد.(472/32)
باب ما جاء في الانتفاع بالعاج(472/33)
شرح حديث (يا ثوبان! اشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الانتفاع بالعاج.
حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن محمد بن جحادة عن حميد الشامي عن سليمان المنبهي عن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر كان آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة، وأول من يدخل عليها إذا قدم فاطمة رضي الله عنها، فقدم من غزاة له وقد علقت مسحاً أو ستراً على بابها، وحلت الحسن والحسين رضي الله عنهما قلبين من فضة، فقدم فلم يدخل، فظنت أن ما منعه أن يدخل ما رأى، فهتكت الستر وفككت القلبين عن الصبيين، وقطعته بينهما، فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما يبكيان، فأخذه منهما وقال: يا ثوبان! اذهب بهذا إلى آل فلان -أهل بيت بالمدينة- إن هؤلاء أهل بيتي أكره أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، يا ثوبان! اشتر لـ فاطمة قلادة من عصب، وسوارين من عاج)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب ما جاء في الانتفاع بالعاج، والعاج: قيل إن المراد به ما يتخذ من عظم الفيل، أو من سمك يكون في البحر، يتخذ للتزين، هذا هو المقصود، وفيما يتعلق بالسمك، وما يؤخذ منه ليس فيه إشكال، وإنما الإشكال والخلاف في الذي يكون من الفيل، ففي ذلك خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال بأنه سائغ، وقال: إن العظم ليس كاللحم حتى يكون ممنوعاً منه، وإنه لا تحل فيه الحياة، كما تحل في اللحم، ومنهم من قال: إن العظم كاللحم وإنه لا يستعمل شيء من الحيوان المحرم الذي لا يحل أكله؛ لأن مذكاه كميتته، ولا فرق بين كونه مذكى أو كونه مات حتف أنفه.
فاتخاذ ذلك من السمك كما قال بعض أهل العلم: لا إشكال فيه، واتخاذه من الحيوان الذي هو الفيل فيه إشكال وخلاف بين أهل العلم.
وقد أورد أبو داود حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن يسافر يكون آخر من يفارقه ابنته فاطمة رضي الله عنها، وإذا قدم تكون أول من يلقاه، وأنه جاء إليها وقد علقت ستراً على الباب، وجعلت قلبين من فضة على الحسن والحسين، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم رجع؛ فظنت أنه فعل ذلك من أجل الستر، فهتكته، وقيل: إن هذا الستر لعله كان زينة، أو أنه كان فيه صور وتماثيل.
وأما الستر إذا كان لحاجة على الباب وعلى الفرجة فإن ذلك لا بأس به، ولا مانع منه، فهتكت الستر وقطعت القلبين، وجعلته بأيديهما، فذهبا وهما يبكيان لكونه قطع ذلك الذي كان لهما، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخذه منهما وأعطاه ثوبان وقال: أعطه لجماعة من الناس، وقال: إنه لا يحل أن يرى أهل بيته أو أقربائه عجلت لهم طبيباتهم في حياتهم الدنيا، وأمر ثوبان بأن يشتري لـ فاطمة فقال (اشتر لـ فاطمة قلادة من عصب، وسوارين من عاج) ومحل الشاهد هو قوله: (سوارين من عاج)، يعني: أنهما قد عملا من العاج الذي هو إما عظام تكون في بعض السمك -يعني: في ظهرها- أو أنه العظم الذي يكون في الفيل.
وأما العصب فقد قال أبو موسى المديني في المجموع المغيث: العاج: عظم ظهر السلحفاة البحرية، ثم قال عن العصْب: بالتسكين، أو العصَب، يحتمل عندي أن الرواية إنما هي العصَب بفتح الصاد، وهو: أطناب مفاصل الحيوانات.
يعني: العصب الذي يربط المفاصل.
قال: [ثم ذكر لي بعض أهل اليمن أن العصب سن دابة بحرية تسمى فرس فرعون يتخذ منها الخرز، يكون أبيض ويتخذ منها غير الخرز أيضاً كنصاب السكين وغيره.
والقلبان هما: سوران أو عقدان من فضة كانا معلقين عليهما للتجمل.
وقوله: (وقد علقت مسحاً أو ستراً على بابها).
هذا هو الذي هتكته، وهذا التعليق يحتمل أن يكون من أجل الزينة، وأن فيه شيئاً من التزين، أو أنه كان فيه صور تماثيل، فيكون الإنكار من أجله لا من أجل اتخاذ شيء يستر، فإنه يتخذ عندما يكون هناك حاجة إلى وضع شيء على الباب من أجل أن يحجب الرؤية عمن يكون في الداخل، ومن يكون في الخارج، وفي نفس الوقت يدخل معه الهواء الذي لا يكون مع إغلاق الباب.
والحديث ليس بصحيح، بل ضعيف؛ لأن فيه رجلين متكلماً فيهما، والتعليل الذي جاء في الحديث أنه أحب ألا يكون حصل لأهل بيته تعجيل الطيبات في هذه الحياة الدنيا، ولهذا أرسله إلى أهل البيت من أجل أن يستفيدوا منه، وغيرهما بسوارين من عاج هو لأن كونه من عظام السمك غير كونه من الفضة، وهذا أهون من هذا وأخف من هذا.(472/34)
تراجم رجال إسناد حديث (يا ثوبان! اشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الوارث بن سعيد].
عبد الوارث بن سعيد العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن جحادة].
محمد بن جحادة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد الشامي].
حميد الشامي مجهول، أخرج له أبو داود وابن ماجة في التفسير.
[عن سليمان المنبهي].
سليمان المنبهي مجهول، أخرج له أبو داود وابن ماجة في التفسير.
[عن ثوبان].
ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
والحديث فيه مجهولان.(472/35)
الأسئلة(472/36)
حكم القلائد المتخذة من العظام
السؤال
يوجد في الأسواق قلائد من عظام، فما حكم استعمالها؟ وهل يلزم التحري أن تكون من عظام حيوانات مباحة؟
الجواب
إذا كانت من حيوانات مباحة فليس فيها إشكال، أي: أنها إذا كانت من حيوانات مباحة فهي سائغة، وأما إذا لم يعرف حالها فالتورع ألا يقدم على شيء إلا ببينة.(472/37)
حكم التزعفر
السؤال
قال ابن بطال وابن التين: إن النهي عن التزعفر مخصوص بالجسد، ومحمول على الكراهة فما صحة ذلك؟
الجواب
هذا ليس بواضح، والأحاديث التي مرت فيها الوعيد، فلا يصح أن يقال: إنها محمولة على الكراهة.(472/38)
حكم الزعفران للمحرم وغير المحرم
السؤال
مما ينهى عنه المحرم أنه لا يلبس من الثياب شيئاً مسه الورس أو الزعفران، ومفهوم الحديث أنه مباح لغير المحرم فما توجيهكم؟
الجواب
ليس مباحاً؛ لأن الأحاديث التي جاءت عامة وليست خاصة بالحج، ولهذا سبق أن مر أن الراوي قال: (وهم محرمون؟ قال: لا، القوم مقيمون).(472/39)
حكم تغيير الشيب إذا لم يعم اللحية أو الرأس
السؤال
النبي صلى الله عليه وسلم كان يغير الشيب، والشيب ما كان عاماً لجميع لحيته، فهل هذا يدل على استحباب تغيير الشيب ولا يشترط أن يعم جميع اللحية والرأس؟
الجواب
نعم، لا يشترط أن يعم الشيب جميع اللحية، لكن بعض أهل العلم قال: الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يغير شيبه، وإنما كان تغير بعض شعراته من أثر كثرة الطيب الذي كان يجري على لحيته، فمن آثار كثرة تطيبه صلى الله عليه وسلم تغيرت تلك الشعرات القليلة من شعر لحيته صلى الله عليه وسلم.(472/40)
حكم إعلان وفاة الميت
السؤال
بعد البسملة والحمد لله: نحن أئمة مساجد من أهل السنة في حضرموت بالجمهورية اليمنية، اختلفنا اختلافاً كبيراً في إعلان وفاة ميت من أهل البلد في مكبر الصوت عقب الصلاة، وهو إعلان مجرد عن المدح والثناء، ويقال فيه: توفي فلان بن فلان، والصلاة عليه في مسجد كذا في البلدة الفلانية، وهو أمر لم نعهده في غير البلاد الحضرمية، فمن قائل: إنه لا يجوز؛ لأنه من النعي، ومنهم من قال: بل هو جائز لإعلام الناس بالوفاة وقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم وفاة النجاشي وغيره، ومنهم من قال: الإعلان جائز في أهل البلد الذي فيه الميت من باب تجهيزه والصلاة عليه، ولا يجوز في غير بلده، فيشبه أن يكون النعي المذموم، ومنهم من قال: بل يجوز الإعلان ولو خارج بلدته ما دام يمكن الوصول للصلاة عليه، ومنهم من قال: يجوز وإن لم يستطع الوصول إليه، والصلاة عليه، وللعلم يا شيخ! نحن نحب تأليف قلوب الناس، وهم حديثو عهد بسنة لا يحبون الاختلاف، ومسجد يعلن ومسجد لا يعلن، ومنهم من قال: إن الصلاة إذا أعلنت في مسجد لأهل البدع ممن يدعون غير الله، فلا يجوز الإعلان عن الصلاة عندهم، وإذا أعلنت عند أهل السنة فيعلن عنها، فأفتونا مأجورين.
الجواب
الإعلان مطلقاً بأن كل ميت يعلن عنه في المساجد بأنه توفي هذا غير صحيح، ومعلوم أن الجنائز يصلى عليها في مساجد معينة، فالإمام لا يعلن بمكبر الصوت، إنما يخبر الناس بأي وسيلة: أن في المسجد الفلاني جنازة، ولا يحتاج أن يسمى شخصاً، وإنما يقول: في المسجد الفلاني جنازة ويركب سيارته ويذهب يصلي مع الناس؛ لأنه في نفس الوقت، وأولئك أيضاً يكون من عادتهم أن يتأخروا قليلاً، فهذا يبدو أنه لا بأس به؛ لأن فيه تكثيراً للمصلين، وتكثير الشفعاء للميت.
وأما أن يعلن عن كل ميت، وأنه يحتاج الناس إلى أن يسافروا أو يذهبوا من بلد إلى بلد، فهذا ليس له وجه، لكن بالنسبة للبلد يبدو أنه لا بأس به، فكون الإمام يقول: إن المسجد الفلاني فيه جنازة يصلى عليها، وبعد الصلاة يذهبون ويدركون تلك الجنازة ويصلون عليها، هذا يبدو أنه لا بأس به؛ لأنه ليس نعياً، وإنما هو تنبيه إلى المشاركة في تحصيل هذا الأجر، من الصلاة عليه، ومن اتباع جنازته، فالذي يبدو أن مثل هذا لا بأس به، وأما قضية الإعلان عن كل ميت في كل مسجد، أو أنه يحتاج إلى أن يسافر، وتحبس الجنائز من أجل أن يحضر الناس لكل ميت؛ فهذا لا وجه له.(472/41)
حكم العمل في محل يباع فيه أشياء عليها صور
السؤال
رجل يعمل في محل، ويباع في هذا المحل أشياء عليها صور، فما الذي على هذا العامل؟
الجواب
هذه الصور مما ابتلي به الناس، وبعض المعلبات عليها صور، فمثل هذا مما عمت به البلوى، فلا بأس ببيعها.(472/42)
حكم القيام للجنازة
السؤال
ورد حديث فيه الأمر بالقيام للجنازة إذا مرت فما صحته؟
الجواب
هذا الحديث ثابت؛ ولكن فيه خلاف بين أهل العلم فمنهم من قال: إنه منسوخ، ومنهم من قال: إنه باقٍ غير منسوخ، والأحاديث في ذلك صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(472/43)
حكم القيام لقول القائل الصلاة على الميت
السؤال
عندما نسمع في المسجد: "الصلاة على الميت" فهل نقوم عند سماع هذه الكلمة؟
الجواب
أنت تقوم للصلاة على الجنازة، ولا تقوم من أجل أن الميت مر؛ لأن القيام هو من أجل مرور الميت، وأما هذا فمن أجل الصلاة، فقول القائل: الصلاة على الميت، معناه: قوموا للصلاة عليه، وتنبيه إلى أنه يوجد ميت أو أموات، المطلوب أن يصلى عليهم وأن يقوم الناس للصلاة عليهم، فهذا غير القيام الذي جاء في الحديث عند مرور الجنازة، وأنه إذا مرت يقوم الإنسان.(472/44)
كيفية دعاء القنوت قبل الركوع
السؤال
ما هي طريقة دعاء القنوت قبل الركوع في صلاة الوتر، هل يقرأ الفاتحة وسورة ثم يدعو أو بعد أن يقرأ الفاتحة والسورة يكبر ثم يدعو ثم بعده يكبر فيهوي للركوع؟
الجواب
الإنسان إذا قنت قبل الركوع فإنه يقنت بعد القراءة، ثم يكبر للركوع، والقنوت ليس له تكبير.(472/45)
الورع في التجارة
السؤال
أعمل بمكتبة اشترى مني حاج ودفع لي مبلغ مائتي ريال، وعندما رددت له الباقي قال: إني أعطيتك مائة ريال فقط، وصمم على ذلك، فماذا أعمل أنا في المائة الريال، وقد شككت في ذلك؟
الجواب
إذا كنت متحققاً بأنك أخذت منه مائة زائدة، فتصدق بها عنه.(472/46)
حكم إقامة الحد على سرقة الابن من الأب أو العكس
السؤال
إذا سرق الابن من الأب أو العكس فهل يحد؟
الجواب
لا؛ لأن هذا فيه شبهة.
والعكس من باب أولى، فالأب يأخذ من مال ابنه ولا يحتاج إلى سرقة، ولكن الولد يمكن أن يسرق، وأما الأب فيأخذ بدون حاجة إلى سرقة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك).(472/47)
حكم زواج الرجل ببنت من زنى بها
السؤال
لو زنى رجل بامرأة، فهل يجوز له أن يتزوج بنتها؟
الجواب
الذي يبدو أنه يجوز؛ لأن الحرام لا يحرم الحلال.(472/48)
حكم إعطاء العامل أجراً أكثر مما يتقاضاه ليترك العمل
السؤال
إذا عرضت أجراً أكثر لرجل يعمل عند رجل آخر، فهل يدخل ذلك في بيع الرجل على بيع أخيه؟
الجواب
نعم، يدخل فيه؛ لأن كون هذا الإنسان باقياً عند رجل ثم يأتي إنسان ويقول: أنا أعطيك زيادة، فمعنى هذا أنه لن يستقر عامل عند أحد.(472/49)
شرح سنن أبي داود [473]
إن من أسباب اتخاذ الرسول صلى الله عليه وسلم للخاتم أنه أراد أن يكتب إلى بعض الأعاجم، فقيل له: إنهم لا يقرءون كتاباً ولا يفتحونه إلا بخاتم، فاتخذ خاتماً من فضة، ونقش فيه اسمه، واتخاذ الخاتم جائز، فمن فعله فلا بأس ومن تركه فلا بأس، لكن بالنسبة للرجال لا يجوز لهم استعمال الخاتم من الذهب ولا الحديد، ويجوز لهم اتخاذه من الفضة كما بينت ذلك السنة النبوية.(473/1)
ما جاء في اتخاذ الخاتم(473/2)
شرح حديث (أراد رسول الله أن يكتب إلى بعض الأعاجم فقيل له إنهم لا يقرءون كتاباً إلا بخاتم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الخاتم.
باب ما جاء في اتخاذ الخاتم.
حدثنا عبد الرحيم بن مطرف الرؤاسي حدثنا عيسى عن سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (أراد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يكتب إلى بعض الأعاجم، فقيل له: إنهم لا يقرءون كتاباً إلا بخاتم، فاتخذ خاتماً من فضة ونقش فيه: محمد رسول الله)].
أورد أبو داود هذا الكتاب وهو كتاب الخاتم، وقال: [باب ما جاء في اتخاذ الخاتم] والخاتم هو ما يضعه الإنسان في أصبعه مما يجوز له استعماله من الفضة، فلا يجوز استعمال الذهب، ولا يجوز استعمال الحديد، أما الفضة فقد جاءت السنة ببيان جواز استعمالها.
واتخاذ الخاتم الأمر فيه واسع، إن فعله فلا بأس، وإن تركه فلا بأس، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتخذه إلا عندما أراد أن يكتب إلى بعض الأعاجم، فقيل: إنهم لا يقرءون أو لا يأخذون الكتاب إلا إذا ختم عليه بخاتم مرسله، فاتخذ خاتماً من فضة، وكتب عليه: (محمد رسول الله) صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على جواز اتخاذ الخاتم، وكونه هنا اتخذه لحاجة واتخذه لمصلحة يدل على أن الأمر في ذلك واسع، فمن لبس خاتماً فلا حرج، ومن تركه فلا حرج.
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: [(أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى بعض الأعاجم)].
يعني: الذين هم من غير العرب، كالفرس والروم والحبش.
قوله: [(فقيل له: إنهم لا يقرءون كتاباً إلا بخاتم)] أي: لا يقبلون الكتاب إلا إذا كان مختوماً وكان عليه ختم صاحبه الذي أرسله.
قوله: [(فاتخذ خاتماً من فضة، ونقش عليه: محمد رسول الله)] فدل هذا على جواز التختم بالفضة، وأن ذلك سائغ في حق الرجال، وأما النساء فيتختمن بالذهب والفضة وغير ذلك.(473/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أراد رسول الله أن يكتب إلى بعض الأعاجم فقيل له إنهم لا يقرءون كتاباً إلا بخاتم)
قوله: [حدثنا عبد الرحيم بن مطرف الرؤاسي].
عبد الرحيم بن مطرف الرؤاسي هو ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا عيسى].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد].
هو سعيد بن أبي عروبة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(473/4)
حكم التختم وحقيقة الخاتم الذي كان يلبسه عليه الصلاة والسلام ويختم به
إن القول بأن التختم سنة ومأجور من يفعله ليس بواضح، وإنما يقال: إن هذا سائغ وللحاجة، ومن فعله مطلقاً لا ينكر عليه، ومن تركه لا ينكر عليه، ومن فعله للختم به لا ينكر عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما اتخذه للختم.
أما كون الخاتم المنقوش عليه اسمه صلى الله عليه وسلم هو نفس الخاتم الذي يلبسه، أو هو خاتم خاص للختم على الرسائل، فالذي يظهر أنه الذي يلبسه على الأصبع، وهو الذي يختم به، فلا يقال: له خاتمان: خاتم يختم به، وخاتم يلبسه للتزين.(473/5)
شرح حديث سقوط خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من يد عثمان
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن سعيد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه، بمعنى حديث عيسى بن يونس زاد: (فكان في يده حتى قبض، وفي يد أبي بكر رضي الله عنه حتى قبض، وفي يد عمر رضي الله عنه حتى قبض، وفي يد عثمان رضي الله عنه، فبينما هو عند بئر إذ سقط في البئر، فأمر بها فنزحت، فلم يقدر عليه)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى عن أنس، وفيه أن هذا الخاتم الذي اتخذه رسول الله عليه الصلاة والسلام قد كتب عليه (محمد رسول الله) كان في يده حتى توفاه الله عز وجل، ثم كان في يد أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم في يد عمر رضي الله عنه من بعده، ثم في يد عثمان، يعني: أن الخلفاء كانوا يتعاقبون عليه، حتى كان زمن عثمان وكان عند بئر يقال لها: بئر أريس، فسقط الخاتم من يده فيها، فأمر بنزح مائها للبحث عنه فلم يجدوه، وكون أبي بكر وعمر وعثمان كانوا يلبسونه، لا شك أن ذلك للتبرك بهذا الخاتم الذي مس جسده الشريف صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ومعلوم أن الصحابة كانوا يتبركون بما مس جسده صلى الله عليه وسلم، فكانوا يتبركون بشعره وببصاقه وبعرقه وبفضل وضوئه، وكل ذلك جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، فلا يكون لأحد من بعده، بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ما فعلوا ذلك بعده مع أفضل هذه الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وغيرهم من الصحابة، وإنما كانوا يفعلون ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.(473/6)
تراجم رجال إسناد حديث سقوط الخاتم من يد عثمان
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
وهب بن بقية هو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن خالد].
هو خالد بن عبد الله الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد عن قتادة عن أنس].
سعيد وقتادة وأنس وقد مر ذكرهم في الإسناد الذي قبل هذا.(473/7)
شرح حديث (كان خاتم النبي من ورق فصه حبشي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد وأحمد بن صالح قالا: حدثنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب حدثني أنس رضي الله عنه قال: (كان خاتم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ورق فصه حبشي)].
أورد أبو داود حديث أنس رضي الله تعالى عنه قال: [(كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من ورق فصه حبشي)] أي: من فضة، والفص هو المكان البارز الذي تكون عليه الكتابة.
قال: [فصه وحبشي] أي: أن صانعه حبشي، فهو منسوب إلى الحبشة من أجل الصنعة، وجاء في حديث سيأتي: (أن فصه منه) أي: أنه فضة، وهذا يدل على أنه لا تنافي بين الروايتين: بين قوله: [فصه حبشي] وبين قوله: [(فصه منه)] ويكون معنى ذلك أنه من فضة، وإنما هو صناعة حبشية.(473/8)
تراجم رجال إسناد حديث (كان خاتم النبي من ورق فصه حبشي)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس بن يزيد].
هو يونس بن يزيد الأيلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أنس].
أنس وقد مر ذكره.(473/9)
شرح حديث (كان خاتم النبي من فضة كله فصه منه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثا حميد الطويل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان خاتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فضة كله، فصه منه)].
أورد أبو داود حديث أنس: [(كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من فضة كله، فصه منه)] يعني: أن الخاتم كله فضه، وفصه من فضة، وإذا كان الحديث السابق كما عرفنا فسر ما فيه من النسبة للحبشة بأنه من صنع الحبشة، فإنه لا يكون هناك تناف بين الحديثين.(473/10)
تراجم رجال إسناد حديث (كان خاتم النبي من فضة كله فصه منه)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حميد الطويل].
هو حميد بن أبي حميد الطويل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس قد مر ذكره.
وهذا الإسناد من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود رحمه الله.(473/11)
شرح حديث (اتخذ رسول الله خاتماً من ذهب وجعل فصه مما يلي بطن كفه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا نصير بن الفرج حدثنا أبو أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (اتخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتماً من ذهب، وجعل فصه مما يلي بطن كفه، ونقش فيه: محمد رسول الله، فاتخذ الناس خواتم الذهب، فلما رآهم قد اتخذوها رمى به، وقال: لا ألبسه أبداً، ثم اتخذ خاتماً من فضة، نقش فيه: محمد رسول الله، ثم لبس الخاتم بعده أبو بكر، ثم لبسه بعد أبي بكر عمر، ثم لبسه بعده عثمان رضي الله عنهم، حتى وقع في بئر أريس).
قال أبو داود: ولم يختلف الناس على عثمان حتى سقط الخاتم من يده].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ذهب، فاتخذ الناس خواتم من ذهب، فرمى به النبي صلى الله عليه وسلم وقال: [(لا ألبسه أبداً)] يعني: أنه كان مباحاً ثم حرم على الرجال.
قوله: [(ثم اتخذ خاتماً من فضة)] يعني: بعد ما حرم خاتم الذهب وتركه النبي صلى الله عليه وسلم، اتخذ خاتماً من فضة.
قوله: [(حتى وقع في بئر أريس)] هي بئر في جهة قباء.(473/12)
حكم الاهتمام بما يسمى بالآثار وترك الأحكام الشرعية
بعض الناس قد أولعوا بتتبع الآثار والحرص على الأشياء التي ما وردت السنة بالمحافظة عليها، مع أنهم في نفس الوقت لا يهتمون بالآثار الشرعية التي هي الأحكام الشرعية كالأوامر والنواهي، فهم يقصرون في امتثال الأوامر، ويقعون في شيء من النواهي.
هذه الآثار التي لم تأت بها سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء ما يدل على التحذير من اتخاذ آثار الأنبياء؛ لأن ذلك يؤدي إلى الغلو ويؤدي إلى المحاذير، كما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه أنه كان في طريقه من مكة إلى المدينة، أو من المدينة إلى مكة، وكان هناك مسجد فرأى الناس يدخلون ويصلون فيه، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا مسجد يقال: صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما أهلك من كان قبلكم باتخاذهم آثار أنبيائهم مساجد، من أدركته الصلاة فليصل وإلا فليمض.
أي أنه لا يقصد مثل ذلك المكان ويتعمد الذهاب إليه من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى به هذا كلام عمر رضي الله عنه الذي هو الحريص على اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي هو ثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين الذين أمر النبي الكريم عليه الصلاة السلام باتباع سنتهم مع سنته، في قوله عليه الصلاة والسلام: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
فبعض الناس يولع بالآثار غير المشروعة، والتي ما جاء شيء يدل على اعتبارها ولا على قصدها ولا على تتبعها، ويغفلون ويقصرون عن الآثار الشرعية التي بعث بها رسول الله عليه الصلاة والسلام، والتي هي أوامر ونواه يجب امتثال ما كان مأموراً به، ويجب الاجتناب والابتعاد عما كان منهياً عنه.
فهذه البئر التي سقط فيها الخاتم، تجد بعض الناس يريد إظهارها وإبرازها وإيجادها؛ لطلب البركة منها؛ لأنه سقط فيها خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نقول: إن البركة إنما هي باتباع الرسول الكريم عليه الصلاة السلام، والسير على نهجه واتباع سنته، وهي علامة محبة الله عز وجل للعبد، كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، فعلامة المحبة وعلامة الصدق في المحبة أن يكون الإنسان متبعاً لا مبتدعاً، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من البدع وأمر بالسنن، ومثل هذه الأمور التي يعتني بها بعض الناس ويحرص عليها فيها محاذير وأضرار، وفي الوقت الذي يحرصون فيه على هذا يقصرون فيما هم مأمورون به.
[قال أبو داود: ولم يختلف الناس على عثمان حتى سقط الخاتم من يده].
لا ندري عن حقيقة هذا التوجيه أو هذا التعليل الذي ذكره أبو داود، من كون الاختلاف إنما حصل في ذلك التاريخ.(473/13)
تراجم رجال إسناد حديث (اتخذ رسول الله خاتماً من ذهب وجعل فصه مما يلي بطن كفه)
قوله: [حدثنا نصير بن الفرج].
نصير بن الفرج هو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا أبو أسامة].
هو حماد بن أسامة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم العمري المصغر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(473/14)
شرح حديث نهي النبي عن النقش على نقش خاتمه وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما في هذا الخبر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فنقش فيه: محمد رسول الله، وقال: لا ينقش أحد على نقش خاتمي هذا)، ثم ساق الحديث].
أورد أبو داود حديث ابن عمر من طريق أخرى وفيه زيادة قال: [(لا ينقش أحد على نقش خاتمي هذا)]، يعني: أنه ليس للناس أن يفعلوا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا النقش الذي نقشه يتعلق به ويخصه، وكان يختم به، فغيره ليس له أن يكتب عليه مثل ما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على خاتمه.
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا الترمذي.
[حدثنا سفيان بن عيينة].
هو سفيان بن عيينة المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب بن موسى].
أيوب بن موسى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن ابن عمر].
نافع وابن عمر قد مر ذكرهما.(473/15)
شرح حديث (فاتخذ عثمان خاتماً ونقش فيه محمد رسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا أبو عاصم عن المغيرة بن زياد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما بهذا الخبر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فالتمسوه فلم يجدوه، فاتخذ عثمان خاتماً ونقش فيه: محمد رسول الله، قال: فكان يختم به أو يتختم به)].
قوله: [(فالتمسوه فلم يجدوه)].
يعني: عثمان رضي الله عنه هو الذي طلب التماسه والبحث عنه لما سقط في البئر، فلم يجدوه، وقد مر أنه أمر بنزح البئر فنزحت ولم يجدوه، وهذا مثل الذي قبله، إلا أن فيه أنهم التمسوه ولم يجدوه.
قوله: [(فاتخذ عثمان خاتماً ونقش فيه: محمد رسول الله، فكان يختم به أو يتختم به)].
يعني: أن عثمان رضي الله عنه لما بحث عن الخاتم الذي سقط في البئر، وهو خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان في يده فلم يوجد، اتخذ بعد ذلك خاتماً وكتب عليه: محمد رسول الله، فكان يختم به أو يتختم به.
إذاً: فمعلوم أن الخلفاء الراشدين الذين لبسوا خاتم النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو للتبرك، وأما كون عثمان رضي الله عنه يصنع خاتماً جديداً ويكتب عليه: محمد رسول الله ثم يتختم به، فهذا ليس مطابقاً لما قد حصل من فعل الخلفاء من جهة التبرك؛ لأن هذا لم يمس جسد الرسول صلى الله عليه وسلم، وليست القضية أنه يصنع خاتماً ويكتب عليه اسم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحديث الذي سبق أن مر يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينقش أحد على خاتمي هذا) يعني: أنه لا يقلد ولا يصنع شيء على نحوه وعلى هيئته، ويكتب عليه كما كتب على خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما نفس الخاتم الذي مس جسده الشريف صلى الله عليه وسلم، فالخلفاء كانوا يلبسونه تبركاً، وليس للختم به، وكيف يختمون بمحمد رسول الله وهذا شيء يخص الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يختمون بأسمائهم، وليس باسم الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا اللفظ الأخير فيه نكارة من جهة أن عثمان رضي الله عنه اتخذ خاتماً وكتب عليه: محمد رسول الله، وكان يختم به أو يتختم به، فهذا لفظ منكر؛ لأن الصحابة إنما كانوا يتبركون بما مس جسده صلى الله عليه وسلم، وأما صناعة خاتم جديد ينقش عليه: محمد رسول الله، فإن هذا لم يمس جسده حتى يتبرك به، وهو أيضاً مخالف لما جاء من أنه لا ينقش أحد على نقش خاتمه صلى الله عليه وسلم.(473/16)
تراجم رجال إسناد حديث (فاتخذ عثمان خاتماً ونقش فيه محمد رسول الله)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو عاصم].
هو الضحاك بن مخلد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المغيرة بن زياد].
المغيرة بن زياد صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب السنن.
[عن نافع عن ابن عمر].
نافع وابن عمر قد مر ذكرهما.
والألباني رحمه الله قال عن الحديث: إن إسناده ضعيف، ولعله من جهة المغيرة بن زياد ومن ناحية المتن فهو منكر، والنكارة فيه كما هو معلوم من الجهتين اللتين أشرت إليهما.(473/17)
الأسئلة(473/18)
حكم لبس الخاتم والساعة من الماس أو الأحجار الكريمة
السؤال
ما حكم لبس الخاتم إن كان من الماس أو من الأحجار الكريمة وكذلك الساعة؟
الجواب
الذي ينبغي للإنسان ألا يحرص على الأشياء الغالية والأشياء النفيسة، وإنما يأتي بالشيء الذي ليس فيه مغالاة، وليس فيه إسراف كالفضة، وكذلك ما كان من شيء لا مبالغة فيه ولا إسراف فيه.(473/19)
حكم دخول الخلاء بخاتم فيه اسم الله
السؤال
إذا كان الخاتم فيه اسم الله، فكيف يصنع به إذا دخل الخلاء؟
الجواب
كل شيء فيه ذكر الله، فإنه لا يدخل به الخلاء، بل ننزه اسم الله عز وجل إلا إذا كان الإنسان مضطراً إلى ذلك، بحيث إنه لم يتمكن من وضعه في مكان مأمون، فهذا مما يضطر إليه أحياناً، ولا بأس به عند الضرورة.(473/20)
عدم اختصاص الخلاء بجعل الخاتم مما يلي باطن الكف
السؤال
هل يجعل الخاتم مما يلي باطن الكف دائماً كما في الحديث: (وجعل فصه مما يلي بطن كفه) أم إذا دخل الخلاء؟
الجواب
بعض العلماء قال: إنه يكون على الهيئة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يقول: إن الأمر في ذلك واسع سواء كان مما يلي باطن الكف أو كان مما يلي ظاهرها.
أما جعله بباطن الكف عند دخول الخلاء، فالذي يبدو من لفظ الحديث أنه جعله دائماً مما يلي باطن الكف.(473/21)
ما جاء في ترك الخاتم(473/22)
شرح حديث (أنه رأى في يد النبي خاتماً من ورق يوماً واحداً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في ترك الخاتم.
حدثنا محمد بن سليمان لوين عن إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أنه رأى في يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاتماً من ورق يوماً واحداً، فصنع الناس فلبسوا، وطرح النبي صلى الله عليه وسلم فطرح الناس).
قال أبو داود: رواه عن الزهري زياد بن سعد وشعيب وابن مسافر، كلهم قال: (من ورق)].
أورد أبو داود [باب ما جاء في ترك الخاتم] وقد تقدم [باب ما جاء في اتخاذ الخاتم].
أورد أبو داود حديث أنس: [(أنه رأى في يد النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من ورق يوماً واحداً، فصنع الناس فلبسوا)] يعني: أن الناس لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً صنعوا مثله.
قوله: [(فطرح النبي صلى الله عليه وسلم وطرح الناس)] يعني: خواتيمهم.
هذا الحديث فيما يتعلق بالخاتم لا يتفق مع ما تقدم، من كون النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من فضة، وأنه بقي في يده حتى قبض، وإنما الذي جاء أنه فعله وتركه هو الذهب، فيكون توجيه هذا الحديث من جهتين: إما أن يكون فيه وهم حيث إنه ذكر الفضة بدل الذهب، أو أن المقصود من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ذهب، ثم اتخذ خاتماً من فضة، قبل أن يطرح ذلك الذهب الذي أراد طرحه، فالناس اتخذوا خواتيم من ذهب كما اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطرح خاتم الذهب، فطرح الناس خواتيمهم، ثم استعمل ذلك خاتماً من الفضة وبقي في يده حتى قبض.
أما أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم ترك خاتم الفضة ولم يستعمله، فهذا مخالف لما جاء في الأحاديث من أنه استعمله حتى قبض، وأنه أخذه بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، ثم فقد في زمن عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه.(473/23)
تراجم رجال إسناد حديث (أنه رأى في يد النبي خاتماً من ورق يوماً واحداً)
قوله: [حدثنا محمد بن سليمان لوين].
لوين لقب لـ محمد بن سليمان وهو ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن إبراهيم بن سعد].
إبراهيم بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
ابن شهاب مر ذكره.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مر ذكره.
والإسناد رباعي وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود.
[قال أبو داود: رواه عن الزهري زياد بن سعد].
زياد بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وشعيب].
هو شعيب بن أبي حمزة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وابن مسافر].
وابن مسافر وهو صدوق، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود في المراسيل والترمذي والنسائي.
[كلهم قال: (من ورق)].
يعني: كلهم متفقون مع ما جاء في الحديث.
ويمكن أن يكون الوهم في ذكر الورق من الزهري؛ لأن كل الرواة عنه متفقون عليه.(473/24)
ما جاء في خاتم الذهب(473/25)
شرح حديث ابن مسعود في كراهة النبي التختم بالذهب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في خاتم الذهب.
حدثنا مسدد حدثنا المعتمر سمعت الركين بن الربيع يحدث عن القاسم بن حسان عن عبد الرحمن بن حرملة أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول: (كان نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يكره عشر خلال: الصفرة -يعني: الخلوق- وتغيير الشيب، وجر الإزار، والتختم بالذهب، والتبرج بالزينة لغير محلها، والضرب بالكعاب، والرقى إلا بالمعوذات، وعقد التمائم، وعزل الماء لغيره أو غير محله أو عن محله، وفساد الصبي غير محرمه).
قال: أبو داود: انفرد بإسناد هذا الحديث أهل البصرة، والله أعلم].
أورد أبو داود [باب ما جاء في خاتم الذهب] خاتم الذهب قد جاء فيه أحاديث تدل على تحريمه، وأنه كان مباحاً أولاً ثم حرم، وقد سبق الحديث الذي فيه طرحه وقوله: (لا ألبسه أبداً) ثم طرح الصحابة خواتيمهم تبعاً له واقتداء به صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وجاء كذلك الحديث الذي فيه: (أنه أخذ حريراً وذهباً، وقال: هذان حرام على ذكور أمتي).
وأما بالنسبة للنساء فإن التحلي بالذهب سائغ لهن، كما أنه سائغ من الفضة ومن غيرها، وإنما المنع من الذهب في حق الرجال، فهم الذين لا يستعملون الذهب، ولا يتختمون بالذهب.
أورد أبو داود حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: [(كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره عشر خلال: الصفرة، يعني الخلوق)].
الخلوق هو الطيب الذي يكون من زعفران وغيره، وقد سبق أن مرت أحاديث فيها عدم استعمال الزعفران في الطيب في حق الرجال.
قوله: [(وتغيير الشيب)].
يعني: تغيير الشيب بالسواد، أما تغييره بغير السواد فهو مأمور به، وقد جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله، وإنما المنهي عنه والمكروه والمحرم هو تغييره بالسواد.
قوله: [(وجر الإزار)].
يعني: إسبال الثياب، وهذا من الأمور المحرمة، وسواء كان مع قصد الخيلاء أو بدون قصد الخيلاء، ما دام الإنسان قد جر ثوبه فهو آثم، ولكنه إذا كان مع قصد الخيلاء يكون شراً إلى شر.
قوله: [(والتختم بالذهب)].
يعني: في حق الرجال.
قوله: [(والتبرج بالزينة لغير محلها)].
يعني: في حق النساء، من كونهن يتبرجن بالزينة لمن لا يجوز أن يظهرن له من الأجانب الذين تحصل فتنتهم بها.
قوله: [(والضرب بالكعاب)].
الكعاب هو النرد الذي جاء في الأحاديث وجاء عن الصحابة النهي عنه.
قوله: [(والرقى إلا بالمعوذات)].
يعني: إذا كانت بشيء محرم أو غير سائغ فإن ذلك لا يجوز، وإنما الذي يجوز ما كان بالمعوذات: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] وبغير ذلك من القرآن وبالأدعية والأذكار والكلام السالم من الخطأ ومن الشرك، فهذا هو الذي يجوز أن يرقى به.
قوله: [(وعقد التمائم)].
يعني: تعليق التمائم.
قوله: [(وعزل الماء لغيره، أو غير محله أو عن محله)].
والمقصود من ذلك العزل في الجماع من أجل ألا تحمل المرأة، وهذا إنما يكون في حق الحرائر، فإنه لا يعزل عنهن إلا بإذنهن، وأما بالنسبة للإماء فيمكن أن يعزل عنهن؛ وذلك لما قد يترتب على حملهن من كونهن يكن أمهات أولاد، فلا يتمكنوا من بيعهن، فالعزل جاء في السنة كما في حديث جابر رضي الله عنه: (كنا نعزل والقرآن ينزل، لو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن).
إذاً: كانوا يعزلون عن الإماء خشية الحمل؛ لأنهن إذا لم يحملن تصرفوا فيهن كيف شاءوا بالبيع والهبة وغير ذلك، وأما إذا صرن أمهات أولاد، فإنه لا يجوز بيعهن، ويعتقن بعد موت من أولدهن.
قوله: [(وفساد الصبي)].
أي: حصول شيء يترتب عليه ضرره، وذلك أنه إذا كان يرضع ووطئت أمه فحملت، فإنه يترتب على حملها فساد لبنها، فلا يستفيد الطفل، وإذا رضع وأمه حامل فإنه يتضرر من ذلك اللبن.
ثم قال: (غير محرمه) يعني: أنه غير محرم، ولكن كونه يترك لما يترتب عليه من حصول الضرر للصبي أفضل، وإلا فإن الرجل يجامع امرأته سواء كانت مرضعاً أو غير مرضع، وإنما يمنع في حال حيضها وفي حال نفاسها، وأما كونها مرضعاً فإنه لا يمنع من ذلك، وإن كان يترتب عليه مضرة، وإذا حصل أن حملت فإنه يبحث له عن طرق إرضاع أخرى غير أمه.
قوله: [(كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره عشر خلال)].
معلوم أن الكراهة في هذه الخلال بعضها محرم، وقد جاءت الأحاديث بتحريم أكثرها، وبعضها مثل العزل غير محرم، وذلك إذا حصل الاتفاق بين الرجل والمرأة الحرة، ثم إذا شاء الله الولد وجد وإن وجد العزل؛ لأن الحمل يكون من قطرة، وقد تسقط قطرة من غير اختيار الإنسان فيحصل بها الحمل، كما جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس من كل المني يكون الولد) يعني: الولد يكون من قطرة من المني وليس من كل المني، فهذا الذي يعزل قد تسقط منه قطرة وتذهب إلى الرحم فيكون بها الحمل، ويكون الشيء الذي أراده الإنسان لم يحصل، والشيء الذي أراده الله لابد وأن يكون، فإذا أراد الله أن يوجد حملاً أوجده وإن وجد العزل.(473/26)
تراجم رجال إسناد حديث ابن مسعود في كراهة النبي التختم بالذهب
قوله: [قال حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد ثقة، مر ذكره.
[حدثنا المعتمر].
هو المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت الركين بن الربيع].
الركين بن الربيع وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن القاسم بن حسان].
القاسم بن حسان وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن عبد الرحمن بن حرملة].
عبد الرحمن بن حرملة هو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أن ابن مسعود].
ابن مسعود رضي الله عنه وهو صحابي جليل من فقهاء الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث في إسناده هذان الرجلان المقبولان، ولكن جاءت نصوص تدل على تحريم أكثر تلك الأشياء التي جاءت فيه، وإنما الشيء الذي التحريم فيه ليس بواضح هو قضية وطء المرضع، وكذلك أيضاً قضية العزل.
[قال أبو داود انفرد بإسناد هذا الحديث أهل البصرة].
المقصود أن أكثر الرواة له من أهل البصرة.
والشيخ الألباني حكم على الحديث بالنكارة، لكن كما هو معلوم أن أكثره ليس فيه نكارة، بل هو مستقيم، له شواهد، ولكن فيه هذان الرجلان المقبولان.(473/27)
الأسئلة(473/28)
حكم اتخاذ أكثر من خاتم في الأصابع
السؤال
ما حكم من يتخذ خاتمين أو أكثر في الأصابع؟
الجواب
لا أعلم شيئاً يدل على هذا، والذي ورد إنما هو خاتم واحد، أما عدة خواتيم في حق الرجال فلا أعلم، أما في حق النساء فيمكن أن تعدد الخواتم، لأنها تتزين.(473/29)
ما جاء في خاتم الحديد(473/30)
شرح حديث بريدة في النهي عن اتخاذ الخاتم من الحديد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في خاتم الحديد.
حدثنا الحسن بن علي ومحمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة المعنى أن زيد بن حباب أخبرهم عن عبد الله بن مسلم السلمي المروزي أبي طيبة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعليه خاتم من شبه، فقال له: ما لي أجد منك ريح الأصنام؟ فطرحه، ثم جاء وعليه خاتم من حديد، فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل النار؟ فطرحه، فقال: يا رسول الله من أي شيء أتخذه؟ قال: اتخذه من ورق ولا تتمه مثقالاً).
ولم يقل محمد: عبد الله بن مسلم، ولم يقل الحسن: السلمي المروزي].
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في خاتم الحديد].
أي: في حكم اتخاذه، وقد أورد أبو داود الأحاديث في ذلك، وقد ثبت بعضها في عدم لبس الحديد، وأن ذلك لا يجوز، وكونه من حلية أهل النار، فلا يجوز لبسه.
أورد أبو داود حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه: [(أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من شبه فقال له: ما لي أجد منك ريح الأصنام؟)].
والشبه قيل: إنه نحاس، وهو يشبه الحديد، إلا أن لونه يختلف عن لون الحديد فهو أصفر، وتتخذ منه الأصنام، ولذلك قال: [(ما لي أجد منك ريح الأصنام)] وكأن هذا فيه إشارة إلى عدم اتخاذ مثل ذلك؛ لأن الأصنام تتخذ من هذا.
قوله: (ثم جاء وعليه خاتم من حديد، فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل النار؟ فطرحه، فقال: يا رسول الله من أي شيء أتخذه؟)].
يعني: لما أنكر عليه النحاس وأنكر عليه الحديد قال: [(من أي شيء أتخذه؟ قال: اتخذه من فضة ولا تتمه مثقالاً)] يعني: لا تجعله كبيراً أو تتوسع فيه أو تبالغ فيه، وإنما يكون على قدر الحاجة بدون توسع، ففيه بيان أن الفضة يتختم بها، وقد جاءت الأحاديث الكثيرة في ذلك، وسبق أن مر جملة منها، وأن خاتم النبي صلى الله عليه وسلم كان من فضة، وأنه توفي وهو في يده، ثم صار في يد أبي بكر ثم في يد عمر ثم في يد عثمان، وفي أثناء خلافته سقط من يده في بئر أريس.
فاتخاذ الخاتم من الفضة ثبتت فيه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الحديد فإنه قد جاء ما يدل على النهي عنه، ومنه هذا الحديث وأحاديث أخرى.
وبعض أهل العلم قال: إنه يجوز اتخاذ الخاتم من الحديد، ويستدلون على ذلك بقصة الواهبة نفسها والرجل الذي قال: (زوجنيها يا رسول الله، فطلب منه أن يبحث عن مهر فلم يجد شيئاً، فقال له: التمس ولو خاتماً من حديد) قالوا: فهذا يدل على أن اتخاذ الخاتم من الحديد سائغ، والحديث لا يدل على الاتخاذ؛ لأنه فرق بين أن يتملك وبين أن يلبس، والمقصود من ذلك هو التملك، ولا يلزم أن يكون تملك ذلك للبسه، وعلى هذا فالقول بعدم جواز اتخاذ الخاتم من الحديد هو الأظهر.
وهذا الحديث ضعف الألباني إسناده وقال: لصدره شاهد، يعني: ما يتعلق بالحديد والشبه، أما الكلام الذي في الآخر أنه لا يتمه مثقالاً؛ فقد ورد ما يدل على أنه لا بأس من التوسع في الفضة؛ لأنه جاء: (وأما الفضة فالعبوا بها) يعني: أنه يجوز أن يتوسع فيها، فهذا المقدار الذي جاء فيه أنه لا يتمه مثقالاً يحمل إذا صح على الإشارة إلى القناعة وإلى عدم المبالغة.
فالشيخ الألباني ضعفه في المشكاة وقال: ولصدره شاهد.
وأما في سنن أبي داود فقال: ضعيف.
قوله: [ولم يقل محمد: عبد الله بن مسلم، ولم يقل الحسن: السلمي المروزي].
هذه إشارة إلى ما أتى عن طريق شيخيه فـ محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، لم يقل: عبد الله بن مسلم، يعني: لم يذكر اسم أبيه وإنما ذكر نسبته، وقال: عبد الله السَلمي المروزي، أو السُلمي المروزي.
وأما الشيخ الثاني الحسن بن علي فقال: عبد الله بن مسلم، يعني: ذكر اسم أبيه ولم يذكر النسبة، فهذا هو الفرق بين رواية شيخي أبي داود.(473/31)
تراجم رجال إسناد حديث بريدة في النهي عن اتخاذ الخاتم من الحديد
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[ومحمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة].
محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[أن زيد بن حباب].
زيد بن حباب وهو صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن مسلم السلمي المروزي أبي طيبة].
عبد الله بن مسلم السلمي المروزي وهو صدوق يهم، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عبد الله بن بريدة].
هو عبد الله بن بريدة الحصيب الأسلمي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
الملقي: [عن أبيه].
هو بريدة بن الحصيب رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(473/32)
شرح حديث (كان خاتم النبي من حديد ملوي عليه فضة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن المثنى وزياد بن يحيى والحسن بن علي قالوا: حدثنا سهل بن حماد أبو عتاب حدثنا أبو مكين نوح بن ربيعة حدثني إياس بن الحارث بن المعيقيب وجده من قبل أمه أبو ذباب عن جده رضي الله عنه قال: (كان خاتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حديد ملوي عليه فضة، قال: فربما كان في يدي، قال: وكان المعيقيب على خاتم النبي صلى الله عليه وسلم)].
أورد أبو داود حديث معيقيب رضي الله عنه أنه كان مسئولاً عن خاتم الرسول صلى الله عليه وسلم، بحيث يتولى حفظه ومناولته إياه للختم به عندما يحتاج إلى ختم، وقال: [(كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من حديد ملوي عليه فضة)] يعني: ليس حديداً خالصاً وإنما هو حديد معه فضة.
قوله: [(فربما كان في يدي)] يعني: أنه يكون في يد معيقيب؛ لأنه هو الذي يتولى حفظه ومناولته إياه.
قوله: [(وكان المعيقيب على خاتم النبي صلى الله عليه وسلم)].
يعني: أنه كان على خاتمه، وكان مسئولاً عنه وعن حفظه، ولهذا يكون في بعض الأحيان في يده، وأحياناً يناوله الرسول صلى الله عليه وسلم فيلبسه في يده صلى الله عليه وسلم.
والحديث يتعلق بالحديد ولكنه ليس حديداً خالصاً.
والحديث ضعفه الألباني، ولكن إن صح الحديث فإنه يحمل على أنه إما أن يكون قبل النهي وقبل التحريم، أو أنه لم يكن حديداً خالصاً، والنهي إنما جاء عن الحديد الخالص.
وعلى كل حال فاجتناب الحديد هو الذي دل عليه الدليل.(473/33)
تراجم رجال إسناد حديث (كان خاتم النبي من حديد ملوي عليه فضة)
قوله: [حدثنا ابن المثنى].
هو محمد بن المثنى أبو موسى الزمن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[وزياد بن يحيى].
زياد بن يحيى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[والحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني مر ذكره.
[حدثنا سهل بن حماد أبو عتاب].
سهل بن حماد أبو عتاب وهو صدوق أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو مكين نوح بن ربيعة].
أبو مكين نوح بن ربيعة وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثني إياس بن الحارث بن المعيقيب].
إياس بن الحارث بن المعيقيب وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن جده].
هو معيقيب بقاف وآخره موحدة مصغر ابن أبي فاطمة الدوسي، حليف بني عبد شمس من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين وشهد المشاهد، وولي بيت المال لـ عمر، ومات في خلافة عثمان، أو علي.
أخرج له الجماعة.
ولا أدري ما هو وجه التضعيف عند الشيخ الألباني رحمه الله لهذا الحديث.
ورد في فتح الباري أن معيقيباً هذا هو الذي سقط منه الخاتم في عهد عثمان، لكن الأحاديث التي مرت فيها أنه سقط من عثمان.(473/34)
شرح حديث علي في النهي عن وضع الخاتم في السبابة والوسطى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا عاصم بن كليب عن أبي بردة عن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل: اللهم اهدني وسددني، واذكر بالهداية هداية الطريق، واذكر بالسداد تسديدك السهم، قال: ونهاني أن أضع الخاتم في هذه أو في هذه، للسبابة والوسطى، شك عاصم، ونهاني عن القسية والميثرة، قال أبو بردة: فقلنا لـ علي: ما القسية؟ قال: ثياب تأتي من الشام أو من مصر مضلعة، فيها أمثال الأترج، قال: والميثرة: شيء كانت تصنعه النساء لبعولتهن)].
أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: [(قل: اللهم اهدني وسددني، واذكر بالهداية هداية الطريق، وبالسداد تسديدك السهم)] ومعنى ذلك، أن الإنسان عندما يقول: اللهم اهدني، يتذكر ويخطر على باله هداية الطريق الحسي الذي هو الجادة، والذي يسلكه الإنسان ولا يحيد عنه؛ ليسلم من الأضرار ومن أن يتيه ويضيع؛ لأنه إذا سلك الجادة وصل إلى الغاية، بخلاف ما إذا خرج عنها، فإنه عرضة للضياع، وكذلك الهداية المعنوية التي هي الهداية للحق والصراط المستقيم يربطها بالهداية الحسية التي هي هداية الطريق، وذلك أنه لا يسلم من آفات الضياع والزيغ والضلال إلا إذا سلك الطريق المستقيم.
فذكر هداية الطريق وربط المعقول بالمحسوس، يدل على أنه أمكن في الفهم والإدراك؛ ولهذا يأتي تشبيه المعاني بالمحسوسات؛ ليكون ذلك أوقع في النفوس، وهذا من هذا القبيل، فهناك هداية حسية وهي هداية الطريق وسلوك الجادة وعدم الانحراف عنها يمنة أو يسرة؛ لئلا يحصل الضياع، وهداية معنوية وهي هداية الصراط المستقيم والخروج من الظلمات إلى النور، وقد جاء في حديث الهجرة كلام أبي بكر رضي الله عنه، لما كان راكباً خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر معروفاً عند كثير من الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعرفه كل أحد، فكان بعض الناس الذين يلتقون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر معه يقول: (يا أبا بكر من هذا الذي معك، فكان يقول: هذا هاد يهديني الطريق) هو يقصد أنه هاد يهديه الطريق المستقيم، وغيره يفهم أنه دليل يعرف الطرق ويعرف الدروب، وأنه خبير بالأرض، وهذه تسمى تورية؛ لأن المتحدث يأتي بلفظ يريد منه شيئاً والسامع يفهم منه شيئاً آخر فيكون صادقاً؛ ولهذا جاء في الحديث: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب) وقد جاء كثيراً في السنة استعمال المعاريض في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام أصحابه رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ومن ذلك قصة أم سليم لما مات ابنها وقد جاء أبو طلحة، وكان يعلم أنه مريض فمات وخرجت روحه فلم تخبره حتى قدمت له العشاء وحتى حصل اللقاء بينهما، ثم بعد ذلك أخبرته، ولكنه لما سألها قبل ذلك قالت: لقد سكن الصبي واستراح، ففهم أنه استراح من المرض، وهي تقصد أنه مات.
فهذا حديث علي رضي الله عنه من هذا القبيل، فهو يقول: [(اذكر بالهداية هداية الطريق)] يعني: اربط بين المحسوس والمعنوي؛ لأن ربط المعنوي بالمحسوس يثبته ويجعله أوقع في النفس وأثبت؛ لأنه مبني على شيء مشاهد معاين.
[(واذكر بالسداد تسديدك السهم)] يعني: كون الذي يرمي يسدد السهم على الرمية، بحيث يوجهه إلى تلك الرمية، لا يحيد يمنة ولا يسرة حتى يصيب الهدف، فكذلك الإنسان الذي يكون على سداد وملازمة لشيء معين.
قوله: [(قال: ونهاني أن أضع الخاتم في هذه أو هذه، للسبابة والوسطى)] أي: في السبابة والوسطى.
قوله: [(شك عاصم)].
يعني: الذي شك في هذه أو هذه هو عاصم بن كليب.
قوله: [(ونهاني عن القسية والميثرة)].
القسية هي لباس يؤتى به من الشام أو مصر، مضلعة فيها خطوط عريضة تشبه الأترج، إما في شكله أو في تجاعيده؛ لأن الأترج ليس أملس، وليس متساوياً، وإنما فيه نتوء وبروز، وسبق أن مر بنا أنه مضلع بالحرير.
والميثرة شيء كانت تصنعه النساء لبعولتهن لوضعه على الركاب، أي على سرج الفرس بحيث يكون ليناً ويكون من حرير، وسبق أن مر بنا عدد من الأحاديث التي فيها ذكر المياثر.
والمياثر جمع ميثرة.
وهذا الحديث ليس فيه شيء يتعلق بالترجمة من ذكر الحديد، وإنما فيه بيان الأصابع التي ينهى عن التختم فيها.(473/35)
تراجم رجال إسناد حديث علي في النهي عن وضع الخاتم في السبابة والوسطى
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا بشر بن المفضل].
بشر بن المفضل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عاصم بن كليب].
عاصم بن كليب وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي بردة].
هو أبو بردة بن أبي موسى الأشعري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي].
هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(473/36)
مكان وضع الخاتم للرجال والنساء
المعروف أن التختم للرجال يكون في الخنصر، والرسول صلى الله عليه وسلم كان خاتمه في خنصره، جاء في بعض الأحاديث أنه في اليسرى وجاء في بعضها أنه في اليمنى، أما المرأة فيجوز لها أن تتختم في جميع أصابعها، قال النووي رحمه الله: أجمع المسلمون على أن السنة جعل خاتم الرجل في الخنصر، وأما المرأة فلها التختم في الأصابع كلها.(473/37)
الأسئلة(473/38)
حكم استعمال النساء للإكسسوارات من النحاس
السؤال
الإكسسوارات النسائية التي تستخدم من النحاس، هل يجوز للمرأة أن تلبسها؟
الجواب
هذا النحاس الذي لونه أصفر هو نوع من الحديد يقال له: نحاس، وفيه صلابة وفيه قوة.(473/39)
حكم لبس الرجل للساعة من الحديد للزينة
السؤال
هل يجوز لبس الرجل للساعة التي فيها شيء من حديد يتزين بها؟
الجواب
أولاً الساعة لا تتخذ للزينة، وإنما تتخذ لمعرفة الوقت والتزين للمرأة، فهي التي تتزين بالأنواع التي يتجمل بها، وأما الرجل فله أن يلبس الساعة، ومعلوم أن الساعة لم تتخذ من أجل الحديد، وإنما من أجل أنها ساعة؛ لأن صناعة الساعة لابد فيها من الحديد، فالإنسان إذا اتخذ ساعة وبعض أجزائها صنع من الحديد لا يقال: إنه تحلى بالحديد وتجمل بالحديد، وإنما لبسها من أجل سهولة الاطلاع عليها لمعرفة الأوقات.(473/40)
المعادن التي ورد النهي عن لبسها
السؤال
ما هي المعادن التي ورد النهي عن لبسها؟
الجواب
ورد النهي عن الحديد والذهب، أما الشبه فهو من جملة الحديد؛ إلا أنه نوع خاص، أما الألمنيوم فلا أدري عن مادته، ولكن الذي يبدو أنه شبيه بالحديد.(473/41)
شرح سنن أبي داود [474]
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لبس الخاتم وتركه، وجاء عنه لبسه في اليمين ولبسه في اليسار، وبين صلى الله عليه وسلم ما يجوز التختم به وما لا يجوز، وجاء عنه صفة خاتمه وموضع فصه من كفه.(474/1)
ما جاء في التختم في اليمين أو اليسار(474/2)
شرح حديث (أن النبي كان يتختم في يمينه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في التختم في اليمين أو اليسار.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني سليمان بن بلال عن شريك بن أبي نمر عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين عن أبيه عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال شريك: وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتختم في يمينه)].
أورد أبو داود رحمه الله باب: ما جاء في التختم في اليمين أو اليسار.
أي: أن التختم يكون باليد اليمنى أو باليد اليسرى، وقد صحت الأحاديث في اليمين وفي الشمال، قال النووي: أجمع العلماء على جواز التختم باليمين أو الشمال، وإنما الخلاف أيهما أفضل وأيهما أولى، هل يكون باليمين أو يكون بالشمال؟ وقال: إن المالكية عندهم في الشمال أفضل، وعند أصحابنا- أي: الشافعية- في اليمين.
وعلى كل فالأمر في ذلك واسع ما دام أن السنة ثبتت في هذا وفي هذا، فسواء تختم باليمين أو بالشمال.
أورد أبو داود حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه)].
يعني: أنه يجعل خاتمه في يمينه في الخنصر، وهذا يدل على ثبوت التختم في اليمين من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.(474/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي كان يتختم في يمينه)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني سليمان بن بلال].
سليمان بن بلال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شريك بن أبي نمر].
هو شريك بن عبد الله بن أبي نمر وهو صدوق يخطئ، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، إلا الترمذي فقد أخرج له في الشمائل.(474/4)
وجه انتقاد بعض العلماء على البخاري روايته لحديث شريك في الإسراء والمعراج
وشريك هو الذي روى عنه البخاري حديث الإسراء والمعراج، والذي فيه أوهام كثيرة، وكلها نسبوها إلى شريك وهي غير ثابتة وغير صحيحة، ذكرها ابن كثير في أول تفسير سورة الإسراء، وكذلك ذكرها بعض أهل العلم وقالوا: إنها من أوهام شريك، وهذا مما انتقد على البخاري في صحيحه.
والحافظ ابن حجر لما أجاب عن الأحاديث المنتقدة في مقدمة الفتح قال ما معناه: إن الحديث من جملة الأشياء اليسيرة والتي الجواب عليها محتمل.
فكان كثير مما انتقد على البخاري يسهل دفعه، ويظهر فيه الحق مع البخاري، وليس مع من اعترض عليه.
وأما مسلم رحمه الله فإنه روى حديث شريك ولكنه ما ذكر لفظه، وقد ذكره من رواية محمد بن سيرين عن أنس، ثم رواه من رواية شريك ولم يسق لفظه، بل قال: فزاد ونقص وقدم وأخر، يعني: أنه ما ساق لفظه وإنما ساق لفظ محمد بن سيرين، فـ البخاري هو الذي ساق لفظه، وفيه أوهام جعلوها من شريك بن عبد الله بن أبي نمر.
وشريك بن عبد الله بن أبي نمر متفق مع شريك بن عبد الله القاضي النخعي الكوفي في اسمه واسم أبيه، إلا أن ذاك مشهور بأنه القاضي، وهذا مشهور بأنه ابن أبي نمر، فهما مما يقال له: المتفق والمفترق، يعني: أن تتفق أسماء الرواة وأسماء آبائهم وتختلف أشخاصهم، ولا يلتبس الأمر فيهما؛ لأن طبقتهما متباعدة؛ لأن طبقة هذا في طبقة التابعين يروي عن الصحابة، وأما ذاك ففي طبقة متأخرة.(474/5)
تابع تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي كان يتختم في يمينه)
قوله: [عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين].
إبراهيم بن عبد الله بن حنين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عبد الله بن حنين ثقة، أخرج أصحاب الكتب الستة.
[عن علي].
هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد مر ذكره.(474/6)
طريق أخرى عن أبي سلمة أن النبي كان يتختم في يمينه
[قال شريك: وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه)].
ذكر طريقاً أخرى عن شريك ولكنها مرسلة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه)].
فالأولى متصلة والثانية مرسلة.(474/7)
شرح حديث ابن عمر (أن النبي كان يتختم في يساره)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا نصر بن علي حدثني أبي حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتختم في يساره، وكان فصه في باطن كفه)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يساره، وكان فصه في باطن كفه)] يعني: أن فصه الذي فيه النقش والكتابة يكون من الداخل، وكان في شماله، وهذا يدل على أن التختم يكون في الشمال، وهذا مضاف إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ويجمع بين ما جاء في اليمين وما جاء في الشمال، بأنه يكون أحياناً كذا وأحياناً كذا والألباني قال: إنه شاذ، وإن المحفوظ هو ما جاء في اليمين.
ولكن التختم بالشمال ثابت، وهذا الطريق مستقيم، وهناك أحاديث أخرى جاءت من غير هذا الطريق، ومنها حديث في مسلم عن أنس رضي الله عنه، ذكره صاحب عون المعبود، وذكر حديثاً آخر عند النسائي، وكلها تدل على أن التختم كان بالشمال.
قال صاحب عون المعبود: أخرج مسلم في صحيحه من حديث ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى).
وأخرج الترمذي عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: (كان الحسن والحسين يتختمان في يسارهما).
وهذا أثر.
وأخرج النسائي من حديث قتادة عن أنس قال: (كأني أنظر إلى بياض خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في أصبعه اليسرى)، ورجال إسناده محتج بهم في الصحيح.
قال النووي: أجمع العلماء على جواز التختم في اليمين والشمال، وإنما الخلاف في أيهما أفضل.
يعني: هل في اليمين أو في الشمال.
أما عن حديث عائشة: (كان يعجبه التيامن) فهذا يقال في البدء، كونه إذا توضأ يبدأ باليمين، وإذا ترجل يبدأ باليمين، وإذا انتعل يبدأ باليمين، هذا المقصود بالحديث وأما هذا فليس فيه بدء؛ لأنه إما في هذا وإما في هذا، هذا على أساس أن كلاً منهما ثابت ويحمل على أنه أحياناً يكون باليمين وأحياناً يكون بالشمال.(474/8)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر (أن النبي كان يتختم في يساره)
قوله: [حدثنا نصر بن علي].
هو نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وهو ممن وافق اسمه اسم جده، واسمه من الأسماء التي تتكرر وتدور، فهذا يسمي على أبيه وهذا يسمي على أبيه.
[حدثني أبي].
هو علي بن نصر بن علي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد].
عبد العزيز بن أبي رواد وهو صدوق ربما وهم، أخرج له البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن.
[عن نافع].
نافع وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(474/9)
شرح حديث ابن عمر (أن النبي كان يتختم في يمينه) وتراجم رجاله
[قال أبو داود: قال: ابن إسحاق وأسامة -يعني: ابن زيد - عن نافع بإسناده: في يمينه].
هذه طريق أخرى عن شخصين يرويان عن نافع وقالا: (في يمينه) يعني: بدل شماله.
قوله: [قال أبو داود: قال ابن إسحاق].
ابن إسحاق صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
وأسامة بن زيد الليثي صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن نافع بإسناده].
نافع مر ذكره.(474/10)
أسماء الأصابع الخمس من اليد وأماكنها
الخنصر هو أصغر الأصابع، والبنصر هو الذي يليه، ثم الوسطى ثم السبابة ثم الإبهام، وأنا ذكرت في درس مضى عند تقليم الأظفار أن بعض الفقهاء يقول: إنه يخالف عندما يقص أظفاره، ففي اليد اليمني يبدأ بالخنصر ثم الوسطى ثم الإبهام، ثم يرجع إلى البنصر ثم يختم بالسبابة، وتركيب الحروف (خوابس) الخاء للخنصر وهي أصغر الأصابع، ثم بعدها الواو للوسطى، وتجاوز السبابة والبنصر ثم ألف للإبهام، ثم يرجع إلى البنصر ثم يختم بالسبابة.
واليسرى (أوخسب) يبدأ بالإبهام ثم الوسطى ثم الخنصر ثم يرجع للسبابة ثم يختم بالبنصر.
ويقولون في المثل: تعقد عليه الخناصر، يعني: الشيء الذي يهتم به ويظفر به ولا يفرط فيه.(474/11)
أثر ابن عمر أنه كان يلبس خاتمه في يده اليسرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد عن عبدة عن عبيد الله عن نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يلبس خاتمه في يده اليسرى].
أورد أبو داود هذا الأثر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يلبس خاتمه بيده اليسرى.
قوله: [حدثنا هناد].
هو هناد بن السري أبو السري ثقة، أخرج حديثه البخاري في خلق أفعال العباد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبدة].
هو عبدة بن سليمان وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
هو عبيد الله بن عمر العمري المصغر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع أن ابن عمر].
نافع وابن عمر وقد مر ذكرهما.(474/12)
شرح حديث ابن عباس أنه كان يلبس خاتمه في خنصره اليمنى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، قال: (رأيت على الصلت بن عبد الله بن نوفل بن عبد المطلب خاتماً في خنصره اليمنى، فقلت: ما هذا؟ قال: رأيت ابن عباس رضي الله عنهما يلبس خاتمه هكذا، وجعل فصه على ظهرها، قال: ولا يخال ابن عباس إلا قد كان يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يلبس خاتمه كذلك)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفيه: أن ابن إسحاق قال: [(رأيت على الصلت بن عبد الله بن نوفل خاتماً في خنصره اليمنى، فقلت: ما هذا؟ قال: رأيت ابن عباس يلبس خاتمه هكذا، وجعل فصه على ظهرها، قال: ولا يخال ابن عباس إلا قد كان يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبس خاتمه كذلك)].
يعني: أن الصلت لم يكن جازماً في هذا، وإنما كان يظن أن ابن عباس كان يذكر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كما هو معلوم أن التختم باليمين ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله، وأول حديث مر في هذا الباب يتعلق بالتختم باليمين.(474/13)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس أنه كان يلبس خاتمه في خنصره اليمنى
قوله: [حدثنا عبد الله بن سعيد].
عبد الله بن سعيد الأشج ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يونس بن بكير].
يونس بن بكير صدوق يخطئ، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن محمد بن إسحاق قال: رأيت على الصلت بن عبد الله بن نوفل].
محمد بن إسحاق مر ذكره.
والصلت بن عبد الله بن نوفل مقبول أخرج له أبو داود والترمذي.
[رأيت ابن عباس].
ابن عباس وهو الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أذكر أن ابن رجب رحمه الله، له مؤلف خاص بالخواتم مطبوع، يعني: بحث فيه ما يتعلق بالخواتم وأحكامها.(474/14)
الأسئلة(474/15)
وجه جعل فص الخاتم إلى بطن الكف
السؤال
هل من السنة أن يكون فص الخاتم إلى بطن الكف؟
الجواب
جاء في بعض الأحاديث: (وجعل فصه مما يلي بطن كفه)، ومر بنا هذا الأثر عن ابن عباس أن فصه على ظهرها يعني: ليس مما يلي بطن كفه، ولا شك أن الأولى أن يكون مما يلي بطن الكف، وإذا جعله من الخارج فليس هناك بأس.(474/16)
وجه تصحيح الشيخ الألباني لحديث (رأيت على الصلت خاتماً في خنصره اليمنى)
السؤال
الحديث الأخير: (رأيت على الصلت بن عبد الله بن نوفل خاتماً في خنصره اليمنى)، ما صحته؛ لأن فيه الصلت وهو مقبول، مع أن الشيخ الألباني قال عنه: حسن صحيح؟
الجواب
ما يتعلق بمعناه من حيث التختم في اليمين ثابت.
أورد الحافظ عدداً من الأحاديث في باب لبس الخاتم من صحيح البخاري.
قال البخاري: حدثنا يوسف بن موسى حدثنا أبو أسامة حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ذهب أو فضة، وجعل فصه مما يلي كفه، ونقش فيه: محمد رسول الله، فاتخذ الناس مثله، فلما رآهم قد اتخذوها رمى به، وقال: لا ألبسه أبداً، ثم اتخذ خاتماً من فضة، فاتخذ الناس خواتيم الفضة، قال ابن عمر: فلبس الخاتم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، حتى وقع من عثمان في بئر أريس).
ثم قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس خاتماً من ذهب فنبذه، فقال: لا ألبسه أبداً، فنبذ الناس خواتيمهم).
ثم قال: حدثني يحيى بن بكير حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه: (أنه رأى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ورق يوماً واحداً، ثم إن الناس اصطنعوا الخواتيم من ورق ولبسوها، فطرح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه، فطرح الناس خواتيمهم) تابعه إبراهيم بن سعد، وزياد وشعيب عن الزهري، وقال ابن مسافر: عن الزهري: (رأى خاتماً من ورق).
يقول الحافظ: قلت: ويحتمل وجهاًَ رابعاً ليس فيه تغيير ولا زيادة اتخاذ، وهو أنه اتخذ خاتم الذهب للزينة، فلما تتابع الناس فيه وافق وقوع تحريمه فطرحه؛ ولذلك قال: (لا ألبسه أبداً) وطرح الناس خواتيمهم تبعاً له، وصرح بالنهي عن لبس خاتم الذهب، كما تقدم في الباب قبله، ثم احتاج إلى الخاتم لأجل الختم به، فاتخذه من فضة، ونقش فيه اسمه الكريم، فتبعه الناس أيضاًَ في ذلك، فرمى به، حتى رمى الناس تلك الخواتيم المنقوشة على اسمه؛ لئلا تفوت مصلحة نقش اسمه بوقوع الاشتراك، فلما عدمت خواتيمهم برميها، رجع إلى خاتمه الخاص به، فصار يختم به، ويشير إلى ذلك قوله في رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس، كما سيأتي قريباً في باب الخاتم في الخنصر: (إنا اتخذنا خاتماً ونقشنا فيه نقشاً، فلا ينقش عليه أحد) فلعل بعض من لم يبلغه النهي أو بعض من بلغه ممن لم يرسخ في قلبه الإيمان من منافق ونحوه، اتخذوا ونقشوا فوقع ما وقع، ويكون طرحه له غضباً ممن تشبه به في ذلك النقش.
وقد أشار إلى ذلك الكرماني مختصراً جداً.
يعني: أشار إلى أن بعض الناس اتخذوا ونقشوا وليس كل الناس.
ثم يقول: وقول الزهري في روايته: (إنه رآه في يده يوماً) لا ينافي ذلك ولا يعارضه قوله في الباب الذي بعده في رواية حميد: (سئل أنس: هل اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً؟ قال: أخر ليلة صلاة العشاء، إلى أن قال: فكأني أنظر إلى وبيص خاتمه) فإنه يحمل على أنه رآه كذلك في تلك الليلة، واستمر في يده بقية يومها، ثم طرحه في آخر ذلك اليوم.
وأما ما أخرجه النسائي من طريق المغيرة بن زياد عن نافع عن ابن عمر: (اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب فلبسه ثلاثة أيام) فيجمع بينه وبين حديث أنس بأحد أمرين: إن قلنا: إن قول الزهري في حديث أنس: (خاتماً من ورق) سهو، وإن الصواب: (خاتماً من ذهب) فقوله: (يوماً واحداً) ظرف لرؤية أنس لا لمدة اللبس، وقول ابن عمر: (ثلاثة أيام) ظرف لمدة اللبس.
يعني: هذا أحد الوجهين اللذين أشرت إليهما من جهة أن فيه وهماً، يعني: بدل الذهب جاء فضة.
ثم قال: وإن قلنا: أن لا وهم فيها، وجمعنا بما تقدم، فمدة لبس خاتم الذهب ثلاثة أيام كما في حديث ابن عمر هذا، ومدة لبس خاتم الورق الأول كانت يوماً واحداً كما في حديث أنس، ثم لما رمى الناس الخواتيم التي نقشوها على نقشه عاد فلبس خاتم الفضة واستمر إلى أن مات.(474/17)
ما جاء في الجلاجل(474/18)
شرح حديث عمر (إن مع كل جرس شيطاناً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الجلاجل.
حدثنا علي بن سهل وإبراهيم بن الحسن قالا: حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني عمر بن حفص أن عامر بن عبد الله، قال علي بن سهل: ابن الزبير أخبره: (أن مولاة لهم ذهبت بابنة الزبير إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي رجلها أجراس، فقطعها عمر، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: إن مع كل جرس شيطاناً)].
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الجلاجل].
والجلاجل: جمع جلجل، والمراد بها الأجراس، وهي التي يكون لها رنين كالموسيقى.
أورد أبو داود حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه جيء إليه بابنة الزبير وفي رجلها جلاجل أو أجراس فقطعها وقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [(إن مع كل جرس شيطاناً)] فهو يشتمل على التحذير من استعمال تلك الأجراس والمنع منها، ولكن الحديث ضعيف؛ لأن فيه ابن الزبير وهو لم يدرك عمر بن الخطاب، وفيه أيضاً رجل مقبول، ولكن اتخاذ الأجراس والتحذير منها جاء فيه أحاديث.(474/19)
تراجم رجال إسناد حديث عمر (إن مع كل جرس شيطاناً)
قوله: [حدثنا علي بن سهل].
علي بن سهل صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة.
[وإبراهيم بن الحسن].
هو إبراهيم بن الحسن المصيصي وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا حجاج].
هو حجاج بن محمد المصيصي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عمر بن حفص].
عمر بن حفص وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[أن عامر بن عبد الله].
هو عامر بن عبد الله بن الزبير وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن مولاة لهم ذهبت بابنة الزبير إلى عمر بن الخطاب].
عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(474/20)
شرح حديث عائشة (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جرس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا روح قال: حدثنا ابن جريج عن بنانة مولاة عبد الرحمن بن حسان الأنصارى عن عائشة رضي الله عنها قالت: (بينما هي عندها إذ دخل عليها بجاريه وعليها جلاجل يصوتن، فقالت: لا تدخلنها علي إلا أن تقطعوا جلاجلها، وقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جرس)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جرس)] وذلك أنه جيء بجارية إليها في أرجلها جلاجل لهن أصوات ورنين فقالت: [(لا تدخلنها علي إلا أن تقطعوا جلاجلها، وقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جرس)] وهذا يدل على التحذير من اتخاذ الأجراس في البيوت، وكذاك اتخاذها على الدواب في الأسفار وغير الأسفار.(474/21)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جرس)
قوله: [حدثنا محمد بن عبد الرحيم].
محمد بن عبد الرحيم هو الملقب صاعقة وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا روح].
هو روح بن عبادة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن جريج].
ابن جريج مر ذكره.
[عن بنانة مولاة عبد الرحمن بن حسان الأنصاري].
وهي لا تعرف، أخرج لها أبو داود.
[عن عائشة].
هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعه أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث صححه الألباني، وفيه هذه المرأة التي لا تعرف، لكن لعله صححه لشواهده.
الحديث الأول فيه: (إن مع كل جرس شيطاناً)، وهذا فيه: [(لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جرس)] وهذا يشبه ما جاء في الحديث: (الملائكة لا تصحب رفقة بها كلب أو جرس) وبينهما فرق من حيث المعنى.(474/22)
الأسئلة(474/23)
الفرق بين الجلاجل والخلاخل
السؤال
هل هناك فرق بين الجلاجل والخلاخل؟
الجواب
يبدو أن هناك فرقاً؛ لأن الجلاجل لها رنين يختلف عن الخلاخل أو الخلخال.(474/24)
حكم وضع الأجراس على الغنم لغرض التعرف عليها في الليل واجتماعها
السؤال
ما حكم وضع الأجراس على بعض الغنم؛ حتى لو مشت في الليل سمعها فأدركها؛ ولأنها لا تجتمع بدون جرس؟
الجواب
الذي يبدو أن تعليق الأجراس على الدواب من أغنام وغيرها لا يجوز، لكن إذا لم يظهر منه صوت ورنين مثل رنين الجلجل فلا بأس، كما لو لبست المرأة في يدها أساور كثيرة يحصل بسببها رنين عند حركتها، فهذا ليس من هذا القبيل؛ لأن رنين الجلجل يختلف عن رنين الزينة، فالأساور إذا اتصل بعضها ببعض وظهر صوت؛ لاتصال الذهب بالذهب، فإنه يختلف عن رنين الجلجل.(474/25)
حكم استعمال أجراس البيوت والساعات والمدارس والكليات
السؤال
هل يلحق بالجلاجل أجراس البيوت وأجراس الساعة والجرس المستخدم في المدارس والكليات؟
الجواب
الأجراس التي لها رنين هي الجلجل وبابها واحد، لكن إذا كان هناك أصوات لما يسمى أجراساً وليس لها هذا الرنين، وإنما يخرج منها صوت ليس فيه تلك النغمة التي هي نغمة الرنين الذي يكون للجلجل، فهذا ليس فيه بأس.
وليس المقصود مجرد وجود الجرس، وإنما المقصود الصوت، ولكن الجرس إذا عمل فيه شيء يجعل صوته يتغير، حتى يصدر منه صوت لا محذور فيه فلا بأس.(474/26)
الجمع بين حديث (وأحياناً يأتيني الوحي مثل صلصلة الجرس) وبين أحاديث النهي عن اتخاذ الأجراس
السؤال
ثبت في البخاري: (وأحياناً يأتيني الوحي مثل صلصلة الجرس) فكيف الجمع بين هذا وأحاديث النهي؟
الجواب
هذا الحديث فيه تمثيل للشدة.(474/27)
ما جاء في ربط الأسنان بالذهب(474/28)
شرح حديث عرفجة بن أسعد أن الرسول أمره أن يتخذ أنفاً من ذهب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في ربط الأسنان بالذهب.
حدثنا موسى بن إسماعيل ومحمد بن عبد الله الخزاعي المعنى قالا: حدثنا أبو الأشهب عن عبد الرحمن بن طرفة: (أن جده عرفجة بن أسعد قطع أنفه يوم الكلاب، فاتخذ أنفاً من ورق فأنتن عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاتخذ أنفاً من ذهب)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب ما جاء في ربط الأسنان بالذهب].
لم يكن في الحديث الذي أورده شيء يتعلق بالأسنان ولكنه يتعلق بالأنف، ومعلوم أن هذا يقاس على هذا، وأن هذا يشبه هذا، وأن اتخاذ الأنف من الذهب يعتبر نادراً بالنسبة للأسنان؛ لأن الحاجة إلى استعمال الذهب لإصلاح الأسنان كثيرة؛ ولأن حصول الخلل في الأنف ليس مثل حصول الخلل في الأسنان التي تحتاج إلى إصلاح، فهو من أجل هذا أورد الترجمة المتعلقة بربط الأسنان، وأورد الحديث الذي فيه ذكر الأنف، وهذا من جنسه.
واتخاذ الذهب في الأسنان في حق الرجال ممنوع منه إذا كان للزينة، وأما إذا كان للإصلاح وللتعويض عن ضرس أو سن وأتي بشيء من الذهب مكانه فهذا لا بأس به، أما إذا كانت الأسنان سليمة ثم يقوم بتلبيسها بذهب من أجل التجمل فإن ذلك لا يجوز؛ لأن الجواز إنما جاء للحاجة، والزينة ليست حاجة.
والحديث ورد في الأنف، والأنف إذا ذهب صار منظر الرجل مشوهاً وغير مستحسن، فكونه يوضع شيء من الذهب يغطيه بحيث لا ينتن فإن ذلك سائغ، ومثله ما يتعلق بالأسنان إذا كان لإصلاحها أو لتعويض ضرس أو سن فإن له أن يأتي مكانه بسن أو ضرس من ذهب، فلا بأس به.
أورد أبو داود حديث عرفجة بن أسعد رضي الله عنه: [(أنه قطع أنفه يوم الكلاب، فاتخذ أنفاً من ورق فأنتن عليه، فأمره النبي صلى عليه وسلم فاتخذ أنفاً من ذهب)].
هذا دليل على جواز استعمال الذهب في مثل ذلك، والأصل هو المنع كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه أخذ ذهباً وحريراً معه على المنبر فقال عليه الصلاة والسلام: هذان حرام على ذكور أمتي) فهذا الحديث فيه استثناء مثل هذه الصورة، ومثلها اتخاذ الذهب في الأسنان قياساً على ما جاء في هذا الحديث.(474/29)
تراجم رجال إسناد حديث عرفجة بن أسعد أن الرسول أمره أن يتخذ أنفاً من ذهب
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومحمد بن عبد الله الخزاعي].
محمد بن عبد الله الخزاعي ثقة، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثنا أبو الأشهب].
هو جعفر بن حيان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن طرفة].
عبد الرحمن بن طرفة وثقه العجلي، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[أن جده عرفجة بن أسعد].
عرفجة بن أسعد رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.(474/30)
شرح حديث عرفجة بن أسعد من طريق ثانية وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هارون وأبو عاصم قالا: حدثنا أبو الأشهب عن عبد الرحمن بن طرفة عن عرفجة بن أسعد رضي الله عنه بمعناه، قال يزيد: قلت لـ أبي الأشهب: أدرك عبد الرحمن بن طرفة جده عرفجة؟ قال: نعم].
وهذا إسناد آخر لم يذكر متنه، ولكن أحال على الذي قبله، وقال: بمعناه، أي أنه متفق معه في المعنى، وإن اختلف عنه في الألفاظ، أما إذا كانت الألفاظ متفقة، والمعاني كذلك، فإنه يقال مثله؛ لأن المثلية تكون باتفاق الألفاظ والمعاني.
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا يزيد بن هارون].
هو يزيد بن هارون الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأبو عاصم].
هو الضحاك بن مخلد النبيل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو الأشهب عن عبد الرحمن بن طرفة عن عرفجة بن أسعد].
وقد مر ذكر الثلاثة.
[قال يزيد: قلت لـ أبي الأشهب: أدرك عبد الرحمن بن طرفة جده عرفجة؟ قال: نعم].
هذا فيه بيان أن عبد الرحمن بن طرفة أدرك جده عرفجة بن أسعد.(474/31)
شرح حديث عرفجة بن أسعد من طريق ثالثة وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مؤمل بن هشام قال: حدثنا إسماعيل عن أبي الأشهب عن عبد الرحمن بن طرفة بن عرفجة بن أسعد عن أبيه أن عرفجة بمعناه].
أورد أبو داود الحديث من طريق ثالث، وأحال على ما تقدم بالمعنى.
قوله: [حدثنا مؤمل بن هشام].
مؤمل بن هشام هو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا إسماعيل].
هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم المشهور بـ ابن علية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الأشهب عن عبد الرحمن بن طرفة، عن أبيه أن عرفجة].
[عن أبيه].
هو طرفة بن عرفجة وهو مجهول، أخرج له أبو داود.(474/32)
الأسئلة(474/33)
حكم وضع شيء من الذهب في السلاح للزينة
السؤال
ما حكم من يضع في أسلحته كالخنجر وغيره شيئاً من الذهب للزينة في مقبضه مثلاً؟
الجواب
لا أدري، لكن إذا ورد شيء في هذا فلا بأس به، أما من الفضة فلا إشكال.(474/34)
حكم العدول من الفضة إلى الذهب بالنسبة للرجال في شد الأسنان
السؤال
إذا أمكن شد الأسنان بالفضة، فهل يجوز العدول إلى الذهب بالنسبة للرجال؟
الجواب
نعم يجوز؛ لأن الذهب كما هو معلوم يختلف عن الفضة؛ وذلك لأن الذي اتخذ أنفاً من فضة أنتن، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب.(474/35)
حكم قلع الذهب والفضة من أسنان الميت
السؤال
إذا مات الميت وفي أسنانه شيء من الذهب أو الفضة فهل يستخرج؟
الجواب
إذا كان استخراجه سهلاً فإنه يخرج، وإذا كان لا يستخرج إلا بتكسير الأسنان فإنه يترك.(474/36)
ما جاء في الذهب للنساء(474/37)
شرح حديث عائشة أن النجاشي أهدى للرسول حلية فيها خاتم من ذهب فأعطاه لأمامة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن نفيل حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق حدثني يحيى بن عباد عن أبيه عباد بن عبد الله عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قدمت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلية من عند النجاشي أهداها له، فيها خاتم من ذهب فيه فص حبشي، قالت: فأخذه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعود معرضاً عنه، أو ببعض أصابعه، ثم دعا أمامة بنت أبي العاص ابنة ابنته زينب، فقال: تحلي بهذا يا بنية!)].
أورد أبو داود [باب ما جاء في الذهب للنساء].
أي: جواز اتخاذ الذهب للنساء، وأنهن يتحلين به، والرجال كما هو معلوم قد منعوا منه، كما قال عليه الصلاة والسلام في الذهب والحرير: (هذان حرام على ذكور أمتي، حل لإناثها) فالذهب حل للإناث، ولهن أن يتجملن به، وأما الرجال فليس لهم ذلك، وإنما يجوز للرجال ما تدعو إليه الحاجة، كما تقدم في اتخاذ الأنف ومثله الأسنان.
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته حلية من النجاشي وفيها خاتم من ذهب، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم أو تناوله بأصابعه أو بعود ودعا بابنة ابنته زينب أمامة ابنة أبي العاص بن الربيع وقال: [(تحلي به يا بنية)] يعني: تجملي به يا بنية.
وهذا يدل على استعمال الذهب للنساء، حتى ولو كان محلقاً؛ لأن هذا الخاتم كان محلقاً، ومع ذلك أذن لـ أمامة في استعماله، وقال: [(تحلي به)].
إذاً: فهذا يدل على أن الذهب سائغ للنساء مطلقاً، سواء كان محلقاً أو غير محلق، فأكثر الزينة للنساء هي من قبيل المحلق؛ لأنها إما في الأصبع مثل: الخاتم، وإما في اليد مثل السوار، وإما أن تكون في الرقبة مثل القلادة، وكلها على شكل شيء محلق.
[(فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معرضاً عنه)].
يعني: كأنه لم يعجبه، ولكنه أعطاه لتلك الفتاة وقال: [(تحلي به)] فهو بالنسبة للرجال لا يصلح؛ ولذلك أعرض عنه، وأما في حق النساء فإنه يصلح لهن.(474/38)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة أن النجاشي أهدى للرسول بحلية فيها خاتم من ذهب فأعطاه لأمامة
قوله: [حدثنا ابن نفيل].
هو عبد الله بن محمد بن نفيل النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن سلمة].
هو محمد بن سلمة الباهلي الحراني وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني يحيى بن عباد].
يحيى بن عباد ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة، وأصحاب السنن.
[عن أبيه عباد بن عبد الله].
هو عباد بن عبد الله بن الزبير وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وقد مر ذكرها.(474/39)
حكم استخدام الرجل للذهب لغرض حفظه في يده أو قياسه عند شرائه
أما عن استخدام الرجل للذهب للحظات، كأن يجعله في يده حتى لا يضيع فليس له ذلك؛ لأن هذا لبس، ولكن يجعله في جيبه، وأما كونه يستعمله ليقيسه كالصائغ أو المشتري، فهذا لا بأس به إن شاء الله؛ لأن هذا ما هو لبساً، وإنما هو قياس.(474/40)
شرح حديث (من أحب أن يحلق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد العزيز -يعني ابن محمد - عن أسيد بن أبي أسيد البراد عن نافع بن عياش عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من أحب أن يحلق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب، ومن أحب أن يسور حبيبه سواراً من نار فليسوره سواراً من ذهب، ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(من أحب أن يحلق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب).
وهذا يدل على منع اتخاذ الذهب مطلقاً، سواء في حق الرجال أو في حق النساء، لكن سبق أن مر الحديث الذي قبل هذا، وجاءت الأحاديث في جواز اتخاذ الذهب المحلق بالنسبة للنساء، فلعل هذا الذي جاء كان في أول الأمر، ثم إنه أبيح على سبيل العموم.
قوله: [(ومن أحب أن يسور حبيبه سواراً من نار فليسوره سواراً من ذهب)].
وهذا من جنسه، السوار يكون في اليد.
قوله: [(ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها)].
يعني: توسعوا فيها واستعملوها كما تشاءون وكما تريدون.
قوله: [(أن يحلق حبيبه)].
يعني: هذا محتمل أن يكون رجلاً أو امرأة.
واستعمال المحلق بالنسبة للنساء جائز من الذهب وغيره، وهذا من باب الترجيح بين الأحاديث، أما القول بالشذوذ فلا؛ لأن الشذوذ يكون إذا جاء شيء يكون مروياً على وجهين متعارضين، وأحدهما معتمد، والثاني غير معتمد مثل ما جاء في صلاة الكسوف، فصلاة الكسوف صلاها الرسول صلى الله عليه وسلم صلاة واحدة يوم مات ابنه إبراهيم، وجاءت الصفات مختلفة، فبعضها يقول: في كل ركعة ركوعان، وبعضها في كل ركعة ثلاثة ركوعات، مع أنها صلاة واحدة، فإذاً: هناك محفوظ وهناك شاذ؛ لأنه لا يمكن أن تكون كلها صحيحة، فكونها ركوعين في كل ركعة هذا هو المحفوظ، أما ثلاثة ركوعات في كل ركعة فهذا هو الشاذ؛ لأنه لا يمكن التوفيق بينهما.
وأما هذا فإنه يحتمل أن يكون أرجح من هذا، لكن كما قلنا: إن هذا كان أولاً بالنسبة للنساء فقد جاء ما يدل على جواز استعمال النساء للذهب المحلق، أما إذا قلنا: إن الأصل هو الإباحة ثم جاء النهي، فإذاً تصير النساء لا تستعمل الذهب؛ لأن أكثر ما تستعمل النساء الذهب المحلق، فالذي في الأذن محلق، والذي في الرقبة محلق -على شكل حلقة- والذي في اليدين محلق، والذي في الأصبع محلق، فكيف تستعمل المرأة الذهب؟!! ويقول صاحب العون: وقد استدل العلامة الشوكاني في رسالته (الوشي المرقوم في تحريم حلية الذهب على العموم) بهذا الحديث على إباحة استعمال الفضة للرجال، بقوله صلى الله عليه وسلم (عليكم بالفضة فالعبوا بها) وقال: إسناده صحيح ورواته محتج بهم.
وأخرجه أحمد في مسنده من حديث أبي موسى الأشعري، قال: حدثنا عبد الصمد حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار حدثني أسيد بن أبي أسيد عن ابن أبي موسى عن أبيه أو عن ابن أبي قتادة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يحلق حبيبته حلقة من نار فليحلقها حلقة من ذهب، ومن سره أن يسور حبيبته سواراً من نار فليسورها سواراً من ذهب، ولكن الفضة فالعبوا بها لعباً) انتهى.
وحسن إسناده الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد، وأخرجه الطبراني في الكبير والأوسط من حديث سهل بن سعد مرفوعاًَ بلفظ: (من أحب أن يسور ولده سواراً من نار فليسوره سواراً من ذهب، ولكن الفضة العبوا بها كيف شئتم) قال الهيثمي في مجمع الزوائد: في إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف.
لكن قضية التوسع في الفضة للرجال غير واضح.(474/41)
تراجم رجال إسناد حديث (من أحب أن يحلق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد].
هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أسيد بن أبي أسيد البراد].
أسيد بن أبي أسيد البراد وهو صدوق أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.
[عن نافع بن عياش].
نافع بن عياش ويقال: ابن عباس وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(474/42)
شرح حديث (يا معشر النساء أما لكن في الفضة ما تحلين به)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن منصور عن ربعي بن حراش عن امرأته عن أخت لـ حذيفة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يا معشر النساء! أما لكن في الفضة ما تحلين به، أما إنه ليس منكن امرأة تحلى ذهباًَ تظهره إلا عذبت به)].
أورد أبو داود حديث أخت حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(يا معشر النساء أما لكن في الفضة ما تحلين به)].
يعني: بدل الذهب.
قوله: [(أما إنه ليس منكن امرأة تحلى ذهباًَ تظهره إلا عذبت به)].
وهذا فيه ذكر التحلي والإظهار، ومعلوم أن إظهار الزينة لغير المحارم محرم وهو لا يسوغ؛ لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] الآية.
فلبس الزينة سواء كانت ذهباً أو غيره وإظهارها لا يجوز أمام الأجانب، وأما استعمال الذهب والفضة للمرأة بدون أن تظهر زينتها للأجانب، فإن ذلك سائغ ولا بأس به.
وعلى هذا فالإنكار إنما هو للشيئين، ويمكن أن يحمل ذلك على أن المقصود هو الإظهار للزينة أمام الأجانب.(474/43)
تراجم رجال إسناد حديث (يا معشر النساء أما لكن في الفضة ما تحلين به)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو عوانة].
هو وضاح بن عبد الله اليشكري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن المعتمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ربعي بن حراش].
ربعي بن حراش ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن امرأته].
يقول الحافظ: لم أقف على اسمها، مقبولة، أخرج لها أبو داود والنسائي.
[عن أخت لـ حذيفة].
أخت حذيفة وهي صحابيه، أخرج حديثها أبو داود والنسائي.
والحديث فيه هذه المرأة المقبولة.(474/44)
شرح حديث (أيما امرأة تقلدت قلادة من ذهب قلدت في عنقها مثله من النار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان بن يزيد العطار حدثنا يحيى أن محمود بن عمرو الأنصاري حدثه أن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (أيما امرأة تقلدت قلادة من ذهب قلدت في عنقها مثله من النار يوم القيامة، وأيما امرأة جعلت في أذنها خرصاً من ذهب جعل في أذنها مثله من النار يوم القيامة)].
أورد أبو داود حديث أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(أيما امرأة تقلدت قلادة من ذهب قلدت في عنقها مثله من النار يوم القيامة، وأيما امرأة جعلت في أذنها خرصاً من ذهب جعل في أذنها مثله من النار يوم القيامة)].
وهذا مثل ما تقدم؛ لأن تلك تكون محلقة، والحديث في إسناده من هو متكلم فيه، ولو صح فهو محمول على ما كان موجوداً من قبل، أو محمول على أنه كان أولاً ثم بعد ذلك أبيح للنساء؛ لأن الأحاديث التي وردت في الحل المطلق كثيرة وصحيحة، وهي أصح من هذه، واستعمال الخواتيم موجود ومنه حديث ابن عباس في قصة النساء يوم العيد قال: (فجعلن يلقين من أقراطهن وخواتيمهن) أقراط للأذن وخواتيم في الأصابع.
ثم إذا منعت النساء من المحلق فليس هناك مجال لاستعمال الذهب؛ لأنه بالنسبة لهن إما في اليدين وإما في الأصابع وإما في الرقبة وإما في الآذان، وكل ذلك فيه تحريم.(474/45)
تراجم رجال إسناد حديث (أيما امرأة تقلدت قلادة من ذهب قلدت في عنقها مثله من النار)
قوله: [حدثنا موسى بن اسماعيل].
هو موسى بن اسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبان بن يزيد العطار].
أبان بن يزيد العطار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن أبي كثير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن محمود بن عمرو الأنصاري].
محمود بن عمرو الأنصاري وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أن أسماء بنت يزيد].
أسماء بنت يزيد وهي صحابية رضي الله عنها، أخرج حديثها البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.(474/46)
شرح حديث (أن رسول الله نهى عن ركوب النمار وعن لبس الذهب إلا مقطعاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حميد بن مسعدة حدثنا إسماعيل حدثنا خالد عن ميمون القناد عن أبي قلابة عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ركوب النمار، وعن لبس الذهب إلا مقطعاً).
قال: أبو داود: أبو قلابة لم يلق معاوية].
أورد أبو داود حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ركوب النمار)] أي: جلود النمار بأن تفترش وتكون على الدواب، سواء كانت على الإبل أو على الخيل، هذا هو المقصود بركوب النمار، وقد سبق أن مر معنا جملة من الأحاديث في هذا.
إذاً: ليس المقصود أن تركب النمار، ولكن المقصود هو الركوب على جلودها، حيث يوضع جلد النمر على رحل الناقة أو سرج الفرس.
وقد مر أن جلود السباع لا تستعمل، ولا يتخذها الناس لا في لبس ولا افتراش ولا ركوب على دواب.
قوله: [(وعن لبس الذهب إلا مقطعاً)] يعني: أنه قطع صغيرة، وهذا يخالف ما جاء في الأحاديث الكثيرة الدالة على استعماله مطلقاًَ في حق النساء، لكن ينبغي عدم الإسراف في الذهب وكثرة استعماله والتوسع فيه، بحيث يستعمل الذهب ولكن من غير إسراف، ومع ذلك تكون فيه الزكاة إذا بلغ نصاباً فأكثر.(474/47)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله نهى عن ركوب النمار وعن لبس الذهب إلا مقطعاً)
قوله: [حدثنا حميد بن مسعدة].
حميد بن مسعدة صدوق، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا إسماعيل].
هو إسماعيل بن علية وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا خالد].
هو خالد بن مهران الحذاء وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ميمون القناد].
ميمون القناد وهو مقبول أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبي قلابة].
هو عبد الله بن زيد الجرمي هو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معاوية بن أبي سفيان].
معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، أمير المؤمنين، وهو صحابي جليل، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: أبو قلابة لم يلق معاوية].
يعني: فيه أبو قلابة لم يلق معاوية، وفيه الراوي المقبول وهو ميمون القناد ففيه كلام، فيتضح بهذا أن استعمال الذهب في حق النساء جائز، وأن الأمر في ذلك واسع.
والشيخ الألباني يصحح الحديث مع وجود الانقطاع بين أبي قلابة ومعاوية، ولعل وجه التصحيح أنه جاء من طريق أخرى متصلة.(474/48)
الأسئلة(474/49)
عدم إخراج الذهب المحلق المفصول بفضة عن التحليق
السؤال
إذا كان الذهب المحلق مفصولاً بفضة، بحيث يكون بين الذهبين فضة، فهل يخرجه عن كونه محلقاً؟
الجواب
هذا لا يخرجه عن كونه محلقاً.(474/50)
حكم تشميت العاطس أثناء خطبة الجمعة
السؤال
هل يشمت من عطس أثناء خطبة الجمعة؟
الجواب
لا يشمت، لكن له أن يحمد الله، مثل المصلي إذا عطس له أن يحمد الله لكن لا يشمت.(474/51)
حكم عبارة (إن معركتنا مع اليهود سياسية لا دينية)
السؤال
هل قلتم بارك الله فيكم في إحدى أجوبتكم: إن معركتنا مع اليهود سياسية لا دينية؟ وما حكم هذه المقولة؟
الجواب
أنا ما قلت هذا الكلام، ومثل هذا الكلام كلام باطل، والعداوة من أجل الدين موجودة بين المسلمين وبين الكفار مطلقاً، سواء كانوا يهوداً أو غير يهود، وأما قضية السياسة وكون هذا يعتدي وهذا لا يعتدي، فهناك فرق بين من حصل منه اعتداء ومن لم يحصل منه اعتداء، وأما قضية الدين فالعداوة يجب أن تكون موجودة بين المسلم والكافر.(474/52)
وجه وصف عائشة بالصديقة بنت الصديق
السؤال
لا شك في فضل عائشة رضي الله عنها، لكن ما الدليل على أننا نصفها بأنها صديقة ونقول: الصديقة بنت الصديق؟
الجواب
بعض العلماء يذكر هذا؛ وذلك لفضلها وتميزها، وهي المقدمة في النساء، وأحب النساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم عائشة، ومن الرجال أبوها، كل ذلك يدل على فضلها.
وأبوها ما دام أنه الصديق وهو أحب الرجال إليه عليه الصلاة والسلام وهي أحب النساء إليه، فهي الصديقة بنت صديق، والصديق: هو الذي يكون تام التصديق بحيث لا يتردد، وهذا حاصل فيها وفي أبيها وحاصل في الصحابة في الجملة.(474/53)
حكم اتخاذ الرجل السوار من الفضة
السؤال
حديث أبي هريرة الذي في آخره: (ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها): هل فيه دليل على جواز اتخاذ الرجل سواراً من فضة؟
الجواب
التوسع في الفضة في حق الرجال حتى يتخذ سواراً أو يتخذ قلادة لا يستقيم.(474/54)
حكم قراءة الصبي في المصحف للتعليم على غير طهارة
السؤال
ما حكم قراءة الصبي الصغير في المصحف الكامل للتعليم وعمره خمس سنوات، وهو على غير طهارة؟
الجواب
لا يصلح أن يستعمل المصحف على غير طهارة لا كبير ولا صغير؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: كما في كتاب عمرو بن حزم: (ألا لا يمس القرآن إلا طاهر).
وكونه يعطى أجزاءً أو يكتب له في ألواح -بدل المصحف الكبير- على قدر استعماله وقدر حاجته أمر طيب، ولكنه لابد أن يكون متطهراً، ويعلم الطهارة، وأنه لا يستعمل المصحف ولا يستعمل القرآن إلا وهو متطهر.(474/55)
حكم الجرس المستخدم في الهاتف والساعة والبيت
السؤال
لا زال الإشكال في الجرس، فالآن كما تعلمون الجرس في الهاتف، وفي الساعة، وفي البيت، فإذا كان الأمر كذلك، فهل كل هذا يمنع من دخول الملائكة ومن رفقتها؟
الجواب
إن الجرس المحظور هو الجلجل الذي له رنين معين، وأما مجرد أي صوت كصوت المنبه الذي ليس فيه رنين الجلجل فلا يمنع منه، أما أصوات الجرس التي فيها موسيقى فهذه ممنوعة، وهناك أصوات ليس فيها رنين بل هي مجرد تنبيه كأصوات البهائم وأصوات الطيور المسجلة فهذه لا بأس بها.(474/56)
حكم إغلاق الجوالات عند دخول المساجد
السؤال
ما قولكم الآن في الجوالات التي تنبعث الأصوات منها والناس في صلاتهم؟
الجواب
الذي ينبغي للإنسان إذا دخل المسجد أن يقفل جواله ولا يتركه مفتوحاً، لأن بعض الناس يتركه مفتوحاً في الصلاة، ثم يظل مدة يرن وهو لم يسكته بعد، فيترتب على ذلك تشوش الناس، وأسوأ من ذلك أن الناس يصلون وتظهر صوت الموسيقى من الهاتف الجوال، فالذي ينبغي للإنسان أن يحذر من أن يحصل منه شيء لا ينبغي، فهو إذا جاء إلى المسجد أقفل جواله.(474/57)
حكم من منع أهله عن مجالس العلم
السؤال
أنا رجل أحب مجالس العلم، ولكن عمي يمنعني من الحضور، وإذا لم أطعه تحصل مشاكل كثيرة، فما هو الحل؟
الجواب
الحل أنك تبقى معه، والحل أنك أيضاً تسعى لأن تأتي به حتى يستفيد، وحتى يجد الراحة والفائدة، فيمكن أن يكون مثلك، فإذا اصطحبته معك في بعض الأحيان لعله يحصل بالمشاهدة ما لا يحصل بالابتعاد وعدم القرب، فبدل أن يبعدك عن مجالس العلم قربه إليها.(474/58)
حكم تسمية الولد بعبده
السؤال
هل يجوز أن أسمي ولدي عبده؟ الشيخ: الأسماء كثيرة، فمادام أنه سأل فهذا يدل على أن في نفسه منه شيئاً، فينبغي أن يسمي ولده باسم لا يكون في نفسه منه شيء، بحيث يسميه وهو على اطمئنان وارتياح، فيسميه عبد الله مثلاً أو عبد الرحمن أو عبد العزيز أو غير ذلك.
وغالباً أن عبده المقصود به عبد الله، ولكن لفظه ليس بواضح بل موهم، والإنسان عندما يسمي فليسم اسماً واضحاً جلياً، إن كان معبداً فليكن باسم من أسماء الله الحسنى، وهناك أسماء واضحة ليس فيها شيء من الخفاء، و (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).(474/59)
الدفاع عن الألباني وجهوده في علم السنة والحديث
السؤال
ما نصيحتكم فيمن ينال من الشيخ الألباني رحمه الله ويحذر منه؟ وما موقفنا من هذا الرجل؟
الجواب
من أعجب العجائب أن يحذر من إنسان خدم السنة، وأفنى حياته في الاطلاع على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والبحث فيها، وبيان ما يصح وما لا يصح! ينبغي للإنسان أن يدعو له، وأن يثني عليه، وأن يستفيد من علمه.
والحقيقة هناك شخصان لا يستغني المشتغل بالحديث عن الرجوع إليهما وهما: الحافظ ابن حجر، والشيخ الألباني، فالاستفادة من الحافظ ابن حجر فيما يتعلق بالحديث عظيمة، والاستفادة من الشيخ الألباني فيما يتعلق بالحديث عظيمة؛ ولهذا الذي يحذر من الألباني معناه أنه يحذر من معرفة الحق والوصول إلى السنة؛ لأن الشيخ الألباني خدم السنة والحديث خدمة فائقة، وله فيها عناية تامة، من تسهيل الوصول إليها وتقريبها لطلاب العلم، فهو حقيق بأن يثنى عليه وأن يدعى له.(474/60)
حكم حشو الأسنان بالفضة
السؤال
هل يجوز حشو الأسنان بشيء من الفضة، مع العلم أنه يوجد حشوات غالية من الفضة؟
الجواب
يحشو بالفضة أو بغير الفضة فكل ذلك جائز.(474/61)
الرد على افتراءات حسن المالكي في الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين
السؤال
وصل إلينا من مؤلفاتكم جزاكم الله خيراً كتاب (الانتصار للصحابة الأخيار في رد أباطيل حسن المالكي) من هو هذا المالكي، وهل لا زال حياً؟
الجواب
هو لا زال حياً، وبعض الأشياء ذكرها ولم يسبق إليها، بل هي من محدثات القرن الخامس عشر، مثل قوله: إن الصحابة هم المهاجرون والأنصار قبل الحديبية، وكل من كان بعد الحديبية لا يقال عنه صحابي، وإنما صحبته كصحبة المنافقين والكفار، ومعنى هذا أن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ليس بصحابي، وقد هو صرح بذلك فقال: إن العباس بن عبد المطلب ليس بصحابي، وهذه سبة وعار لمن يقول هذا الكلام، وخزي له في الدنيا قبل الآخرة، هل العباس بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بصحابي؟!! وكذلك عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن ليس بصحابي عنده، وإنما صحبته كصحبة المنافقين والكفار، فأكثر الصحابة أخرجهم عن أن يكونوا صحابة، فكل من أسلم بعد الحديبية أخرجه من أن يكون صحابياً، بل بعض الذين شهدوا الحديبية أخرجهم من مرتبة الصحبة، مثل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وهو الذي وقف على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم يحرسه ويظهر الاحتفاء به أمام الكفار في الحديبية، ولما جاء عروة بن مسعود الثقفي كان أثناء مخاطبته للرسول صلى الله عليه وسلم يمسك لحية الرسول صلى الله عليه وسلم بيده، فضرب المغيرة يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل هذا ليس صحابياً؟ وهو ممن بايع تحت الشجرة، وممن قال الله فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لن يلج النار أحد بايع تحت الشجرة)، ومع ذلك يقول مثل هذا الكلام.
هذا الرجل موجود، وهو شاب من الأحداث، ومع ذلك يتعالم ويأتي بأشياء ما سبق إليها، وأنا أقول: مثل هذا الكلام الذي أتى به يعتبر خزياً وعاراً وسبة في حق من يقوله، كذلك يقول: أبو هريرة ليس بصحابي، وأبو موسى الأشعري ليس بصحابي، والعباس ليس بصحابي، وابن عباس ليس بصحابي، وعمرو بن العاص ليس بصحابي، ومعاوية ليس بصحابي، وأكثر الصحابة ليسوا بصحابة! هذا القول من محدثات القرن الخامس عشر، وكما يقولون: أهل البدع يرث بعضهم بعضاً، ولكل قوم وارث، ويقولون: كم ترك الأول للآخر في الخير والشر! فأولئك الأشرار من أهل الأهواء والبدع ما تفوهوا بهذا الكلام، تركوه للمالكي، وما وصلوا إلى حد هذا الكلام.(474/62)
ضرورة التدرج في الحفظ للمتون بعد القرآن
السؤال
يقول شخص: أنا طالب والحمد لله أن الحفظ سهل علي، وأريد أن أحفظ مسند الإمام أحمد، وقبل الشروع في حفظه أريد توجيهكم ونصيحتكم هل أبدأ؟
الجواب
أولاً: لا أدري ماذا حفظت قبل ذلك؟ هل حفظت القرآن؟ هل أتقنت حفظ القرآن وأجدت حفظه؟ لا تفكر بأن تحفظ شيئاً مثل هذه الكتب المطولة قبل أن تحفظ القرآن، لا بأس أن تحفظ كتباً مختصرة لا تشغل عما هو أهم منها وهو القرآن، فالإنسان إذا حفظ القرآن فهو أهم شيء يحفظ، ثم بعد ذلك يمكن أن يحفظ على التدريج مثل: الأربعين النووية، ومثل: عمدة الأحكام للحافظ المقدسي، وهي تزيد على ثلاثمائة حديث من المتفق عليه، وإذا كان يريد أكثر من ذلك فليحفظ اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، وهو ألف وتسعمائة وستة أحاديث، وكلها اتفق عليها البخاري ومسلم، فالإنسان إذا أراد أن يحفظ، فإنه يحفظ مثل هذا.
أما كونه يحفظ مسند الإمام أحمد بأسانيده ومتونه فلا أدري هل يمكنه ذلك، أو أنه يشغله عن شيء أهم منه، والمسند فيه عشرات الآلاف من الأحاديث، فأنا أوصي السائل وغيره بالعناية بالقرآن أولاً، ثم بالتدرج في الحفظ.(474/63)
جواز لبس الخاتم من الفضة
السؤال
هل يجوز رد هدية الخاتم الفضة؟
الجواب
خاتم الفضة التحلي به مباح للرجال لا مانع منه.(474/64)
حكم استعمال الساعة أو القلم المخلوطين بالذهب
السؤال
إذا كانت الساعة أو القلم مخلوطاً بشيء من الذهب، فهل يجوز استخدامه؟
الجواب
على الرجل المسلم أن يبتعد من الذهب مطلقاً خالصاً ومخلوطاً، وأقل أحوال المخلوط أن يكون من الشبهة، وفي الحديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).(474/65)
وجه الرد على من يسب الصحابة والعلماء ويكفر المسلمين
السؤال
ما وجه الرد على من يسب الصحابة ويكفر المجتمعات، ويطعن في أهل العلم؟
الجواب
الرد على أهل البدع، وبيان فساد ما هم عليه، والدفاع عن خيار هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سار على منوالهم، هذا من الجهاد في سبيل الله، ومن إظهار الحق ودحض الباطل.(474/66)
شرح سنن أبي داود [475]
لقد أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على جملة من علم الغيب المتعلق بالفتن التي ستحدث من بعد عهد النبوة إلى آخر الزمان وقيام القيامة، وسمى تلك الفتن وأخبر عن مواقعها وأسماء أصحابها، ولكن لم يخبر عن أزمانها، ويخطئ كثيراً من أنزل الفتن على أحداث بأعينها غير عابئ بما مضى أو سيأتي من أزمان.(475/1)
ما جاء في الفتن ودلائلها(475/2)
شرح حديث حذيفة بن اليمان في الفتن
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [كتاب الفتن والملاحم.
باب ذكر الفتن ودلائلها.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قائماً, فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابه هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [كتاب الفتن والملاحم].
هذه الترجمة مشتملة على أمرين: على الفتن وعلى الملاحم، ولكن الأحاديث التي فيها تتعلق بالفتن، وأما الملاحم فقد عقد لها كتاباً يخصها، وجعل كتاب المهدي بين كتابي الفتن والملاحم، فما أدري ما سبب هذا التقسيم أو هذا التوسيع، ولو كانت الملاحم تتبع الفتن فإن الأمر واضح، لكنه وسط بينها كتاباً هو كتاب المهدي.
والمقصود بالفتن هي التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها تحصل طبقاً لما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وأصل الفتنة أو الفتن هو الامتحان والاختبار، يقول الله عز وجل: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35].
وأما الملاحم فهي المعارك التي يلتحم فيها الناس، وكأنها مأخوذة من امتزاج اللحم باللحم، والمراد من ذلك الاقتتال الذي يكون بين المسلمين مع بعضهم البعض، أو مع أصناف الكفار مما أخبر به النبي الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ثم يقع في المستقبل طبقاً لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أورد أبو داود باب ذكر الفتن ودلائلها.
وأورد حديث حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه) أي: حدث به أصحابه من الفتن والأمور المستقبلة، والمقصود من ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بها في ذلك الموقف، وأنه يكون كذا ويكون كذا، ويكون كذا كل ذلك ذكره صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهذا من علم الغيب الذي أطلعه الله عز وجل عليه.(475/3)
تفرد الله بعلم الغيب وإطلاعه لرسله ما شاء منه
إن الله تعالى هو المتفرد بعلم الغيب، إذ لا يعلم الغيب على الإطلاق إلا الله سبحانه وتعالى، وغيره لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على كثير من الغيوب، ولكنه لم يطلعه على كل شيء، وإنما أطلعه على ما شاء من الغيب، كما قال عز وجل: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن:26 - 27]، وعلى هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب على الإطلاق، وإنما الذي يعلم الغيب على الإطلاق هو الله وحده سبحانه وتعالى، ولا أحد يشاركه في ذلك، كما قال عز وجل: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم من الغيب ما أطلعه الله عليه وما لم يطلعه عليه فإنه لا يعلمه، وسواء كان ذلك في الأمور المستقبلة، أو الأمور التي كانت موجودة في زمانه صلى الله عليه وسلم، فمما هو موجود وحصل في زمانه، ولم يطلع عليه: قصة الإفك، وكون النبي صلى الله عليه وسلم رميت زوجته أم المؤمنين بالإفك ولم يعلم أنها بريئة، ولهذا كان يأتي إليها ويقول: (يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنباً فتوبي إلى الله واستغفريه)، ولو كان يعلم الغيب من أول وهلة لما شاع الخبر، ولقال: هذا غير صحيح أنا أعلم الغيب وما حصل شيء من هذا؛ ولكنه لم يعلم الحقيقة إلا بعد أن أنزل الله عز وجل عليه الوحي الذي يتلى في سورة النور.
وكذلك قصة العقد الذي فقد لـ عائشة وقد جلسوا تلك الليلة يبحثون عنه ولم يرتحلوا، والرسول صلى الله عليه وسلم أرسل من يبحث عنه، وبعد أن أصبحوا وليس معهم ماء أنزل الله التيمم فتيمموا، ولما أرادوا الارتحال وأثاروا الإبل إذا بالعقد تحت الجمل الذي تركب عليه عائشة، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب لعرف مكان ذلك العقد، ولم يجلس الناس تلك الليلة يبحثون، ولم يرسل أحداً يبحث عنه، وإنما قال: استخرجوه من تحت البعير الذي تركب عليه عائشة.
وكذلك قد ذكر أنه يذاد أناس عن الحوض يوم القيامة وفيهم من هو من أصحابه، ولكنه ارتد بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ومات على أيدي الجيوش المظفرة التي بعثها أبو بكر رضي الله عنه لقتال المرتدين، قال عليه الصلاة والسلام: (فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) فلو كان يعلم الغيب لذكر أسماء الذين سيرتدون من أصحابه ويذكر فعلهم، وإنما كان يعرف أنهم مسلمون وأنهم من أصحابه، وقال: (أصحابي أصحابي) لما حصلت الذيادة عن الحوض، فقيل له: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك).
والله تعالى أمر نبيه أن يبين أنه لا يعلم الغيب بقوله: (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} [هود:31]، وقال الله عز وجل في سورة الأعراف: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188]، فعلم الغيب على الإطلاق إنما هو من خصائص الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم من الغيوب ما أطلعه الله عليه، وأما الغلو فيه وزعم أنه يطلع على الغيوب، فهذا غير صحيح على الإطلاق، وإنما يعلم ما أطلعه الله عز وجل عليه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [(قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائماً، فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه)].
يعني: حفظه من حفظه من أصحابه، ونسيه من نسيه منهم.
قوله: [(قد علمه أصحابه هؤلاء)].
يعني: كانوا موجودين في وقت تحديث حذيفة بالحديث.
قوله: [(وإنه ليكون منه الشيء فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه)].
أي: ما وقع فإنه يذكره عند وقوعه، كما أن الإنسان يذكر من غاب عنه ثم لقيه، وكذلك تلك الأخبار التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معلومة في أذهان من عرفها ومن علمها، فإذا وقعت طبقاً لذلك الخبر، تذكر ذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار الذي وقع مطابقاً للخبر، فصار مثل الرجل الذي كان يعرف إنساناً قد غاب عنه مدة، ثم لقيه فتذكره.(475/4)
تراجم رجال إسناد حديث حذيفة بن اليمان في الفتن
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فأخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي وائل].
هو شقيق بن سلمة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو مخضرم، والمخضرم هو من أدرك الجاهلية والإسلام ولم يلق النبي صلى الله عليه وسلم.
[عن حذيفة].
هو حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما وهو صحابي ابن صحابي، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(475/5)
شرح حديث (يكون في هذه الأمة أربع فتن في آخرها الفناء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا أبو داود الحفري عن بدر بن عثمان عن عامر عن رجل عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يكون في هذه الأمة أربع فتن في آخرها الفناء)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: (يكون في هذه الأمة أربع فتن في آخرها الفناء)، والفناء هو الموت، وهذا الحديث ذكر فيه هذه الفتن وهي مجملة، والإسناد فيه ضعف؛ لأن فيه رجلاً مبهماً لم يذكر؛ لأنه قال: (عن رجل)، والرجل مبهم، وفي علم الإسناد إذا قيل: عن رجل.
فهو مبهم، وإذا ذكر اسمه ولم يذكر اسم أبيه، أو: اسمه واسم أبيه ولكنه محتمل لعدة أشخاص فيقال له: مهمل، يعني: غير موضح النسبة، بحيث يحصل الاشتراك في ذلك، إما في الاسم وإما في اسم الأب، وإما في اسم الأب مع الاسم، فيكون من قبيل المهمل، وأما هذا فهو مبهم؛ لأنه غير معروف سواء كان رجلاً أو وامرأة.(475/6)
تراجم رجال إسناد حديث (يكون في هذه الأمة أربع فتن في آخرها الفناء)
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هو هارون بن عبد الله بن مروان البغدادي لقبه الحمال، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو داود الحفري].
أبو داود الحفري هو عمر بن سعد، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
والحفري نسبة إلى محلة في الكوفة، يقال: لها الحفر.
[عن بدر بن عثمان].
بدر بن عثمان ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة في التفسير.
[عن عامر].
عامر هو الشعبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رجل عن عبد الله].
عن رجل مبهم، عن عبد الله وهو ابن مسعود الهذلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد فقهاء الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(475/7)
شرح حديث (ثم فتنة السراء دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن عثمان بن سعيد الحمصي حدثنا أبو المغيرة حدثني عبد الله بن سالم حدثني العلاء بن عتبة عن عمير بن هانئ العنسي قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: (كنا قعوداً عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر الفتن فأكثر في ذكرها حتى ذكر فتنة الأحلاس، فقال قائل: يا رسول الله! وما فتنة الأحلاس؟ قال: هي هرب وحرب، ثم فتنة السراء دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني، وإنما أوليائي المتقون، ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع، ثم فتنة الدهيماء لا تدع أحداً من هذه الأمة إلا لطمته لطمة، فإذا قيل: انقضت تمادت، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، فإذا كان ذاكم فانتظروا الدجال من يومه أو من غده)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الفتن فأكثر من ذكرها، قال: حتى ذكر فتنة الأحلاس، فقال قائل: وما فتنة الأحلاس يا رسول الله؟ قال: هي هرب وحرب).
والحرب ذهاب المال والأهل، والهروب والشرود يكون بسبب الفتن، وقيل لها: الأحلاس؛ لمكثها وطولها، وذلك مأخوذ من الحلس وهو الفراش الذي يوضع في الأرض ويجلس عليه فيكون باقياً حتى يزال ويحرك من مكانه، ويقولون عن الرجل إذا كان ملازماً لبيته: حلس بيته، يعني: أنه ملازم لبيته كالحلس والفراش الثابت والمستقر ويجلس عليه صاحبه.
قوله: [(ثم فتنة السراء دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني)].
السراء من السرور وهو كثرة التنعم والافتتان بالدنيا ونعمها، وأن الناس يفتنون بالدنيا والأكل من طيباتها والاشتغال بها، فهي مقابل الضراء، كما جاء في الحديث: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن).
قوله: [(دخنها تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني)].
يعني: أن غبارها ودخانها الذي يخرج بسبب ذلك الرجل الذي يزعم أنه منه، وليس هو منه على الحقيقة، وإن كان قد يكون منه من حيث النسب، ولكن كونه ليس على منهاجه وطريقته فليس منه، كما في حق ابن نوح الذي قال الله عنه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46] مع أنه وعده بنجاته هو وأهله، فقيل: ((لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)) يعني: ليس من أهله الناجين وإن كان من أهله من حيث النسب ومن حيث التوالد، ولكنه ليس منه على الحقيقة باعتبار الدين.
قوله: (وإنما أوليائي المتقون) أي: أنه ليس من أوليائه وإنما هو من قرابته، ولكنه ليس على دينه ومنهجه وطريقته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والمتقون هم أولياء الرسول صلى الله عليه وسلم الذين هم على طريقته ومنهجه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) فأولياؤه هم المتقون، ومن كان من أهل بيته وعلى منهاجه وطريقته فقد جمع بين الحسنيين، كونه من قرابته وكونه على منهاجه وطريقته، وأما إن كان من أهل بيته ولكنه ليس على طريقته أو ليس من أهل دينه فإن ذلك لا ينفعه عند الله عز وجل، كما حصل ذلك لـ أبي لهب، فإن نسبه نسب شريف، وهو نسب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الكفر هو الذي أقصاه وأبعده، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، يعني: من أخره عمله فنسبه ليس هو الذي يقدمه، فالعبرة بالأعمال الصالحة، وهي التي تنفع، وهي التي تفيد في الدنيا والآخرة، وأما الأنساب وشرفها فهي حسنة مع وجود الأصل والأساس من الدين والإسلام والتقى والاستقامة على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول الشاعر: لعمرك ما الإنسان إلا بدينه فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب فقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب هذا أبو لهب نسيب ولكن الشرك هو الذي وضعه، وسلمان الفارسي رفعه الله تعالى بالإسلام.
قال: (وإنما أوليائي المتقون)، كما قال الله عز وجل: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] هؤلاء هم أولياء الله على الحقيقة، وولاية الله هي الاستقامة على طاعته، وامتثال ما جاء عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام، كما جاء في هذه الآية: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] من هم؟ {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63].
قوله: [(ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع)]، يعني: أنه ليس له ثبات أو استقامة، وذلك أن الضلع لا يحمل الورك؛ لأن وضع الورك تحت الضلع فيه الإشارة إلى عدم الثبوت وعدم الاستقرار، وأن ذلك لا يتم ولا يحصل كما أن الورك لا يحمله الضلع، وحتى لو كان بالعكس، وأن الضلع يكون فوقه الورك؛ فإنه لا يحمله لضعف الضلع وضخامة الورك بالنسبة له.
قوله: [(ثم فتنة الدهيماء لا تدع أحداً من هذه الأمة إلا لطمته لطمة)]، يعني: أصيب بها وحصل له منها نصيب، وصغرت الدهيماء للشدة، وقد يصغر الشيء لا للتهوين والتحقير وإنما للشدة، كما في بيت من الشعر: وكل أناس سوف تدخل بينهم دويهية تصفر منها الأنامل قوله: [(لا تدع أحداً من هذه الأمة إلا لطمته لطمة)] يعني: حصل له نصيب منها.
قوله: [(فإذا قيل انقضت تمادت)] أي: أنها تدوم وتستمر، وكلما قيل: انقضت، تمادت وزادت في الاستمرار وطالت.
قوله: [(يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً)].
وذلك لكثرة الفتن، فيصبح الإنسان وهو مؤمن ثم يأتي في المساء وهو كافر والعياذ بالله، أو يمسي وهو مؤمن ثم يصبح وهو كافر، لما يحصل له من الافتتان، وتغير الأحوال، فيكون الإنسان على الإسلام وبعد فترة وجيزة يتحول منه إلى الكفر والعياذ بالله.
قوله: [(حتى يصير الناس إلى فسطاطين)] يعني: جماعتين.
قوله: [(فسطاط إيمان لا نفاق فيه)]، يعني: خالص ليس معه نفاق، وإنما هو إيمان ظاهر وباطن، خلاف النفاق فإنه إيمان ظاهر وكفر باطن، {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] فالمنافق يظهر الإيمان ويبطن الكفر، وسبب ذلك قوة وعزة الإسلام؛ لأنه لخبثه ولحقده يريد أن يعيش مع الناس ويظهر لهم ما يريدون ويخفي الكفر بالله.
قوله: [(وفسطاط نفاق لا إيمان فيه)] يعني: نفاق خالص، يعني: كفر ظاهر.
قوله: [(فإذا كان ذاكم فانتظروا الدجال من يومه أو من غده)].
يعني: في ذلك الوقت يكون الدجال على وشك الخروج والظهور.(475/8)
تراجم رجال إسناد حديث (ثم فتنة السراء دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني)
قوله: [حدثنا يحيى بن عثمان بن سعيد الحمصي].
يحيى بن عثمان بن سعيد الحمصي صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا أبو المغيرة].
أبو المغيرة هو عبد القدوس بن الحجاج، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عبد الله بن سالم].
عبد الله بن سالم ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثني العلاء بن عتبة].
العلاء بن عتبة صدوق، أخرج له أبو داود.
[عن عمير بن هانئ العنسي].
عمير بن هانئ العنسي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت عبد الله بن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(475/9)
شرح حديث (والله ما ترك رسول الله من قائد فتنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا ابن أبي مريم أخبرنا ابن فروخ أخبرني أسامة بن زيد أخبرني ابن لـ قبيصة بن ذؤيب عن أبيه قال: قال حذيفة بن اليمان: (والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوا؟ والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعداً إلا قد سماه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته)].
ذكر أبو داود حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه وفيه بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن قادة الفتن ممن كان أتباعه ثلاثمائة فأكثر، ومعنى ذلك: أن من كان دون هذا فإنه لم يذكره، لكن هذا الحديث ضعيف؛ لأن في إسناده الابن المبهم لـ قبيصة رضي الله تعالى عنه، فهو غير صحيح.(475/10)
تراجم رجال إسناد حديث (والله ما ترك رسول الله من قائد فتنة)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا ابن أبي مريم].
ابن أبي مريم هو سعيد بن الحكم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن فروخ].
هو عبد الله بن فروخ، وهو صدوق يغلط، أخرج له أبو داود.
[أخبرني أسامة بن زيد].
هو أسامة بن زيد الليثي، وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرني ابن لـ قبيصة بن ذؤيب عن أبيه].
قيل: هو إسحاق، وصاحب الرواية عن قبيصة مجهول.
وقبيصة بن ذؤيب صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال حذيفة].
وقد مر ذكره.(475/11)
شرح حديث حذيفة (إن الناس كانوا يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن نصر بن عاصم عن سبيع بن خالد قال: أتيت الكوفة في زمن فتحت تُسترَ أجلب منها بغالاً، فدخلت المسجد فإذا صَدعَ من الرجال، وإذا رجل جالس تعرف إذا رأيته أنه من رجال أهل الحجاز، قال: قلت: من هذا؟ فتجهمني القوم وقالوا: أما تعرف هذا؟! هذا حذيفة بن اليمان صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال حذيفة: (إن الناس كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، فأحدقه القوم بأبصارهم، فقال: إني قد أرى الذي تنكرون، إني قلت: يا رسول الله! أرأيت هذا الخير الذي أعطانا الله، أيكون بعده شر كما كان قبله؟ قال: نعم، قلت: فما العصمة من ذلك؟ قال: السيف، قلت: يا رسول الله! ثم ماذا يكون؟ قال: إن كان لله خليفة في الأرض فضرب ظهرك وأخذ مالك فأطعه وإلا فمت عاض بجذل شجرة، قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم يخرج الدجال معه نهر ونار، فمن وقع في ناره وجب أجره وحط وزره، ومن وقع في نهره وجب وزره وحط أجره، قال: قلت: ثم ماذا؟ قال: هي قيام الساعة)].
أورد أبو داود حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وفيه: أن سبيع بن خالد قال: قدمت الكوفة فأتيت مسجدها وإذا فيها صدع من الرجال، وبينهم رجل يظهر أنه من أهل الحجاز، فقلت: من هذا؟ فتجهمه الناس، واستغربوا سؤاله، فقالوا: هذا حذيفة بن اليمان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا قيام الصحابة رضي الله عنه وأرضاهم بنشر العلم، وبيان السنن، ومعلوم أنهم رضي الله عنهم وأرضاهم خرجوا من المدينة وانتشروا في الآفاق لنشر السنن وبيان الأحكام الشرعية، ولم يبق في المدينة منهم إلا القليل، وخرج أكثرهم وتفرقوا في الآفاق في الشام ومصر والعراق واليمن، وأماكن مختلفة، كل ذلك لبيان سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على قيامهم بنشر السنن، وحرصهم على تلقيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حرصهم على إبلاغها للناس، وإيصالها إليهم ليعملوا بها، وليستقيموا على ما جاء عن الله وعن رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ثم إن كون أولئك القوم يحتفون بأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحرصون على الاستفادة منهم، وكونهم يستغربون عمن يسأل عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، كل هذا يدلنا على علو منزلة الصحابة في قلوب التابعين، واحتفائهم بهم، وحرصهم على التلقي منهم، والأخذ عنهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
قوله: [أتيت الكوفة في زمن فتحت تستر].
تستر مدينة من مدن الجهة الشرقية، وفتحت سنة عشرين للهجرة في أيام عمر.
قوله: [أجلب منها بغالاً، فدخلت المسجد فإذا صدع من الرجال].
أي: جماعة من الرجال.
قوله: [وإذا رجل جالس تعرف إذا رأيته أنه من رجال أهل الحجاز، قال: فقلت: من هذا؟ فتجهمني القوم، وقالوا: أما تعرف هذا؟ هذا حذيفة بن اليمان صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم].
المقصود هنا: المكانة والحفاوة، وقولهم: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: هذا ظفر كبير كون التابعين يحصلون واحداً من الصحابة، وقد سبق أن مر بنا في سنن أبي داود حديث هلال بن يسار، الذي فيه: دخلت الرقة، فقال لي بعض أصحابي: ألك في رجل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: غنيمة، يعني: كونه يلتقي بأحد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم هذا يعتبر غنيمة.
قوله: [(فقال حذيفة: إن الناس كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، فأحدقه القوم بأبصارهم)].
مما حدث به في ذلك المجلس الذي حضره سبيع بن خالد، قال: (إن الناس كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر، يعني: كان الناس يسألونه عن أمور يتعبدون الله تعالى بها، وكنت أسأله عن الشر، فحدقه الناس بأبصارهم لما ذكر أنه كان يسأل عن الشر، يعني: الأصل هنا أنه يسأله عن الخير، والسؤال عن الشر أمر مستغرب، وكان رضي الله عنه يقول: مخافة أن يدركني، وكان يسأل عن الشر حتى يكون على بينة لو أدرك ذلك الشر، أو كان في ذلك الزمن كيف يصنع).
قوله: [(فأحدقه القوم بأبصارهم)]، يعني: نظروا إليه لما قال بأنه كان يسأل عن الشر.
قوله: [(فقال: إني قد أرى الذي تنكرون)]، يعني: أنهم ينكرون أنه يسأل عن الشر، ولكنه فعل ذلك من أجل أن يكون على علم به حتى يأخذ بأسباب السلامة.
قوله: [(إني قلت: يا رسول الله! أرأيت هذا الخير الذي أعطانا الله، أيكون بعده شر كما كان قبله؟ قال: نعم)].
والخير هو بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، ودخول الناس في هذا الدين، وخروجهم من الظلمات إلى النور، فسأله: هل يكون بعده شر كما كان؟ لأن قبل ذلك كانت الجاهلية، والله عز وجل أرسل رسوله بالهدى، فأخرج به الناس من الظلمات إلى النور، فهذا خير، وكان الناس على شر.
قوله: [(قال: نعم، قلت: فما العصمة من ذلك؟ قال: السيف)].
يعني: ما الذي يقي من ذلك؟ وما هي سبل الخلاص من ذلك؟ قال: السيف، والمقصود من ذلك: قتال من يستحق القتال ليقضى على فتنه وشره، ويخلص الناس مما ظهر به من الشر.
وهو إما قتال لمن يقاتل، أو قتل لمن يستحق القتل ممن يكون مرتداً، أو صاحب شر يستحق القتل للتخلص من شره، ومن فتنته.
قوله: [(قلت: يا رسول الله! ثم ماذا يكون؟ قال: إن كان لله خليفة في الأرض فضرب ظهرك وأخذ مالك فأطعه وإلا فمت عاض بجذل شجرة)]، أي: لا تخرج عن الجماعة، ولو حصل لك ما حصل من الضرر، بل عليك أن تصبر وأن تحتسب، والجماعة وملازمتها أمر مطلوب، ولو حصل للإنسان الضرر؛ فإنه لا يفارق الجماعة ويخرج عنها بسبب ما يحصل له من ضرر، أو ما يفوته من مصلحة، وإنما عليه أن يصبر؛ لأن الجماعة خير ولو حصل شيء من الظلم أو الجور، فإن الظلم والجور ضرره نسبي، وأما الفوضى والاختلاف وعدم وجود ولاية؛ فإنه يأكل القوي الضعيف، ولا يستقيم للناس أمر، ولا يأمنون على أنفسهم ولا على أموالهم ولا على أعراضهم، وهم دائماً يضعون أيديهم على قلوبهم من شدة الخوف والرعب لكون أهل الفساد ليس لهم صاد ولا راد، ولهذا جاء عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، أي: إن كثيراً من الناس لا تؤثر فيه القوارع والزواجر بالقرآن ولا تحرك به لهم ساكناً، ولكنه الخوف من العصا والسوط والأدب، والعصا لمن عصا كما يقولون، فمقالة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه مقالة عظيمة.
قوله: [(إن كان لله خليفة في الأرض فضرب ظهرك أو أخذ مالك فأطعه وإلا فمت وأنت عاض بجذل شجر)].
يعني: إذا كانت الفتن والاضطرابات والفوضى، وليس هناك ولاية تقيم الدين وتردع المعتدين وتقضي على المجرمين، وكان الناس متفرقين فاعتزل تلك الفرق، ولو أتاك الموت وأنت عاض على جذل شجرة، أي: أصل شجرة، تبقى تحتها وتلازمها مبتعداً عن الشرور والفتن التي حصلت بين الناس.
قوله: (قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم يخرج الدجال معه نهر ونار فمن وقع في ناره وجب أجره وحط وزر).
ثم يخرج الدجال معه نهر ونار، ويأتي الناس ومعه فتن وبلاء فمن أخذ النهر فإنه يحصل الشر ويحصل الوزر، ومن أخذ بالنار التي معه فإن هذا هو الذي يسلم، وهو الذي يحصل الأجر ويسلم من الوزر.
وهذا من جملة أحاديث الدجال المتواترة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه يخرج في آخر الزمان، ويكون ذلك في وقت نزول عيسى بن مريم، وإذا نزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من السماء فإنه هو الذي يتولى قتل الدجال بنفسه، وسيكون مسيح الهداية عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام يقتل مسيح الضلالة الدجال، فعيسى يقال له: المسيح، والدجال يقال له: المسيح.
قوله: [(قال: قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم هي قيام الساعة)].
يعني: بعد ذلك قيام الساعة وانتهاء الدنيا.(475/12)
تراجم رجال إسناد حديث حذيفة (إن الناس كانوا يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو عوانة].
أبو عوانة هو وضاح بن عبد الله اليشكري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نصر بن عاصم].
نصر بن عاصم ثقة، أخرج له البخاري في رفع اليدين ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن سبيع بن خالد].
سبيع بن خالد مقبول، أخرج له أبو داود.
[حذيفة بن اليمان].
حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وقد مر ذكره، ولكن الحديث جاء في الصحيحين وفي غيرهما بألفاظ أخرى.(475/13)
بيان معنى قوله: (إن كان لله خليفة في الأرض)
قوله في الحديث: (إن كان لله خليفة في الأرض) المقصود به: خليفة من الله وليس خليفة عن الله.
وهل يقال للإنسان: خليفة الله؟ إن أريد بخليفة الله أنه خليفة عن الله، فهذا كلام غير صحيح؛ لأن الله حي شاهد لا يغيب، مطلع على كل شيء، حي لا يموت، وإن أريد به أنه خليفة من الله تعالى جعله يخلف غيره ممن تقدمه، والله تعالى هو الذي يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، فيكون صحيحاً.(475/14)
شرح حديث حذيفة (إن الناس كانوا يسألون رسول الله عن الخير) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن نصر بن عاصم عن خالد بن خالد اليشكري بهذا الحديث: (قال: قلت: بعد السيف؟ قال: بقية على أقذاء وهدنة على دخن) ثم ساق الحديث، قال: وكان قتادة يضعه على الردة التي في زمن أبي بكر (على أقذاء) يقول: قذى، (وهدنة) يقول: صلح، (على دخن): على ضغائن].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وفيه بعد السيف: (بقية على أقذاء)، والأقذاء: جمع قذى، أي: أنها منكرة.
قوله: [(وهدنة على دخن)] يعني: يوجد اتفاق، ثم يكون هذا الاتفاق ليس ظاهراً وباطناً، وإنما تتخلله الضغائن.
قوله: [ثم ساق الحديث، قال: وكان قتادة يضعه على الردة التي في زمن أبي بكر].
ذكر أن قتادة رضي الله عنه وهو أحد الرواة كان يضعه على الردة التي حصلت في زمن أبي بكر من قتال المرتدين.
قوله: [(على أقذاء) يقول: قذى، (وهدنة): يقول: صلح، (على دخن): على ضغائن].
هذا التفسير.(475/15)
تراجم رجال إسناد حديث حذيفة (إن الناس كانوا يسألون رسول الله عن الخير) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
محمد بن يحيى بن فارس ثقة، وقد مر ذكره.
[حدثنا عبد الرزاق] هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر].
هو معمر بن راشد البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة مر ذكره.
[عن نصر بن عاصم عن خالد بن خالد اليشكري].
نصر بن عاصم مر ذكره، وخالد قيل هو: سبيع بن خالد الذي مر ذكره.(475/16)
شرح حديث (فإن تمت يا حذيفة وأنت عاض على جذل خير من أن تتبع أحداً منهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي حدثنا سليمان -يعني ابن المغيرة - عن حميد عن نصر بن عاصم الليثي قال: أتينا اليشكري في رهط من بني ليث، فقال: من القوم؟ قلنا: بنو ليث أتيناك نسألك عن حديث حذيفة رضي الله عنه فذكر الحديث قال: (قلت: يا رسول الله! هل بعد هذا الخير شر؟ قال: فتنة وشر، قال: قلت: يا رسول الله! هل بعد هذا الشر خير، قال: يا حذيفة! تعلم كتاب الله واتبع ما فيه.
ثلاث مرار، قلت: يا رسول الله! هل بعد هذا الشر خير؟ قال: هدنة على دخن وجماعة على أقذاء فيها أو فيهم، قلت: يا رسول الله! الهدنة على الدخن ما هي؟ قال: لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه، قال: قلت: يا رسول الله! أبعد هذا الخير شر؟ قال: فتنة عمياء صماء عليها دعاة على أبواب النار، فإن تمت يا - حذيفة - وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحداً منهم)].
أورد أبو داود حديث حذيفة من طريق أخرى تفيد بعض الزيادات.
قوله: [قال نصر بن عاصم الليثي: أتينا اليشكري في رهط من بني ليث، فقال: من القوم؟ قلنا: بنو ليث أتيناك نسألك عن حديث حذيفة فذكر الحديث قال: (قلت: يا رسول الله! هل بعد هذا الخير شر؟ قال: فتنة وشر)].
هذا الخير هو الذي كانوا عليه.
قوله: [(قال: قلت: يا رسول الله! هل بعد هذا الشر خير؟ قال: يا حذيفة! تعلم كتاب الله واتبع ما فيه.
ثلاث مرار)].
يعني: أنه يعرف الحق ويعمل به فيكون عالماً عاملاً فيجمع بين العلم والعمل، فيكون على سلامة واستقامة؛ لأنه لابد من الجمع بين العلم والعمل؛ لأن العلم بدون عمل وبال على صاحبه، والعمل بدون علم عمل على جهل وضلال، كشأن النصارى الضالين، كما قال بعض السلف: من فسد من علمائنا فبه شبه من اليهود؛ لأنهم يعرفون الحق ولا يعملون به، ومن فسد من عبادنا فبه شبه من النصارى؛ لأنهم يعبدون الله على جهل وضلال.
قوله: [(قال: قلت: يا رسول الله! هل بعد هذا الشر خير؟ قال: هدنة على دخن وجماعة على أقذاء فيها أو فيهم)].
(هدنة) يعني: صلح، (على دخن) يعني: على إحن وأحقاد وضغائن في القلوب، وليس الظاهر متفق على الباطن، بل الباطن شيء والظاهر شيء، (وجماعة على أقذاء)، يعني: كما يقوم القذى الذي يكون في العيون بضررها وعدم الاستفادة منها فتكون كذلك هذه الحالة، فهو شبيه بقوله: (هدنة على دخن، وجماعة على أقذاء)، وهناك قال: (بقية على أقذاء) أي: الجماعة.
قوله: [(قلت: يا رسول الله! الهدنة على الدخن ما هي؟ قال: لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه)].
معناه: أنه هذا الاتفاق وهذا الصلح الذي يحصل لا ترجع القلوب بعده على ما كانت عليه من قبل متصافية، وإنما تبقى القلوب فيها ما فيها ولو حصل الاتفاق.
قوله: [(قلت: يا رسول الله! أبعد هذا الخير شر، قال: فتنة عمياء صماء عليها دعاة على أبواب النار)].
يعني: فتنة عمياء صماء لا يتضح فيها الأمر ولا يسمع فيها لحق، يكون فيها دعاة إلى النار وذلك بما يلبسون به على الناس، وبما يزينونه للناس من الباطل من أجل أن يستجيبوا لما هم عليه، وتكون النتيجة أنهم يقذفونهم في النار كما جاء في الصحيحين: (من أجابهم إليها قذفوه فيها).
قوله: [(فإن تمت يا حذيفة وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحداً منهم)].
يعني: هؤلاء الذين هذا وصفهم وهذا شأنهم كون الإنسان يعتزلهم ويبتعد عنهم ويكون ملازماً لشجرة يكون تحتها ويموت وهو كذلك خير من أن يكون مع أحد من هؤلاء أو هؤلاء.(475/17)
تراجم رجال إسناد حديث (فإن تمت يا حذيفة وأنت عاض على جذل خير من أن تتبع أحداً منهم)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا سليمان -يعني ابن المغيرة -].
سليمان بن المغيرة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد].
هو حميد بن هلال، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نصر بن عاصم الليثي قال: أتينا اليشكري عن حذيفة].
مر ذكرهم.(475/18)
شرح حديث (فإن لم تجد يومئذ خليفة فاهرب حتى تموت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث حدثنا أبو التياح عن صخر بن بدر العجلي عن سبيع بن خالد بهذا الحديث عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن لم تجد يومئذ خليفة فاهرب حتى تموت؛ فإن تمت وأنت عاض-قال في آخره- قال: قلت: فما يكون بعد ذلك؟ قال: لو أن رجلاً نتج فرساً لم تنتج حتى تقوم الساعة)].
ذكر هذه الطريق وفيها ما في الذي قبلها، إلا أن فيها بيان قرب الساعة عند حصول ذلك الشيء الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من كثرة الفتن، وأمره بالاعتزال ولو أن يموت وهو عاض على أصل شجرة، وقال: إن الساعة قريبة وقال: (لو أن رجلاً نتج فرساً لم تنتج حتى تقوم الساعة) يعني: لو أنه أنتج فرساً وولدت لم يحصل لها إنتاج حتى تقوم الساعة.(475/19)
تراجم رجال إسناد حديث (فإن لم تجد يومئذ خليفة فاهرب حتى تموت)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث].
عبد الوارث بن سعيد العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو التياح].
هو أبو التياح يزيد بن حميد الضبعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن صخر بن بدر العجلي].
صخر بن بدر العجلي مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن سبيع بن خالد عن حذيفة].
مر ذكرهما.(475/20)
الأسئلة(475/21)
المنع من حمل أحاديث الفتن على وقائع معينة
السؤال
هل يصح حمل هذا الحديث وأمثاله على الواقع المعاصر، وتعيين بعض الفتن بأنها وقعت؟
الجواب
لا يصلح؛ لأن بعض الناس كل شيء يطبقه على الوقت الحاضر، فما من شيء يقع إلا ويقول: إن هذا هو المقصود بالحديث، وهذا غير صحيح، مثل ما جاء في حديث انحسار الفرات عن جبل من ذهب، بعض الناس في هذا الزمان يقول: هو البترول، وهذا غير صحيح؛ لأن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم أنه جبل من ذهب، وأن الناس يقتتلون عليه، وأن الهلاك فيه تسعة وتسعون في المائة، والنجاة واحد في المائة، ثم كل واحد لشدة حرصه على الدنيا مع علمه بأن الهلاك تسعة وتسعون في المائة والنجاة واحد في المائة يقول: لعلي أن أكون أنا الناجي من المائة، وكيف يقال: هو البترول؟ وأي افتتان حصل على بترول العراق؟ وأين الهلكى الذين نسبتهم تسعة وتسعون في المائة ويبقى واحد؟ ومع ذلك يوجد في هذا العصر من قال: إن المقصود به: بترول العراق.
إذاً: تطبيق كل شيء على ما هو مشاهد ومعاين، وتحميل النصوص ما لا تتحمل وتطبيقها على أمور لا تناسب ولا تليق مع سياق الألفاظ وسياق الكلام الذي يأبى ذلك، هذا غير صحيح، ولا يجوز للإنسان أن يطبق كل شيء على الواقع، وبعض الناس يأتي بالمصطلحات الواردة في الأحاديث وأخبار الرسول التي أخبر بها ويحاول أن يفسرها بأمور واقعية، وهذا أحد الغماريين الذين في بلاد المغرب، وقد مات قبل ستين سنة تقريباً أو قريباً من ذلك، سمى كتابه: (مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية)، وأتى بأشياء كثيرة كلها يحمل فيها النصوص ما لا تتحمل، وقد رد عليه الشيخ حمود التويجري رحمه الله بكتاب سماه: (إيضاح المحجة في الرد على صاحب طنجة)؛ لأن هذا الغماري من طنجة.(475/22)
تشبيه فتن هذا الزمان بقطع الليل المظلم
السؤال
هل هذا الزمان الذي نعيش فيه يصدق عليه وصف النبي صلى الله عليه وسلم أن الفتن فيه: (كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً).
الجواب
الله تعالى أعلم، لكن فتنه كثيرة، والناس في هذا الزمان كما هو معلوم أعرضوا عن دينهم، وكثير من الناس ينتمون إلى الإسلام وهم لا يطبقونه ولا يعملون بأحكامه، ومن أجل ذلك حصل لهم الذل والهوان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري).(475/23)
حكم وصف حصار العراق بأنه فتنة الأحلاس
السؤال
إن حديث الوقت هو التكلم عن الفتن والملاحم، وقد ظهرت في الآونة الأخيرة الكثير من الكتابات في (الإنترنت) في هذا الأمر، وربط القرآن والأحاديث بالأحداث المعاصرة مثلاً، ففتنة الأحلاس قالوا: إن المقصود بها حصار العراق، هل مثل هذا الكلام يعتبر من القول على الله بغير علم؟ وما رأيكم في الاطلاع على مثل هذه الكتابات والرد عليها؟
الجواب
حمل الأحاديث بهذا الشكل، وكأنه لا زمان في الأزمان إلا هذا الزمان، وكل شيء إنما هو يحمل على هذا الزمن.
هذا الكلام غير صحيح.
وأما عن الرد فلا شك أن الشيء الذي يكون باطلاً بيانه وإيضاحه شيء مطلوب.(475/24)
حكم وصف الأمة بأنها قد أصبحت منقسمة إلى فسطاطين
السؤال
هل يجوز أن نقول: إن الأمة الآن على فسطاطين، فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه؟
الجواب
لا يقال هذا؛ لأن هذا إنما يكون عند خروج الدجال؛ لأنه جاء في آخر الحديث: (فإذا كان ذلك فانتظروا الدجال من يومه أو من عنده)، وهذا لا يكون إلا في آخر الزمان.(475/25)
شرح سنن أبي داود [476]
إن من دلائل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: إخباره عن فتن تحل بالأمة بعد وفاته، وذكر صلوات الله وسلامه عليه ما يحل بالأمة من خلاف ومن وضع السيف فيهم، وأن ذلك لا يكون من جهة عدو خارجي يتسلط عليهم، وإنما هو من تسلط بعضهم على بعض.(476/1)
تابع ما جاء في الفتن ودلائلها(476/2)
شرح حديث (من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا رقبة الآخر)، قلت: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعته أذناي ووعاه قلبي، قلت: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نفعل ونفعل، قال: أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله].
أورد المصنف حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بايع رجلاً فأعطاه صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه ما استطاع، فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا رقبة الآخر)، ثم استوثق منه وقال: (أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم، فقال: إن ابن عمك معاوية يأمرنا بكذا وكذا، فقال: أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله).
وهذا الحديث أورده أبو داود مختصراً، وهو حديث عظيم، وجاء في صحيح مسلم مطولاً، وكنت أذكر منه جملتين أرددهما كثيراً وهما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه) فإن هاتين الجملتين داخلتان في هذا الحديث الطويل عند مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما.
قوله: (من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده) هي كناية عن كونه صافحه بالمبايعة.
قوله: [(وثمرة فؤاده)]، بمعنى: أنه يكون صادقاً ومخلصاً ولا يظهر شيئاً ويخفي شيئاً، فيتفق الظاهر والباطن، ويبايعه ظاهراً بوضع يده في يده، ويكون قلبه متفقاً مع قالبه، وباطنه متفقاً مع ظاهره، ليس شأنه شأن المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، فيظهر الولاء وهو يبطن الحقد والعداوة ويتربص.
قوله: [(فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا رقبة الآخر)]، وهذا يدل على أن الإمام المبايع يبقى على بيعته، وأنه لا يجوز الخروج عليه، ولو خرج عليه أحد فإنه يقاتل ويقتل حتى تبقى الجماعة على تماسكها ووحدتها، دون أن يكون فيها تفرق، ودون أن يكون هناك فوضى.
قوله: [قلت: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟].
هذا للتوثق والتأكد، (قال: نعم، قال: فإن ابن عمك معاوية يأمرنا بكذا وكذا)، لأنه قال: (فليطعه ما استطاع)، فقال: إنه يأمرنا بكذا وكذا، قال: أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله.
إذا كان الأمير والوالي أمر بطاعة فإنه يسمع له ويطاع، وإذا أمر بمعصية فإن السمع والطاعة إنما هي لما جاء عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الطاعة في المعروف) وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الله)، ولهذا جاء الأمر بطاعة ولاة الأمور تابعاً لطاعة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ولم يكن مستقلاً بحيث يسمع له ويطاع مطلقاً، وإنما الذي يسمع له ويطاع مطلقاً هو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] فأمر بطاعته وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، وأمر بطاعة ولاة الأمور، ولكن لما ذكر طاعة الرسول أظهر الفعل وهو (أطيعوا) ولما جاء عند ولاة الأمور ما أظهر الفعل بل قال: (وأولي الأمر منكم)، فحذف الطاعة مع ولاة الأمور للإشارة إلى أن طاعتهم إنما تكون تابعة لطاعة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وقد أظهر الفعل مع الرسول عليه الصلاة والسلام وهو (أطيعوا)؛ لأنه لا يأمر إلا بما هو حق، ولا يأمر بمعصية، وهو معصوم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ولهذا أعيد الفعل معه، فقال: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)، ولم يعد الفعل مع ولاة الأمور؛ لبيان أن طاعتهم لا تكون مستقلة باستمرار بحيث يسمع لهم ويطاع في كل أمر، وإنما السمع والطاعة مقيدة في أن يكون طاعة لله ورسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [ابن عمك]، لأن عبد الله بن عمرو سهمي، ومعاوية أموي، وكل منهما قرشي، فهو يريد بنوة العمومة وهي بعيدة ليست قريبة؛ فهم كلهم من قريش، وقريش هم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وهو الأب الحادي عشر للنبي صلى الله عليه وسلم، فكلاهما من قريش؛ معاوية وعمرو بن العاص.(476/3)
تراجم رجال إسناد حديث (من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عيسى بن يونس].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأعمش].
الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن وهب].
زيد بن وهب وهو ثقة حديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة].
عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عبد الله بن عمرو].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما وهو الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة وهم عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير، وهو أحد الصحابة المكثرين من الرواية، وكان يكتب، ولكنه ما بلغت أحاديثه مثلما بلغت أحاديث السبعة الذين اشتهروا بكثرة الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم.(476/4)
شرح حديث (ويل للعرب من شر قد اقترب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ويل للعرب من شر قد اقترب، أفلح من كف يده)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة قال: (ويل للعرب من شر قد اقترب، أفلح من كف يده)، ومحل الشاهد هنا: (أفلح من كف يده) يعني: في القتال بغير حق، ويمكن أن يكون أيضاً في الفتن التي تحصل، وذكر العرب لأنهم معظم المسلمين في أول الأمر، والإسلام إنما كان أولاًً في العرب، ثم بعد ذلك امتد إلى العجم، واتسعت الفتوحات، ودخل الناس في دين الله، ودخل من العجم من دخل بدون فتوحات بهداية الله عز وجل: صهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي.
قوله: (أفلح من كف يده)، يعني: عن القتال في الفتن.(476/5)
تراجم رجال إسناد حديث (ويل للعرب من شر قد اقترب)
قوله [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عبيد الله بن موسى].
عبيد الله بن موسى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شيبان].
هو شيبان بن عبد الرحمن، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش عن أبي صالح].
الأعمش مر ذكره، وأبو صالح ذكوان السمان، اسمه: ذكوان، ولقبه: السمان، وهو مشهور بكنيته أبو صالح، وهو مدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
وللجمع بين حديث: (ويل للعرب)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من قال: هلك الناس فهو أهلكهم)، نقول: لا تنافي بينهما؛ لأن هذا إخبار بأمور ستحصل، وأما الذي يقول: هلك الناس فهو يقول شيئاً ويكون فيه مبطلاً، وهو يكون في مقدمة من وصفهم بالهلاك.(476/6)
شرح حديث (يوشك المسلمون أن يحاصروا إلى المدينة)
[قال أبو داود: حدثت عن ابن وهب قال: حدثنا جرير بن حازم عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك المسلمون أن يحاصروا إلى المدينة حتى يكون أبعد مسالحهم سلاح)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر: (يوشك المسلمون أن يحاصروا إلى المدينة حتى يكون أبعد مسالحهم سلاح).
يعني: يقرب أن يحاصر المسلمون إلى المدينة، وهذا يمكن أن يشهد له: (إن الإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)، وأن الناس قد يحصل لهم ابتلاء، وأنهم قد يحاصرون حتى يكون أبعد الأماكن التي يدافع عنهم فيها والثغور هي سلاح، وهو مكان قيل: إنه قريب من خيبر، والله تعالى أعلم بالواقع والحقيقة.
ومعنى حديث: (يأرز الإيمان إلى المدينة): أن قوة الإيمان تكون هناك، وفيه أيضاً: كون الناس يأتون إلى المدينة من أجل فضلها ومن أجل السلامة من الفتن ومن الشرور التي تحصل في مختلف الأقطار.(476/7)
تراجم رجال إسناد حديث (يوشك المسلمون أن يحاصروا إلى المدينة)
[قال أبو داود: حدثت عن ابن وهب].
وهذا فيه انقطاع؛ لأنه لم يصرح بشيء فيه، ومعلوم أنه يروي عن ابن وهب بواسطة، وكثيراً ما يروي عن ابن وهب بواسطة أحمد بن صالح المصري، فلا أدري من هو هذا المحذوف، والحديث صححه الألباني، لكن لا أدري من أي وجه كان تصحيحه مع هذا الانقطاع.
وابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث أخرجه الحاكم من طريق أحمد بن عبد الرحمن بن وهب وهو ابن أخي عبد الله عن عمه عبد الله عن جرير به.
وجرير بن حازم موجود هنا في الإسناد أيضاً.
وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي، فلعل محدث أبي داود هنا هو أحمد هذا، وإنما لم يسمه أبو داود لما قيل من اختلاطه، ورواية مسلم عنه فقط.
واسمه أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن مسلم المصري الوهبي لقبه بحشل أخرج له مسلم، وهو من الحادية عشرة.
واعتذر الحافظ لـ مسلم فقال: لعل إخراج مسلم عنه قبل اختلاطه.
[حدثنا جرير بن حازم].
جرير بن حازم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن عمر].
عبيد الله بن عمر هو العمري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر وقد مر ذكره.
ولا يمكن أن يقال: إن هذا حصل في زمن الردة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ لأنه ليس بظاهر، وما حصل في زمن أبي بكر أن الناس حوصروا بل كانت البلاد بأيديهم.(476/8)
قول الزهري في (سلاح) الواردة في حديث ابن عمر وتراجم رجال هذا القول
قال المصنف رحمه لله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح عن عنبسة عن يونس عن الزهري قال: وسلاح قريب من خيبر].
وهذا تفسير من الزهري لسلاح الذي هو أبعد المسالح بأنه قريب من خيبر.
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[عن عنبسة].
هو عنبسة بن خالد الأيلي، وهو صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود.
[عن يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(476/9)
شرح حديث (وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة …)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن حرب ومحمد بن عيسى قالا: حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض، أو قال: إن ربي زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة بعامة، ولا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال لي: يا محمد! إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، ولا أهلكهم بسنة بعامة، ولا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها، أو قال: بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، وحتى يكون بعضهم يسبي بعضاً، وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق -قال ابن عيسى:-ظاهرين.
ثم اتفقا- لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله)].
أورد أبو داود حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها)، أي: إن الله عز وجل زوى له الأرض فشاهدها ورأى ما يصل إليه ملك أمته، وقد حصل ذلك في زمن بني أمية، حيث فتحت الفتوحات في الشرق والغرب حتى وصل عقبة بن نافع إلى المحيط الأطلسي، ووصلت بعض الجيوش التي أرسلت إلى جهة المشرق إلى الصين وإلى السند والهند، واتسعت رقعة البلاد الإسلامية، ودخل الناس في هذا الدين، وتحقق بذلك ما أخبر به الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وكذلك كان الأمر في عهد بني العباس؛ ويذكر عن هارون الرشيد أنه مرت سحابة ببغداد فقال: (أمطري حيث شئت فخراجك سيأتي إلي)؛ لأنها تجاوزت بغداد فلم تمطر عليها، فقال: أين أمطرت فخراجك سيأتيني، بمعنى: أن الأرض التي سينزل فيها ذلك الماء سيصل خراجها إلى بغداد، وذلك إشارة إلى اتساع رقعة البلاد الإسلامية.
فتحقق ما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم من افتتاح البلاد ودخول الناس في هذا الدين الحنيف، مع أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وكذلك الذين جاءوا بعدهم ممن صار على منوالهم في الفتوحات والجهاد في سبيل الله كانوا أقل عدداً من أعدائهم وأقل عُدداً، ولكن وجدت عندهم قوة الإيمان التي هي سبب كل خير، وضعف الإيمان وعدم الاستقامة سبب كل شر وضعف وهوان؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)، فهذه الفتوحات إنما حصلت بالصدق مع الله وبقوة الإيمان والإخلاص والجهاد من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يهتدي الناس، وأن يدخلوا في دين الله، فالمسلمون كانوا أقل عدداًً وعُدداً، وأعداؤهم الكفار كانوا أكثر عدداًً وعُدداً، ومع ذلك كان المسلمون يتفوقون ويتغلبون على الكفار؛ بسبب ما أعطاهم الله من قوة الإيمان والصدق.
ولهذا جاء في صحيح البخاري: أن جيشاً ذهب إلى قتال الفرس، وكان أميرهم النعمان بن مقرن، وكان فيهم المغيرة بن شعبة، فلما التقوا مع كبير الفرس طلب كبير الفرس واحداً من المسلمين يأتي للتفاوض والتفاهم معه، فذهب المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، فقال له ذلك الزعيم: ما أنتم؟ قال: نحن قوم من العرب كنا في بلاء وفقر شديد، نعبد الشجر والحجر، ونمص النوى والجلد من الجوع، فبعث الله فينا رسولاً من أنفسنا نعرف أباه وأمه، فدعانا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأمرنا بالجهاد في سبيله، وأخبرنا بأن من قتل منا فهو في الجنة، ووصفها كذا وكذا، ومن عاش منا ملك رقابكم.
هذا الكلام جاء من قوة إيمان، ومن عزيمة وإخلاص لله عز وجل؛ ولهذا لما تغيرت أحوال الناس هان المسلمون على أعدائهم بعد أن كان الكفار يهابون المسلمين، صاروا هم الذين يهابون ويخافون الكفار؛ والسبب في ذلك كله ضعف الإيمان، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري).
قوله: [(وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض)]، الأحمر هو الذهب، والأبيض هو الفضة، وكنوز كسرى وقيصر التي كانت من الذهب والفضة غنمها المسلمون في جهادهم للروم وللفرس، وأحضرت تلك الكنوز إلى المدينة وتولى قسمتها الفاروق رضي الله عنه بنفسه في المدينة، وتحقق بذلك ما أخبر به الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في قوله: (ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله) وقد تحقق ذلك وأنفقت في سبيل الله على يد الفاروق رضي الله عنه وأرضاه.
قوله: [(وإني سألت ربي ألا يهلك أمتي بسنة بعامة)]، يعني: بأن يصيبهم قحط عام يصير به هلاك وضرر الجميع، وأعطاه الله ذلك، فالقحط يحصل في بلد، ويحصل في بلد آخر الرخاء والخصب، لكن كونه يحصل لهذه الأمة أنها تهلك بالقحط، وقلة المطر، وتفنى بسبب ذلك، هذا لا يحصل.
قوله: [(وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم)]، بيضتهم بمعنى: أنه يقضي على الإسلام والمسلمين، والإسلام باق، ولا تخلو الأرض من قائم لله بحجته، ولو حصل ضعف في مكان حصلت قوة في مكان آخر، لكن لا تخلو الأرض ممن يقوم بأمر الله، ولكن الشيء الذي قد حصل هو كون بعضهم يقتل بعضاً، والفتن التي تكون بينهم تحصد بعضهم بالقتل وحصول الأضرار الكبيرة، فقوله صلى الله عليه وسلم: (وألا يهلك أمتي بسنة بعامة)، أي بسنة قحط تعم البلاد.
وقوله: (وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم) يعني: لن يوجد عدو ليس من المسلمين يستبيح بيضتهم ويقضي على الإسلام والمسلمين؛ لأن الإسلام باق وعزيز، ولكنه يكون قوياً في بعض الأزمان، ودون ذلك في بعض الأزمان، لكن كونه تخلو منه الأرض أو ينتهي، هذا لا يكون، بل لابد أن يكون هناك من يقوم بشرع الله، ولا يضره من خالفه، كما سيأتي في آخر هذا الحديث.
قوله: [(وإن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد)]، يعني: ما قدره الله وقضاه فإنه لابد من وجوده، وكل شيء شاءه الله لا بد أن يكون، وكل شيء لم يشأه الله لا يمكن أن يكون، ولهذا فإن عقيدة المسلمين في باب القدر تنبني على هاتين الجملتين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ما سبق به قضاء الله وقدره لابد من وجوده ولابد من حصوله، وما جرى به القضاء بأنه لا يكون فلا سبيل إلى كونه ووجوده، ولهذا يقول الشاعر: فما شئت كان وإن لم أشأ وما شئت إن لم تشأ لم يكن ما شئت يا الله كان وإن لم أشأه أنا، وما شئت أنا إن لم تشأه فإنه لا يكون؛ لأنه لا يكون ولا يقع في ملك الله إلا ما قدره الله وقضاه.
والقدر مغيب ولا يعلمه إلا الله، ولكن يمكن أن يعرف المقدر بأمرين: الأمر الأول: الوقوع، فإذا وقع الشيء فهو مقدر؛ لأنه لا يقع إلا مقدر.
والأمر الثاني: حصول الإخبار به من الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن هذا يدل على أنه سبق به القضاء والقدر، وأنه لابد أن يوجد ذلك المقدر، ولكنه عرف بإخبار الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام بأنه سيحصل كذا وكذا، وأنه سيقع كذا وكذا، وسيجري كذا وكذا، فهذا لا بد وأن يوجد.
وهذا الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيوجد سبق به القضاء والقدر؛ ولهذا قال: (إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد)، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن؛ ولهذا جاء في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس رضي الله عنهما: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، وكذلك في الدعاء: (اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت)، فالذي قدره الله وأعطاه لا أحد يمنعه، وما قدر ألا يكون فإنه لا سبيل إلى كونه، ولا سبيل إلى وجوده.
قوله: [(وإني لا أهلكهم بسنة بعامة، ولا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم)]، يعني: قضاء الله وقدره بأنه لا يهلكهم بسنة بعامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فقدر وقضى أن بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، ويضر بعضهم بعضاً، وهذا يقع.
قوله: [(وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)]، هذا هو الذي يخشاه النبي على الأمة، وهو كونها تبتلى بمن يضل، سواء كانوا هؤلاء الأئمة أئمة دعوة وتبليغ وإرشاد، أو أصحاب سلطة، والإمامة تكون بكونه متبوعاً وغيره يتبعه وإن لم يكن والياً، وقد يكون والياً ويكون مع إضلاله قوة تساند وتؤيد هذا الضلال، وتحتضن من يكون من أهل الضلال، فقال صلى الله عليه وسلم: (وإنما أخشى على أمتي الأئمة المضلين)؛ لأنهم يحرفونهم ويصرفونهم عن الحق والهدى بأن يضلوهم ويخرجوهم من الجادة والاستقامة إلى الطرق المنحرفة الخارجة عن الصراط المستقيم، كما قال الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
قوله: [(وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة)]، يعني: إذا حصلت الفتن، وبدأ قتل الناس بعضهم لبعض وإهلاك الناس بعضهم لبعض فإن هذا سيبقى، ولكن ليس لأحد أن يأتي من خارج الم(476/10)
تراجم رجال إسناد حديث (وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومحمد بن عيسى].
محمد بن عيسى هو الطباع، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[قالا: حدثنا حماد بن زيد].
هو حماد بن زيد بن درهم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قلابة].
هو أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي أسماء].
أبو أسماء الرحبي هو عمرو بن مرثد، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ثوبان].
ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.(476/11)
شرح حديث (إن الله أجاركم من ثلاث خلال)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عوف الطائي حدثنا محمد بن إسماعيل حدثني أبي قال ابن عوف: وقرأت في أصل إسماعيل قال: حدثني ضمضم عن شريح عن أبي مالك -يعني: الأشعري - رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أجاركم من ثلاث خلال: ألا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعاً وألا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وألا تجتمعوا على ضلالة)].
أورد أبو داود حديث أبي مالك الأشعري: (إن الله أجاركم من ثلاث: ألا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا)، كما دعا نوح عليه السلام على قومه، وحصل هلاكهم، وهذا لم يحصل من النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنه عليه الصلاة والسلام لما أوذي واشتد به الأذى وخرج مهموماً مغموماً على وجهه خاطبه جبريل، وقال: (إن هذا ملك الجبال فأمره بما شئت، فخاطبه ملك الجبال وقال: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، وهما جبلا مكة، فقال: لا، بل أرجو من الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً)، فهو لم يدع عليهم مع ما حصل له منهم من الأذى.
قوله: [(وألا يظهر أهل الباطل على أهل الحق)]، بأن يظهر الكفار على المسلمين بحيث يقضوا عليهم، فيكون من جنس (وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم)؛ فإن أريد به الكفار، وأنهم يقضون على الإسلام، ويستبيحون بيضة الإسلام ولا يبقى إسلام، فهذا لا يكون، وهو الذي مر في الحديث السابق، وإن أريد به أنه قد يحصل من أهل الضلال من يكون عنده غلبة وله سلطة وولاية، فهذا يقع ويحصل.
قوله: [(وألا تجتمعوا على ضلالة)]، لا يتفقون على ضلالة، بمعنى: أنهم يتركون الحق وتخلو الأرض من الحق، ولا يبقى إلا الضلال وتجتمع الأمة على الضلال فهذا لا يكون.
والحديث فيه انقطاع بين شريح وبين أبي مالك فهو لم يدركه، ذكر ذلك الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة.
لكن فيما يتعلق بعدم اجتماع الأمة على ضلالة، فإن هذا محل اتفاق ولا خلاف فيه، فالأمة لا تجتمع على ضلالة من أولها إلى آخرها، ولن تخلو الأرض ممن هو على حق وهدى.(476/12)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الله أجاركم من ثلاث خلال)
قوله: [حدثنا محمد بن عوف الطائي].
محمد بن عوف الطائي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي في مسند علي.
[حدثنا محمد بن إسماعيل].
هو محمد بن إسماعيل بن عياش، وقد عابوا عليه أنه حدث عن أبيه بغير سماع، أخرج له أبو داود.
[حدثني أبي].
هو إسماعيل بن عياش، وهو صدوق في روايته عن أهل بلده، ومخلط عن غيرهم، وحديثه أخرجه البخاري في رفع اليدين وأصحاب السنن.
[قال ابن عوف: وقرأت في أصل إسماعيل].
إسماعيل هو ابن عياش، يعني: في أصل كتابه.
[قال: حدثني ضمضم].
هو ضمضم بن زرعة، وهو صدوق يهم، أخرج له أبو داود وابن ماجة في التفسير.
[عن شريح].
هو شريح بن عبيد الحضرمي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي مالك -يعني الأشعري -].
أبو مالك الأشعري رضي الله عنه، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.(476/13)
شرح سنن أبي داود [477]
باب الفتن باب أغلق بمبعث النبي صلوات الله وسلامه عليه وفتح أو كسر بموت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو في تزايد إلى قيام الساعة.(477/1)
تابع ما جاء في الفتن ودلائلها(477/2)
شرح حديث (تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن منصور عن ربعي بن حراش عن البراء بن ناجية عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين، فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً، قال: قلت: أمما بقي أو مما مضى؟ قال: مما مضى).
قال أبو داود: من قال: خراش فقد أخطأ].
ذكر الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين؛ فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً قال: قلت: أمما بقي أو مما مضى؟ قال: بل مما مضى)، قيل في هذا الحديث: إن المراد بذلك: قوة الإسلام في هذه المدة، ثم بعد ذلك يحصل التغيير، وقيل: إن المقصود بدوران الرحى: الحروب التي تحصل وتقع، ولا شك أن مدة الخلفاء الراشدين المهديين رضي الله تعالى عنهم كانت خلافة راشدة، وكان الخير عظيماً والإسلام منتشرا، ً وقد حصل بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وتولي علي رضي الله عنه شيء من الاقتتال والاختلاف حيث وجدت الفتن، وحصل اقتتال بين المسلمين، ثم بعد ذلك حصل اجتماع للمسلمين على يدي الحسن بن علي رضي الله عنهما بتنازله لـ معاوية وحصول اجتماع الكلمة على معاوية بعدما كانت الفرقة وكان الخلاف قبل ذلك، وتحقق ما أخبر به الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في قوله في الحسن رضي الله عنه، وقد حمله معه على المنبر وهو طفل صغير، وكان ينظر إليه وينظر إلى الناس، ويقول: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، وقد تحقق ذلك في عام واحد وأربعين من الهجرة، والذي سمي بعام الجماعة، حيث اجتمعت الكلمة وصار على الناس خليفة واحد، هو معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء)، وقد آتى الله الملك بعد مدة الخلفاء الراشدين معاوية بن أبي سفيان، وهو خير وأول ملوك المسلمين؛ لأنه صحابي، والخلفاء الذين جاءوا بعده على مختلف العصور والدهور ليسوا من الصحابة، فهو أول الملوك وخير الملوك رضي الله عنه وأرضاه، وقد جاء إطلاق الخلافة على الخلفاء الراشدين وعلى ثمانية من بعدهم، وذلك في الحديث الصحيح الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش)، فإن هؤلاء الخلفاء هم الخلفاء الراشدون، وثمانية من خلفاء بني أمية.
قوله: [(تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين)]،قيل: إن المراد بذلك مدة خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة وهي ثلاثون سنة، ويضاف إليها خمس أو قريباً من ذلك في آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن المراد بذلك: ما حصل في سنة خمس وثلاثين من الهجرة من قتل عثمان رضي الله عنه، وما حصل بعد ذلك من الفتن، لكن كما هو معلوم أن استخدام التاريخ الهجري إنما حصل في زمن عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، لكن إذا اعتبرت مدة الخلفاء الراشدين الأربعة التي هي ثلاثون سنة، وضم إليها خمس سنوات من بعدها فيكون معنى ذلك أن هذه المدة هي الخلافة الراشدة، وقد حصل فيها الخير الكثير، وإن وجد شيء من الاختلاف.
وعلى هذا يكون المقصود برحى الإسلام: قوته واستقامته وسلامته، وكونه على منهاج النبوة، وكون الخلافة خلافة نبوة، ويكون بدوران الرحى حصول الخير والنفع، كما أن الرحى إذا دارت على الحب وصار طحيناً ودقيقاً بسبب دوران الرحى حصل بذلك النفع.
فيكون معنى هذا: أن الدوران يشبه دوران الرحى بطحن الحب، فيكون في ذلك فوائد للناس، وهذا يطابق ويوافق ما حصل في زمن الخلفاء الراشدين الذين خلافتهم خلافة نبوة، وقد قال عليه الصلاة والسلام (خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ) فعلى هذا يكون المعنى: حصول استقامة وقوة خلافة راشدة، وخلافة نبوة في خمس وثلاثين سنة؛ منها ثلاثون مدة الخلفاء، ومنها خمس هي المدة الباقية من حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد قوله ذاك.
ودوران الرحى بهذا المعنى على اعتبار النفع، وأن خلافة الخلفاء الراشدين حصل فيها خير وهي خلافة راشدة، ويستقيم على معنى دوران الرحى بالحب وطحن الحب، كونه يصير دقيقاً يستفاد منه، ومعلوم أن الحب لا يستفاد منه إلا بالطحن، والرحى هي التي تطحن الحب وتجعله دقيقاً فيكون معنى ذلك أنه حصل للناس في هذه المدة فوائد عظيمة وخير كثير.
ولهذا من الأبيات التي يلغز بها بعض الشعراء بحجري الرحى، فيقول: أخوان من أم وأب لا يفتران من التعب ما منهما إلا ضن يشكو معاناة التعب فلنا بصلحهما ردى ولنا بحربهما نشب إذا اصطلحا وانطبق واحد على الثاني بلا حركة، فلن يكون هناك حب يطحن، فاصطلاحهما لا نستفيد منه، ولكن إذا صار بينهما حرب، وهذا يدور على هذا، فيحصل الطحين ويستفيد الناس.
وهذا يؤتى به في كتب الأدب في الإلغاز.
ومعلوم أن الاقتتال إنما حصل بعد قتل عثمان، وقبل اجتماع الكلمة على معاوية، ولكن على هذا المعنى الذي ذكرته، والذي ذكره بعض العلماء: أن المراد به القوة والانتشار والاستقامة، فيدخل في ذلك مدة الخلفاء الراشدين مع خمس سنين من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما على القول بأن دوران الرحى المقصود به الحرب، فالحرب إنما حصلت بعد مقتل عثمان، فقد حصلت الفتن وحصل الاقتتال بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم وهم مجتهدون، والمجتهد المصيب له أجران، والمجتهد المخطئ له أجر واحد، وخطؤه مغفور له، والواجب هو إحسان الظن بالجميع، وعدم النيل من أحد منهم، بل الواجب هو الترضي عنهم ومحبتهم وموالاتهم جميعاً، وسلامة القلوب والألسنة من كل ما لا يليق بهم، هذا هو الواجب في حق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(فإن يهلكوا فسبيل من هلك)]، يعني: من الأمم السابقة، والهلاك لا يلزم أن يكون بتلف وذهاب أجسادهم، بل يكون بانحرافهم وحصول فتن وأمور مضلة.
قوله: [(وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين سنة)]، ولا شك أنه لم يحصل الهلاك، ولكن حصل قيام الدين، وقيام الملك لبني أمية بعد عهد الراشدين، وقد حصل في زمن بني أمية خير ونفع عظيم، وفتحت الفتوحات وبلغت الديار الإسلامية المفتوحة إلى المحيط الأطلسي غرباً، وإلى بلاد السند والهند والصين شرقاً، وقد سبق أن مر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)، وقد بلغ ملك هذه الأمة في زمن بني أمية مبلغاً وصل إلى حد المحيط الأطلسي غرباً وإلى الصين شرقاً، فصار في ذلك القوة للإسلام وأهله.
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر خليفة)، والخلفاء الثمانية هم خلفاء بني أمية، وقبلهم الخلفاء الراشدون الهادون المهديون، فهذا فيه بيان أن الإسلام قوي حيث انتشر في هذه المدة، وفتحت الفتوحات، وكثرت الخيرات، واتسعت رقعة البلاد الإسلامية.
قوله: [(وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً)]، قيل المقصود به: ملكهم، وقد قام ملك بني أمية هذه المدة من حين بويع معاوية رضي الله عنه بالخلافة بعد تنازل الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه، فمدة سبعين بعد ذلك فيها قوة، وبعد ذلك حصل الضعف في بني أمية، وحصلت الحروب والاقتتال الذي أدى إلى ظهور بني العباس وتغلبهم على بني أمية وانتزاعهم الملك منهم، فتكون مدة السبعين هي من خلافة معاوية إلى تمام السبعين، وخلافة بني أمية تبلغ تسعاً وثمانين سنة، لكن في آخرها حصل اضطراب وقلاقل وفتن، ولكن مدة السبعين سنة هي مدة الخلفاء الأقوياء والتي حصل فيها خير كثير، وفتحت الفتوحات، وكثرت الخيرات، واتسعت رقعة البلاد الإسلامية، وقوي الإسلام وصار عزيزاً، وأمر الناس ماضياً، فتحقق ما أخبر به الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام من قوله: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر خليفة)، فيكون المقصود بذلك الخلفاء الثمانية الذين هم من بني أمية، وهم من كانوا في مدة سبعين سنة ابتداء من خلافة معاوية، وفي آخرها التي هي فوق السبعين مقدار تسعة عشر سنة بقية مدة الخلافة الأموية حتى ظهر عليهم العباسيون وتغلبوا عليهم.
وانتزعوا الملك منهم، تلك كان فيها ضعف، وعدم قوة، وعدم استقامة؛ بسبب الحروب والفتن التي حصلت في آخر عهد بني أمية.
قوله: [(قال: قلت: أمما بقي أو مما مضى؟ قال: مما مضى)].
يعني: كأن السبعين بعدما مضى.(477/3)
تراجم رجال إسناد حديث (تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين)
قوله: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري] محمد بن سليمان الأنباري صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الرحمن].
هو عبد الرحمن بن مهدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
سفيان هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن المعتمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ربعي بن حراش].
ربعي بن حراش ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن البراء بن ناجية].
البراء بن ناجية ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن عبد الله بن مسعود].
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: من قال: خراش فقد أخطأ].
خراش بالخاء بدل الحاء، في والد ربعي، فإنما هو بالحاء المهملة، وليس بالخاء المعجمة، ويقال: الحاء المهملة والخاء المعجمة؛ لأن رسم الحاء والخاء واحد، والنطق بها واحد، إلا أن هذه فيها إعجام نقطة وتلك خالية مهملة.
ولا يقال: الجيم المعجمة؛ لأن الجيم رسمها ولفظها يختلف عن الحاء والخاء؛ لأن الحاء والخاء بينهن تشابه، وأما الجيم فهي تختلف في النطق عن الحاء والخاء، فلا يقال: الجيم المعجمة؛ لأن لفظ الجيم أخرجها عن الحاء والخاء، لكن الحاء والخاء رسمها واحد والنطق بها واحد، إلا أن الفرق في النقطة، فلذلك احتاجوا إلى أن يقولوا: معجمة ومهملة، فهنا حراش بالحاء المهملة هو الصواب، ومن قال: خراش بالخاء المعجمة فقد أخطأ.(477/4)
المقصود بالهلاك في قوله (فإن يهلكوا فسبيل من هلك)
قوله: [(فإن يهلكوا)].
الهلاك هنا معلوم أنه ليس هلاك وذهاب الأجسام؛ لأن هذه الأمة لا تهلك، بل لابد وأن تبقى وهي باقية، ولكن الذي حصل هو هلاك في التصور والعمل، وليس أن الله يهلكهم بسنة عامة ويقضي عليهم، فهذا لا يكون في هذه الأمة، ولكن يحصل لهم أن يهلكوا بأن يكونوا على خلاف الهدى والاستقامة، فيكون فيه شيء من الضلال ويكون سبيل من مضى ممن ضل، وليس المقصود به الهلاك الذي هو الفناء، وألا يبقى لهم وجود.
وقوله: (مما مضى) معناه: أنه تابع لما مضى؛ وهذه السبعون مضافة إلى الخمس والثلاثين، وهذه مدة الخلفاء الراشدين ومدة قوة بني أمية.(477/5)
شرح حديث (يتقارب الزمان وينقص العلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة حدثني يونس عن ابن شهاب قال: حدثني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يتقارب الزمان، وينقص العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرج، قيل: يا رسول الله! أية هو؟ قال: القتل القتل)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يتقارب الزمان)، وتقارب الزمان فسر بقلة فائدة الأعمار، وبغير ذلك، وفي هذا الزمان حصل تقارب الزمان، واتصال الناس، وصار الناس كأنهم في قرية أو مدينة بحيث لو حصل حادث في أي موضع من الدنيا فإن خبره يصل إلى الدنيا كلها في دقيقة واحدة، وكذلك أيضاً اتصال الناس بعضهم ببعض رغم وجود المسافات الشاسعة، ويكلم بعضهم بعضاً ويتبايعون، وترسل البضائع، وتنقل الأخبار، ويطمئن بعضهم على بعض، وكان فيما مضى لا يصل الخبر إلا بعد مدة طويلة بالانتقال على ظهور الإبل، وليس ببعيد أن يكون هذا من تقارب الزمان، وكذلك أيضاً سهولة الانتقال بالطائرات بتلك السرعة الهائلة التي يقطع فيها الإنسان مسافات بعيدة في ساعات، وكان هذا الذي يقطع الآن بأقل من ساعة يقطع فيما مضى في عشرة أيام أو ربما شهر، فلا شك أن هذا فيه تقارب، والناس صاروا كأنهم في قرية أو في مدينة بما يسر الله عز وجل لهم من هذه الوسائل سواء عن طريق الاتصالات الهاتفية، أو عن طريق الطائرات والسيارات، وما إلى ذلك من الوسائل التي سخرها الله في هذا الزمان، فليس ببعيد أن يكون معنى هذا الحديث ما حصل في هذا الزمان.
قوله: [(وينقص العلم)]، يعني: يحصل نقصان العلم وقلته وضعف أهله وذلك بالانشغال عنه، وبموت أهله الذين هم متمكنون منه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)، فالقراء كثيرون والفقهاء قليلون وما أكثر من يقرأ وما أقل من يفقه، ومعلوم أن ذهاب أهل العلم الذين هم متمكنون منه والذين هم مرجع فيه يعد خسارة كبيرة على الناس، ويتضح ذلك في هذا الزمان بوفاة شيخ الإسلام الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه، والشيخ محمد بن عثيمين رحمة الله عليه، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمة الله عليه، فإن هذا يبين لنا أن ذهاب مثل هؤلاء نقص كبير وخسارة كبيرة للناس؛ لما أعطاهم الله عز وجل من سعة العلم ونفع الناس، وما خلفوه من تراث وعلم يبين لنا شدة الخسارة وعظم المصيبة بذهاب من هو متمكن في العلم.
قوله: [(وتظهر الفتن)]، وما أكثر الفتن في هذا الزمان وقبل هذا الزمان وفي مختلف الأزمان، ولكن في هذا الزمان الفتن كثيرة، نسأل الله السلامة من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
قوله: [(ويلقى الشح)]، الشح في النفوس والبخل بالمال، والشح هو شدة البخل.
والفرق بين البخل والشح: أن الشح هو شدة البخل، والبخل أعم والشح أخص؛ لأن الشح هو أشد ما يكون من البخل، وهذا واقع في هذا الزمان وفي أزمان كثيرة حيث تكون الدنيا عند الناس غالية حتى يقتتلوا عليها، وتحصل الشحناء بسببها بين الأقارب والأصدقاء.
قوله: [(ويكثر الهرج)]، الذي هو القتل في الفتن.
قوله: [(قيل يا رسول الله! أية هو؟ قال: القتل القتل).
قولهم: أية هو؟ يعني: ما هو الهرج الذي أخبر عن كثرته وحصوله ووجوده، (قال: القتل القتل).(477/6)
تراجم رجال إسناد حديث (يتقارب الزمان وينقص العلم)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عنبسة].
هو عنبسة بن خالد الأيلي، وهو صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود.
[حدثني يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
ابن شهاب هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثني حميد بن عبد الرحمن].
حميد بن عبد الرحمن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن أبا هريرة قال].
أبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(477/7)
الأسئلة(477/8)
مناسبة حديث الخروج على الولاة في كتاب الفتن
السؤال
ما مناسبة هذا الحديث في كتاب الفتن؟
الجواب
كأن المناسبة هي فيما يتعلق بالخروج على الولاة؛ لأن هذا من الفتن ومن البلاء الذي يحصل للناس، إذ الواجب السمع والطاعة للولاة، فلا يجوز الخروج عليهم ولو كانوا جائرين؛ لأن الجور أخف من الفوضى ومن اختلال الأمر، ومن قواعد الشريعة: ارتكاب أخف الضررين في سبيل التخلص من أشدهما، والجور ضرر أخف من الفوضى وبقاء الناس في أحوال مضطربة لا يأمنون فيها على أنفسهم، ولا على أموالهم، ولا على أعراضهم، بل هم دائماً في خوف وقلق من أن يعتدي عليهم أحد؛ لأنه لا يوجد صاد ولا راد وليس هناك رادع، ومعلوم أن السلطان نفعه عظيم وفائدته كبيرة، وقد بين أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه عظم منزلة السلطان وما يترتب على وجوده من الخير الكثير، ومن حصول المصالح ودرء المفاسد، وذلك في قوله رضي الله عنه: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)؛ لأن من الناس من يقرأ القرآن ويرى القوارع والزواجر ومع ذلك لا تحرك ساكناً في قلبه، ولا تؤثر عليه، ولكنه يخاف من سلطة السلطان، ومن بطش وقوة السلطان، ولهذا يقول شيخنا محمد الأمين الشنقيطي رحمة الله عليه: (من لم تقومه الكتب قومته الكتائب)، والكتب هي: القرآن والبيان، والكتائب هي: الجيوش، وهي جمع كتيبة، ولهذا ذكر الله عز وجل في سورة الحديد هاتين القوتين: قوة البيان، وقوة السلطان والسيف والحديد، فقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:25]، فذكر الله هاتين القوتين: القوة البيانية التي هي الأساس والتي لا بد من الأخذ بها والعمل بما جاء فيها، والقوة الحسية التي فيها الردع، وهذا هو معنى قول شيخنا: (من لم تقومه الكتب قومته الكتائب)، فهو من جنس ما قاله عثمان رضي الله عنه: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).(477/9)
أخذ إذن الإمام في ضرب عنق الخارج عليه
السؤال
قوله: (فإذا جاء آخر ينازعه فاضربوا رقبة الآخر) هل يشترط في ضرب رقبة الآخر إذن الخليفة الأول؟
الجواب
نعم، لا بد من هذا؛ لأنه إذا أمكن أن يتخلص منه بما دون ضرب عنقه فإن هذا أمر مطلوب؛ لأنه لا يصار إلى الأمر الأشد والأعظم إلا إذا لم يوجد ما هو دونه.(477/10)
عدم جواز الخروج على الإمام
السؤال
هل يصح الاستدلال بقوله: (فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه) أنه إذا لم يكن صادقاً في البيعة فيجوز له الخروج على الإمام، يعني: هل هذه من شروط البيعة التي تجب فيها طاعة الإمام؟
الجواب
لا يجوز الخروج مطلقاً، وقد جاءت الأحاديث الكثيرة في النهي عن الخروج، وذلك النهي هو من قبيل سد الذرائع التي تفضي إلى ما هو أخطر مما أقدم على الخروج من أجله، وهو ما قد يُدَّعى من الظلم والجور.
وقد أورد ابن القيم رحمه الله في كتابه: أعلام الموقعين تسعة وتسعين دليلاً في سد الذرائع، وجعل آخرها جمع عثمان رضي الله عنه الناس على مصحف واحد من أجل دفع الاختلاف في القرآن، وأن يكون الناس على مصحف واحد حتى لا يختلفوا، وجعل الفائدة التي قبلها: تحريم الخروج على الولاة؛ لما يترتب على الخروج عليهم من الضرر الذي هو أكبر من حصول الجور الذي قد يكون سبباً في الخروج، فجاءت النصوص الكثيرة في تحريم الخروج، وأن ذلك لا يجوز في حال من الأحوال إلا في حالة واحدة قد بينها رسول الله عليه الصلاة والسلام وهي قوله: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان)، وقال: (لا.
ما صلوا) فدل هذا على أن المسلم لا يجوز الخروج عليه، والكافر سواء كان أصلياً أو مرتداً يجوز الخروج عليه، ولكن هذا الخروج مشروط في أن يكون وراءه فائدة وهي التخلص منه، أما إذا كان الخروج مع ضعف وعدم قدرة، وتكون النتيجة أن يقضي الكافر الأصلي أو المرتد على من خرج ويبقى الكافر في مكانه، فهذا ليس فيه مصلحة وليس فيه فائدة، وأما المسلم فلا يجوز الخروج عليه بحال، كما جاء ذلك مبيناً إلا في حالة الكفر البواح الذي عند الناس فيه من الله برهان.(477/11)
حكم الخارج على الإمام إن غَلب
السؤال
ما الحكم إذا استطاع الخارج أن يغلب الإمام الأول ويأخذ الحكم منه؟
الجواب
إذا حصلت الغلبة والقهر وكونه تسلط وغلب واستقر الأمر واستتب الأمن فإنه لا يجوز الخروج عليه، وهذه إحدى الطرق التي ذكرها العلماء في نصب الخليفة وتولية الإمام؛ لأن الخليفة يتم توليه باتفاق أهل الحل والعقد على ذلك، كما حصلت بيعة أبي بكر وبيعة علي رضي الله تعالى عنهما، أو بعهد الخليفة إلى خليفة من بعده كما حصل من أبي بكر لـ عمر فإنه استخلفه، أو يكون بانتزاع الولاية بالقوة ثم استتباب الأمن واستقرار الأمور؛ فإنه عند ذلك لا يصار إلى الاقتتال بعد أن استقرت الأمور، وهذا مما أجمع عليه، ومن أمثلة ذلك: انتقال الولاية والخلافة من الأمويين إلى العباسيين، فإن أول خلفاء بني العباس أبو العباس السفاح هو الذي جاء بعد مروان بن محمد الأموي آخر خلفاء بني أمية، وتوليه لم يكن باتفاق وما كان بعهد وإنما كان بتسلط وبقوة، واعتبرت خلافة بني العباس خلافة، وهذا مما اتفق عليه ومما أجمع عليه أنه طريق صحيح للخلافة.(477/12)
إدراج أبي داود حديث ابن عمرو في الفتن لتعلقه بالولاية
السؤال
لعل مناسبة حديث ابن عمرو ما جاء في صحيح مسلم في أول هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإن هذه الأمة جعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وإنها ستكون فتن يرقق بعضها بعضاً، تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف، وتجيء فتنة فيقول: هذه هذه، فمن أحب أن تأتيه منيته) إلى آخره؟
الجواب
هذا لا شك فيه، لكن هذا المقدار الذي أورده أبو داود يناسب منه الخروج على الولاة فإن ذلك من الفتن؛ لأنه يصير فيه قتل وأضرار، واختلاف القلوب، والأيدي يحصل بسطها ومدها تبعاً للقلوب، ولا شك أن الذي جاء في صحيح مسلم من هذه التفاصيل التي سمعناها واضحة في الفتن.(477/13)
الجمع بين وجود الشرك ويأس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب
السؤال
كيف يجمع بين حديث: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب)، وبين هذا الحديث: (لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين)؟
الجواب
لا تنافي بين الحديثين؛ لأن حديث: (أيس أن يعبده) معناه: أن جزيرة العرب كلها تصير على عبادته، وأنه يحصل فيها الارتداد، وهذا لا يكون، وأما كونه يوجد قبائل أو جماعات تخرج وترتد، والإسلام باق، والمسلمون باقون، فإن هذا حاصل وواقع.
أما كون الجزيرة كلها تحصل فيها الردة وتبقى خالية من الإسلام وأهل الإسلام فهذا لا يكون؛ ولهذا يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، واليأس يحمل على العموم، وليس على منع ذلك مطلقاً؛ وكما هو معلوم في زمن أبي بكر حصلت الردة، ووجد في جزيرة العرب مرتدون، فإذاً يوفق بينها بأن حديث: (أيس الشيطان) معناه: أنه لا تحصل العبادة له مطلقاً؛ ولا تحصل الردة الكلية التي لا يبقى أحد دون أن يرتد، فإن الجزيرة يبقى فيها الإسلام، ولا ينقطع منها حتى إن وجد فيها من خرج وارتد عن الإسلام.(477/14)
دخول كل من يدعو إلى ضلال في الأئمة المضلين
السؤال
هل يدخل في الأئمة المضلين مؤسسو الجماعات الإسلامية المعاصرة؟
الجواب
كل من يدعو إلى الضلال وإلى مخالفة الكتاب والسنة في أي وقت وفي أي حين يدخل تحت ذلك.(477/15)
خطاب الله للنبي صلى الله عليه وسلم باسمه في القرآن والسنة
السؤال
ذكر أكثر أهل العلم بأن الله تبارك وتعالى لم يخاطب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم باسمه؛ لكن في الحديث هنا قال: (وإن ربي قال: يا محمد!) فما التوجيه؟
الجواب
لعله يقصد القرآن؛ لأن فيه (يا أيها الرسول)، (يا أيها النبي)، وما فيه يا محمد، وهذا جاءت به السنة عن رسول الله، ولعل من قال بهذا إنما يقصد القرآن لا السنة.(477/16)
الجمع بين حديثي غربة الإسلام وعدم ظهور أهل الباطل على أهل الحق
السؤال
كيف الجمع بين قوله: (وألا يظهر أهل الباطل على أهل الحق)، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً)؟
الجواب
هذا لا يدل على ذهاب الإسلام وأهل الإسلام، وإنما يكون هناك قوة ونفوذ وانتشار، وفي بعض الأحيان يكون هناك شيء من الضعف، لكن لا تخلو الأرض من قائم لله بحجته.(477/17)
معنى ظهور أهل الباطل على أهل الحق
السؤال
هل يمكن حمل ظهور أهل الباطل على أنه لا يكون لأهل الباطل حجة على أهل الحق؟
الجواب
الأظهر هو الغلبة والتفوق وكونهم يتسلطون عليهم ويكون الأمر بأيديهم، ويقضون على الإسلام والمسلمين، هذا هو الذي لا يكون.(477/18)
عدم اجتماع الأمة على الخطأ
السؤال
قوله: (ولا تجتمع على ضلالة) هل يدخل في الضلالة الخطأ؟
الجواب
نعم، لا يمكن أن يجتمعوا على خطأ، ولا يمكن أن يتفقوا كلهم على خطأ.(477/19)
معنى قوله (لا تجتمع أمتي على ضلالة)
السؤال
ما المقصود بقوله: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، هل الأمة بجميعها أو هناك فئة خاصة؟
الجواب
المقصود به الذين هم أهل الاستقامة، وإلا فكيف يلتقي من هو على استقامة مع أصناف الفرق الضالة التي هي داخلة في أمة الإجابة، وأمة الإجابة يدخل تحتها فرق كثيرة، ولكن هناك فرقة واحدة هي الناجية وهي التي اجتماعها وإجماعها هو الحجة، أما المبطلون المنحرفون عن الجادة فلا يعتد بهم في الإجماع ولا عبرة لهم فيه، وإنما المراد بذلك: الذين هم على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين هم على الكتاب والسنة، وعلى منهج النبوة، أما المنحرفون عن الجادة فإنه لا يمكن أن يوجد أي إجماع مع دخول فرق الضلال مطلقاً، إذ صفات الله عز وجل لا يمكن أن يكون عليها إجماع؛ لأن أكثر الفرق إما شبهوا وإما أولوا وحرفوا، ومن الفرق من قال: إن القرآن مخلوق، وعلى هذا لا يكون محل اتفاق، وعليه فلا إجماع؛ لأن بعض الفرق الضالة خالفت، ومن الفرق من قالت: إن الله لا يرى في الدار الآخرة مطلقاً، ومن الفرق من قال: إن العاصي خالد مخلد في النار، ومن الفرق من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ما عرج به إلى السماء، ومنهم من قال: لا يوجد عذاب في القبر، فليس المعتبر أمة الإجابة الذين يدخل فيهم فرق مختلفة، وهي ثلاثة وسبعون فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي ما كان على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإنما المعتبر الذين هم على الجادة، وعلى الاستقامة وعلى الكتاب والسنة، ولا يعتبر الذين خرجوا عن الجادة وعما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.(477/20)
حكم منازعة الإمام بالأحزاب والانتخابات
السؤال
هل يدخل في منازعة الإمام هذه الأحزاب السياسية التي تريد الوصول إلى الحكم بأي سبيل وبشتى الطرق؟
الجواب
إن الذين يسعون إلى الخروج على الإمام والوصول إلى الحكم عن طريق الأحزاب لا شك أن هذا يعتبر من الخروج على الإمام، لكن هذا الذي وجد في كثير من الأقطار في هذا الزمان من وجود أحزاب، ووجود منافسات، وانتخابات وما إلى ذلك، كل هذا إنما جاء وافداً على المسلمين من الكفار، والإسلام الولاية مبنية فيه على الطرق الثلاث التي أشرت إليها آنفاً، وهي: اتفاق أهل الحل والعقد، وعهد الخليفة إلى خليفة من بعده، وحصول تغلب من شخص يقهر ويغلب الناس، وتستقر الأمور ويستتب الأمن، فعند ذلك يسمع له ويطاع.(477/21)
شرح سنن أبي داود [478]
إن من دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إخباره عن فتن تقع في آخر الزمان، والتي يكون كل قتلاها في النار، والناس فيها على مراتب، فالقاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي والساعي إليها، وخير الناس من كف لسانه ويده حتى يقتل في قعر بيته.(478/1)
ما جاء في النهي عن السعي في الفتنة(478/2)
شرح حديث (إنها ستكون فتنة يكون المضطجع فيها خيراً من الجالس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النهي عن السعي في الفتنة.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن عثمان الشحام قال: حدثني مسلم بن أبي بكرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون فتنة يكون المضطجع فيها خيراً من الجالس، والجالس خيراً من القائم، والقائم خيراً من الماشي، والماشي خيراً من الساعي، قال: يا رسول الله! ما تأمرني؟ قال: من كانت له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، قال: فمن لم يكن له شيء من ذلك؟ قال: فليعمد إلى سيفه فليضرب بحده على حرة ثم لينج ما استطاع النجاء)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في النهي عن السعي في الفتنة]، يعني: الدخول فيها والعمل على وجودها وإذكاء نارها، والحرص على حصولها، هذا هو السعي في الفتنة، سواء كان ذلك بالقول أو بالفعل أو بالتحريض والتهييج وحصول الكلام الذي يحرك الناس ويجعلهم يقدمون على الفتن، ويقومون بفعل الفتن والمشاركة فيها، كل ذلك سعي في الفتنة، فالداخل في الفتنة بفعله هو ساع في الفتنة، والداعي إليها والمحرض عليها والمهيج إليها ومحرك الناس إليها أيضاً كذلك هو ساع في الفتنة، وكل ذلك لا يجوز، ومن حظ المسلم الناصح لنفسه ألا يكون سبباً في الفتنة، وألا يتسبب في الفتن، وألا يثير فتنة، ومن سوء حظه أن يثير الفتن، وأن يكون سبباً في وجودها وإيقاد نارها وحصول الضرر بها.
أورد أبو داود حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها ستكون فتنة يكون الجالس فيها خيراً من القائم) يعني: كل من كان أبعد عنها فهو خير ممن هو أقرب إليها، فالقاعد فيها الذي ما تحرك ولكنه دخل فيها خير من القائم؛ لأن القاعد دون القائم الذي يرى ما لا يرى القاعد، ويبصر ما لا يبصر القاعد، فالقاعد خير من القائم، والقائم خير من الماشي.
قوله: [(إنها ستكون فتنة يكون المضطجع خيراً من الجالس)] المضطجع الذي ما دخل فيها، ولا نظر إليها، ولا فكر فيها.
قوله: [(والقائم خيراً من الماشي، والماشي خيراً من الساعي)]، الذي يجري ويركض ويسرع من أجل الفتن وإذكائها وإيقاد نارها وحصولها، فالناس متفاوتون، وكل من كان أبعد عن الفتن فهو أسلم من غيره.
قوله: [(قال: ما تأمرني؟ قال: من كانت له إبل فليلحق بإبله)]، يعني: في الفلاة، ليعتزل ويبتعد عن هذه الفتن، فيكون في البر مع إبله يرعاها ويشرب من لبنها، أو مع غنمه إذا كان له غنم يرعاها ويشرب من درها، أو له أرض يغرسها ويزرعها ويكون بعيداً عن الفتن، وبعيداً عن المصائب التي تحل بالناس.
قوله: [(فمن لم يكن له شيء من ذلك؟)]، يعني: لا يستطيع العزلة ولا الذهاب؛ لأنه ليس له شيء يخرج إليه وينشغل به، فهو يحذر أن يقع في الفتنة، وإذا كان له سيف فليعمد إلى حرة فليضرب به عليها ليكون ذلك فيه اطمئنانه إلى عدم دخوله في الفتنة، وعدم استعماله السيف لقتل المسلمين في الفتن، معنى ذلك كله: التحريص على الابتعاد عن الفتنة، وألا يكون عنده الوسائل التي تجعله يدخل فيها، وهو إما أن يكون ذلك إشارة إلى ابتعاده عن الفتن، أو أنه يحصل ذلك فعلاً حتى لو أراد أن يدخل لم تكن عنده الوسيلة أو القدرة التي يكون مشاركاً فيها، وكل ذلك حث على الابتعاد عن الفتن، والحذر من الوقوع فيها، ومن الدعوة إليها، ومن التحريض عليها؛ لأن كل ذلك من السعي في الفتن.(478/3)
تراجم رجال إسناد حديث (إنها ستكون فتنة يكون المضطجع فيها خيراً من الجالس)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عثمان الشحام].
عثمان الشحام لا بأس به، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[قال: حدثني مسلم بن أبي بكرة].
مسلم بن أبي بكرة صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبيه].
هو أبو بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(478/4)
شرح حديث (أرأيت إن دخل عليَّ بيتي وبسط يده ليقتلني)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يزيد بن خالد الرملي حدثنا مفضل عن عياش عن بكير عن بسر بن سعيد عن حسين بن عبد الرحمن الأشجعي أنه سمع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قال: (فقلت: يا رسول الله! أرأيت إن دخل علي بيتي وبسط يده ليقتلني؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن كابني آدم، وتلا يزيد: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ} [المائدة:28] الآية)].
أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص وهو يتعلق بالذي قبله، من حيث الفتنة وحصولها، قال: (أرأيت إن بسط يده إلي ليقتلني؟ قال: كن كابني آدم) يعني: ابني آدم أحدهما أراد أن يقتل الآخر، والثاني قال: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة:28] فكونك تكون مقتولاً خير من أن تكون قاتلاً، وهذا يكون وإذا صار الإنسان كذلك فهو شيء محمود، وإن أراد أن يدافع عن نفسه فليدفع بما هو أسهل وبما هو أخف، ولا يلجأ إلى الأشد إلا إذا لم يجد بداً من ذلك، ولكن كونه يكون مقتولاً أو معتدى عليه أو مظلوماً خير من أن يكون ظالماً.(478/5)
تراجم رجال إسناد حديث (أرأيت إن دخل عليَّ بيتي وبسط يده ليقتلني)
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد الرملي].
يزيد بن خالد الرملي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا مفضل].
هو مفضل بن فضالة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عياش].
هو عياش بن عباس، وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن بكير].
هو بكير بن عبد الله بن الأشج، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بسر بن سعيد].
بسر بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حسين بن عبد الرحمن الأشجعي].
حسين بن عبد الرحمن الأشجعي مقبول، أخرج له أبو داود.
[أنه سمع سعد بن أبي وقاص].
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(478/6)
شرح حديث النهي عن السعي في الفتنة وفيه (قتلاها كلهم في النار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا أبي حدثنا شهاب بن خراش عن القاسم بن غزوان عن إسحاق بن راشد الجزري عن سالم حدثني عمرو بن وابصة الأسدي عن أبيه وابصة، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول.
فذكر بعض حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: (قتلاها كلهم في النار)، قال فيه: قلت: متى ذلك يا ابن مسعود؟ قال: تلك أيام الهرج، حيث لا يأمن الرجل جليسه، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك الزمان؟ قال: تكف لسانك ويدك، وتكون حلساً من أحلاس بيتك، فلما قتل عثمان رضي الله عنه طار قلبي مطاره، فركبت حتى أتيت دمشق، فلقيت خريم بن فاتك رضي الله عنه فحدثته، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثنيه ابن مسعود رضي الله عنه].
أورد أبو داود حديث ابن مسعود وحديث خريم بن فاتك رضي تعالى الله عنهما وهو يتعلق بحديث أبي بكرة المتقدم قال: (قتلاها كلهم في النار) يعني: القاتل والمقتول كلهم في النار.
قوله: [قلت: متى ذلك يا ابن مسعود؟ قال: تلك أيام الهرج].
الهرج الذي هو كثرة القتل.
قوله: [حيث لا يأمن الرجل جليسه].
يعني: تكثر الخيانة وتقل الأمانة، ولا يأمن الإنسان جليسه، فقد يعتدي عليه، وقد يكون سبباً في الاعتداء عليه.
قوله: [قال: فما تأمرني إن أدركني ذلك الزمان؟ قال: تكف لسانك ويدك].
يعني: لا تطلق لسانك في الفتنة ولا تمد يدك إليها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).
قوله: [وتكون حلساً من أحلاس بيتك].
يعني: تلازم البيت، والحلس هو الفراش والوطاء الذي يوضع في البيت، فهو ثابت في البيت حتى يحرك من مكانه، ويقال للإنسان: (حلس بيته) إذا كان ملازماً له كالفراش الذي هو ملازم للأرض ولا يتحرك منها إلا إذا حرك من مكان إلى مكان، وهذا فيه إشارة إلى الابتعاد عن الفتنة، وأن الإنسان لا يكون مع أهلها وإنما يكون ملازماً لبيته.
قوله: [فلما قتل عثمان طار قلبي مطاره].
يعني: حصل خوف من أن تكون هذه هي الفتنة قد وقعت، وقد حصلت.
قوله: [فركبت حتى أتيت دمشق فلقيت خريم بن فاتك فحدثته فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثنيه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه].(478/7)
تراجم رجال إسناد حديث النهي عن السعي في الفتنة وفيه (قتلاها كلهم في النار)
قال: [حدثنا عمرو بن عثمان].
عمرو بن عثمان هو الحمصي، وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا أبي].
أبوه ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا شهاب بن خراش].
شهاب بن خراش صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود.
[عن القاسم بن غزوان].
القاسم بن غزوان مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن إسحاق بن راشد الجزري].
إسحاق بن راشد الجزري ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن سالم].
قال الحافظ: يحتمل أن يكون ابن أبي الجعد وهو ثقة، أو ابن أبي المهاجر ثقة، أو ابن عجلان ثقة، وإلا فمجهول، أخرج له أبو داود.
يعني: أنه مهمل ذكر اسمه ولم يذكر اسم أبيه، ويقال له: مهمل، وهو يحتمل هؤلاء الثلاثة، وإلا فيكون مجهولاً غير معروف.
[حدثني عمرو بن وابصة الأسدي].
صدوق أخرج له أبو داود.
[عن أبيه وابصة].
هو وابصة بن معبد رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن ابن مسعود].
هو عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وهذا من أطول الأسانيد عند أبي داود؛ لأن فيه تسعة أشخاص، وأربعة منهم أخرج لهم أبو داود وحده، وهم: شهاب والقاسم وسالم وعمرو بن وابصة.
فهؤلاء تسعة أشخاص، وهذا من أطول الأسانيد عند أبي داود، وأعلى الأسانيد عنده أربعة.
[فلقيت خريم بن فاتك].
خريم بن فاتك صحابي، أخرج له أصحاب السنن، لكنه في طبقة الصحابة فهو وابن مسعود في طبقة واحدة.(478/8)
الجمع بين قوله: (المقتول خير من القاتل) وقوله: (قتلاها كلهم في النار)
قد يرد سؤال هو: كيف نجمع بين هذا وحديث: (المقتول خير من القاتل)، وهنا قال: (قتلاها كلهم في النار)؟
الجواب
هذا الحديث ضعفه الألباني، ولو صح فإنه مثلما في الحديث الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه).(478/9)
شرح حديث (إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن محمد بن جحادة عن عبد الرحمن بن ثروان عن هزيل عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا قِسيكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دخل -يعني: على أحد منكم- فليكن كخير ابني آدم)].
أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وهو متفق مع مواضع من مع الأحاديث التي مرت.
[قوله: (إن بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا قسيكم)].
القسي هي: الأقواس التي هي من أدوات الحرب في ذلك الوقت.
قوله: [(وقطعوا أوتاركم)]، الأوتار هي للأقواس.
قوله: [(واضربوا سيوفكم بالحجارة)،] معناه: حتى لا يكون عندكم سلاح، ولا يكون هناك مجال للمشاركة في الفتنة.
قوله: [(فإن دخل على أحد منكم)]، يعني: في بيته، وأريد قتله، فليكن كخير ابني آدم الذي قال: {مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [المائدة:28 - 29].(478/10)
تراجم رجال إسناد حديث (إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الوارث بن سعيد].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن جحادة].
محمد بن جحادة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن ثروان].
عبد الرحمن بن ثروان صدوق ربما خالف، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن هزيل].
هزيل ثقة مخضرم، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن أبي موسى الأشعري].
هو أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(478/11)
شرح حديث (من مشى إلى رجل من أمتي ليقتله فليقل هكذا)
قال الإمام المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا أبو عوانة عن رقبة بن مصقلة عن عون بن أبي جحيفة عن عبد الرحمن -يعني ابن سميرة - قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر رضي الله عنهما في طريق من طرق المدينة، إذ أتى على رأس منصوب فقال: شقي قاتل هذا، فلما مضى قال: وما أرى هذا إلا قد شقي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (من مشى إلى رجل من أمتي ليقتله فليقل هكذا، فالقاتل في النار والمقتول في الجنة)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رجلاً قال: كنت مع ابن عمر في طريق من طرق المدينة، ومر على رأس منصوب، يعني: أنه قد قتل، فقال ابن عمر: (شقي قاتل هذا، ثم لما أدبر قال: وما أرى هذا إلا قد شقي) يعني: المقتول.
ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من مشى إلى رجل من أمتي ليقتله فليقل هكذا).
أي: أن المقتول يمد رقبته له؛ لأنه إذا قتل يكون في الجنة والقاتل يكون في النار ويبوء القاتل بإثمه وإثم القتيل، كما قد حصل من أحد ابني آدم الذي قتل أخاه.
قوله: [(فليقل هكذا)] قال في الشرح: هو إشارة إلى مد عنقه، والحديث ضعيف، ففيه عبد الرحمن بن سميرة وهو مقبول ثم أيضاً قوله: (من مشى إلى رجل من أمتي ليقتله، فليقل هكذا فالقاتل في النار والمقتول في الجنة).
إذا كان المقصود به المقتول فهذا لا يكون متفقاً مع ما جاء في آخر الحديث من قوله: شقي قاتل هذا، فلما مضى قال: وما أرى هذا إلا قد شقي.
أي المقتول، وهذا لا يتفق مع الاستدلال الذي جاء في الآخر، وما ذكره في عون المعبود من أن المقصود به ابن الزبير يرد عليه بأمرين: الأمر الأول: أن ابن الزبير كان في مكة وليس في المدينة.
والأمر الثاني: لا يمكن أن يقال في ابن الزبير: قد شقي.
قوله: [أتى على رأس منصوب].
يعني: مقتول ومصلوب كله أو أن الرأس نفسه معلق على حدة.
وقوله: [فلما مضى قال: وما أرى هذا إلا قد شقي]، لا يعتبر تأكيداً لكلامه السابق؛ لأنه قال (وما أرى هذا) أي: المقتول (إلا قد شقي)، وهذا يمكن أن يتفق مع حديث: (القاتل والمقتول في النار)، الذي سيأتي، لكن كونه يأتي بعده: (القاتل في النار والمقتول في الجنة)، لا يتطابق مع هذا الكلام، وأيضاً كونه يفسر بـ ابن الزبير أيضاً لا يستقيم.(478/12)
تراجم رجال إسناد حديث (من مشى إلى رجل من أمتي ليقتله فليقل هكذا)
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
هو أبو الوليد الطيالسي هشام بن عبد الملك، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو عوانة].
هو أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رقبة بن مصقلة].
رقبة بن مصقلة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة أخرج له في التفسير.
[عن عون بن أبي جحيفة].
عون بن أبي جحيفة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن -يعني ابن سميرة -].
عبد الرحمن بن سميرة مقبول أخرج له أبو داود وحده.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال: أبو داود: رواه الثوري عن عون عن عبد الرحمن بن سمير أو سميرة].
يعني: هذه النقول التي بعد ذلك فيها اختلاف في أبي عبد الرحمن، هل هو سمير أو سميرة أو سبرة، يعني عدة وجوه قيلت في اسم أبي عبد الرحمن هذا.
[قال: أبو داود رواه الثوري].
الثوري هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عون عن عبد الرحمن بن سمير أو سميرة].
هذا شك: سمير أو سميرة.
[ورواه ليث بن أبي سليم عن عون].
ليث بن أبي سليم صدوق اختلط جداً، فلم يتميز وترك.
أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عون عن عبد الرحمن بن سميرة].
عون عن عبد الرحمن بن سميرة، وهذا مطابق لما هو موجود.
[قال أبو داود: قال لي الحسن بن علي] الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب إلا النسائي.
حدثنا أبو الوليد -يعني: بهذا الحديث- عن أبي عوانة وقال: هو في كتاب ابن سبرة وقالوا: سمرة وقالوا: سميرة هذا كلام أبي الوليد].
معناه: أنه اختلف، وحاصل الكلام: أنه كله يدور حول الاختلاف في والد عبد الرحمن الذي يروي عن ابن عمر.(478/13)
شرح حديث (كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن أبي عمران الجوني عن المشعث بن طريف عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر! قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك)، -فذكر الحديث، قال فيه-: كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف- يعني: القبر-؟ قلت: الله ورسوله أعلم، أو قال: ما خار الله لي ورسوله، قال: عليك بالصبر، أو قال: تصبر، ثم قال لي: يا أبا ذر! قلت: لبيك وسعديك، قال: كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم؟ قلت: ما خار الله لي ورسوله، قال: عليك بمن أنت منه، قلت: يا رسول الله! أفلا آخذ سيفي وأضعه على عاتقي؟ قال: شاركت القوم إذن قلت: فما تأمرني؟ قال: تلزم بيتك، قلت: فإن دخل عليَّ بيتي، قال: فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه).
قال: أبو داود: لم يذكر المشعث في هذا الحديث غير حماد بن زيد].
أورد أبو داود حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا ذر! قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر) نداء له حتى يكون متهيئاً ومستعداً لما سيلقى عليه، وقول أبي ذر رضي الله عنه في جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لبيك يا رسول الله وسعديك) هذه إجابة يجيب بها من دعي وهي إجابة حسنة جميلة فيها أدب، ولبيك بمعنى: الإجابة، أي: أن من ينادى يجيب بهذا الجواب وهو جواب حسن، معناه: نعم أنا أجيبك وأنتظر لما تريد، أو مستعد لما تريد مني، وهذا يقوله النبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن يجعل ذلك المنادى على انتباه وتأهب لإلقاء الشيء الذي سيقوله له، بخلاف ما لو قال: كذا وكذا قبل أن يقول ذلك فإنه لا يكون مثل الأول في التهيؤ والاستعداد لتلقي ما يلقى عليه ولاستيعاب ما يلقى عليه.
قوله: [فذكر الحديث] يعني: أن فيه اختصار، ولم يسرد أبو داود الحديث كله على ما جاء، وإنما أتى بشيء يتعلق بالفتن.
قوله: [(كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف -يعني: القبر-؟)، البيت هنا المقصود به القبر يكون بالوصيف، وفسر الوصيف بأنه القبر نفسه، يعني: لا يوجد مكان يقبر فيه فيحتاج الناس إلى أن يشتروا مكاناً يقبرون فيه، والوصيف هو العبد، معناه: أن القبر سيكون شيئاً ذا قيمة وفسر أيضاً بأن الناس يشغلون عن دفن موتاهم حتى يكون الذي يتولى ذلك شخص تكون أجرته على ذلك أن يعطى عبداً، وهناك تفسير آخر ذكره في عون المعبود قال: وقيل معناه: أن البيوت تصير رخيصة لكثرة الموت وخلو أهلها منها، وتباع من ورائهم رخيصة فتكون قيمة البيت رخيصة كقيمة العبد هذه أقوال قيلت في تفسير أن البيت يكون بالوصيف.
وقيل أيضاً: معناه: أنه لا يبقى في كل بيت كان فيه كثير من الناس إلا عبد يقوم بمصالح ضعفة أهل ذلك البيت، يعني: ليس كلهم هلكوا، وإنما هلك كثير منهم وبقي أناس ضعفاء يقوم على خدمتهم ذلك العبد.
ويؤيد التفسير الأول ما ورد في رواية مشكاة المصابيح: (كيف بك يا أبا ذر إذا كان بالمدينة موت يبلغ البيت العبد، حتى إنه يباع القبر بالعبد).
البيت يقال له: بيت؛ لأنه منزل، كما أن بيوت الناس التي يسكنونها في الدنيا يقال لها: منازل وبيوت، والقبر يقال له بيت لأنه مسكن للميت يكون فيه؛ ولهذا جاء عن المعمر بن علي البغدادي الذي توفي سنة خمسمائة وسبع من الهجرة، وكان قد نصح زعيماً كبيراً في الدولة، وكان الملك قد فوض إليه أمور الدولة، فكان مما نصحه المعمر بن علي البغدادي وهي نصيحة بليغة عظيمة، قال له بعد أن سلم عليه ودعا له: إن من كان في ولاية فإنه ليس مخيراً بالقاصد والوافد، إن شاء وصل وإن شاء فصل، وإنما عليه أن يفتح بابه، وأما من كان ليس في ولاية فهو مخير إن شاء فتح بابه وإن شاء أغلق بابه؛ لأنه غير مسئول، ثم قال: لأن من كان على الخليقة أمير فهو في الحقيقة أجير، قد باع زمنه وأخذ ثمنه، فلم يكن له في نهاره ما يتصرف فيه باختياره، وليس له أن يصلي نفلاً ولا أن يدخل معتكفاً؛ لأنه أصبح مسئولاً ومرتبطة به حاجات الناس فلا يفعل النوافل ويترك الفرائض؛ لأن القيام بمصالح الناس فرض، وكونه يعتكف أو يصلي هذا نفل، أو يصلي نفلاً غير واجب، والفرض يقدم على النفل.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري نقلاً عن بعض أهل العلم أنه قال: من اشتغل بالفرض عن النفل فهو معذور، ومن اشتغل بالنفل عن الفرض فهو مغرور.
ثم ذكر له كلاماً حول مسئوليته وما أناطه به ذلك الملك، وذلك الإمام وختم ذلك بقوله: فاعمر قبرك كما عمرت قصرك.
وهذا محل الشاهد الذي أوردت القصة من أجله؛ لأن هذا بيت وهذا بيت، والبيت في الدنيا عمارته بنيانه وإقامته، والقبر عمارته بالأعمال الصالحة التي يقدمها الإنسان ليجدها إذا أدخل ذلك الذي هو القبر.
وهذه قصة جميلة ذكرها الحافظ ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة في ترجمة المعمر بن علي البغدادي وذكر أيضاً أنه لما نصحه أعطاه مقداراً كبيراً من الدنانير، وقال: وزعها على المساكين، فامتنع عن أخذها وقال: المساكين على بابك أكثر منهم على بابي.
قوله: [قال: (كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف- يعني: القبر-؟ قلت: الله ورسوله أعلم، أو قال: ما خار الله لي ورسوله)].
يعني: الله ورسوله أعلم، أو ما اختار الله لي ورسوله، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يخبره بشيء يسلكه، وطريق يتخذه وعمله يعمله.
قوله: [(قال: عليك بالصبر)]، يعني: هذا الذي عليه أن يفعله، (عليك بالصبر أو قال: تصبر).
قال في عون المعبود: تصبّر، يعني: عليك أن تصبَّر، واعمل أو اجتهد في حصول التصبر الذي يكون بمثابة معالجة ومجاهدة النفس على الصبر وعدم المشاركة في الفتنة.
قوله: [(ثم قال لي: يا أبا ذر! قلت: لبيك وسعديك، قال: كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم؟!)]، أحجار الزيت مكان حول المدينة، وفسر هذا بفتنة الحرة التي حصلت على يد شخص يقال له: مسلم بن عقبة المري.
قوله: [(قلت: ما خار الله لي ورسوله قال: عليك بمن أنت منه)]، لا أدري ماذا يراد بها، اللهم إلا أن يكون المقصود به ملازمة الأرض؛ لأن الإنسان من الأرض، ومثل هذا يقال له: ما أنت منه؟ لأن من للعاقل، وما لغير العاقل، فلا أدري ما المراد بها، وقال بعد ذلك: (تلزم بيتك)، يعني: جاء التوضيح فيما بعد أنه يلزم بيته ويكون حلساً من أحلاس بيته.
قال العظيم أبادي: (عليك بمن أنت منه) أي: الزم أهلك وعشيرتك الذين أنت منهم.
والمقصود من ذلك أنه يلزمهم، ويبقى معهم في البيت، ويكون مع من بقي ولم يشتغل في الفتنة، لكن كونه في يوم إذا أهله شاركوا في الفتنة لا يكون معهم، ولكن المقصود من ذلك: أنهم إذا ابتعدوا عن الفتنة ولزموا الأرض فأنت الزمها معهم، أما كونه يكون معهم حيث كانوا فقد يشارك، اللهم إلا إن كان المقصود به النساء والصغار الذين هم ليسوا من أهل المشاركة، وإنما هم باقون في البيوت، والحاصل أنه يبقى في البيوت مع من لا يقاتل.
وقيل المراد (بمن أنت منه): الإمام، أي: الزم إمامك ومن بايعته، وكذلك أيضاً هذا المعنى مستقيم.
قوله: [(قلت: يا رسول الله! أفلا آخذ سيفي وأضعه على عاتقي؟ قال: قد شاركت القوم إذاًَ)] ما دام أنه أخذ السيف ووضعه على عاتقه فقد وجدت المشاركة، ويدل على المشاركة كون الإنسان يضع سيفه على عاتقه، فهو مستعد أنه يقابل، ومستعد أنه يلاقي.
قوله: [(قال: فما تأمرني؟ قال: تلزم بيتك، قلت: فإن دخل علي بيتي؟ قال: فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه)].
قوله: [(يبهرك شعاع السيف) يعني: شعاعه وبريقه ولمعانه، (فضع ثوبك على وجهك) حتى لا ترى هذا الشيء، وإذا قتلك فقد باء بإثمك وإثمه، وأنت تكون من أهل الجنة وهو من أهل النار.
[قال أبو داود: لم يذكر المشعث في هذا الحديث غير حماد بن زيد].
هذا يتعلق بالإسناد، يعني: أن المشعث الذي ذكره هو حماد بن زيد.(478/14)
تراجم رجال إسناد حديث (كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف؟)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا حماد بن زيد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عمران الجوني].
أبو عمران الجوني هو عبد الملك بن حبيب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب.
[عن المشعث بن طريف].
المشعث بن طريف مقبول، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن عبد الله بن الصامت].
عبد الله بن الصامت ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي ذر].
أبو ذر رضي الله عنه جندب بن جنادة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، والحديث صححه الألباني، وفيه هذا المقبول، لكن لعل ذلك لشواهد.(478/15)
شرح حديث (إن بين أيديكم فتناً كقطع الليل المظلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عفان بن مسلم حدثنا عبد الواحد بن زياد قال: حدثنا عاصم الأحول عن أبي كبشة قال: سمعت أبا موسى يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بين أيدكم فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: كونوا أحلاس بيوتكم)].
أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وقد مر نظير هذا الحديث بهذا المعنى تماماً، وفيه التفاوت بين القاعد والقائم والماشي والساعي، وأن من الخير للناس أن يكونوا كأحلاس بيوتهم، وهنا قال: (يكون بين أيديكم فتناً كقطع الليل المظلم)، (بين أيديكم) يعني: أمامكم، وفي مستقبل أيامكم تكون فتناً كقطع الليل المظلم من شدتها وصعوبتها.(478/16)
تراجم رجال إسناد حديث (إن بين أيديكم فتناً كقطع الليل المظلم)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
محمد بن يحيى بن فارس ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عفان بن مسلم].
هو عفان بن مسلم الصفار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الواحد بن زياد].
عبد الواحد بن زياد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عاصم الأحول].
هو عاصم بن سليمان الأحول، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي كبشة].
هو أبو كبشة السلولي، وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[سمعت أبا موسى].
أبو موسى هو عبد الله بن قيس الأشعري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، والحديث مطابق لما تقدم، المقبول فيه لا يؤثر؛ لورود أحاديث في معناه منها: (كسروا قسيكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا سيوفكم، فإن دخل على أحد منكم فليكن كخير ابني آدم)، وحديث: (تكف لسانك ويدك، وتكون حلساً من أحلاس بيتك، فلما قتل عثمان طار قلبي)، وحديث: (إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي)، وحديث أبي بكرة (إنها ستكون فتن يكون المضطجع فيها خير من الجالس، والجالس خير من القائم، والقائم خير من الماشي)].(478/17)
شرح حديث (إن السعيد لمن جنب الفتن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن الحسن المصيصي حدثنا حجاج -يعني ابن محمد - حدثنا الليث بن سعد قال: حدثني معاوية بن صالح أن عبد الرحمن بن جبير حدثه عن أبيه عن المقداد بن الأسود قال: أيم الله لقد سمعت رسول الله صلى الله وسلم يقول: (إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواها)].
أورد أبو داود حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن السعيد لمن جنب الفتن) وكررها ثلاثاً ثم قال: (ولمن ابتلي فصبر فواها) قيل المقصود بـ (واها) أنها إعجاب، يعني: ما أحسن فعله! وما أحسن عمله! وقيل: إنها تلهف على حصول شيء، ولكن قضية الإعجاب واضحة فيه؛ لأن هذا مدح وثناء.(478/18)
تراجم رجال إسناد حديث (إن السعيد لمن جنب الفتن)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن الحسن المصيصي].
إبراهيم بن الحسن المصيصي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا حجاج -يعني: ابن محمد -].
هو حجاج بن محمد المصيصي الأعور، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث بن سعد].
هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثني معاوية بن صالح].
هو معاوية بن صالح بن حدير، وهو صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[أن عبد الرحمن بن جبير حدثه].
عبد الرحمن بن جبير ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه كذلك.
[عن المقداد بن الأسود].
المقداد بن الأسود رضي الله عنه وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(478/19)
ما جاء في كف اللسان(478/20)
شرح حديث (ستكون فتنة صماء بكماء عمياء وإشراف اللسان فيها كوقوع السيف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كف اللسان.
حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث حدثني ابن وهب حدثني الليث عن يحيى بن سعيد قال: قال خالد بن أبي عمران عن عبد الرحمن بن البيلماني عن عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون فتنة صماء بكماء عمياء، من أشرف لها استشرفت له، وإشراف اللسان فيها كوقوع السيف)].
أورد أبو داود باباً في كف اللسان.
يعني: الكلام في الفتن الذي فيه تحريك لها، وتهييج عليها، وحث إليها، أو تسبب في إذكائها وإشعال نارها، وذلك أن الكلام يكون من أسباب الفتن، وقد يترتب على الكلام حصول الفتن، ويكون سببها وأصلها الكلام، فيكون الفعل في الفتن ناشئ عن القول فيها، والترغيب في الدخول فيها، وتهييج الناس وتحريكهم إلى أن يقدموا على ما فيه مضرة فتكون بسبب ذلك الفتن.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة قال: (ستكون فتنة صماء بكماء عمياء من أشرف لها استشرفته)، معناه: من اتجه إليها اتجهت إليه، لتلاقيه، فعندما يقبل عليها تقبل عليه، بمعنى: أن ذلك يحصل ويتحقق، وأن الإنسان عندما يدخل فيها يجد ما يشجعه ويرغبه في الدخول فيها (من أشرف إليها استشرفته).
قوله: [(وإشراف اللسان فيها كوقوع السيف)]، يعني: كونه يدخل فيها بلسانه فهو كوقوع السيف في شدته؛ ولهذا يقولون: كلم اللسان أنكى من كلم السنان.
بل إن إعمال السيوف يكون سببه الكلام، وحصول الكلام الذي ينتج عنه مد الأيدي والاقتتال.
والحديث في إسناده ابن البيلماني وهو ضعيف.
قوله: [(صماء بكماء عمياء)] معناه: أنها مدلهمة من جميع الوجوه.(478/21)
تراجم رجال إسناد حديث (ستكون فتنة صماء بكماء عمياء وإشراف اللسان فيها كوقوع السيف)
قوله: [حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث].
عبد الملك بن شعيب بن الليث ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثني ابن وهب].
ابن وهب هو عبد الله بن وهب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني الليث].
هو الليث بن سعد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قال: [خالد بن أبي عمران].
خالد بن أبي عمران صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عبد الرحمن بن البيلماني].
عبد الرحمن بن البيلماني ضعيف، أخرج له أصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن هرمز].
عبد الرحمن بن هرمز هو الأعرج، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه وهو أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً.(478/22)
شرح حديث (إنها ستكون فتنة تستنظف العرب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد بن زيد حدثنا ليث عن طاوس عن رجل يقال له: زياد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون فتنه تستنظف العرب، قتلاها في النار، اللسان فيها أشد من وقع السيف)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر: (أنها ستكون فتنة تستنظف العرب قتلاها في النار، اللسان فيها أشد من وقع السيف).
يعني: في ضرره وتأثيره, وذلك بالتحريض والتهييج والتحريك وإفساد النفوس, والقلوب، كل ذلك يحصل عن طريق اللسان, وعن طريق تهييج الغوغاء من الناس الذين يتبعون كل ناعق وكل شيء يسمعونه يستسلمون له وينقادون إليه.
قوله: (تستنظف) أي: تستوعبهم هلاكاً، من استنظفت الشيء أخذته كله.
وخصص العرب فقال: (تستنظف العرب) كأنها تقع في العرب، ولكن الحديث ضعيف أيضاً.(478/23)
تراجم رجال إسناد حديث (إنها ستكون فتنة تستنظف العرب)
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد].
هو محمد بن عبيد بن حساب، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد بن زيد].
هو حماد بن زيد، مر ذكره.
[حدثنا ليث].
هو الليث بن أبي سليم، وقد مر ذكره، وقد اختلط حتى لم يتميز فترك.
[عن طاوس].
هو طاوس بن كيسان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رجل يقال له زياد].
زياد مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن عبد الله بن عمرو].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد الصحابة المكثرين الذين كانوا يكتبون الحديث، ولكنه ما بلغ أن يكون مثل السبعة الذين عرفوا بكثرة الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: رواه الثوري عن ليث عن طاوس عن الأعجم].
يعني: زياد، عبر عنه بـ الأعجم في هذا الإسناد.(478/24)
الكلام في زياد الأعجم الذي روى عنه طاوس حديث الفتنة التي تستنظف العرب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع حدثنا عبد الله بن عبد القدوس قال: زياد سيمين كوش].
وهذا إسناد آخر فيه أن زياد يقال له: سيمين كوش وهو لقب.
قال الخطابي: كلمة فارسية معناها أبيض الأذن، وسيمين: الفضة، وكوش: أبيض.
ولا أدري لماذا خص الأذن وحدها بالبياض؟ لعله لأن الأذن مثل باقي الجسم وتابعة له، إلا إن كان فيها برص أو بياض طارئ، وليس مثل الجسم.
[حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع].
محمد بن عيسى بن الطباع ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا عبد الله بن عبد القدوس].
عبد الله بن عبد القدوس صدوق يخطئ، أخرج له البخاري تعليقاً والترمذي.
هذا مقطوع.(478/25)
الأسئلة(478/26)
أفضلية اللجوء إلى ما يشغل عن الفتن حال وقوعها
السؤال
ألا يدل حديث (من كانت له إبل فليلحق بإبله) على فضل الإبل والغنم أو المزرعة في ذلك الوقت حيث تكون الفتن؟
الجواب
يدل على أن وجود مثل ذلك فيه مخرج لمن تقع الفتن وهو موجود بحيث يصد عنها وينشغل عنها بإبله أو غنمه أو أرضه.(478/27)
وجوب الرد على أهل البدع وبيان باطلهم
السؤال
هل يصح وصف من يقوم بالرد على أهل البدع والحزبيات المحدثة بأنه من موقدي الفتن والساعين فيها؟
الجواب
الفتنة تعني: وجود الفرقة، ووجود الانحراف عن الجادة، وأما الرد على أهل البدع ففيه إبطال الباطل وإظهار الحق، إذ لا يترك الباطل يصول ويجول ولا يتعرض له، وكأنه هو الذي لا يكون غيره، ولا ينبغي أن يكون سواه، ومنذ قديم الزمان والحق والباطل في سجال، وأهل السنة في ردود وتفنيد لمذاهب غيرهم من أهل البدع من قديم الزمان، وهذه الكتب موجودة، والردود موجودة منذ العصور الأولى، فوجود المبطلين في مختلف العصور والردود عليهم موجودة، ولا يقال: إن البدع والمحدثات إذا وجدت يسكت عنها، وإنما دحضها وبيان الباطل هذا من الجهاد في سبيل الله، والجهاد كما يكون بالنفس وبالمال يكون باللسان وبالقلم وبالنية، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن في المدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم -يعني: بقلوبهم ونياتهم- حبسهم العذر) قال ذلك في غزوة تبوك في الذين ليس لديهم قدرة ولا ظهر يركبونه وجلسوا يبكون لما لم يتهيأ لهم الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم في سبيل الله، فالرد على المبطلين والمنحرفين عن الجادة من الجهاد في سبيل الله.(478/28)
حكم الانشغال بمتابعة الأحداث عن كل ما ينفع
السؤال
هل يمكن أن يقال: إن من الوسائل الحديثة في الابتعاد عن الفتن عدم متابعتها في وسائل الإعلام أو في وسائل الاتصال الحديثة مثل الجوال والإنترنت؟
الجواب
كون الإنسان يشغل نفسه بمتابعة هذه الأمور، فإن ذلك يكون على حساب شغل وقته فيما يعود عليه بالخير؛ لأن الإنسان إذا شغل وقته بهذه الأمور لم يجد وقتاً للاشتغال بالعلم وللإفادة والاستفادة، ولا بأس بأن يكون على علم ومعرفة بالأحداث وبما يحصل، لكن لا يكون هذا شغله الشاغل؛ لأن بعض الناس هذا شغله الشاغل، فتجده من إذاعة إلى إذاعة، ومن جريدة إلى جريدة، ومن مجلة إلى مجلة طوال اليوم ما عدا مدة النوم والأكل، هذا كله اشتغال بهذه الأمور، والاشتغال بما ينفع لم يبق له نصيب ولم يبق له محل.(478/29)
كسر السلاح أو إفساده في حال الفتن
السؤال
إذا كان الرجل له سلاح ذو قيمة، وجاءت فتنة من الفتن، فهل يجب عليه أن يكسر هذا السلاح وأن يفسده؟
الجواب
الحديث محتمل لأن يكون المقصود بالفعل كونه يفسده، أو أن المقصود بذلك التنبيه والإشارة إلى أن الإنسان يبتعد عنه كأنه لا سلاح له.(478/30)
تعلق المدافعة عن النفس بولي الأمر وغيره
السؤال
ولي الأمر إذا ظلم شخصاً ودخل عليه، فهل يكون كخير ابني آدم، ولا يبسط يده ولا يمد يده إليه، فإن قتل فهو شهيد؟
الجواب
هذا الحديث ليس خاصاً بولي الأمر، والداخل ليس خاصاً بأن يكون مسئولاً أو من ولاة الأمور، وإنما حتى غيره، وأن يصير المرء مقتولاً خير من أن يكون قاتلاً، ولكن الدفع بالتي هي أحسن مطلوب.
وفي الحديث: (من قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد)، والمقصد: أنه يدافع عن نفسه، ولا يستسلم لمن صال عليه، أو أراد ماله أو عرضه، وإذا دافع عن نفسه له ذلك، فإن قتل فهو شهيد، وإن ترك كان كخيري ابني آدم؛ لأن ابني آدم ما كان أحدهما ولي أمر، وإنما هما اختلفا وتشاجرا وأحدهما أراد أن يقتل الآخر.
ولا يفهم من هذا الحديث أنك لا تدافع إذا دخل عليك رجل ليعتدي عليك أو على زوجتك أو أولادك أو مالك، بل المدافعة مطلوبة، ولكن لا تكون بالقتل، وإنما بما هو دون القتل إن أمكن، كأن يمسكه أو يقيده أو يعمل أي شيء ليتخلص من شره بدون قتله، وإن لم يكن إلا القتل وقتل فهو معذور.
والذي يظهر من الحديث أن الإنسان لا يقتل صاحبه، وإنما يدفعه، وإن حصل قتل من ذاك فهذا على خير وذاك على شر.
ومعلوم أن الإنسان يدافع عن نفسه بدون القتل، والممنوع إنما هو القتل؛ لأنه قال: {مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة:28]، وأما كون الإنسان يدافع عن نفسه بغير القتل، هذا أمر مطلوب، لكن لا يعمد إلى القتل.(478/31)
ضعف حديث (من تعلم لغة قوم أمن مكرهم)
السؤال
ما صحة حديث: (من تعلم لغة قوم أمن مكرهم)؟
الجواب
هذا غير صحيح، وما ثبت في هذا شيء.(478/32)
دفع الصائل يكون في كل زمان ومكان
السؤال
ألا يحتمل أن يكون حديث: (فليكن كخير ابني آدم)، محمول على زمن الفتن، أما غير زمن الفتنة فيدافع عن نفسه، وإن احتاج إلى قتل الصائل قتله؟
الجواب
قال في الحديث: (فإن دُخل عليه في بيته)، وهذا هو دفع الصائل المطلوب، وغير المطلوب هو المبادرة إلى القتل؛ لأن خير ابني آدم قال: {مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة:28]، أنا لا أريد قتلك حتى وإن أردت قتلي، لكن كونه يدفع ويحول بينه وبين القتل بدون أن يقتله، فهذا طيب.(478/33)
واجب العلماء وطلبة العلم تجاه الأحداث الدائرة في بلاد المسلمين
السؤال
تعلمون ما تتعرض له فلسطين من قتل ونهب ودمار من قبل أهل الكفر أعداء الله، فهل من كلمة حول الأحداث، وما واجبنا نحن طلبة العلم، خاصة أن الناس يتطلعون إلى أمثالكم لمعرفة واجبهم، وبيان أن العلماء أمثالكم ليسوا في غفلة عن أحوال الأمة؟ وما واجب طلبة العلم تجاه إخوانهم في فلسطين، وهل يشرع للمسلمين القنوت في الصلاة والدعاء على اليهود، وهل هذا يعتبر من فتن هذا العصر؟
الجواب
لا شك أن هذا من الفتن، ومن البلاء الذي حصل للمسلمين من تسلط أعدائهم عليهم وحصول الأضرار المختلفة على المسلمين، والمسلم عليه أن يدعو لإخوانه المسلمين بأن يفرج الله عنهم، وأن يكبت عدوهم، وأن يدحره، وأن يخلصهم مما هم فيه من الظلم والضيق، وأن يسأل الله عز وجل لإخوانه المسلمين السلامة والعافية، وأن ينزل بأسه على أعدائهم الذين ظلموهم وقهروهم، ولا شك أن من أعظم أسباب السلامة من الأعداء الاستقامة على طاعة الله وأمره والقيام بما شرعه؛ لأن هذا هو سبب كل خير، وما يحصل من المسلمين في هذا الزمان من تفرق وتشتت وانحراف عن منهج الحق والهدى هو سبب ما هم فيه من نكبات وأضرار، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، والذنوب والمعاصي هي سبب كل بلاء.
فنسأل الله عز وجل أن يوفق المسلمين جميعاً إلى الرجوع إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، وأن يستقيموا على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما نسأله سبحانه وتعالى أن يكبت أعداءهم، وأن ينزل فيهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
والقنوت للمسلمين في النكبات والمصائب واجب، وسؤال الله عز وجل أن يخلصهم مما هم فيه أمر مطلوب لكن بعد إذن ولي الأمر في ذلك.(478/34)
جواز ظهور الملائكة في صورة الإنس
السؤال
هل يمكن أن يظهر ملك الموت لأحد من الناس في صورة رجل أو مسكين كما نقرأ في بعض القصص التي تروى عن السلف؟
الجواب
المسكين ضعيف وملك الموت قوي، ويمكن أن يظهر في صورة إنسان، كما في قصة موسى عليه الصلاة والسلام عندما جاءه بصورة إنسان، والملائكة كما هو معلوم تتحول إلى صورة إنسان كما حصل لجبريل فإنه جاء على صورة دحية بن خليفة الكلبي.(478/35)
شرح سنن أبي داود [479]
إن رحى الفتن إذا دارت طحنت تحت كلكلها الداخل فيها والموقد لها، سواء بالقول أو بالفعل؛ لذا أتى التحريض على تركها والهروب منها، وكف اللسان عن إثارتها وإذكائها، واجتناب القتال فيها، حتى ولو قتل المرء فيها صابراً.(479/1)
ما جاء فيما يرخص فيه من البداوة في الفتنة(479/2)
شرح حديث (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يرخص فيه من البداوة في الفتنة.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن).
أورد أبو داود باب ما يرخص فيه من البداوة في الفتنة.
يعني: البداوة ليست مطلوبة في الأصل، وفيها جفاء (من بدا جفا) وقد سبق أن مر بنا الحديث في هذا، ولكن في بعض الأوقات وعندما يكون هناك فتن فإنه يرخص في ذلك بل ويرغب فيه للسلامة من الفتن، والابتعاد عنها وعن المشاركة فيها، بأن يكون الإنسان في عزلة وبعد عنها، حتى لا يكون له مشاركة أو نصيب فيها.
أورد أبو داود حديث أبي سعيد قال رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال)، يعني: أعالي الجبال، (مواقع القطر): أماكن نزول المطر، سواء كان في سفح أو وعر، وسواء كان في علو أو سفول، فهو يتبع العشب والرعي، ويكون بذلك فاراً بدينه من الفتن؛ لأنه مشتغل بهذه الغنم يرعاها، ويشرب ويقتات من درها، ويكون بعيداً من الفتن وأهلها.
قوله: [(يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر)].
مواقع القطر هذه أعم من شعف الجبال؛ لأن المقصود بها أماكن الرعي والخصب، وسواء كان ذلك في جبال أو في غير جبال، وهو من عطف العام على الخاص.
قوله: [(يفر بدينه من الفتن)].
يعني: السبب الذي جعله يكون كذلك هو الفرار بدينه من الفتن، وحتى لا يكون مع أهلها فيشارك فيها.(479/3)
تراجم رجال إسناد حديث (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة].
عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن صعصعة ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبيه].
وهو كذلك ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري هو سعد بن مالك بن سنان رضي الله تعالى عنه، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(479/4)
ما جاء في النهي عن القتال في الفتنة(479/5)
شرح حديث (إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النهي عن القتال في الفتنة.
حدثنا أبو كامل حدثنا حماد بن زيد عن أيوب ويونس عن الحسن عن الأحنف بن قيس قال: خرجت وأنا أريد -يعني: في القتال- فلقيني أبو بكرة فقال: ارجع فإني سمعت رسول الله صلى الله وعلى آله وسلم يقول: (إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قال: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه)].
أورد أبو داود باباً في النهي عن القتال في الفتنة.
أي: أن الإنسان لا يشارك في الفتن بالقتال، بل عليه الاعتزال وترك المشاركة؛ لأن في ذلك السلامة، وقد أورد أبو داود حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه أنه قال للأحنف بن قيس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)، يعني: تقابلا وكل منهما ضرب بسيفه صاحبه.
قوله: [(قال: هذا القاتل فما بال المقتول؟)].
هذا القاتل قتل غيره فهو في النار، لكن ما بال المقتول وهو ليس بقاتل؟ قال: (إنه أراد قتل صاحبه)، وفي بعض الألفاظ: (كان حريصاً على قتل صاحبه) ومعنى ذلك: أنه حصل منه الإقدام ولكنه غلب، وإلا فإنه قصد القتال، ورفع سيفه ومد يده.
إذاً: كل منهما حصلت منه مشاركة بالفعل، وليس بمجرد النية، فهو رفع سيفه ولكن صاحبه سبقه وتفوق عليه وبادره بالقتل أو تمكن من قتله فيكونان مشتركين في إرادة القتل، وأحدهما تمكن من صاحبه والثاني لم يتمكن مع حرصه على قتل صاحبه، ولكن هذا كما هو معلوم لا يلزم أن يكونا واقعين في النار، ولكنهما مستحقان لعذاب النار، وأمرهما تحت مشيئة الله عز وجل إن شاء عفا عنهما وإن شاء عذابهما.(479/6)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)
قوله: [حدثنا أبو كامل].
أبو كامل هو الفضيل بن حسين الجحدري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد بن زيد].
حماد بن زيد مر ذكره.
[عن أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ويونس].
هو يونس بن عبيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
الحسن بن أبي الحسن ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأحنف بن قيس].
الأحنف بن قيس ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بالحلم.
[عن أبي بكرة].
هو أبو بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
ويقال: إن الأحنف كان يريد أن يقاتل مع علي رضي الله عنه.(479/7)
شرح حديث: (إذا تواجه المسلمان بسيفيهما) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن أيوب عن الحسن بإسناده ومعناه مختصراً].
قوله: [حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني].
محمد العسقلاني صدوق له أوهام كثيرة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب عن الحسن].
أيوب والحسن مر ذكرهما.(479/8)
الأسئلة(479/9)
معنى قول ابن عمر (وما أرى هذا إلا قد شقي)
السؤال
هل يمكن أن يكون الرجل المقتول المذكور في حديث ابن عمر الوارد في باب النهي عن السعي في الفتنة من الخوارج، أو من أهل البدع لقول: ابن عمر: (وما أرى هذا إلا قد شقي)؟
الجواب
هذا محتمل والله أعلم، وهو من قبيل: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار).(479/10)
المقصود بقوله في الحديث (القاتل في النار والمقتول في الجنة)
السؤال
قال في الحديث (القاتل في النار والمقتول في الجنة)، فهل المقصود أن من يمد عنقه هو الذي سيكون مقتولاً ويكون من أهل الجنة؟
الجواب
له وجه، ويمكن ذلك، وقد جاء في الحديث (من مشى إلى رجل من أمتي ليقتله فليقل هكذا) والمقتول أو الذي يراد قتله هو الذي يقول هكذا، وبهذا يستقيم.
أما حديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)، فلا يدخل تحت هذا؛ لأن الأول إنسان يريد أن يدافع عن نفسه ولا يريد قتل الآخر، أما في الفتنة فإن كل واحد يريد قتل الآخر، وأما إذا اعتدي على إنسان فإنه يدافع عن نفسه بدون القتل، وقد يضطر إلى القتل فيكون معذوراً ولكن في ذاك الحديث: (إذا التقى المسلمان) فكل واحد متجه لقتل الآخر، لا أن شخصاً معتدياً على آخر، والمعتدى عليه يدافع عن نفسه.
أما عن رجوعه إلى ما جاء في الحديث فهذا واضح، وإنما الإشكال هو في تطبيقه على القصة، إذ الحديث فيه قاتل ومقتول واحد في الجنة وواحد في النار، وفي القصة كل واحد منهما يقال فيه: شقي، فلا يستقيم، أو أنه ساق الحديث من أجل أن يبين أن الذي ينبغي أن يكون الإنسان هكذا، وأنه لا يكون مقاتلاً ولا حريصاً على القتل.(479/11)
جواز ارتكاب أخف الضررين
السؤال
هل يمكن أن يستدل بهذا الحديث على ارتكاب أخف الضررين؟
الجواب
نعم، يستدل به.(479/12)
سبب ذكر الغنم في قوله (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً)
السؤال
تخصيص ذكر الغنم من بهيمة الأنعام هل له وجه؟
الجواب
هذا مثال -والله أعلم- ولذا سبق أن مر بنا أن الإنسان يلحق بإبله كما في قوله: (من كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كان له أرض فليلحق بأرضه)، فإن المقصود أنه يبتعد عن الفتن ويكون تبعاً لما أعطاه الله، ولكن هنا تمثيل بالغنم، لأنها أسهل من غيرها في صعود ورقي الجبال، ولكن المعنى ليس خاصاً فيها؛ لأن من كان صاحب إبل فإنه يحصل في اشتغاله بها ورعيه لها وشربه من لبنها أو درها مثلما حصل للغنم، وقد مر الحديث في هذا.(479/13)
انتشار الفتن في المدن دون البدو
السؤال
هل في هذه الأحاديث إشارة إلى أن أكثر الفتن تكون في المدن دون البدو؟
الجواب
لا شك في ذلك؛ لأن البدو ليسوا مجتمعين، بل هم متفرقون متشتتون، يتبعون مواضع القطر، ويكونون في أماكن مختلفة، فالفتن غالباً تكون في المدن.(479/14)
المقصود بالفتن في الأحاديث
السؤال
هل المقصود بالفتن هنا فتن الشهوات والشبهات والقتل، أو القتل فقط؟
الجواب
الذي يبدو أنه القتل، وأما الشهوات والشبهات فهذه تعالج بالتحذير منها وبيان أخطارها وأضرارها.(479/15)
حكم قول (الله ورسوله أعلم) بعد وفاة الرسول
السؤال
هل يجوز أن نقول الآن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: الله ورسوله أعلم؟
الجواب
لا يقال هذا، وإنما يقال: الله أعلم، وأما في ذلك الوقت فكان يقال: الله ورسوله أعلم؛ لأن عنده علم يخبر به، والرسول يسأل مثل هذا السؤال من أجل أن يبين، وكان المقصود من ذلك أن يستعد السامع وأن يتهيأ، أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلا يقال في كل شيء يسأل عنه: الله ورسوله أعلم؛ لأن هناك أموراً لا يعلمها رسول الله عليه الصلاة والسلام، مثل: لو سئل الإنسان: متى تقوم الساعة؟ فلا يقول: الله ورسوله أعلم؛ لأن الرسول لا يعلم قيام الساعة، فإذاً فيقال بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: الله أعلم، أو لا أدري.
حتى في المسائل والأمور الشرعية عندما يسأل عنها الإنسان يقول: الله أعلم، فيجب إضافة ذلك إلى الله عز وجل، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا يستعملون ذلك في حياته؛ لأنه كان يخاطبهم فيقولون: الله ورسوله أعلم، ثم يعلمهم ويخبرهم، وإنما قال ذلك ليستعدوا لتلقي الجواب، مثل ما جاء في حديث معاذ بن جبل لما كان رديفه قال: (أتدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم) ثم قال: حق الله كذا، وحق العباد كذا.(479/16)
الاستدلال بقول النبي لأبي ذر (كيف بك؟) على وقوع الفتن في عصره
السؤال
جاء في حديث أبي ذر في الفتن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (كيف بك؟)، فهل يفهم من مثل هذا أن هذه الفتن ستقع في زمانه؟
الجواب
يحتمل أن تقع في زمن أبي ذر، وفي حياة أبي ذر.
والاحتمال معناه: أنها قد تحصل وقد لا تحصل في زمانه.(479/17)
عموم استعمال جواب (لبيك وسعديك) لكل أحد
السؤال
هل قول: (لبيك وسعديك) خاص بالله؛ حيث إن بعض الصحابة قال في التلبية في الإحرام: (لبيك وسعديك والرغباء إليك)؟
الجواب
ليس خاصاً بالله؛ لأنه يقال لله ولغير الله، ولهذا قاله الصحابة يجيبون النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الجواب، فهذا جواب أبي ذر، وكذلك أيضاً جواب معاذ قال: (لبيك وسعديك).(479/18)
حكم البداوة في هذا الزمان خوفاً من الفتن
السؤال
هل يجوز البداوة في هذا الزمان باعتبار كثرة الفتن؟
الجواب
الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أولى ممن يعتزلهم، والفتن التي يكون فيها اعتزال هي ما جاء في الأحاديث والمقصود بها الاقتتال، وأما وجود فتن شهوات وشبهات فيخالط الناس ويحذر من تلك الفتن، ويبين الحق ويحذر من الباطل.(479/19)
توجيه مشاركة بعض الصحابة في بعض الفتن
السؤال
إذا كان الاعتزال هو الأفضل في زمن الفتن، فبماذا يوجه فعل بعض الصحابة رضي الله عنهم حيث شاركوا في بعض المواقع؟
الجواب
اجتهدوا في طلب الحق.(479/20)
الجمع بين أحاديث قتال الفتنة ودفع الصائل بأخف ضرر
السؤال
هذا نقل في كيفية الجمع بين الأحاديث التي فهمنا منها بعض التعارض في أن الصائل يدفع ولو بالقتل، وبين أن يكون الإنسان كخير ابني آدم، نقلاً عن المنهج الشرعي في مواجهة الفتن صفحة 109، وهو ينقل عن إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة، للشيخ حمود التويجري.
يقول: لا تعارض بين مبدأ الدفاع عن النفس ومبدأ اعتزال الفتنة وكف اليد واللسان عنها، فإن الدفاع عن النفس مشروع في غير أيام الهرج، أما أيام الهرج فالمشروع فيها كف اليد واللسان ولزوم البيت، وإذا دخل على المسلم أحد في بيته من أهل الفتنة فإنه مأمور بأن يكون كخير ابني آدم، والله أعلم.
الجواب
لكن كما هو معلوم خير ابني آدم الذي حصل منه أنه ما قتل وما أراد القتل، لكن كونه يدفع بدون القتل هذا فيه إحسان إلى نفسه، وفيه إحسان إلى القاتل بالحيلولة بينه وبين أن يقع في أمر خطير، فإن الدفاع بشيء دون القتل أو بمنع القاتل من القتل بمسكه أو بتقييده أو ما إلى ذلك من الأمور، فهذا فيه مصلحة للقاتل والمقتول.
يعني إذا دخل عليه بيته يمنعه بدون أن يقاتله.
وقوله: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ} [المائدة:28] كأن المقصود به لن أبسطها لأقتلك، لكن كونه يرده ويمنعه فلا شيء ينفيه.
وهنا في العون يذكر مسألة يقول: قال القاري: والصواب أن الدفع جائز إذا كان الخصم مسلماً إن لم يترتب عليه فساد، بخلاف ما إذا كان العدو كافراً؛ فإنه يجب الدفع ما أمكن؛ لأنه إذا قتل قتل كافراً وما قتل مسلماً.(479/21)
شر فتنة الخلاف في الدين
السؤال
هل وقوع الخلاف بين طلاب العلم والدعاة في مناهج الدعوة إلى الله من الفتن؟
الجواب
لا شك أن هذا من الفتن، ومن فتنة الناس في دينهم كونهم يتفرقون ويتحزبون.
والفتن كما هو معلوم ليست كلها مجرد قتل؛ لأن الفتن فيها ظاهر وفيها خفي وفيها قتل، وفيها فتنة في الدين، وفتنة الأهل والمال، وفتنة في أمور كثيرة.
ولا يقال: إن اعتزال الكلام في هذه المناهج هو الأفضل، وإنما يبين الحق ليتبع والباطل ليترك وليحذر.(479/22)
شرح سنن أبي داود [480]
لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً، هكذا قال عليه الصلاة والسلام محذراً ومتوعداً من فكر أو سولت له نفسه قتل مسلم.
وما ذلك إذا لأن الإسلام جاء بحفظ الضرورات الخمس والتي منها حفظ النفوس، ولولا ذلك لانتشر القتل وعمت الفوضى ولربما انقطعت الحياة.(480/1)
ما جاء في تعظيم قتل المؤمن(480/2)
شرح الأحاديث الواردة في تعظيم قتل المؤمن
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في تعظيم قتل المؤمن.
حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني حدثنا محمد بن شعيب عن خالد بن دهقان قال: كنا في غزوة القسطنطينية بذلقية، فأقبل رجل من أهل فلسطين، من أشرافهم وخيارهم يعرفون ذلك له، يقال له: هانئ بن كلثوم بن شريك الكناني، فسلم على عبد الله بن أبي زكريا وكان يعرف له حقه، قال لنا خالد: فحدثنا عبد الله بن أبي زكريا قال: سمعت أم الدرداء تقول: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً، أو مؤمن قتل مؤمناً متعمداً)، فقال هانئ بن كلثوم: سمعت محمود بن الربيع يحدث عن عبادة بن الصامت أنه سمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قتل مؤمناً فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)، قال لنا خالد: ثم حدثني ابن أبي زكريا عن أم الدرداء عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بلح).
وحدث هانئ بن كلثوم عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله سواء].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في تعظيم قتل المؤمن].
أي: أن قتل المؤمن عظيم وخطير، وأنه ليس بالأمر الهين، وقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على خطورته، وجاء في السنة المطهرة ما يدل على أنه خطير، وأنه أمر عظيم، وأنه من أكبر الذنوب وأعظمها.
أورد أبو داود حديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، قال خالد بن دهقان: كنا في غزوة القسطنطينية بذلقية، فأقبل رجل من أهل فلسطين من أشرافهم وخيارهم يعرفون ذلك له، يقال له: هانئ بن كلثوم بن شريك الكناني فسلم على عبد الله بن أبي زكريا وكان يعرف له حقه، قال لنا خالد: فحدثنا عبد الله بن أبي زكريا قال: سمعت أم الدرداء تقول: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً، أو مؤمن قتل مؤمناً متعمداً)].
قوله: [(أو مؤمن قتل مؤمناً متعمداً)]، هذا هو محل الشاهد منه، وأنه عطف على الشرك بالله عز وجل، ولكنه جاء في القرآن الكريم أن الشيء الذي لا يغفر هو الشرك وحده، قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فيدخل في ذلك قتل النفس وغير ذلك، والذنب الذي لا يغفر، والذي صاحبه خالد مخلد في النار لا يخرج منها بحال من الأحوال بل يبقى فيها أبد الآباد هو: الشرك، وأما الكبائر والذنوب الأخرى ومنها قتل النفس العمد فإن ذلك يكون تحت مشيئة الله عز وجل؛ إن شاء عذب وإن شاء عفا وتجاوز، وإذا عذب فإن ذلك المعذب -بسبب ذلك الذنب الكبير الذي هو دون الشرك- لا يخلد في النار، بل لابد وأن يخرج منها، ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين هم أهلها.
وإذا كان الإنسان استحل القتل فإن الذنوب إذا استحلت كان استحلالها كفراً، لكن مع عدم الاستحلال هو تحت المشيئة، إن شاء عذب وإن شاء تجاوز.
قوله: [فقال هانئ بن كلثوم: سمعت محمود بن الربيع يحدث عن عبادة بن الصامت أنه سمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قتل مؤمناً فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)].
أورد حديث عبادة بن الصامت: (من قتل مؤمناً فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)، هذا تهديد ووعيد شديد، وهو كغيره من أحاديث الوعيد التي فيها مثل هذا التهديد، إذا شاء الله ألا يتجاوز عن صاحبه فإنه يعذبه، ولكنه لا يخلد في النار.
قوله: [(اعتبط)] أي: قتله ظلماً من غير قصاص، وفي بعض النسخ: (اغتبط) أي: فرح وسُرَّ، ولم يكن متأثراً ولا متألماً، بل هو واقع في المعصية وفرح بها، وليس نادماً عليها.
قوله: [(صرفاً)]، قيل: إن المقصود به النوافل.
قوله: [(وعدلاً)]، قيل: المقصود به الفرائض.
[قال لنا خالد: ثم حدثني ابن أبي زكريا عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بلح)].
أورد حديث أبي الدرداء: (لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بلّح)، يعني: يريد خفيف الظهر يعنق في مشيه فيسير سير المخف.
قوله: [(معنقاً صالحاً)]، هذا تمثيل وتشبيه بالذي يكون خالياً من الظهر ويسير سيراً خفيفاً، والعنق: نوع من السير وهو أخف من النص -كما جاء في حديث الحج وانصرافهم من عرفة إلى مزدلفة، (كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص) أي: أنه كان يسير سيراً خفيفاً، فإذا وجد فجوة أسرع، وزاد في الإسراع.
قوله: [(فإذا أصاب دماً حراماً بلح)]، أي: أعيا وانقطع وهو ضد العنق والسير؛ لأنه كان يسير سيراً خفيفاً ليس فيه سرعة شديدة، ولكنه إذا أصاب دماً حراماً بلح، يعني: أعيا وصار بخلاف الحالة الأولى، وذلك بسبب هذا الذنب، فهو مثل الإنسان الذي يسير وسيره فيه نشاط وقوة، ولكنه إذا حصل هذا الذنب فإنه يتحول إلى العي والتعب ولم يستطع السير.
قوله: [وحدث هانئ بن كلثوم عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله سواء].(480/3)
تراجم رجال أسانيد الأحاديث الواردة في تعظيم قتل المؤمن
قوله: [حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني].
مؤمل بن الفضل الحراني صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا محمد بن شعيب].
محمد بن شعيب صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[عن خالد بن دهقان].
خالد بن دهقان مقبول، أخرج له أبو داود.
[عبد الله بن أبي زكريا].
عبد الله بن أبي زكريا ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن أم الدرداء].
أم الدرداء هي هجيمة وهي أم الدرداء الصغرى، وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الدرداء].
أبو الدرداء هو عويمر بن زيد وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قال: [هانئ بن كلثوم].
هانئ بن كلثوم ثقة، أخرج له أبو داود.
[سمعت محمود بن الربيع].
محمود بن الربيع صحابي صغير، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأكثر روايته عن الصحابة، وهو صاحب المجة الذي قال: (عقلت مجة مجها علي الرسول صلى الله عليه وسلم من دلو).
[عن عبادة بن الصامت].
عبادة بن الصامت رضي الله عنه الصحابي الجليل، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث صحيح، وله متابعات.(480/4)
شرح أثر يحيى الغساني في تفسير قوله (اعتبط بقتله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الرحمن بن عمرو عن محمد بن المبارك قال: حدثنا صدقة بن خالد أو غيره قال: قال: خالد بن دهقان: سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله: (اعتبط بقتله) قال: الذين يقاتلون في الفتنة، فيقتل أحدهم فيرى أنه على هدى لا يستغفر الله، يعني: من ذلك.
قال أبو داود وقال: فاعتبط يصب دمه صباً].
أورد أبو داود هذه الآثار عن خالد قال: سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله: (اعتبط بقتله) قال: الذين يقاتلون في الفتنة فيقتل أحدهم فيرى أنه على هدى لا يستغفر الله.
فسره يحيى بن يحيى الغساني بأنه الذي يقاتل في الفتنة فيرى أنه على حق في قتاله، فلا يستغفر الله؛ لأنه لا يعتقد أنه مذنب، بل يعتقد أنه على حق، وذلك مثل أهل البدع مع أهل المعاصي، فأهل المعاصي أمرهم أسهل من أهل البدع؛ لأن صاحب المعصية يعتقد أنه مذنب، ويعترف بأنه مذنب، فيكون على خوف من الله عز وجل، وأما ذاك فهو يرى أنه على حق، وهو على ضلالة، فلا يستغفر ولا يتوب، ويعتقد أن غيره هو المبطل وهو المحق؛ ولهذا جاء في الحديث: (إن الله احتجر التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يتوب من بدعته)؛ وذلك أن صاحب البدعة لا يتوب؛ لأنه يرى أنه على حق، ولا يعتقد أنه مذنب كصاحب المعصية الذي يزني ويعلم أن الزنا حرام، أو يسرق ويعلم أن السرقة حرام، فتجده خائفاً، وأما هذا فتجده مرتاحاً مطمئناً، وقد زين له سوء عمله فرآه حسناً والعياذ بالله! قوله: [يصب دمه صباً].
هذا فيه مبالغة في القتل.
إذاً: كون الإنسان يقاتل وهو يعتقد أنه على حق، ولا يرى أنه مخطئ أو أنه مذنب فيستغفر الله، ليس كصاحب المعصية الذي يعرف أنه مذنب قد عصى، ويكون خائفاً نادماً مستغفراً، وهذا حاله مثل الخوارج الذين كانوا يقاتلون الصحابة، فقد كانوا يرون أنهم على حق ولا يعتقدون أنهم مذنبون.
والقسطنطينية حصل غزوها في زمن الصحابة، وكان فيها يزيد بن معاوية.(480/5)
تراجم رجال إسناد أثر يحيى الغساني في تفسير قوله (اعتبط بقتله)
قوله: [حدثنا عبد الرحمن بن عمرو].
عبد الرحمن بن عمرو ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن محمد بن المبارك].
محمد بن المبارك ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا صدقة بن خالد].
صدقة بن خالد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أو غيره].
هذا شك في صدقة هل هو الراوي أو غيره، ومثل هذا لا يؤثر لأنه ليس حديثاً، وإنما كلام يحيى الغساني في تفسير الحديث.
[قال خالد بن دهقان].
خالد بن دهقان مر ذكره.
[يحيى بن يحيى الغساني].
يحيى بن يحيى الغساني ثقة، أخرج له أبو داود، وهو صاحب هذا الأثر، وهذا الإسناد منتهاه إليه، فهو الذي قال هذا الكلام.(480/6)
شرح أثر زيد بن ثابت في نزول قوله تعالى (ومن يقتل مؤمناً متعمداً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا حماد أخبرنا عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي الزناد عن مجالد بن عوف أن خارجة بن زيد قال: سمعت زيد بن ثابت في هذا المكان يقول: أنزلت هذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] بعد التي في الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ} [الفرقان:68]، بستة أشهر.
].
أورد أبو داود أثر زيد بن ثابت أن هذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء:93]، في سورة النساء نزلت بعد التي في الفرقان وهي: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ ولا يزنون} [الفرقان:68]، وهذا قال عنه الشيخ الألباني: إنه منكر، ولعل وجه النكارة فيه من جهة أن نزول سورة الفرقان كان بمكة، ونزول سورة النساء كان بالمدينة، والفترة التي بين نزول هذه ونزول هذه لا تكون ستة أشهر.(480/7)
تراجم رجال إسناد أثر زيد بن ثابت في نزول قوله تعالى (ومن يقتل مؤمناً متعمداً)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا عبد الرحمن بن إسحاق].
عبد الرحمن بن إسحاق صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي الزناد].
أبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجالد بن عوف].
مجالد بن عوف صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أن خارجة بن زيد قال].
هو خارجة بن زيد بن ثابت، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[سمعت زيد بن ثابت].
زيد بن ثابت صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(480/8)
إجماع السلف على أن للقاتل توبة
وإذا قيل: إن آية النساء متأخرة عنها تكون كالناسخة للتي في سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ ولا يزنون} [الفرقان:68]، لكن كما هو معلوم أن السلف أجمعوا على أن الذي في سورة النساء للتغليظ، وأن القاتل له توبة، وأن الله تعالى يتوب على كل من تاب، وأن أمره إن لم يتب تحت مشيئة الله، والذنب الذي لا سبيل إلى مغفرته هو الشرك بالله وحده، وجاء عن ابن عباس غير ذلك، ولكن جاء عنه أنه رجع عن قوله إلى قول جمهور السلف، وبذلك صارت المسألة اتفاقية، وهو أنه تحت المشيئة، وأن له توبة، ومن أوضح ذلك قصة الإسرائيلي -كما في الصحيحين- الذي قتل مائة نفس، ثم بعد ذلك لقي عالماً وقال له: هل لي من توبة؟ قال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟!(480/9)
شرح أثر ابن عباس في أن القاتل المسلم لا توبة له
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يوسف بن موسى قال: حدثنا جرير عن منصور عن سعيد بن جبير أو حدثني الحكم عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس فقال: لما نزلت التي في الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ} [الفرقان:68]، قال مشركو أهل مكة: قد قتلنا النفس التي حرم الله، ودعونا مع الله إلهاً آخر، وأتينا الفواحش، فأنزل الله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] فهذه لأولئك، قال: وأما التي في النساء: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] الآية، قال: الرجل إذا عرف شرائع الإسلام ثم قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم، لا توبة له، فذكرت هذا لـ مجاهد فقال: إلا من ندم].
أورد المصنف هذا الأثر عن سعيد بن جبير قال: (سألت ابن عباس فقال: لما نزلت التي في الفرقان، قال: هذه في المشركين)، يعني: أن لهم توبة، وأنهم إذا تابوا فإن الله تعالى يتوب عليهم، قال: وأما التي في النساء، فإنها في الذي عرف شرائع الإسلام ثم قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم لا توبة له.
وهذا الذي قاله ابن عباس أولاً، ثم رجع عنه وصار إلى القول الذي عليه جمهور السلف، وبذلك صارت المسألة متفقاً عليها، ولا خلاف فيها، وإذا كان الشرك وهو أعظم الذنوب يتوب الله تعالى على من تاب منه، كما قال الله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، وكذلك المسلم إذا تاب من ذنبه فإن له توبة، وقصة الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس تبين ذلك، ثم قال له العالم: من يحول بينك وبين التوبة؟! ثم أرشده إلى أن ينتقل من البلد الذي هو فيه إلى بلد آخر فيه أناس صالحون يكون معهم، ثم مات في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، والحديث مشهور ومعروف، وهو في الصحيحين.
قوله: [فذكرت هذا لـ مجاهد فقال: إلا من ندم].
معناه: أن له توبة.(480/10)
تراجم رجال إسناد أثر ابن عباس في أن القاتل المسلم لا توبة له
قوله: [حدثنا يوسف بن موسى].
يوسف بن موسى صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن المعتمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أو حدثني الحكم عن سعيد بن جبير].
الحكم هو الحكم بن عتيبة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سألت ابن عباس].
ابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(480/11)
شرح أثر ابن عباس في أن قوله (والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر) هم أهل الشرك
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: حدثني يعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه القصة في: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان:68] أهل الشرك، قال: ونزل: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]].
أورد أبو داود أثر ابن عباس من طريق أخرى، وقال: إن الآية التي في الفرقان في أهل الشرك، ونزل: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]، ومعلوم أن الله عز وجل يغفر الذنوب جميعاً، وكل ذنب تيب منه فإنه يغفر لصاحبه، والذي لم يتب منه إن كان شركاً فإنه لا يغفر، وإن كان دون الشرك فهو تحت المشيئة.(480/12)
تراجم رجال إسناد أثر ابن عباس في أن قوله (والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر) هم أهل الشرك
قوله: [حدثنا أحمد بن إبراهيم].
أحمد بن إبراهيم هو الدورقي، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا حجاج].
هو حجاج بن محمد المصيصي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني يعلى].
يعلى يحتمل أن يكون ابن مسلم أو ابن حكيم، ولكن يرجع كونه ابن مسلم أنه مكي، وابن جريج مكي، ويعلى بن مسلم ثقة، وذاك صدوق؛ وعبد الملك بن جريج يروي عن الاثنين، وسعيد بن جبير روى عنه الاثنان، هو يحتمل هذا وهذا.
لكن في تحفة الأشراف نص على ابن مسلم ويوضحه كونه مكياً وابن جريج، مكي.
وابن مسلم أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن سعيد بن جبير عن ابن عباس].
مر ذكرهما.(480/13)
شرح أثر ابن عباس في أن قوله (ومن يقتل مؤمناً متعمداً) ما نسخها شيء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء:93] قال: ما نسخها شيء].
أورد المصنف حديث ابن عباس أنه قال في قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء:93] ما نسخها شيء، معناه: أنها محكمة، وهذا متفق مع ما تقدم عنه من أنه يرى أنه لا توبة له، ولكن قد رجع وصار كغيره من الصحابة وغيرهم الذين قالوا بأن كل ذنب له توبة، وأن كل ذنب دون الشرك تحت المشيئة.(480/14)
تراجم رجال إسناد أثر ابن عباس في أن قوله (ومن يقتل مؤمناً متعمداً) ما نسخها شيء
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، وهو ثقة فقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرحمن].
هو عبد الرحمن بن مهدي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المغيرة بن النعمان].
المغيرة بن النعمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن سعيد بن جبير عن ابن عباس].
مر ذكرهما.
قال الحافظ في الفتح: إن ابن عباس رضي الله عنهما كان تارةً يجعل الآيتين في محل واحد؛ فلذلك يجزم بنسخ إحداهما، وتارةً يجعل محلهما مختلفاً، ويمكن الجمع بين كلاميه: بأن عموم التي في الفرقان خص منها مباشرة المؤمن القتل متعمداً، وكثير من السلف يطلقون النسخ على التخصيص، وهذا أولى من حمل كلامه على التناقض، وأولى من دعوى أنه قال بالنسخ ثم رجع عنه.
ولكن ينهي هذا كله ثبوت رجوعه عن كل هذا.(480/15)
تعليق ابن حجر على قول ابن عباس في توبة المسلم إذا قتل مسلماً
قال الحافظ في الفتح: إن ابن عباس رضي الله عنهما كان تارةً يجعل الآيتين في محل واحد؛ فلذلك يجزم بنسخ إحداهما، وتارةً يجعل محلهما مختلفاً، ويمكن الجمع بين كلاميه: بأن عموم التي في الفرقان خص منها مباشرة المؤمن القتل متعمداً، وكثير من السلف يطلقون النسخ على التخصيص، وهذا أولى من حمل كلامه على التناقض، وأولى من دعوى أنه قال بالنسخ ثم رجع عنه.
ولكن ينهي هذا كله ثبوت رجوعه عن كل هذا.(480/16)
شرح أثر أبي مجلز في استحقاق القاتل للنار
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو شهاب عن سليمان التيمي عن أبي مجلز في قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:93] قال: هي جزاؤه؛ فإن شاء الله أن يتجاوز عنه فعل].
أورد أبو داود هذا الأثر عن أبي مجلز، قال: (هي جزاؤه فإن شاء الله أن يتجاوز عنه فعل)، يعني: إذا شاء الله أن يغفر له غفر له، كما قال الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وقتل النفس هو دون ذلك، فيكون تحت مشيئة الله.(480/17)
تراجم رجال إسناد أثر أبي مجلز في استحقاق القاتل للنار
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو شهاب].
أبو شهاب هو الحناط عبد ربه بن نافع، وهو صدوق يهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن سليمان التيمي].
هو سليمان بن طرخان التيمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي مجلز].
أبو مجلز ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
أما عن الخلود إذا جاء في غير الشرك فهو خلود نسبي، مثل ما جاء في الأحاديث: (من قتل نفسه بكذا فهو يعذب في نار جهنم خالداً مخلداً فيها)، فهذا تخليد نسبي وليس كخلود الكفار في النار الذي هو أبد الآباد.
والآية ليس فيها نسخ أصلاً، وأما عن أثر رجوع ابن عباس عن قوله في السلسلة الصحيحة (رقم2799)، وفي صحيح الأدب المفرد (رقم4).(480/18)
ما جاء فيما يرجى في القتل(480/19)
شرح حديث (كلا إن بحسبكم القتل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يرجى في القتل.
حدثنا مسدد حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم عن منصور عن هلال بن يساف عن سعيد بن زيد قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فذكر فتنة فعظم أمرها، فقلنا: أو قالوا: يا رسول الله! لئن أدركتنا هذه لتهلكنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا، إن بحسبكم القتل).
قال سعيد: فرأيت إخواني قتلوا].
أورد أبو داود: باب ما يرجى في القتل.
لعل ذلك يعني: من مغفرة.
أورد حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فتنة فعظم أمرها فقلنا: يا رسول الله! لئن أدركتنا هذه لتهلكنا).
معناه: أنه يحصل لهم الهلاك في هذه الفتنة.
قال: (كلا، إن بحسبكم القتل).
يعني: كون القتل يحصل لأحد منكم وليس لكلكم.
قوله: [قال سعيد: فرأيت إخواني قتلوا].
هو سعيد بن زيد مات سنة خمسين أو بعدها بسنة أو سنتين، يعني: في منتصف خلافة معاوية؛ لأن معاوية تولى سنة واحد وأربعين، ومات سنة ستين، وهو مات في منتصف خلافته، ولعله يقصد ما حصل من الفتن والاقتتال الذي حصل بين الصحابة ومن قتل فيها.(480/20)
تراجم رجال إسناد حديث (كلا إن بحسبكم القتل)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم].
هو سلام بن سليم الحنفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور عن هلال بن يساف].
منصور مر ذكره، وهلال بن يساف ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سعيد بن زيد].
هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل الصحابي الجليل أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(480/21)
شرح حديث (أمتي هذه أمة مرحومة عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا كثير بن هشام حدثنا المسعودي عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل)].
أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمتي هذه أمة مرحومة) يعني: أن الله تعالى رحمها فلم يهلكها بسنة بعامة كما حصل للأمم الماضية، بل هي باقية، وإنما يحصل لها الهلاك أو لبعض الناس فيها بالزلازل والفتن والقتل الذي يكون بينهم.
والحديث صححه الألباني وفيه المسعودي هذا، لكن لعل له شواهد.(480/22)
تراجم رجال إسناد حديث (أمتي هذه أمة مرحومة عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا كثير بن هشام].
كثير بن هشام ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا المسعودي].
المسعودي هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو صدوق اختلط ورواية من روى عنه قبل ذهابه إلى بغداد صحيحة، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن سعيد بن أبي بردة].
سعيد بن أبي بردة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو أبو بردة بن أبي موسى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي موسى الأشعري].
وهو صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(480/23)
تحذير من الفتن
معلوم أن الإنسان عليه في الفتن ألا يكون سبباً فيها ولا مشاركاً، وعليه أن يعتزلها، وعليه أن يحض الناس على ألا يكونوا سبباً في الفتن، ولا مشاركين فيها، فلا يشتغلوا بإذكائها وإشعال نارها لا بقول ولا بفعل، وإنما يحثون على اتباع السنن، وعلى معرفة الحق والهدى، والعمل به، والابتعاد عن طرق أهل البدع، ومحدثات الأمور الذين هم أسباب الفتن والمحن التي تجري للناس، وسواء كانت هذه الفتن تتعلق بالولاية والولاة، أو تتعلق بأمور أخرى، فعلى الإنسان أن يحرص على أن يكون بعيداً عنها، وأن يكون سليماً منها، وأن يكون من الدعاة إلى الابتعاد عنها، وعدم الاشتغال فيها.(480/24)
الأسئلة(480/25)
معنى حديث (أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة)
السؤال
ما المراد بقوله في الحديث: (أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة)؟
الجواب
يحصل لها في الدنيا ما يكون سبباً في سلامتها في الآخرة، لكن هذا لا يعني: أنه ليس هناك أحد يعذب في الآخرة، بل من كان من أصحاب الذنوب والمعاصي ولم يتجاوز الله عنه فإنه يعذب، ولكن يحصل له في الدنيا من المصائب وغيرها ما يكون سبباً في تكفير الذنوب ومغفرتها، وكون الإنسان يحصل له عذاب في الدنيا، هذا هو الذي يدل عليه الحديث، لكن لا يعني: أن كل هذه الأمة تسلم من عذاب النار، بل وردت أحاديث كثيرة تدل على دخول أصحاب الكبائر النار، وأنهم يخرجون منها بالشفاعة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل نبي دعوة مستجابة دعا بها فاستجيب له، وإني اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي) فهو يشفع لأهل الكبائر؛ ولهذا من لم يشأ الله عز وجل أن يعفو عنه فإنه يعذب في النار، ولا يعني ذلك أن هذا للكل، وإنما البعض هم من تحصل لهم السلامة من عذاب النار.
أما قوله: (إن بحسبكم القتل) فيقول العظيم أبادي: معنى هذه الجملة: أن هذه الفتنة لو أدركتكم لكفاكم فيها القتل، أي كونوا مقتولين، والضرر الذي يحصل لكم منها ليس إلا القتل، وأما هلاك عاقبتكم فكلا، بل يرحمكم الله هناك، ويغفر لكم.
والذي ظهر لي في معنى هذه الجملة: أن الذي يحصل للأمة في الدنيا من قتل وزلازل وفتن، وأما في الآخرة فلا يحصل الهلاك، ولكن كما هو معلوم ليس كل الناس يسلمون من العذاب في الآخرة، فمن شاء الله عز وجل أن يعذبه عذبه، ولكنه لا يخلد في النار كتخليد الكفار.(480/26)
معنى حديث (أمتي مرحومة)
السؤال
قال في عون المعبود: قال المُظهر: هذا حديث مشكل؛ لأن مفهومه ألا يعذب أحد من أمته صلى الله عليه وسلم سواء من ارتكب الكبائر وغيره، فقد وردت الأحاديث بتعذيب مرتكب الكبيرة، اللهم إلا أن يئول بأن المراد بالأمة هنا من اقتدى به صلى الله عليه وسلم كما ينبغي، ويمتثل بما أمر الله وينتهي عما نهاه.
الجواب
معناه: أن الذي سلم من العذاب بكونه أتى بالأسباب المنجية ولم يحصل منه الكبائر التي توبقه وتدخله النار.
قال الطيبي رحمه الله: الحديث وارد في مدح أمته صلى الله عليه وسلم واختصاصهم من بين سائر الأمم بعناية الله تعالى ورحمته عليهم، وأنهم إن أصيبوا بمصيبة في الدنيا حتى الشوكة يشاكها أن الله يكفر بها في الآخرة ذنباً من ذنوبهم، وليست هذه الخاصية لسائر الأمم، ويؤيده ذكر هذه وتعقيبها بقوله: (مرحومة) فإنه يدل على مزية تميزهم بعناية الله تعالى ورحمته.
وكونهم أيضاً خفف عنهم ما كان على غيرهم من الآصار ومن الأمور الشاقة والصعبة التي كلف بها الأمم السابقة هذا من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة.(480/27)
لا يقتل المؤمن بكافر
السؤال
هل يقتل المؤمن بالكافر؟
الجواب
لا يقتل المؤمن بكافر.(480/28)
حكم العمليات الانتحارية
السؤال
أعطاني طالب كتاباً لـ شيخ الإسلام المسمى بـ: قاعدة الانغماس في العدو، جوز فيه شيخ الإسلام الانغماس في العدو، فهل الانغماس المذكور هو ما يسمى الآن بالعمليات الانتحارية والاستشهادية؟
الجواب
ليس هذا من هذا القبيل، وإنما الانغماس في العدو يعني: الكر والفر الذي يكون بحسب قدرة الإنسان ومهارته وقوته، فهو يدخل في العدو ويخرج منهم بسرعة، وأما هذا الذي يسمونه العمليات الاستشهادية فإن الهلاك محقق في حقه مائة في المائة، وأما ذاك فإن السلامة متوقعة فيه.(480/29)
حكم الصلاة على الميت داخل المقبرة
السؤال
هل تجوز الصلاة على الموتى داخل المقبرة؟
الجواب
الأصل أنه لا يصلى في المقبرة، بل يصلى في المسجد أو في مكان خارج المسجد، ولكن من فاتته الصلاة يصلي على القبر.(480/30)
موافقة حديث رحمة الأمة لحديث تعجيل العقوبة لها في الدنيا
السؤال
حديث: (من أحبه الله عجل له العقوبة في الدنيا) هل يكون موافقاً لحديث: (أمتي أمة مرحومة)؟
الجواب
نعم.(480/31)
حكم قتل الكفار عمداً
السؤال
هل قتل الكافر متعمداً من الكبائر؟
الجواب
إذا كان معاهداً أو صاحب عهد أو ذمة، فلا يجوز، والأحاديث كثيرة في التشديد في ذلك.(480/32)
حكم ترؤس المرأة على الرجال
السؤال
إذا كانت امرأة ذات أموال كثيرة وثرية، وكانت ترأس أعمالها وأموالها، وعندها رجال يعملون تحت إدارتها: فهل تدخل في نص الحديث: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، أم أن هذا خاص بالإمارة والرئاسة العامة؟
الجواب
الحديث جاء في الرئاسة والولاية العامة، وأما مثل هذا فهو من الأمور التي لا تسوغ كونها تخالط الرجال، ولا يكون بينها وبينهم فرق، وكأنها واحدة منهم، وتكون رجلة النساء، ولا شك أن هذا من الأمور التي لا تجوز، وأما الحديث: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله لما بلغه أن الفرس ملكوا ابنة كسرى بعد موته، فقال عليه الصلاة والسلام: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).(480/33)
المقصود بالأمة في حديث (أمتي هذه أمة مرحومة)
السؤال
قوله: (أمتي هذه أمة مرحومة) هل يعني بالأمة القرون الأولى أم جميع أمته إلى يوم القيامة؟
الجواب
من أهل العلم من قال بالقول الأول، ومنهم من قال بالثاني، والذي يظهر أنه عام؛ لأنه ذكر بعد ذلك الزلازل والفتن والقتل.(480/34)
سلامة عامة الأمة من هلاك عام
السؤال
ألا يحمل الحديث الأخير على أن أمة النبي صلى الله عليه وسلم كلها لا تصيبها الأهوال العظام التي تصيب بقية الأمم؟
الجواب
ربما توجد أهوال عظام لكن على نطاق محدود، ولا تقع بصفة عامة مثلما حصل للأمم السابقة.(480/35)
ما يجوز للخاطب أن ينظر إليه من مخطوبته
السؤال
ما القول الراجح فيما يجوز للخاطب أن ينظر إليه من مخطوبته عند إرادة النكاح؟
الجواب
يرى وجهها ويديها.(480/36)
أجر الصلاة في المسجد الحرام
السؤال
هذان طالبان اختلفا في نقل فتواكم في قضية الصلاة في الساحات مع أنهما متفقان على أنهما سمعا منكم أنها لها حكم المسجد، لكن أحدهما يقول: إنكم قلتم: إن الأجر فيها أقل من أجر الصلاة داخل المسجد، والآخر يقول: لها نفس الأجر: فأيهما الصواب؟
الجواب
ما دمت قلت: إنها من المسجد فحكم المسجد واحد، فالصلاة بألف صلاة، لكن كما هو معلوم فيما يتعلق بصلاة الجماعة كل صف أفضل من الذي يليه، وأما من حيث التضعيف فإن كل ما يقال له مسجد سواء كان مغطى أو مكشوفاً تحيط به الأسوار والأبواب فإنه يعتبر مسجداً، والصلاة فيه بألف صلاة كما جاء ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في قوله: (الصلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام)، فالذي قلته: إنها مسجد، وإن التضعيف الذي يكون في المسجد هو لها ما دام أطلق عليه أنه مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما من حيث صلاة الجماعة فلا شك أن كل صف أسبق أفضل من الذي يليه.(480/37)
الأحداث المعاصرة من فتن الزمان
السؤال
أرجو من فضيلتكم أن تبينوا لنا المقصود من الفتن في الأحاديث التي مرت معنا، وهل الأحداث المعاصرة تدخل في هذا المعنى؟
الجواب
لا شك أن هذه الفتن المعاصرة من أعظم الفتن، نسأل الله السلامة والعافية!!(480/38)
خطر البدعة على صاحبها
السؤال
هل صح عن السلف هذا الأثر: أن البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية؟
الجواب
لا أذكر ذلك، لكن مما لا شك فيه أنها أحب إلى الشيطان من المعصية؛ لأن صاحب المعصية يتوب في سبيل التخلص منها، وأما البدعة فصاحبها يموت عليها؛ لأنه زين له سوء عمله فرآه حسناً، والعياذ بالله.(480/39)
مصائب الأمة تكفير لذنوبها
السؤال
ألا يحمل الحديث (أمتي هذه أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة) على دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته: (ألا يهلكها بسنة عامة)؟
الجواب
كون الله عز وجل لم يهلك هذه الأمة بسنة عامة، فإن هذا من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة، ومن رحمته بها كونه يحصل لهم في الدنيا من المصائب ومن البلاء ما يحصل به تكفير الذنوب في الآخرة، وكل هذا من رحمة الله بهذه الأمة.(480/40)
موضع ذكر دعاء دخول المسجد
السؤال
بناءً على الفتوى بأن الساحات من المسجد، فهل يقال: دعاء دخول المسجد عند باب المسجد الأول؟
الجواب
نعم، لكن كما هو معلوم يستثنى منه دورات المياه، فهي وإن كانت في داخل المسجد إلا أنها ليست من المسجد.
لكن قد يحدث أن تمتد الصفوف من عند باب السلام وتخرج إلى الساحات، فهل الاصطفاف بها أولى، أو أن ندخل إلى داخل المسجد؟ نقول: الظاهر أن داخل المسجد أولى من جهة أن الصفوف متصلة، وأما هذا ففيه تقطع.
وعلى كل فإذا امتدت الصفوف فهذا يكون الصف الأول، أو الصف الثاني أو الثالث.(480/41)
حجب التوبة عن كل صاحب بدعة
السؤال
ذكرتم أن الله حجب التوبة عن ثلاثة، فمن هم؟
الجواب
أنا قلت كما في الحديث: (إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يتوب من بدعته)، ولم أذكر عدداً.(480/42)
حكم القتل حال الدفاع عن النفس
السؤال
لقد حدث وأن تعرض جدي رحمه الله قبل خمسين سنة إلى لصوص فقتل أحدهم: فهل مثل هذا القتل يشمل الوعيد المذكور في الحديث: (من يقتل مؤمناً متعمداً)؟ الشيخ: إذا اعتدوا هم عليه، وكان فعله هذا من قبيل الدفاع عن نفسه، وأدى ذلك إلى القتل فهو معذور.(480/43)
معنى قول الأئمة في أحاديث الوعيد (أمروها كما جاءت)
السؤال
ما معنى قول الإمام أحمد وغيره في الأحاديث التي فيها: (ليس منا) قال: أمروها كما جاءت؟
الجواب
معناه: أن تبقى على هيبتها وعلى رهبتها، وأن الناس يستعظمون هذا الأمر ولا يستهونونه.(480/44)
حكم إدخال الكتب المشتملة على الصور للمسجد
السؤال
هل يجوز إدخال الكتب المدرسية التي فيها صور إلى المسجد النبوي للمذاكرة؟
الجواب
لا ينبغي هذا.(480/45)
حكم الصلاة على القاتل
السؤال
هل يصلى على من قتل نفسه، أو من قتل مؤمناً متعمداً، ولم يعلم هل تاب أم لا؟
الجواب
كل مسلم مات فإنه يصلى عليه، ولكن يمكن أن يتخلف بعض الناس الذين لهم شأن من أجل الردع والزجر لغيره؛ لئلا يقع في مثل ما وقع فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على بعض أصحاب المعاصي من أجل الزجر، فإذا تخلف عن الصلاة من له شأن أثر تخلفه على الناس، وهم يعتبرون أن هذا الذي تخلف عنه أمر خطير، فيكون ذلك سبباً في بعدهم عنه؛ فإن هذا لا بأس به، وأما الصلاة فإنه يصلى على كل مسلم.(480/46)
مخالطة الناس ودعوتهم أولى من اعتزالهم
السؤال
إذا كثرت الذنوب والمعاصي، فهل للإنسان أن يعتزل الناس ويكون تنقله بين منزله ومسجده فقط، أم يخالط الناس ويدعوهم وإن لم يستجيبوا له؟
الجواب
مخالطة الناس ودعوتهم أولى من الاعتزال.(480/47)
حكم تغيير تذييل الآيات
السؤال
ما صحة الحديث: (إن الله أنزل القرآن على سبعة أحرف، فإن شئت قلت: عزيز حكيم أو غفور رحيم مالم تبدل آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب برحمة)؟
الجواب
( أنزل القرآن على سبعة أحرف) هذا جاء من طرق كثيرة، وثابت في الصحيحين وفي غيرهما، ولكن الإنسان ليس له أن يتصرف في القرآن بأن يبدل تذييل آية باسمين من أسماء الله، إنما عليه أن يأتي بالشيء الذي هو موجود، ولا يجوز له أن يغير وأن يبدل.(480/48)
حكم الصلاة بين الممرات
السؤال
هل الصفوف التي تقطع بالممرات تعتبر من الصفوف المقطوعة؟
الجواب
لا شك، هي مقطوعة، ولكن الصلاة فيها صحيحة.(480/49)
جواز نحت الأسماء
السؤال
هل يجوز اختصار الأسماء مثل: عبد الرحمن وعبد الله؟
الجواب
هذا مثل شيوخ أبي داود عبد الرحمن بن إبراهيم يقال له: دحيم، وهذا كما هو معلوم تصغير للشخص، وهو منحوت من الاسم، مثل: عبدان وعباد مأخوذة من عبد الله، ودحيم مأخوذة من عبد الرحمن، وهكذا.(480/50)
شرح سنن أبي داود [481]
بلغت الأحاديث التي تذكر اسم المهدي ووصفه وزمانه وعدله ومدة حكمه حد التواتر المعنوي، وما ورد في الصحيحين من ذكر وصفه دون اسمه مقيد بالأحاديث الصحيحة الواردة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخرج في آخر الزمان ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً.(481/1)
ما جاء في ذكر المهدي(481/2)
شرح حديث (لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أول كتاب المهدي.
حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا مروان بن معاوية عن إسماعيل -يعني ابن أبي خالد - عن أبيه عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لايزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة، فسمعت كلاماً من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم أفهمه، قلت لأبي: ما يقول؟ قال: كلهم من قريش)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [كتاب المهدي] وأبو داود رحمه الله عقد للمهدي خاصة هذا الكتاب.(481/3)
ذكر المهدي في الأحاديث
المهدي رجل من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، يكون في آخر الزمان، ويتولى ولاية المسلمين، وينشر العدل، وتكون قبل زمانه الأرض ملئت جوراً، فيملؤها عدلاً، ويكون في زمن نزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وزمن الدجال، وقد جاء في بعض الأحاديث أن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام يصلي وراءه كما في صحيح مسلم لكن بدون ذكر المهدي، وجاء في غير الصحيح تسمية ذلك الإمام الذي جاء في صحيح مسلم أن عيسى يصلي وراءه وهو المهدي، وجاءت في ذلك أحاديث كثيرة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من قبيل المتواتر المعنوي، ولم يأت في الصحيحين التنصيص على لفظ المهدي، وهو يدل على أن الصحيح ليس مقصوراً في الصحيحين بل يكون خارج الصحيحين أيضاً؛ لأن أحاديث المهدي متواترة ومع ذلك ليس شيء منها في الصحيحين، ومن المعلوم أن الصحيحين لم يلتزم فيهما استيعاب وإخراج كل صحيح، وإنما أراد الشيخان البخاري ومسلم الإتيان بجملة كبيرة من الأحاديث الصحيحة من غير قصد لحصول الاستيعاب، فهما لم يقصدا الاستيعاب لكل الصحيح حتى يستدرك عليهما شيء من الصحيح، وأحاديث المهدي تدل مع كونها متواترة على أن الصحيح ليس مقصوراً على الصحيحين كما يتوهمه بعض الناس، ولا يعولون إلا على الصحيحين، مع أن الذين يقدحون فيما كان في غير الصحيحين قد يئول بهم الأمر إلى القدح بما في الصحيحين.
وأحاديث المهدي بلغت حد التواتر المعنوي، وهو من علامات الساعة التي تكون في آخر الزمان، وهي متصل بعضها ببعض كـ المهدي والدجال والمسيح كلهم في زمان واحد.
أورد أبو داود حديث جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة)، يعني: في مدة هؤلاء الاثنا عشر خليفة يكون الدين قائماً، وقد جاء بألفاظ متعددة في صحيح مسلم وفي غيره: (لا يزال أمر الناس قائماً حتى يليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش).(481/4)
أقوال العلماء في زمن الاثني عشر خليفة من قريش
أورد أبو داود رحمه الله هذا الحديث في كتاب المهدي، ولعله يرى أن المهدي من جملة الاثني عشر؛ لأن هذه الأحاديث للعلماء قولان في تفسيرها والمراد بها: القول الأول: إنهم متفرقون وليسوا في زمن واحد ولا يلزم التوالي، بل هذه الولاية للاثني عشر يكون الدين في زمنهم وفي عهدهم قائماً، وأبو داود أورد هذا الحديث في كتاب المهدي، ويفهم من هذا: أنه يرى أن المهدي هو منهم، وأنهم يكونون في أزمان مختلفة، ولا يلزم تواليهم.
وممن جنح إلى ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره في سورة المائدة عند قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة:12]؛ فإنه عند الكلام على هذه الآية ذكر الحديث الذي فيه الخلفاء، وأن المهدي هو أحدهم، وصنيع أبي داود يشعر بهذا.
القول الثاني: وهو الذي ذكره شارح الطحاوية واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: أنهم الأربعة الخلفاء الراشدون وثمانية من بني أمية، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال قائماً ما وليهم اثنا عشر خليفة)، ومعنى ذلك: أن الإسلام يكون عزيزاً في زمانهم، وكان الإسلام عزيزاً في القرن الأول وإلى ما قبل نهاية عهد بني أمية، حيث كان في الإسلام قوة وانتشار.
ومن المعلوم أن الجيوش في عهد بني أمية وصلت إلى المحيط الأطلسي، ووصلت إلى الصين والسند والهند، وحصل افتتاح البلاد واتساع رقعة البلاد الإسلامية، وكان الإسلام قوياً، وأهله في قوة وعزة وتفوق على الأعداء.
وقد بين صلى الله عليه وسلم أنهم كلهم من قريش، وقريش هم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة الأب الحادي عشر للنبي صلى الله عليه وسلم، ونسل فهر بن مالك هم قريش.
قوله: [(لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلهم تجتمع عليهم الأمة، فسمعت كلاماً من النبي صلى الله عليه وسلم لم أفهمه، قلت لأبي: ما يقول؟! قال: كلهم من قريش)].
جملة: (كلهم من قريش) لم يفهمها، فسأل جابر بن سمرة أباه عن هذه الكلمة التي خفيت عليه، فقال: (كلهم من قريش)، يعني: هؤلاء الاثنا عشر.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله ملكه من يشاء)، وهذا الحديث يدل على أن هؤلاء يقال لهم خلفاء، ولا تنافي بينه وبين الحديث السابق؛ لأن ذاك يدل على أن الخلافة موصوفة بالرشد، وأما هذه فإنه يقال لها خلافة وفيها قوة وانتشار للإسلام وانتصار للمسلمين وإن لم يكونوا مثلما كان عليه أهل الخلافة الراشدة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين.
ولكن فيه إطلاق اسم الخليفة على هؤلاء الثمانية من هؤلاء الاثنا عشر وهم بعد الخلفاء الراشدين، وفي هذا دليل على أنه لا تنافي بين الملك والخلافة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث سفينة مولى رسول الله عليه الصلاة والسلام قال (خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء).
ومعلوم أنه في هذه المدة التي كان فيها حصول الملك أن هؤلاء الثمانية أطلق عليهم أنهم خلفاء وهم ملوك، وحصل انتشار وقوة للإسلام في زمانهم، ولم يأت عصر من العصور بعد الخلفاء الراشدين مثل عهد بني أمية في قوة الإسلام وانتصار أهله على أعدائهم، وكثرة الفتوحات، واتساع رقعة البلاد الإسلامية.(481/5)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة)
قوله: [حدثنا عمرو بن عثمان].
هو عمرو بن عثمان الحمصي، وهو صدوق، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا مروان بن معاوية].
مروان بن معاوية ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن إسماعيل -يعني ابن أبي خالد -].
إسماعيل بن أبي خالد ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه مقبول أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن جابر بن سمرة].
جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وكذلك أبوه سمرة بن جنادة صحابي أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي.
وفي الحديث رجل مقبول، ولكنه لا يؤثر، لوروده من طرق أخرى بعده صحيحة؛ فلا يؤثر وجود أبي خالد والد إسماعيل.(481/6)
شرح حديث (لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر خليفة) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا داود عن عامر عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر خليفة، قال: فكبر الناس وضجوا، ثم قال: كلمة خفية، قلت لأبي: يا أبت ما قال؟ قال: كلهم من قريش)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وهو مثل الذي قبله.
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا وهيب].
هو وهيب بن خالد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا داود].
هو داود بن أبي هند، وهو ثقة، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عامر].
هو عامر بن شراحيل الشعبي، وهو ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن سمرة].
جابر بن سمرة رضي الله عنه مر ذكره.(481/7)
شرح حديث (لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر خليفة ثم يكون الهرج)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن نفيل حدثنا زهير حدثنا زياد بن خيثمة حدثنا الأسود بن سعيد الهمداني عن جابر بن سمرة بهذا الحديث، زاد: (فلما رجع إلى منزله أتته قريش، فقالوا: ثم يكون ماذا؟ قال: ثم يكون الهرج)].
أورد أبو داود هذا الحديث من طريق أخرى، وفيه زيادة: (لما رجع إلى منزله أتته قريش، فقالو: ثم يكون ماذا؟ قال: ثم يكون الهرج)، يعني: ماذا يكون بعد الخلفاء الاثني عشر؟ (قال: ثم يكون الهرج؟)، والهرج هو: اختلاف الأمور وكثرة القتل الذي يحصل بسبب ذلك.
وقد حصل هذا في آخر عهد بني أمية عند خروج العباسيين عليهم، والفتن التي حصلت قبل ذلك للتمهيد لولايتهم، فقد حصل فيها قتل كثير وتحقق ذلك.
ولو نظرنا إلى القول الآخر بأن المهدي هو آخر الخلفاء، فينتج عن ذلك أنه هو الهرج، وهذا لا يستقيم؛ لأن بعد المهدي زمن عيسى، ثم قتل الدجال في زمانه، ثم بعد ذلك يأجوج ومأجوج، لكنه يستقيم مع القول بأنهم من بني أمية.(481/8)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر خليفة ثم يكون الهرج)
قوله: [حدثنا ابن نفيل].
هو عبد الله بن محمد بن نفيل النفيلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زياد بن خيثمة].
زياد بن خيثمة ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا الأسود بن سعيد الهمداني].
الأسود بن سعيد الهمداني صدوق، أخرج له أبو داود.
[عن جابر بن سمرة].
جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما مر ذكرهما.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (كلهم من قريش)، فيه إخبار عن أمر سيقع، وقد وقع طبقاً لما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
ويمكن الجمع بين هذا الحديث وبين ما حصل من القتل في عهد علي رضي الله عنه في زمن الفتنة: بأن الأمر كان ماضياً والخلافة راشدة وخلافة نبوة، وحصول اقتتال لا ينافي ظهور الإسلام، وأن الأمر الذي كان موجوداً من قبل هو موجود، وإنما حصل الانشقاق بين أهل العراق وأهل الشام.(481/9)
شرح حديث (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً مني)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد أن عمر بن عبيد حدثهم ح وحدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو بكر -يعني ابن عياش - ح وحدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان ح وحدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا عبيد الله بن موسى أخبرنا زائدة ح وحدثنا أحمد بن إبراهيم حدثني عبيد الله بن موسى عن فطر المعنى واحد كلهم عن عاصم عن زر عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم -قال زائدة في حديثه: لطول الله ذلك اليوم ثم اتفقوا- حتى يبعث فيه رجلاً مني، أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي -زاد في حديث فطر:- يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً).
وقال في حديث سفيان: (لا تذهب أو لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي)].
أورد أبو داود حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي؛ يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً)، وهذا من أحاديث المهدي.
قوله: [(لو لم يبق من الدنيا إلا يوم)]، معناه: تحقق وجوده وحصوله، وأنه لابد وأن يقع، وفيه إشارة ودلالة على أنه في آخر الزمان؛ لأن قوله: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم)، معنى ذلك: أنه سيكون في آخر الزمان وليس في أول الزمان.
قوله: [(رجلاً مني أو من أهل بيتي)]، يعني: أنه من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وأهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم هم نسل عبد المطلب وذريته الذين تحرم عليهم الصدقة، وهم أزواجه وذريته وكل مسلم ومسلمة من نسل عبد المطلب، ولكن جاء في بعض الأحاديث أنه من نسله صلى الله عليه وسلم، وفيه: أنه يواطئ اسمه اسمه واسم أبيه اسم أبيه يعني اسمه محمد بن عبد الله، وهو يدل على خلاف ما تقوله الشيعة الرافضة من أنه محمد بن الحسن؛ لأنه قال: (يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي)، وهو محمد بن عبد الله وليس محمد بن الحسن.
(يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً)، وهذا فيه بيان أن ما قبل زمانه كان فيه الجور والظلم، ثم بعد مجيء زمانه يكون العدل وانتشار الخير وظهوره، وما جاء في هذا الحديث يدل له قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه)، وهذا ليس على إطلاقه، فقد يأتي زمن أحسن من الزمن الذي قبله.
ولهذا نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري عن ابن حبان أنه لما ذكر هذا الحديث قال: مخصوص بما جاء في أحاديث المهدي من أنه يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، ولهذا بعض الناس الذين ليس لديهم خبرة بنصوص السنة وفهم لها واطلاع على ألفاضها وأحاديثها تجده يقف على مثل هذا الحديث فيقدح في معناه، ويقول: إن هذا دعوة إلى الهزيمة، وما إلى ذلك من الكلام الساقط.
ولكن أهل العلم المحققين يجمعون بين النصوص ويفهمونها، ومن ذلك ما ذكره الحافظ عن ابن حبان في قوله: إن هذا الحديث مخصوص بما جاء في أحاديث المهدي فليس على إطلاقه بل قد يأتي عام أحسن من الذي قبله، وهكذا في مختلف البلاد والمناطق قد يأتي زمان أحسن مما تقدمه وسبقه.
قوله: [(لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وقال في حديث سفيان: لا تذهب أو لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي)].
هذا اللفظ الثاني هو مثل الأول.(481/10)
تراجم رجال إسناد حديث (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً مني)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[أن عمر بن عبيد].
عمر بن عبيد صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو بكر -يعني ابن عياش -].
أبو بكر بن عياش ثقة، أخرج له البخاري ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[ح وحدثنا مسدد حدثنا يحيى].
مسدد مر ذكره، ويحيى القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
سفيان هو الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا أحمد بن إبراهيم].
هو أحمد بن إبراهيم الدروقي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا عبيد الله بن موسى].
هو عبيد الله بن موسى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا زائدة].
هو زائدة بن قدامة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا عبيد الله بن موسى عن فطر].
فطر بن خليفة صدوق، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[المعنى واحد كلهم عن عاصم].
عاصم هو ابن بهدلة وهو ابن أبي النجود، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة وروايته في الصحيحين مقرونة.
[عن زر].
هو زر بن حبيش، وهو ثقة، حديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله].
هو عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد فقهاء الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: لفظ عمر وأبي بكر بمعنى سفيان].
عمر بن عبيد وأبو بكر بن عياش بمعنى سفيان الثوري.
يعني: أن المعنى واحد عن هؤلاء كلهم، ولكن يمكن أن يكون حديث هؤلاء متقارب أكثر.
قوله: [وقال في حديث سفيان: (لا تذهب أو لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي)].
المقصود بهذه الجملة الأخيرة: أن الدنيا لا تنقضي حتى يملك العرب هذا الرجل.(481/11)
شرح حديث (لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا الفضل بن دكين حدثنا فطر عن القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل رضي الله عنه عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً)].
أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه وهو بمعنى حديث ابن مسعود فهو شاهد له، وهو يتعلق بـ المهدي، وهو مطابق في الجملة لما جاء في حديث ابن مسعود المتقدم.
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا الفضل بن دكين].
الفضل بن دكين هو أبو نعيم يذكر بكنيته أحياناً ويذكر باسمه كما هنا، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا فطر عن القاسم بن أبي بزة].
فطر مر ذكره، والقاسم بن أبي بزة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الطفيل].
أبو الطفيل هو عامر بن واثلة رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن علي].
هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(481/12)
شرح حديث (المهدي من عترتي من ولد فاطمة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي حدثنا أبو المليح الحسن بن عمر عن زياد بن بيان عن علي بن نفيل عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (المهدي من عترتي من ولد فاطمة)].
أورد أبو داود حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المهدي من عترتي من ولد فاطمة)، والعترة: هم القرابة، والمقصود بهم النسل والذرية، وقيل: مطلق القرابة.
قوله: [(من ولد فاطمة)]، يعني: أنه من أهل البيت، وفيه تحديد أنه من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس من القرابة الآخرين كالعباسيين أو غيرهم، وإنما هو من ولد فاطمة علوي، وهو من ذرية الرسول صلى الله عليه وسلم.(481/13)
تراجم رجال إسناد حديث (المهدي من عترتي من ولد فاطمة)
قوله: [حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي].
عبد الله بن جعفر الرقي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو المليح الحسن بن عمر].
حدثنا أبو المليح الحسن بن عمر ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن زياد بن بيان].
زياد بن بيان صدوق، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن علي بن نفيل].
علي بن نفيل لا بأس به، حديثه أخرجه أبو داود وابن ماجة، ولا بأس به بمعنى: صدوق.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أم سلمة].
أم سلمة أم المؤمنين هند بنت أبي أمية رضي الله عنها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال عبد الله بن جعفر: وسمعت أبا المليح يثني على علي بن نفيل ويذكر منه صلاحاً].
وهذا التعليق فيه الثناء على علي بن نفيل وأنه رجل صالح.(481/14)
شرح حديث (المهدي مني أجلى الجبهة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سهل بن تمام بن بزيع حدثنا عمران القطان عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المهدي مني أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، ويملك سبع سنين)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وفيه وصف المهدي بأنه أجلى الجبهة، وفسر بانحسار شعر مقدم الرأس، وبأنه عريض الجبهة، وأقنى الأنف، فسر بأنه طويل الأنف، دقيق الأرنبة، محدودب ظهر الأنف.
قوله: (يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً)، وهذا كما مر في حديث علي وحديث ابن مسعود.
قوله: (ويملك سبع سنين) يعني: أن مدة بقاء ملكه سبع سنين.(481/15)
تراجم رجال إسناد حديث (المهدي مني أجلى الجبهة)
قوله: [حدثنا سهل بن تمام بن بزيع].
سهل بن تمام بن بزيع صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عمران القطان].
عمران القطان صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي نضرة].
أبو نضرة هو المنذر بن مالك بن قطعة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاًو مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري هو سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنه أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(481/16)
شرح حديث (يكون اختلاف عند موت خليفة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن صالح أبي الخليل عن صاحب له عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هارباً إلى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه بين الركن والمقام، ويبعث إليه بعث من أهل الشام فيخسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة، فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال الشام، وعصائب أهل العراق فيبايعونه بين الركن والمقام، ثم ينشأ رجل من قريش أخواله كلب، فيبعث إليهم بعثاً فيظهرون عليهم، وذلك بعث كلب، والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب، فيقسم المال، ويعمل في الناس بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويلقي الإسلام بجرانه في الأرض، فيلبث سبع سنين، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون).
قال أبو داود: قال بعضهم عن هشام: (تسع سنين)، وقال بعضهم: (سبع سنين).
أورد أبو داود حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: (يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هارباً إلى مكة فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه بين الركن والمقام ويبعث إليه بعث من أهل الشام فيخسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال الشام، وعصائب أهل العراق فيبايعونه).
فإذا رأى الناس الخسف الذي حصل لهؤلاء الجيش الذين أرسلوا من الشام يأتيه أبدال أهل الشام وعصائب العراق فيبايعونه.
الأبدال: فسروا بأنهم الذين يخلف بعضهم بعضاً في نصرة وإظهار الدين، وهم بمعنى الذين يجددون الدين، ولكن الحديث ضعيف، ولم يثبت في الأبدال شيء، لكن التجديد وكونه يبعث الله لهذه الأمة ما يجدد دينها ثابت.
قوله: [(أخواله كلب)]، يعني: هو أبوه قرشي وأمه كلبية.
قوله: [(فيبعث إليهم بعثاً)] يعني: هذا الذي أخواله كلب.
فيظهرون عليهم.
قوله: [(ويلقي الإسلام بجرانه في الأرض)، معناه: أنه انتشر وانتصر واستقر وثبت كما أن البعير إذا كان باركاً في معطنه وقد استراح واطمأن فإنه يمد جرانه -وهي رقبته- على الأرض.
قوله: [(فيلبث سبع سنين، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون)].
يعني: ذلك الرجل الذي يبايع يلبث سبع سنين، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون، والحديث ضعيف؛ لأن فيه ذلك الرجل المبهم، وهو عبد الله بن الحارث.(481/17)
تراجم رجال إسناد حديث (يكون اختلاف عند موت خليفة)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
محمد بن المثنى هو أبو موسى الزمن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب.
[حدثنا معاذ بن هشام].
معاذ بن هشام صدوق ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبي].
هو هشام بن أبي عبد الله الدستوائي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة عن صالح أبي الخليل].
قتادة مر ذكره، وصالح أبو الخليل وثقه ابن معين والنسائي أخرج له أصحاب الكتب الستة.
عن صاحب له عن أم سلمة].
أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها وقد مر ذكرها.
[قال أبو داود: قال بعضهم عن هشام: (تسع سنين)، وقال بعضهم: (سبع سنين)].
هذا اختلاف في المدة لكن اللفظ الأول يطابق الحديث الذي مر عند أبي سعيد وهو سبع.
قوله في الحديث: (ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد) لا يتعارض مع إخباره عنه بأنه يملك سبع سنين؛ لأن المقصود به الإخبار بتحقق وجوده وليس فيه بيان أن مدته بعض يوم، وإنما المقصود بيان أن هذا أمر لابد وأن يوجد وأنه لو كان آخر يوم لطول الله ذلك اليوم، وقد جاء أنه يمكث سبع سنين.(481/18)
شرح حديث: (يكون اختلاف عند موت خليفة فيلبث تسع سنين) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا عبد الصمد عن همام عن قتادة بهذا الحديث وقال: (تسع سنين).
قال أبو داود: قال غير معاذ عن هشام: (تسع سنين)].
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هو هارون بن عبد الله الحمال البغدادي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الصمد].
هو عبد الصمد بن عبد الوارث، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن همام].
هو همام بن يحيى العوذي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة بهذا الحديث].
قتادة مر ذكره.(481/19)
شرح حديث: (يكون اختلاف عند موت خليفة) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عمرو بن عاصم قال: حدثنا أبو العوام قال: حدثنا قتادة عن أبي الخليل عن عبد الله بن الحارث عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، وحديث معاذ أتم].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وأحال على الطريق السابقة، وأن الطريق السابقة أتم من هذه الطريق التي ذكر إسنادها ولم يذكر لفظها.
قوله: [حدثنا ابن المثنى عن عمرو بن عاصم].
عمرو بن عاصم صدوق في حفظه شيء، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو العوام].
أبو العوام هو عمران القطان، وهو صدوق يهم.
[حدثنا قتادة].
مر ذكره.
[عن قتادة عن أبي الخليل عن عبد الله بن الحارث عن أم سلمة].
عبد الله بن الحارث بن نوفل له رؤية، وقيل: إنه من كبار التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وأبو العوام هو الذي انفرد بذكر عبد الله بن الحارث.(481/20)
شرح حديث أم سلمة في قصة جيش الخسف
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن عبد العزيز بن رفيع عن عبيد الله بن القبطية عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقصة جيش الخسف، قلت: (يا رسول الله! فكيف بمن كان كارهاً؟ قال: يخسف بهم، ولكن يبعث يوم القيامة على نيته)].
أورد أبو داود حديث أم سلمة في قصة جيش الخسف الذي مر من طريق ضعيف، وأنه يخسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة، وجاء في هذا الإسناد كيف بمن هو فيهم ولكنه كاره؟ قال: (يخسف بهم ثم يبعثون على نياتهم)، يعني: أن العبرة بالنية، وأن الإنسان إذا كان مكرهاً فإنه يكون معذوراً، ويبعث على نيته.(481/21)
تراجم رجال إسناد حديث أم سلمة في قصة جيش الخسف
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد العزيز بن رفيع].
عبد العزيز بن رفيع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن القبطية].
عبيد الله بن القبطية ثقة، أخرج له البخاري في رفع اليدين ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أم سلمة].
أم سلمة مر ذكرها.
هذا هو الكلام الثابت فيما يتعلق بالخسف، وله شاهد فيما يتعلق بالخسف، وليس له شاهد فيما يتعلق بالأمور الأخرى.(481/22)
شرح حديث علي في ابنه الحسن (وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم)
[قال أبو داود: وحدثت عن هارون بن المغيرة قال: حدثنا عمرو بن أبي قيس عن شعيب بن خالد عن أبي إسحاق قال: قال علي رضي الله عنه ونظر إلى ابنه الحسن فقال: (إن ابني هذا سيد كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق، ثم ذكر قصةً يملأ الأرض عدلاً)].
أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه أنه قال عن ابنه الحسن: (إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم) وذلك أنه جاء في الحديث أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وقد حمله، وكان ينظر إليه وينظر إلى الناس ويقول: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)؛ فـ علي رضي الله عنه يشير إلى هذا الحديث.
قوله: [(وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم)]، يعني: أن المهدي يكون من ولد الحسن، (ثم ذكر قصة يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً).
والحديث فيه انقطاع من جهتين في أعلاه وفي أسفله: أما في أسفله فعدم وجود شيخ أبي داود؛ لأنه قال: حدثت.
وهو منقطع، والأمر الثاني في أعلاه: أبو إسحاق لم يدرك علياً رضي الله عنه، فهو منقطع في أسفله وفي أعلاه وهو غير ثابت.
ويمكن أن نسمي الأول: معلقاً.(481/23)
تراجم رجال إسناد حديث علي في ابنه الحسن (وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم)
[قال أبو داود: وحدثت عن هارون بن المغيرة].
هارون بن المغيرة ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي.
[قال: حدثنا عمرو بن أبي قيس].
عمرو بن أبي قيس صدوق له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن شعيب بن خالد].
شعيب بن خالد ليس به بأس، أخرج له أبو داود.
[عن أبي إسحاق].
هو أبو إسحاق عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي].
علي رضي الله عنه مر ذكره.(481/24)
شرح حديث (يخرج رجل من وراء النهر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال هارون: حدثنا عمرو بن أبي قيس عن مطرف بن طريف عن أبي الحسن عن هلال بن عمرو قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يخرج رجل من وراء النهر يقال له: الحارث بن حراث، على مقدمته رجل يقال له: منصور، يوطئ أو يمكن لآل محمد كما مكنت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجب على كل مؤمن نصره)، أو قال: (إجابته)].
أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه أنه قال: (يخرج رجل من وراء النهر)، المقصود من جهة الشرق.
(يقال له: الحارث بن حراث، على مقدمته رجل يقال له: منصور، يوطئ أو يمكن لآل محمد كما مكنت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم).
أي: يمهد لآل محمد الملك والولاية كما مهدت قريش للرسول صلى الله عليه وسلم.
(وجب على كل مؤمن نصره)، أو قال: (إجابته).
والحديث ضعيف؛ لأن في إسناده من هو متكلم فيه.(481/25)
تراجم رجال إسناد حديث (يخرج رجل من وراء النهر)
[وقال هارون].
هارون بن المغيرة.
إذاً: الحديث فيه انقطاع، بالإضافة إلى المجهولين.
[وقال هارون: حدثنا عمرو بن أبي قيس عن مطرف بن طريف].
مطرف بن طريف ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الحسن].
أبو الحسن مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن هلال بن عمرو].
هلال بن عمرو مجهول.
أخرج له أبو داود.
[عن علي].
علي رضي الله عنه مر ذكره.
والحديث فيه مجهولان، وفيه انقطاع في الأول، وهو غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(481/26)
الأسئلة(481/27)
تسمية أبي داود لكتاب المهدي
السؤال
لماذا قال الإمام أبو داود: أول كتاب المهدي، ولم يقل كتاب المهدي مباشرة؟
الجواب
هذا شيء قاله في عدة كتب قبل هذا الكتاب، يعني: ذكر أول الكتاب كذا، ومعنى ذلك: أن الأحاديث الواردة في الكتاب كلها تتعلق به، والتعبير بقوله: (أول)، عبر بهذا هنا وفي غيره من الكتب التي قبله.(481/28)
حكم وصف عمر بن عبد العزيز بالخليفة الخامس
السؤال
هل يمكن أن يقال إن عمر بن عبد العزيز خلفية خامس أو يقال: هو من ضمن الخلفاء الاثني عشر؟
الجواب
لا شك أنه منهم، لكن لا يقال بأنه خامس الخلفاء الراشدين؛ لأن معاوية رضي الله عنه أفضل منه، ومعاوية صحابي، وعمر تابعي، ومعلوم أن الصحابة أفضل من التابعين.(481/29)
سبب عدم عدَّ الحسن بن علي في الخلفاء الاثني عشر
السؤال
لماذا لا يعد الحسن بن علي من جملة الخلفاء وتكون التتمة من بني أمية؟
الجواب
باعتبار أن مدته وجيزة.(481/30)
عدم دخول المهدي في خلافة النبوة
السؤال
هل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث خلافة النبوة الثانية المراد به المهدي؟
الجواب
خلافة النبوة حددها بقوله: (خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء)، فالمقصود بذلك خلافة الخلفاء الراشدين والمهدي في آخر الزمان.
ولكن صنيع أبي داود في إيراد الحديث تحت كتاب المهدي كأنه يشير إلى أن المهدي واحد من الاثني عشر، وهذا هو الذي ذكره ابن كثير في تفسيره.
لكن الأظهر هو القول الثاني وأن المقصود به الخلفاء الراشدون وثمانية من بني أمية.(481/31)
سبب عدم عدَّ عبد الله بن الزبير في الخلفاء الاثني عشر
السؤال
يلاحظ من كلام بعض العلماء في ذكر عدد الخلفاء الذين ذكروا في الحديث، أنه لا يذكر عبد الله بن الزبير مع أنه بايعه الناس حتى خرج عليه مروان بن الحكم وأرسل إليه الحجاج، فما السبب في عدم ذكره؟
الجواب
لم يذكروه؛ لأن الخلافة كانت بالشام، وكان كل واحد يعهد إلى الذي بعده، وابن الزبير رضي الله عنه أنكر عليه بعض الصحابة ما حصل منه من الولاية، ولا شك أنه رضي الله عنه اجتهد، ولكن لم يذكروه في جملة الخلفاء؛ لأن الخلافة كانت في الشام.(481/32)
إسقاط يزيد من الخلفاء الاثني عشر
السؤال
لماذا أسقط صاحب العون يزيد في الخلفاء الاثني عشر؟
الجواب
أسقط يزيد وذكر مكانه الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وبعض العلماء ذكروا يزيد مثل شارح الطحاوية.(481/33)
ظهور المهدي لا يدل على عدم وجود عدل وخلافة قبله
السؤال
هل يفهم من الحديث أنه لا خلافة إلا مع ظهور المهدي، وأن العدل لا يكون إلا حينئذ؟
الجواب
هذا غير صحيح أبداً، لا ينفى ذلك أن يكون هناك خلافة وعدل قبل ذلك.(481/34)
كيفية معرفة الناس للمهدي حين ظهوره
السؤال
إذا ظهر المهدي هل يخبر الناس عن نفسه، أم أنهم يعرفونه بأوصافه وما ذكر عنه؟
الجواب
الناس هم من يظهرون أمره، ويكون معروفاً لديهم، لكن كونه يعرفهم بنفسه لا أدري.(481/35)
تفسير حديث (لا يأتي عام) بنقصان العلم
السؤال
جاء في بعض الآثار عن بعض الصحابة تفسير: (لا يأتي عام)، بنقصان العلم؟ لا بمعنى: عام خير من عام، أو أمير خير من أمير؟
الجواب
قضية نقصان العلم قد يكون في بعض الأوقات، ثم يأتي بعده زمان يكون أكثر وأعم، فليس معناه أنه على مختلف العصور كل عام يكون أنقص من الذي قبله في العلم، بل قد يكون بعض الأعوام أحسن من الذي قبله.(481/36)
حكم ادعاء المهدية
السؤال
هل ادعاء المهدية كفر؟
الجواب
ادعاء المهدية ضلال بلا شك، وسفه وتشبع بما لم يعط.(481/37)
إقامة المهدي للعدل بين كل المسلمين
السؤال
قوله: (يملك العرب)، هل يدل على أنه يقيم العدل بين العرب دون غيرهم من المسلمين؟
الجواب
لا، بل غيرهم تبع لهم.(481/38)
وجه تخصيص علماء الزمن الأول بالخيرية
السؤال
بعضهم خص هذا الحديث بالعلماء، أي: أن علماء الزمن الأول خير من الزمن الذي يليه، فهل له وجه؟
الجواب
قد يأتي في بعض الأزمان علماء أحسن ممن كان قبلهم، وليس بلازم أن يكون كل علماء قرن أحسن من علماء الذي بعده.(481/39)
حكم من أنكر المهدي
السؤال
ما حكم من أنكر المهدي؟
الجواب
لا شك أنه ضلال وأمر خطير؛ لأن الأحاديث فيه كثيرة.(481/40)
ثبوت أحاديث المهدي
السؤال
وردت أسئلة كثيرة عن كتابكم في هذا الموضوع، وبعضهم يقترح أن يقرأ في الجلسة القادمة، فهل يمكن أن تذكروا لنا خلاصة ما توصلتم إليه فيه؟
الجواب
الخلاصة: أن الأحاديث التي وردت فيه كثيرة، ومنها صحيح وضعيف وثابت، ومجملها فيه رد على من ينكر أو يضعف الأحاديث التي وردت فيه، وهو تضعيف مبني على غير علم، وإنما مبني على العقل وعلى متابعة المتأخرين من أولئك الذين يتكلمون على الأحاديث بعقولهم وبآرائهم وليس مبنياً على الرواية والدراية.(481/41)
ثبوت أن المهدي من ولد الحسن بن علي
السؤال
يذكر أن الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه يرجح أن المهدي من ولد الحسن قال: لما تنازل الحسن عن الخلافة لـ معاوية جعل الله تبارك وتعالى المهدي من نسله وذريته؟
الجواب
المشهور عند أهل السنة أنه من أولاد الحسن، وقيل: إن هذا شبيه بابني إبراهيم إسماعيل وإسحاق فإن الأنبياء من ذرية إسحاق، وأما نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فهو من ذرية إسماعيل؛ فصار له بقاء هذه الشريعة، يعني: الأنبياء والرسل من أولاد إسحاق كثر، لكن خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل، وكانت ولايته ورسالته مستمرة إلى نهاية الدنيا، فكذلك أيضاً سبطي الرسول صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين، جعل الله الولاية أو الإمارة أو الخلافة التي تكون في آخر الزمان من نسل الحسن؛ لأن أولاد الحسين اشتهروا بالعلم وبأمور كثيرة بخلاف أولاد الحسن؛ فجعل الله من ذريته ذلك الرجل الذي يكون في آخر الزمان وهو المهدي.
والحديث الذي مر فيه التصريح بأنه من أولاد الحسن ضعيف، ولكن المشهور عند أهل السنة هو هذا.(481/42)
ضعف حديث (إذا رأيتم أهل الرايات السود)
السؤال
ما صحة حديث: (إذا رأيتم أهل الرايات السود تخرج في خراسان فلبوا فإن فيها المهدي)؟
الجواب
الذي أذكر أنه ضعيف.(481/43)
المهدي من أعلم أهل زمانه
السؤال
هل يكون المهدي من أعلم أهل زمانه أو أنه رجل من عامة الناس؟
الجواب
كونه يملأ الأرض عدلاً وقسطاً لا شك أنه مبني على علم.(481/44)
صحة حديث (إن الله يصلحه في ليلة أو ليلتين)
السؤال
جاء في بعض الأحاديث: (إن الله يصلحه في ليلة أو ليلتين)؟
الجواب
الحديث صحيح.
ومعناه: أن الله تعالى يجعل فيه الصلاح فيقوم بنشر وإظهار الدين، والحكم بين الناس بالقسط والعدل ورفع الجور والظلم، وهذا الحديث صحيح ولكن ليس بغريب، ومعلوم أن من الناس من كان شديد العداوة للمسلمين ولكن أصلحه الله عز وجل وقذف الإيمان في قلبه في يوم من الأيام، ثم أصبح من أشد الناس على الكافرين، مثل عمر رضي الله عنه.(481/45)
امتلاء الأرض ظلماً وجوراً
السؤال
هل يمكننا أن نقول: إن الأرض تكاد أن تمتلئ ظلماً وعدواناً الأمر الذي يؤذن بقروب خروج المهدي؟
الجواب
لا شك أن المسلمين متفرقون ومتشتتون وأكثرهم ليسوا على صلة بكتاب الله ولا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحكمون قوانين وضعية، ولا شك أن هذا ظلم وجور؛ لأن تحكيم غير شرع الله هو ظلم وجور.(481/46)
جواز وصف من يحكم العقل في النصوص بالمعتزلة
السؤال
هل يصح أن يوصف من ينكر هذه الأحاديث وأمثالها بعقولهم بأنهم عقلانيون أو معتزلة العصر؟
الجواب
يصح؛ لأن الذي يحكم عقله ويجعل النصوص تابعة للعقول، ويلوي أعناق النصوص حتى توافق ما يراه، لا شك أن هذه طريقة المعتزلة، وهؤلاء ورثتهم، ولكل قوم وارث.(481/47)
عدم صحة القول بأن المهدي موجود الآن
السؤال
هل يصح القول بأن المهدي موجود الآن ويجهز الجيش ليخرج به؟
الجواب
هو غير موجود ولا يوجد ما يدل على وجوده، وإنما يولد كما يولد غيره في زمانه، وبعد ذلك يحصل له الولاية، وهو ليس مثل الدجال الذي جاء خبر وجوده في حديث الجساسة.(481/48)
تفسير حديث (لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه) بنقصان العلم
السؤال
صح عن ابن مسعود رضي الله عنه تفسيره لحديث (لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه)، فسره بقلة العلم ونقصانه، وذكره ابن حجر، فهل يكون قول الصحابي فاصلاً في هذه المسألة؛ إذ لا يوجد له مخالف؟
الجواب
هذا لا شك أنه من جملة ما يكون تحت الحديث، لكن لا يقصر الحديث عليه، ولكن كما هو معلوم أنه يأتي في بعض الأزمان عدم ظهور العلم وعدم وجود علماء، ثم بعد ذلك يأتي أناس يبرزون في العلم فيكون العهد الذي هم فيه أحسن من الذي قبله.(481/49)
الاستدلال بحديث (يملك العرب) على أن المهدي من الملوك
السؤال
قوله: (يملك العرب)، هل يدل على أنه سوف يكون من أحد ملوك المسلمين في ذلك الوقت؟
الجواب
ويكون غيره أيضاً، ولم يذكر ملوك المسلمين في الحديث.
ويفهم أيضاً أنه خليفة من خلفاء المسلمين، وأنه يلي الأمر فهو مسلم ويلي المسلمين.(481/50)
شرح سنن أبي داود [482]
ظهور المهدي علامه من علامات الساعة، وهو رجل من نسل الحسن بن علي رضي الله عنهما، وهو غير المهدي عند الشيعة، ويكون في آخر الزمان، فيتولى ولاية المسلمين، وينشر الحق والعدل، وتكون الأرض قبل زمانه قد ملئت جوراً وظلماً، فيملؤها عدلاً وقسطاً، ويصلي خلفه عيسى بن مريم ويعينه على قتل الدجال حينئذٍ، وكل هذه الأخبار قد تواترت بها الأحاديث الصحاح، ولا عبرة لمن خالف في هذا الباب من أهل العلم.(482/1)
ذكر بعض الذين حكوا تواتر أحاديث المهدي ونقل كلامهم في ذلك
سبق معنا ذكر الأحاديث الواردة في كتاب المهدي، وهو الكتاب الذي أورده أبو داود ضمن سننه، وكان شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمة الله عليه عندما بلغه أن بعض الناس يتكلم في أحاديث المهدي قال: إن أبا داود قد عقد لها كتاباً فقال: كتاب المهدي، وأورد فيه بعض الأحاديث المتعلقة به.
وقد كتبت في عام ألف وثلاثمائة وثمانية وثمانين محاضرة ألقيتها في دار الحديث التابعة للجامعة الإسلامية، وكانت بحضور الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه وحضور عدد من المشايخ ومنهم شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله.
وأوردت في تلك المحاضرة جملة من الأحاديث والموضوعات المتعلقة بذلك كذكر أسماء الصحابة الذين رووا أحاديث المهدي، والعلماء الذين خرجوا أحاديثه، وكذلك الذين حكوا التواتر وما جاء في الصحيحين مما له تعلق بـ المهدي، وكذلك الأحاديث الأخرى التي في غير الصحيحين.
وذكرت كلام العلماء الذين احتجوا بأحاديث المهدي، وذكرت من حكي عنه إنكار أحاديث المهدي أو التوقف فيها ومناقشته، ثم ما يظن تعارضه مع أحاديث المهدي والجواب عن ذلك، ثم كلمة ختامية.
وفي عام ألف وأربعمائة كتب الشيخ عبد الله بن محمود رئيس محاكم قطر رحمه الله رسالة بعنوان: (لا مهدي ينتظر بعد الرسول خير البشر)، فكتبت رداً عليه في هذه الرسالة، ونشر الرد في مجلة الجامعة الإسلامية في عام ألف وأربعمائة على حلقتين، وكذلك البحث في المحاضرة التي ألقيتها في عام ألف وثلاثمائة وثمانية وثمانين نشرت في مجلة الجامعة سنة ألف وثلاثمائة وثمانية وثمانين.
وبمناسبة قراءتنا لأحاديث المهدي الواردة عند أبي داود نقرأ جملاً وفصولاً مما كتبته تتعلق بالموضوع حتى يتضح بها أن الأحاديث الواردة في المهدي صحيحة، وأنها متواترة، وأن الذين احتجوا بها هم علماء محققون معروفون بالعلم والتحقيق، وأن القول بعدم صحتها لا وجه له، وكان الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه علق على هذه المحاضرة وكتب تعليقه معها في مجلة الجامعة والذي طبع في عام ألف وأربعمائة واثنين من الهجرة.
فقلت في تلك المحاضرة: ذكر بعض الذين حكوا تواتر أحاديث المهدي ونقل كلامهم في ذلك.
من الذين حكموا على أحاديث المهدي بأنها متواترة: الحافظ أبو الحسين محمد بن الحسين الآجري السجزي صاحب كتاب مناقب الشافعي المتوفى سنة ثلاث وستين وثلاثمائة من الهجرة، قال رحمه الله في محمد بن خالد الجندي راوي حديث: (لا مهدي إلا عيسى بن مريم): محمد بن خالد: هذا غير معروف عند أهل الصناعة من أهل العلم والنقل، وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذكر المهدي، وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلاً، وأن عيسى عليه السلام يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأمة ويصلي عيسى خلفه، نقل ذلك عنه ابن القيم في كتابه المنار المنيف وسكت عليه، ونقله عنه أيضاً الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة محمد بن خالد الجندي وسكت عليه، ونقل عنه ذلك وسكت عليه أيضاً في فتح الباري في باب نزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام.
ونقل ذلك عنه أيضاً السيوطي في جزء العرف الوردي في أخبار المهدي، وسكت عليه، ونقل ذلك عنه مرعي بن يوسف في كتابه: فوائد الفكر في ظهور المهدي المنتظر، كما ذكر ذلك الصديق حسن في كتابه: الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة، ومنهم محمد البرزندي المتوفى سنة ثلاث بعد المائة والألف في كتابه: الإشاعة لأشراط الساعة، قال: الباب الثالث في الأشراط العظام والأمارات القريبة التي تعقبها الساعة، وهي أيضاً كثيرة فمنها المهدي وهو أولها، واعلم أن الأحاديث الواردة فيه على اختلاف روايتها لا تكاد تنحصر، إلى أن قال: ثم الذي في الروايات الكثيرة الصحيحة الشهيرة أنه من ولد فاطمة.
إلى أن قال: تنبيه: قد علمت أن أحاديث وجود المهدي وخروجه آخر الزمان وأنه من عترة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ولد فاطمة بلغت حد التواتر المعنوي، فلا معنى لإنكارها.
وقال في ختام كتابه المذكور بعد الإشارة إلى بعض أمور تجري في آخر الزمان وغاية ما ثبت بالأخبار الصحيحة الكثيرة الشهيرة التي بلغت التواتر المعنوي وجود الآيات العظام التي منها، بل أولها خروج المهدي، وأنه يأتي في آخر الزمان من ولد فاطمة يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً.
ثالثاً: ومن الذين حكوا تواتر أحاديث المهدي: الشيخ محمد السفاريني المتوفى سنة ثمان وثمانين بعد المائة والألف في كتابه لوامع الأنوار البهية، قال: وقد كثرت بخروجه -يعني: المهدي - الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي، وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عد من معتقداتهم، ثم ذكر بعض الآثار والأحاديث في خروج المهدي، وأسماء بعض الصحابة الذين رووها، ثم قال: وقد روي عمن ذكر من الصحابة وغير من ذكر منهم رضي الله عنهم بروايات متعددة، وعن التابعين من بعدهم ما يفيد مجموعه العلم القطعي، فالإيمان بخروج المهدي واجب كما هو مقرر عند أهل العلم، ومدون في عقائد أهل السنة والجماعة.
رابعاً: ومنهم القاضي محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة خمسين بعد المائتين والألف وهو صاحب التفسير المشهور، ومؤلف نيل الأوطار، قال في كتابه التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح: والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثاً فيها الصحيح والحسن والضعيف والضعيف المنجبر، وهي متواترة بلا شك ولا شبهة، بل يصدق وصف التواتر على ما هو دونها في جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول.
وأما الآثار عن الصحابة المصرحة بـ المهدي فهي كثيرة جداً لها حكم الرفع؛ إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك.
انتهى.
وقال في مسألة نزول المسيح عليه الصلاة والسلام: فتقرر أن الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة، والأحاديث الواردة في الدجال متواترة، والأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام متواترة.
نقل ذلك عنه الشيخ صديق في الإذاعة.
خامساً: ومنهم الشيخ صديق حسن القنوجي المتوفى سنة سبع بعد الثلاثمائة والألف، قال في كتابه: الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة: والأحاديث الواردة في المهدي على اختلاف رواياتها كثيرة جداً تبلغ حد التواتر المعنوي، وهي في السنن وغيرها من دواوين الإسلام من المعاجم والمسانيد، إلى أن قال: لا شك أن المهدي يخرج في آخر الزمان من غير تعيين لشهر وعام؛ لما تواتر من الأخبار في الباب، واتفق عليه جمهور الأمة خلفاً عن سلف، إلا من لا يعتد بخلافه.
إلى أن قال: فلا معنى للريب في أمر ذلك الفاطمي الموعود المنتظر المدلول عليه بالأدلة، بل إنكار ذلك جرأة عظيمة في مقابلة النصوص المستفيضة المشهورة البالغة إلى حد التواتر.
سادساً: وممن حكى تواتر أحاديث المهدي من المتأخرين: الشيخ محمد بن جعفر الكتاني المتوفى سنة خمس وأربعين بعد الثلاثمائة والألف، قال في كتابه نظم المتناثر من الحديث المتواتر: وقد ذكروا أن نزول سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، ثم قال: والحاصل أن الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة، وكذلك الواردة في الدجال وفي نزول سيدنا عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام.(482/2)
ذكر بعض ما ورد في الصحيحين من الأحاديث مما له تعلق بشأن المهدي
أولاً: روى البخاري في صحيحه في باب نزول عيسى بن مريم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم).
وروى مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه بمثل حديثه عند البخاري، ورواه أيضاً عن أبي هريرة بلفظ: (كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم فأمكم منكم)، وفيه تفسير ابن أبي ذئب راوي الحديث لقوله: (فأمكم منكم)، بقوله: [فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم].
ثالثاً: وروى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم: تعال صل لنا، فيقول: لا إن بعضكم على بعض إمراء؛ تكرمة الله لهذه الأمة).
فهذه الأحاديث التي وردت في الصحيحين تدل على أمرين: أحدهما: أنه عند نزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من السماء يكون المتولي لإمرة المسلمين رجلاً منهم.
والثاني: أن حضور أميرهم للصلاة وصلاته بالمسلمين وطلبه من عيسى عليه الصلاة والسلام عند نزوله أن يتقدم ليصلي لهم يدل على صلاح في هذا الأمير وهدى، وهي وإن لم يكن فيها التصريح بلفظ المهدي إلا أنها تدل على صفات رجل صالح يأم المسلمين في ذلك الوقت.
وقد جاءت الأحاديث في السنن والمسانيد وغيرها مفسرة لهذه الأحاديث التي في الصحيحين، ودالة على أن ذلك الرجل الصالح يسمى: محمد بن عبد الله، ويقال له: المهدي، والسنة يفسر بعضها بعضاً، ومن الأحاديث الدالة على ذلك: الحديث الذي رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده بسنده عن جابر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم المهدي: تعالى صل بنا، فيقول: لا إن بعضهم أمير بعض؛ تكرمة الله لهذه الأمة).
وهذا الحديث قال فيه ابن القيم في المنار المنيف: إسناده جيد.
انتهى.
وهو دال على أن ذلك الأمير المذكور في صحيح مسلم الذي طلب من عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام أن يتقدم للصلاة يقال له المهدي، وقد أورد الشيخ صديق حسن في كتابه الإذاعة جملة كبيرة من أحاديث المهدي جعل آخرها حديث جابر المذكور عند مسلم، ثم قال عقبة: وليس فيه ذكر المهدي ولكن لا محمل له ولأمثاله من الأحاديث إلا المهدي المنتظر كما دلت على ذلك الأخبار المتقدمة والآثار الكثيرة.
فهذه الأحاديث التي فيها الإشارة للمهدي في الصحيحين، وليس فيها ذكر المهدي ولا ذكر اسمه ولا اسم أبيه ولكن فيها ذكر أن المسلمين لهم أمير صالح في ذلك الوقت، وأن عيسى يصلي وراءه كما جاء في صحيح مسلم، لكن جاء في خارج الصحيحين حديث جابر نفسه الذي في صحيح مسلم الذي فيه أن الأمير يطلب من عيسى أن يصلي فيقول: صل أنت، فيصلي عيسى وراءه، جاء في خارج الصحيحين وفي مسند الحارث بن أبي أسامة هذا الحديث نفسه عن جابر وفيه وصف ذلك الأمير بأنه المهدي، وحكم عليه ابن القيم بأن إسناده جيد.
وعلى هذا فالصحيحان لم يرد فيهما التنصيص على المهدي، وإنما ورد في غيرهما بل تواتر، وهذا يدلنا على أن الصحيحين لم يستوعبا كل صحيح؛ لأنهما لم يشترطا الاستيعاب ولم يستوعبا بالفعل، فلم يشترطا حتى يستدرك عليهما ولم يستوعبا بالفعل، وإنما أتيا بجملة كبيرة من الأحاديث الصحيحة من غير حصر.
وسبق أن ذكرنا في شرح سنن النسائي وسنن أبي داود أن البخاري ومسلم رحمهما الله ينتقيان من صحيفة همام بن منبه، وهي صحيفة مشهورة جاءت بإسناد واحد، وتشتمل على مائة وأربعين حديثا ًتقريباً، وإسنادها واحد والفاصل بين كل حديث وحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وقال كذا وهكذا إلى مائة وأربعين مرة؛ لأنها تصل بين حديث وحديث، والصحيفة أوردها الإمام أحمد في مسنده في مسند أبي هريرة، فقد ذكر هذا الحديث الطويل الذي هو مشتمل على أحاديث تبلغ مائة وأربعين باسناد واحد.
والإمام البخاري والإمام أبو داود وكذلك النسائي وغيرهم ينتقون ما يريدون من تلك الصحيفة ويسوقون الإسناد ثم يأتون بالمتن الذي يريدونه بعد الإسناد مباشرة، وإن لم يكن هو الذي يليه، وبعض أهل العلم يأتي بالحديث الأول في الصحيفة وهو: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة)، ثم يأتي بما يريد بعده.
والإمام مسلم رحمه الله له طريقة عجيبة في تفننه ودقته واحتياطه، فهو عندما يذكر الإسناد: محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا.
فهو يشير إلى ما قبل الذي يريده، وأن المتن ليس تالي للإسناد وإنما يوجد فاصل من جملة أحاديث وهو يشير إليها بقوله: فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، ومحل الشاهد من إيراد هذه المسألة توضيح الاستدلال على أنهما لم يشترطا الاستيعاب ولم يستوعباه، فهما لم يستوعبا كل ما في هذه الصحيفة، فـ مسلم أخذ بعض الأحاديث والبخاري أخذ بعضها، واتفقوا على بعضها، وهناك أحاديث تركاها، فلو التزما بإخراج كل صحيح لما تركا شيئاً منها وهي بإسناد واحد، لكنهما لما انتقيا منها ما أرادا وتركا ما أرادا كان تركهما دليلاً على أنهما لم يشترطاه ولم يستوعباه، فلا يستدرك عليهما، ولا يقال: فاتهما من الصحيح ما فاتهما.
نعم قد فاتهما الشيء الكثير؛ لأنهما لم يشترطاه، فلذلك لم يستوعباه.(482/3)
ذكر بعض الأحاديث الواردة في المهدي في غير الصحيحين
ولما كان المقام لا يتسع لإيراد الكثير من الأحاديث الواردة في غير الصحيحين بشأن المهدي والكلام عليها رأيت الاقتصار هنا على إيراد بعضها مع الكلام على بعض أسانيدها.
أولاً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبشركم بـ المهدي يبعث على اختلاف من الناس وزلازل، فيملأ الأرض قسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً، فيرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، يقسم المال صححاً، قال له رجل: ما صححاً؟ قال: بالسوية، ويملأ الله قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم غناء، ويسعهم عدله)، إلى آخر الحديث.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد بأسانيد، وأبو يعلى باختصار كثير، ورجالهما ثقات.
ثانياً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (ذكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهدي فقال: إن قصر فسبع وإلا فثمان وإلا فتسع، وليملأن الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً).
قال الهيثمي: رواه البزار ورجاله ثقات وفي بعضهم بعض ضعف.
ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يكون في أمتي المهدي إن قصر فسبع، وإلا فثمان، وإلا فتسع، تنعم أمتي فيها نعمة لم ينعموا مثلها، يرسل السماء عليهم مدراراً، ولا تدخر الأرض شيئاً من النبات والمال، يقوم الرجل فيقول: يا مهدي! أعطني؟ فيقول: خذ).
قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات.
رابعاً: عقد أبو داود في سننه كتاباً قال في أوله: أول كتاب المهدي، وقال في آخره: آخر كتاب المهدي، جعل تحته باباً واحداً أورد فيه ثلاثة عشر حديثاً، وصدر هذا الكتاب بحديث جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة)، الحديث.
قال السيوطي في آخر جزء العرف الوردي في أخبار المهدي: في ذلك إشارة إلى ما قاله العلماء بأن المهدي أحد الاثني عشر، وقد ذكر ذلك أيضاً ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة:12] في سورة المائدة كما يجيئ ذكر كلامه، ويرى جماعة من العلماء -ومنهم شارح الطحاوية- أن الاثني عشر هم الخلفاء الراشدون وثمانية من بني أمية.
خامساً: ما رواه أبو داود في سننه من طريق عاصم بن أبي النجود عن زر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً).
وهذا الحديث سكت عليه أبو داود والمنذري وكذا ابن القيم في تهذيب السنن، وقد أشار إلى صحته في المنار المنيف، وصححه ابن تيمية في منهاج السنة النبوية، وقد أورده البغوي في مصابيح السنة، وقال عنه الألباني في تخريج أحاديث المشكاة: وإسناده حسن.
انتهى.
والحديث مداره على عاصم بن أبي النجود وقد لخص في عون المعبود شرح سنن أبي داود الأقوال التي قيلت فيه، فقال: وعاصم هذا هو ابن أبي النجود، واسم أبي النجود: بهدلة، وهو أحد القراء السبعة، قال أحمد بن حنبل: كان رجلاً صالحاً وأنا أختار قراءته، وقال أحمد وأبو زرعة أيضاً: ثقة، قال أبو حاتم: محله عندي محل الصدق، صالح الحديث ولم يكن بذلك الحافظ.
وقال أبو جعفر العقيلي: لم يكن فيه إلا سوء الحفظ.
وقال الدارقطني: في حفظه شيء، وأخرج له البخاري في صحيحه مقروناً وأخرج له مسلم.
قال الذهبي: ثبْت في القراءة، وهو في الحديث دون الثبت، صدوق يهم وهو حسن الحديث.
والحاصل: أن عاصم بن بهدلة ثقة على رأي أحمد وأبي زرعة وحسن الحديث، صالح الاحتجاج على رأي غيرهما، ولم يكن فيه إلا سوء الحفظ.
وردُّ الحديث بـ عاصم ليس من دأب المنصفين، على أن الحديث قد جاء من غير طريق عاصم أيضاً، وارتفعت عن عاصم مظنة الوهم، والله أعلم.
انتهى.
والحديث ذكره ابن خلدون في مقدمة تاريخه، وقدح فيه من جهة عاصم بن أبي النجود ملاحظاً ما قيل فيه من سوء الحفظ، وقال: إن الجرح مقدم على التعديل، وقد أنكر عليه ذلك.
قال الشيخ أحمد شاكر في تخريج أحاديث المسند: إن ابن خلدون لم يحسن قول المحدثين: إن الجرح مقدم على التعديل، ولو اطلع على أقوالهم وفقهها ما قال شيئاً مما قال.
وقال أيضاً: إن عاصم بن أبي النجود من أئمة القراء المعروفين ثقة في الحديث، أخطأ في بعض حديثه ولم يغلب خطؤه على رواياته حتى ترد.
قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل فيما كتب إلي قال: سألت أبي عن عاصم بن بهدلة فقال: ثقة رجل صالح خير ثقة، والأعمش أحفظ منه، وكان شعبة يختار الأعمش عليه في تثبيت الحديث.
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عاصم بن بهدلة فقال: هو صالح، هو أكثر حديثاً من أبي قيس الأودي وأشهر منه، وأحب إلي من أبي قيس، وقال: سئل أبي عن عاصم بن أبي النجود وعبد الملك بن عمير فقال: قدم عاصماً على عبد الملك، عاصم أقل اختلافاً عندي من عبد الملك، وقال: سألت أبا زرعة عن عاصم بن بهدلة فقال: ثقة.
قال: فذكرته لأبي فقال: ليس محله هذا أن يقال: هو ثقة، وقد تكلم فيه ابن علية فقال: كأن كل من كان اسمه عاصماً سيئ الحفظ.
قال الشيخ أحمد شاكر: وهذا أكثر ما قيل فيه من الجرح، أفمثل هذا يترك حديثه ويجعل سبيلاً لإنكار شيء ثبت بالسنة الصحيحة من طرق متعددة من حديث كثير من الصحابة حتى لا يكاد يشك في صحته أحد؛ لما في رواته من عدل، وصدق لهجته، ولارتفاع احتمال الخطأ ممن كان في حفظه شيء فيما ثبت عن غيره ممن هو مثله في العدل والصدق، وقد يكون أحفظ منه؟ ما هكذا تعلل الأحاديث! انتهى.
سادساً: وقال أبو داود في سننه: حدثنا سهل بن يزيع حدثنا عمران القطان عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (المهدي مني، أجلى الجبهة، أقنى الأنف؛ يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، ويملك سبع سنين).
قال ابن القيم في المنار المنيف: رواه أبو داود بإسناد جيد، وأورده البغوي في مصابيح السنة في فصل الحسان، وقال الألباني في تخريج أحاديث المشكاة: وإسناده حسن، ورمز لصحته السيوطي في الجامع الصغير.
سابعاً: قال ابن ماجة في سننه: حدثنا محمد بن يحيى وأحمد بن يوسف قالا: حدثنا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (يقتتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة، ثم لا يصير إلى واحد منهم، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق فيقتلونكم قتلاً لم يقتله قوم)، ثم ذكر شيئاً لا أحفظه، فقال: (فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج؛ فإنه خليفة الله المهدي).
قال الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على سنن ابن ماجة: في الزوائد -يعني: زوائد ابن ماجة للبوصيري - هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين.
انتهى.
وقد أورد هذا الحديث بسنده الحافظ ابن كثير في كتاب الفتن والملاحم وقال: هذا إسناد قوي صحيح، ثم أورد حديثاً عن الترمذي فيه ذكر الرايات السود أيضاً، ثم قال: وهذه الرايات ليست هي الرايات التي أقبل بها أبو مسلم الخراساني فاستلم بها دولة بني أمية في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، بل رايات سود أخر تأتي بصحبة المهدي وهو محمد بن عبد الله العلوي الفاطمي الحسني رضي الله عنه.
انتهى.(482/4)
ذكر بعض العلماء الذين احتجوا بأحاديث المهدي واعتقدوا موجبها، وحكاية كلامهم في ذلك
قال الحافظ أبو جعفر العقيلي المتوفى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة: إن في المهدي أحاديث جياداً.
قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة علي بن نفيل بن زارع النهدي قلت: ذكره العقيلي في كتابه، وقال: لا يتابع على حديثه في المهدي، ولا يعرف إلا به، قال: وفي المهدي أحاديث جياد من غير هذا الوجه.
انتهى.
ويرى الإمام ابن حبان البستي المتوفى في سنة أربع وخمسين بعد الثلاثمائة: أن الأحاديث الواردة في المهدي مخصصة لحديث: (لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه)، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في الكلام على الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه في كتاب الفتن، وهو حديث أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم).
قال: واستدل ابن حبان في صحيحه بأن حديث أنس ليس على عمومه بالأحاديث الواردة في المهدي (وأنه يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت ظلماً).
انتهى.
وقال الخطابي المتوفى سنة ثمان وثمانين بعد الثلاثمائة رحمه الله في الكلام على حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، وتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة إلى آخره)، قال: (ويكون ذلك في زمن المهدي أو عيسى عليهما الصلاة والسلام أو كليهما).
ذكر ذلك الملا علي القاري.
قال في شرح المشكاة: والأخير هو الأظهر لظهور هذا الأمر في خروج الدجال، وهو في زمنهما، وذكر ذلك المباركفوري صاحب تحفة الأحوذي في الكلام على شرح هذا الحديث.
وقال الإمام البيهقي المتوفى سنة ثمان وخمسين بعد الأربعمائة بعد كلامه على تضعيف حديث: (لا مهدي إلا عيسى بن مريم)، قال: والأحاديث في التنصيص على خروج المهدي أصح ألبتة إسناداً، نقل ذلك عنه الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة محمد بن خالد الجندي راوي حديث: (لا مهدي إلا عيسى بن مريم)، ونقله عنه أيضاً ابن القيم في المنار المنيف في الحديث الصحيح والضعيف، وقد عقد القاضي عياض المتوفى سنة أربع وأربعين بعد الخمسمائة في كتابه الشفاء باباً لمعجزاته صلى الله عليه وآله وسلم يشتمل على ثلاثين فصلاً، قال في القسم الأول من كتابه المذكور: الباب الرابع فيما أظهره الله على يديه صلى الله عليه وآله وسلم من المعجزات وشرفه به من الخصائص والكرامات.
قال في أوئل الكلام في هذا الباب: أمنيتنا أن نثبت في هذا الباب أمهات معجزاته ومشاهير آياته لتدل على عظيم قدره عند ربنا، وأتينا منها بالمحقق والصحيح الإسناد وأكثره مما بلغ الخط أو كاد، وأضفنا إليه بعض ما وقع في كتب مشاهير الأئمة.
ثم قال في الفصل الثالث والعشرين: فصل: ومن ذلك ما أطلع عليه من الغيوب وما يكون، قال في أوله: والأحاديث في هذا الباب بحر لا يدرك قعره، ولا ينزف غمره.
وأورد في هذا الفصل جملة كبيرة من الأمور المستقبلة التي أخبر بها الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذكر من بينها خروج المهدي.
وقال الإمام محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي صاحب التفسير المشهور المتوفى سنة واحد وسبعين بعد الستمائة في كتابه التذكرة في أمور الآخرة بعد ذكر حديث: (ولا مهدي إلا عيسى بن مريم)، قال: إسناده ضعيف، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التنصيص على خروج المهدي من عترته من ولد فاطمة ثابتة أصح من هذا الحديث، فالحكم بها دونه.
وقال: يحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ولا مهدي إلا عيسى بن مريم)، أي: لا مهدي كاملاً معصوماً إلا عيسى، وعلى هذا تجتمع الأحاديث.
على القول بصحته يجمع بينه وبينها بأن يقال: لا مهدي كاملاً ومعصوماً إلا عيسى، فلا ينفي أن يكون غيره مهدي، ولكنه غير معصوم، وليس بكامل كالكمال الذي حصل لعيسى؛ لأنه نبي عليه الصلاة والسلام وغيره مثل المهدي الذي جاءت به الأحاديث لا يكون كذلك؛ لأنه من هذه الأمة ومن صلحائها ومن خيارها، (فلا مهدي)، أي: لا مهدي كاملاً معصوماً إلا عيسى بن مريم.
وعلى هذا تجتمع الأحاديث، ويرتفع التعارض.
نقل ذلك عنه السيوطي في آخر جزء العرف الوردي في أخبار المهدي.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة ثمانية وعشرين بعد السبعمائة في كتابه منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية في الجزء الرابع: فصل: وأما الحديث الذي رواه -أي: الرافضي الذي ألف كتابه للرد عليه- عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمه كاسمي، وكنيته كنيتي، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وذلك هو المهدي)، ف
الجواب
أن الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم من حديث ابن مسعود وغيره، كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن مسعود: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه رجل مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً)، ورواه الترمذي وأبو داود من رواية أم سلمة وفيه: (المهدي من عترتي من ولد فاطمة)، ورواه أبو داود من طريق أبي سعيد، وفيه: (يملك الأرض سبع سنين)، وروى عن علي رضي الله عنه: (أنه نظر إلى الحسن وقال: إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق، يملأ الأرض قسطاً).
وهذه الأحاديث غلط فيها طوائف، طائفة أنكروها واحتجوا بحديث ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا مهدي إلا عيسى بن مريم)، وهذا الحديث ضعيف، وقد اعتمد أبو محمد بن الوليد البغدادي وغيره عليه وليس مما يعتمد عليه، ورواه ابن ماجة عن يونس عن الشافعي والشافعي رواه عن رجل من أهل اليمن يقال له: محمد بن خالد الجندي، وهو ممن لا يحتج به، وليس في مسند الشافعي، وقد قيل: إن الشافعي لم يسمعه من الجندي، وإن يونس لم يسمعه من الشافعي.
الثاني: أن الإثني عشرية الذين ادعوا أن هذا مهديهم فمهديهم اسمه محمد بن الحسن، والمهدي المنعوت الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم اسمه محمد بن عبد الله ولهذا حذفت طائفة لفظ الأب حتى لا يتناقض مع ما كذبت به.
وطائفة حرفته وقالت: جده الحسين وكنيته أبو عبد الله، فمعناه: محمد بن أبي عبد الله، وجعلت الكنية اسماً، وممن سلك هذا: ابن طلحة في كتابه الذي سماه غاية السول في مناقب الرسول، ومن له أدنى نظر يعرف أن هذا تحريف وكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهل يفهم أحد من قوله: (يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي إلا أن اسم أبيه عبد الله)، وهل يدل هذا اللفظ على أن جده كنيته أبو عبد الله؟! ثم أي تمييز يحصل له في هذا، فكم من ولد الحسين من اسمه محمد، وكل هؤلاء يقال في أجدادهم: محمد بن أبي عبد الله كما قيل في هذا، وكيف يعدل من يريد البيان إلى من اسمه محمد بن الحسن فيقول: اسمه محمد بن عبد الله ويعني بذلك أن جده أبو عبد الله، وهذا كان تعريفه بأنه محمد بن الحسن أو ابن أبي الحسن؛ لأن جده على كنيته أبو الحسن أحسن من هذا وأبين لمن يريد الهدى والبيان.
وأيضاً فإن المهدي المنعوت من ولد الحسن بن علي لا من ولد الحسين، كما تقدم لفظ حديث علي رضي الله عنه، وقد عقد ابن القيم رحمه الله في آخر كتابه المنار المنيف في الحديث الصحيح والضعيف فصلاً في الكلام على أحاديث المهدي وظهوره والجمع بينها وبين حديث: (لا مهدي إلا عيسى بن مريم)، قال فيه: فأما حديث: (لا مهدي إلا عيسى بن مريم)، فرواه ابن ماجة في سننه عن يونس بن عبد الأعلى عن الشافعي عن محمد بن خالد الجندي عن أبان بن صالح عن الحسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مما تفرد به محمد بن خالد.
قال أبو الحسين محمد بن الحسين الآجري في كتابه مناقب الشافعي: محمد بن خالد هذا غير معروف عند أهل الصناعة من أهل العلم والنقل، وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله صلى عليه وآله وسلم بذكر المهدي وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلاً، وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يأم هذه الأمة، ويصلي عيسى خلفه.
وقال البيهقي: تفرد به(482/5)
ذكر بعض ما قد يظن تعارضه مع الأحاديث الواردة في المهدي، والجواب عن ذلك
أولاً: تقدم في أثناء كلام الأئمة الذين نقلت كلامهم أن حديث: (لا مهدي إلا عيسى بن مريم)، لا يتعارض مع الأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي لضعفه، ولا مكان للجمع بينها، ولو صح يكون معناه: لا مهدي كاملاً معصوماً إلا عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، وذلك لا ينفي أن يكون غيره مهدياً غير معصوم كـ المهدي الذي دلت عليه الأحاديث.
ثانياً: أن ما دلت عليه أحاديث المهدي من قيام المهدي بنصرة الدين وامتلاء الأرض في زمانه من العدل لا ينافيه وجود الدجال وأتباعه في زمانه ومعاداتهم للمسلمين، وكذا الأدلة الدالة على بقاء الأشرار مع الأخيار حتى تخرج الريح اللينة التي تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة، ولا يبقى بعد ذلك إلا شرار الخلق الذين تقوم عليهم الساعة؛ لأن المراد مما جاء في أحاديث المهدي كثرة الخير، وقوة أهل الإسلام، وحصول الغلبة لهم وقهرهم لغيرهم، وهذا لا ينفي وجود أشرار مأمورين في زمانه، كما أننا نعتقد أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وخلفاءه الراشدين رضي الله عنهم قد ملئوا الأرض عدلاً ومع ذلك كان في الأرض في زمانهم من أعدائهم الكثير {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149].
ثالثاً: أن ما دلت عليه أحاديث المهدي من امتلاء الأرض ظلماً وجوراً قبل خروجه لا يدل على خلو الأرض من أهل الخير قبل زمانه، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم أخبر في أحاديث صحيحة بأنه: (لا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله)، ومنها الحديث الذي رواه مسلم عن جابر: (أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم: تعال صل لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء؛ تكرمة الله لهذه الأمة)، وهذه الأحاديث وأحاديث المهدي تدل على أن الحق مستمر لا ينقطع، لكنه في بعض الأزمان يكون لأهله الغلبة ويحصل له الانتشار، كما في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه الراشدين، وكما في زمن المهدي وعيسى بن مريم، وفي بعض الأزمان يتضاءل هذا الانتشار ويضعف أهله، أما أن الحق يتلاشى ويضمحل فهذا ما لم يكن فيما مضى منذ زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يكون في المستقبل حتى خروج الريح التي تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة كما أخبر بذلك الذي لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه.
فما من زمن في الماضي إلا وقد هيأ الله لهذا الدين من يقوم به، وفي هذا الزمن الذي تكالب أعداء الإسلام عليه، وغزي بأبنائه المنتسبين إليه أعظم من عزوه بأعدائه لم تخل الأرض من إقامة شعائر الدين الإسلامي، ومن ذلك ما امتن الله به على حكومة البلاد المقدسة من التوفيق لتحكيم الشريعة، وتعميم المحاكم الشرعية في مدن المملكة وقراها يتحاكم الناس فيها إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على وجه لا نظير له في سائر أنحاء الأرض فيما نعلم، فيرجم الزاني المحصن، ويجلد البكر، ويحد شارب الخمر، وتقطع يد السارق، ويقتل القاتل، وغير ذلك، وما حصل في هذه البلاد من الأمن الاستقرار ورغد العيش إنما هو من الثواب المعجل على القيام بالدين زادها الله من كل خير، وحماها من كل شر، ووفق المسلمين جميعاً في سائر أنحاء الأرض لما فيه عزهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم.(482/6)
لا علاقة لعقيدة أهل السنة في المهدي بعقيدة الشيعة
إن أحاديث المهدي الكثيرة التي ألف فيها المؤلفون، وحكى تواترها جماعة، واعتقد موجبها أهل السنة والجماعة وغيرهم من الأشاعرة تدل على حقيقة ثابتة بلا شك، هي: حصول مقتضاها في آخر الزمان، ولا صلة البتة لهذه الحقيقة الثابتة عند أهل السنة بالعقيدة الشيعية؛ فإن ما يعتقده الشيعة من خروج مهدي منتظر يسمى محمد بن الحسن العسكري من نسل الحسين رضي الله عنه لا حقيقة له ولا أصل، وعقيدتهم بالنسبة لمهديهم في الحقيقة عقيدة وهمية كما أن إمامة الأئمة الماضين عندهم في الحقيقة إمامة وهمية لا حقيقة لها ولا وجود إلا إمامة علي بن أبي طالب وابنه الحسن رضي الله عنهما، وهما بريئان منهم ومن اعتقادهم بلا شك، وأما أهل السنة ومعتقدهم في الماضي فهو حقيقة موجودة، وسادات الأئمة عندهم هم الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، وقد تولوا الإمامة حقاً وكانوا أحق بها وأهلها، ومعتقدهم في المستقبل عند نزول عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم حقيقة ثابتة بلا شك أيضاً؛ فلا عبرة بقول من ليس له به علم، وقال: إن الأحاديث في المهدي لا تصح نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها من وضع الشيعة كما تقدمت الإشارة إلى هذا.
إذاً فأحاديث المهدي على كثرتها وتعدد طرقها وإثباتها في دواوين أهل السنة يصعب كثيراً القول بأنه لا حقيقة لمقتضاها إلا على جاهل أو مكابر أو من لم يمعن النظر في طرقها وأسانيدها، ولم يقف على كلام أهل العلم المحتج بهم فيها، والتصديق بها داخل في الإيمان بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن من الإيمان به صلى الله عليه وسلم تصديقه فيما أخبر به، وداخل في الإيمان بالغيب الذي امتدح الله المؤمنين به بقوله: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1 - 3]، وداخل في الإيمان بالقدر فإن سبيل علم ما قدره الله أمران: أحدهما: وقوع الشيء: فكل ما ووقع علمنا أن الله قد شاءه؛ لأنه لا يكون ولا يقع إلا ما شاءه الله، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
الثاني: الإخبار بالشيء الماضي الذي وقع، وبالشيء المستقبل قبل وقوعه من الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكل ما ثبت إخباره به من الأخبار في الماضي علمنا بأنه كان على خبره صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكل ما ثبت إخباره عنه مما يقع في المستقبل نعلم بأن الله قد شاءه، وأنه لابد وأن يقع على وفق خبره، كإخباره صلى الله عليه وآله وسلم بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان، وإخباره بخروج المهدي وبخروج الدجال، وغير ذلك من الأخبار.
فإنكار أحاديث المهدي أو التردد في شأنه أمر خطير نسأل الله السلامة والعافية والثبات على الحق حتى الممات، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(482/7)
تعقيب لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى حول المهدي المنتظر
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد: فإنا نشكر محاضرنا الأستاذ الفاضل الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد على هذه المحاضرة القيمة الواسعة، فلقد أجاد فيها وأفاد، واستوفى المقام حقه فيما يتعلق بـ المهدي المنتظر مهدي الحق، ولا مزيد على ما بسطه من الكلام، فقد بسط واعتنى وذكر الأحاديث، وذكر كلام أهل العلم في هذا الباب، وقد وفق للصواب، وهدي إلى الحق، فجزاه الله عن محاضرته خيراً، وجزاه الله عن جهوده خيراً، وضاعف له المثوبة وأعانه على التكميل والإتمام لرسالته في هذا الموضوع، وسوف نقوم إن شاء الله بطبعها بعد انتهائه منها؛ لعظم فائدتها، ومسيس الحاجة إليها.
والخلاصة التي أعلقها على هذه المحاضرة القيمة أن أقول: إن الحق والصواب هو ما أبداه فضيلته في هذه المحاضرة كما بينه أهل العلم، فأمر المهدي أمر معلوم، والأحاديث فيه مستفيضة بل متواترة متعاضدة، وقد حكى غير واحد من أهل العلم تواترها كما حكاه الأستاذ في هذه المحاضرة، وهي متواترة تواتراً معنوياً لكثرة طرقها واختلاف مخارجها وصحابتها ورواتها وألفاظها، فهي بحق تدل على أن هذا الموعود به أمره ثابت وخروجه حق، وهو محمد بن عبد الله العلوي الحسني من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا الإمام من رحمة الله عز وجل بالأمة في آخر الزمان، فإنه يخرج فيقيم العدل والحق، ويمنع الظلم والجور، وينشر الله به لواء الخير على الأمة عدلاً وهداية وتوفيقاً وإرشاداً للناس، وقد اطلعت على كثير من أحاديثه فرأيتها كما قال الشوكاني وغيره وكما قال ابن القيم وغيره: فيها الصحيح، وفيها الحسن، وفيها الضعيف المنجبر، وفيها أخبار موضوعة، ويكفينا من ذلك ما استقام سنده سواء كان صحيحاً لذاته أو لغيره، وسواء كان حسناً لذاته أو لغيره، وهكذا الأحاديث الضعيفة إذا انجبرت وشد بعضها بعضاً فإنها حجة عند أهل العلم، فإن المقبول عندهم أربعة أقسام: صحيح لذاته، وصحيح لغيره، وحسن لذاته، وحسن لغيره، هذا ما عدا المتواتر، أما المتواتر فكله مقبول سواء كان تواتره لفظياً أو معنوياً، فأحاديث المهدي من هذا الباب متواترة تواتراً معنوياً فتقبل بتواترها من جهة اختلاف ألفاظها ومعانيها، وكثرة طرقها، وتعدد مخارجها.
وقد نص أهل العلم الموثوق بهم على ثبوتها وتواترها، وقد رأينا أهل العلم أثبتوا أشياء كثيرة بأقل من ذلك، والحق أن جمهور أهل العلم بل هو كالاتفاق على ثبوت أمر المهدي، وأنه حق، وأنه سيخرج في آخر الزمان، وأما من شذ عن أهل العلم في هذا الباب فلا يلتفت إلى كلامهم في ذلك.
وأما ما قاله الحافظ إسماعيل بن كثير رحمه الله في كتابه التفسير في سورة المائدة عند ذكر النقباء، وأن المهدي يمكن أن يكون أحد الأئمة الاثني عشر فهذا محل نظر، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال أمر هذه الأمة قائماً ما ولي عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش)، فقوله: (لا يزال أمر هذه الأمة قائماً)، يدل على أن الدين في زمانهم قائم، والأمر نافذ، والحق ظاهر، ومعلوم أن هذا إنما كان قبل انقراض دولة بني أمية، وقد جرى في آخرها اختلاف تفرق بسببه الناس، وحصل به نكبة على المسلمين، وانقسم أمر المسلمين إلى خلافتين: خلافة في الأندلس وخلافة في العراق، وجرى من الخطوب والشرور ما هو معلوم.
والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا يزال أمر هذه الأمة قائماً)، ثم جرت بعد ذلك أمور عظيمة حتى اختل نظام الخلافة، وصار على كل جهة من جهات المسلمين أمير وحاكم، وصارت دويلات كثيرة، وفي زماننا هذا أعظم وأكثر، والمهدي حتى الآن لم يخرج فكيف يصح أن يقال: إن الأمر قائم إلى خروج المهدي، فهذا لا يمكن أن يقوله من تأمل ونظر، والأقرب في هذا كما قاله جماعة من أهل العلم: إن مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الحديث: (لا يزال أمر هذه الأمة قائماً ما ولي عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش)، مراده من ذلك الخلفاء الأربعة ومعاوية رضي الله عنه وابنه يزيد، ثم عبد الملك بن مروان وأولاده الأربعة وعمر بن عبد العزيز، وهؤلاء اثنا عشر خليفة.
والمقصود: أن الأئمة الاثني عشر في الأقرب والأصوب ينتهي عددهم بـ هشام بن عبد الملك، فإن الدين في زمانهم قائم، والإسلام منتشر، والحق ظاهر، والجهاد قائم، وما وقع بعد موت يزيد من الاختلاف والانشقاق في الخلافة وتولي مروان في الشام وابن الزبير في الحجاز لم يضر المسلمين في ظهور دينهم؛ فدينهم ظاهر، وأمرهم قائم، وعدوهم مكبوت، مع وجود هذا الخلاف الذي جرى، ثم زال بحمد الله بتمام البيعة لـ عبد الملك واجتماع الناس بعدما جرى من الخطوب ما جرى على يد الحجاج وغيره، وبهذا يتبين أن هذا الأمر الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد وقع ومضى وانتهى، وأما أمر المهدي فيكون في آخر الزمان، وليس له تعلق بحديث جابر بن سمرة.
وأما كون المهدي يكون عند نزول عيسى فقد قال ابن كثير في الفتن والملاحم: أظنه يكون عند نزول المسيح، والحديث الذي رواه الحارث بن أبي أسامة يرشد ويدل على هذا؛ لأنه قال: (أميرهم المهدي) فهو يرشد إلى أنه يكون عند نزول عيسى بن مريم كما يرشد إليه بعض روايات مسلم وبعض الروايات الأخرى، لكن ليست بالصريحة، فهذا هو الأقوم والأظهر، ولكنه ليس بالأمر القطعي.
وأما كونه سيخرج ويوجد في آخر الزمان كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهذا أمر معلوم، والأحاديث ظاهرة في ذلك، والحق كما قاله الأئمة والعلماء في ذلك: أنه لابد من خروجه وظهوره، وأما أمر المسيح بن مريم عليه الصلاة والسلام وأمر المسيح الدجال فأمرهما أظهر وأظهر، فالأمر فيهما قطعي, وقد أجمع على ذلك علماء الأمة، وبينوا للناس أن المسيح نازل في آخر الزمان، كما أن الدجال خارج في آخر الزمان، وقد تواترت بذلك الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكلها صحيحة متواترة بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان، وحكمه بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، وقتله الدجال مسيح الضلالة، فهذا حق، وهكذا خروج الدجال حق.
وأما من أنكر ذلك وزعم أن نزول المسيح بن مريم ووجود المهدي إشارة إلى ظهور الخير، وأن وجود الدجال ويأجوج ومأجوج وما أشبه ذلك إشارة إلى ظهور الشر، فهذه أقوال فاسدة بل باطلة في الحقيقة لا ينبغي أن تذكر، فأهلها قد حادوا عن الصواب وقالوا أمراً منكراً وخطيراً لا وجه له في الشرع، ولا وجه له في الأثر ولا في النظر، والواجب تلقي ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم بالقبول والإيمان به والتسليم، فمتى صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لأحد أن يعارضه برأيه واجتهاده، بل يجب التسليم، كما قال الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر عن الدجال، وعن المهدي، وعن عيسى المسيح بن مريم، فوجب تلقي ما قاله بالقبول، والإيمان بذلك، والحذر من تحكيم الرأي والتقليد الأعمى الذي يضر صاحبه ولا ينفع لا في الدنيا ولا في الآخرة.
أسأل الله عز وجل أن يوفق الجميع لما فيه رضاه، وأن يمنحنا جميعاً الفقه في دينه، والثبات على الحق حتى نلقى ربنا سبحانه وتعالى.
وأعود أيضاً فأشكر فضيلة الأستاذ على محاضرته القيمة الواسعة، وأسأل الله له المعونة على الإتمام والإكمال حتى تطبع وتنتشر فينتفع بها الناس، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.
هذه كلمة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله التي علق بها على المحاضرة بعد إلقائها، وهي واضحة في بيان وإيضاح ما ذكره العلماء من أن أحاديث المهدي متواترة تواتراً معنوياً، وأن القول بخلاف ذلك أنه من الشذوذ، وأنه قول شاذ مخالف لما عليه الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(482/8)
شرح سنن أبي داود [483]
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما سيكون من الملاحم والفتن العظيمة في آخر الزمان، وذكر طريق النجاة من هذه الفتن، وهذا من نصحه لأمته، حيث لم يترك آخرها من النصح والهداية لما فيه خيرهم وعزهم في الدنيا والآخره.(483/1)
ما يذكر في قرن المائة(483/2)
شرح حديث: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أول كتاب الملاحم.
باب ما يذكر في قرن المائة.
حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني سعيد بن أبي أيوب عن شراحيل بن يزيد المعافري عن أبي علقمة عن أبي هريرة رضي الله عنه فيما أعلم عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها).
قال أبو داود: رواه عبد الرحمن بن شريح الاسكندراني لم يجز به شراحيل].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: كتاب الملاحم، والملاحم جمع ملحمة وهي المقتلة الكبيرة، والمراد به الاقتتال الذي يكون بين المسلمين وبين أعدائهم من الروم وغيرهم، وسميت ملاحم لالتحام الناس فيها بعضهم ببعض في الاقتتال، وكثرة القتل، فلهذا قيل لها الملاحم.
وأورد أبو داود بعد ذلك باباً في قرن المائة، يعني ما جاءت به السنة من بيان أن الدين يكون تجديده على رأس كل مائة سنة، وأن الله يهيئ لهذه الأمة من يجدد لها دينها، وذلك ببيان الحق، ودفع الباطل، ونصر الحق وأهله، والدفاع عن السنة وأهلها.
وأورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) أي: أن الله يهيئ العلماء والولاة الذين يقومون بإظهار الحق ونشره وبيانه، ودحض الباطل والقضاء عليه، والمقصود بذلك تجديد ما اندرس من الدين، وإلا فإن الدين وافٍ وكامل، فالمقصود تجديد ما اندرس منه بسبب ما حصل من فتن وضلالات وانحراف عن الجادة، فيهيئ الله من أهل العلم من يقوم ببيان الحق ونصرته والذب عنه، ومن يقوم ببيان الباطل والتحذير منه وبيان ضرره وخطره، وهذا من فضل الله عز وجل على هذه الأمة أن يهيئ لها من يقوم بنصرة الدين، فلا يمضي قرن من القرون إلا ويهيئ الله من يقوم بنصرة الدين، وهذا يدل على أن الأرض لا تخلو لله من قائم بحجته، وأن هذا الدين منصور وأهله منصورون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله).
ولا شك أن المجددين موجودون، وهم على علم بالكتاب والسنة، وعلى بصيرة بالحق والهدى، وليس عندهم انحراف في العقيدة ولا في مخالفة السنة والعدول عنها، فهم متمسكون بها وداعون إليها، وليس كل من يدعى أنه من المجددين يسلم له، وبعضهم لا شك أنه مسلم به مثل عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى، والشافعي على رأس المائة الثانية، ولكن لا يسلم بكل من يدعى أنه من المجددين، فإن بعض الناس يذكر مجددين على مشربه وعلى طريقته ولو كانوا من أهل البدع والانحراف، أو كانوا معروفين بعدم التوفيق للحق في باب أسماء الله وصفاته، وذلك من المشتغلين بعلم الكلام، فمثلاً أبو الأعلى المودودي له كتاب اسمه (المجددون في الإسلام) وجعل من المجددين الجويني والرازي والباقلاني! فهؤلاء هم المجددون عنده، ولم يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ولا ابن القيم ولا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مع أنه لم يذكر المجددين في كل سنة، فقد ذكر المجددين في رأس المائة الأولى والثانية والثالثة والرابعة، ثم انتقل إلى التاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرةَ والثالثة عشرة، ولا شك أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه مجدد في زمانه، وقد نفع الله به، وأظهر الله الحق على يديه، ولا تزال آثار دعوته ونصحه وتجديده لما درس من الدين موجودة، وقد مضى على موته أكثر من مائتين سنة.
فالشيخ محمد بن عبد الوهاب وقبله وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم من أعلام الهدى، ومن أئمة الهدى، وممن أظهر الله بهم الحق، وقمع بهم البدع، ولا تزال آثارهم ماثلة وموجودة نراها ونشاهدها في تلك المؤلفات الواسعة التي فيها بيان الحق وتوضيحه، وقمع الباطل ودحضه.
هذا ولا مانع من وجود أكثر من مجدد في رأس كل مائة سنة.
[قال أبو داود: رواه عبد الرحمن بن شريح الاسكندراني لم يجز به شراحيل].
معناه أنه حذف واسطتين وهما أبو علقمة وأبو هريرة، وهذا الإسناد يسمى معضلاً؛ فسقوط اثنين فأكثر من الإسناد بشرط التوالي يقال له: معضل.(483/3)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
سليمان بن داود المهري ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
[أخبرنا ابن وهب].
عبد الله بن وهب ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني سعيد بن أبي أيوب].
سعيد بن أيوب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شراحيل بن يزيد المعافري].
شراحيل بن يزيد المعافري صدوق، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم في المقدمة وأبو داود.
[عن أبي علقمة].
ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة, وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.
[قال أبو داود: رواه عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني].
عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(483/4)
علامات المجددين
المجددون يتميزون ويبرزون ويتقدمون ويتفوقون على غيرهم، ويشار إليهم بالبنان بتفوقهم، ويرجع الناس إليهم لكثرة علمهم وبذلهم العلم وإفادتهم لغيرهم، ومعلوم أنهم في كل زمان قليلون، وإن كان المشتغلون بالعلم كثيرين، فإن التميز على الغير لا يتحقق لكل أحد، فمثلاً شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه متميز في هذا الزمان عن غيره، ولا يبارى ولا يجارى في اشتغاله بالعلم والنصح وبذل العلم ونشره والحرص على الدعوة وهداية الخلق ودلالتهم على الصراط المستقيم، وكما تميز الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه في هذا الزمان تميز كذلك الشيخ محمد بن عثيمين رحمة الله عليه، والشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله عليه، فالذين يتميزون قليلون بالنسبة لغيرهم، وإن كان الخير كثيراً، والمشتغلون بالعلم كثيرين، ولكن الذين لهم تميز على غيرهم ليسوا بكثيرين.
فهؤلاء الأئمة الثلاثة: ابن باز وابن عثيمين والألباني رحمهم الله يعتبرون مجددي هذا القرن، فهم خير من نعلم وأعلم من نعلم من الموجودين في هذا الزمان، وقد ماتوا قبل سنتين رحمهم الله.
وأما من يقول: إن مجدد القرن الماضي هو حسن البنا وسيد قطب فهذا غير صحيح.
وليس كل من أحيا سنة من السنن قد اندثرت ونسيت يعد مجدداً؛ لأنه قد يوجد في بلد من البلدان سنن اندثرت فيحييها عالم، ولا يقال: إنه هو المجدد الذي ينطبق عليه الحديث؛ لأن المجدد لا يكون مجدداً لمسألة واحدة أو لقضية واحدة اندثرت، وإنما المقصود أن يتميز بكثرة النفع وكثرة الخير والتبصير بالحق والهدى والتحذير من طرق ومسالك الردى.
وهذا الحديث فيه دلالة على عدم خلو الأرض من مجتهد وقائم لله بحجته، ولا بأس أن يوجد من عالم تجديد جزئي، فيقال: مجدد في المنطقة الفلانية أو البلد الفلاني.(483/5)
ملاحم الروم(483/6)
شرح حديث (ستصالحون الروم صلحاً آمناً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يذكر من ملاحم الروم.
حدثنا النفيلي حدثنا عيسى بن يونس حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: مال مكحول وابن أبي زكريا إلى خالد بن معدان وملت معهم فحدثنا عن جبير بن نفير عن الهدنة قال: قال جبير: انطلق بنا إلى ذي مخبر رضي الله عنه -رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم-، فأتيناه فسأله جبير عن الهدنة فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (ستصالحون الروم صلحاً آمناً فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم، فتنصرون وتغنمون وتسلمون، ثم ترجعون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول، فيرفع رجل من أهل النصرانية الصليب فيقول: غلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين فيدقه، فعند ذلك تغدر الروم وتجمع للملحمة)].
أورد أبو داود باب ما يذكر من ملاحم الروم، يعني: الملاحم التي تكون بين المسلمين وبين الروم، وأورد أبو داود حديث ذي مخبر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن صلح بين المسلمين وبين الروم، فيقاتل المسلمون والروم عدواً، فينتصرون على ذلك العدو ويغنمون ويرجعون، وبينما هم نازلون في مكان يقول أحد النصارى: غلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين فيدق الصليب ويكسره، فعند ذلك تغدر الروم وتنقض الهدنة، ويجمعون لقتال المسلمين.
قوله: [(ثم ترجعون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول)].
المرج هو: المكان الذي فيه العشب وفيه الخصب، والتلول هي: أماكن مرتفعة عن وجه الأرض، فقوله: (ذي تلول) جمع تل.
قوله: [(فيرفع رجل من أهل النصرانية الصليب فيقول: غلب الصليب)].
يرفع رجل من النصارى الصليب الذي يعبده، وهو رمز للنصارى على عيسى الذي هو معبودهم مع الله، ويجعلونه ثالث ثلاثة، فيقول: غلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين فيدق ذلك الصليب الذي رفعه ويكسره، فعند ذلك تغضب الروم ويغدرون ويتركون العهد الذي بينهم وبين المسلمين.
قوله: [(وتجمع للملحمة)].
يعني: للاقتتال بينهم وبين المسلمين.(483/7)
تراجم رجال إسناد حديث (ستصالحون الروم صلحاً آمناً)
قوله: [حدثنا النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرجه له البخاري وأصحاب السنن.
[عن عيسى بن يونس].
عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأوزاعي].
عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي أبو عمرو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حسان بن عطية].
حسان بن عطية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد بن معدان].
خالد بن معدان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جبير بن نفير].
جبير بن نفير ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ذي مخبر].
صحابي أخرج له أبو داود وابن ماجة.
وهذا الحديث لا يدل على جواز الاستعانة بالكفار في القتال؛ لأنه إخبار عن أمر سيكون، وليس كل ما يخبر عن حصوله في المستقبل يكون مأذوناً فيه أو مشروعاً، وإنما هذا إخبار بالواقع.(483/8)
شرح حديث: (ستصالحون الروم صلحاً آمناً) من طريق أخرى، وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا أبو عمرو عن حسان بن عطية بهذا الحديث وزاد فيه: (ويثور المسلمون إلى أسلحتهم فيقتتلون؛ فيكرم الله تلك العصابة بالشهادة)، إلا أن الوليد جعل الحديث عن جبير عن ذي مخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه: (أنه يثور المسلمون فيقتتلون هم والروم في تلك الملحمة، ويكرم الله تلك العصابة بالشهادة).
قوله: [حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني].
مؤمل بن الفضل الحراني صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا الوليد بن مسلم].
الوليد بن مسلم الدمشقي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو عمرو عن حسان بن عطية بهذا الحديث].
أبو عمرو هو الأوزاعي جاء هنا بكنيته، وقد مر بنسبته، وحسان بن عطية مر ذكره.
[إلا أن الوليد جعل الحديث عن جبير عن ذي مخبر].
أي: جعله عن جبير عن ذي مخبر وليس عن أبيه.
[قال أبو داود: ورواه روح ويحيى بن حمزة وبشر بن بكر عن الأوزاعي كما قال عيسى].
أي: كما قال عيسى في الطريق الأولى.
وروح بن عبادة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ويحيى بن حمزة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وبشر بن بكر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.(483/9)
أمارات الملاحم(483/10)
شرح حديث (عمران بيت المقدس خراب يثرب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في أمارات الملاحم.
حدثنا عباس العنبري حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن جبير بن نفير عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح قسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال، ثم ضرب بيده على فخذ الذي حدثه أو منكبه ثم قال: إن هذا لحق كما أنك هاهنا أو كما أنك قاعد) يعني: معاذ بن جبل].
أورد أبو داود باب أمارات الملاحم، والأمارات هي: العلامات، وأورد أبو داود حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عمران بيت المقدس خراب يثرب) يعني: حصول العمران لبيت المقدس يكون علامة على خراب المدينة في آخر الزمان.
قوله: (وخراب يثرب خروج الملحمة) يعني: علامة على الملحمة، وهي الاقتتال الذي يكون بين المسلمين والكفار، وهذا هو محل الشاهد.
قوله: (وخروج الملحمة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال) يعني: كل علامة هي علامة للتي وراءها، فعمران بيت المقدس علامة على خراب المدينة، وخراب المدينة علامة على خروج الملحمة، وخروج الملحمة علامة على فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية علامة على خروج الدجال، وقد جاء في الأحاديث أن المسلمين عندما يغزون القسطنطينية ويعلقون سيوفهم في الزيتون يأتيهم آت فيقول: إن الدجال خلفكم في أهليكم فيرجعون ويكون كذباً، ثم يأتيهم الخبر بعد ذلك ويكون صدقاً.
قوله: [(ثم ضرب بيده على فخذ الذي حدثه أو منكبه)].
(ثم ضرب بيده) يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم (على فخذ الذي حدثه)، وهو معاذ، أو معاذ ضرب على فخذ الذي حدثه به، وهو مالك بن يخامر الراوي عنه.
قوله: [ثم قال: (إن هذا لحق كما أنك ههنا أو كما أنك قاعد)].
هذا تأكيد لحصول هذا الخبر، وأنه كما أن وجودك لا شك فيه، فإن هذا الخبر حق، وهذا مثل قوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23].(483/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (عمران بيت المقدس خراب يثرب)
قوله: [حدثنا عباس العنبري].
عباس بن عبد العظيم العنبري ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا هاشم بن القاسم].
هاشم بن القاسم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان].
عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان صدوق يخطئ، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن مكحول].
مكحول الشامي وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن جبير بن نفير].
جبير بن نفير ثقة، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن مالك بن يخامر].
مالك بن يخامر مخضرم، ويقال: له صحبة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن معاذ بن جبل].
معاذ بن جبل رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وقوله: (عمران بيت المقدس خراب يثرب) المراد بالعمران العمارات بتشييد بنيانها وكونها آهلة بالسكان، وليس المراد بخراب يثرب كثرة الفساد فيها، فإذا كان المقصود بالعمران حقيقته بتشييد البناء وكثرة السكان فيكون مقابله إهمال المدينة وقلة ساكنيها.
والمدينة كانت تسمى يثرب، ولكن الرسول كره تسميتها بذلك لأن فيه ما يدل على معنى التثريب.
والقسطنطينة قد فتحت، وهي اسطنبول، وهذا الذي في الحديث فتح آخر؛ لأنه في الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما أن المسلمين بعد أن يفتحوها يعلقون سيوفهم بالزيتون، فيأتيهم آت فيقول: إن الدجال خلفكم في أهليكم، فيرسلون عشرة فوارس يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم، فيكون ذلك كذباً، ثم يأتي الخبر بعد ذلك ويكون صدقاً).
والمدينة يأرز الإيمان إليها، وخرابها يكون في آخر الزمان، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء لابد أن يكون، وكوننا ندعو بحراسة المدينة وحفظها لا يخالف ما يحصل في آخر الزمان من خلل ونقص فيها، وإذا كان الخراب من ناحية العمران فالأمر لا إشكال فيه.(483/12)
تواتر الملاحم(483/13)
شرح حديث: (الملحمة الكبرى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في تواتر الملاحم.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا عيسى بن يونس عن أبي بكر بن أبي مريم عن الوليد بن سفيان الغساني عن يزيد بن قطيب السكوني عن أبي بحرية عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الملحمة الكبرى، وفتح القسطنطينية، وخروج الدجال في سبعة أشهر)].
قوله: باب تواتر الملاحم يعني: تتابع الملاحم وكثرتها، وقد أورد أبو داود حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الملحمة الكبرى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر)، ومحل الشاهد كون الملحمة الكبرى وفتح القسطنطينية فيهما قتال، فهما ملحمتان في سبعة أشهر، وهي مدة وجيزة، ولكن هذا الحديث ضعيف، ففي سنده ضعيف ومجهول ومقبول.
وكأن الملحمة الكبرى هي غير فتح القسطنطينية.(483/14)
تراجم رجال إسناد حديث (الملحمة الكبرى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
مر ذكره.
[حدثنا عيسى بن يونس].
مر ذكره.
[عن أبي بكر بن أبي مريم].
أبو بكر بن أبي مريم ضعيف، أخرج حديثه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن الوليد بن سفيان الغساني].
مجهول أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن يزيد بن قطيب السكوني].
مقبول أخرج حديثه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبي بحرية].
أبو بحرية هو عبد الله بن قيس، ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[عن معاذ بن جبل].
مر ذكره.(483/15)
شرح حديث (بين الملحمة وفتح المدينة ست سنين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حيوة بن شريح المصري الحمصي حدثنا بقية عن بحير عن خالد عن ابن أبي بلال عن عبد الله بن بسر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (بين الملحمة وفتح المدينة ست سنين ويخرج المسيح الدجال في السابعة).
قال أبو داود هذا أصح من حديث عيسى].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن بسر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين الملحمة وفتح المدينة -أي: فتح القسطنطينية- ست سنين، وفي السنة السابعة يخرج الدجال)، وهذا يخالف الحديث المتقدم الذي فيه أنها في سبعة أشهر، وهذا الحديث أصح من حديث عيسى المتقدم.(483/16)
تراجم رجال إسناد حديث (بين الملحمة وفتح المدينة سبع سنين)
قوله: [حدثنا حيوة بن شريح الحمصي].
حيوة بن شريح الحمصي ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا بقية].
بقية بن الوليد، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن بحير].
بحير بن سعد، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن خالد].
خالد بن معدان مر ذكره.
[عن ابن أبي بلال].
وهو مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عبد الله بن بسر].
عبد الله بن بسر رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث فيه بقية وهو مدلس وقد عنعن، وفيه أيضاً هذا المقبول وهو ابن أبي بلال، لكن لاشك أنه أصح من الحديث المتقدم من حيث الإسناد، ولا يعني ذلك أنه يكون صحيحاً، لكن هو أحسن، وكما يقال: بعض الشر أهون من بعض، وكلا الحديثين ضعفهما الألباني.(483/17)
تداعي الأمم على الإسلام(483/18)
شرح حديث: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في تداعي الأمم على الإسلام.
حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي حدثنا بشر بن بكر حدثنا ابن جابر قال: حدثني أبو عبد السلام عن ثوبان رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟! قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)].
أورد أبو داود: باب تداعي الأمم على الإسلام، يعني: على أهل الإسلام، والمقصود من ذلك أن الكفار يتداعون على المسلمين، ويكون لهم القوة والغلبة، ويكون المسلمون معهم كالطعام الذي يتداعى عليه الأكلة من كل جانب.
أورد أبو داود حديث ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها)، الأكلة جمع آكل ككاتب وكتبة، (على قصعتها) أي: على الطعام الذي يحيط به الأكلة ويتناولونه، ويكون شأن المسلمين مثل ذلك الطعام الذي تداعى عليه أكلته.
قوله: (قال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟) يعني: هل يتداعون علينا لقلتنا؟ (قال لا، أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل) يعني: هذه الكثرة لا قيمة لها والسبب في ذلك هو عدم القيام بما أوجب الله عز وجل على المسلمين من إظهار الدين، فتغلب عليهم الأعداء، وأصاب المسلمين من أعدائهم الذل بعد أن كان الكفار يهابون المسلمين، وهذا الحديث منطبق تماماً على هذا الزمان، والمسلمون اليوم عددهم كثير جداً، ولكنهم مشتغلون بالدنيا، وحريصون على الدنيا، وخائفون من الموت، فصاروا يخافون من أعدائهم، وأعداؤهم لا يخافون منهم.
لكن لا يعني هذا أنه ما حصل إلا في هذا الزمان، فقد يكون حصل في الماضي وكذلك يحصل في المستقبل، لكن المشاهد المعاين اليوم أنه حاصل.
قوله: [(ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم)].
يعني: لا يكون لكم هيبة.(483/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم)
قوله: [حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي].
عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي هو الملقب دحيم ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا بشر بن بكر حدثنا ابن جابر].
بشر بن بكر مر ذكره.
وابن جابر هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبو عبد السلام].
قال الحافظ: لا يعرف اسمه مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن ثوبان].
ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
والحديث صححه الألباني، ولعله لمجيئه من طرق، ومعناه مشاهد معاين كوضوح الشمس في رابعة النهار.(483/20)
المعقل من الملاحم(483/21)
شرح حديث: (فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المعقل من الملاحم.
حدثنا هشام بن عمار حدثنا يحيى بن حمزة حدثنا ابن جابر قال: حدثني زيد بن أرطأة قال: سمعت جبير بن نفير يحدث عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها: دمشق، من خير مدائن الشام)].
ذكر أبو داود رحمه الله هذه الترجمة باب في المعقل من الملاحم، يعني: المكان الذي فيه المعتصم وفيه الأمن والسلامة من الملاحم.
أورد أبو داود حديث أبي الدرداء مرفوعاً: (إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها: دمشق، من خير مدائن الشام).
قوله: (فسطاط المسلمين) كأن قوة المسلمين في ذلك الوقت تكون في الشام، والغوطة في دمشق موجودة بهذا الاسم إلى الآن.(483/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة)
قوله: [حدثنا هشام بن عمار].
هشام بن عمار صدوق، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا يحيى بن حمزة].
يحيى بن حمزة مر ذكره.
[عن ابن جابر حدثني زيد بن أرطأة].
زيد بن أرطأة ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[سمعت جبير بن نفير عن أبي الدرداء].
جبير بن نفير مر ذكره، وأبو الدرداء هو عويمر صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(483/23)
شرح حديث (يوشك المسلمون أن يحاصروا إلى المدينة)
[قال أبو داود: حدثت عن ابن وهب قال: حدثنا جرير بن حازم عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يوشك المسلمون أن يحاصروا إلى المدينة حتى يكون أبعد مسالحهم سلاح)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: (يوشك المسلمون أن يحاصروا إلى المدينة حتى يكون أبعد مسالحهم سلاح)، وهذا الحديث إسناده هنا منقطع، وقد رواه الحاكم في المستدرك، وصححه الألباني في تخريج المشكاة، ولعله صححه من إسناد الحاكم المتصل.(483/24)
تراجم رجال إسناد حديث: (يوشك المسلمون أن يحاصروا إلى المدينة)
قوله: [حدثت عن ابن وهب].
عبد الله بن وهب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا جرير بن حازم].
جرير بن حازم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن عمر].
هو العمري المصغر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو مولى ابن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر].
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح عن عنبسة عن يونس عن الزهري قال: وسلاح قريب من خيبر].
أحمد بن صالح ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[عن عنبسة].
عنبسة بن خالد صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود.
[عن يونس].
يونس بن يزيد الأيلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وهذا الأثر مقطوع.(483/25)
ارتفاع الفتنة في الملاحم(483/26)
شرح حديث: (لن يجمع الله على هذه الأمة سيفين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ارتفاع الفتنة في الملاحم.
حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا إسماعيل قال: ح وحدثنا هارون بن عبد الله قال: حدثنا الحسن بن سوار حدثنا إسماعيل حدثنا سليمان بن سليم عن يحيى بن جابر الطائي -قال هارون في حديثه- عن عوف بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لن يجمع الله على هذه الأمة سيفين: سيفاً منها، وسيفاً من عدوها)].
أورد المصنف باب في ارتفاع الفتنة في الملاحم، ولعل المقصود من ذلك أنه لا يحصل للمسلمين بسبب الملاحم الانقراض أو الضرر الذي يحدق بهم ويحيط بهم، وإنما يحصل لهم فتنة وضرر جزئي، ومن قتل منهم يكون شهيداً، ومن بقي منهم فإنه يبقى ويعيش على خير.
والحديث الذي أورده أبو داود هو حديث عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (لن يجمع الله على هذه الأمة سيفين: سيفاً منها) يعني: من المسلمين (وسيفاً من عدوها) أي: من الكفار، والمقصود بسيف الكفار الاستئصال، وهو الذي سبق بيانه في الحديث: (سألت الله عز وجل ألا يهلك أمتي بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً) وهذا السيف قد وجد، والسيف الذي من الكفار هو كونهم يغزون المسلمين ويتسلطون عليهم، فهذا ليس هو المنفي، وإنما المنفي هو الاستئصال كما جاء في الحديث المتقدم: (ألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم)، فالإسلام باق ولن يندثر ولن ينتهي، بل هو مستمر إلى أن تخرج الريح اللينة التي تقبض روح كل مسلم ومسلمة، ويبقى شرار الناس الذين لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، حتى لا يقال فيهم: الله، فعند ذلك تقوم عليهم الساعة، وهم شرار الخلق، وأما قبل ذلك فإن الحق باق، وأهله موجودون، ولن يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله، وأمر الله هو تلك الريح التي تقبض روح كل مسلم ومسلمة.(483/27)
تراجم رجال إسناد حديث: (لن يجمع الله على هذه الأمة سيفين)
قوله: [حدثنا عبد الوهاب بن نجدة].
عبد الوهاب بن نجدة ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا إسماعيل].
هو ابن عياش، وهو صدوق في روايته عن الشاميين، وضعيف في غيرهم، أخرج له البخاري في جزء رفع اليدين وأصحاب السنن.
[قال: ح وحدثنا هارون بن عبد الله].
هارون بن عبد الله الحمال البغدادي ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا الحسن بن سوار].
الحسن بن سوار صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا إسماعيل حدثنا سليمان بن سليم].
سليمان بن سليم ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[عن يحيى بن جابر الطائي].
يحيى بن جابر الطائي ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[قال هارون في حديثه: عن عوف بن مالك].
عوف بن مالك رضي الله عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(483/28)
شرح سنن أبي داود [484]
لقد نهى الشرع الحكيم عن تهييج بعض الأقوام الذين يكون في تهييجهم شراً على الإسلام والمسلمين كالترك والحبشة، فهلاك الكعبة وضياع كنزها يكون على يدي رجل من الحبشة يقال له: ذو السويقتين، وذلك في آخر الزمان.
وقد ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الساعة لن تقوم حتى تظهر آيات قبلها، ومن هذه الآيات ما هي مألوفة للبشر كالدجال وعيسى بن مريم ويأجوج ومأجوج؛ لأن هؤلاء بشر، ومنها ما هو غريب ولا عهد للناس بها، وهناك خلاف بين العلماء في ترتيب وقوع هذه الآيات.(484/1)
النهي عن تهييج الترك والحبشة(484/2)
شرح حديث: (دعوا الحبشة ما ودعوكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النهي عن تهييج الترك والحبشة.
حدثنا عيسى بن محمد الرملي حدثنا ضمرة عن السيباني عن أبي سكينة رجل من المحررين عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا التُّرْك ما تركوكم)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في النهي عن تهييج الترك والحبشة، والترك هم: جيل من الناس في الجهة الشرقية، وقد وردت الأحاديث في ذكر صفاتهم وأنهم عراض الوجوه، صغار العيون، دلف الأنوف، وجوههم كأنها المجان المطرقة، وليس المقصود بهم ما اشتهر في هذا الزمان من الأتراك في تركيا، وقد يكون هؤلاء من جملتهم، ولكن المقصود بهم خلق من الناس هذه صفاتهم وهم في الشرق، ويذكرون في بعض التراجم: وهو من الترك، أو: وهو من بلاد الترك.
والحبشة هم: جيل من الناس في إفريقيا، وهي بلد النجاشي.
وقوله في الترجمة: تهييج، التهييج: هو الإثارة، وقد نهي عن تهييج الترك والحبشة.
ثم أورد أبو داود حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتركوا الترك ما تركوكم، ودعوا الحبشة ما ودعوكم)، والتَّرْك والودع بمعنى واحد، وقد ذكر التَرْك مع التُرك، ومعناه: اتركوهم ما تركوكم، وودع: فعل ماض، ومضارعه يدع، وأمره دع، وهو قليل الاستعمال في الماضي، وأما المضارع والأمر منه فكثير.
وقد جاء في القرآن والسنة الأمر بقتال الكفار مطلقاً، وهذا الحديث فيه الأمر بتركهم مدة تركهم، أي: اتركوهم ما داموا تاركين لكم، وإذا اعتدوا عليكم فالدفاع أمر مطلوب، قال بعض أهل العلم: إن هذا مخصص للنصوص الدالة على قتال الكفار مطلقاً؛ وذلك لشدة بأسهم وقوتهم وحقدهم الشديد على المسلمين.(484/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (دعوا الحبشة ما ودعوكم)
قوله: [حدثنا عيسى بن محمد الرملي].
عيسى بن محمد الرملي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ضمرة].
هو ضمرة بن ربيعة، وهو صدوق يهم قليلاً، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) وأصحاب السنن.
[عن السيباني].
هو يحيى بن أبي عمرو، وهو ثقة، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) وأصحاب السنن.
[عن أبي سكينة].
مختلف في صحبته، وقد ذكر الشيخ الألباني أنه روى عنه ثلاثة من التابعين، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم].
هو مبهم غير معين، ومعلوم أن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم المجهول فيهم في حكم المعلوم، وليسوا كغيرهم يحتاجون إلى معرفة أحوالهم وثقتهم وعدالتهم أو ضعفهم؛ لأن الله تعالى أثنى عليهم، وأثنى عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم لا يحتاجون مع ثناء الله عز وجل وثناء رسوله عليه الصلاة والسلام إلى توثيق الموثقين وتعديل المعدلين؛ ولهذا أشار العلماء إلى أن الشخص إذا كان معروفاً بالصحبة فيكتفي بأن يقال عنه: إنه صحابي، فلا يتكلمون عنه، ولا يبينون شيئاً عن حاله، بل يكفيه شرفاً أن يقال عنه: صحابي صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان له منقبة وفضيلة خاصة كأن يكون بدرياً أو من أهل بيعة الرضوان أو أي صفة من الصفات التي فيها زيادة فضل فإنهم يضيفون إلى الصحبة ما يوضح ذلك بأن يقولوا: صحابي شهد بدراً، أو صحابي من أهل بيعة الرضوان، ونحو ذلك، وأما أن يقال عنه: ثقة أو نحو هذا، فهذا لا يوجد، وليس من دأب العلماء المصنفين في الرجال أن يقولوا عن صحابي: ثقة؛ لأن من وثقه الله ورسوله وأثنى عليه الله ورسوله لا يحتاج إلى توثيق الموثقين وتعديل المعدلين بعد الثناء العظيم من الله عز وجل ومن رسوله الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه؛ ولهذا لا تضر الجهالة فيهم، فإذا قيل: عن رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، أو عن رجل صحب النبي عليه الصلاة والسلام فإن ذلك كافٍ في الاعتماد على ذلك القول إذا كان الإسناد إليه صحيحاً، وأما من دون الصحابي فجهالته تؤثر، وقد ذكر الخطيب البغدادي في (الكفاية) أن كل راوٍ من رواه الإسناد لابد من معرفة حاله وصفته وعدالته أو ضعفه إلا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنهم لا يحتاجون إلى ذلك.
وهذا الحديث صححه الألباني، وله شواهد.(484/4)
قتال التُّرْك(484/5)
شرح حديث: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قتال الترك.
حدثنا قتيبة حدثنا يعقوب -يعني: الإسكندراني - عن سهيل -يعني: ابن أبي صالح - عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك، قوماً وجوههم كالمجان المطرقة، يلبسون الشعر)].
وقد أورد أبو داود هذه الترجمة: باب في قتال الترك، يعني: أن المسلمين يقاتلون هؤلاء الترك، وقد أورده المصنف في كتاب الملاحم؛ لأن هذا من جملة ما يكون من الاقتتال بين المسلمين وبين أعدائهم الكفار.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك)، ثم ذكر صفاتهم فقال: (قوماً وجوههم كالمجان المطرقة) يعني: عراض فيها نتوء، والمجن هو الترس الذي يصنع للوقاية من السهام، وسمي المجن مجناً من الجُنّة وهي الوقاية؛ لأن الإنسان يستخدمه ليتقي به وصول السهام إليه أو إلى رأسه أو وجهه.
وقوله: (المطرقة) قيل: إنه يضاف إلى المجن جلد، فيكون ذلك المجن عريضاً مع وجود الجلود التي يغطيه، والمراد تشبيه نتوء وجناتهم بهذا المجان المطرقة.
قوله: [(يلبسون الشعر)].
قيل: هي النعال التي فيها الشعر، وكذلك يلبسون الثياب التي من الشعر؛ لأن بلادهم باردة فهم بحاجة إلى استعمال الصوف والشعر من أجل الدفء.(484/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك)
قوله: [حدثنا قتيبة].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وبغلان قرية من قرى بلْخ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يعقوب يعني: الإسكندراني].
هو يعقوب بن عبد الرحمن الإسكندراني، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن سهيل].
هو سهيل بن أبي صالح وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة، ورواية البخاري عنه مقرونة.
[عن أبيه].
هو أبو صالح السمان، اسمه: ذكوان ولقبه السمان، ويقال له أيضاً: الزيات؛ لأنه كان يجلب الزيت والسمن، والسمان نسبة إلى مهنة بيع السمن والزيت، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر الصحابة حديثاً على الاطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(484/7)
شرح حديث: (لا تقوم الساعة حتى لا يقاتل المسلمون الترك) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة وابن السرح وغيرهما قالوا: حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه رواية، -قال ابن السرح: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال- (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً نعالهم الشعر، ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً صغار الأعين، ذلف الأنف، كأن وجوههم المجان المطرقة)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه من طريق أخرى، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلون قوماً نعالهم الشعر) يعني: أنهم يتخذون النعال من الجلود وشعرها عليها.
[(ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً صغار الأعين، دلف الأنف)].
يعني: أن صفة هؤلاء أن نعالهم الشعر، وهم صغار الأعين، وذلف الأنف، فهؤلاء هم هؤلاء، فقد سبق في الحديث السابق أن وجوههم كالمجان المطرقة، وأن لباسهم الشعر، فقوله: (ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً صغار الأعين) ليسوا صنفاً آخر، ولكنه ذكرهم أولاً بتلك الصفة وهي لبس النعال من الشعر، ثم ذكرهم بقوله: (صغار الأعين).
وقوله: (ذلف الأنف) قيل: فيها غلظ مع انبطاح، فليست بارزة وإنما فيها انبطاح، وهذه غير حسنة في الأنوف.(484/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا قتيبة وابن السرح].
قتيبة مر ذكره، وابن السرح هو أحمد بن عمرو بن السرح ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا سفيان].
هو ابن عيينة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
مر ذكره.
قال أحد الشيخين -وهو قتيبة - رواية، أي: أنه لم يذكر صيغة تحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يذكر أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، وإنما قال: رواية، وهي محتملة لوجوه متعددة، فيحتمل أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا، أو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا.
ثم ذكر المصنف أن ابن السرح قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال، أي: ذكر الصيغة التي جاءت عن أبي هريرة في تحديثه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا من عناية المحدثين ودقتهم في المحافظة على الألفاظ.
ومن أمثلة ذلك ما يذكره أبو داود رحمه الله من ذكر الفرق بين التعبير بالنبي والرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا قال أحد الشيوخ في إسناده: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وقال الثاني: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا، فإنه يبين ذلك، مع أنه لا فرق بين النبي والرسول هنا؛ لأن المقصود به محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام.(484/9)
شرح حديث: (يقاتلكم قوم صغار الأعين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا جعفر بن مسافر التنيسي حدثنا خلاد بن يحيى حدثنا بشير بن المهاجر حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديث: (يقاتلكم قوم صغار الأعين -يعني: الترك-، قال: تسوقونهم ثلاث مرار حتى تلحقوهم بجزيرة العرب، فأما في السياقة الأولى فينجو من هرب منهم، وأما في الثانية فينجو بعض ويهلك بعض، وأما في الثالثة فيصطلمون) أو كما قال].
أورد أبو داود حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث قتال الترك: (تسوقونهم ثلاث مرار) يعني: أن المسلمين يسوقون الترك ثلاث مرار إلى جزيرة العرب، وكل واحدة مستقلة عن الثانية، ثم في الثالثة يصطلمون يعني: يستأصلون، ومعناه: يقضى عليهم.
ثم قال الراوي: أو كما قال، وهذا يشعر بأن الحديث ليس متحققاً منه بهذه الألفاظ، وإنما هو بالمعنى، ولهذا قال: أو كما قال، وهذه العبارة يؤتى بها عندما يكون الإنسان غير جازم باللفظ، ولكنه يفهم المعنى وأتى بالمعنى.
وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث بعكس ما ذكر هنا، وهو أن الترك هم الذين يسوقون المسلمين، ولعله هو الأقرب، من جهة أن الترك يأتون من خارج الجزيرة، ويسوقون المسلمين إلى الجزيرة، فاللفظ الذي جاء في مسند الإمام أحمد هو بعكس هذا، وهو الأقرب والأظهر.
وقد قال بعض أهل العلم: إن هذا قد وقع، وإن المقصود بهم التتار الذين حصل منهم ما حصل من الفتن والفساد في سنة 656هـ التي حصل فيها سقوط بغداد، وقتل فيها خلق كثير من المسلمين، ومعلوم أن التتار من الترك، وقد جاءوا من الجهة الشرقية، فيحتمل أن التتار هم المعنيون في الحديث، ويحتمل أن يكون شيئاً آخر في آخر الزمان، والله تعالى أعلم.
وهذه الصفات تنطبق الآن على شعوب الصين واليابان، ويعتبرون من الترك لكونهم من الجهة الشرقية.(484/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (يقاتلكم قوم صغار الأعين)
قوله: [حدثنا جعفر بن مسافر التنيسي].
جعفر بن مسافر التنيسي صدوق ربما أخطأ، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا خلاد بن يحيى].
خلاد بن يحيى صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي.
[حدثنا بشير بن المهاجر].
بشير بن المهاجر صدوق لين الحديث، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الله بن بريدة].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
بريدة رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث ضعفه الألباني، ولعله بسبب الراوي الذي قيل عنه: لين الحديث.(484/11)
ذكر البصرة(484/12)
شرح حديث: (ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ذكر البصرة.
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال: حدثني أبي حدثنا سعيد بن جمهان حدثنا مسلم بن أبي بكرة قال: سمعت أبي رضي الله عنه يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة، عند نهر يقال له: دجلة، يكون عليه جسر، يكثر أهلها، وتكون من أمصار المهاجرين).
قال ابن يحيى: قال أبو معمر: (وتكون من أمصار المسلمين، فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء عراض الوجوه صغار الأعين حتى ينزلوا على شط النهر، فيتفرق أهلها ثلاث فرق: فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية وهلكوا، وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا، وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم، وهم الشهداء)].
أورد أبو داود باب في ذكر البصرة، والبصرة المقصود بها هذه المدينة المشهورة التي أسسها عتبة بن غزوان رضي الله عنه ومصّرها وجعلها مصراً من أمصار المسلمين، وذلك في خلافة عمر، وسميت البصرة لأنها كانت أرضاً فيها حصباء، والأرض الحصبة يقال لها: بصرة بتثليث الباء، ولكن المشهور هو الفتح، والنسبة إليها بَِصري بفتح الباء وكسرها، وقيل: المقصود بها بغداد، ففيها مكان قريب.
منها يقال له: البصرة، وبغداد هي التي حصل مجيء التتار إليها، وكل من بغداد والبصرة لم تكن موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فأما البصرة فقد وجدت في زمن عمر، وأما بغداد فقد وجدت في زمن العباسيين، وهم الذين أسسوها وجعلوها مقراً للخلافة بعد دمشق في الشام.
وهذا الحديث إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم عما سيكون؛ لأن كلاً من المدينتين سواء كانت هذه أو هذه لم تكن موجودة في زمنه صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة)]، الغائط هو: المكان المطمئن من الأرض.
قوله: (يكون عليه جسر، يكثر أهلها، وتكون من أمصار المهاجرين)].
يعني: تلك المدينة تكون من أمصار المهاجرين، وفي الرواية الأخرى: (المسلمين).
قوله: [(فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء)].
(بنو قنطوراء) هم الترك، وقد ذكر صفاتهم التي مرت في الأحاديث السابقة.
قوله: [(فيتفرق أهلها ثلاث فرق)].
يعني: أهل البصرة يتفرقون ثلاث فرق.
قوله: [(فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية)].
يعني: يذهبون إلى البراري يرعون الغنم والإبل، ويبحثون عن العيش وعن الربح، ويتركون الجهاد ومقاتلة الأعداء.
قوله: [(وفرقه يأخذون لأنفسهم وكفروا)].
أي: يقبلون الأمان من بني قنطوراء.
قوله: [(وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلون، وهم الشهداء)].
يعني: يجعلون ذراريهم وراءهم ويقاتلون بأنفسهم حتى يحموا ذراريهم، وهؤلاء هم الشهداء، يعني: من قتل منهم فهو شهيد.
والأتراك الموجودين الآن في تركيا اشتهروا بهذه النسبة (أتراك)، والنسبة إليهم تركي، وليسوا هم المقصودين في هذه الأحاديث، فالمقصود الأتراك الذين في الجهات الشرقية، وقد يكون هؤلاء الذين في تركيا أصلهم منهم، فيكونون قد جاءوا من الجهة الشرقية واستقروا في هذا المكان.
وقد حصل الاقتتال بين المسلمين والتتار في سنة 656هـ، وقد يحصل أيضاً في آخر الزمان.
وبصرى الشام هي غير البصرة، فبصرى هي من الشام، وأما البصرة فهي من العراق.(484/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الدهلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث].
عبد الصمد بن عبد الوارث صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبي].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سعيد بن جمهان].
سعيد بن جمهان صدوق له أفراد، أخرج له أصحاب السنن.
[حدثنا مسلم بن أبي بكرة].
مسلم بن أبي بكرة صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[سمعت أبي].
هو أبو بكرة نفيع بن الحارث الصحابي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(484/14)
شرح حديث: (يا أنس! إن الناس يمصرون أمصاراً، وإن مصراً منها يقال له البصرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن الصباح حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد حدثنا موسى الحناط لا أعلمه إلا ذكره عن موسى بن أنس عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (يا أنس! إن الناس يمصرون أمصاراً، وإن مصراً منها يقال له: البصرة أو البصيرة، فإن أنت مررت بها أو دخلتها فإياك وسباخها وكلاءها وسوقها وباب أمرائها، وعليك بضواحيها، فإنه يكون بها خسف وقذف ورجف، وقوم يبيتون يصبحون قردة وخنازير)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا أنس! إن الناس يمصرون أمصاراً) يعني: أنهم ينشئونها وتكون أمصاراً، وهي جمع مصر، وهو محل سكنى ومدن وقرى، وأما مصر الذي هي علم على البلاد المعروفة، فيقال لها: مصر، وأما هذه فيقال لها: أمصار والمفرد مصر، وقوله: (يمصرون) يعني: يجعلونها بلاداً، وتكون أمصاراً.
قوله: [(وإن مصراً منها يقال له: البصرة أو البصيرة)].
يعني: مكبر ومصغر.
قوله: [(فإن أنت مررت بها، أو دخلتها فإياك وسباخها، وكلاءها وسوقها، وباب أمرائها)].
السباخ هي: الأماكن التي تكون فيها ملوحة ولا تمسك الماء، والكلاء على وزن كتاب، والمقصود بذلك ما كان على شاطئ النهر، وهو الموضع التي تربط فيه السفن.
قوله: [(وسوقها)].
يعني مكان البيع والشراء فيها.
قوله: [(وباب أمرائها)].
يعني: لا يتبع الأمراء ولا يكون معهم، وذلك إشارة إلى ما عندهم من الظلم والجور.
قوله: [(وعليك بضواحيها)].
يعني: أطرافها، وقيل: المقصود من ذلك العزلة، فالإنسان لا يكون مع أهلها وإنما يكون في ضواحيها في عزلة، كأن يكون في البراري التي حولها.
قوله: [(فإنه يكون خسف وقذف ورجف)].
الخسف هو سقوط أو هبوط شيء في الأرض، فيدخل من كان على ظهرها في بطنها؛ بسبب ذلك الخسف والهبوط.
والقذف قيل: المقصود به قذف بالحجارة أو نحوها تأتي من السماء.
والرجف: هو الزلزلة شديدة.(484/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (يا أنس! إن الناس يمصرون أمصاراً، وإن مصراً منها يقال لها: البصرة)
قوله: [حدثنا عبد الله بن الصباح].
عبد الله بن الصباح ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد].
عبد العزيز بن عبد الصمد، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا موسى الحناط].
موسى الحناط ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود وابن ماجة.
[عن موسى بن أنس].
موسى بن أنس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(484/16)
شرح حديث: (إن الله يبعث من مسجد العشار يوم القيامة شهداء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثني إبراهيم بن صالح بن درهم قال: سمعت أبي يقول: انطلقنا حاجين فإذا رجل، فقال لنا: إلى جنبكم قرية يقال لها: الأبلة؟ قلنا: نعم، قال: من يضمن لي منكم أن يصلي لي في مسجد العشار ركعتين أو أربعاً ويقول: هذه لـ أبي هريرة؛ سمعت خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يبعث من مسجد العشار يوم القيامة شهداء لا يقوم مع شهداء بدر غيرهم).
قال أبو داود: هذا المسجد مما يلي النهر].
قوله: [انطلقنا حاجين، فإذا رجل].
هذا الرحل هو أبو هريرة.
قوله: [فقال لنا: إلى جنبكم قرية يقال لها: الأبلة؟ قلنا: نعم، قال: من يضمن لي منكم أن يصلي في مسجد العشار ركعتين أو أربعاً ويقول: هذه لـ أبي هريرة].
فهذه قصة بين يدي الحديث.
قوله: [سمعت خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن الله يبعث من مسجد العشار يوم القيامة شهداء لا يقوم مع شهداء بدر غيرهم)].
هذا فيه عظيم شأن هؤلاء الذين يبعثون من هذا المسجد، ولكن هذا الحديث ضعيف، وفيه نكارة من جهة طلب الصلاة وإهداء ثوابها لـ أبي هريرة، فهذا غير معروف عن السلف، ولم يثبت في الأحاديث شيء يدل عليه وخاصة فيما يتعلق بالصلاة.(484/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن الله يبعث من مسجد العشار يوم القيامة شهداء)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
هو محمد بن المثنى أبو موسى العنزي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثني إبراهيم بن صالح بن درهم].
إبراهيم بن صالح بن درهم فيه ضعف، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
وثقه ابن معين، وأخرج له أبو داود.
[عن أبي هريرة].
قد مر ذكره.
وهذا الإسناد رباعي، وهو ضعيف.(484/18)
النهي عن تهييج الحبشة(484/19)
شرح حديث (اتركوا الحبشة ما تركوكم؛ فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: النهي عن تهييج الحبشة.
حدثنا القاسم بن أحمد البغدادي حدثنا أبو عامر عن زهير بن محمد عن موسى بن جبير عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (اتركوا الحبشة ما تركوكم، فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتركوا الحبشة ما تركوكم) وهذا مطابق لما تقدم في الحديث الأول: (اتركوا الترك ما تركوكم، ودعوا الحبشة ما ودعوكم)، فالودع والتَّرْك معناهما واحد.
قوله: [(اتركوا الحبشة ما تركوكم، فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة)] هذا إخبار عن شدة بأسهم، ففي آخر الزمان يكون هذا الرجل منهم، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ذو السويقتين، وهو تثنية ساق بتصغير الساق، وهذا يدل على أن الساق مؤنثة؛ لأن التاء دخلت عليها في حال التصغير، وقد جاء في الحديث أن هذا الرجل يهدم الكعبة ويقلعها حجراً حجراً.(484/20)
تراجم رجال إسناد حديث (اتركوا الحبشة ما تركوكم؛ فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين)
قوله: [حدثنا القاسم بن أحمد البغدادي].
القاسم بن أحمد البغدادي مقبول، أخرج له أبو داود.
[حدثنا أبو عامر].
هو عبد الملك بن عمرو، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زهير بن محمد].
زهير بن محمد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن موسى بن جبير].
موسى بن جبير مستور، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف].
اسمه أسعد، قيل: له رؤية، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمرو].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وهو صحابي بن صحابي، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث ضعيف؛ فيه راو مستور وآخر مقبول، ولكن له شاهد فيما يتعلق بذكر ذي السويقتين من الحبشة في الصحيحين.
وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى: {حَرَمًا آمِنًا} [القصص:57]؛ حيث يستثنى منه هذه الصورة في آخر الزمان.(484/21)
أمارات القيامة(484/22)
شرح حديث: (إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: أمارات القيامة.
حدثنا مؤمل بن هشام حدثنا إسماعيل عن أبي حيان التيمي عن أبي زرعة قال: (جاء نفر إلى مروان بالمدينة فسمعوه يحدث في الآيات أن أولها الدجال، قال: فانصرفت إلى عبد الله بن عمرو فحدثته فقال عبد الله: لم يقل شيئاً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها، أو الدابة على الناس ضحىً، فأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها).
قال عبد الله -وكان يقرأ الكتب-: وأظن أولهما خروجاً طلوع الشمس من مغربها].
أورد أبو داود باب: أمارات الساعة، أي: العلامات القوية التي إذا جاءت فإن الساعة تكون على وشك القيام، وللساعة علامات كثيرة، فمنها ما هي قريبة من قيامها، ومنها ما هي بعيدة من قيامها ولكنها دليل على قربها، والعلامات التي هي قريبة منها هي العلامات الكبرى، والتي دونها يقال لها: العلامات الصغرى، ومنها ما مضى ومنها ما سيأتي.
قوله: (فسمعوه يحدث في الآيات أن أولها الدجال) أي: آيات قيام الساعة، والآية هي العلامة، فبلغ ذلك عبد الله بن عمرو فقال: لم يقل شيئاً، يعني: لم يقل شيئاً يعتد به، أو يعول عليه، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها، أو الدابة على الناس ضحى، فأيتهما خرجت فإن الأخرى على أثرها) أي: أنها قريبة منها، وقد شك هنا في أيتهما أول هذه أو هذه، ولكن آية واحدة منهما تأتي فإن الأخرى على أثرها، والذي يظهر من كلام عبد الله بن عمرو وقوله: أول الآيات، أن المقصود بها الآيات التي هي غريبة ولا عهد للناس بها، وأما الدجال، وعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، ويأجوج ومأجوج، فهي آيات مألوفة؛ لأن هؤلاء بشر، وأما الشيء الغريب الذي يكون خارجاً عن مألوفهم فهو خروج الشمس من مغربها، وكذلك الدابة التي لا عهد للناس بها تكلمهم، ويحصل منها ما جاء في الكتاب والسنة.
إذاً: فالأولية التي جاءت في حديث عبد الله بن عمرو هي أولية بالنسبة للآيات الغريبة التي لا عهد للناس بنوعها وجنسها، وأما الدجال، ويأجوج ومأجوج، وعيسى عليه الصلاة والسلام، والمهدي، فهؤلاء كلهم بشر من بني آدم، ويعرفون من جنس ما يعرفه الناس، وأما خروج الشمس من مغربها، وخروج الدابة فهذا شيء غير مألوف، وليس من جنس ما يشاهدون.
ومعلوم أن الدجال وعيسى بن مريم والمهدي يكونون في زمن واحد، فقد جاء في الحديث: أن عيسى يصلي وراء المهدي، ثم بعد ذلك يذهب إلى الدجال ويقتله بباب لدّ، ثم بعد ذلك يخرج يأجوج ومأجوج بعد قتل الدجال.
قوله: [قال عبد الله: وكان يقرأ الكتب].
يعني أن عبد الله كان يقرأ من كتب بني إسرائيل؛ ولهذا قالوا عنه: إنه إذا جاء عنه شيء من الأخبار ولم يسندها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يكون لها حكم الرفع، فالصحابي إذا حدث وأخبر بشيء ليس للرأي فيه مجال، وهو من الأمور التي لا تقال بالرأي، ولم يكن معروفاً بالأخذ عن الإسرائيليات، فإنه يكون له حكم الرفع، وإن كان معروفاً بالأخذ عن الإسرائيليات فلا يكون له حكم الرفع؛ لأنه يحتمل أن يكون من هذا القبيل وليس مما تحمله من رسول الله صلى الله عليه وسلم.(484/23)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها)
قوله: [حدثنا مؤمل بن هشام].
مؤمل بن هشام ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا إسماعيل].
هو إسماعيل بن إبراهيم بن علية، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي حيان التيمي].
هو يحيى بن سعيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي زرعة].
هو أبو زرعة بن عمرو بن جرير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمرو].(484/24)
شرح حديث: (لن تقوم الساعة حتى يكون قبلها عشر آيات)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد وهناد المعنى، قال: مسدد حدثنا أبو الأحوص حدثنا فرات القزاز عن عامر بن واثلة رضي الله عنه -وقال هناد: عن أبي الطفيل - عن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: (كنا قعوداً نتحدث في ظل غرفة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فذكرنا الساعة، فارتفعت أصواتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لن تكون أو لن تقوم الساعة حتى يكون قبلها عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، والدجال، وعيسى بن مريم، والدخان، وثلاثة خسوف: خسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك تخرج نار من اليمن من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر)].
أورد أبو داود حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه أنهم قال: كنا في ظل حجرة من حجر النبي صلى الله عليه وسلم نتذاكر الساعة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إنها لن تقوم الساعة حتى يكون قبلها عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها) وهذا الترتيب في الحديث ليس هو الترتيب الفعلي، وقد بدأ بقوله: (طلوع الشمس من مغربها)، وهي ليست أول شيء من هذه العشرة ولكنها -كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو - أول الآيات الغريبة العجيبة التي ليست مما يألفه الناس.
قوله: [(وخروج الدابة)].
وهي التي جاء ذكرها في القرآن: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82].
قوله: [(وخروج يأجوج ومأجوج)].
وخروجهم يكون بعد خروج الدجال في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام.
قوله: [(والدجال وعيسى بن مريم)].
عيسى بن مريم عليه السلام ينزل من السماء.
قوله: [(والدخان)].
وهي علامة من العلامات.
قوله: [(وثلاثة خسوف: خسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب)].
الخسف هو هبوط في الأرض، فيدخل من على ظهرها في جوفها؛ بسبب هذا الهبوط الذي حصل.
قوله: (وآخر ذلك نار تخرج من اليمن من قعر عدن)].
هي مدينة معروفة في اليمن، وهذه هي العلامة العاشرة.
قوله: [(تسوق الناس إلى المحشر)].
أي: إلى الشام، وهو المكان الذي يجتمع فيه الناس في نهاية الدنيا، وهي أرض المحشر في الدنيا.(484/25)
تراجم رجال إسناد حديث (لن تقوم الساعة حتى يكون قبلها عشر آيات)
قوله: [حدثنا مسدد وهناد].
مسدد بن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي، وهناد بن السري ثقة، أخرج له البخاري في (خلق أفعال العباد) ومسلم وأصحاب السنن.
[قال مسدد: حدثنا أبو الأحوص].
هو أبو الأحوص سلام بن سليم الحنفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا فرات القزاز].
فرات القزاز ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عامر بن واثلة].
عامر بن واثلة أبو الطفيل صحابي رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[وقال هناد: عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد].
أي: أن شيخ أبي داود الثاني وهو هناد عبر عن أبي الطفيل بكنيته، وأما مسدد فعبر عنه باسمه، فقال: عامر بن واثلة.
[عن حذيفة بن أسيد].
حذيفة بن أسيد صحابي، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.(484/26)
شرح حديث: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني حدثنا محمد بن الفضيل عن عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمن من عليها فذاك حين: (لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158])].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمن من عليها)؛ لأنهم رأوا شيئاً خرج عن المعتاد، بخلاف خروج الدجال، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج المهدي، ونزول عيسى بن مريم، فهذا الزمن يوجد فيه المسلمون والكفار، وأما إذا خرجت الشمس من مغربها فإن الناس سيعلمون بالحقيقة، فهم قد رأوا هذا الشيء الخارج عن المألوف، وهي من العلامات السماوية التي في السماء العلوية؛ فعند ذلك يؤمن الناس، وحينئذ في هذه الحالة لا ينفع الإيمان، ومثلها قبل نهاية الدنيا إذا بلغت الروح الحلقوم، ففي ذلك الوقت أيضاً لا تنفع التوبة ولا ينفع الإيمان كما حصل لفرعون، فإنه لما أدركه الغرق قال: أسلمت!(484/27)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها)
قوله: [حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني].
هو أحمد بن أبي شعيب الحراني أحمد بن عبد الله وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا محمد بن الفضيل].
محمد بن الفضيل بن غزوان، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمارة].
هو عمارة بن القعقاع، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي زرعة].
قد مر ذكره.
[عن أبي هريرة] قد مر ذكره.(484/28)
حسر الفرات عن كنز(484/29)
شرح حديث: (يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في حسر الفرات عن كنز.
حدثنا عبد الله بن سعيد الكندي حدثني عقبة بن خالد السكوني حدثنا عبيد الله عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب، فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب حسر الفرات عن كنز، يعني: انكشافه بحيث يظهر كنز فيه، وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة مرفوعاً: (يوشك أن يحسر الفرات عن كنز، فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً)، وقد جاء في بعض الروايات: (جبل من ذهب) وهذا يدل على كثرته، وسمي كنزاً باعتبار أنه قد اندفن، ثم يظهر بعد ذلك فيؤمه الناس ويقتتلون عليه، وهذا من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن الأمور المستقبلة، ولا بد أن تقع طبقاً لما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وهذا لم يقع حتى الآن ولكنه لابد أن يقع، وما يظنه بعض المعاصرين من أن هذا الكنز هو البترول فهذا غير صحيح؛ لأن البترول ليس بذهب، وإن كان الناس في هذا الزمان يقولون عنه: الذهب الأسود، لنفاسته، ولأنه يأتي بالذهب، إلا أنه لا يقال له: ذهب؛ لأن الذهب شيء جامد أصفر، والبترول سائل، وليس بذهب، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كنز، وأن الفرات يحسر عنه، وأن الناس يقتتلون عليه، فيهلك تسعة وتسعون في المائة، وينجو واحد في المائة، ويكون عند الناس في ذلك الوقت شدة وحرص على الدنيا، فهم يعلمون بأن نسبة الهلاك تسعة وتسعون، ونسبة النجاة واحد في المائة، ومع ذلك يقدم أحدهم ويقول: لعلي أن أكون أنا الواحد في المائة! وهذا يدل على شدة الحرص على الدنيا في ذلك الوقت، ومعلوم أن هذا لم يقع، ولكنه لا بد أن يقع؛ لأن ما أخبر به الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام لا بد من وقوعه، وأما بترول العراق فإنه ما حصل اقتتال عليه، وما حصل أن الناس أموه ليأخذوه فهلك منهم تسعة وتسعون في المائة ونجا واحد في المائة، فلم يحصل شيء من هذا، فهذه الأدلة تدل على بطلان هذا القول الفاسد، وهو قول من قال: إن المقصود به بترول العراق! وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم من حضره ألا يأخذ منه شيئاً.(484/30)
تراجم رجال إسناد حديث: (يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب)
قوله: [حدثنا عبد الله بن سعيد الكندي].
عبد الله بن سعيد الكندي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عقبة بن خالد السكوني].
عقبة بن خالد السكوني صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبيد الله].
هو عبيد الله العمري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خبيب بن عبد الرحمن].
خبيب بن عبد الرحمن، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حفص بن عاصم].
حفص بن عاصم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر أصحابه حديثاً.(484/31)
شرح حديث: (يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن سعيد الكندي حدثني عقبة -يعني ابن خالد - قال: حدثني عبيد الله عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله، إلا أنه قال: (يحسر عن جبل من ذهب)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وهي مثل ما تقدم إلا أنه قال: (يحسر الفرات عن جبل من ذهب)، وهناك قال: (عن كنز) ولا تنافي بينهما، فهو كنز من ذهب، وهو جبل، ووصفه بأنه جبل يدل على كثرته.
وقد يكون على شكل جبل في هيئته، لكنه ليس جبلاً مثل الجبال الكبيرة؛ لأنه ينحسر عنه الفرات، فلعله يكون كوماً كبيراً من ذهب يشبه الجبل.(484/32)
تراجم رجال إسناد حديث: (يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا عبد الله بن سعيد الكندي حدثني عقبة -يعني: ابن خالد - حدثني عبيد الله عن أبي الزناد عن الأعرج].
أبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز المدني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
قد مر ذكره.(484/33)
شرح سنن أبي داود [485]
إن من علامات الساعة الكبرى خروج المسيح الدجال، وهو أعظم فتنة عرفتها البشرية؛ لذا فما من نبي من الأنبياء إلا وحذر أمته هذه الفتنة العظيمة.
وقد بين وأوضح لنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أوصافه غاية الإيضاح وأتم البيان، فذكر أوصافه الجسمية وعلاماته الخلقية، وذكر مدة بقاءه، ومكان خروجه، ونوع فتنته، وماذا يحمل معه، ومن يتبعه، وما هي الأمور التي تعصم منه، وكيف تكون نهايته، وكل هذا قد جاءت به الأحاديث الصحاح.
فهذا البيان من الأنبياء لأممهم هو من غاية النصح والحب منهم صلوات الله وبركاته عليهم لأممهم.(485/1)
خروج الدجال(485/2)
شرح حديث (إن مع الدجال بحراً من ماء ونهراً من نار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب خروج الدجال.
حدثنا الحسن بن عمرو حدثنا جرير عن منصور عن ربعي بن حراش قال: (اجتمع حذيفة وأبو مسعود رضي الله عنهما فقال حذيفة: لأنا بما مع الدجال أعلم منه إن معه بحراً من ماء ونهراً من نار، فالذي ترون أنه نار ماء، والذي ترون أنه ماء نار، فمن أدرك ذلك منكم فأراد الماء فليشرب من الذي يرى أنه نار فإنه سيجده ماء.
قال أبو مسعود البدري: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول)].
أورد أبو داود باب خروج الدجال، والدجال هو رجل من بني آدم، وقيل له: الدجال مبالغة في وصفه بالدجل والكذب والتمويه؛ ولهذا يقال عن الشخص الذي يعرف بالكذب: دجال؛ مبالغة في دجله وكذبه، والدجال رجل من بني آدم يخرج في آخر الزمان، ويحصل به فتنة عظيمة هي من أعظم الفتن، ويسير في الدنيا بسرعة، ويكون معه أمور خارقة للعادة فيفتن بها الناس، فيعصم الله تعالى من يعصم، ويفتن من يفتن بذلك الرجل، وقد تواترت الأحاديث فيه في الصحيحين وفي غيرهما، وهي تدل على أنه لا بد أن يقع ذلك، ويكون خروجه قبل خروج يأجوج ومأجوج، وهو في زمن عيسى وزمن المهدي، وقد جاء في الحديث أن عيسى عليه الصلاة والسلام يصلي خلف المهدي، ثم يخرج ويقتل الدجال بباب لد، فمسيح الهداية عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام يقتل مسيح الضلالة المسيح الدجال، والأحاديث في ذلك ثابتة متواترة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وأورد أبو داود جملة من تلك الأحاديث أولها حديث حذيفة وأبي مسعود الأنصاري البدري رضي الله تعالى عنهما، يقول حذيفة: (لأنا بما مع الدجال أعلم منه) والضمير في منه: يرجع إلى الدجال، وقد جاء في صحيح مسلم أن الذي قال ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أن الله تعالى أعلم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بما يكون مع الدجال أكثر مما يعلم الدجال ما يكون معه، وذكر أنه يكون معه جنة وهي في الحقيقة نار، ونار وهي في الحقيقة جنة، وقد أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإنسان لا يقرب ماءه؛ لأنه نار، وليقرب النار فإنها ماء في باطن الأمر.
وسياق الحديث هنا يدل على أن هذا لفظ حذيفة، ولكن جاء في صحيح مسلم أنه من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال أبو مسعود البدري في نفس هذا الحديث: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني قوله: (لأنا أعلم بما مع الدجال منه) وإذا كان حذيفة قاله كما في هذا الإسناد، فمعنى ذلك أنه يقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون ذلك مبنياً على ما علمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو متحقق من أن هذا الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم حق، فهو يؤمن ويصدق به، وهو تابع للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك العلم الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم.
وسمي عيسى عليه الصلاة والسلام بالمسيح لأنه يمسح بيده على الأكمه والأبرص فيشفى بإذن الله، فهو مسيح بمعنى ماسح، وأما الدجال فهو مسيح بمعنى ممسوح، فهو ممسوح العين، أو لكونه يمسح الأرض بسرعته في أربعين يوماً كالغيث إذا استدبرته الريح، كما جاء في الحديث.
وظاهر الحديث أن النار والماء يجتمعان معه ويسيران معه في كل مكان.(485/3)
تراجم رجال إسناد حديث (إن مع الدجال بحراً من ماء ونهراً من نار)
قوله: [حدثنا الحسن بن عمرو].
الحسن بن عمرو صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن المعتمر، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ربعي بن حراش].
ربعي بن حراش، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حذيفة وأبي مسعود].
حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وأبو مسعود هو: عقبة بن عمرو الأنصاري البدري، صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
يطوف الدجال الأرض ويمسح الأرض، ويخرج من خلة بين الشام والعراق، ومعه سبعون ألفاً من يهود أصبهان كما جاء في حديث النواس بن سمعان في صحيح مسلم.(485/4)
شرح حديث (ما بعث نبي إلا قد أنذر أمته الدجال)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن قتادة قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما بعث نبي إلا قد أنذر أمته الدجال الأعور الكذاب، ألا وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وإن بين عينيه مكتوباً كافر)].
أورد أبو داود حديث أنس مرفوعاً: (ما من نبي إلا وقد أنذر أمته المسيح الدجال) يعني: أنه قد يخرج فيهم، فلم يكونوا يعلمون وقت خروجه، ولكنهم يعلمون أنه خارج، ولهذا أنذروا أممهم من ذلك، ومنهم نوح عليه الصلاة والسلام فقد أنذر أمته المسيح الدجال، والرسول صلى الله عليه وسلم في أول الأمر كان يظن أنه سيكون في وقته، ثم بعد ذلك جاءت النصوص الدالة على تأخره عن وقته وعن زمانه صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فلا تنافي بين ما جاء في أحاديث الدجال من أنه يكون في آخر الزمان، وأن عيسى بن مريم ينزل من السماء ويقتله مع ما جاء من إنذار الأنبياء أممهم، وتحذيرهم من فتنته، فإن هذا مبني على أنهم لم يكونوا يعلمون متى يكون خروجه، وكانوا يظنون أنه قد يخرج في زمانهم؛ ولهذا حذروا أممهم منه ومن فتنته.
قوله: [(إلا قد أنذر أمته الدجال الأعور الكذاب)].
فهو أعور، أي: أن إحدى عينيه عوراء، وهو دجال صاحب كذب.
قوله: [(ألا وإنه أعور وإن ربكم ليس بأعور)].
فهو يأتي الناس بخوارق، فبعض الناس يسلب منه عقله فيتابع الدجال لما يرى معه من الشيء الذي أقدره الله عليه، ولما يظهر منه من التمويه والدجل، فيفتن الناس به، وهو يزعم أنه إله، وفي وجهه العلامة الدالة على أنه ناقص، فكيف يكون إلهاً وهو لا يقدر أن يكمل النقص الذي فيه؟!! فهو أعور ولا يستطيع أن يتخلص من هذا العور، والله عز وجل ليس بأعور.
وبهذا الحديث استدل أهل السنة على أن لله عينين تليقان بكمال الله وجلاله كما في سائر الصفات، فكلها من باب واحد، فكون الله له عينان والمخلوق له عينيان لا يدل على التشابه والتماثل، بل الأمر كما قال الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فأثبت السمع والبصر ونفى المشابهة، فكل صفة لله عز وجل تثبت له ويعتقد معها أنه: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11]، فتثبت إثباتاً مع التنزيه، فأهل السنة مثبتة وليسوا معطلة، ومع إثباتهم ليسوا مشبهة، بل هم مثبتة منزهة، والإثبات والتنزيه قد جاءا في هذه الآية الكريمة من سورة الشورى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فأثبت السمع والبصر ونفى المشابهة، فله سمع لا كالأسماع، وبصر لا كالأبصار، وكذلك يقال في جميع الصفات.
قوله: [(وإن بين عينيه مكتوباً كافر)].
هذا يدل على بطلان ما معه وأن كل ما معه إنما هو تمويه على الناس، وأنه لا يكون إلهاً، وفيه ذلك النقص وتلك الكتابة التي على وجهه بأنه كافر، فكيف يكون مع ذلك إلهاً؟!! ومع ذلك فيصدقه بعض الناس بأنه إله؛ لما معه من الخوارق التي لم يألفها الناس!!.(485/5)
تراجم رجال إسناد حديث (ما بعث نبي إلا قد أنذر أمته الدجال)
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
هو أبو الوليد هشام بن عبد الملك، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الإسناد رباعي، وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود رحمه الله.(485/6)
شرح حديث (ما بعث نبي إلا قد أنذر أمته الدجال) من طريق أخرى، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى عن محمد بن جعفر عن شعبة: (ك ف ر)].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى وفيه أنه مكتوب ك ف ر، يعني: كاف فاء راء، أي: متفرقة، ومعناه أنه كافر، وهذا دليل على كفره.
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
هو محمد بن المثنى أبو موسى الزمن البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن جعفر].
هو محمد بن جعفر البصري الملقب غندر، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
مر ذكره.(485/7)
قراءة المسلم القارئ وغير القارئ للكتابة التي بين عيني الدجال
وغير المسلم لا تظهر له هذه الكتابة كما دل عليه هذا الحديث، يقول الحافظ: وذلك أن الإدراك في البصر يخلقه الله للعبد كيف شاء ومتى شاء، فهذا يراه المؤمن بعين بصره وإن كان لا يعرف الكتابة، ولا يراه الكافر ولو كان يعرف الكتابة، كما يرى المؤمن الأدلة بعين بصيرته ولا يراها الكافر، فيخلق الله للمؤمن الإدراك دون التعلم؛ لأن ذلك الزمن تنخرق فيه العادات.
ويقول النووي: الصحيح الذي عليه المحققون أن هذه الكتابة على ظاهرها، وأنها كتابة حقيقة جعلها الله آية وعلامة من جملة العلامات القاطعة بكفره وكذبه وإبطاله، يظهرها الله تعالى لكل مسلم كاتب وغير كاتب، ويخفيها عمن أراد شقاوته وفتنته، ولا امتناع في ذلك.(485/8)
شرح حديث (ما بعث نبي إلا قد أنذر أمته الدجال) من طريق ثالثة، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن شعيب بن الحبحاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قال: (يقرؤه كل مسلم)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وهو مثل الذي قبله، وفيه أن (كافر) المكتوب على وجهه (يقرؤه كل مسلم) أي: سواء كان قارئاً أو غير قارئ، فيمكن الله عز وجل غير القارئ من القراءة لتلك الكتابة التي على وجه الدجال.
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث].
مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
وعبد الوارث بن سعيد العنبري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعيب بن الحبحاب].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن أنس].
مر ذكره، وهذا الإسناد أيضاً رباعي، وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود رحمه الله.(485/9)
شرح حديث (من سمع بالدجال فلينأ عنه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جرير حدثنا حميد بن هلال عن أبي الدهماء قال: سمعت عمران بن حصين رضي الله عنهما يحدث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله! إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث به من الشبهات أو لما يبعث به من الشبهات).
هكذا قال].
أورد أبو داود حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع بالدجال فلينأ عنه) أي: فليبتعد عنه وليهرب منه، ولا يقول: أنا مؤمن وعندي إيمان، فإنه يحصل بسبب ما معه من الفتن والخوارق شك وريبة، وقد يزول ما مع الإنسان من اليقين.
وقد جاء أن الدجال ينزل إحدى السباخ التي حول المدينة، فترجف المدينة فيخرج إليه كل كافر وكافرة، وكل منافق ومنافقة، وأما المؤمنون فلا يذهبون إليه، فالابتعاد عن الفتنة أمر مطلوب.
قوله: [(فو الله! إن الرجل ليأته وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه لما يبعث به من الشبهات)].
يعني: يظن الإنسان أنه يسلم من فتنته، ولكن إذا رأى تلك الأمور المهولة الخارقة للعادة تغير عما كان عليه من اليقين، ووقع في الفتنة، وإذا ابتعد عنه ولم يتصل به ولم يقربه، فإن ذلك أسلم له.
ويستفاد من هذا الحديث الابتعاد عن أهل البدع ومجالستهم؛ لكونهم دجاجلة، وخوفاً من شبهاتهم، فالإنسان الذي ليس عنده بصيرة قد يتأثر بما عندهم من الفصاحة والبلاغة إلا من عصم الله، ولهذا فالابتعاد عنهم أمر مطلوب.
والحكمة من خروج الدجال أن يتبين الموفق من المخذول، ويتبين من هو قوي الإيمان ممن هو ضعيف الإيمان.(485/10)
تراجم رجال إسناد حديث (من سمع بالدجال فلينأ عنه)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد مر ذكره.
[حدثنا حميد بن هلال].
حميد بن هلال، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الدهماء].
وهو قرفة العدوي ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عمران بن حصين].
عمران بن حصين رضي الله عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(485/11)
شرح حديث (إن المسيح الدجال رجل قصير، أفحج جعد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حيوة بن شريح حدثنا بقية قال: حدثني بحير عن خالد بن معدان عن عمرو بن الأسود عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إني قد حدثتكم عن الدجال حتى خشيت ألا تعقلوا، إن مسيح الدجال رجل قصير، أفحج، جعد، أعور، مطموس العين، ليس بناتئة ولا جحراء، فإن ألبس عليكم فاعلموا أن ربكم ليس بأعور).
قال أبو داود: عمرو بن الأسود ولي القضاء].
قوله: [(إني حدثتكم عن الدجال حتى خشيت ألا تعقلوا)].
يعني: أنه أكثر من ذكره حتى خشي ألا يعوا كل الكلام الذي قاله لهم لكثرته، ثم إنه بين شيئاً من أخباره ومن صفاته في هذا الحديث.
قوله: [(إن مسيح الدجال رجل قصير)].
هذا يدل على أنه رجل من بني آدم، وهو قصير ليس بالطويل، وهو مع قصره عظيم الخلقة كما في بعض الأحاديث.
قوله: [(أفحج)].
أي: أن هناك تباعداً بين رجليه عند المشي.
قوله: [(جعد)].
أي: أن شعره ليس بالسبط.
قوله: [(أعور مطموس العين)].
أي: أنه فاقد إحدى العينين.
قوله: [(مطموس العين ليس بناتئة ولا جحراء)].
أي: ليست بارزة ولا غائرة داخلة، وإنما هي بين ذلك.
قوله: [(فإن ألبس عليكم فاعلموا أن ربكم ليس بأعور)].
يعني: أنه يدعي الألوهية فلا يفتنن أحداً بدعواه وبدجله وكذبه وتمويهه، والدليل على كذبه موجود في وجهه، وهو أنه أعور، وهذا نقص، ولو كان إلهاً لكمّل نفسه ولم يكن فيه هذا العيب والخلل.(485/12)
تراجم رجال إسناد حديث (إن المسيح الدجال رجل قصير، أفحج جعد)
قوله: [حدثنا حيوة بن شريح].
حيوة بن شريح الحمصي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا بقية].
هو بقية بن الوليد، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني بحير].
هو بحير بن سعد وهو ثقة، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) وأصحاب السنن.
[عن خالد بن معدان].
خالد بن معدان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن الأسود].
عمرو بن الأسود ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن جنادة بن أبي أمية].
مختلف في صحبته، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبادة بن الصامت].
صحابي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: عمرو بن الأسود ولي القضاء].
هذا بيان شيء من أخبار هذا الرجل الذي في الإسناد، وهو أنه ولي القضاء.(485/13)
شرح حديث (إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي المؤذن حدثنا الوليد حدثنا ابن جابر قال: حدثني يحيى بن جابر الطائي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه أنه قال: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الدجال فقال: إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف؛ فإنها جواركم من فتنته، قلنا: وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوماً: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، فقلنا: يا رسول الله! هذا اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم وليلة؟ قال: لا، اقدروا له قدره، ثم ينزل عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق فيدركه عند باب لد فيقتله)].
أورد أبو داود حديث النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن يخرج الدجال وأنا فيكم فأنا حجيجه)، وهذا كان في أول الأمر، فإنه لم يكن يعلم الوقت الذي سيخرج فيه, وأنه آخر الزمان، فكان يحذر منه كما كان الأنبياء السابقون يحذرون منه أممهم، فلم يكونوا يعلمون متى خروجه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أُخبر بعد ذلك بأنه سيخرج في آخر الزمان، وأخبر عما سيكون بعده وما سيكون قبله في آخر الزمان.
قوله: [(وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه)] أي: هو الذي يدافع عن نفسه، وهو الذي يسعى لإنقاذ نفسه.
قوله: [(والله تعالى خليفتي على كل مسلم) أي: أنه يدعو الله أن يحفظهم ويرعاهم ويكلؤهم.
قوله: [(فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف؛ فإنها جواركم من فتنته)].
يعني: أمان لكم من فتنته، ومعلوم أن الإنسان إذا صار في جوار فلان فإنه يأمن بجواره من أن يعتدي عليه أحد؛ لأنه نزل في جوار فلان، فيكون آمناً بسبب هذا الجوار، فلا يعتدي عليه أحد، فالمعنى من قرأ عليه فواتح سورة الكهف فإنها أمان من فتنته، أي: جوار من فتنته، قيل: ولعل ذلك لأن سورة الكهف فيها قصة أصحاب الكهف، وما أخبر الله عز وجل عنهم من تلك الأمور الخارقة للعادة، وأنهم مكثوا نياماً ولم تتغير أجسادهم ثلاثمائة وتسع سنين، والله تعالى على كل شيء قدير، فالإنسان إذا قرأ هذه القصة وتذكر معانيها يعرف حقيقة تلك الأمور التي تكون معه، ويسلم من فتنته بإذن الله.
قوله: [(قلنا: وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوماً)].
يعني: مدة بقائه في الأرض بعد خروجه أربعون يوماً، قال: (يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة) أي: والباقي وهي سبعة وثلاثون يوماً كأيامنا، وهذه أيضاً من الأمور الخارقة التي تكون في ذلك الزمان، فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم سألوا عن الصلاة: كيف نصلي؟ وهل يكفينا خمس صلوات في اليوم والليلة في هذا اليوم الذي طوله سنه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (اقدروا له) يعني: صلوا الصلوات الخمس على الهيئة التي كنتم تصلون، بمعنى أنكم تصلون الفجر، ثم تقدرون مدة ما كنتم تصلون الظهر، وهكذا، فتكون هذه السنة بعدد الأيام إلا أنها بمثابة يوم واحد، فالشمس موجودة، والناس يشاهدونها، وتمكث سنة كاملة لا تغرب، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى أن يحصل منهم التقدير ليعرفوا مقدار ما بين كل صلاتين، فإذا صلوا الصلاة ينتظرون حتى يمضي مدة ما بينها وبين التي تليها ثم يصلونها، وهكذا حتى يمضي هذا اليوم الذي مقداره سنة، ومثله اليوم الذي كشهر، ومثله اليوم الذي كجمعة، فكلها على نفس التقدير، ويعمل مثل هذا أي إنسان محبوس في مكان لا يعرف فيه ليلاً ولا نهاراً، ولا يعرف شمساً ولا قمراً، فإنه يقيم صلاته بالتقدير على هذه الطريقة التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك بعض الأماكن التي تكون الشمس فيها موجودة مدة طويلة من الزمان، فإنهم يعملون ما جاء في حديث الدجال.
قوله: [(ثم ينزل عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيدركه عند باب لد فيقتله)]، وهذا يدل على أن خروج الدجال قبل نزول عيسى، والمنارة البيضاء شرقي دمشق هو المكان الذي ينزل فيه عيسى من السماء، وكانت هذه المنارة موجودة منذ أزمان متباعدة، ولكن لا يعني هذا أن المنارة التي هي موجودة الآن هي التي سينزل عندها، بل قد تذهب هذه المنارة وتبنى منارة أخرى، فالله تعالى أعلم بما يكون في المستقبل، وهذه المنارة لا بد أن تكون موجودة، وإذا كانت غير موجودة الآن فلابد وأن توجد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بد أنها بيضاء وليس لها لون آخر، وإنما تكون بيضاء على هذا الوصف الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي في شرقي دمشق، فلا تكون في جهة أخرى من دمشق.(485/14)
تراجم رجال إسناد حديث (إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم)
قوله: [حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي].
صفوان بن صالح الدمشقي ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة في التفسير.
[حدثنا الوليد].
الوليد بن مسلم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن جابر].
عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني يحيى بن جابر الطائي].
ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير].
عبد الرحمن بن جبير بن نفير وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن النواس بن سمعان الكلابي].
النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.(485/15)
شرح حديث (إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عيسى بن محمد حدثنا ضمرة عن السيباني عن عمرو بن عبد الله عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وذكر الصلوات مثل معناه].
ذكر المصنف حديث النواس بن سمعان في خروج الدجال ثم أورد بعده حديث أبي أمامة وقال: إنه بمعناه، أي: بمعنى حديث النواس بن سمعان، وقال فيه: وذكر الصلوات مثل معناه، أي: أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم سألوا عن الصلوات في تلك الأيام التي فيها يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وكيف يصلون؟ فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقدروا للصلوات بحيث يصلون الفجر ثم يمكثون مقدار المدة التي بين الفجر وبين الظهر ثم يصلون الظهر، ثم يحسبون المدة التي بين الظهر والعصر ثم يصلون العصر، ثم يحسبون المدة التي بين العصر والمغرب ثم يصلون المغرب، ثم يحسبون المدة التي بين المغرب والعشاء ثم يصلون العشاء، ثم يحسبون المدة التي بين العشاء إلى طلوع الفجر وهكذا، ففي ذلك اليوم الذي هو كسنة يصلي الناس على هذا التقدير، وليس المراد أن يصلوا خمس صلوات في ذلك اليوم الذي يعادل سنة.
وسؤال الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم عن ذلك يدل على حرصهم على معرفة الأحكام الشرعية، وسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عما يشكل عليهم، وما يحتاجون إليه، ويدل أيضاً على عظيم شأن الصلاة عندهم وحرصهم عليها واهتمامهم بها، فهم رضي الله عنهم وأرضاهم السباقون والحريصون على كل خير، وهم أفضل من مشى على الأرض بعد الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه وبركاته على رسله، ورضي الله عن الصحابة أجمعين.(485/16)
تراجم رجال إسناد حديث (إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا عيسى بن محمد].
هو عيسى بن محمد الرملي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ضمرة].
هو ضمرة بن ربيعة، وهو صدوق يهم قليلاً، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) وأصحاب السنن.
[عن السيباني].
وهو يحيى بن أبي عمرو، ثقة، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن عبد الله].
عمرو بن عبد الله مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن أبي أمامة].
هو صدي بن عجلان الباهلي رضي الله تعالى عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(485/17)
شرح حديث (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر حدثنا همام حدثنا قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن حديث أبي الدرداء رضي الله عنه يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال).
قال أبو داود: وكذا قال هشام الدستوائي عن قتادة إلا أنه قال: (من حفظ من خواتيم سورة الكهف)، وقال شعبة عن قتادة: (من آخر الكهف)].
أورد أبو داود حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حفظ عشر آيات من سورة الكهف عصم من الدجال).
والحديث الذي مر فيه أنه يقرأ عليه فواتح سورة الكهف، ومعلوم أن الإنسان الحافظ يتمكن من القراءة حيث شاء ومتى أراد، بخلاف الذي لا يحفظ فإنه لا يتيسر له ذلك إلا أن يكون المصحف أمامه يقرأ فيه، وأما إذا كان الإنسان حافظاً فهو في أي وقت وفي أي حال يستطيع أن يقرأ القرآن، سواءً كان نائماً أو قائماً أو جالساً، وسواءً كان في ظلام أو في نور؛ لأنه حافظ للقرآن في صدره، فذكر الحفظ والقراءة، ومعلوم أن الحفظ يكون به التمكن من حصول القراءة متى شاء الإنسان ومتى أراد.
إذاً: فالمراد من حفظها وقرأها، وقد مر أن من وجده أو أدركه فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، فإن ذلك جوار له، أي: أمان له من فتنة الدجال، كما سبق أن مر الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في بعض الروايات أنه يقرأ خواتيم سورة الكهف، ولكن الروايات التي في الفواتح أكثر وأصح، ومنها حديث النواس بن سمعان الذي مر قبل حديث أبي الدرداء.
الأول لفظه: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف)، والآخر: (من حفظ من خواتيم)، والأول هو أرجح.(485/18)
تراجم رجال إسناد حديث: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا همام].
هو همام بن يحيى العوذي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم بن أبي الجعد].
سالم بن أبي الجعد، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معدان بن أبي طلحة].
معدان بن أبي طلحة ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي الدرداء].
هو عويمر رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: وكذا قال هشام الدستوائي عن قتادة إلا أنه قال: (من حفظ من خواتيم سورة الكهف)].
هشام بن أبي عبد الله، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وقال شعبة عن قتادة: (من آخر الكهف)].
شعبة بن الحجاج الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(485/19)
الاختلاف في رواية هشام الدستوائي لحديث فواتح سورة الكهف
ورد في صحيح مسلم من طريق معاذ بن هشام عن أبيه -وهو هشام الدستوائي - عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال).
بينما نجد هنا عند أبي داود قال: وكذا قال هشام الدستوائي عن قتادة إلا أنه قال: (من حفظ من خواتيم سورة الكهف).
فـ هشام الدستوائي وهمام كلاهما اتفقا في إسناد هذا الحديث عن قتادة عن أبي الدرداء، لكن اختلفا في متن الحديث، فقال همام في روايته: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف)، وقال هشام: (من حفظ من خواتيم سورة الكهف)، وتابع هشاماً شعبة فقال: عن قتادة من آخر الكهف، هذا هو معنى كلام المؤلف، وهو مخالف لما في صحيح مسلم، فإن مسلماً أخرجه في فضائل القرآن بقوله: حدثنا محمد بن المثنى أخبرنا معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد الغطفاني عن معدان بن أبي طلحة اليعمري عن أبي الدرداء أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال).
وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: أخبرنا محمد بن جعفر قال: أخبرنا شعبة ح وحدثنا زهير بن حرب أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي أخبرنا همام جميعاً عن قتادة بهذا الإسناد، قال شعبة: من آخر الكهف، وقال همام: من أول الكهف كما قال هشام، فرواية مسلم هذه تنادي أن هماماً وهشاماً كليهما متفقان في الإسناد والمتن، وقالا: (عشر آيات من أول الكهف)، وأما شعبة فقال: من آخر الكهف.
وأما برواية الترمذي في فضائل القرآن فقال محمد بن جعفر: أخبرنا شعبة عن قتادة بإسناده: (من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف).
وقال المزي في الأطراف: وأخرج النسائي -أي: في السنن الكبرى- في فضائل القرآن، وفي (عمل اليوم والليلة) عن عمرو بن علي عن غندر عن شعبة بإسناده وقال: (من قرأ عشر آيات من الكهف)، وقال في (عمل اليوم والليلة): (العشر الأواخر).
فعلى كل الذي جاء عن هشام في صحيح مسلم هو كراوية الأكثرين الذين رووا في فواتح سورة الكهف، فهذه الرواية التي ذكرها أبو داود إما أن يكون فيها وهم، أو أنها رواية مرجوحة.(485/20)
شرح حديث أبي هريرة في نزول عيسى آخر الزمان، وفيه: (ويهلك المسيح الدجال)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هدبة بن خالد حدثنا همام بن يحيى عن قتادة عن عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس بيني وبينه نبي -يعني: عيسى عليه السلام-، وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه: رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، بين ممصرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك المسيح الدجال، فيمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (ليس بينه وبينه نبي)، يعني: بينه وبين عيسى بن مريم نبي، فنبينا عليه الصلاة والسلام هو الذي يلي عيسى، وليس بينه وبينه نبي، وقد رفع إلى السماء وسينزل في آخر الزمان كما صحت بذلك الأحاديث، ويحكم بشريعة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ولا يحكم بالإنجيل الذي أنزل عليه؛ لأن الشرائع كلها نسخت برسالته عليه الصلاة والسلام، وختمت بشريعته، فليس لها اعتبار ولا عليها عمل، فالعمل كله يكون بما جاء في شريعة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وعيسى إذا نزل في آخر الزمان فإنه ينزل متبعاً لنبينا عليه الصلاة والسلام، حاكماً بشريعته، فهو لا ينزل فيحكم بشرع غير شرع نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فهذا لا ينافي أن نبينا هو آخر الأنبياء؛ لأن نزول عيسى ليس مبعوثاً ولا نازلاً بشريعة جديدة، وإنما حاكماً بشريعة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
قوله: [(ليس بيني وبينه نبي -يعني: عيسى- وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه)].
قوله: (وإنه نازل) يعني: من السماء في آخر الزمان، (فإذا رأيتموه فاعرفوه)، يعني: بهذه الأوصاف التي بينها الرسول عليه الصلاة والسلام.
قوله: [(رجل مربوع إلى الحمرة والبياض)].
يعني: ربعة من الرجال، فليس بالطويل ولا بالقصير، أي: أنه كنبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فوصفه أنه ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، وإنما هو ربعة من الرجال، فكذلك عيسى عليه الصلاة والسلام مربوع ليس بالطويل ولا بالقصير.
قوله: [(إلى الحمرة والبياض)].
يعني: أن لونه بياض مشرب بحمرة.
قوله: [(بين ممصرتين)].
يعني: ثياباً صفراً ليست صفرتها شديدة.
قوله: [(كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل)].
يعني: يكاد يقطر بدون بلل؛ وذلك لنظافته ووضاءته عليه الصلاة والسلام.
قوله: [(فيقاتل الناس على الإسلام)].
أي: لا يقبل منهم إلا الإسلام، فلا يقبل الجزية، ولهذا فإنه يضع الجزية كما جاء في بعض الأحاديث ولا يقبلها، ولا يقبل إلا الإسلام.
قوله: [(فيدق الصليب)].
أي: يكسره.
قوله: [(ويقتل الخنزير، ويضع الجزية)].
أي: فلا يقبلها من أحد، ولا يقبل إلا الإسلام.
قوله: [(ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام)].
وليس معنى ذلك أن الكفر قد انتهى من الأرض، وأن الكفار قد هلكوا، لا بل الكفار موجودون، ولهذا من آمن عند طلوع الشمس من مغربها فلا ينفعه إيمانه، وهذا يعني أن الكفار موجودون، ولكن معنى ذلك أن الغلبة والعزة والقوة ستكون للإسلام، وأما أولئك فمقهورون مغلوبون، وليس معنى ذلك أن الأرض قد خلت من كل كافر وأنه لم يبق إلا الإسلام، فالهلاك ليس هلاك للأبدان، ولكن المقصود به القضاء على سلطة الكفر وقدرته وولايته، فتكون الولاية والقدرة لأهل الإسلام، ويكون الكفار مغمورين، ولهذا جاء في الأحاديث أنه إذا طلعت الشمس من مغربها لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، وكذلك كما هو معلوم أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الناس الذين لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، ولا يقال فيهم: الله، وأما المسلمون فينتهون قبل ذلك بخروج الريح اللينة التي تقبض روح كل مسلم ومسلمة، ولا يبقى إلا شرار الخلق الذين تقوم عليهم الساعة، (ويهلك الله الملل كلها إلا الإسلام).
قوله: [(ويهلك المسيح الدجال)].
أي: يقتله ويقضي عليه، فيتولى مسيح الهداية عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام بنفسه قتل مسيح الضلالة الدجال.
قوله: [(فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون)].
أي: أنه رفع إلى السماء فهو حي، ثم ينزل ويبقى تلك المدة، ثم يموت ويصلي عليه المسلمون صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(485/21)
تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة في نزول عيسى آخر الزمان، وفيه: (ويهلك المسيح الدجال)
قوله: [حدثنا هدبة بن خالد].
هدبة بن خالد ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود، والبخاري يذكره بلفظ هدبة، وكذلك أبو داود ذكره بلفظ هدبة، وأما مسلم فيذكره أحياناً بقوله: هدبة وأحياناً بقوله: هدّاب، وقد قيل: إن هدبة اسم، وهداب لقب، ومعنى هذا أن هذا اللقب هو من الألقاب التي تكون منحوته من الأسماء، فـ مسلم يذكره أحياناً هداب، وأحياناً يقول له: هدبة، وأما البخاري فكان لا يذكره إلا بلفظ هدبة، وكذلك أبو داود.
[حدثنا همام بن يحيى].
هو همام بن يحيى العوذي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة عن عبد الرحمن بن آدم].
قتادة مر ذكره، وعبد الرحمن بن آدم صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود، وقيل: إن آدم ليس أباه، وأنه لا يعرف له أب، وإنما ينسب إلى آدم أبي البشر.
قال في (عون المعبود): قال الدارقطني: عبد الرحمن بن آدم إنما نسب إلى آدم أبي البشر، ولم يكن له أب يعرف، انتهى كلام المنذري مختصراً].
وقال الحافظ في التقريب: عبد الرحمن بن آدم البصري صاحب السقاية، صدوق، وقال في (فتح الباري): إسناده صحيح.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً.(485/22)
الجمع بين رواية أنه يمكث أربعين سنة ورواية مسلم أنه يمكث سبع سنين
قال في (عون المعبود) في الجمع بين ما ورد هنا من أنه يمكث أربعين سنة وما ورد في صحيح مسلم في أنه يمكث سبع سنين.
قال الحافظ عماد الدين بن كثير: ويشكل في رواية مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه يمكث في الأرض سبع سنين، قال: اللهم إلا أن تحمل هذه السبع على مدة إقامته بعد نزوله، فيكون ذلك مضافاً لمكثه بها قبل رفعه إلى السماء، فعمره إذ ذاك ثلاث وثلاثون سنة بالمشهور.
انتهى.
وهذا فيه نظر، أعني أن عمره كان ثلاثاً وثلاثين؛ لأن المعروف أن الأنبياء يبعثون لأربعين سنة.(485/23)
قراءة في رد الشيخ العباد على محمد فريد وجدي في إنكاره لأحاديث الدجال
كتب الشيخ ابن محمود رحمه الله رسالة سماها: لا مهدي ينتظر بعد رسول خير البشر، وكان قد ألفها في أوائل عام ألف وأربعمائة عندما حصلت فتنة الحرم، وألف هذه الرسالة منكراً أنه لا مهدي، وأن الأحاديث فيه غير صحيحة، ورددت عليه في هذا الكتاب وهو: الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي، وكان من جملة الذين ذكرهم منكرين لأحاديث المهدي محمد فريد وجدي، وقد ذكرت أن هذا الذي قلده قد أنكر ما هو أعظم من أحاديث المهدي، وهو أحاديث الدجال، حيث وصف أحاديث الدجال كلها بأنها موضوعة مختلقة مع أن الصحيحين فيهما الشيء الكثير من أحاديث الدجال، بل إن الدعاء الذي يدعو به الإنسان في آخر صلاته مشتمل على السلامة والاستعاذة من الدجال: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال.
فالأحاديث فيه كثيرة ومتواترة، وهذا الرجل وهو محمد فريد وجدي أنكر في كتابه: (دائرة معارف القرن العشرين) هذه الأحاديث وقال: إنها كلها موضوعة ملفقة مكذوبة، وهي في الصحيحين ورجالها ثقات ليس فيهم ضعيف فضلاً عن أن يكون فيهم كذاب أو وضاع، والآن سنقرأ ما كتبته رداً عليه؛ لأنه ذكر أربع شبه في رد أحاديث الدجال وأنها موضوعة ومختلقة، وكلها شبه عقلية، وقد رددت عليه فيها استطراداً في الكلام على المهدي.
قلت: تقليده للكاتب محمد فريد وجدي في إنكار خروج المهدي، ومناقشة مقلده فيما هو أخطر من ذلك وهو: زعمه أن كل ما ورد في المسيح الدجال موضوع ملفق: ذكر في صفحة عشرين أن محمد فريد وجدي صاحب (دائرة معارف القرن العشرين) ممن ضعف أحاديث المهدي، ونقل كلامه في ذلك، وأحب أن يضيف الشيخ ابن محمود إلى معلوماته أن محمد فريد وجدي في كتابه المذكور في (8/ 788) اعتبر جميع الأحاديث الواردة في الدجال موضوعة، بناءً على شبه عقلية، وأكثر أحاديث الدجال في الصحيحين للبخاري ومسلم كما هو معلوم.
ومادام أن أحاديث الدجال على كثرتها في الصحيحين وفي غيرهما حظها من محمد فريد وجدي أن يبطلها بجرة قلم، ويحكم عليها جميعها بأنها موضوعة ملفقة، فمن باب أولى إبطال أحاديث المهدي؛ لأنها دونها في الكثرة والصحة، وقد يكون من المناسب هنا أن أناقش بإيجاز محمد فريد وجدي في شبهه العقلية الأربع التي اعتمد عليها في توهين أحاديث الدجال، وقال عنها: إنها لا تقبل المناقشة.
الشبهة الأولى: أن ما ورد بشأن الدجال أشبه بالأساطير الباطلة، فإن رجلاً يمشي على رجليه يطوف البلاد، يدعو الناس لعبادته، ويكون معه جنة ونار يلقي فيهما من يشاء، كل هذا من الأمور التي لا يستسيغها العقل، والنبي أجل من أن يأتي بشيء تنقضه بداهة النظر، وإلا فما هي جنته؟ وما هي ناره التي تتبعانه حيث سار؟ وهل هما مرئيان أو خياليان؟ إلى آخره.
ويجاب عن هذه الشبهة: بأن ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أخبار الدجال يقبله العقل السليم ولا يرده، والعقل لا يتعارض مع النقل الصحيح، وإذا لم يحصل الاتفاق والتطابق بين العقل والنقل على أمر ما تعين اتهام العقل، كما ثبت في الصحيحين عن سهل بن حنيف رضي الله عنه أنه قال: يا أيها الناس! اتهموا رأيكم على دينكم.
وكما جاء عن علي رضي الله عنه في سنن أبي داود -قال الحافظ في (الفتح): بسند حسن- أنه قال: لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى: العقول تتفاوت، فقد يقبل هذا ما لا يقبله هذا، وأحاديث الدجال الثابتة صدق بها الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وقبلتها عقولهم، وكذا التابعون لهم بإحسان، فالعقول التي لم تقبل ما قبلوه قد أصيبت بمرض لا شفاء لها منه إلا بالاعتصام بما جاء في الكتاب والسنة، والسير على ما درج عليه سلف الأمة.
ومن جهة ثالثة: هذه الأمور التي يأتي بها الدجال هي من جملة فتنته التي هي أعظم فتنة في الحياة الدنيا، وهي تحصل منه بإذن الله ابتلاءً وامتحاناً للعباد في ذلك الزمان، وهي غير مستحيلة عقلاً، وأما كونها على خلاف ما هو معتاد ومألوف فنعم، ومن أجل هذا صارت فتنة، ومن عرف أن الله على كل شيء قدير، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق- الذي لا ينطق عن الهوى أخبر عن الدجال بهذه الأخبار التي منها: طوافه البلاد ودخولها ما عدا مكة والمدينة، ومعه جنة ونار، أقول: من عرف كمال قدرة الله وإخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذه الأمور لم يتردد في التصديق بذلك، وأنه سيقع وفقاً لما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
الشبهة الثانية: قوله كيف يعقل أن رجلاً أعور مكتوب على جبهته كافر يقرؤها الكاتب والأمي على السواء، يقوم بين الناس فيدعوهم لعبادته، فتروج له دعوة، أو تسمع له كلمة، أي إنسان يبلغ به الانحطاط العقلي إلى درجة يعتقد فيه بالألوهية؟! رجل مشوه الخلقة، مكتوب في وجهه كافر بالأحرف العريضة، وأي جيل من أجيال الناس تروج فيهم مثل هذه الدعوة إلى آخره.
أقول: هذه إحدى شبهه التي اعتمد عليها في رد النصوص الصحيحة، ولا أدري كيف فات على هذا المسكين أن الأبصار لا تغني شيئاً إذا عميت البصائر، {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، وكيف ينكر النصوص المتواترة لأنه عقله استبعد أن تروج دعوة الدجال ويقبل قوله: وقد كتب على وجهه كافر يقرؤها الكاتب والأمي، مع وجود المثال المحسوس فيما نشاهد ونعاني في هذا العصر الذي نعيش فيه، فأكثر البلاد التي تنتمي إلى الإسلام لا تحكم بشريعة الإسلام، مع أن آيات القرآن ينادى بها بأعلى الأصوات، ومنها قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].
وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45].
وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47].
وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
إلى غير ذلك من الآيات، فإن الذين تروج عليهم دعوة الدجال في آخر الزمان فيتبعونه لعمى بصائرهم، مع أنه مكتوب على وجهه كافر يقرؤها الكاتب والأمي، هم من جنس الذين عميت بصائرهم في عصرنا، فلم يحكموا شريعة الإسلام مع قراءتهم القرآن، وفيه مثل هذه الآيات، وسماعهم لها في الإذاعات، وما أشبه الليلة بالبارحة، والله المستعان! الشبهة الثالثة: قوله: لماذا لم يذكر القرآن عن هذا المسيح الدجال شيئاً مع خطورة أمره، وعظم فتنته كما تدل عليه الأحاديث الموضوعة؟ فهل يعقل أن القرآن يذكر ظهور دابة الأرض، ولا يذكر ظهور ذلك الدجال الذي معه جنة ونار، ويفتتن به الناس؟ والجواب عن هذه الشبهة: أن الله تعالى قال في كتابه العزيز: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) يعني: السنة، والسنة والقرآن متلازمان لا يفترقان، ومن لم يؤمن بالسنة لم يؤمن بالقرآن، ومن زعم فصل السنة عن القرآن يقال له كما جاء عن بعض السلف: أين وجدت في القرآن أعداد الصلوات، وأعداد ركعاتها، وكيفيتها وغير ذلك مما لا يعرف توضيحه وبيانه إلا في السنة التي هي شقيقة القرآن، والموضحة والمبينة له؟ ولم تعدم السنة منذ أزمان من أعداء لها هم في الحقيقة أعداء للقرآن، يشككون فيها، ويحاولون فصلها عن القرآن، وقد هيأ الله من العلماء من يذب عنها، ويدحض شبه أعدائها، ومنهم الحافظ السيوطي رحمه الله، فقد ألف رسالة لطيفة سماها: (مفتاح الجنة بالاحتجاج بالسنة)، افتتحها بعد حمد الله بقوله: اعلموا يرحمكم الله أن من العلم كهيئة الدواء، ومن الآراء كهيئة الخلاء، لا تذكر إلا عند داعية الضرورة، وإن مما فاح ريحه في هذا الزمان وكان دارساً بحمد الله منذ أزمان وهو أن قائلاً رافضياً زنديقاً أكثر في كلامه: أن السنة النبوية والأحاديث المروية -زادها الله علواً وشرفاً- لا يحتج بها، وأن الحجة في القرآن خاصة إلى أن قال: فاعلموا -رحمكم الله- أن من أنكر كون حديث النبي صلى الله عليه وسلم قولاً كان أو فعلاً بشرطه المعروف في الأصول حجة كفر وخرج عن دائرة الإسلام، وحشر مع اليهود والنصارى أو مع من شاء الله من فرق الكفرة.
روى الإمام الشافعي رضي الله عنه يوماً حديثاً وقال: إنه صحيح، فقال له قائل: أتقول به يا أبا عبد الله؟ فاضطرب وقال: يا هذا! أرأيتني نصرانياً؟ أرأيتني خارجاً من كنيسة؟ أرأيت في وسطي زناراً، أروي حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أقول به؟! ورسالة السيوطي هذه رسالة عظيمة مفيدة.
الشبهة الرابعة: قوله: إن كون هذه الأحاديث موضوعة يعرف بالحس من الحديث الطويل الذي نسب إلى النواس بن سمعان ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الحديث الذي ينبئ أن الدجال يخرج من خلة بين الشام والعراق، ويعمل الأعاجيب، ثم يدركه عيسى فيقتله، ثم يؤمر عيسى بأن يعتصم بالطور هرباً من قوم لا قدرة عليهم وهم يأجوج ومأجوج إلى أن قال: فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض، فلنقتل من في السماء، فيرمون نشابهم إلى السم(485/24)
الأسئلة(485/25)
اهتمام الصحابة بالصلاة
السؤال
لو أنكم تعلقون عن موقف الصحابة رضي الله عنهم لما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الدجال يمكث هذه المدة، وأن اليوم كسنة، فقالوا: كيف نصلي؟ فهذا يدل على اهتمامهم بالصلاة.
الجواب
نعم، هذا من الأمور الدالة على عنايتهم بالصلاة وبأمور الدين، وتفقههم في دين الله عز وجل، فهم لما رأوا هذا الأمر غريباً خارجاً عما اعتادوه، وكانت الصلاة من أعظم ما يهتمون به سألوا هل يصلون فيه خمس صلوات على اعتبار أنه يوم واحد وإن كان مقداره سنة، أو عليهم شيء آخر؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم بين لهم أنهم يقدرون الصلاة بمقدار اليوم والليلة التي يعرفونها بحيث يكون ذلك اليوم مقسماً على أوقات الصلوات في أيام السنة.(485/26)
كيفية قراءة فواتح سورة الكهف على الدجال
السؤال
كيف يقرأ الإنسان على الدجال فواتح سورة الكهف؟
الجواب
المعنى أنه يقرؤها في ذلك الحال، وليس المعنى أنه ينفث عليه ويرقيه، فعلى الإنسان أن يحفظها؛ لأنه إذا كان غير حافظ لها فقد لا يكون معه مصحف يقرأ فيه، فإذا كان حافظاً تمكن من قراءتها.(485/27)
حكم بناء المنارة للمسجد
السؤال
هل في الحديث الأخير دلالة على أن بناء المنارة للمسجد ليست ببدعة؛ لذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها وإقرارها؟
الجواب
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن وجود منارة لا يستدل به على مشروعيتها، وقد مر بنا عند أبي داود باب الأذان على المنارة، وأتى بالحديث الذي فيه أنه كان يرقى المؤذن على أعلى البيوت عند المسجد، فاستدل به على المنارة، لكن هذا الإخبار بهذا الأمر الذي سيقع لا يدل على مشروعيتها.(485/28)
اقتتال الناس على الذهب الذي ينحسر عنه الفرات
السؤال
هل نسبة نجاة واحد في المائة في الذهب الذي سينحسر عنه الفرات خاصة بأهل تلك المنطقة أم تشمل جميع المسلمين؟
الجواب
هي في الذين يحضرونه ويتنافسون عليه لأخذه، فيهلك منهم تسعة وتسعون وينجو واحد.(485/29)
علة النهي عن الأخذ من الذهب الذي ينحسر عنه الفرات
السؤال
لماذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأخذ من ذلك الذهب الذي ينحسر عنه الفرات؟
الجواب
لما فيه من الهلاك فلا يجوز للإنسان أن يعرض نفسه للهلاك بسبب الحرص على الدنيا، فما دام أن نسبة الهلاك 99% فالهلاك محقق، ولا نجاة إلا لواحد في المائة، وهي نسبة يسيرة جداً.(485/30)
حكم من يتبع الدجال
السؤال
هل كل من يتبع الدجال ويفتن به يكون مصيره إلى النار خالداً مخلداً فيها؟
الجواب
كل من صدقه يكون كافراً، ولا شك أن الكفار مخلدون في النار، لكن بعض الذين يتبعونه قد يكونون مسلمين ولكنهم يفتنون به، فمثل هؤلاء لا يصلون إلى حد الكفر؛ ولهذا أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن من أدركه فليعمد إلى النار التي معه فإنه سيجدها ماء، ولا يعمد إلى الماء الذي معه فسيجده ناراً، وهذا يشعر بأن بعض المسلمين قد يكونون معه، فأرشدهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأخذ بالشيء الذي باطنه خير وإن كان ظاهره شراً، وهذا يدل على أنه ليس كل من يكون عند الدجال يكون كافراً؛ لأنه أرشد إلى أن من وجد كذا فليأخذ كذا وليترك كذا، وهذا ليس خطاباً للكفار، وأما من صدقة وقال: إنه إله فلا شك أنه كافر.(485/31)
معنى كون عين الدجال طافية
السؤال
ألا ينافي قوله في الحديث: (إن عينه مطموسة ليستة بناتئة ولا جحراء) ما جاء بأنها: (عنبة طافية)، فالطافية بمعنى الناتئة؟
الجواب
لا تفسر بالناتئة؛ لأن هذا يخالف ما جاء في هذا الحديث، لكن تفسر بتفسير يطابق ما جاء في هذا الحديث، فيكون معنى طافية أنها منكمشة، ومعلوم أن العنبة إذا كانت على هيئتها ونضرتها فإنها تكون بارزة، وإذا كان فيها مرض أو اضمحلال وضمور فلا تكون على وجه حسن.(485/32)
حكم من أنكر أحاديث خروج الدجال
السؤال
ما حكم من أنكر خروج الدجال مثل المودودي حيث يقول في بعض كتبه: إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن خروج الدجال في زمانه فقال: (يوشك) ومع ذلك لم يخرج الدجال، فدل على أنه لا يوجد دجال؟
الجواب
أحاديث الدجال موجودة في الصحيحين، والمودودي عندما ذكر حديث المهدي قال: حديث المهدي لم يأت في الصحيحين كأحاديث الدجال، فهذا الكلام الذي ينقل عن أبي الأعلى المودودي ما أدري ما صحته، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يعلم بالوقت الذي يخرج فيه الدجال، وقد جاء في بعض الروايات أنه قد يخرج وهو موجود؛ ولهذا قال: (إن يخرج وأنا فيكم)، ولذلك كان يظن أن ابن صياد هو الدجال، وبعد ذلك أطلعه الله عز وجل بأنه يكون في آخر الزمان، وأنه يأتي قبله كذا، وبعده كذا، كما جاء ذلك مبيناً في الأحاديث الصحيحة، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قال بعض أحاديث الدجال قبل أن يعلم بوقته، كما أن الأنبياء من قبله -ومنهم نوح- حذروا من فتنة الدجال، وهم لا يعلمون الوقت الذي يخرج فيه، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر حذر منه قبل أن يعلم أن خروجه يكون في آخر الزمان، ولكنه بعد ذلك جاءت عنه نصوص صحيحة ثابتة تدل على أن خروجه في آخر الزمان، وأنه لن يخرج في زمانه عليه الصلاة والسلام، وكان قبل ذلك يظن أو يخشى أن يخرج في زمانه؛ ولهذا قال: (فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه).
وإنكار أحاديث الدجال أمر خطير، فهي متواترة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثير من الناس في هذا الزمان ينكرون أحاديث الدجال وهي في الصحيحين، ومنهم محمد فريد وجدي صاحب (دائرة معارف القرن العشرين)، فإنه في هذا الكتاب تكلم على أحاديث الدجال وقال: إنها كلها موضوعة مختلقة وليست بصحيحة! وأتى بكلام ساقط في هذا، وكذلك غيره من المفتونين الذين لم يوفقوا بالأخذ بما جاءت به النصوص عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وممن أنكرها محمد عبده وكذلك الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار، وقال: إن خروج الدجال رمز لظهور الباطل، ونزول عيسى وقتله الدجال رمز لانتصار الحق على الباطل! وهذا كلام باطل غير صحيح، والشيخ الهراس رحمة الله عليه كتب كتاباً في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وكان كلامه موجهاً إلى الشيخ محمد رشيد رضا وما جاء في تفسيره المنار، وقال: إن الإنسان الذي يقول هذا مخاطر بدينه.
وهل معنى هذا أن الدجال يكون مستقراً في فلسطين، حيث إن باب لد في فلسطين؟ ليس هناك دليل يدل على هذا، ولكن تكون نهايته أو آخر أمره في ذلك المكان الذي يقتل فيه، وإلا فإنه يطوف في الدنيا، ويخرج من خلة بين الشام والعراق، ومعه سبعون ألفاً من يهود أصبهان عليهم الطيالسة، وهم أكثر أتباعه، ثم يأتي إلى المدينة فيمنع منها ولا يدخلها، وكما جاء في الحديث: (ترجف ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل كافر وكافرة، وكل منافق ومنافقة)، وفي النهاية يكون في ذلك المكان الذي يقتل فيه.(485/33)
تعريف بابن محمود رئيس محاكم قطر
السؤال
ذكرتم في خلال الرد ابن محمود، فمن هو ابن محمود؟
الجواب
ابن محمود هو رئيس محاكم قطر، وقد توفي قبل عدة سنوات، وله كتابات كثيرة، ولكنه عنده شيء من الجنوح إلى كلام هؤلاء المتأخرين الذين يحكمون العقول ويتهمون النقول بسبب العقول، فكلامه فيه إنكار لأحاديث المهدي وكله مبني على كلام مثل محمد فريد وجدي، ومثل أحمد أمين وغيرهم من الكتاب الذين يتكلمون عليها بعقولهم وليس بمقتضى النصوص، فيتهمون النقول ولا يتهمون العقول.
وقد كان في زمن الشيخ محمد بن إبراهيم، وكان قد كتب رسالة ذكر فيها أنه يجوز أن يرمي الرامي الجمرات قبل الزوال، وحصل بينه وبين الشيخ محمد إبراهيم مكاتبات، وأخيراً: ألف الشيخ محمد بن إبراهيم كتاباً سماه (تحذير الناسك مما أحدثه ابن محمود في المناسك).(485/34)
حكم القنوت في الصلوات بغير إذن ولي الأمر
السؤال
أنا إمام مسجد وأريد أن أقنت في الصلوات، مع العلم أن المسجد لا يتبع الأوقاف فهو مسجد خاص، فهل يجوز لي ذلك؟
الجواب
الذي ينبغي أن يكون ذلك بإذن ولي الأمر.(485/35)
الحكمة في قتل عيسى للخنزير في آخر الزمان
السؤال
ما الحكمة في قتل عيسى عليه الصلاة والسلام للخنزير إذا نزل في آخر الزمان؟
الجواب
من المعلوم أن النصارى والكفار يأكلون الخنزير، ويعبدون الصليب، فهو يكسر الصليب الذي يزعمون أنه رمز له، وأنه صلب عليه، وكذلك يقتل الخنزير الذي هو محرم في هذه الشريعة، وهو نجس.(485/36)
الحكمة في وضع عيسى للجزية في آخر الزمان
السؤال
إذا كان عيسى يحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم فإن الشريعة الإسلامية تأخذ الجزية من غير المسلمين، فلماذا يضع الجزية؟
الجواب
هذا في آخر الزمان، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أخبر بهذا، وهذا في نهاية الدنيا، فلا يقبل إلا الإسلام فقط.(485/37)
الجمع بين قوله (أرأيتم ليلتكم هذه لا يبقى على وجه الأرض)، وبقاء الدجال
السؤال
ما هو وجه الجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج قبل موته: (أرأيتم ليلتكم هذه، لا يبقى على وجه الأرض)، وبقاء الدجال؟
الجواب
هذا مستثنى، فمسيح الهداية عليه السلام موجود في السماء، ومسيح الضلالة موجود في الأرض، فهذا مستثنى من هذا الحديث.(485/38)
فتنة الدجال تعم الأحياء دون الأموات
السؤال
هل فتنة الدجال تعم الأحياء والأموات، والجن والإنس؟
الجواب
الأموات -كما هو معلوم- ليس لهم علاقة بالفتنة التي تكون في الدنيا؛ لأنهم في قبورهم، ومن كان في قبورهم فهو إما في نعيم وإما في جحيم، فالأموات عندهم فتنة القبر والممات، وأما فتنة الدجال فهي من فتنة المحيا، ففتن المحيا عديدة ومنها فتنة الدجال، وفتنة الممات منها فتنة عذاب القبر، فالأموات لا علاقة لهم بفتنة الدجال، وإنما يكون ذلك على الذين هم موجودون في زمن الدجال، فمنهم من تصيبه فتنته، ومنهم من يسلم وهم الذين يبتعدون عنه ولا يلحقون به، كما جاء في الحديث: (من أدركه الدجال فلينأ عنه) أي: فليبتعد عنه، فإن الإنسان يحسب أنه مؤمن، فإذا رآه ورأى ما معه تغير وضعه وحاله كما جاء في الحديث الذي مر بنا.(485/39)
حكم القول بأن الدجال موجود في مثلث برمودا
السؤال
اشتهر عن الذين يتعاملون مع الجن أنهم يقولون: إن الدجال موجود الآن في مثلث برمودا، فهل يصح مثل هذا الكلام؟!
الجواب
لا يصدق بكلام الدجالين لا من الإنس ولا من الجن.(485/40)
طول الأيام في زمن الدجال ليس لها تعلق بقبول التوبة وردها
السؤال
إذا كانت التوبة لا تقبل عندما يعاين الإنسان الآخرة مثل الغرغرة، وطلوع الشمس من مغربها، فإن في هذا اليوم الذي كسنة في زمن الدجال، تكون الشمس فيه ظاهرة لمدة ثلاثة أشهر تقريباً، أفلا تكون هذه آية عظيمة من جنس طلوع الشمس من مغربها؛ لأن كليهما آية علوية؟
الجواب
هذا الذي جاء في حديث الدجال من أن اليوم كسنة، لم يأت فيه شيء يتعلق بالتوبة وقبولها أو عدم قبولها، وإنما جاء ذلك عند خروج الشمس من مغربها، وهذا اليوم لا شك أنه من آيات الله، ولكن الشمس على مسارها تسير سيراً بطيئاً من المشرق إلى المغرب، وأما خروج الشمس من مغربها فإنها بدلاً من أن تأتي من المشرق تأتي من المغرب، وهذا الذي جاء فيه أن التوبة لا تقبل في ذلك الوقت، وأما وقت الدجال وأيامه الطويلة والقصيرة فإن التوبة مقبولة، ولم يغلق باب التوبة، وإنما يغلق عند خروج الشمس من مغربها كما جاء ذلك بالقرآن والسنة.(485/41)
كيفية الرد من أنكر فتنة الدجال استناداً للعقل
السؤال
هل يصلح أن يضم إلى جوابكم عن شبهة فريد وجدي العقلية التي يقول فيها: كيف يعقل أن البشر يألفون بشراً إلى آخر كلامه أن يقال: ألا تعجب من الذين اتخذوا من دون الله أوثاناً آلهة، فعبدوا الحجارة، وعبدوا البقر، والأشجار، وصغار الحيوانات والحشرات، كما نسمعه عن بعضهم في بعض البلدان، فهذا أعظم قبحاً عند أصحاب العقول السليمة، فالدجال فتنته أعظم لما أذن الله له بتملك هذه الخوارق، وأما الحجارة والأموات فليس لهم خوارق، فأيهما أعجب؟
الجواب
لا شك أن هذا يدل على سفه الذين يعبدون غير الله عز وجل، سواءً عبدوا الدجال أو عبدوا الأوثان، لكن فريد وجدي كلامه على اعتبار أن هذا شخص يمشي يدعو إلى ألوهيته وهو نفسه فيه نقص موجود لا يستطيع أن يكمله، ومكتوب بين عينيه كافر يقرؤه الكاتب وغير الكاتب، ومعلوم أن الكفار يعبدون الأوثان والأحجار، لكن هو يقول: إن الناس الآن قد عندهم التقدم فكونه يروج عليهم شخص أعور يقول: إنه إلههم، ثم ينساقون له، أقول هذا بعيد! فهو ينكر كل ما يتعلق بالدجال، وأنه لا وجود له، وأنه خرافة، وأنها كلها أحاديث موضوعة لا قيمة لها، فهو يستبعد أن الناس يروج عليهم هذا الشيء، ولكن القضية كما هو معلوم أن البصائر إذا عميت عميت الأبصار معها.(485/42)
معنى وصف عيسى عند نزوله: (كأن رأسه يقطر)
السؤال
قيل: إن معنى: (كأن رأسه يقطر) أن عيسى لما رفع إلى السماء رفع بعد وضوئه، فكان رأسه مبلل، فهو ينزل على تلك الحال، ويبقى على حاله؟
الجواب
هذا يحتاج إلى ثبوت، وحتى لو حمل على هذا فلا يدل على أن هذا موجود ومستمر معه، فالأمر يحتاج إلى ثبوت هذا الكلام.(485/43)
كيفية الجمع بين حديث خراب المدينة، وحديث (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة)
السؤال
كيف يجمع بين حديث خراب المدينة في آخر الزمان، وبين حديث: (إن الإيمان يأرز إلى المدينة)؟
الجواب
يحمل هذا على ما كان قبل خرابها، فمجيء الناس إليها يكون قبل خرابها.(485/44)
حكم صلاة النساء في المسجد النبوي مع تغطية وجوههن
السؤال
الأخوات في قسم النساء هنا في المسجد النبوي أشكل عليهن أنهن يصلين بخمار ويغطين وجوههن، وسبب ذلك وجود كاميرات داخل مصلى النساء، فهل تصح صلاتهن بالخمار؟
الجواب
نعم تصح، فإذا كان سيحصل تصويرهن أو خروج صورهن فلهن أن يغطين وجوههن مثلما يغطين وجوههن عند الرجال، وإذا كانت صورهن ستظهر وهن كاشفات فعليهن أن يتسترن.(485/45)
حكم ميراث من يستغيث بالقبور ويذبح لها ويدعو أصحابها
السؤال
توفي جدي في بلد عربي وهو يقول: لا إله إلا الله، ويصلي ويصوم، ولكن كان يذهب إلى قبور الأولياء، ويدعوها، ويذبح لها، ومات على ذلك، فهل أرثه؟ وهل أدعو له بالمغفرة والرحمة، علماً بأنه جاهل؟
الجواب
إذا كان معروفاً عنه أنه يستغيث بغير الله، ويدعو غير الله، ويذبح لأصحاب القبور، فهذا هو الشرك بالله عز وجل، وصاحب هذا اختلف فيه العلماء هل يحكم عليه بمجرد فعله أنه كافر، أو تقام عليه الحجة؟ والأظهر أنه تقام عليه الحجة، لكن من كان كذلك فلا ينبغي للإنسان أن يرثه، وعليه أن يتنزه من ميراثه.(485/46)
شرح سنن أبي داود [486]
لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته فتنة المسيح الدجال، وما من نبي قبله إلا حذر أمته منه، ويعد خروج المسيح الدجال في الأمة من علامات يوم القيامة الكبرى.(486/1)
ما جاء في خبر الجساسة(486/2)
شرح حديث الجساسة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في خبر الجساسة.
حدثنا النفيلي حدثنا عثمان بن عبد الرحمن حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر العشاء الآخرة ذات ليلة ثم خرج فقال: إنه حبسني حديث كان يحدثنيه تميم الداري عن رجل كان في جزيرة من جزائر البحر، فإذا أنا بامرأة تجر شعرها قال: ما أنت؟ قالت: أنا الجساسة، اذهب إلى ذلك القصر، فأتيته فإذا رجل يجر شعره مسلسل في الأغلال ينزو فيما بين السماء والأرض، فقلت: من أنت؟ قال: أنا الدجال، خرج نبي الأميين بعد؟ قلت: نعم، قال: أطاعوه أم عصوه؟ قلت: بل أطاعوه، قال: ذاك خير لهم)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب: في خبر الجساسة، أي: في خبر الحديث الذي جاء فيه ذكر الجساسة، وهو من جملة أحاديث الدجال إلا أنه اشتهر عند العلماء بحديث الجساسة؛ لأنه جاء في ذكر الجساسة، وهي الدابة أو المرأة التي تتجسس للدجال في تلك الجزيرة التي هو فيها، وقد ذكر خبره في ذلك تميم بن أوس الداري لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أورد أبو داود حديث فاطمة بنت قيس رضي الله تعالى عنها، أن في خبر تميماً الداري أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل كان في جزيرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تأخر عن أصحابه في صلاة العشاء، فأخبرهم بالذي شغله، وأن تميماً الداري كان يحدثه عن ذلك الخبر الذي شاهده وعرفه في تلك الجزيرة، وجاء فيه أن امرأة قالت: أنا الجساسة، اذهبوا إلى ذلك القصر فإن فيه رجلاً، فذهبوا إليه، فقال لهم: إنه الدجال، ثم سأله: هل خرج نبي الأميين؟ فقالوا: نعم، إنه قد خرج، فقال: أطاعوه أم عصوه؟ قال: بل أطاعوه، قال: ذاك خير لهم)].
هذا الحديث يدل على وجود الدجال في تلك الجزيرة، وأنه سيخرج في آخر الزمان، وهو موثق بالأغلال، ورأوا ضخامته وعظم خلقه، وقد عرفنا فيما مضى أنه رجل قصير، وهذا لا ينافي كونه عظيم الخلقة، فهو عظيم وقصير وكان موثقاً، وينزو بين السماء والأرض، أي: أنه يضطرب ويتحرك من علو إلى سفل.
قوله: [(إنه حبسني حديث كان يحدثنيه تميم الداري عن رجل كان في جزيرة من جزائر البحر)].
أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تأخر عنهم عن الوقت المعتاد الذي كانوا قد اعتادوه، وأخبرهم بسبب تأخره، وأن تميماً الداري كان يحدثه بحديث ذلك الرجل الذي في الجزيرة، والرجل هو الدجال، وجاء في الحديث أنه يوجد في المشرق، وأشار إلى جهة المشرق وسيأتي في الحديث، لكن تحديد مكانه بالضبط فالله تعالى أعلم به.
قوله: [(فإذا أنا بامرأة تجر شعرها)].
وهذه هي الجساسة، وفي بعض الأحاديث في صحيح مسلم (دابة تجر شعرها).
يعني: لكثافته وطوله.
وهل هي دابة أو امرأة؟ أجاب بعض العلماء أن المرأة من جملة الدواب، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:6]، وذكر في (عون المعبود) ثلاثة أوجه من وجوه الجمع، حيث قال: يحتمل أن للدجال جساستين: إحداهما دابة، والثانية امرأة، ويحتمل أن الجساسة كانت شيطانة تمثلت تارة في صورة دابة وأخرى في صورة امرأة، وللشيطان قدرة التشكل في أي تشكل يريد، ويحتمل أن تسمى المرأة دابة مجازاً كما في قوله تعالى: ((وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)).
فهذه ثلاثة وجوه، وكون الشيطان يتمثل على صورة الحيوان وعلى صورة الإنسان حاصل، فالشيطان الذي تحاور مع أبي هريرة وكان يأخذ من الطعام، هو شيطان من الجن جاء على صورة إنسان، وكذلك أيضاً الحديث الذي جاء عن قتل الحيات وأنهن عوامر البيوت، فيه أن الجن يتشكلون بها، ويأتون على صور الدواب، فيحصل منهم هذا، ويحصل منهم هذا.
قوله: [(قال: ما أنت؟ قالت: أنا الجساسة اذهب إلى ذلك القصر)].
في بعض الروايات: الدير.
قوله: [(فأتيته فإذا رجل يجر شعره مسلسل في الأغلال ينزو فيما بين السماء والأرض)].
يعني: يتحرك ويضطرب، فيرتفع على الأرض وينزل، لكن ليس معنى ذلك أنه يرتفع إلى مسافة، وإنما كونه يتحرك من سفل إلى علو.
قوله: [(فقلت: من أنت؟ قال: أنا الدجال، خرج نبي الأميين بعد؟ قلت: نعم، قال: أطاعوه أم عصوه؟ قلت: بل أطاعوه)].
الأميون: هم العرب، ويقال لهم الأميون؛ لأنهم في الغالب لا يقرءون ولا يكتبون، وإن كانت القراءة والكتابة موجودة فيهم، لكن الغالب هو عدم الكتابة والقراءة.
قوله: [(قلت: بل أطاعوه، قال: ذاك خير لهم)].
يعني: إذا أطاعوه، وهذا كلام حق صدر من مبطل، وكما يقال: والحق ما شهدت به الأعداء.(486/3)
تراجم رجال إسناد حديث الجساسة
قوله: [حدثنا النفيلي].
هو عبد الله بن محمد النفيلي، ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عثمان بن عبد الرحمن].
عثمان بن عبد الرحمن صدوق أكثر الرواية عن الضعفاء والمجاهيل فضعف بسبب ذلك، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن أبي ذئب].
وهو: محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن فاطمة بنت قيس].
فاطمة بنت قيس صحابية رضي الله عنها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(486/4)
شرح حديث الجساسة من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حجاج بن أبي يعقوب حدثنا عبد الصمد حدثنا أبي قال: سمعت حسيناً المعلم قال: حدثنا عبد الله بن بريدة حدثنا عامر بن شراحيل الشعبي عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: (سمعت منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: أن الصلاة جامعة؛ فخرجت فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته جلس على المنبر وهو يضحك، قال: ليلزم كل إنسان مصلاه ثم قال: هل تدرون لم جمعتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إني ما جمعتكم لرهبة ولا رغبة، ولكن جمعتكم أن تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً فجاء فبايع وأسلم، وحدثني حديثاً وافق الذي حدثتكم عن الدجال، حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهراً في البحر، وأرفئوا إلى جزيرة حين مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة، فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثيرة الشعر قالوا: ويلك ما أنت؟ قالت: أنا الجساسة، انطلقوا إلى هذا الرجل في هذا الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق، قال: لما سمت لنا رجلاً فرقنا منها أن تكون شيطانة، فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقاً وأشده وثاقاً، مجموعة يداه إلى عنقه، فذكر الحديث، وسألهم عن نخل بيسان، وعن عين زغر، وعن النبي الأمي قال: إني أنا المسيح، وإنه يوشك أن يؤذن لي في الخروج، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وإنه في بحر الشام أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق ما هو مرتين، وأومأ يبده قبل المشرق، قالت: حفظت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق الحديث)].
أورد أبو داود حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها في قصة الدجال والجساسة، وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمران ينادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس وصلى بهم، ثم قام وجلس على المنبر وهو يضحك، فقال: إني ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة)، يعني: لا تترغيب ولا لترهيب، لا لأمر يرغب فيه أو يرهب منه، وإنما للإخبار بشيء قد حصل، وهو أن تميماً الداري كان نصرانياً وأسلم، وأنه حدثه بحديث كان مماثلاً ومطابقاً لما كان قد حدثهم به، وذلك أنهم كانوا في البحر، فقذفت بهم الأمواج إلى جزيرة، فنزلوا فيها ورأوا دابة أهلب -يعني: كثيرة الشعر- وقالت: أنا الجساسة، اذهبوا إلى هذا رجل في ذلك الدير؛ فإنه إلى خبركم بالأشواق تعني: أنه شديد الشوق إليكم وإلى معرفة أخباركم- فذهبوا إليه ورأوه موثق بالحديد، وذكروا صفة توثيقه بالحديد، ثم بعد ذلك سألهم عن نخل بيسان، وعن عين زغر، ثم سألهم عن النبي وخروجه، فأخبروه بذلك فقال لهم: إنه هو الدجال، وأنه يوشك أن يؤذن له بالخروج، على الناس، فيحصل منه ذلك الشيء الذي جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث يدل على وجود الدجال وأنه موثق بتلك الجزيرة، وأنه يخرج في آخر الزمان عندما يؤذن له بالخروج، وهو مخصص لحديث: (أنه لن يأتي مائة سنة وهناك على ظهر الأرض نفس)، فيكون هذا الحديث مخصص للجساسة، والدجال من ذلك، وأنه موجود، وسيخرج في آخر الزمان، فيكون ما جاء في حديث الجساسة والدجال مستثنى من عموم ذلك الحديث.
فإن قيل: ألا تدخل الجساسة والحور العين، والملائكة، والجن وأشياء كثيرة من خلق الله مما كتب الله لها البقاء ألا تدخل هذه كلها في هذا الحديث؟ فيقال: لا؛ لأن المقصود بهذا الحديث الإنس، ومعلوم أن الدجال من بني آدم، وأما الجن والملائكة فهم عالم آخر، فيعمرون ويبقون فترة طويلة، وهذا ما فيه إشكال بالنسبة للملائكة، وأما بالنسبة للجن الله أعلم لا نعلم يعني مدة أعمارهم، ولكن الكلام على بني آدم.
وأما الجساسة فلا ندري هل تبقى أو ما تبقى؟! قوله: [عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: (سمعت منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي أن الصلاة جامعة فخرجت فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
وهذه الصلاة التي نودي لها والله الذي يبدو أنها ليست فريضة، كأنها والله أعلم نافلة؛ لأن الفريضة لا ينادى لها الصلاة جامعة، وإنما ينادى بالأذان.
قوله: [(فخرجت فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته جلس على المنبر وهو يضحك)].
وليست هذه خطبة، وإنما حدثهم بهذه القصة وهو على المنبر، وكأن جلوسه على المنبر حتى يروه ويشاهدوه، وأما خطبة الجمعة فإنها لا تكون إلا عن قيام، وليس للإنسان أن يجلس فيها.
قوله: [(قال: ليلزم كل إنسان مصلاه، ثم قال: هل تدرون لم جمعتكم؟)].
وهذا يبين بأن هذه الصلاة ليست صلاة فريضة، فإنه قال: (ليلزم كل مصل مكانه، ثم قال: هل تدرون لماذا جمعتكم) أي: أنه جمعهم ليحدثهم بهذا الحديث.
قوله: [(قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إني ما جمعتكم لرهبة ولا رغبة، ولكن جمعتكم أن تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً فجاء فبايع وأسلم، وحدثني حديثاً وافق الذي حدثتكم عن الدجال)].
وهذا يعني أن تميم الداري رأى هذا في حال كفره وقبل إسلامه، فيكون مما تحمله في كفره وأداه وحدث به بعد إسلامه.
قوله: (حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام فلعب بهم الموج شهراً في البحر)].
أي: أن الأمواج تلعبت بهم حتى قذفتهم إلى الجزيرة.
قوله: [(وأرفئوا إلى جزيرة حين مغرب الشمس)].
معناه: أنهم مالوا إليها ليربطوا السفينة حتى ينزلوا الأشياء الثقيلة التي تمسكها لئلا تذهب، ويكون ذلك قريباً من الجزيرة، ثم ركبوا القوارب الصغيرة التي ينتقلون بها من السفينة إلى البر.
قوله: (فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة، فلقيتهم دابة أهلب كثيرة الشعر، قالوا: ويلك ما أنت؟ قالت أنا الجساسة)].
وهذ ليس فيه شيء يدل على أنا دابة الأرض التي تكلم الناس كما في سورة النمل، بل هي دابة من الدواب.
قوله: (انطلقوا إلى هذا الرجل في هذا الدير)].
الدير: مكان عبادة عند النصارى واليهود.
قوله: (فإنه إلى خبركم بالأشواق قال)].
أي: أنه مشتاق إلى أخباركم.
قوله: (قال: لما سمت لنا رجلاً فرقنا منها أن تكون شيطانة)].
وهذا قد يفهم منه أنها امرأة، لأنها لو كانت على شكل آخر غريب لكان الخوف أشد، لكن قالوا: (فرقنا أن تكون شيطانة) الفرق هو الخوف.
ومعلوم أن شياطين الجن يتشكلون على صور الإنس، كما أنهم يأتون على صور الحيوانات، وكذلك الملائكة يحصل منهم التشكل على صورة الإنسان، فالملائكة يأتون بصورة الإنسان، وصاحب أبي هريرة الذي كان يأخذ الطعام كان من الجن، وقد جاء على صورة إنسان، والملائكة الذين كانوا ضيوف إبراهيم جاءوا على صورة رجال حسان، وجبريل جاء إلى مريم بصورة بشر، وكذلك جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام بصورة دحية بن خليفة الكلبي وجاء بصورة رجل غير معروف كما في حديث جبريل المشهور.
قوله: (فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقاً وأشده وثاقاً، مجموعة يداه إلى عنقه، فذكر الحديث وسألهم عن نخل بيسان، وعن عين زغر، وعن النبي الأمي)].
(بيسان) هي مدينة في الأردن في الغور الشامي، يقال: هي لسان الأرض، وهي بين حوران وفلسطين بها عين الفلوس، وهي عين فيها ملوحة يسيرة، وتوصف بكثرة النخل، قال ياقوت: وقد رأيتها مراراً فلم أر فيها غير نخلتين حائلتين، وهو من علامات خروج الدجال.
(وعين زغر) قال ياقوت: حدثني الثقة أن زغر هذه في طرف البحيرة المنتنة في واد هناك، بينها وبين بيت المقدس ثلاثة أيام، وهي من ناحية الحجاز، ولهم هناك زروع.
قوله: (قال: إني أنا المسيح وإنه يوشك أن يؤذن لي في الخروج، قال النبي صلى الله عليه وعلى وسلم: وإنه في بحر الشام أو بحر اليمن، لا، بل من قبل المشرق ما هو مرتين، وأومأ يبده قبل المشرق، قالت: حفظت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساق الحديث)].
قال: إنه في بحر الشام أو بحر اليمن، ثم قال: لا، بل الأقرب أنه إلى جهة المشرق، وأشار إليه مرتين: قوله: (من قبل المشرق ما هو) يعني: أنه أقرب إلى جهة المشرق، وأما حرف (ما) فإنهم يسمونه صلة، أي يؤتى به صلة في الكلام وليست نافية، وهي نظير ما جاء في القرآن، {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ) [فصلت:20] أي: حتى إذا جاءوها، {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ) [فصلت:20].
ومعناه هنا: إلى جهة الشرق هو، وتكون (ما) صلة زائدة وليست نافية.
وقوله: (وإنه في بحر الشام أو بحر، اليمن لا) هذا إضراب، فكأنه قبل كان متردداً هل هو هنا أو هنا، ولكنه بعد ذلك أخبر بأنه في جهة الشرق.
قوله: [(لا، بل من قبل المشرق ما هو، مرتين)].
حرف (ما) هنا جاء صلة، وهو من جنس: ((حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ))، ومن جنس: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد:29] حرف لا {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد:29] ومن جنس: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف:12] أي: أن تسجد، فحرف (ما) وحرف (لا) قد يأتيان صلة في الكلام.(486/5)
تراجم رجال إسناد حديث الجساسة من طريق ثانية
قوله: [حدثنا حجاج بن أبي يعقوب].
حجاج بن أبي يعقوب ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا عبد الصمد].
هو عبد الصمد بن عبد الوارث صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبي].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت حسيناً المعلم].
حسين المعلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن بريدة].
هو عبد الله بن بريدة بن الحصيب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عامر بن شراحيل الشعبي].
عامر بن شراحيل الشعبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن فاطمة بنت قيس].
فاطمة بنت قيس مر ذكرها.(486/6)
الجمع بين بعض الألفاظ التي ظاهرها التعارض
جاء في هذا الحديث أنه نادى مناد أن الصلاة جامعة، وفي الحديث الذي قبله: (أخر صلى الله عليه وسلم العشاء الآخر ذات ليلة ثم خرج فقال: إنه حبسني حديث كان يحدثنيه تميم الداري)].
فالله أعلم هل أدري هذه قصة واحدة أو قصتان، لكن في غالب الظن أنها قصة واحدة.
وجاء في بعض الروايات أنه سأل عن بحيرة طبرية كما في صحيح مسلم، فالله أعلم هل سأل عن هذه وهذه، أو أن هذه هي هذه؟(486/7)
معنى قوله (ما جمعتكم لرهبة ولا رغبة)
قوله: (إني ما جمعتكم لرهبة ولا رغبة) مع أن الدجال رهبة، وقد حذر من فتنته، ولكنه أراد أن يخبرهم بالشيء الذي قد حصل، وحدثه به تميم الداري مما شاهده وعاينه.(486/8)
المكان الذي يخرج منه الدجال
جاء في الترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الدجال يخرج من أرض المشرق يقال لها: خراسان) صححه الألباني عن أنس رضي الله عنه.
وجاء في صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان: (يخرج من خلة بين الشام والعراق)، وهذا من تلك الجهة، وأيضاً في نفس حديث النواس: (يتبعه سبعون ألفاً من يهود أصبهان).
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج الدجال من يهودية أصبهان، معه سبعون ألفاً من اليهود).
قوله: (من يهودية) كأنه مكان فيه اليهود، ويكون عددهم سبعون ألفاً، في قصة ابن صياد حيث كان الرسول يخشى أن يكون هو الدجال؛ لأنه يهودي.
قال ابن حجر: وأما من أين يخرج: فمن قبل المشرق جزماً.
وهذا لا شك فيه؛ لأن في حديث النواس الطويل أنه يخرج من خلة بين الشام والعراق، ويتبعه سبعون ألفاً من يهود أصبهان، كما في صحيح مسلم معناه: أنه يأتي ومعه هذا العدد وعليهم الطيالسة.
قال ابن كثير: فيكون بدء ظهوره من أصبهان من حارة يقال لها: اليهودية.(486/9)
شرح حديث الجساسة من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن صدران حدثنا المعتمر حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن مجالد بن سعيد عن عامر قال: حدثتني فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر ثم صعد المنبر، وكان لا يصعد عليه إلا يوم جمعة قبل يومئذ ثم ذكر هذه القصة)].
ثم ذكر حديث فاطمة بنت قيس من طريق أخرى، وقال: إنه صلى الظهر وصعد المنبر، وكان لا يصعد إلا يوم الجمعة، والحديث في إسناده مجالد بن سعيد، وقد ضعف هذا الحديث الألباني؛ ولعله من جهة مجالد بن سعيد.(486/10)
تراجم رجال إسناد حديث الجساسة من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا محمد بن صدران].
هو محمد بن إبراهيم بن صدران، وهو صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا المعتمر].
هو المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسماعيل بن أبي خالد].
إسماعيل بن أبي خالد، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجالد بن سعيد].
مجالد بن سعيد ليس بالقوي، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عامر عن فاطمة].
عامر هو الشعبي، وفاطمة بنت قيس مر ذكرهما.
[قال أبو داود: وابن صدران بصري غرق في البحر مع ابن مسور، لم يسلم منهم غيره].
كأن ابن مسور هذا كان كبيراً، ومعه جماعة ومنهم ابن صدران، فهلكوا ولم ينج منهم إلا ابن صدران هذا، فهذا من أخبار ابن صدران.(486/11)
شرح حديث الجساسة من طريق رابعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا واصل بن عبد الأعلى أخبرنا ابن فضيل عن الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على المنبر (إنه بينما أناس يسيرون في البحر فنفد طعامهم، فرفعت لهم جزيرة، فخرجوا يريدون الخبر، فلقيتهم الجساسة فقلت لـ أبي سلمة: وما الجساسة؟ قال امرأة تجر شعر جلدها ورأسها، قالت في هذا القصر فذكر الحديث، وسأل عن نخل بيسان وعن عين زغر، قال: هو المسيح فقال لي ابن أبي سلمة: إن في هذا الحديث شيئاً ما حفظته قال: شهد جابر أنه هو ابن صياد، قلت: فإنه قد مات قال: وإن مات، قلت: فإنه قد أسلم، قال: وإن أسلم، قلت: فإنه قد دخل المدينة، قال: وإن دخل المدينة)].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما وهو يتعلق بقصة الجساسة والدجال.
قوله: [(إنه بينما أناس يسيرون في البحر فنفذ طعامهم، ورفعت لهم جزيرة، فخرجوا يريدون الخبر)].
يعني: بدت وظهرت لهم جزيرة، فذهبوا إليها، وقوله: (يريدون الخبر) وفي بعض الألفاظ: (يريدون الخبز).
قوله: [(فلقيتهم الجساسة، قلت لـ أبي سلمة: وما الجساسة؟ قال: امرأة تجر شعر جلدها ورأسها قالت: في هذا القصر فذكر الحديث، وسأل عن نخل بيسان وعن عين زغر)].
أي: أن المسيح سأل عن نخل بيسان وعين زغر.
قوله: (فقال: هو المسيح) أي: هو أخبر عن نفسه بأنه هو المسيح، أي: الدجال.
قوله: [(وقال لي ابن أبي سلمة: إن في هذا الحديث شيء ما حفظته، قال: شهد جابر أنه هو ابن صياد)].
أي: أن جابراً يقول: إن الدجال هو ابن صياد، وهو رجل من اليهود، وكان أمره مشتبهاً، وبعد ذلك تبين أنه ليس هو الدجال، وإنما هو من جملة الدجاجلة الذين هم قبل الدجال الأكبر.
وابن صياد ستأتي الأحاديث المتعلقة به في الباب الذي بعد هذا.
قوله: [(شهد جابر أنه هو ابن صياد، قلت: فإنه قد مات، قال: وإن مات.
قلت: فإنه قل أسلم.
قال: وإن أسلم.
قلت: فإنه قد دخل المدينة! قال: وإن دخل المدينة)].
ثم ذكر كلام جابر ومراجعته، وأنه قال: وإن كان أسلم وإن كان كذا وإن كان دخل المدينة، يعني: والمقصود من ذلك أنه لا يدخل المدينة بعد خروجه، وأما قبل ذلك فلا ينافي ما جاء في الأحاديث؛ لأن ذاك الدخول كان قبل الخروج، والحديث فيه كلام، فقد ضعفه والألباني.(486/12)
تراجم رجال إسناد حديث الجساسة من طريق رابعة
قوله: [حدثنا واصل بن عبد الأعلى].
واصل بن عبد الأعلى ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا ابن فضيل].
هو محمد بن فضيل بن غزوان، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الوليد بن عبد الله بن جميع].
الوليد بن عبد الله بن جميع صدوق يهم، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبي سلمة بن عبد الرحمن].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، مر ذكره.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، وهو صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[(وقال لي ابن أبي سلمة)].
قوله: [وقال لي ابن أبي سلمة] أي: قاله الوليد وابن أبي سلمة هو عمر بن أبي سلمة.
وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
قوله: [(إن في هذا الحديث شيئاً ما حفظته)].
قاله عمر بن أبي سلمة.
وقوله: [(قال: شهد جابر)] قاله: أبو سلمة.(486/13)
شرح سنن أبي داود [487]
لقد حدث شك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الدجال، حتى وصل ذلك ببعض الصحابة إلى الجزم بأنه ابن صيام الموجود بينهم؛ وذلك لظهور بعض صفات الدجال عليه.(487/1)
ما جاء في خبر ابن صائد(487/2)
شرح حديث ابن عمر في خبر ابن صائد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في خبر ابن صائد.
حدثنا أبو عاصم خشيش بن أصرم حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بـ ابن صائد في نفر من أصحابه فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو يلعب مع الغلمان عند أطم بني مغالة وهو غلام، فلم يشعر حتى ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره بيده، ثم قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: فنظر إليه ابن صياد فقال: أشهد أنك رسول الأميين، ثم قال ابن صياد للنبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول الله؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: آمنت بالله ورسله، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يأتيك؟ قال: يأتيني صادق وكاذب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: خلط عليك الأمر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني قد خبأت لك خبيئة، وخبأ له: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10]، قال ابن صياد: هو الدخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخسأ فلن تعدو قدرك، فقال عمر: يا رسول الله! ائذن لي فأضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن يكنه فلن تسلط عليه -يعني: الدجال-، وإلا يكنه فلا خير في قتله)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في خبر ابن صائد، يقال له: ابن صائد ويقال له: ابن صياد، وهو رجل من اليهود كان في المدينة، وقد اشتبه أمره بالدجال في بعض الصفات حتى كان يظن أنه الدجال، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يعلم في أول الأمر أن الدجال سيأخر زمنه، ولهذا جاء في بعض الأحاديث التي مرت، قال: (فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه، وإلا فامرؤ حجيج نفسه)، يعني: كل امرئ يكون حجيج نفسه.
ولكنه بعد ذلك جاء عنه أحاديث تدل على أنه يكون في آخر الزمان، وأن بين يديه أموراً، وبعده أموراً، وأنه لا يكون في زمانه عليه الصلاة والسلام.
وقد التبس أمر ابن صايد، ولهذا جاء في نفس الحديث الذي أورده أبو داود هنا عن ابن عمر أنه قال لـ عمر: (إن يكن هو فلن تسلط عليه، وإلا يكن هو فلا حاجة لك في قتله).
ومعنى ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يعلم عنه، وأن أمره ملتبس ومشتبه.
قوله: (عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم مر ب ابن صائد في نفر في أصحابه فيهم عمر بن الخطاب، وهو يلعب مع الغلمان عند أطم بني مغالة وهو غلام).
أي: مر الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة من أصحابه وفيهم عمر، مروا بـ ابن صياد وهو يلعب مع الصبيان في ذلك الأطم من أطم بني مغالة، فضرب على ظهر ابن صياد، وقال له: (أتشهد أني رسول الله؟) فقال: أشهد أنك رسول الأميين)، والأميون هم العرب، وكما عرفنا أن الغالب عليهم أنهم أميون لا يعرفون القراءة والكتابة، ومنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك جاء بهذا الكلام وبهذا القرآن الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
قوله: [(فضرب النبي صلى الله عليه وسلم ظهره بيده، ثم قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: فنظر إليه ابن صياد فقال: أشهد أنك رسول الأميين ثم قال ابن صياد للنبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول الله؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: آمنت بالله ورسل)].
قوله: (أتشهد أني رسول الله؟)، قاله ابن صياد! فقال رسول الله: (آمنت بالله ورسله).
وقد قيل: كيف يقول ابن صياد هذا الكلام وهذه الدعاوى ولا يتعرض له بشيء، بل يتركه، وقد أجيب عن ذلك بجوابين: أحدهما: أنه غير بالغ وغير مكلف، ولهذا قال في الحديث: (يلعب مع الصبيان)، والأمر الثاني: أنه كان في أيام مهادنة اليهود وحلفائهم، وهو من جملة اليهود.
قوله: [(فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: آمنت بالله ورسله، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يأتيك؟ قال: يأتيني صادق وكاذب)].
قوله: (ما يأتيك؟) يعني: من الأخبار، قال: (يأتيني صادق وكاذب)، يعني: تأتيه أشياء صدقاً وأشياء تكون كذباً، فأشياء تحصل مطابقة للواقع، وأشياء مخالفة للواقع، وهذا يدل على أنه دجال، وأنه من الكهان الذين تأتيهم الشياطين، ويأتيهم مسترق السمع، فيأتي بالكلمة من الحق فيكذبون معها مائة كذبة، كما جاء ذلك في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: خلط عليك الأمر، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إني قد خبأت لك خبيئة، وخبأ له: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10]، قال ابن صياد: هو الدخ)].
قوله: (خبأت لك خبيئة، فقال: هو الدخ) فقال عليه السلام: (اخسأ فلن تعدو قدرك).
أي: لن تتجاوز قدرك، وأنك من الكهان الذين يعتمدون على ما تلقيه عليهم الشياطين.
قوله: [(فقال عمر عمر: يا رسول الله! ائذن لي فأضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن يكن هو فلن تسلط عليه)].
أي: إن يكن هو الدجال فلن تسلط عليه.
قوله: [(وإلا يكنه فلا خير في قتله) أي: وإن لم يكن هو الدجال فلا خير لك في قتله.(487/3)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر في خبر ابن صائد
قوله: [حدثنا أبو عاصم خشيش بن أصرم].
أبو عاصم خشيش بن أصرم، ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري مر ذكره.
[عن سالم].
سالم بن عبد الله بن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهو الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(487/4)
التعليق على قول ابن صائد (أشهد أنك رسول الأميين)
قول ابن صائد: (أشهد أنك رسول الأميين) لا يدل على أن من آمن إيمان تصديق دون إقرار وعمل لا ينفعه ذلك؟ هذا نفس الكلام الذي يقوله بعض اليهود والنصارى، أنه رسول إلى العرب، ولكن من علم أو من شهد بأنه رسول، فالرسول يجب تصديقه، ومن كذب الرسول فقد كفر؛ لأن كل خبر يخبر به الرسول لا بد من تصديقه، وما دام أنهم آمنوا بأنه رسول إلى العرب، وقد أخبر هو بأنه رسول إلى الناس كافة، وأنه رسول للإنس والجن فيجب تصديقه، ومن كذب بذلك فإنه يكون كافراً.(487/5)
البلوغ ليس شرطاً في تعلم الكهانة
إذا قيل: كيف يكون كاهناً وهو لم يبلغ؟ ف
الجواب
أنه يمكن أن يكون كاهناً وإن لم يبلغ، فلا يلزم البلوغ في تعلم الكهانة، والكاهن قد يعلم أولاده الكهانة وإن لم يبلغوا، ويحتمل أيضاً أن يكون قد بلغ، وأنه كان يلعب مع الصبيان وهو بالغ، وعلى هذا فإنه يكون غير صغير، ويحتمل أنه لم يبلغ.(487/6)
شرح أثر ابن عمر (والله ما أشك أن المسيح الدجال ابن صياد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب -يعني: ابن عبد الرحمن - عن موسى بن عقبة عن نافع قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: والله ما أشك أن المسيح الدجال ابن صياد].
أورد أبو داود هذا الأثر الموقوف على عبد الله بن عمر، وأنه كان يجزم بأن الدجال هو ابن صياد، وذلك لما التبس عليهم أمره، فكانوا يظنون أنه هو، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في أول الأمر ملتبساً عليه، ولهذا قال في كلامه لـ عمر الذي مر: (إن يكن هو فلن تسلط عليه، وإن لم يكن هو فلا لك في قتله)، وهذا يدل على أنه غير متبين لأمره.(487/7)
تراجم رجال إسناد أثر ابن عمر (والله ما أشك أن المسيح الدجال ابن صياد)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن].
يعقوب بن عبد الرحمن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب إلا ابن ماجة.
[عن موسى بن عقبة].
موسى بن عقبة المدني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
ابن عمر قد مر ذكره.(487/8)
شرح أثر جابر في أن الدجال هو ابن صائد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن محمد بن المنكدر قال: رأيت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحلف بالله أن ابن الصائد الدجال، فقلت: تحلف بالله؟! فقال: إني سمعت عمر رضي الله عنه يحلف على ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم].
أورد أبو داود هذا الأثر عن جابر رضي الله عنه، أنه كان يحلف أن ابن صياد هو الدجال، ويستدل على ذلك بأن عمر رضي الله عنه كان يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه.
ولعل هذا -كما هو معلوم- كان على حسب ما ظهر لهم من صفاته، فأمره كان ملتبساً، وكانوا يظنون أنه الدجال، والرسول صلى الله عليه وسلم كان أمره ملتبساً عليه، ثم بعد ذلك تبين أنه إنما يأتي في آخر الزمان.
وفي هذا دليل على أن للإنسان أن يحلف على غالب ظنه، فهذا ليس يقيناً ومع ذلك حلف عليه على غالب الظن.(487/9)
تراجم رجال إسناد أثر جابر أن الدجال هو ابن صائد
قوله: [حدثنا ابن معاذ].
هو: عبيد الله بن معاذ، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
هو معاذ بن معاذ العنبري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
هو شبعة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعد بن إبراهيم].
سعد بن إبراهيم، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن المنكدر].
محمد بن المنكدر، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر رضي الله عنه، قد مر ذكره.(487/10)
شرح أثر جابر (فقدنا ابن صياد يوم الحرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا عبيد الله -يعني: ابن موسى - حدثنا شيبان عن الأعمش عن سالم عن جابر رضي الله عنه قال: فقدنا ابن صياد يوم الحرة].
أورد أبو داود أثر جابر قال: فقدنا ابن صياد يوم الحرة، وذلك سنة ثلاثة وستين، وهي الفتنة التي وقعت في الحرة في المدينة، وحصل فيها ما حصل من البلاء، قال: ومعنى ذلك أنهم لا يدرون أين هو.
قوله: (فقدنا ابن صياد يوم الحرة) صحح ابن حجر هذه الرواية، وضعف قول من ذهب إلى أنه مات في المدينة، وأنهم كشفوا عن وجهه، وصلوا عليه، وهذا مذكور في الفتح، في الجزء الثالث عشر.(487/11)
تراجم رجال إسناد أثر جابر (فقدنا ابن صياد يوم الحرة)
قوله: [حدثنا أحمد بن إبراهيم].
هو أحمد بن إبراهيم الدورقي، ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا عبيد الله يعني: ابن موسى].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شيبان] هو شيبان بن عبد الرحمن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم].
هو سالم بن أبي الجعد، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله قد مر ذكره.(487/12)
شرح حديث (لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالون كلهم يزعم أنه رسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد العزيز -يعني: ابن محمد - عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالون كلهم يزعم أنه رسول الله)].
سبق ذكر بعض الأحاديث التي أوردها أبو داود في سننه في خبر ابن صياد، والذي كان أمره مشتبهاً هل هو الدجال أو غير الدجال، ولكنه لا شك من جملة الدجاجلة الذين أخبر عنهم الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: (لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالون، كل يزعم أنه رسول الله).
وهو وإن لم يكن الدجال الأعظم فهو من جملة الدجاجلة الذين جاءوا قبل الدجال الأعظم، والذين أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن الساعة لا تقوم حتى يزعم كل واحد من هؤلاء الدجالين أنه رسول الله، ومحمد عليه الصلاة والسلام هو خاتم النبيين لا نبي بعده صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
فإيراد أبي داود رحمه الله هذا الحديث في باب ابن صياد يفيد أن ابن صياد هو من جملة الدجاجلة وإن لم يكن هو الدجال الأعظم.(487/13)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالون كلهم يزعم أنه رسول الله)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة القعنبي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا عبد العزيز يعني: ابن محمد].
عبد العزيز بن محمد الدراوردي، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن العلاء].
هو العلاء بن عبد الرحمن الحرقي، وهو صدوق ربما وهم، أخرج له البخاري في (جزء القراءة) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو ثقة أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق، رضي الله عنه وأرضاه.(487/14)
شرح حديث (لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذاباً) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا محمد -يعني: ابن عمرو - عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذاباً دجالاً كلهم يكذب على الله وعلى رسوله)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله بأنه: (لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالاً كذاباً، كلهم يكذب على الله وعلى رسوله).(487/15)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذاباً) من طريق أخرى
[حدثنا عبيد الله بن معاذ].
هو عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
هو معاذ بن معاذ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد يعني: ابن عمرو].
هو محمد بن عمرو بن علقمة الوقاص الليثي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة فقيه، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة قد مر ذكره.(487/16)
شرح أثر عبيدة السلماني في عد المختار الثقفي من الدجالين الثلاثين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن الجراح عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال: قال عبيدة السلماني بهذا الخبر، قال: فذكر نحوه، فقلت له: أترى هذا منهم يعني المختار؟ فقال عبيدة: أما إنه من الرءوس].
أورد أبو داود هذا الأثر عن عبيدة السلماني أنه قيل له: أترى المختار -أي: المختار بن أبي عبيد الثقفي - منهم؟ أي: من هؤلاء الدجالين؛ قال: إنه من الرءوس، يعني: من رءوس الدجالين.
والمختار بن أبي عبيد الثقفي هو الذي جاء فيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يخرج من ثقيف كذاب ومبير)، وهذا هو الذي قالته أسماء بنت أبي بكر في الحجاج لما قتل ابنها عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وأرضاه، قالت: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا (أنه يخرج في ثقيف كذاب ومبير)، فأما الكذاب فقد عرفناه، وهو المختار بن أبي عبيد هذا، وأما المبير فلا أخالك إلا إياه، تعني: فلا أظنه إلا أنت، والمبير هو المهلك.
قوله: [قال عبيدة: أما إنه من الرءوس].
يعني: من رءوس الدجاجلة ومن كبارهم.(487/17)
تراجم رجال إسناد أثر عبيدة السلماني في عد المختار الثقفي من الدجالين الثلاثين
قوله: [حدثنا عبد الله بن الجراح].
عبد الله بن الجراح صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود والنسائي في مسند مالك وابن ماجة.
[عن جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مغيرة].
هو مغيرة بن مقسم الضبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم].
هو إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيدة].
هو عبيدة بن عمر السلماني، وهو ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وهذا من رواية المغيرة عن إبراهيم، ومغيرة معروف بالتدليس ولاسيما عن إبراهيم، وقد ضعف الألباني هذا، ولعله بسبب رواية مغيرة عن إبراهيم.(487/18)
الأسئلة(487/19)
عدم معرفة الجن للأشياء التي لم يمكنهم الله منها
السؤال
هل في حديث الخبيئة دليل على عدم قدرة الجن على معرفة ما في نفس الإنسان؛ لأنه ما عرف الذي خبأه النبي صلى الله عليه وسلم كاملاً؟
الجواب
الجن كما هو معلوم يعلمون الأشياء التي يقدرون عليها ويمكنهم الله منها، ولا يعلمون الشيء الذي لا يقدرون عليه، ولهذا جاء في القرآن ما يدل على ذلك في سورة سبأ، حيث قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14].(487/20)
حكم من سمى نفسه ابن صياد
السؤال
ما رأيكم فيمن يسمي نفسه ابن صياد، أو الصياد؟
الجواب
التسمية بصياد ما فيها بأس.(487/21)
احتمال أن يكون ابن صياد هو الدجال
السؤال
ما الذي يمنع أن يكون ابن صياد هو الدجال، فقد يكون ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخرج في آخر الزمان؟
الجواب
جاء عن أبي سعيد وغيره أنه مات والله أعلم، وأما إذا كان لم يمت، وأنه فقد فيحتمل أن يكون هو، ويحتمل أن يكون غيره.(487/22)
التوفيق بين خبر (أن الدجال موثق في جزيرة) وبين خبر (أنه يخرج من أصبهان)
السؤال
جاء في قصة الدجال أنه في جزيرة، لكن ذكرنا أنه يخرج من أصبهان وهي ليست بجزيرة، فكيف التوفيق بين ذلك؟
الجواب
ربما إذا أطلق في آخر الزمان أن يذهب إلى ذلك المكان ويخرج منه.(487/23)
حكمة تسمية الجساسة بهذا الاسم
السؤال
لماذا سميت الجساسة بهذا الاسم؟
الجواب
هي قالت عن نفسها أنها الجساسة، وقالوا عنها في تعليل ذلك أنها تتجسس للدجال، والله تعالى أعلم.(487/24)
نداء: (الصلاة جامعة) يكون بغير لفظ الأذان
السؤال
ألا يمكن أن يقال في قول فاطمة: (نادى أن الصلاة جامعة) ليس المقصود نافلة، وإنما الإعلام بدخول الوقت ليجتمع الناس لصلاة العشاء، فيوفق بين الحديثين؟
الجواب
قولها: (نادى أن الصلاة جامعة)، هو غير لفظ الأذان، وهذا كما ينادى لصلاة الكسوف فيقال: الصلاة جامعة، ولا يقال: الله أكبر! الله أكبر! كما في الأذان.(487/25)
عجز التطور العلمي عن معرفة مكان الدجال
السؤال
هل يمكن البحث الآن عن الدجال لرؤيته، لاسيما مع التطور العلمي؟
الجواب
إذا شاء الله عز وجل أن يعمي أمره على الناس عمى عليهم أمره ولم يهتدوا إليه، ولو حصل ذلك التطور العلمي، وهذا كما بقي بنو إسرائيل أربعين سنة يتيهون في الصحراء ومع ذلك ما اهتدوا هم، ولا علم بهم أحد مدة أربعين سنة.
فكذلك بالنسبة للدجال، فيمكن أن الناس يعمى عليهم أمره فلا يهتدون إليه.(487/26)
هل قول ابن صياد (أشهد أنك رسول الأميين) يدل على أنه الدجال؟
السؤال
ألا يدل قول ابن صياد: (أشهد أنك رسول الأميين) أنه هو الدجال؛ لأنه نفس اللفظ الذي سأل عنه الدجال في قصة تميم بن أوس الداري حين قال: خرج نبي الأميين؟
الجواب
هذا ليس بلازم، فهذا دجال وهذا دجال، وكل واحد قال كلاماً.(487/27)
ادعاء ابن صياد أنه نبي
السؤال
هل ادعى ابن صياد أنه رسول؟
الجواب
نعم، فإنه ورد عنه أنه قال: (أتشهد أني رسول الله؟ قال: آمنت بالله ورسله).(487/28)
الحكم إذا ثبت أن ابن صياد أسلم
السؤال
إذا ثبت أن ابن صائد قد أسلم فكيف يسوغ لنا أن نقول عنه إنه دجال؟
الجواب
أقول: إذا ثبت أنه أسلم فهو دجال في زمانه، أي: في زمان دجله وكذبه، فليس بلازم أن يموت على الكفر وادعاء النبوة، لكن هل ثبت أن ابن صياد أسلم؟ الله أعلم.(487/29)
أكبر دجل ابن صياد
السؤال
ما هو أكبر دجل ابن صياد؟
الجواب
أكبر دجل ابن صياد أنه ادعى النبوة.(487/30)
حكم من ادعى أن رسول الله أرسل إلى العرب خاصة
السؤال
ما حكم من يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسل إلى العرب خاصة، ولكل قوم نبي؟
الجواب
من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ليست رسالته عامة إلى الناس جميعاً فليس بمسلم، بل كافر، ومن قال: إن رسالته مقصورة على العرب دون غيرهم فهو كافر؛ لأنه مكذب بالقرآن، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سبأ:28]، وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، وقال في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] أي: يتلو ذلك على الجن والإنس.
فمن زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم رسول للعرب خاصة فهو كافر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (وبعثت إلى الناس عامة).(487/31)
تقييد الدجالين بالعدد ثلاثين
السؤال
قوله: (ثلاثون دجالاً) هل صفة العدد معتبرة؟
الجواب
في بعض الروايات (ثلاثين)، وفي بعضها (ثلاثون)، والعدد معتبر، لكن هل يزيد على ذلك؟ الظاهر أنه لا ينفي أن يوجد شيء أكثر من ذلك، لكن هذا العدد لا بد وأن يكون وقد كان، قال بعض أهل العلم: إن منهم مسيلمة الكذاب والأسود العنسي، وبعد ذلك ظهور المختار بن أبي عبيد، وظهر جماعة.
والمختار هذا هو أخو صفية بنت أبي عبيد زوجة عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهم.(487/32)
حكم إطلاق لفظ الدجال على رءوس المبتدعة
السؤال
ما رأيكم في إطلاق لفظ الدجال في عصرنا على رءوس المبتدعة؟
الجواب
المبتدعة الذين يظهر منهم الكذب والافتراء، لاشك أن للفظ ينطبق عليهم، والمحدثون يذكرون أن من أشد صيغ التجريح هي: كذاب، ودجال، أو أكذب الناس، أو إليه المنتهى في الكذب، أو ركن الكذب، فكل هذه من أشد صيغ التجريح.(487/33)
شرح سنن أبي داود [488]
لقد أمرنا الله عز وجل بإنكار المنكر وجعله على درجات حسب إيمان العبد واستطاعته، فبدأ التغيير باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب، ثم حذرنا الشارع من ترك هذا الركن العظيم؛ لأنه سبب رئيس لسخط الله وعقابه.(488/1)
ما جاء في الأمر والنهي(488/2)
شرح حديث (لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الأمر والنهي.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا يونس بن راشد عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)) [المائدة:78]، إلى قوله: {فَاسِقُونَ} [المائدة:81]، ثم قال: كلا، والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في الأمر والنهي.
والمقصود بالأمر والنهي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد أورد أبو داود هذا الباب في كتاب الفتن والملاحم وذلك لأن من تلك الأمور التي هي فتن وملاحم أمور محرمة ومنكرة، فالفتن والنهي عنها والحث على الابتعاد منها هذا من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فلعل أبا داود رحمه الله أورده من أجل هذه الصلة التي بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والفتن والملاحم التي تجري والتي يكون المسلم فيها بعيداً عنها ولا يشارك فيها، وأن يكون حذراً ويقظاً وبعيداً عنها، فلعله من أجل ذلك أورد أبو داود هذا الترجمة تحت هذا الكتاب.
أورد أبو داود حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الواحد منهم كان يلقى أخاه، فيقول له -وقد ارتكب معصية-: يا هذا! اتق الله، ثم بعد ذلك لا يلبث حتى يلقاه من الغد، فيكون أكليه وشريبه وجليسه)، والأكيل والشريب والجليس بمعنى أنه يؤاكله ويجالسه ويشاربه، وينبسط معه، ولا يحصل منه شيء من التأثر، ولا يرى في وجهه شيئاً من التغير بسبب ما حصل منه من المنكر.
ثم تلا قول الله عز وجل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
فبين أن هذا من أسباب ما حصل لبني إسرائيل من اللعن، وأنه كان بسبب تخليهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قوله: (كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً)].
الأطر الإلزام والمقصود به: إلزامه بالحق.
قوله: (ولتقصرنه) أي: تحبسونه عليه بحيث لا يتعداه ولا يتجاوزه إلى ما هو منكر ومحرم، بل يكون واقفاً عند حدود ما هو معروف، وبعيداً عما هو منكر.(488/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي، ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا يونس بن راشد].
يونس بن راشد، هو صدوق، أخرج له أبو داود.
[عن علي بن بذيمة].
علي بن بذيمة ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبي عبيدة].
أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن مسعود].
عبد الله بن مسعود الهذلي صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه، فهو منقطع، ولهذا ضعف الألباني الحديث.(488/4)
إسناد حديث: (لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا خلف بن هشام حدثنا أبو شهاب الحناط عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن سالم عن أبي عبيدة عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، زاد: (أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعننكم كما لعنهم)].
أورد أبو داود حديث ابن مسعود من طريق أخرى، وفيه زيادة قال: (أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم).
قيل معناه: إنه يخلط هذه القلوب ويضرب بعضها ببعض، فلا يصل إليها خير، ولا تكون على هدى.
قوله: [(ثم ليلعنكم كما لعنهم)] يعني: في قوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78].
أي: بسبب عدم التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر.(488/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا خلف بن هشام].
خلف بن هشام ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا أبو شهاب الحناط].
وهو: عبد ربه بن نافع، وهو صدوق يهم، أخرج له أصحاب الكتب إلا الترمذي.
[عن العلاء بن المسيب].
العلاء بن المسيب، ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن عمرو بن مرة].
عمرو بن مرة الهمداني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم].
سالم بن عجلان الأفطس، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي عبيدة عن ابن مسعود].
وقد مر ذكرهما.
[قال أبو داود: رواه المحاربي عن العلاء بن المسيب عن عبد الله بن عمرو بن مرة عن سالم الأفطس عن أبي عبيدة عن عبد الله، ورواه خالد الطحان عن العلاء عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة].
يعني: أن فيه اختلافاً قبل أبي عبيدة، فالطريق الأولى فيها: عمرو بن مرة، والطريق الثانية فيها: المحاربي، قال: عبد الله بن عمرو بن مرة بدل عمرو بن مرة، والطريق الثالثة: خالد الطحان، وليس فيها ذكر سالم.
[قال أبو داود: رواه المحاربي].
وهو عبد الرحمن بن محمد لا بأس به، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن العلاء بن المسيب عن عبد الله بن عمرو بن مرة].
عبد الله بن عمرو بن مرة صدوق يخطئ، أخرج له ابن ماجة.
[عن سالم الأفطس عن أبي عبيدة عن عبد الله].
وقد مر ذكرهم.
[ورواه خالد الطحان].
خالد بن عبد الله الطحان الواسطي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن العلاء عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة].
يعني: مثل الذي قبله، فليس فيه سالم.(488/6)
شرح حديث: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية عن خالد ح وحدثنا عمرو بن عون أخبرنا هشيم المعنى، عن إسماعيل عن قيس قال: قال أبو بكر رضي الله عنه بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (يا أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها: ((عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) [المائدة:105]، قال عن خالد: وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)، وقال عمرو عن هشيم: وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا، إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب)].
أورد أبو داود حديث أبي بكر رضي الله عنه، الذي قال فيه: إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105].
وبعض الناس قد يفهم منها ترك الأمر والنهي، ولكن أبا بكر رضي الله عنه بين أن هذا وضع لها على غير موضعها، وأن هذا إنما يكون إذا حصل منه الأمر والنهي، وأدى الواجب الذي عليه، ثم بعد ذلك لا يضره من ضل.
وأما ألا يحرك ساكناً، ولا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر فإن ذلك يضره، ولهذا جاء في الآية قال تعالى: ((إِذَا اهْتَدَيْتُمْ))، ولا شك أن من جملة الاهتداء أن يكون الإنسان يهدي ويرشد غيره إلى الصواب والحق والهدى، وذلك عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآية تشعر وتشير إلى هذا الذي ذكره أبو بكر رضي الله عنه، وهو قوله: ((إِذَا اهْتَدَيْتُمْ))، فإنه ليس المقصود بذلك أن الإنسان يكون على استقامة ولا يحرك ساكناً، ولا يعنى بهداية وإصلاح الناس، ويتركهم على ما هم عليه من المنكرات، بل إن مقتضى الاهتداء أن يكون أيضاً هادياً كما كان مهتدياً، وهذا من الاهتداء كونه يهدي غيره فتعود منفعته عليه، وذلك بأن يؤجر بمثل أجور من استفاد خيراً بسببه، ومن اهتدى بسببه فإن الله تعالى يثيب المهتدي الذي اهتدى على يديه ويثيب من كان سبباً في هدايته بمثل أجره، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً).
وعلى العكس من ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: (ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً).
وعلى هذا فالآية الكريمة لا تفهم على أن الناس يتركون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنهم إذا كانوا مهتدين لا يضرهم ضلال من ضل، بل الأمر إنما هو مبني على أنهم إذا أمروا ونهوا فلم ينتفع بأمرهم ونهيهم فعند ذلك لا يضرهم ضلال من ضل إذا كانوا مهتدين.
قوله: [قال أبو بكر رضي الله عنه بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (يا أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها: ((عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) [المائدة:105]، قال عن خالد: وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)].
وهذا يبين أن الآية ليس المقصود بها ترك الأمر والنهي، وإنما المقصود بها الأمر والنهي، وأنهم إذا تركوا الأمر والنهي فإنه يوشك أن يعمهم العقاب بسبب المعاصي، وذلك العقاب لا يخص من كان عاصياً، بل يصيب العاصي وغير العاصي، كما قال الله عز وجل: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، فتصيب الظالم وغير الظالم، وكما في الحديث الذي فيه (أنه يخسف بهم، وقال: إنهم يبعثون على نياتهم).
[وقال عمرو عن هشيم: وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لايغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب)].
وهذا أيضاً يبين أن تكون المعاصي في قوم يقدرون على أن يغيروا ولم يغيروا، فإن الله يعمهم بعقاب أو بعذاب.
إذاً: فقوله: (وهم يقدرون على أن يغيروا) ليس معنى ذلك أن الإنسان يترك الأمر والنهي ويقول: لا يضرني من ضل إذا اهتديت، فهذا هو الذي جعل أبا بكر رضي الله عنه يبين أن المقصود بها: لا يضره بعد قيامه بما أوجب الله عليه، أما وهو لم يقم بما أوجب الله عليه فإنه آثم، لتركه الأمر والنهي.(488/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
وهب بن بقية الواسطي، ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن خالد].
خالد بن عبد الله الطحان الواسطي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا عمرو بن عون].
عمرو بن عون، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا هشيم].
هشيم بن بشير الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسماعيل].
إسماعيل بن أبي خالد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قيس].
قيس بن أبي حازم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بكر].
هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو أول الخلفاء الراشدين، خليفة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
وقيس بن أبي حازم هذا من المخضرمين، وهو الذي قيل عنه إنه اتفق له أن يروي عن العشرة المبشرين بالجنة؛ لأنه متقدم وقد روى عن المتقدمين.
[قال عن خالد: وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم].
يعني: في رواية أبي بكر من طريق خالد.(488/8)
شرح حديث: (إن الناس إذا رأوا الظالم) من طريق أخرى
[قال أبو داود: ورواه كما قال خالد أبو أسامة وجماعة، قال شعبة فيه: (ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أكثر ممن يعمل)].
هذا الذي جاء عن خالد جاء عن غيره، وقد جاء عن شعبة أنه قال: هم أكثر ممن يعمله؛ لأنه إذا كان الصالحون والمستقيمون أكثر فمعناه أنه يكون هناك قوة وقدرة على منعهم من فعل المنكر، وكونهم يتركون ذلك فإنهم يوشك أن يعمهم الله بعذاب؛ لأن القدرة موجودة، ولكونهم أكثر من أولئك المنحرفين الذين هم بحاجة إلى أن ينهوا عن المنكر.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كفائي، وقد يكون واجباً عينياً إذا لم يكن هناك غير هذا الإنسان ممن يقوم مقامه، فإنه يتعين عليه، وأما إذا وجد من يقوم بهذا الأمر فإنه يكون فرض كفاية.
فإذا قام به من يكفيه سقط الفرض عن الباقين، ولكنه قد يتعين بحيث يكون في أناس لا يوجد فيهم من يقوم بذلك إلا هو، فيكون بذلك متعيناً عليه، لأنه ليس هناك من يقوم مقامه ويكفي عنه.
[قال أبو داود: ورواه كما قال خالد أبو أسامة وجماعة].
أبو أسامة حماد بن أسامة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وقال شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(488/9)
شرح حديث: (ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا أبو الأحوص حدثنا أبو إسحاق أظنه عن ابن جرير عن جرير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتو)].
أورد أبو داود حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتو).
هذا مثل الذي قبله، وفيه أنه إذا كان قوم فيهم منكر وهم قادرون على تغييره ولم يغيروه، فإنه يصيبهم العذاب قبل أن يموتوا، أي: يعجل الله لهم العذاب في هذه الحياة الدنيا، والعذاب كما هو معلوم يكون بأنواع متعددة، فقد يكون عن طريق الهلاك، وقد يكون عن طريق المرض، أو عن طريق الابتلاء والفتن وما إلى ذلك، فيفتن الإنسان فيحصل له عذاب في الدنيا على عدم القيام بالأمر والنهي الذي هو واجب ومتعين عليه.
وإذا غلب على الظن أن هذا الذي يفعل المنكر لا يستمع النصيحة فهل يترك فتكون الآية على ظاهرها: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} [المائدة:105]؟ الظاهر أنه إذا كان سيحصل الفائدة ينصح، ولكن الإنسان كونه يبذل النصيحة هو على خير سواء قبلت النصيحة أم لم تقبل.(488/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو الأحوص].
سلام بن سليم الحنفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو إسحاق].
عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جرير].
ابن جرير قيل: هو المنذر.
وقيل: عبيد الله بن جرير، وكأنه عبيد الله.
وعبيد الله بن جرير بن عبد الله البجلي، مقبول، وفي الأسماء رمز له بـ (ق) يعني: في ابن ماجة، وفي الأبناء رمز له بـ (د).
وكذلك المنذر بن جرير مقبول، لكن أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن جرير].
جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(488/11)
شرح حديث: (من رأى منكم منكراً فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء وهناد بن السري قالا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد رضي الله عنه وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكراً فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده).
وقطع هناد بقية الحديث، وفّاه ابن العلاء: (فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع بلسانه فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الأيمنان).
وهذا لفظ مسلم، وأبو داود هنا ذكره عن شيخين، أحد شيخيه هناد بن السري ذكره مختصراً، وقف عند قوله: (من رأى منكراً فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده).
وأما شيخه الثاني وهو محمد بن العلاء فوفاه، يعني: أتى به وافياً وكاملاً حيث قال بعد ذلك: (فإلم يستطع فبلسانه، فإلم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان).
وهذا فيه بيان أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على درجات: الدرجة الأولى: التغيير باليد التي يكون معها إزالة المنكر والقضاء عليه، وهذا يكون ممن يملكه كالسلطان ونوابه الذين يستطيعون أن يغيروا المنكر بأيديهم وبقوتهم، وكرب البيت فإنه قادر على التغيير بيده، فإن له ولاية على أهل البيت، فيستطيع أن يقضي على المنكر الذي يكون في بيته.
فإن لم يستطع فلينتقل إلى الدرجة الثانية وهي: التغيير باللسان، وذلك أن يأمر وينهى، ويبين المنكر ويحذر منه، ويحذر من مغبته وعواقبه الوخيمة.
فإن لم يستطع فيلنتقل بعد ذلك إلى الإنكار بالقلب، وليس أمامه إلا التغيير بالقلب، وذلك بأن يتأثر وأن يظهر ذلك عليه، وليس ذلك بمجرد كونه في قلبه أو أنكر بقلبه ولم يظهر ذلك التأثر على صفحات وجهه، بل يتأثر بحيث إن الإنسان إذا رئي يظهر عليه التأثر والاكتئاب وعدم الرضا، والكراهية لذلك المنكر الذي لم يستطع أن يغيره بلسانه، وذلك أضعف الأيمان، وهذا أقل شيء، فالإنسان ينكر بقلبه لأنه لا يستطيع ما هو أعلى من ذلك، والحديث من جوامع كلم الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وقد اختاره النووي من جملة الأربعين التي جمعها، وهي تبلغ اثنين وأربعين حديثاً، وهي من جوامع الكلم، ولهذا أضاف إليه ابن رجب ثمانية أحاديث فأكملها الخمسين، وشرحها في مجلد سماه: (جامع العلوم والحكم في شرح الخمسين حديثاً من جوامع الكلم)، وهو كتاب نفيس مشتمل على الآثار عن السلف، كما هي عادة ابن رجب في أجزائه الحديثية ومؤلفاته الحديثية؛ لأنه يعنى بالنقول عن السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الآثار المتعلقة بموضوع الحديث الذي يشرحه، وهو كتاب نفيس وعظيم.(488/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (من رأى منكم منكراً فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
محمد بن العلاء أبو كريب، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وهناد بن السري].
هناد بن السري أبو السري، وهو ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد، ومسلم وأصحاب السنن.
[قالا: حدثنا أبو معاوية].
محمد خازم الضرير الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسماعيل بن رجاء].
إسماعيل بن رجاء بن ربيعة، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي سعيد].
هو أبو سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[وعن قيس بن مسلم] قيس بن مسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن طارق بن شهاب].
طارق بن شهاب رضي الله عنه صحابي صغير، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري رضي الله عنه.(488/13)
تعليق الإمام النووي على حديث: (من رأى منكراً فاستطاع أن يغيره فليغيره)
ويوجد كلام للنووي في (عون المعبود) حول هذا الحديث.
قال في (عون المعبود): قال النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم: ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف، ثم إنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو.
قال العلماء: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، والذي عليه الأمر والنهي لا القبول، ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال، ممتثلاً ما يأمر به، مجتنباً ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مخلاً بما يأمر به، والنهي وإن كان متلبساً بما ينهى عنه، فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه، فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر؟! وينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يرفق ليكون أقرب إلى تحصيل المطلوب، فقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه.
قال: وهذا الباب -أعني باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جداً، وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه.
وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح، فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيله رضا الله تعالى أن يعتني بهذا الباب، فإن نفعه عظيم لاسيما وقد ذهب معظمه، ويخلص نيته، ولا يهابن من ينكر عليه لارتفاع مرتبته، فإن الله تعالى قال: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40].
وقال: ولا يتاركه أيضاً لصداقته ومودته ومداهنته، وطلب الوجاهة عنده، ودوام المنزلة لديه، فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقاً، ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته، وينقذه من مضارها.
وصديق الإنسان ومحبه هو من يسعى في عمارة آخرته وإن أدى ذلك إلى نقص في دنياه، وعدوه من سعى في ذهاب دينه أو نقص آخرته، وإن حصل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه.
انتهى ملخصاً.(488/14)
الأسئلة(488/15)
لزوم مفارقة مكان المنكر بعد الإنكار بالقلب
السؤال
هل يشترط في المرتبة الثالثة -الإنكار بالقلب- مفارقة المكان الذي حصل فيه المنكر؟
الجواب
أقول: لا شك أن مفارقة المكان هذا يؤثر ويفيد.(488/16)
هجران أماكن المنكرات فيه السلامة
السؤال
هل يكفي الإنكار بالقلب فقط دون أن يخرج من مكان المنكر مع أنهم لا يزالون ماضين في منكرهم، وهو جالس معهم ويقول: أنا أنكر بقلبي؟
الجواب
الخروج من مشاركتهم وعدم مجالستهم لا شك أنه هو الذي فيه السلامة له.(488/17)
حكم الإنكار باليد على من ليس له عليه ولاية
السؤال
هل لي أن أنكر المنكر بيدي إذا تحققت من أنه لا يحصل بذلك مضرة، وليس لي سلطان أصلاً على هذا المنكر؟
الجواب
ليس للإنسان أن ينكر بيده شيئاً لا يملكه وليس من أهله؛ لأن هذا وإن ظن أنه لا يضره فقد يكون الأمر بخلاف ظنه، فيترتب على ذلك مضرة عليه وعلى غيره.(488/18)
حكم الوقوف بعيداً عن النبي صلى الله عليه وسلم عند السلام عليه
السؤال
نرى بعض الناس يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم من بعد، فهل يجب علينا أن نأمرهم وننهاهم، أم يكفي قيام هيئة الأمر بالمعروف بذلك؟
الجواب
قد تكون الهيئة والمسئولون ما رأوا هذا الشخص الذي رأيته، فكونك تنبهه وترشده إلى أن هذه الهيئة غير صحيحة لا بأس، وشيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه يقول في آخر المنسك عند الكلام على زيارة المدينة: إن هذا أقرب إلى الجفا منه إلى المحبة والصفا، يعني: كون الإنسان يقف في مكان بعيد ويسلم، ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لما كان بين أظهرهم، ما كان الواحد منهم يقف في مكان بعيد ويستقبل المكان الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم -سواء في الحجرة أو في غير الحجرة- ويسلم هذا السلام، وإنما كان الواحد يمشي حتى يصل إليه، ويقول: السلام عليك يا رسول الله! ورحمة الله وبركاته، وأما أن يقف في مكان بعيد ويسلم فهذا غير صحيح.(488/19)
حكم الأمر بالمعروف في وقت الفتن
السؤال
نقل عن الشيخ عبد العزيز رحمة الله عليه أنه ذكر في مجلة الجامعة في أحد الأعداد أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون فرض عين في زمن الفتن كهذا الزمان؟
الجواب
معلوم أنه في الفتن وغير الفتن إذا وجد من يقوم بهذا الأمر حصلت الكفاية كما يبدو بغض النظر عن هذا الكلام الذي نسب إليه هل صحيح أو غير صحيح.(488/20)
إنكار الأغاني ببيان أدلة التحريم
السؤال
نحن نركب مع أصحاب السيارات فيفتحون الأغاني، ونقول لهم: نحن لا نحب أن نسمع هذا فهلا أغلقت هذا؟ فيفعل، فهل يكفي هذا أم لابد من بيان وجه التحريم والدليل؟
الجواب
يمكن أن يقول هذا أولاً، ثم بعد ذلك يبين له، فكونك تسمع فإن هذا لا يسوغ ولا يجوز، أنت بذلك تجني على نفسك وتجلب لها العذاب، وتسعى إلى إغراقها، فتبين له الأحاديث في ذلك.
فلا يكفي أن يقول: نحن لا نحب هذا، يعني فيغلقه مادام أنهم موجودون وإذا ذهبوا يفتحه، وإنما عليه أن ينبهه حتى يتخلص من ذلك نهائياً، لا أن يتخلص منه مادام راكباً معه، فإذا نزل فتحه.(488/21)
حديث: (من رأى منكراً) وادعاء القلب فيه
السؤال
إن المؤمن إذا رأى المنكر فإن أول ما يقع في نفسه الإنكار القلبي، ثم يتطور مع القدرة إلى الإنكار القولي، أو الإنكار الفعلي إن كان يستطيع ذلك، فصار الحديث كأنه فيه قلب؟
الجواب
لا ليس فيه قلب، فالمنكر موجود والمطلوب تغييره، فما هي الطرق المطلوبة لتغييره؟! إذا وجدت الطريق العليا التي فيها الخلاص منه انتهى الأمر، فلا يحتاج إلى القول ولا إلى إنكار القلب، ويتنزل فيها حسب المراحل، والإنكار بالقلب لابد منه، ومعلوم أنه لا يحصل التغيير باليد إلا مع التأثر بالقلب، وفيما قاله بعض السلف: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه شيء وقر في القلب وصدقته الأعمال.(488/22)
حكم الشخص إذا رأى آخر يشرب سيجارة فقام بكسرها
السؤال
طالب رأى طالباً آخر يشرب الدخان فأخذ منه السجارة فكسرها، فهل عمله صحيح؟
الجواب
عمله ليس صحيحاً؛ لأنها في جيبه وسيخرج مكانها واحدة أخرى وثانية وثالثة ورابعة وعاشرة، ولكن العمل الصحيح أن ينبهه ويبين له خطأه وأضراره على جسمه وماله وعلى علاقته بالناس الآخرين، لأنه يؤذيهم، فيبين له ذلك.
وأما كونه يستعمل هذا الدخان فكونك ضيعت عليه حبة من هذه الأشياء التي كان يستعملها ما استفاد شيئاً ولكن الفائدة كونه يبين له حتى يتخلص مما معه، وحتى يبتعد عن ذلك في المستقبل، وحتى يهتدي على يديه، فهذا هو الذي ينبغي له.(488/23)
علامة التأثر القلبي من المنكر تظهر على الوجه
السؤال
قلتم أن التغيير بالقلب يلزم منه تغير الوجه، وأن ذلك أضعف الإيمان، السؤال، فإذا كان تغير قسمات الوجه عند تغييره بقلبه يجلب له السوء والضرر، أي: أن تمعر الوجه قد يسبب له ضرراً إذا رئي، فما الحكم؟
الجواب
هذا -كما هو معلوم- لا يحصل فيه تكلف، وإنما يحصل بالشيء الذي يكون في قلبه، فمن شدة التأثر يظهر ذلك على وجهه، وليس فيه تكلف.(488/24)
الفرق بين النصيحة والإنكار
السؤال
هل هناك فرق بين النصيحة والإنكار؟
الجواب
النصيحة أعم، فهي تكون بالأمر والنهي، وأما الإنكار فيكون بالنهي، وتكون في الأمور المحرمة، وأما النصيحة فهي عامة تشمل الأوامر والنواهي، والدعوة إلى كل خير، والتحذير من كل شر، فهي أعم من الإنكار.(488/25)
ضعف إيمان من لا يغير المنكر بقلبه
السؤال
الذي لا يستطيع تغيير المنكر إلا بالقلب، هل يدل هذا على أن إيمانه ضعيف؟
الجواب
لا شك أن ذاك الذي يغير بلسانه وبقلبه يكون أكمل وأقوى، فهو من جنس قوله: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير).
يعني: كلهم في خير، ولكن بعضهم أحسن من بعض، وأقوى من بعض.(488/26)
علاقة التغيير بإنكار القلب
السؤال
كيف يسمى إنكار المنكر بالقلب تغييراً مع أن المنكر باق على حاله؟
الجواب
كما هو معلوم حتى الإنكار باللسان فالمنكر يكون باق على حاله، مع وجود البيان بالقول، فقد يتكلم الإنسان بالقول ولا يحصل التغيير، وكونه يظهر عليه التأثر قد يكون ذلك سبباً في استفادة الشخص الواقع في المنكر، كما أن القول باللسان يمكن أنه يؤثر، فأيضاً ظهور ذلك على وجه الإنسان قد يكون مؤثراً ومفيداً.(488/27)
لا يلزم من إنكار المنكر الرؤية
السؤال
هل يلزم رؤية المنكر للإنكار، أم يكفي مثلاً إذا سمعت أن فلاناً يعمل منكراً أذهب لأنكر عليه؟
الجواب
لا يلزم ذلك، فإذا كنت قد تحققت من هذا، وثبت لديك ذلك وإن لم تره فعليك أن تنصحه، وأن تبين له خطورة ذلك، إذا كان ذلك ثابتاً، فليس لازماً للإنسان ألا ينكر إلا شيئاً رآه وشاهده وعاينه، بل إذا شهد عنده ثقاة بأنه حصل من فلان كذا وكذا، فإنه ينصح ذلك الذي حصل منه وإن لم يكن شاهد ذلك وعاينه.(488/28)
العيش في مجتمعات المعاصي يضعف الإيمان
السؤال
هل صحيح أن العيش في مجتمعات تعج بالمعاصي والمنكرات يفقد القلب إنكاره للمنكر، ويضعف الإيمان؟
الجواب
أقول: لاشك أنه إذا كثر الإمساس قل الإحساس، وقد تألف النفوس هذا الشيء بالسكوت عليه وعدم التأثر منه، فيصير شيئاً مألوفاً.(488/29)
حكم المشاركة في الانتخابات لأجل تغيير المنكر
السؤال
هل المشاركة في الانتخابات من تغيير المنكر باليد، حيث إن الإنسان يختار الرجل الصالح ليكون حاكماً؟
الجواب
هذه الانتخابات ليست من الطرق الشرعية، وإنما هي من الطرق الوافدة على المسلمين من أعدائهم، والحكم فيها للغلبة ولو كانت الأغلبية من أفسد الناس، أو كان الذي ينتخبونه من أفسد الناس؛ لأنهم ينتخبون واحداً منهم، والحكم للغلبة، وحيث يكون الغلبة أشراراً فإنهم سيختارون شريراً منهم.
والدخول في الانتخابات إذا لم يحصل من ورائه فائدة ومصلحة فلا يصلح، ولكن إذا كان سيترتب عليه مصلحة من أن الأمر يدور بين شخصين أحدهما سيء والثاني حسن، ولو لم يشارك في تأييد جانب ذلك الحسن فإنه تغلب كفة ذلك السيئ، فإنه لا بأس بالمشاركة من أجل تحصيل تلك المصلحة ودفع المضرة.
بل لو كان الأمر يدور بين شخصين أحدهما شرير والثاني دونه في الشر كما يحصل في بعض البلاد التي فيها أقليات إسلامية والحكم فيها للكفار، فإذا صار الأمر يدور بين كافرين أحدهما شديد الحقد على المسلمين, وشديد المعاداة لهم، ويضيق عليهم، ولا يمكنهم من أداء شعائرهم، والثاني مسالم، ومتعاطف مع المسلمين، وليس عنده الحقد الشديد عليهم، فلا شك أن ترجيح جانب من يكون خفيفاً على المسلمين أولى من ترك الأمر بحيث يتغلب ذلك الكافر الشديد الحقد على المسلمين.
ومعلوم أنه جاء في القرآن أن المسلمين يفرحون بانتصار الروم على الفرس، وهم كفار كلهم، لكن هؤلاء أخف؛ لأن هؤلاء ينتمون إلى دين، وأولئك يعبدون الأوثان ولا ينتمون إلى دين، وإن كان الجميع كفاراً، لكن بعض الشر أهون من بعض.
ومن قواعد الشريعة ارتكاب أخف الضررين في سبيل التخلص من أشدهما، فإذا ارتكب أخف الضررين في سبيل التخلص من أشدهما فإن هذا أمر مطلوب.
فالحاصل أن الانتخابات في الأصل هي وافدة على المسلمين وليست مما جاء به دينهم، والمشاركة فيها إذا كان سيترتب على ذلك ترجيح جانب من فيه خير على من فيه شر ولو ترك ترجح جانب من فيه شر، فلا بأس بذلك، وكذلك عندما يكون كل منهما شرير، ولكن أحدهما أخف، وأريد ترجيح جانب من كان أخف، كما ذكرت في حق الكافرين اللذين يرجح جانب أحدهما من أجل عدم حصول الضرر من ذلك الذي يكون أشد خبثاً وحقداً على المسلمين، فإنه والحالة هذه يسوغ الانتخاب لهذه القاعدة بارتكاب أخف الضررين في سبيل التخلص من أشدهما.
فلا يجوز أن يشارك في الانتخابات إلا إذا كان الأمر يدور بين خير وشر، وإذا لم يشارك في تأييد الخير سيتقدّم الشرير على غيره، فيجوز الدخول في الانتخابات من أجل تحصيل هذه المصلحة، أو يكونا اثنين خبيثين لكن أحدهما أخف على المسلمين من الآخر، ويمكِّنهم من إقامة شعائرهم، فمثل هذا إذا رجح جانبه من قبل الأقليات الإسلامية لا بأس بذلك؛ لأنهم لا يختارون إماماً للمسلمين، وإنما يختارون واحداً متعاطفاً معهما، فهما شران لا بد منهما، وبعض الشر أهون من بعض، فمن كان أصلح لهم وأخف ضرراً عليهم فإن ارتكاب أخف الضررين في سبيل التخلص من أشدهما أمر مطلوب.
والحاصل: أن الدخول في الانتخابات ليس على إطلاقه، والأصل ألا يدخل فيها إلا إذا حصل في الدخول مصلحة بأن كان الأمر دائراً بين شرير وطيب، أو بين شريرين أحدهما أخف من الآخر، وكان ترك المشاركة يؤدي إلى تغلب من هو أخبث وأشد؛ ففي هذه الحالة لا بأس بذلك من أجل ارتكاب أخف الضررين في سبيل التخلص من أشدهما.(488/30)
مناسبة عقد باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كتاب الفتن
السؤال
ألا تكون المناسبة بين هذا الباب وبين كتاب الفتن: أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب في الفتن؟
الجواب
بلى، فلا شك أن هذا من أسباب الفتن، وأيضاً فإن الفتن مع وجودها وحصولها يحتاج فيها إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك بعدم الدخول فيها.(488/31)
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل وقت
السؤال
ألا يمكن أن يقال: إنه لا حجة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمجرد حصول الفتن والملاحم، بل لا بد من ذلك في سائر الأوقات؟
الجواب
لاشك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلوبان دائماً وأبداً، وليس ذلك في وقت دون وقت، أو حال دون حال.(488/32)
لزوم التدرج في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
هل يعارض هذا الحديث مسألة التدرج مع المدعو لتألفه وترغيبه؛ لأن الشدة والهجر له قد يزيد في غيه ومعصيته؟
الجواب
التدرج واللين أمران مطلوبان، أي: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكونان باللين والرفق ويكونان بالسر؛ حتى يكون هناك قبول.
ولاشك أن الأخذ بالوسائل أمر مطلوب في الأمر والنهي، وهذه هي الصفات التي ينبغي أن يكون عليها الأمر والنهي؛ لأن المقصود من الأمر والنهي هو حصول الفائدة، وكل شيء يكون به تحصيل الفائدة فلا شك أنه أولى ومطلوب، فالرفق واللين مطلوبان ويكون ذلك الأمر سراً، فلا شك أنه يفيد وتحصل من ورائه ثمرة، فلا تكون النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علانية، ولا يكون بالشدة والغلظة، وإنما يكونان بالرفق واللين والسر.
وكما أن الإنسان هو نفسه يعجبه أن ينصح سراً وأن يرفق به عند النصيحة، فعليه أن يعامل غيره أيضاً كما يحب أن يعامل، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه).(488/33)
حال حديث: (لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم)
السؤال
ألا يوجد معارضة في قوله: (لتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً)، لأن فيه نوع من الشدة والقوة؟
الجواب
الحديث في إسناده أبو عبيدة عن أبيه، وهو لم يسمع منه، فالحديث إذاً غير صحيح، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكونان باللين، وإذا ما نفع فلابد من القوة ولا يترك الأمر والنهي، ولكن كما جاء في الحديث الذي سيأتي: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإلم يستطع فبلسانه، فإلم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان).
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على درجات، فمن الناس من يستطيع أن يغير بيده، ومنهم من يستطيع أن يغير بلسانه، ومنهم من لا يستطيع لا بهذا ولا بهذا، بل حظه ونصيبه أن يتأثر قلبه، ويظهر ذلك على وجهه بحيث يحصل منه التأثر، ويحصل منه التغيير الذي به يظهر الإنسان أمام من ينكر عليه بأنه منكر عليه.(488/34)
شرح سنن أبي داود [489]
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع معرفة شروطه وبعض من أحكامه له أهمية كبيرة في حياة الناس عامة، وفي زمن الفتن وانتشار المعاصي خاصة، فهو سبيل النجاة للصالحين عند كثرة الأهواء، وتشعب الآراء، وطغيان الدنيا على القلوب والعياذ بالله! ولذا كان القائم بالأمر بالمعروف والصادع بالحق عند السلاطين الجائرين أعظم منزلة؛ وإن قتل فله أجر شهيد عند الله سبحانه وتعالى.(489/1)
تابع ما جاء في الأمر والنهي(489/2)
شرح حديث: (بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود العتكي حدثنا ابن المبارك عن عتبة بن أبي حكيم قال: حدثني عمرو بن جارية اللخمي قال: حدثني أبو أمية الشعباني قال: (سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت: يا أبا ثعلبة! كيف تقول في هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [المائدة:105]؟! قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنياً مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك -يعني: بنفسك- ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيه مثل قبض على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله، وزادني غيره قال: يا رسول الله! أجر خمسين رجلاً منهم؟ قال: أجر خمسين منكم)].
أوردها أبو داود رحمه الله في هذا الحديث، وهو حديث أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله تعالى عنه، أن رجلاً سأله عن قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105].
فالمقصود ب
السؤال
أنه قد يفهم منها أن الإنسان إذا اهتدى لا يضره ضلال غيره إذا ضل، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بالواجب، ولكن سبق أن مر حديث أبي بكر رضي الله عنه، حيث قال: إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، ثم بين أن المقصود من ذلك بعد أن يأمر الإنسان وينهى، وليس معنى ذلك أنه يترك الأمر والنهي، ولكنه إذا أدى ما عليه فعند ذلك لا يضره ضلال من ضل إذا اهتدى.
أما أن يترك الأمر والنهي ويكفيه أن يكون قد اهتدى، فهذا ليس بصحيح، ولهذا استنتج من قوله: ((إِذَا اهْتَدَيْتُمْ))، أن الاهتداء يقتضي أن يهدي غيره، وأن يرشد غيره، وأن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر.
فلما سأل هذا الرجل أبا ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: لقد سألت خبيراً، يعني: عندي علم في هذه الآية.
فيريد أن يؤكد له أن الجواب عنده، وأنه سأل من عنده علم، ثم أخبر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
قوله: [(بل ائتمروا بالمعروف)].
يعني: ليأمر بعضكم بعضاً بالمعروف، ولينه بعضكم بعضاً عن المنكر، ولا يمسك الإنسان عن الأمر والنهي، ويتعلل بأنه قد اهتدى، وأنه لا يضره من ضل إذا اهتدى، بل عليه أن يأمر وينهى، وبعد ذلك يكون قد أدى الذي عليه، ويكون مأجوراً على أمره ونهيه، وإن حصل أن استجيب له فذلك هو المطلوب، وذلك خير على خير، وإن لم يحصل أن استجيب له فإنه مأجور على نصحه وأمره ونهيه، وبذله الخير لغيره.
قوله: [(حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً)].
يعني: أن الناس غلب عليهم الشح والحرص على المال، والتنافس في تحصيله، والشح: بمعنى البخل، بل هو أشد البخل؛ ولهذا يقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
والبخل عام وخاص؛ لأنه يطلق على بعض أفراد البخل ويقال له: شح، وليست كل أفراد البخل شحاً، وإنما يقال للجميع بخل، ويقال لكل ما كان أشد من غيره شح.
قوله: [(وهوىً متبعاً)].
يعني: أن الناس اتبعوا أهواءهم، ولم يتبعوا ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، بل أعرضوا عن كتاب الله وعن سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وما كان عليه الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
قوله: [(ودنياً مؤثرة)].
يعني: أن الناس يؤثرونها ويحرصون عليها، ويؤثرون العاجلة على الآجلة، ويحبون العاجلة ولا يهتمون بالآجلة، بل ترى الإنسان يؤثر الدنيا على الآخرة، ويحرص عليها ويغفل عن الآخرة.
قوله: [(وإعجاب كل ذي رأي برأيه)] أي: أن يعجب الإنسان برأيه ولا يعول على نصوص الكتاب والسنة، وإنما يعول على رأيه، والحق هو التعويل على ما جاء في الكتاب والسنة، واطراح الآراء إذا كانت مخالفة لما جاء في الكتاب والسنة.
قوله: [(فعليك بنفسك، ودع عنك أمر العوام).
يعني: عند ذلك عليك أن تجتهد في خلاصك ونجاتك، وتدع عنك الناس، وذلك لقلة الجدوى والفائدة؛ لأنها حصلت هذه الأمور التي انشغلوا بها عن الاستجابة والالتزام بما جاء عن الله وعن رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [(فإن من ورائكم أيام الصبر)].
يعني: إن من ورائكم أياماً الصبر فيها عظيم، ومما يحصل من فتن في تلك الأيام فالقابض على دينه فيها كالقابض على الجمر، يعني: من شدة الأهوال والفتن، فالذي يكون على الجادة يكون غريباً بين الناس، والقابض على دينه فيها كالقابض على الجمر.
قوله: [(فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيه مثل قبضٍ على الجمر)].
الذي يقبض على الجمر تجده يتململ ولا يستطيع أن يبقي الجمر في يده، بل يريد أن يتخلص منه، فالذي يصبر على دينه في ذلك الزمان كالقابض على الجمر، ومعناه: أن فيه شدة، والجمر يحرقه ويؤلمه، ولكنه مع ذلك متمسك بدينه كصبر القابض على الجمر.
قوله: [(للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله)].
(للعامل فيهم) يعني: في ذلك الوقت، (مثل أجر خمسين يعملون مثل عمله) وزاد أحد الرواة في الرواية: (قيل: منهم؟ قال: بل منكم)، يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أصحابه صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم أعمالهم أفضل من غيرهم، وأن أي شخص من الصحابة هو أفضل من أي شخص يجيء بعدهم من التابعين وأتباع التابعين ومن بعدهم؛ لأنهم شرفوا بصحبة النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وشرفهم الله بالنظر إلى طلعته، وبسماع حديثه من فمه الشريف، فسمعوا صوته عليه الصلاة والسلام، ونقلوا السنة إلى من بعدهم، فهم الحاملون لما جاء عن الله وعن رسوله من الكتاب والسنة، والذين أدوها إلى من بعدهم، فهم الواسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا كل أحد من الرواة يحتاج إلى معرفة حاله، إلا الصحابة فإنه يكفي الواحد منهم شرفاً أن يقال: إنه صحابي، ولا يحتاج إلى أن يبحث عن حاله، وهل هو ثقة أو غير ثقة، هذا شيء لا يذكر عند الصحابة، ولهذا لا يوجد في كتب التراجم عند ذكر الصحابي أن يقال: ثقة أو هو كذا أو هو كذا وإنما يكفيه شرفاً أن يقال: صحابي، أو له صحبة، أو صحب النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإن المجهول فيهم في حكم المعلوم، ولهذا يكفي أن يقال: عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأما لو جاء لفظ (رجل) في أثناء الإسناد فإن الحديث يكون بذلك ضعيفاً، وأما الصحابة رضي الله عنهم فالجهالة فيهم لا تؤثر، والمجهول فيهم في حكم المعلوم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
إذاً: ففضلهم لا يدانيهم فيه أحد، والأجر الذي يحصلونه لا يساويه أجر أحد يجيء بعدهم، وذلك لأن العمل القليل منهم لا يعادله عمل الكثير من غيرهم، وذلك لأن الذي حصل منهم إنما هو مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الجهاد مع النبي عليه الصلاة والسلام، والذب عن النبي عليه الصلاة والسلام، والدفاع عنه عليه الصلاة والسلام، وكان الإسلام غريباً في أول الأمر، وأهله فيهم قلة، ومع ذلك كانوا يتنافسون في الذب عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويتسابقون ويفدونه بأرواحهم وأجسادهم عليه الصلاة والسلام، ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فالأجر الذي يحصله من جاء بعدهم لا يساوي ما حصلوه من الأجر والثواب ولاسيما فيما يتعلق بتبليغهم السنن، فإنهم الذين بلغوا الكتاب والسنة، ومعلوم أن كل من جاء بعدهم وبلغ سنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإن ذلك الصحابي الذي بلغ هذه السنة وحفظها عن النبي عليه الصلاة والسلام يكون له مثل أجور كل من عمل بهذه السنة من حين تبليغ الصحابي وإرشاده إلى نهاية الدنيا.(489/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر)
قوله: [حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود العتكي].
هو أبو الربيع سليمان بن داود العتكي الزهراني، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا ابن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك المروزي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عتبة بن أبي حكيم].
عتبة بن أبي حكيم صدوق يخطئ كثيراً، أخرج حديثه البخاري في خلق أفعال العباد وأصحاب السنن.
[حدثني عمرو بن جارية اللخمي].
عمرو بن جارية اللخمي مقبول، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثني أبو أمية الشعباني].
حدثني أبو أمية الشعباني هو: يحمد، وهو مقبول أيضاً، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[سألت أبا ثعلبة الخشني].
هو جرثوم بن ناشر رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهذا الإسناد فيه مقبولان، وفيه ذلك الذي هو صدوق يخطئ كثيراً؛ فضعفه الألباني ولكنه قال: إن ما يتعلق بالصبر، والأيام التي فيها الصبر، والقابض على دينه كالقابض على الجمر هذا كله صحيح، وأما بقيته الذي جاء في هذا الإسناد فهو ضعيف.(489/4)
شرح حديث: (يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي أن عبد العزيز بن أبي حازم حدثهم عن أبيه عن وعمارة بن عمرو عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كيف بكم وبزمان أو يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة، تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فكانوا هكذا - وشبك بين أصابعه - فقالوا: وكيف بنا يا رسول الله؟! قال: تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم) قال أبو داود: هكذا روي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة).
والغربلة: أنهم يفتنون فيتميز الصالحون من غيرهم وتبقى حثالة كالنخالة التي تكون في المنخل عندما يغربل فيه الحب أو الدقيق، فإنه يسقط الشيء الخالص، ويبقى الحثالة التي لا تدخل من ثقوب المنخل، فهؤلاء الذين يبقون هم مثل الحثالة التي تبقى في المنخل، والذين فيهم الخير يخرجون كما يتساقط الدقيق أو الحب من فتحات أو من خروق المنخل.
قوله: (يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأمانتهم واختلفوا فكانوا هكذا - وشبك بين أصابعه -)].
قد مرجت عهودهم وأماناتهم، يعني: اختلطت وذهب الوفاء بها فتذهب الأمانات ولا يوفى بالعهود.
قوله: [(قد مرجت عهودهم وأمانتهم، واختلفوا فكانوا هكذا وشبك بين أصابعه)].
شبك بين أصابعه يعني: كما تتداخل الأصابع مع بعضها عند التشبيك بحيث تختلط وتمتزج، يكون هذا شأن هؤلاء الذين مرجت عهودهم وأماناتهم.
قوله: [(فقالوا: وكيف بنا يا رسول الله؟! قال: تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون)].
يعني: كيف بنا إذا كان في ذلك الوقت، قال: تأتون ما تعرفون يعني: ما هو معروف، وتدعون ما تنكرون يعني: ما هو منكر أي: ما عرفتم أنه حق فاعملوا به، وما أنكرتم شيئاً ولم تعرفوا أحقيته فاتركوه.
قوله: [(وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم)].
وتقبلون على أمر خاصتكم، يعني: كل يسعى لسلامة نفسه وحفظها، وكونهم مرجت عهودهم وأماناتهم، وصاروا بهذه الأوصاف والهيئات معناه أن الإنسان يحرص على أن يبقى سالماً، وألا يصيبه ما أصابهم، وألا يحصل له ما حصل لهؤلاء الذين مرجت عهودهم وأماناتهم، ومعلوم أن الأمانات عامة تشمل كل ما بين الإنسان وبين ربه، وكل ما بينه وبين الناس، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58].
أي: كل ما أمر به الإنسان سواء كان حقاً لله أو حقاً للمخلوقين فإن عليه أن يؤديه، وبذلك يكون أدى الأمانة، وإذا كان بخلاف ذلك فإنه يكون قد خان الأمانة، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والغسل من الجنابة أمانة، وكل هذه أمانات، وحقوق الآدميين أمانة، وعلى الإنسان أن يؤدي الأمانات.(489/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة)
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[أن عبد العزيز بن أبي حازم حدثهم].
عبد العزيز بن أبي حازم صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
سلمة بن دينار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمارة بن عمرو].
عمارة بن عمرو ثقة، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن عبد الله بن عمرو بن العاص].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة وهم: عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير بن العوام وعبد الله بن عباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين وعبد الله بن عمرو أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: هكذا روي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه].
يعني: أنه جاء من وجوه أخرى غير هذا الوجه، وغير هذا الطريق.(489/6)
شرح حديث: (يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة) من طريق أخرى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا الفضل بن دكين حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن هلال بن خباب أبي العلاء قال: حدثني عكرمة قال: حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة فقال: إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا -وشبك بين أصابعه- قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة)].
أورد أبو داود حديث ابن عمرو من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة فقال: إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا -وشبك بين أصابعه-).
فكون الناس تخف أماناتهم ولا يؤتمنون وكذلك العهود لا يوفون بها فهذه من فتنة المحيا.
قوله: [(مرجت عهودهم)].
يعني: أنهم كلهم على عدم الوفاء بالعهود، وكذا عدم الأمانة، فكلهم اختلطوا وصاروا بهذه الطريقة.
قوله: [(قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: الزم بيتك)].
يعني: ابتعد عن الفتن.
قوله: [(واملك عليك لسانك)].
يعني: لا تتكلم بما لا ينبغي، فلا تكون سبباً في الفتنة لا بقول ولا بعمل.
قوله: [(وخذ بما تعرف ودع ما تنكر)].
يعني: ما عرفت أنه حق فخذ به، وما عرفت أنه منكر فدعه وابتعد عنه.
قوله: [(وعليك بأمر خاصة نفسك)].
يعني: اجتهد في خلاصك، ولا تهلك مع من هلك، كما جاء عن بعض أهل العلم أنه قال: لا يغتر الإنسان بطريق الشر ولو كثر السالكون لها، ولا يزهد عن طريق الخير وإن قل السالكون لها، فليس العجب ممن هلك كيف هلك وإنما العجب ممن نجا كيف نجا، لأن الهالكين كثيرون، والله تعالى يقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].
فالهلاك هو الغالب، ولهذا لا يستغرب حصول الهلاك، وإنما العجب من النجاة؛ لأن الناجين قليلون بالنسبة للهالكين، فليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا كيف نجا، فلا يزهد الإنسان في طريق الخير لقلة السالكين، ولا يغتر بطريق الشر لكثرة الهالكين، فالإنسان يحرص على أن يكون من القليل الناجي ويحذر أن يكون من الكثير الهالك.
قوله: [(وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة)].
يعني: حيث لا يجدي ولا يفيد عملك معهم شيئاً، أما إذا كان مفيداً، وينتفع الناس بالنصح والأمر والنهي فلا يعدل عنه.
قوله: [(جعلني الله فداك)].
الصحابة رضي الله عنهم يفدون الرسول صلى الله عليه وسلم بأرواحهم وبآبائهم وأمهاتهم، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وبالنسبة للتفدية بالآباء والأمهات -أي قول: فداك أبي وأمي- هذا ما يعرف أنه قيل إلا في حق الرسول صلوات الله وسلامه وبركاته عليه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعز من الآباء والأمهات، وأحب إلى الناس من آبائهم وأمهاتهم؛ لأن النعمة التي ساقها الله للمسلمين على يديه أعظم وأجل نعمة، ولهذا كانت محبته يجب أن تكون فوق محبة الآباء والأمهات، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).
لكن كونه يفدي بنفسه لشخص آخر قد يكون جائزاً، لأن من الناس من يكون بقاؤه خيراً للإسلام والمسلمين، فذهاب من دونه وفقدانه أهون من ذهاب من كان في هذه المنزلة، لكن قضية التفدية بالآباء والأمهات هذه غير معروفة إلا في حق الرسول صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [(عليك بخاصة نفسك)] يعني: اجتهد في خلاص نفسك، فلا تهلك مع من هلك.
يقول صاحب العون: وفي هذا رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كثر الأشرار، وضعف الأخيار.
لكن كثرة الأشرار وقلة الأخيار هذا هو الأصل، وسنة الله في خلقه أن الهالكين هم الكثيرون، وأن الناجين هم القليلون، فلو ترك الأمر لقلة الأخيار وكثرة الأشرار فمعناه أنه يترك نهائياً، ولكن المقصود: حيث لا يجدي الأمر والنهي، أو يحصل به مضرة على الإنسان.
وقد ورد التشبيك بين الأصابع في مقام المدح والثناء في حديث المؤمن للمؤمن، وجاء هنا في جانب الذم، ففيه الإشارة إلى الاختلاط والامتزاج، وأنهم كلهم بهذه الطريقة، ففي جانب المدح كالبنيان: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه)، وهؤلاء مرجت عهودهم وأماناتهم فصاروا هكذا في اختلاطهم وامتزاجهم، كما تمتزج الأصابع في بعضها البعض عند التشبيك، وهؤلاء كذلك تداخلوا وامتزج بعضهم ببعض، وصاروا على قلب رجل واحد، وعلى وجهة واحدة وهي عدم الوفاء بالعهود وعدم أداء الأمانات.(489/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة) من طريق أخرى.
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هو هارون بن عبد الله الحمال البغدادي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا الفضل بن دكين].
الفضل بن دكين هو أبو نعيم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يونس بن أبي إسحاق].
هو يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو صدوق يهم قليلاً، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن هلال بن خباب أبي العلاء].
هلال بن خباب أبو العلاء صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[قال: حدثني عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثني عبد الله بن عمرو].
عبد الله بن عمرو مر ذكره.(489/8)
شرح حديث: (أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبادة الواسطي حدثنا يزيد -يعني ابن هارون - أخبرنا إسرائيل حدثنا محمد بن جحادة عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر أو أمير جائر)، وذلك أن الجهاد فيه احتمال السلامة واحتمال الهلاك؛ لأنه يقتل، وقد ينتصر ويغلب، ويحصل الغنيمة والأجر والثواب من الله عز وجل، وأما السلطان الجائر فهو قاهر لمن بين يديه، فيبطش به، ويؤدي ذلك إلى هلاكه، ويكون هلاكه أقرب من هلاك من يجاهد في سبيل الله، فمن أجل ذلك كانت الكلمة التي تقال عنده بهذه المنزلة، والمقصود من ذلك: أنه عندما يقول كلاماً باطلاً في مجلسه لا يسكت عليه، وإنما يبين أن الحق هو كذا، ولا يقر الباطل ويسكت عليه، وإنما يبين الحق وأنه خلاف ما يقول، وأن الذي قاله ليس بصحيح وإنما الصحيح هو كذا وكذا، لأن هذا هو الذي جاء عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام، فكونه يكون عند سلطان جائر معناه: أنه يكون عرضة للهلاك، لاسيما إذا كان ذلك الجائر معروفاً بإزهاق النفوس وإتلافها بأي سبب من الأسباب ولو كان أمراً يسيراً.(489/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر)
قوله: [حدثنا محمد بن عبادة الواسطي].
محمد بن عبادة الواسطي صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود وابن ماجة.
[حدثنا يزيد -يعني ابن هارون -].
هو يزيد بن هارون الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا إسرائيل].
هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن جحادة].
محمد بن جحادة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطية العوفي].
هو عطية بن سعد العوفي، وهو صدوق يخطئ كثيراً، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعطية العوفي يخطئ كثيراً، والحديث صححه الألباني ولعل ذلك لشواهد.(489/10)
العلماء هم المعنيون ببيان الحق
والجور في السلطان كونه يبطش بالناس، ومن السهل عليه إزهاق النفوس، مثل ما اشتهر به الحجاج من البطش والشدة والقسوة، وسهولة القتل عليه، ولهذا كان بعض العلماء يكره أن يحدث مثل الحجاج بالحديث الذي فيه قصة العرنيين، وأنهم حصل منهم كذا والرسول عمل فيهم كذا وكذا لأن هذا يجرئه على بطشه وجوره.
والصدع بالحق يعني به العلماء الذين عندهم معرفة، وإلا فإن غير العالم يمكن أن ينكر ما هو معروف لجهله وعدم بصيرته، فليس كل واحد يقبل منه الأمر والنهي، ولهذا قالوا: لابد في الأمر والنهي من العلم والبصيرة، لقول الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].
وقد ذكرت الأثرة في بعض الأحاديث لكنها غير الجور، فالأثرة: الاستئثار بالمال، والاستئثار بحظوظ الدنيا، وأما الجور فهو العدوان على الناس بسفك دمائهم أو سلب أموالهم.
وهذا الحديث لا يستفاد منه مشروعية الكلام على أخطاء الولاة على المنابر؛ لأن هذا تشهير وإيذاء، والإنسان لا يرضى لنفسه أن ينصح على المنابر، وأن يشهر به على المنابر وأن يتكلم معه بحضرة الناس، ولهذا قال الشافعي رحمة الله عليه: من نصح أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن نصحه علانية فقد فضحه وشانه.(489/11)
شرح حديث: (إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء أخبرنا أبو بكر حدثنا مغيرة بن زياد الموصلي عن عدي بن عدي عن العرس بن عميرة الكندي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها -وقال مرة: أنكرها- كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها)].
أورد أبو داود حديث العرس بن عميرة الكندي رضي الله عنه.
قوله: [(إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها وأنكرها كمن غاب عنها)] معناه: أنه كأنه لم يرها لأنه رأى شيئاً وأنكره، فهو مثل الذي لم ير؛ لأنه سلم بهذا الإنكار، وذاك سلم بكونه ما رأى.
قوله: [(ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها)].
يعني: إذا سمع بأمر قد حصل وهو غائب عنه ولكنه أعجبه كان كمن شهده، لأنه رضي بالأمر المنكر، ورضي بالأمر المحرم، فهو بهذا الرضا وبهذا الفرح والسرور لحصوله رغم غيبته كالذي حضر أو شهد.(489/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء] هو محمد بن العلاء بن الكريب أبو كريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا أبو بكر].
هو أبو بكر بن عياش، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[حدثنا مغيرة بن زياد الموصلي].
مغيرة بن زياد الموصلي صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب السنن.
[عن عدي بن عدي].
هو عدي بن عدي بن عميرة، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن العرس بن عميرة الكندي].
العرس بن عميرة رضي الله عنه صحابي، أخرج له أبو داود والنسائي.(489/13)
شرح حديث: (إذا عملت الخطيئة في الأرض) من طريق أخرى، وتراجم رجال إسناده.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا أبو شهاب عن مغيرة بن زياد عن عدي بن عدي عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه قال: (من شهدها فكرهها كان كمن غاب عنها)].
أورد أبو داود الحديث من طريق آخر، وهو مثل الذي تقدم.
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو شهاب].
أبو شهاب عبد ربه بن نافع الحناط، وهو صدوق يهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن مغيرة بن زياد عن عدي بن عدي عن النبي صلى الله عليه وسلم].
وهذا مرسل.(489/14)
شرح حديث: (لن يهلك الناس حتى يعذروا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن حرب وحفص بن عمر قالا: حدثنا شعبة وهذا لفظه عن عمرو بن مرة عن أبي البختري، قال: أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول، وقال سليمان: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن يهلك الناس حتى يعذروا أو يعذروا من أنفسهم)].
أورد أبو داود حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: مبهم غير معروف، وقد عرفنا أن الجهالة للصحابة لا تؤثر، وأن المجهول فيهم في حكم المعلوم، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
قوله: [(لن يهلك الناس حتى يعذروا أو يعذروا من أنفسهم)].
يعني: فسر بأن المقصود بذلك أنها تكثر فيهم الخطايا والذنوب، وأنهم إنما حصل لهم الهلاك بعد أن قامت عليهم الحجة ولم يبق لهم عذر، بل الحق واضح أمامهم وقد عصوا وأقدموا على ما أقدموا عليه على بصيرة.(489/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (لن يهلك الناس حتى يعذروا)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[قالا: حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن مرة].
هو عمرو بن مرة الهمداني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي البختري].
هو سعيد بن فيروز، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم].
أي: رجل من الصحابة سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث بهذا الحديث.
قوله: [(هذا لفظه)] يرجع إلى حفص بن عمر الذي هو الشيخ الثاني؛ لأن أبا داود له في الحديث شيخان: سليمان بن حرب وهو الشيخ الأول، وحفص بن عمر وهو الشيخ الثاني، وقد ساقه على لفظ حفص، ولهذا قال: وقال سليمان: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه ساقه على لفظ حفص بن عمر، وأشار إلى مخالفة سليمان بن حرب لـ حفص بن عمر.(489/16)
كلام الشنقيطي فيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
بعد أن انتهينا من هذا الباب الذي يتعلق بالأمر والنهي، وسمعنا الكلام الذي نقله صاحب عون المعبود عن الإمام النووي رحمه الله فيما يتعلق بالأمر والنهي، نريد أن نقرأ ما كتبه شيخنا الشيخ: محمد بن أمين الشنقيطي رحمة الله عليه فيما يتعلق بالأمر والنهي، وذلك في أضواء البيان عند قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، فإنه ذكر فوائد ومسائل تتعلق بالأمر والنهي فنحب أن نسمعها.
يقول رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105].
قد يتوهم الجاهل من ظاهر هذه الآية الكريمة عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن نفس الآية فيها الإشارة إلى أن ذلك فيما إذا بلغ جهده فلم يقبل منه المأمور وذلك في قوله: ((إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)).
لأن من ترك الأمر بالمعروف لم يهتد، وممن قال بهذا حذيفة وسعيد بن المسيب، كما نقله عنهم الألوسي في تفسيره وابن جرير، ونقله القرطبي عن سعيد بن المسيب وأبي عبيد القاسم بن سلام ونقل نحوه ابن جرير عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وابن مسعود، فمن العلماء من قال: ((إِذَا اهْتَدَيْتُمْ))، أي: أمرتم فلم يسمع منكم، ومنهم من قال: يدخل الأمر بالمعروف في المراد بالاهتداء بالآية، وهو ظاهر جداً، ولا ينبغي العدول عنه لمنصف، ومما يدل على أن تارك الأمر بالمعروف غير مهتد أن الله تعالى أقسم أنه في خسر، في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
فالحق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد أداء الواجب لا يضر الآمر ضلال من ضل، وقد دلت الآيات كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، والأحاديث على أن الناس إن لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر عمهم الله بعذاب من عنده، فمن ذلك ما خرجه الشيخان في صحيحيهما عن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً مرعوباً يقول: (لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها، فقلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث).
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسلفها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً) أخرجه البخاري والترمذي.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن رأى الناس الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) رواه أبو داود والترمذي بأسانيد صحيحة.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:78 - 81].
ثم قال: كلا والله! لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم ليلعنكم كما لعنهم)، رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن، وهذا لفظ أبي داود.
ولفظ الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً فقال: لا والذي نفسي بيده حتى يأطروهم على الحق أطراً).
ومعنى تأطروهم، أي: تعطفوهم، ومعنى تقصرونه: تحبسونه، والأحاديث في الباب كثيرة جداً، وفيها الدلالة الواضحة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل في قوله: ((إِذَا اهْتَدَيْتُمْ))، ويؤيده كثرة الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110].
وقوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
وقوله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29].
وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر:94].
وقوله: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165].
وقوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25].
والتحقيق في معناها: أن المراد بتلك الفتنة التي تعم الظالم وغيره هي أن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بالعذاب صالحهم وطالحهم، وبه فسرها جماعة من أهل العلم، والأحاديث الصحيحة شاهدة لذلك كما قدمنا طرفاً منها.
مسائل تتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: المسألة الأولى: اعلم أن كلاً من الآمر والمأمور يجب عليه اتباع الحق المأمور به، وقد دلت السنة الصحيحة على أن من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله أنه حمار من حمر جهنم يجر أمعاءه فيها، وقد دل القرآن العظيم على أن المأمور المعرض عن التذكرة حمار أيضاً، أما السنة المذكورة فقوله صلى الله عليه وسلم: (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار، فيقولون: أي فلان ما أصابك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه).
أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
ومعنى (تندلق أقتابه) تتدلى أمعاؤه أعاذنا الله والمسلمين من كل سوء.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت رجعت، فقلت لجبريل: من هؤلاء، قال: هؤلاء خطباء من أمتك كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون)، أخرجه الإمام أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن حبان وابن مردويه والبيهقي كما نقله عنهم الشوكاني وغيرهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن عباس - الظاهر إني أريد - إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فقال ابن عباس: أوبلغت ذلك؟ فقال: أرجو، قال: فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل، قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ ال(489/17)
شرح سنن أبي داود [490]
لابد لكل بداية من نهاية، ولكل مخلوق من فناء، وإن هذه الدنيا التي نعيش فيها سيأتي عليها يوم تنسف جبالها، وتسجر بحارها، ويفنى من عليها، لكن الله عز وجل يقدم لذلك بمقدمات، ويظهر أمارات أخبر بها الأنبياء أقوامهم، كالمسيح الدجال الذي ما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من شيء كتحذيره منه.
هذا كله بالنسبة للقيامة الكبرى، أما الصغرى: فمن مات فقد قامت قيامته، ويكون قبره عليه روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.(490/1)
ما جاء في قيام الساعة(490/2)
شرح حديث: (أرأيتم ليلتكم هذه لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قيام الساعة.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري قال: أخبرني سالم بن عبد الله وأبو بكر بن سليمان أن عبد الله بن عمر قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: أرأيتم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد) قال ابن عمر: فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك فيما يتحدثون عن هذه الأحاديث عن مائة سنة، وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض) يريد أن ينخرم ذلك القرن].
أورد أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة وهي: [باب قيام الساعة، وهي نهاية الدنيا التي يحصل فيها النفخ في الصور؛ النفخة الأولى فيموت من كان حياً، فيستوي في الموت من كان مات في أول الزمان، ومن مات في نهاية الزمان، ويكون الإنس والجن قد انتهوا وماتوا، ثم يحصل البعث في النفخة الثانية، ويبعث الأموات الأولون والآخرون من مات في أول الدنيا، ومن مات في نهاية الدنيا، ومن مات قبل قيام الساعة فقد قامت قيامته وساعته، وانتهى من هذه الحياة الدنيا، ودخل في الحياة الآخرة أو الدار الآخرة، وقبل قيام الناس من قبورهم، الناس في حياة برزخية ولكنها تعتبر تابعة للدار الآخرة؛ لأن أحكامها من جنس أحكام الآخرة وليس من جنس أحكام الدنيا؛ لأن ما قبل الموت دار عمل، وما بعد الموت دار جزاء، سواء كان في القبر أو بعد الحشر وبعد البعث والنشور، ومن كان موفقاً فهو منعم في قبره ومن كان بخلاف ذلك فإنه معذب في قبره، والحد الفاصل هو الموت، وكل من مات قامت قيامته، والساعة متى تقوم لا يعلم ذلك إلا الله عز وجل، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام لما سأله جبريل في الحديث المشهور الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (قال: أخبرني عن الساعة؟! قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، يعني: علم جبريل وعلم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك سواء، فكلهم لا يعلمون متى تقوم، الله تعالى هو الذي يعلم متى تقوم، فلا يُعلم متى تقوم في أي سنة وفي أي يوم من أي شهر، ولكن بلا شك هي لا تقوم يوم السبت ولا الأحد ولا الإثنين ولا الثلاثاء ولا الأربعاء ولا الخميس، وإنما تقوم يوم الجمعة بالتحديد، لأنه ثبت بذلك الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن أي جمعة من أي شهر من أي سنة لا يعلم بذلك إلا الله سبحانه وتعالى، والنبي عليه الصلاة والسلام كان عندما يسأل إما أن يجيب بالجواب الذي أجاب به جبريل: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، وإما أن يشير إلى شيء من أماراتها وعلاماتها، وإما أن يصرف نظر السائل إلى ما هو أهم من ذلك، فقد ثبت في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام كان جالساً في حلقة يحدث أصحابه، فجاء رجل ووقف على تلك الحلقة وقال: يا رسول الله! متى الساعة؟! فالنبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنه، واشتغل مع الناس الذين كان يحدثهم، ولما فرغ من تحديثه لهم قال: (أين السائل عن الساعة؟! فقام الرجل وقال: أنا يا رسول الله! فقال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وما إضاعتها يا رسول الله؟! قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).
فأرشد إلى شيء من علاماتها وأماراتها، ولما سأله رجل فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ لفت نظره إلى الأمر المهم، وهو الاستعداد لما بعد قيام الساعة، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (وماذا أعددت لها؟ فقال: حب الله ورسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب)، وعند ذلك قال أنس بن مالك وهو راوي الحديث: فما فرحنا بشيء فرحنا بهذا الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المرء مع من أحب)، ثم قال أنس: فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب أبا بكر وعمر، وأرجو من الله أن يلحقني بهم لحبي إياهم وإن لم أعمل مثل أعمالهم، فعندما سأله أرشده إلى ما هو أهم، والساعة آتية وكل آت قريب، وليس المهم أن يعرف متى تقوم الساعة، ولكن المهم أن يعرف الإنسان ماذا قدم لنفسه إذا قامت الساعة، فهذا هو الأمر المهم؛ لأنه يحصل بذلك الثواب، وقد جاء عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه كما جاء في صحيح البخاري، قال: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.
كل يوم يمضي من عمر الإنسان يقربه من النهاية، ويقربه من الأجل، ويقربه من الموت، وبعد الموت لا يجد الإنسان إلا ما قدم، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
ويقول سبحانه في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
الحاصل أن الساعة تقوم على شرار الناس، وينفخ في الصور النفخة الأولى فيموت من كان حياً، ثم ينفخ النفخة الثانية فيبعث الجميع؛ الذين كانوا ماتوا في أول الدنيا، والذين ماتوا عند النفخة في الصور، ويتساوى الجميع، ومن مات قبل ذلك فقد قامت قيامته وساعته، وعندما تقوم الساعة تقوم على الذين كانوا أحياء فيموتون، وأما من مات فإنه قد انتهى، فيستوي الجميع في الموت، ثم ينفخ في الصور النفخة الثانية فيبعث الأولون والآخرون من قبورهم، وأول من ينشق عنه القبر نبينا محمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، كما جاء في صحيح مسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع)، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس العشاء الآخرة، فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد).
قوله: [(فإن على رأس مائة سنة منها)] أي: إذا مضى مائة سنة من هذه الليلة لا يبقى على ظهر الأرض أحد ممن كان حياً.
قوله: [(لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد)].
يعني: من كان في تلك الليلة موجوداً، لن تمر مائة سنة إلا وقد انتهى، فعند ذلك وهل الناس فيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظن من ظن أن الساعة تقوم وأن الدنيا تنتهي، وقد بين ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد انخرام ذلك القرن، وليس المقصود من ذلك انتهاء الدنيا، وأن الساعة تقوم والدنيا تنتهي، وإنما المقصود من ذلك أن من كان موجوداً يموت، وهذا يدل على قصر أعمار هذه الأمة؛ فكل من كان على ظهر الأرض في تلك الليلة -وكانت قبل وفاته بقليل- التي أخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا مضى عليهم مائة سنة لا بد وأن ينتهوا، وأما الذين يولدون بعد ذلك اليوم فلا يدخلون في الحديث، لأنه قال: ممن كان في تلك الليلة، ومن يولد بعدها قد ينتهي قبل مائة سنة، وقد يعمر فيتجاوز تلك المائة التي بدايتها تلك الليلة التي قال فيها النبي عليه الصلاة والسلام ذلك الكلام، وأبو داود أورده هنا لأنه له تعلق بقيام الساعة، وهو على حسب ما ظنه من ظن أن الساعة تقوم بعد نهاية مائة سنة، والذي فهمه ابن عمر وغيره أن المقصود بذلك انخرام العصر، ولكنها في الحقيقة كل من مات فقد قامت قيامته وساعته.
قوله: [أن عبد الله بن عمر قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: أرأيتم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد).
قال ابن عمر: فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك فيما يتحدثون عن هذه الأحاديث عن مائة سنة، وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض)، يريد أن ينخرم ذلك القرن].
وهذا تفسير ابن عمر رضي الله عنه، وأن المقصود بذلك انخرام ذلك القرن، وليس المقصود من ذلك نهاية الدنيا، ويستثنى من ذلك عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، فإنه حي ولكنه في السماء، ويستثنى من ذلك الدجال فإنه في جزيرة من الجزر كما مر في حديث الجساسة، وهو حديث ثابت في صحيح مسلم وغيره، وهو في تلك الجزيرة موثق بالحديد، فإذا أذن الله له بالخروج فإنه يخرج، فمسيح الهداية في السماء وسينزل في آخر الزمان، ومسيح الضلالة في الأرض، وستكون نهاية مسيح الضلالة على يدي مسيح الهداية عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام.
فاللفظ ذكر ممن هو على ظهر الأرض، ومعلوم أن الجن يكونون على ظهر الأرض، فيبدو والله أعلم أن الجن والإنس يكونون كذلك.
لكن فيما يتعلق بالجن فإن الشيطان الذي هو إبليس ما زال معمراً يغوي الناس، وبقاؤه مستمر، وقد آلى على نفسه أن يغوي الناس، لكن فيما يتعلق بالإنس والجن يبدو والله تعالى أعلم أن قوله: (من هو على ظهر الأرض) يشمل الإنس والجن، لأنهم جميعاً مسكنهم الأرض.(490/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أرأيتم ليلتكم هذه لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد).
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: أخبرني سالم بن عبد الله].
هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رحمة الله عليه ورضي الله عن عبد الله بن عمر، وهو تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأبو بكر بن سليمان].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[أن عبد الله بن عمر قال].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(490/4)
شرح حديث: (لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن سهل حدثنا حجاج بن إبراهيم حدثنا ابن وهب حدثني معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير عن أبيه عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم)، ونصف اليوم هو خمسمائة سنة، قال تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، فنصفها خمسمائة سنة، فمن العلماء من قال: إن المقصود من ذلك أنه يؤخرها إلى خمسمائة سنة، ولذلك أورده أبو داود هذا الحديث في باب قيام الساعة، ومعناه: أن الساعة قد تقوم بعد خمسمائة سنة، ومن العلماء من قال: إن معناه يتعلق بالفقراء الذين لن يحاسبوا ويدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام والتي هي نصف يوم، فهو لن يعجز الله.
قوله: [(لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم)].
المقصود بذلك: أن يؤخر الأغنياء عن دخول الجنة، وأن يمهلهم للحساب، ويدل عليه ما جاء في الحديث الذي فيه أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة سنة، فهو يبين معنى هذا الحديث، وأنه ليس المقصود بأن الدنيا تنتهي بعد خمسمائة سنة، لأنه مضى على هذا الحديث ألف وأربعمائة وزيادة، يعني: خمسمائة وخمسمائة والخمسمائة الثالثة هي الآن في خمسها الأخير، فإذاً: الذي يبدو أنه كما قال بعض أهل العلم: إن المقصود من ذلك تأخير الأغنياء في الحساب، فيتأخرون عن الفقراء الذين لا حساب عليهم، ويسبقونهم في دخول الجنة بهذه المدة التي هي خمسمائة سنة أو نصف يوم.(490/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم).
قوله: [حدثنا موسى بن سهل].
موسى بن سهل ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا حجاج بن إبراهيم].
حجاج بن إبراهيم ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني معاوية بن صالح].
هو معاوية بن صالح بن حدير، وهو صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن جبير].
عبد الرحمن بن جبير بن نفير، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي ثعلبة الخشني].
هو أبو ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(490/6)
شرح حديث: (إني لأرجو ألا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا أبو المغيرة حدثني صفوان عن شريح بن عبيد عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأرجو ألا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم، قيل لـ سعد: وكم نصف ذلك اليوم؟ قال: خمسمائة سنة)].
أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص، وهو بمعنى ذلك الحديث المتقدم، وقد قال فيه: (إني لأرجو ألا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم).
يعني: الأغنياء منهم يؤخرهم في الحساب نصف يوم، وهو خمسمائة سنة، أي: أن الأغنياء يتأخر دخولهم عن الفقراء بنصف يوم؛ لأن هؤلاء الفقراء يدخلون قبلهم لأنه لا حساب عليهم، وأما الأغنياء فإنهم يحاسبون على أموالهم ما دخل وما خرج منها.(490/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (إني لأرجو ألا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم)
قوله: [حدثنا عمرو بن عثمان].
هو عمرو بن عثمان الحمصي، وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا أبو المغيرة] هو عبد القدوس بن حجاج، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني صفوان].
هو صفوان بن عمرو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن شريح بن عبيد].
شريح بن عبيد، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن سعد بن أبي وقاص].
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، الصحابي الجليل، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(490/8)
الأسئلة(490/9)
حكم ترك دعوة الناس أيام الفتن.
السؤال
هل هذه الأوصاف التي في حديث أيام الصبر تنطبق الآن علينا، فندع العوام وننظر لأنفسنا؟!
الجواب
لا، ليس للإنسان أن يدع الأمر والنهي؛ لأن الأمر والنهي يفيد وإن كثرت الفتن، وإن كانت هذه الصفات موجودة في كثير من الناس، لكن الحديث كما عرفنا ضعيف.(490/10)
الجمع بين حديث أيام الصبر وحديث: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً)
السؤال
كيف يكون للصابر أجر خمسين منهم مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).
الجواب
لأن العمل الذي يحصلونه بسبب صبرهم أجره عظيم، ولكنه بمجموعه وبكل ما حصل فيه لا يمكن أن يساوي أجر الصحبة، ويماثله؛ لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم كل فرد منهم أفضل من كل فرد يجيء من بعدهم، وهذا متفق عليه بين أهل العلم، ولا يعرف خلافه إلا عن أبي عمر بن عبد البر، فإنه قال: يجوز أن يجيء أحد بعد الصحابة أفضل من بعض الصحابة، ولكن هذا خلاف ما عليه العلماء قاطبة، من أن فضل الصحبة لا يعادله شيء، والقليل الذي يحصل من الصحابة لأنه في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي الدفاع عنه، وفي الذب عنه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه خير من الكثير من غيرهم.
وقوله في الحديث (أجر خمسين منكم) قال في فتح الودود: هذا في الأعمال التي يشق فعلها في تلك الأيام، لا مطلقاً.
ومعناه: أنه ليس كل عمل يعملونه أنه ينطبق عليه هذا، وإنما هو في الأمور التي يشق فعلها، والتي يكون فيها وصفه أنه كالقابض على الجمر.
قال في عون المعبود: وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ليس هذا على إطلاقه، بل هو مبني على قاعدتين إحداهما: أن الأعمال تشرف بثمراتها، والثاني: أن الغريب في آخر الإسلام كالغريب في أوله وبالعكس، لقوله عليه الصلاة والسلام: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء من أمتي)، يريد المنفردين عن أهل زمانهم، إذا تقرر ذلك فنقول: الإنفاق في أول الإسلام أفضل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لـ خالد بن الوليد رضي الله عنه: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) أي: مد الحنطة، والسبب فيه أن تلك النفقة أثمرت في فتح الإسلام، وإعلاء كلمة الله ما لا يثمر غيرها، وكذلك الجهاد بالنفوس لا يصل المتأخرون فيه إلى فضل المتقدمين؛ لقلة عدد المتقدمين، وقلة أنصارهم، فكان جهادهم أفضل، ولأن بذل النفس مع النصرة ورجاء الحياة ليس كبذلها مع عدمها، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) فجعله أفضل الجهاد ليأسه من حياته، وأما النهي عن المنكر بين ظهور المسلمين، وإظهار شعائر الإسلام فإن ذلك شاق على المتأخرين؛ لعدم المعين، وكثرة المنكر فيهم، كالمنكر على السلطان الجائر ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر)، لا يستطيع دوام ذلك لمزيد المشقة، فكذلك المتأخر في حفظ دينه، وأما المتقدمون فليسو كذلك؛ لكثرة المعين، وعدم المنكر، فعلى هذا ينزل الحديث.
انتهى.
وعلى كل فلا شك أن الغربة هي غربة في الأول وغربة في الآخر، لكن لا شك أن الغربة الأولى الذين فيها هم خير الناس وأفضلهم، وجهادهم إنما هو مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وعندهم شيء غير الجهاد، وهو تحمل الكتاب والسنة، وكونهم الواسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهم من الأجور والفضائل ما يتفوقون به على غيرهم، ولا يمكن أن يدانيهم أحد بعدهم ولو فعل ما فعل، كما حصل في قصة خالد بن الوليد مع عبد الرحمن بن عوف، حيث قال له صلى الله عليه وسلم: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، ومعنى ذلك: أن الكثير من المتأخرين من الصحابة لا يعادل القليل من عمل المتقدمين، وكذلك الذين يجيئون فيما بعد وإن كان أجرهم عظيماً، إلا أنه بمجموعه لا يعدل الشيء القليل من الذي حصل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندهم زيادة على العمل الذي يعملون ويعمله غيرهم، وهو أنهم هم الواسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل صحابي يروي سنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام له كل أجور من عمل بها من حين تكلم بها ذلك الصحابي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويدخل في ذلك هؤلاء الذين حصل لهم ما حصل، وأنهم يقبضون على دينهم كالقابض على الجمر.(490/11)