بيع السنين(387/17)
شرح حديث (نهى عن بيع السنين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في بيع السنين.
حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا: حدثنا سفيان عن حميد الأعرج عن سليمان بن عتيق عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (نهى عن بيع السنين، ووضع الجوائح)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة (باب بيع السنين) والمقصود بالسنين أن يبيع ثمر النخل لمدة ثلاث سنوات أو خمس سنوات أو سنتين، وذلك لا يجوز؛ لأنه بيع شيء غير موجود، ولا يجوز أن يباع الثمر إلا إذا وجد وبدا صلاحه، وقبل بدو الصلاح لا يجوز بيعه.
إذاً: بيع السنين أن يتفق صاحب النخل أن يبيع ثمرات هذه النخلات لآخر لمدة ثلاث سنوات بكذا إما جملة أو لكل سنة، فهذا لا يجوز؛ لأن الثمر لا يجوز بيعه إلا إذا وجد وبدا صلاحه.
وجاء في بعض الروايات (نهى عن المعاومة) يعني: الأعوام.
قوله: [(ووضع الجوائح)].
يعني: إذا بيع الثمر بعد بدو الصلاح، وحصلت له جائحة، فإنها موضوعة، ويتحملها المالك وليس المشتري، وجاء في بعض الروايات: (بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟) يعني: أنت بعته على أن يستفيد منه، ثم حصل شيء يمنعه من الاستفادة، فبأي حق يأخذ أحدكم مال أخيه؟! إذاً: المقصود بوضع الجوائح أن الثمر الذي أصيب بعد بدو صلاحه يرجع فيه على المالك الذي باعه بقدر ما نقص منه بسبب الجائحة، وهذا إن كان النقص جزئياً، وإن كان كلياً فإنه يرجع عليه بكل ما دفع له.(387/18)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى عن بيع السنين)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ويحيى بن معين].
يحيى بن معين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
سفيان بن عيينة، مر ذكره.
[عن حميد الأعرج].
حميد الأعرج، ليس به بأس -بمعنى صدوق- أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن عتيق].
سليمان بن عتيق وهو صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، وقد مر ذكره.(387/19)
مذهب أهل المدينة في الجوائح
[قال أبو داود: لم يصح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الثلث شيء، وهو رأي أهل المدينة].
مذهب أهل المدينة أن الذي يوضع من الجوائح إذا كان أكثر من الثلث، فإن كان أقل من الثلث فلا توضع الجائحة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح مطلقاً من غير أن يفصل بين ما يكون أقل من الثلث أو أكثر.
وبعض أهل العلم قال: الأمر بوضع الجوائح للاستحباب، لكن الذي يظهر لي أنه للوجوب؛ لأنه قال: (بأي شيء يأخذ أحدكم مال أخيه؟) وهذا يدل على أن أخذه حرام.(387/20)
شرح حديث (نهى عن المعاومة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا حماد عن أيوب عن أبي الزبير وسعيد بن مينا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (نهى عن المعاومة، وقال أحدهما: بيع السنين)].
أورد أبو داود حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المعاومة، وقال أحد الراويين عن جابر: المعاومة، وقال الآخر: السنين، وهما بمعنى واحد.(387/21)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى عن المعاومة)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد؛ لأنه إذا جاء حماد غير منسوب ويروي عنه مسدد؛ فالمقصود به حماد بن زيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب عن أبي الزبير].
أيوب مر ذكره.
وأبو الزبير هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وسعيد بن مينا عن جابر بن عبد الله].
مر ذكرهما.(387/22)
بيع الغرر(387/23)
شرح حديث (نهى عن بيع الغرر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في بيع الغرر.
حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة قالا: حدثنا ابن إدريس عن عبيد الله بن أبي زياد عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (نهى عن بيع الغرر، زاد عثمان: والحصاة)].
أورد أبو داود باباً في بيع الغرر أي: في النهي عنه، والمقصود ببيع الغرر ما لا يتحقق حصوله أو يكون غير موجود أو غير مقدور على تسليمه، مثل السمك في الماء، والطير في الهواء، والعبد الآبق، والناقة الضالة، أو غير ذلك من الأشياء التي لا يتمكن من تسليمها، أو يكون المقصود منه لا يحصل وإن كان يمكن تسليمه؛ لأنه لا يحصل منه المقصود من البيع، فكل هذا يقال له غرر.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر.
زاد عثمان: والحصاة) والحصاة هي من بيع الغرر، وهو أن يقول: أبيعك قطعة من الأرض بمقدار ما تصل إليها الحصاة ثم يرجم حصاة، فالذي تصل إليه الحصاة فهو المبيع، وهذا فيه غرر؛ لأن الناس يتفاوتون في قوة الرمي، فمن الناس من تكون رميته بعيده، ومنهم من تكون قصيرة، فهذا فيه جهالة وغرر، ولا بد أن يكون المبيع محدداً، معروفة حدوده بدايته ونهايته، أما بيع شيء قابل لأن يزيد وينقص ففيه غرر، وهذا لا يجوز، وبيع الحصاة هو من بيع الغرر.(387/24)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى عن بيع الغرر)
قوله: [حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة].
أبو بكر بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وأخوه عثمان بن أبي شيبة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا ابن إدريس].
عبد الله بن إدريس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن أبي زياد].
ليس بالقوي، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة].
أبو الزناد والأعرج وأبو هريرة مر ذكرهم.
وهذا الشخص الذي ليس بالقوي لا يؤثر؛ لأن الأحاديث كثيرة في النهي عن بيع الغرر وعن بيع الحصاة.(387/25)
شرح حديث (نهى عن بيعتين ولبستين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد وأحمد بن عمرو بن السرح وهذا لفظه قالا: حدثنا سفيان عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: نهى عن بيعتين ولبستين، أما البيعتان: فالملامسة والمنابذة، وأما اللبستان: فاشتمال الصماء، وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد كاشفاً عن فرجه، أو ليس على فرجه منه شيء)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيعتين ولبستين) أي: عن نوعين من أنواع البيوع، ولبستين من طرق اللبس، أما البيعتان فالملامسة والمنابذة.
والملامسة: أن يلمس الشيء -مثل الثوب- دون أن يقلبه، فيشتريه بمجرد لمسه له، وقد يكون الثوب من الداخل ليس بطيب أو ليس هو المقصود للمشتري، وهذا فيه غرر، فلابد من أن يراه ويشاهده ويعاينه، أما إذا كانت أشياء معروفة، وكلها من جنس واحد، فلا بأس.
والمنابذة هي: أن ينبذ إليه ثوباً فيتم البيع بهذا النبذ، وليس له الخيار بعد ذلك.
وأما اللبستان فاشتمال الصماء: وهو أن يشتمل في ثوب واحد وليس عليه غيره، ويلقي طرفه على كتفه الأيسر، ويبرز جانبه الأيمن، ويكون مثل الحصاة الصماء يداه من الداخل، ولو حصل له شيء فتحرك انكشفت عورته.
قوله: [(أو أن يحتبي الرجل في ثوب واحد كاشفاً عن فرجه، أو ليس على فرجه منه شيء)].
يعني: ليس عليه إزار، والحبوة هي: أن يجلس على إليته وينصب ساقيه، ثم يأتي بثوبه فيلفه عليه من وراء ظهره وعلى مقدم رجليه، فتكون الجهة التي من فوق مكشوفة إذا كان بغير إزار ولا سراويل، فيمكن أن ترى عورته من فوق، فهذه اللبسة نهى عنها رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن إذا كان عليه إزار أو سراويل، وحصلت هذه الهيئة؛ فالمحذور يزول، وهو ما يخشى من انكشاف العورة.(387/26)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى عن بيعتين ولبستين)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأحمد بن عمرو بن السرح].
أحمد بن عمرو بن السرح ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وهذا لفظه].
يعني لفظ الشيخ الثاني ابن السرح.
[حدثنا سفيان عن الزهري].
سفيان بن عيينة تقدم، والزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن يزيد الليثي].
عطاء بن يزيد الليثي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري هو سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله تعالى عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو مشهور بكنيته أبي سعيد وبنسبته الخدري، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم.(387/27)
شرح حديث النهي عن بيعتين ولبستين من طريق ثانية وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهذا الحديث زاد: (واشتمال الصماء أن يشتمل في ثوب واحد يضع طرفي الثوب على عاتقه الأيسر ويبرز شقه الأيمن، والمنابذة أن يقول: إذا نبذت إليك هذا الثوب فقد وجب البيع، والملامسة أن يمسه بيده ولا ينشره ولا يقلبه، فإذا مسه وجب البيع)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه بيان لمعنى اشتمال الصماء، وكذلك لمعنى الملامسة والمنابذة.
قوله: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ومعمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد].
مر ذكرهم.(387/28)
شرح حديث النهي عن بيعتين ولبستين من طريق ثالثة وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة بن خالد حدثنا يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمعنى حديث سفيان وعبد الرزاق جميعاً)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وأحال فيها على الطريقين السابقتين.
ورجال إسناده كلهم مر ذكرهم إلا عامر بن سعد بن أبي وقاص وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(387/29)
شرح حديث (نهى عن بيع حبل الحبلة) وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة)، وفسر بيع حبل الحبلة بتفسيرين: أحدهما: أن البيع يكون لنتاج النتاج، يعني كرجل عنده ناقة حامل فيقول: إذا ولدت ثم كبر نسلها وحبلت، فولد الولد فهو المبيع! فهو شيء مجهول غير موجود، ولعلهم كانوا يفعلون ذلك من أجل طيب الحيوان سواء كان فرساً أو ناقة، فيحرصون عليه من أجل أصله ونوعه.
التفسير الثاني: أن يشتري شيئاً ويجعل الأجل إذا حصل نتاج النتاج، وهذا أيضاً لا يجوز، وكلاهما فيه غرر.
وإسناد هذا الحديث مر ذكر رجاله كلهم.(387/30)
شرح حديث النهي عن بيع حبل الحبلة من طريق ثانية وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نحوه وقال: (حبل الحبلة أن تنتج الناقة بطنها ثم تحمل التي نتجت)].
وهذا مثل ما تقدم إلا أنه فيه تفسير معنى حبل الحبلة.
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
عبيد الله بن عمر بن حفص بن عمر العمري المصغر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن ابن عمر].
مر ذكرهما.(387/31)
بيع المضطر(387/32)
شرح حديث (نهى عن بيع المضطر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في بيع المضطر.
حدثنا محمد بن عيسى حدثنا هشيم أخبرنا صالح بن عامر -قال: أبو داود: كذا قال محمد - حدثنا شيخ من بني تميم قال: خطبنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أو قال: قال علي، قال ابن عيسى: هكذا حدثنا هشيم، قال: (سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤمر بذلك، قال الله تعالى: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237]، ويبايع المضطرون، وقد نهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمرة قبل أن تدرك)].
أورد أبو داود باباً في بيع المضطر، والمضطر له حالتان: الأولى: أن يكون مكرهاً وملجأ وليس له خيار، فهذا لا يجوز ولا يصح البيع.
الثانية: أن يكون عليه دين ونحوه فيبيع شيئاً من حاجاته من أجل أن يحصل نقوداً ليوفي بها، أو لأنه بحاجة إلى شيء يحتاج إليه في أمور أخرى، فيبيع شيئاً من متاعه أو شيئاً مما عنده وهو بحاجة إليه، فهذا يصح منه البيع، ولكن كونه يساعد ويعان ويقرض أولى من أن يشترى منه، وإذا وقع البيع فإنه يكون صحيحاً، بخلاف الحال الأولى إذا ألزم أو ألجئ إلى البيع من غير اختياره، فإن ذلك لا يصح.
قوله: (سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه)].
يعني: يحصل فيه شح وبخل، حتى أن الموسر يمسك الذي بيديه، ولا يسهل عليه إخراجه.
قوله: [(ولم يؤمر بذلك)].
يعني: لم يؤمر أن يمسك، بل قال الله عز وجل: (وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237].
قوله: [(ويبايع المضطرون)].
إن كان المضطر ملجأ ومكره فهذا البيع لا يصح، وأما المضطر الذي بحاجة إلى أن يبيع بعض متاعه أو شيء مما عنده من أجل أن يوفي ديناً أو من أجل أن يقضي حاجة من حاجاته؛ فهذا يصح منه البيع، ولكن الأولى هو الإرفاق به والإحسان إليه والتعاون معه، والمساعدة له، وهذا هو الأولى من كونه يترك حتى يبيع متاعه وهو بحاجة إليه.
قوله: [(وقد نهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن بيع المضطر، وعن بيع الغرر، وعن بيع الثمرة قبل أن تدرك)].
(قبل أن تدرك) أي: قبل أن يبدو صلاحها.(387/33)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى عن بيع المضطر)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
محمد بن عيسى الطباع ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا هشيم].
هشيم بن بشير الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا صالح بن عامر].
صالح بن عامر قال الحافظ: الصواب أبو عامر، وهو صدوق كثير الخطأ، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن شيخ من بني تميم].
هذا الشيخ مبهم.
[عن علي].
علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(387/34)
الأسئلة(387/35)
حكم الإيجار المنتهي بالتمليك
السؤال
ما حكم الإيجار المنتهي بالتمليك؟
الجواب
هذه المسألة من المسائل الجديدة التي حدثت في هذا الزمان، وأذكر أن الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه كان يؤخر الإفتاء بها عندما يسأل عنها، وقال: إنه كلف من يبحثها، وبعد ذلك بحثت المسألة وانتهى الأمر إلى أنها لا تجوز، وأفتى بعدم جوازها.(387/36)
حكم شراء سندات مخفضة لبعض الناس خاصة ثم بيعها على غيرهم بربح
السؤال
عندنا في الجامعة تباع البونات لطلاب الثانوية بسعر مخفض، فهل يجوز لطلاب الثانوية أن يشتروا هذه البونات ثم يبيعونها على طلاب الكلية بربح؟
الجواب
ليس لهم ذلك، فإن كان محتاجاً إليها أخذها واستفاد منها، وإن كان غير محتاج لها تركها، ولا يشتريها ثم يتكسب من ورائها.(387/37)
وضع الجوائح في الزرع خاصة
السؤال
لو أن رجلاً اشترى من آخر سيارة، ووقعت عليها آفة مثل حادث أو سرقة، فهل هذه جائحة توضع مثل الزرع؟
الجواب
لا، هذا شيء تم وانتهت البيعة، وهذا استلم السيارة ودخلت في ملكه، وانقطعت صلة المالك بها.(387/38)
حكم الاحتباء يوم الجمعة
السؤال
هل المنع عن الاحتباء في يوم الجمعة عند الاستماع إلى الخطبة يزول إذا أمن من كشف العورة؟
الجواب
ليس النهي عن الاحتباء يوم الجمعة من أجل كشف عورة، وإنما المقصود من ذلك ألا يحصل له نوم أو نعاس والخطيب يخطب فيغفل عن الخطبة، أو ينتقض وضوءه فيحتاج إلى أن يخرج.(387/39)
حكم من تسببت في قتل جنينها
السؤال
امرأة حامل في الشهر التاسع حملت شيئاً ثقيلاً فأحست بحركة داخل الرحم، وبعد أيام أحست بآلام فذهبت إلى المستشفى وأخبروها بأن الجنين قد مات منذ أيام، فهل عليها كفارة؟
الجواب
الظاهر أن عليها كفارة؛ لأنها متسببة في الهلاك.(387/40)
شرح سنن أبي داود [388]
الإسلام يدعو إلى العمل لعمارة الأرض والضرب في مناكبها؛ من أجل تحقيق عبادة الله فيها، وقد حث الله على التعاون على البر والتقوى، ومن ذلك التعاون في التجارة بأنواع الشركات، وقد بين أهل العلم أنواع الشركات وأحكامها وضوابطها.(388/1)
باب الشركة(388/2)
شرح حديث (أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه)
قال المنصف رحمه الله تعالى: [باب الشركة.
حدثنا محمد بن سليمان المصيصي حدثنا محمد بن الزبرقان عن أبي حيان التيمي عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه قال: (إن الله يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في الشركة، والشركة: هي الاشتراك في تجارة، سواء قدم كل منهما منه مالاً وعملاً أو يكون من أحدهما المال والثاني منه العمل، أو ليس بأيديهم مال، ولكن عندهم عمل، فيشتغلون بأبدانهم، فكل هذه من الشركة.
والأصل فيها الجواز؛ إلا إذا وجد شيء أو شرط يؤدي إلى أمر فيه غرر أو محذور.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما) والمقصود من ذلك أن الله مع الشريكين في تسديده وإعانته وتوفيقه ما داما صادقين، ولم يكن هناك خيانة، فإن لم يحصل الصدق يمنعا من البركة بسبب الخيانة التي حصلت منهما أو من أحدهما.
وهذا الحديث القدسي من أحاديث المعية، والمعية عند العلماء نوعان: معية عامة ومعية خاصة، والمعية الخاصة هي التي تكون من الله عز وجل بالحفظ والكلاءة والإعانة والتسديد والتوفيق، والمعية العامة هي التي تكون لكل أحد، ولا يختص بها أحد دون أحد.
ومن المعية الخاصة ما جاء في هذا الحديث، ومنها ما جاء في قصة أبي بكر مع رسول الله عليه الصلاة والسلام في طريق الهجرة لما كان رسول الله عليه الصلاة والسلام وأبو بكر في الغار، وكان الكفار يبحثون عنهما، فوصلوا إلى باب الغار، فكان رسول الله عليه الصلاة والسلام وأبو بكر يريان أقدام الكفار، فقال أبو بكر: لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدمه لأبصرنا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) يعني: بحفظه وتسديده وإعانته.
وأما المعية العامة فهي مثل قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]، فهذه معية عامة تكون لكل أحد، وأما المعية الخاصة فهي التي تكون بالنصر والتأييد والتسديد والتوفيق.
وهذا الحديث فيه ضعف، لكن لا شك أن الصدق سبب لحصول البركة، وأن الخيانة والكذب سبب من أسباب محق البركة.(388/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه)
قوله: [حدثنا محمد بن سليمان المصيصي].
محمد بن سليمان المصيصي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا محمد بن الزبرقان].
محمد بن الزبرقان وهو صدوق ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن أبي حيان التيمي].
أبو حيان التيمي هو يحيى بن سعيد بن حيان التيمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو في طبقة يحيى بن سعيد الأنصاري، والذين يقال لهم: (يحيى بن سعيد) في الكتب الستة أربعة، اثنان في طبقة متقدمة، واثنان في طبقة متأخرة، فاللذان في طبقة متقدمة هما: يحيى بن سعيد بن حيان هذا، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهما من طبقة صغار التابعين، واللذان في طبقة متأخرة هما: يحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن سعيد الأموي.
وهما في طبقة متأخرة.
[عن أبيه].
هو سعيد بن حيان قال عنه الحافظ: وثقه العجلي.
ولم يجزم بتوثيقه ابن حجر، وإنما عزا توثيقه إلى العجلي، والعجلي قريب من ابن حبان في التساهل، فمن أجل ذلك تكلم بعض أهل العلم في هذا الحديث من أجل سعيد بن حيان والد يحيى بن سعيد.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
[رفعه].
يعني: رفعه أبو هريرة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذه اللفظة بمعنى: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام، أو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كلمة (رفعه) أو (ينميه) أو (يبلغ به) كلها بمعنى واحد، والذي يقولها هو من دون الصحابي، ولعل السبب في ذلك أنه ما أتقن الصيغة التي أضافها إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكن كلمة (رفعه) يحصل بها المقصود، سواء قال: سمعت أو قال: قال رسول الله، فإن الكل مرفوع إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام.(388/4)
المضارب يخالف(388/5)
شرح حديثي عروة البارقي في شراء أضحية للنبي عليه الصلاة والسلام
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المضارب يخالف.
حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الشبيب بن غرقدة قال: حدثني الحي عن عروة -يعني ابن أبي الجعد البارقي - رضي الله عنه أنه قال: (أعطاه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ديناراً يشتري به أضحية أو شاة، فاشترى شاتين فباع إحداهما بدينار، فأتاه بشاة ودينار، فدعا له بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى تراباً لربح فيه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة (باب في المضارب يخالف) يعني: يخالف الشيء الذي طلب منه، أو الشيء الذي كلف به، أو عهد به إليه، أو اشترط عليه، فالمضارب يجب أن يتقيد بالشيء الذي طلب منه، فإذا قيل له: تاجر في البز فقط لم يبع الحديد أو السيارات؛ لأنه قد يكون صاحب المال يعرف أن المضارب يجيد البيع في جهة معينة، وهو يريد أن يقصره على شيء يتقنه، ولو دخل في شيء لا يتقنه فإن ذلك يكون سبباً في الخسارة أو المضرة.
فالمضارب إذا طلب منه شيء أو حدد له شيء فإنه يتقيد به، ولو خرج عنه وحصل منه تفريط فإنه يكون ضامناً، فلو اشترط عليه أن يشتغل في أمر معين ثم اشتغل في شيء آخر لا يتقنه فخسر فإنه يضمن رأس المال له، إلا إذا سامحه صاحب المال وأقره فهذا شيء آخر.
أورد أبو داود حديث عروة البارقي رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به أضحية أو شاة، فاشترى به شاتين، وباع إحداهما بدينار، فجاء بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى تراباً لربح فيه)، وهذه مبالغة، وإشارة إلى حصول البركة في بيعه، وأن الربح يحصل له باستمرار ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له.
والحديث لا يتعلق بالمضاربة، وإنما فيه وكالة، فالرسول صلى الله عليه وسلم وكله ليشتري شاة وأعطاه ديناراً، فاشترى شاتين بدينار ثم باع واحدة منهما بدينار، وجاء بشاة وبدينار، فهو دليل على أنه إذا أقر الموكل المضارب على شيء تصرف فيه فلا إشكال، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقر هذا على هذا التصرف، وهو كونه اشترى بالدينار شاتين، وباع إحداهما وجاء بشاة، ولو أنه ذهب واشترى بنصف دينار شاة ثم رجع بشاة وبنصف دينار لأقره؛ لأن المقصود أن يأتي بشاة، فقد تكون قيمة الشاة نصف الدينار فيشتري شاة بنصف دينار، ويأتي بالنصف الباقي، هذا هو الأصل، ولكن كونه اشترى بدينار شاتين، ثم باع إحداهما فهذا تصرف في البيع والشراء في غير ما وكل به، ولكنه إذا فوض إليه أو أقره الموكل على ذلك كما فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام فلا بأس به.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن الصباح حدثنا أبو المنذر حدثنا سعيد بن زيد -هو أخو حماد بن زيد - حدثنا الزبير بن خريت عن أبي لبيد قال: حدثني عروة البارقي بهذا الخبر، ولفظه مختلف].
أورد أبو داود الحديث السابق بإسناد آخر، فالحديث جاء بإسنادين، أحدهما فيه جهالة وهو الرواية عن جمع، والإسناد الآخر ليس فيه إبهام، بل الإسناد كله متصل، فأحدهما يشهد للآخر، فيكون الحديث صحيحاً.(388/6)
تراجم رجال إسناد حديثي عروة البارقي في شراء أضحية للنبي عليه الصلاة والسلام
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي والترمذي.
[حدثنا سفيان].
سفيان بن عيينة المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شبيب بن غرقدة].
شبيب بن غرقدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحي].
أي: عن عدد من الناس مبهمون.
[عن عروة يعني ابن أبي الجعد البارقي].
عروة بن أبي الجعد البارقي رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وقوله: [حدثنا الحسن بن الصباح].
الحسن بن الصباح البزاز صدوق يهم، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو المنذر].
هو إسماعيل بن عمرو الواسطي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد].
سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد بن درهم، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا الزبير بن الخريت].
الزبير بن الخريت وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[عن أبي لبيد].
هو لمازة بن زبار وهو صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن عروة].
مر ذكره.(388/7)
حكم بيع الفضولي
بيع عروة هذا يسمى عند الفقهاء ببيع الفضولي.
ولو أن رجلاً أعطى شخصاً سلعة، وكلفه ببيعها بسعر محدد، فباعها الوكيل بأكثر من السعر، وأعطى البائع أمواله، وأخذ الباقي من غير علمه، فهذا غير جائز، لأنه حدد له السعر حتى لا يبيع بأقل من هذا، لكن إذا حصل شيء أكثر من هذا فصاحب المال أحق به منه، وإذا كان بينهما اتفاق فيأخذ المتفق عليه، وإذا لم يكن بينهما اتفاق فيعطيه ما يعطى مثله على حسب ما اعتاده الناس، إلا أن يكون هناك اتفاق بينهما.(388/8)
شرح حديث حكيم بن حزام في شراء أضحية للنبي عليه الصلاة والسلام
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير العبدي أخبرنا سفيان حدثني أبو حصين عن شيخ من أهل المدينة عن حكيم بن حزام رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث معه بدينار يشتري له أضحية، فاشتراها بدينار وباعها بدينارين، فرجع فاشترى له أضحية بدينار، وجاء بدينار إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتصدق به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودعا له أن يبارك له في تجارته)].
أورد أبو داود حديث حكيم بن حزام رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به أضحية، فاشترى شاة وباعها بدينارين، واشترى بأحد الدينارين شاة، وجاء بشاة ودينار كما حصل في قصة البارقي، فالنبي صلى الله عليه وسلم، دعا له، وتصدق بذلك الدينار.
والحديث في إسناده رجل مبهم، وهو مثل حديث عروة البارقي إلا أن فيه زيادة التصدق، وبعض أهل العلم قال: إن في هذا دليلاً على أن الشيء إذا كان فيه شبهة فالتورع يكون بالتصدق به في الأمور الممتهنة مثل بناء حمامات وتعبيد طرق، وقد مر بنا قصة المرأة التي دعت النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام، فلما قدمت لهم الشاة لاك الرسول صلى الله عليه وسلم قطعة من اللحم وقال: (إن هذه الشاة أخذت بغير إذن أهلها) فسألوا المرأة، وذكرت لهم القصة، فقال: (أطعموه الأسارى).
ويحتمل أن النبي عليه الصلاة والسلام تصدق بالدينار لأنه قد خرج عنه للقربة لله تعالى في الأضحية، فكره أكل ثمنها كما ذكره في نيل الأوطار.(388/9)
تراجم رجال إسناد حديث حكيم بن حزام في شراء أضحية للنبي عليه الصلاة والسلام
قوله: [حدثنا محمد بن كثير العبدي].
محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
سفيان بن سعيد ين مسروق الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبو حصين].
هو عثمان بن عاصم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شيخ من أهل المدينة].
هذا مبهم.
[عن حكيم بن حزام].
هو صحابي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(388/10)
حكم المضاربة
المضاربة من أنواع الشركة، وهي: أن يكون رجل عنده مال، وآخر ليس عنده مال، ولكن عنده قدرة على العمل، فيشتركان، هذا برأس المال وهذا بالعمل.
وسميت مضاربة لأنها تحتاج إلى الضرب في الأرض بالأسفار والانتقال لتنمية المال، ولا خلاف بين أهل العلم في جواز المضاربة، وابن تيمية رحمه الله يقول: مسائل الإجماع تستند إلى نص، وقال بعض أهل العلم: ما من مسألة أجمع عليها إلا ولها نص هي مستندة إليه إما جلي وإما خفي.
قيل: والمسألة التي ثبتت بإجماع مجرد وليس فيها نص هي المضاربة، لكن المضاربة قد ورد فيها نص، وهي أنها من المعاملات التي كانت في الجاهلية وأقرها الإسلام، فإقرار الإسلام لها هو النص؛ لأن السنة قول وفعل وتقرير، فإذاً الإجماع عليها مستند إلى نص، وهو تقرير النبي صلى الله عليه وسلم للمضاربة التي كانت في الجاهلية، فالرسول صلى الله عليه وسلم أقرها وأبقاها، ومعلوم أن من أعمال الجاهلية ما أبطله الإسلام، ومنها ما أقره الإسلام، ومما أقره هذه المسألة، واعتبار الولي في النكاح، كما قالت عائشة: كان الرجل في الجاهلية يأتي إلى الرجل ويطلب منه موليته فيزوجها إياه، وجاء الإسلام واعتبر الولي في النكاح، فهو من الأحكام التي كانت في الجاهلية وأقرها الإسلام، والمضاربة من هذا القبيل.
والمضاربة تكون بعمل من أحدهما وبمال من الآخر، ويكون الربح بالنسبة التي يتفقان عليها، ولا يكون بمقدار معين، فلا يقول: لي كذا والباقي لك، فهذا لا يصح؛ لأنه قد لا يحصل إلا هذا الذي اشترط لأحدهما، فيكون الثاني ليس له شيء، وإنما تكون بالنصف أو الثلث أو الثلثين أو الربع أو ثلاثة أرباع، على حسب ما يتفقان عليه.
ومثل ذلك المزارعة والمساقاة تكون على النصف والثلث والثلثين، وهي بمعنى المضاربة، وقد جاءت فيها نصوص.
ومثل ذلك لو أن إنساناً أعطى إنساناً سيارته الأجرة وقال له: اشتغل عليها والربح بيني وبينك نصفان، فهذا صحيح.
والخسارة في المضاربة تكون على صاحب رأس المال وليست على العامل، والعامل خسارته عمله الذي ضاع بدون مقابل، فكل منهما قد يخسر، العامل خسر جهده بدون مقابل، والمالك ضاع رأس ماله أو بعض رأس ماله، ولا يجوز أن يحمل العامل ضمانة رأس المال لو خسر، وهذا شرط باطل، واختلف العلماء هل هذا الشرط يبطل العقد من أصله، أم يلغى الشرط والعقد باق؟ ومثل هذا الشرط باطل بإجماع العلماء، وإنما الخلاف بينهم هل يبطل العقد من أصله أو أن الشرط هو الذي يبطل والعقد باق، ويكون مثل قصة بريرة عندما اشترط أهلها الولاء، فأقر الرسول صلى الله عليه وسلم البيع وأبطل الشرط.
وهذه الأحاديث التي وردت في هذا الباب فيها وكالة وليس فيها مضاربة، فمناسبتها للباب من باب القياس؛ لأن الكل تصرف بغير إذن.(388/11)
الرجل يتجر في مال الرجل بغير إذنه(388/12)
شرح حديث فرق الأرز
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يتجر في مال الرجل بغير إذنه.
حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة حدثنا عمر بن حمزة أخبرنا سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من استطاع منكم أن يكون مثل صاحب فرق الأرز فليكن مثله، قالوا: ومن صاحب فرق الأرز يا رسول الله؟! فذكر حديث الغار حين سقط عليهم الجبل فقال كل واحد منهم: اذكروا أحسن عملكم قال: وقال الثالث: اللهم! إنك تعلم أني استأجرت أجيراً بفرق أرز، فلما أمسيت عرضت عليه حقه فأبى أن يأخذه وذهب، فثمرته له حتى جمعت له بقراً ورعاءها فلقيني فقال: أعطني حقي، فقلت: اذهب إلى تلك البقر ورعاءها فخذها، فذهب فاستاقها)].
أورد أبو داود باباً في الرجل يتجر في مال الرجل بغير إذنه، يعني: أن الأصل عدم الجواز، وأنه لا يتجر إلا بإذنه، ولو حصلت خسارة فإنه مفرط.
فأورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر، وفيه إشارة إلى قصة أصحاب الغار الثلاثة الذين كانوا يمشون في فلاة من الأرض، فأصابهم مطر في ليلة ظلماء، فدخلوا في غار، فانحدرت صخرة من الجبل وسدت عليهم باب الغار، فكانوا لا يستطيعون الخروج، فصاروا مقبورين وهم أحياء في هذا الغار، ولا أحد يعلم بحالهم إلا الله عز وجل، ففكروا ماذا يصنعون؟ ورأوا أن يتوسلوا إلى الله عز وجل بأعمال عملوها لله خالصة في حال رخائهم؛ ليفرج الله عنهم ما هم فيه من حال شدتهم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في وصيته لـ ابن عباس: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) يعني: أن الإنسان إذا عمل في حال رخائه أعمالاً خالصة لله عز وجل، فإن الله تعالى يفرج عنه في حال شدته كما قال سبحانه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، فأحدهم توسل إلى الله ببر الوالدين، والثاني توسل إلى الله بترك الزنا مع القدرة عليه، والثالث توسل إلى الله عز وجل بحفظ مال الأجير وتنميته وإعطائه له كاملاً غير منقوص.
ومحل الشاهد من إيراد الحديث هو كون الذي استأجر أجيراً نمى هذه الأجرة التي سخطها صاحبها ولم يأخذها، حتى بلغت قطيعاً من البقر ولها رعاء، يعني: عبيداً يرعونها، وجاء الأجير بعد مدة وقال: أعطني حقي، فقال: كل هذا حقك فقال: أتستهزئ بي؟! فقال: لا أستهزئ بك، فأخذه كله، فتوسل إلى الله عز وجل فانفرجت الصخرة عنهم وخرجوا من الغار.
وهذا الرجل أراد أن يحسن إلى الأجير وحقه مضمون في ذمته، وفي نيته أنه لو جاء سيعطيه إياه كله، فصار محسناً في عمله عندما أعطاه تلك الأشياء الكثيرة، لكن كون الإنسان يتصرف في مال غيره بغير إذنه ثم يحصل فيه خسارة فإنه يكون ضامناً إلا إذا أقره صاحب الحق على تصرفه.(388/13)
تراجم رجال إسناد حديث فرق الأرز
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو أسامة].
أبو أسامة حماد بن أسامة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عمر بن حمزة].
وهو ضعيف، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[أخبرنا سالم بن عبد الله].
سالم بن عبد الله بن عمر وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادله الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي الله صلى الله عليه وسلم.
والحديث في سنده ضعيف، لكن قصة أصحاب الغار وتوسلهم إلى الله عز وجل بأعمالهم الصالحة ثابتة في الصحيحين.(388/14)
الشركة على غير رأس مال(388/15)
شرح حديث اشتراك ابن مسعود وعمار وسعد فيما يغنمون
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الشركة على غير رأس مال.
حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا يحيى حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: (اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر، قال: فجاء سعد بأسيرين، ولم أجىء أنا وعمار بشيء)].
أورد أبو داود باب الشركة على غير رأس مال، وهذه شركة الأبدان، بأن يتفق أشخاص فيما بينهم على أنهم يعملون ثم يجمعون ما يحصلون ثم يقتسمونه بينهم، كأن يكونوا حطابين أو عمالاً أو يشتركون فيما يصيبون من الغنائم.
وأورد أبو داود حديث عبد الله بن مسعود قال: (اشتركت أنا وعمار وسعد يوم بدر فيما نصيب، فجاء سعد بأسيرين، ولم أجئ أنا وعمار بشيء) يعني: أنهم اشتركوا في الأسيرين, والأصل هو جواز مثل هذه الشركة، لكن هذا الحديث ضعيف؛ لأن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه، فهو منقطع.(388/16)
تراجم رجال إسناد حديث اشتراك ابن مسعود وعمار وسعد فيما يغنمون
قوله: [حدثنا عبيد الله بن معاذ].
عبيد الله بن معاذ العنبري ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان عن أبي إسحاق].
سفيان هو الثوري، وأبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عبيدة].
أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(388/17)
شرح سنن أبي داود [389]
لقد جاءت عدة أحاديث -منها ما يثبت ومنها ما لا يثبت- في النهي عن المزارعة والمساقاة، والصواب جواز ذلك، فقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم يهود خيبر على أرض خيبر على نصف ما يخرج من ثمارها وزروعها، وقد عمل بذلك الخلفاء الراشدون من بعده.
والمزارعة: هي إجارة الأرض على جزء مما يخرج منها.(389/1)
المزارعة(389/2)
شرح حديث (لأن يمنح أحدكم أرضه خير من أن يأخذ عليها خراجاً معلوماً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المزارعة.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (ما كنا نرى في المزارعة بأساً حتى سمعت رافع بن خديج رضي الله عنه يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عنها.
فذكرته لـ طاوس فقال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم ينه عنها، ولكن قال: لأن يمنح أحدكم أرضه خير من أن يأخذ عليها خراجاً معلوماً)].
أورد أبو داود باب المزارعة، وهي: استئجار الأرض على جزء معلوم مما يخرج منها كالنصف أو الثلث أو الثلثين، فرجل يدفع الأرض، والآخر يعمل فيها، فهي من جنس المضاربة، إلا أن المضاربة فيها رجل دفع رأس مال، والآخر يعمل، وهذه أحدهما دفع أرضاً ليعمل الآخر عليها على النصف أو الثلث أو الثلثين أو أي نسبة معينة، وهي سائغة وجائزة، ومما يدل عليها قصة معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر، فإنه عاملهم على نصف ما يخرج منها من ثمر وزرع، وهذا يدل على صحة المزارعة وصحة المساقاة، ولكن جاءت أحاديث عديدة في النهي عن المزارعة، وهي تحمل على أنه يعطيها أو يعيرها أخاه أولى من كونه يأخذ عليها أجراً معلوماً، ولا شك أن كون الإنسان يعطي أخاه أو يعيره ويرفق به أولى من كونه يؤجر له، ولكن إن أجر له الأرض فإن ذلك صحيح، والإجارة صحيحة، وقد ثبتت في قصة خيبر وفي غيرها.
وقد جاء في بعض الأحاديث أن المنع من المزارعة كان لسبب، وهو أنهم كانوا يشترطون نواحي معينة من الأرض، فيقول: لي القطعة الفلانية ولك القطعة الفلانية، وهذا لا يجوز، والرسول صلى الله عليه وسلم منع من ذلك؛ لأنها قد تثمر جهة، والجهة الأخرى لا يحصل فيها شيء، فيكون أحدهما استقل عن صاحبه بالفائدة، لكن إذا كانت الغلة بينهما على النسبة من نصف أو ربع أو ثلث فإن أي شيء نتج ولو قل فهما شركاء فيه، وإن حصلت خسارة فإن الربح يذهب عنهما جميعاً، فهذا أرضه استخدمت بدون فائدة ولم يحصل من ورائها طائل، وهذا عمل ولم يحصل طائلاً، أما كون أحدهما يشترط جهة معينة أو نوعاً معيناً من الثمر، فيقول: النوع الفلاني من النخل لي، والنوع الآخر لك، فهذا لا يجوز، وإنما يجوز الاشتراك على نسبة يتفقان عليها كما تقدم.
قوله: [(ما كنا نرى بالمزارعة بأساً)].
يعني: أن الإنسان يؤجر أرضه بجزء مما يخرج منها معلوم النسبة.
قال: [(حتى سمعت رافع بن خديج يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنها)].
هذا النهي يحمل على ما فيه تقييد بما على الماذيانات وأقبال الجداول، وهذا منهي عنه، ولا يجوز، وحكمه باق.
وقد جاء في بعض الأحاديث النهي عن تأجير الأرض بثلث ما يخرج منها أو ربعه، ولعل هذا كان في أول الأمر من باب المساعدة والإرفاق، ولاسيما وأن المهاجرين قدموا إلى المدينة، فكونهم يساعدونهم بأن يمنحونهم الأرض ولا يأخذون عليهم أجرة هو الأولى، وهذا طيب في جميع الأوقات، ولكن إذا حصلت الإجارة المشروعة السائغة التي هي مزارعة على جزء معلوم بالنسبة مما يخرج من الأرض؛ فهذا لا بأس به.
قوله: [(فذكرته لـ طاوس فقال: قال لي ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم ينه عنها، ولكن قال: لأن يمنح أحدكم أرضه خير من أن يأخذ عليها خراجاً معلوماً)].
وهذا إرشاد إلى الأولى وليس فيه نهي، ولعل رافعاً فهم المنع من قوله: (لأن يمنح أحدكم أرضه خير)، لكن ابن عباس بين أنه لم ينه عن ذلك.(389/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لأن يمنح أحدكم أرضه خير من أن يأخذ عليها خراجاً معلوماً)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار].
عمرو بن دينار المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
ابن عمر مر ذكره.
[سمعت رافع بن خديج].
رافع بن خديج صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[قال: فذكرته لـ طاوس].
طاوس بن كيسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(389/4)
شرح حديث (إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن علية ح وحدثنا مسدد حدثنا بشر المعنى، عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن الوليد بن أبي الوليد عن عروة بن الزبير قال: قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: يغفر الله لـ رافع بن خديج رضي الله عنه! أنا والله أعلم بالحديث منه، إنما أتاه -رجلان قال مسدد: من الأنصار، ثم اتفقا- قد اقتتلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع)، زاد مسدد: (فسمع قوله: لاتكروا المزارع)].
أورد أبو داود حديث زيد بن ثابت وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تكروا المزارع)، وبناء على ما حصل بينهم من الخصومة جاء هذا النهي، وقد جاء ما يدل على ثبوت الكراء سواء بالدراهم والدنانير أو بجزء معلوم بالنسبة مما يخرج منها، وكل ذلك لا بأس به.
وقوله: (لا تكروا) إشارة إلى المنع، ولكنه يمكن أن يحمل على كراهة التنزيه، وعلى خلاف الأولى، لاسيما وأنه قد يؤدي إلى الخصام، ولكن كونهم يتفقون على شيء معين ولا يحصل بينهم اختلاف فيه، فلا بأس بذلك.(389/5)
تراجم رجال إسناد حديث (إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
أبو بكر بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا ابن علية].
إسماعيل بن إبراهيم بن علية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحدثنا مسدد].
مسدد مر ذكره.
[حدثنا بشر].
بشر بن المفضل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن إسحاق].
عبد الرحمن بن إسحاق صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً وفي الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار].
وهو مقبول، أخرج له أصحاب السنن.
[عن الوليد بن أبي الوليد].
الوليد بن أبي الوليد لين الحديث، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عروة بن الزبير].
عروة بن الزبير بن العوام وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن ثابت].
زيد بن ثابت رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
الحديث في إسناده راويان فيهما مقال، والثابت إباحة المزارعة ومشروعيتها، وأوضح دليل عليها قصة خيبر، فقد فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها أبو بكر وعمر من بعده، فهي حكم محكم ليس بمنسوخ، فالرسول صلى الله عليه وسلم توفي والعمل قائم عليها، وعمل به من بعده أبو بكر وعمل بها من بعده عمر، وكذلك الناس إلى الآن يتعاملون بهذه المعاملة.(389/6)
شرح حديث (كنا نكري الأرض بما على السواقي من الزرع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن سعيد بن المسيب عن سعد رضي الله عنه قال: (كنا نكري الأرض بما على السواقي من الزرع وما سعد بالماء منها، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ذلك، وأمرنا أن نكريها بذهب أو فضة)].
أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص أنهم كانوا يكرون الأرض بما على السواقي، يعني: يقول صاحب الأرض: لي هذا والباقي لك، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك، وأمرهم أن يكروا الأرض بالذهب والفضة، ومعروف أن الأجرة هي كذا دينار أو كذا درهم، وما يحصل في الأرض يكون كله للعامل أو يكون كله للمالك والعامل يكون له أجرة عمله، والثمرة كلها لصاحبها، ولكن لو حصل أنها أجرت بجزء معلوم مما يخرج منها -وهذه هي المزارعة- فإنه يصح.(389/7)
تراجم رجال إسناد حديث (كنا نكري الأرض بما على السواقي من الزرع)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا يزيد بن هارون].
يزيد بن هارون الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا إبراهيم بن سعد].
إبراهيم بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام].
محمد بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام هو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة].
محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة ضعيف، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعد].
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(389/8)
شرح حديث رافع في كراء الأرض بالذهب والفضة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عيسى حدثنا الأوزاعي ح وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث كلاهما عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن -واللفظ للأوزاعي - قال: حدثني حنظلة بن قيس الأنصاري قال: (سألت رافع بن خديج رضي الله عنه عن كراء الأرض بالذهب والورق؟ فقال: لا بأس بها، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا؛ فلذلك زجر عنه، فأما شيء مضمون معلوم فلا بأس به)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث رافع بن خديج، وفيه تفصيل لما أجمل في بعض الأحاديث.
قوله: [(سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق فقال: لا بأس بها)].
يعني: كون الأجرة تكون نقوداً وليس هناك شيء مجهول فلا بأس بها.
قوله: [(إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع)].
يعني: أنهم كانوا يؤاجرون على أماكن معينة تحظى بالماء وتستفيد من الماء، فيكون الثمر فيها قوياً وجيداً وحسناً، فيقول أحدهما: هذه الجهة لي والباقي لك، فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا وزجر عنه؛ لأن هذا يؤدي إلى أن أحدهما يظفر بالفائدة والثاني لا يحصل شيئاً، وهذا فيه اختصاص لأحدهما بالمال دون الآخر، وهو غير سائغ، وإنما كل واحد منهما يحصل نصيبه، فهذا يحصل الثمرة وهذا يحصل الأجرة، سواء كانت هذه الأجرة عن طريق ذهب وفضة أو عن طريق اشتراك بنسبة معينة؛ لأن هذا شيء مضمون أن كل واحد يحصل نصيبه، أما أن يكون أحدهما له جزء معين من الأرض فقد لا ينبت إلا هو، ويكون قد اختص أحدهما بالثمرة دون الآخر، وهذا هو الذي زجر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: فأما شيء معلوم مضمون فلم ينه عنه.(389/9)
تراجم رجال إسناد حديث رافع في كراء الأرض بالذهب والفضة
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي].
إبراهيم بن موسى الرازي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا عيسى].
عيسى بن يونس بن أبي إسحاق ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأوزاعي].
عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
الليث بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[كلاهما عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن].
ربيعة بن أبي عبد الرحمن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حنظلة بن قيس الأنصاري].
حنظلة بن قيس الأنصاري ثقة، وقيل: له رؤية، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن رافع].
رافع بن خديج مر ذكره.
قال أبو داود: [وحديث إبراهيم أتم].
هو إبراهيم بن موسى، وهو الشيخ الأول.
[وقال قتيبة عن حنظلة عن رافع].
يعني: بدون سؤال.
[قال أبو داود: رواية يحيى بن سعيد عن حنظلة نحوه].(389/10)
شرح حديث رافع في كراء الأرض بالذهب والفضة من طريق أخرى وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن حنظلة بن قيس: (أنه سأل رافع بن خديج رضي الله عنه عن كراء الأرض؟ فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كراء الأرض، فقلت: أبا لذهب والورق؟ فقال: أما بالذهب والورق فلا بأس به)].
وهذا الحديث مثل الذي قبله، وهو يبين إجمال بعض الأحاديث السابقة في النهي عن كراء الأرض.
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك عن ربيعة].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن حنظلة بن قيس عن رافع بن خديج].
تقدم ذكرهم.(389/11)
الأسئلة(389/12)
معنى الماذيانات
السؤال
ما معنى الماذيانات؟
الجواب
الماذيانات كلمة معربة المقصود بها شيء فيه فائدة وفيه ثمرة، ويقال: إنها ما على الماء.(389/13)
حكم تأجير البقالة بما فيها من سلع بمبلغ محدد في الشهر
السؤال
صاحب بقالة أجر البقالة بما فيها من البضائع على عامله بمبلغ محدد في الشهر، فهل هذا جائز؟
الجواب
إذا أجر التخشيبة ونحوها من الأدوات فهذا من جنس البنيان، وأما إذا أجر السلع فلا يجوز، ولكن كونه يؤجر الدكان بما فيه من الأدوات التي يستفاد منها لرص البضائع سواء بأجر شهري أو سنوي فلا بأس بذلك.(389/14)
حكم تأجير محل بمعداته من غير البضاعة
السؤال
ما الحكم إن أجر محلاً بمعداته من غير البضاعة؟
الجواب
لا بأس بتأجير المعدات مثل ثلاجات تحفظ له الأشياء ومثل دواليب وما إلى ذلك، أما البضاعة نفسها فهي لا تؤجر، بل هي ملك لصاحبها.(389/15)
حكم الشركة ورأس المال مناصفة من اثنين والعمل من أحدهما مقابل ربع الربح
السؤال
اشتركت أنا وآخر في مشروع، وكان رأس المال مناصفة بيني وبينه، وهو يقوم بإدارة العمل وحده مقابل ربع الربح، ثم نتقاسم ما بقي من الربح، فهل هذا العمل مشروع؟
الجواب
لا بأس بذلك.(389/16)
حكم تأجير سيارات الأجرة بمبلغ محدد يومياً
السؤال
ما حكم تأجير سيارة الأجرة بمبلغ محدد يطلبه صاحبها من السائق مثل مائة ريال كل يوم، وما بقي فهو لصاحب السيارة؟
الجواب
لا بأس بذلك، فله أن يقول: خذ السيارة وكل يوم أجرتها مائة ريال، حتى ولو اشتغل بها ولم يجمع مالاً، فإنه أجرها عليه سواء كان يشتغل بها أو ما يشتغل؛ لأن هذه أجرة لهذه السيارة، وحتى لو لم يشتغل عليها فإنه يدفع الأجرة، مثل الذين يؤجرون السيارات الخصوصي للاستخدام، وقد لا يستخدمها يوماً ولكنه مطلوب منه في كل يوم أن يدفع أجرة لهذه السيارة.
لكن إذا كان كفيلاً للعامل، وجاء به من أجل يعمل عنده، فهذا عليه أن يجعل له أجرة، ولا يؤجره السيارة؛ لأن هذا لا تقره الدولة.(389/17)
التخلص من الربا
السؤال
كيف يتخلص الإنسان من الربا الذي في يده؟
الجواب
إذا كان الربا في يد الإنسان وقد ابتلي به، ويريد أن يتخلص منه، فإنه يتخلص منه بصرفه في بعض الأمور الممتهنة، ولا يجوز له أن يأخذ الربا، ولا يصح أن يتصدق به؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.(389/18)
حكم اشتراط صاحب المال في المضاربة أن الزكاة على العامل
السؤال
هل يجوز في المضاربة أن يقول صاحب المال: الربح بيني وبينك نصفان إلا أن زكاة التجارة عليك؟
الجواب
ليس له ذلك، وكل واحد منهما زكاته عليه ولا يشترط الزكاة على صاحبه.(389/19)
حكم تحديد أجرة للعامل في المضاربة
السؤال
هل يجوز أن يعين للمضارب راتباً وحصة كأن يقول صاحب المال للعامل: اتجر في مالي ولك ألف ريال شهرياً وربع الربح؟
الجواب
لا يصح؛ لأنه قد لا يحصل من التجارة إلا ألف ريال، ولكن المضاربة تنبني على اقتسام الربح بالنسبة فقط، فلا يقول: لي كذا أو هذا لي، وإنما الربح بينهما على النسبة التي يتفقان عليها مثل النصف أو الثلث أو الثلثين أو الربع أو ثلاثة أرباع وهكذا.(389/20)
التشديد في المزارعة(389/21)
شرح حديث رافع بن خديج في النهي عن كراء الأرض
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التشديد في ذلك.
حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث حدثني أبي عن جدي الليث قال: حدثني عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر (أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري رضي الله عنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ينهى عن كراء الأرض، فلقيه عبد الله فقال: يا ابن خديج! ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كراء الأرض؟ فقال رافع لـ عبد الله بن عمر: سمعت عميَّ -وكانا قد شهدا بدراً- يحدثان أهل الدار: أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن كراء الأرض.
قال عبد الله: والله! لقد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الأرض تكرى، ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحدث في ذلك شيئاً لم يكن علمه، فترك كراء الأرض)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب التشديد في ذلك، أي: في المزارعة، وقد سبقت أحاديث فيها النهي عن المزارعة، وعرفنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن أمور فيها جهالة، وأما الشيء المعلوم فلا بأس به، أو أنه كان يرشد إلى ما هو الأكمل والأفضل، وهو أن الإنسان يساعد ويعين ويمنح أخاه الأرض بدون مقابل.
وقد جاء ما يدل على ثبوت المزارعة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن الخلفاء الراشدين من بعده رضي الله تعالى عنهم، ومن ذلك معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود في خيبر حيث أعطاهم الأرض والنخل على الشطر مما يخرج منها من ثمر أو زرع.
وقد أورد أبو داود في هذا الباب أحاديث فيها وعيد شديد في حق من يفعل المزارعة لكنها غير ثابتة، ولو ثبتت فتحمل على الشيء الذي فيه جهالة بأن يقول: لي ما على الماذيانات وأقبال الجداول أو الناحية الفلانية دون الناحية الفلانية، وهذا لا شك أنه محرم وغير جائز؛ لأن أحد الطرفين -صاحب الأرض أو المزارع- يستفيد من الثمرة دون الآخر، والأصل في المزارعة أن كلاً منهما يستفيد إن وجدت فائدة، وإن حصل ضرر أو ما حصلت فائدة من الزرع فإن العامل ضاع عليه عمله، وصاحب الأرض استخدمت أرضه دون أن يحصل منها على طائل.
وأورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى أنه كان يكري أرضه للزراعة حتى بلغه عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فلقي عبد الله بن عمر رافعاً وسأله عن الحديث الذي يحدث به، فقال: إنه سمع عميه وهما يحدثان أهل الدار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن ذلك، فقال عبد الله بن عمر: كنا في زمنه عليه الصلاة والسلام نكري الأرض، ولكن عبد الله بن عمر خشي أن يكون حصل شيء من النبي عليه الصلاة والسلام فيه تحريم ذلك، أو حصل نسخ للأمر الذي كانوا عليه أولاً، فمن باب الورع ترك عبد الله بن عمر رضي الله تعالى كراء الأرض بعد ذلك بناء على ما جاء في حديث رافع بن خديج.(389/22)
تراجم رجال إسناد حديث رافع بن خديج في النهي عن كراء الأرض
قوله: [حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث].
عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثني أبي عن جدي الليث].
أبوه شعيب ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
وجده الليث بن سعد ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عقيل].
عقيل بن خالد بن عقيل وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني سالم بن عبد الله].
سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر].
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[عن رافع بن خديج].
رافع بن خديج صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت عميّ].
له عمان: ظهير ومظهر، وظهير أخرج له البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة.
والعمان مبهمان، لكن المعروف أن عميه هما من ذكرنا، والثاني لم يترجم له.(389/23)
شرح حديث رافع في النهي عن كراء الأرض من طريق ثانية وتراجم رجاله
[قال أبو داود: رواه أيوب وعبيد الله وكثير بن فرقد ومالك عن نافع عن رافع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم].
أورد أبو داود طريق أخرى عن رافع من غير طريق سالم، وهو عن نافع عن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيها واسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [قال أبو داود: رواه أيوب].
أيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعبيد الله].
عبيد الله بن عمر العمري المصغر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وكثير بن فرقد].
كثير بن فرقد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[ومالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رافع].
رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه وقد مر ذكره.(389/24)
شرح حديث رافع في النهي عن كراء الأرض من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه الأوزاعي عن حفص بن عنان الحنفي عن نافع عن رافع رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم].
وهذه طريق أخرى عن رافع، وفيها أنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام، والطريق الأولى هي بالعنعنة، ولعله أخذ الحديث عنه مباشرة وأخذه عن صحابي، ولكن هذا فيه التصريح بأنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث الذي يرويه الصحابي بالعنعنة يحتمل أن يكون مرسل صحابي، ومراسيل الصحابة حجة؛ لأنهم لا يأخذون إلا عن الصحابة، لكن الذي فيه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم هو نص بأنه حصل منه السماع، ولهذا صغار الصحابة يروون أحياناً عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ويصرحون بالسماع، ويروون كثيراً بالعنعنة، ويحتمل أن يكونوا سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة أو سمعوه من صحابي آخر.(389/25)
تراجم رجال إسناد حديث رافع في النهي عن كراء الأرض من طريق ثالثة
قوله: [ورواه الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي فقيه الشام ومحدثها، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حفص بن عنان الحنفي].
حفص بن عنان الحنفي وهو ثقة، أخرج له النسائي.
[عن نافع عن رافع].
مر ذكرهما.(389/26)
شرح حديث رافع في النهي عن كراء الأرض من طريق رابعة وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك رواه زيد بن أبي أنيسة عن الحكم عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه أتى رافعاً رضي الله عنه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: نعم].
هذه طريق أخرى عن ابن عمر مماثلة للطريق الأولى، وفيها أنه سأل رافعاً، وفي الأولى: ذكر أن عميه أخبرا بكذا، وفي هذه الطريق أخبر بأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [وكذلك رواه زيد بن أبي أنيسة].
زيد بن أبي أنيسة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحكم].
الحكم بن عتيبة الكندي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن ابن عمر عن رافع].
مر ذكرهم.(389/27)
شرح حديث رافع في النهي عن كراء الأرض من طريق خامسة وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذا رواه عكرمة بن عمار عن أبي النجاشي عن رافع بن خديج رضي الله عنه أنه قال: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام].
وهذا مثل الذي قبله، فيه أن رافعاً هو الذي سمع من رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قوله: [وكذا رواه عكرمة بن عمار].
عكرمة بن عمار صدوق يغلط، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي النجاشي].
هو عطاء بن صهيب، ثقة، أخرج له البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة.
[عن رافع].
مر ذكره.(389/28)
شرح حديث رافع في النهي عن كراء الأرض من طريق سادسة وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه الأوزاعي عن أبي النجاشي عن رافع بن خديج عن عمه ظهير بن رافع رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم].
وهذه طريق أخرى فيها: أن رافعاً يروي الحديث عن عمه ظهير بن رافع، فهناك ذكر عميه وأبهمهما، وهنا صرح بأنه ظهير.
قال الحافظ: في المبهمات: رافع بن خديج عن عميه وعن بعض عمومته، وعن عمومته، له عم اسمه ظهير، وآخر مظهر، وظهير، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[قال أبو داود: أبو النجاشي عطاء بن صهيب].
ذكر اسم هذا الذي اشتهر بكنيته.(389/29)
معنى النهي عن كراء الأرض
حديث رافع قال عنه الإمام أحمد: جاء على ألوان، أي: أنه يأتي مرة هكذا، ومرة هكذا، ولهذا لوجود الاضطراب الذي فيه وكونه فيه اختلاف كثير قالوا: يحمل المجمل على المفصل، فالمزارعة جائزة لحديث معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر، لاسيما وقد استمر العمل عليها إلى الآن، فمنذ أن توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه يعملون بها من بعده، وهذا الذي ذكره رافع كأنه شيء متقدم في أول الأمر، أو أن فيه إرشاد إلى المساعدة والإعانة وكذا.
ويمكن أن يكون رافع سمع الحديث بنفسه أو بواسطة غيره.(389/30)
شرح حديث: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا خالد بن الحارث حدثنا سعيد عن يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار أن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: (كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر أن بعض عمومته أتاه فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن أمر كان لنا نافعاً، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا وأنفع.
قال: قلنا: وما ذاك؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه، ولا يكاريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى)].
هذا حديث رافع أن بعض عمومته جاء وقال: نهانا رسول صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعاً، وطواعية الله ورسوله أنفع وأنفع، يعني: كوننا نسمع ونطيع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرشدنا إليه أنفع لنا، وإن كان الكراء والمزارعة التي كنا نفعلها فيها فائدة لنا، وهي ما يحصل لنا مقابل استخدام أرضنا، فنستفيد ويستفيد العامل، ثم أخبر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه)].
وهذا إرشاد إلى الأفضل والأولى الذي ينبغي، ولعل هذا كان في أول الأمر عندما قدم المهاجرون إلى المدينة وليس معهم شيء، فأرشدهم إلى أن الأولى أن يمنحوهم أرضهم ليستخدموها بالمجان، والحكم الذي استقر عليه الأمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر في السنة السابعة، واستمر الحال على ذلك حتى توفي عليه الصلاة والسلام، ثم استمر الحال على ذلك في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
قوله: [(كنا نخابر)].
المخابرة: هي زراعة الأرض بشيء مما يخرج منها، ومن العلماء من فرق بين المخابرة والمزارعة، إحداهما يكون البذر فيها من صاحب الأرض، والثانية يكون من العامل، والذي يظهر أن البذر إنما هو من العامل وليس من صاحب الأرض؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يرسل الحبوب لليهود من أجل أن يزرعوا الأرض، وإنما كانوا يزرعونها بحبوب من عندهم، والذي يظهر أنه لا فرق بين المزارعة والمخابرة، ولا نعلم شيئاً يدل على التفريق بينهما.(389/31)
تراجم رجال إسناد حديث: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة].
عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا خالد بن الحارث].
خالد بن الحارث ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سعيد].
سعيد بن أبي عروبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يعلى بن حكيم].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن سليمان بن يسار].
سليمان بن يسار ثقة فقيه، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رافع بن خديج].
قد مر ذكره.(389/32)
شرح حديث: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه) من طريق أخرى، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد بن زيد عن أيوب قال: كتب إلي يعلى بن حكيم: أني سمعت سليمان بن يسار بمعنى إسناد عبيد الله وحديثه].
ذكر المصنف طريقاً أخرى للحديث بمعنى إسناد حديث عبيد الله.
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد].
محمد بن عبيد بن حساب وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي، وأبو داود له شيخان يقال لكل منهما محمد بن عبيد، وهما: محمد بن عبيد المحاربي ومحمد بن عبيد بن حساب، والذي يروي عن حماد بن زيد هو ابن حساب.
[عن أيوب عن يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار].
مر ذكرهم.(389/33)
شرح حديث: (نهانا أن يزرع أحدنا إلا أرضاً يملك رقبتها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع حدثنا عمر بن ذر عن مجاهد عن ابن رافع بن خديج عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: (جاءنا أبو رافع رضي الله عنه من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أمر كان يرفق بنا، وطاعة الله وطاعة رسوله أرفق بنا، نهانا أن يزرع أحدنا إلا أرضاً يملك رقبتها أو منيحة يمنحها رجل)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وهو مثل الذي قبله، وقال: (إنما يزرع أحدنا أرضاً يملك رقبتها) والمقصود بالرقبة: العين، يعني: أنه يملك الأرض، فيعبر عن العين بالرقبة، وذلك أن الحيوان إذا ملك فإنه يؤخذ برقبته، فعبر بالرقبة عن كل شيء يتعلق بالعين.(389/34)
تراجم رجال إسناد حديث: (نهانا أن يزرع أحدنا إلا أرضاً يملك رقبتها)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
أبو بكر بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا وكيع].
وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عمر بن ذر].
عمر بن ذر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة في التفسير.
[عن مجاهد].
مجاهد بن جبر المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن رافع بن خديج].
هو هنا مبهم غير معين، وهو يتحمل أن يكون هرير بن عبد الرحمن بن رافع أو عباية بن رفاعة بن رافع، وكلامهما يقال له: ابن رافع نسبة إلى الجد، وهرير مقبول، أخرج له أبو داود، وعباية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
[رافع بن خديج].
وقد تقدم ذكره.
[قال: جاءنا أبو رافع].
قيل: لعل أبا رافع كنية لأحد عميه اللذين مر ذكرهما.(389/35)
شرح حديث: (من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن منصور عن مجاهد: (أن أسيد بن ظهير رضي الله عنهما قال: جاءنا رافع بن خديج رضي الله عنه فقال: إن سول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهاكم عن أمر كان لكم نافعاً، وطاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنفع لكم، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهاكم عن الحقل، وقال: من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع)].
أورد أبو داود الحديث عن رافع بن خديج، وفيه إشارة إلى ما تقدم من أن الإنسان يمنح أخاه ويساعده، وقال: (نهى عن الحقل) يعني المحاقلة، وهي: بيع الحب في سنبله بحنطة، وهي مثل المزابنة التي هي بيع التمر بالرطب على رءوس النخل، وكل ذلك غير جائز إلا في مسألة العرايا، والعرايا خاصة بالنخل.(389/36)
تراجم رجال إسناد حديث: (من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
سفيان الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
منصور بن المعتمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجاهد].
مر ذكره.
[عن أسيد بن ظهير].
أسيد بن ظهير صحابي، أخرج له أصحاب السنن.
[عن رافع بن خديج].
مر ذكره.(389/37)
شرح حديث: (من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
[قال أبو داود: وهكذا رواه شعبة ومفضل بن مهلهل عن منصور، قال شعبة: أسيد ابن أخي رافع بن خديج].
ذكر المصنف طريقاً أخرى، وفيها إشارة إلى أنه أسيد ابن أخي رافع وليس أسيد بن ظهير.
قوله: [وهكذا رواه شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومفضل بن مهلهل].
مفضل بن مهلهل صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن منصور].
مر ذكره.(389/38)
شرح حديث: (خذوا زرعكم وردوا عليه النفقة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى حدثنا أبو جعفر الخطمي قال: (بعثني عمي أنا وغلاماً له إلى سعيد بن المسيب قال: فقلنا له: شيء بلغنا عنك في المزارعة، قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما لا يرى بها بأساً حتى بلغه عن رافع بن خديج رضي الله عنه حديث، فأتاه فأخبره رافع: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى بني حارثة فرأى زرعاً في أرض ظهير فقال: ما أحسن زرع ظهير! قالوا: ليس لـ ظهير، قال: أليس أرض ظهير؟ قالوا: بلى، ولكنه زرع فلان.
قال: فخذوا زرعكم وردوا عليه النفقة.
قال رافع: فأخذنا زرعنا ورددنا إليه النفقة، قال سعيد: أفقر أخاك أو أكره بالدراهم)].
أورد أبو داود حديث رافع بن خديج من طريق أخرى، وهو مثل ما تقدم في النهي عن المزارعة، وأن الإنسان إما أن يزرع أرضه أو يزرعها أخوه ولا يأخذ عليه شيئاً.
قوله: [(قال: فخذوا زرعكم وردوا عليه النفقة، قال رافع: فأخذنا زرعنا ورددنا إليه النفقة)].
يعني: التكاليف التي تعب عليها.
قوله: [قال سعيد: أفقر أخاك أو أكره بالدراهم].
المقصود: أنه يرفق به ويحسن إليه، أو يكريه بالدراهم وليس بجزء من الزرع.
ومعنى (أفقر) أي: أعطه أرضك عارية ليزرعها، وأصل الإفقار: إعارة البعير ونحوه للركوب.(389/39)
تراجم رجال إسناد حديث: (خذوا زرعكم وردوا عليه النفقة)
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
هو بندار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو جعفر الخطمي].
هو عمير بن يزيد، وهو صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر عن رافع].
مر ذكرهما.(389/40)
شرح حديث: (نهى عن المحاقلة والمزابنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا: أبو الأحوص حدثنا طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج رضي الله عنه أنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المحاقلة والمزابنة، وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها، ورجل منح أرضاً فهو يزرع ما منح، ورجل استكرى أرضاً بذهب أو فضة)].
أورد المصنف حديث رافع وفيه النهي عن المحاقلة والمزابنة، والمحاقلة فسرت بأنها بيع الحب في سنبله بحنطة في مقابله، وهذا منهي عنه، وسبق أن مرت أحاديث في النهي عنه، والمزابنة مثلها إلا أنها في النخل، فهي بيع الثمر على رءوس النخل بتمر، وقد استثني من ذلك العرايا في أقل من خمسة أوسق.
قوله: [(ورجل استكرى أرضاً بذهب أو فضة)].
من غير طريق المزارعة.(389/41)
تراجم رجال إسناد حديث: (نهى عن المحاقلة والمزابنة)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو الأحوص].
أبو الأحوص سلام بن سليم الحنفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا طارق بن عبد الرحمن].
طارق بن عبد الرحمن المدني وهو صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن المسيب عن رافع].
وقد مر ذكرهما.(389/42)
شرح حديث رافع بن خديج: (نهى عن كراء الأرض)
[قال أبو داود: قرأت على سعيد بن يعقوب الطالقاني قلت له: حدثكم ابن المبارك عن سعيد أبي شجاع قال: حدثني عثمان بن سهل بن رافع بن خديج قال: إني ليتيم في حجر رافع بن خديج رضي الله عنه، وحججت معه، فجاءه أخي عمران بن سهل فقال: أكرينا أرضنا فلانة بمائتي درهم، فقال: دعه، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن كراء الأرض].
أورد أبو داود حديث رافع من طريق أخرى، وفيه ما في الأحاديث التي قبله من النهى عن كراء الأرض.(389/43)
تراجم رجال إسناد حديث رافع بن خديج: (نهى عن كراء الأرض)
قوله: [قرأت على سعيد بن يعقوب الطالقاني].
سعيد بن يعقوب الطالقاني ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثكم ابن المبارك].
عبد الله بن المبارك المروزي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد أبي شجاع].
وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثني عثمان بن سهل بن رافع بن خديج].
عثمان بن سهل بن رافع وقيل: الصواب هو عيسى، وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن رافع بن خديج].
مر ذكره.(389/44)
شرح حديث: (أربيتما، فرد الأرض على أهلها وخذ نفقتك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا الفضل بن دكين حدثنا بكير -يعني: ابن عامر - عن ابن أبي نعم قال: (حدثني رافع بن خديج رضي الله عنه: أنه زرع أرضاً، فمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يسقيها فسأله: لمن الزرع؟ ولمن الأرض؟ فقال: زرعي ببذري وعملي، لي الشطر ولبني فلان الشطر، فقال: أربيتما، فرد الأرض على أهلها، وخذ نفقتك)].
أورد أبو داود حديث رافع من طريق أخرى، وفيه قوله: (أربيتما)، وأمر بأن يرجع الزرع إلى صاحب الأرض، وأن العامل يأخذ نفقته.(389/45)
تراجم رجال إسناد حديث: (أربيتما فرد الأرض على أهلها وخذ نفقتك)
قوله: [قال: حدثنا هارون بن عبد الله].
هارون بن عبد الله الحمال البغدادي ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا الفضل بن دكين].
الفضل بن دكين أبو نعيم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا بكير بن عامر].
بكير بن عامر ضعيف، أخرج له أبو داود.
[عن ابن أبي نعم].
هو عبد الرحمن بن أبي نعم وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رافع بن خديج].
مر ذكره.
وهذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه هذا الرجل الضعيف.(389/46)
زرع الأرض بغير إذن صاحبها(389/47)
شرح حديث (من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء، وله نفقته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في زرع الأرض بغير إذن صاحبها.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن عطاء عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء، وله نفقته)].
أورد أبو داود باب في زرع الأرض بغير إذن أهلها، يعني: لو أن إنساناً زرع أرضاً بدون موافقة أهلها على زراعتها، فما الحكم في ذلك؟ هل الزرع يكون للزارع الذي زرع بغير إذن أو يكون للمالك؟ إن أقره المالك على تصرفه ووافقه على ذلك فلا بأس؛ لأن الحق حقه، وإن لم يوافق له فإن الزرع يكون للمالك، وذاك يكون له النفقة.(389/48)
تراجم رجال إسناد حديث (من زرع في أرض قوم فليس له من الزرع شيء، وله نفقته)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا شريك].
قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وشريك هو ابن عبد الله النخعي الكوفي، وهو صدوق يخطئ كثيراً، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي إسحاق].
هو عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء].
عطاء بن أبي رباح ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رافع بن خديج].
مر ذكره.(389/49)
شرح سنن أبي داود [390]
ورد في الأحاديث النهي عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة، ثم استقر الحكم على جواز المخابرة، والمخابرة والمزارعة بمعنى واحد إلا أن هناك بعض التفريق الطفيف ذكره العلماء.
أما المساقاة فقد عامل بها النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، وكان يرسل ابن رواحة للخرص، ولهذه المعاملات تفاصيل وضحها العلماء.(390/1)
المخابرة(390/2)
شرح حديث (نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المخابرة.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا إسماعيل ح وحدثنا مسدد أن حماداً وعبد الوارث حدثاهم كلهم عن أيوب عن أبي الزبير -قال: عن حماد وسعيد بن ميناء ثم اتفقوا- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، والمعاومة، قال عن حماد وقال أحدهما: والمعاومة.
وقال الآخر: بيع السنين.
ثم اتفقوا: وعن الثنيا، ورخص في العرايا)].
أورد أبو داود (باب في المخابرة) والمخابرة هي المزارعة إلا أنها جاءت بهذا اللفظ، وقد أسلفت أن بعض أهل العلم يقول: الفرق بين المزارعة والمخابرة أن إحداهما يكون البذر من العامل، والثانية يكون البذر من المالك.
والمخابرة أو المزارعة استقر الحكم على جوازها، كما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهل خيبر، حيث كانوا يعملون فيها على الشطر مما يخرج منها، فهو حكم ثابت غير منسوخ، وهو آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أورد المصنف حديث جابر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة) والمحاقلة مثل المزابنة إلا أن المزابنة بيع الثمر على رءوس النخل بتمر، والمحاقلة: هي بيع الحب في سنبله بحنطة، وكل منهما لا يجوز، وقد استثني من ذلك العرايا فيما يتعلق بالنخل.
والمعاومة هي بيع السنين، وهي أن يبيع ثمرة أرضه لعدة أعوام، وهذا لا يجوز؛ لأن هذا شيء مجهول، ولا يعرف هل يحصل من الثمر شيء أو لا يحصل شيء، وإنما البيع يكون لسنة واحدة، أما كونه يبيعه لعدة سنوات في مقابل شيء لم يوجد ولم يخلق فإن هذا لا يصح، ولكن يجوز أن يبيعه ثمرة السنة الحاضرة.
قوله: [عن حماد وقال أحدهما: والمعاومة، وقال الآخر: بيع السنين].
يعني: لا فرق بينهما.
قوله: [وعن الثنيا].
الثنيا أي: الاستثناء، وقد جاء في بعض الأحاديث ما يدل على جواز استثناء شيء معلوم، وفي رواية: (وعن الثنيا إلا أن تعلم)، وأما إذا كانت الثنيا مجهولة فإن ذلك لا يصح، كأن يقول مثلاً: بعتك هذه الصبرة إلا بعضها أو إلا جزءاً منها، أما لو قال: إلا ربعها فلا بأس، وإنما المحذور استثناء الشيء الذي فيه جهالة، أو يقول: بعتك ثمرة هذا البستان إلا نخلة منه، ولم يحدد النخلة، فإن هذا شيء مجهول، ولكن إذا حدد النخلة الفلانية صح.
قوله: [(ورخص في العرايا)].
وهي بيع الثمر على رءوس النخل بتمر، وهذا ممنوع، ولكن استثني كما سبق العرايا في حدود معينة، وهي أنه لا يبلغ خمسة أوسق.(390/3)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الإمام الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسماعيل].
إسماعيل بن علية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحدثنا مسدد].
مسدد مر ذكره.
[عن حماد].
حماد بن زيد مر ذكره.
[وعبد الوارث].
عبد الوارث بن سعيد العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[كلهم عن أيوب].
أيوب السختياني مر ذكره.
[عن أبي الزبير].
هو محمد بن مسلم بن تدرس وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: عن حماد وسعيد بن ميناء].
سعيد بن ميناء ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(390/4)
شرح حديث (نهى عن المزابنة وعن المحاقلة) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو حفص عمر بن يزيد السياري قال: حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن يونس بن عبيد عن عطاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن المزابنة، وعن المحاقلة، وعن الثنيا إلا أن تعلم)].
وهذه طريق أخرى عن جابر وهي مختصرة، وفيها تقييد الثنيا المنهي عنها أنها المجهولة، وأما إذا كانت معلومة فإن ذلك لا بأس به.(390/5)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى عن المزابنة وعن المحاقلة) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا أبو حفص عمر بن يزيد السياري].
عمر بن يزيد السياري صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عباد بن العوام].
عباد بن العوام ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان بن حسين].
سفيان بن حسين ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن يونس بن عبيد].
يونس بن عبيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء عن جابر].
مر ذكرهما.(390/6)
شرح حديث (من لم يذر المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن معين حدثنا ابن رجاء -يعني: المكي - قال ابن خثيم: حدثني عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (من لم يذر المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله)].
أورد المصنف حديث جابر مرفوعاً: (من لم يدع المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله) وهذا هو التشديد الوارد في المخابرة، وهو يطابق الترجمة السابقة في التشديد في ذلك، وهذا الحديث أنسب لتلك الترجمة؛ لأن فيه وعيداً شديداً، ولكن الحديث غير صحيح، فهو ضعيف الإسناد.(390/7)
تراجم رجال إسناد حديث (من لم يذر المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله)
قوله: [حدثنا يحيى بن معين حدثنا ابن رجاء -يعني: المكي -].
يحيى بن معين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وابن رجاء هو عبد الله بن رجاء وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن ابن خثيم].
هو عبد الله بن عثمان وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي الزبير عن جابر].
أبو الزبير وجابر مر ذكرهما، وأبو الزبير مدلس، فعلته التدليس، فإن رواية أبي الزبير هنا بالعنعنة.(390/8)
شرح حديث (نهى رسول الله عن المخابرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عمر بن أيوب عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن المخابرة قلت: وما المخابرة؟ قال: أن تأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع)].
هذا الحديث فيه تفسير المخابرة بأنها المزارعة بجزء مما يخرج منها، نصف أو ربع أو ثلث، وهذا النهي كان في أول الأمر، فقد كان يحث الناس على ترك المخابرة، وأن يصيروا إلى الإحسان والإرفاق، وأن يمنح أحدهم أخاه ولا يأخذ منه شيئاً.(390/9)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى رسول الله عن المخابرة)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عمر بن أيوب].
عمر بن أيوب صدوق له أوهام، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن جعفر بن برقان].
جعفر بن برقان وهو صدوق يهم في حديث الزهري، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ثابت بن الحجاج].
ثابت بن الحجاج وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن زيد بن ثابت].
زيد بن ثابت رضي الله عنه الصحابي الجليل، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(390/10)
المساقاة(390/11)
شرح حديث (عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المساقاة.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في المساقاة.
المساقاة: هي أن يدفع رجل نخله إلى آخر ليقوم بسقيها وتعاهدها وإصلاحها وما يتعلق بها بجزء معلوم النسبة مما يخرج منها، وهي مثل المزارعة إلا أن المزارعة فيها تسليم الأرض ليزرعها العامل وله نصف ما يخرج منها أو أقل أو أكثر، والمساقاة تتعلق بالعناية بالشجر وسقيه وتعاهده، ويكون له جزء معلوم النسبة مما يخرج.
إذاً: المزارعة والمساقاة مؤداهما ونتيجتهما واحدة، وقد جاءت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بجواز المساقاة والمزارعة بشيء معلوم النسبة.
والممنوع منهما ما كان فيه جهالة كأن يقول: النخلات الفلانية لي والباقي لك، أو النوع الفلاني من النخل ثمرته لي والباقي لك، أو يقول: ما يكون على الأنهار وعلى السواقي ويمر به الماء لي والباقي لك، فهذا كله لا يجوز، لا في المزارعة ولا في المساقاة، وإنما الذي يجوز هو دفع الأرض ليشتغل فيها عامل وله جزء معلوم النسبة مما يخرج منها، أو دفع الشجر لمن يقوم بإصلاحه والعناية به وله جزء معلوم النسبة مما يخرج منه.
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر على أن يعملوها ولهم الشطر مما يخرج منها من ثمر أو زرع، وقوله: (من ثمر) يتعلق بالمساقاة، وقوله: (من زرع) يتعلق بالمزارعة، وقد يكون هذا مستقلاً وهذا مستقلاً، وقد يجمع بينهما بأن تكون الأرض فيها زراعة وفيها نخل، فيكون فيها مساقاة ومزارعة، وقد تكون الأرض فيها مساقاة بدون زرع أو مزارعة بدون مساقاة، وكل ذلك سائغ وجائز ما دام أنه بشيء معلوم النسبة مما يخرج من الأرض.
والمساقاة تكون في النخل وغير النخل، وقد جاء في بعض الأحاديث: (من زرع أو نخل أو شجر).(390/12)
تراجم رجال إسناد حديث (عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد القطان البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم العمري المصغر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(390/13)
شرح حديث (دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد عن الليث عن محمد بن عبد الرحمن -يعني: ابن غنج - عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم، وأن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شطر ثمرتها)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، وذكر الشطر هو بيان الواقع الذي حصل، ولا يعني أن المعاملة لا تكون إلا بالشطر، بل يمكن أن يكون لأحدهما الثلث والآخر الثلثان، أو لأحدهما الربع والآخر ثلاثة أرباع.
والمقصود أن الحديث دل على أنه يكون بشيء معلوم النسبة، فلا يجب التقيد بالشطر، بل الحكم على حسب ما يتفق الناس عليه من نسبة، بحيث لو وجد شيء قليل فهو مشترك بينهما على حسب النسبة، وإن وجد شيء كثير فهو مشترك بينهما على حسب النسبة، وكل منهما له نصيب من الغلة والثمرة، فيشترك الطرفان في الغنم والغرم، إن حصل غنم فهو على حسب النسبة، وإن حصل غرم فالعامل ذهب عمله بدون مقابل، وصاحب الأرض استخدمت أرضه بدون فائدة وبدون طائل.
قوله: [(على أن يعتملوها من أموالهم)] هذا يدل على أن ما يلزم النخل من معدات ووسائل لإصلاحه تكون على العامل، ومن ذلك البذر فإنه يكون على العامل؛ لأنه قال: أن يعتملوها من أموالهم، وهذا يعني أن تمويلها من أموالهم، والمالك ليس عليه أن يعطي شيئاً من البذر ونحوه، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يرسل البذر من المدينة إلى اليهود.(390/14)
تراجم رجال إسناد حديث (دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
الليث بن سعد المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عبد الرحمن يعني ابن غنج].
محمد بن عبد الرحمن بن غنج مقبول، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن نافع عن ابن عمر].
مر ذكرهما.
ووجود مقبول في هذا الإسناد لا يؤثر في صحة الحديث؛ لأنه جاء من طرق متعددة، والمزارعة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(390/15)
شرح حديث (افتتح رسول الله خيبر واشترط أن له الأرض)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أيوب بن محمد الرقي حدثنا عمر بن أيوب حدثنا جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر واشترط أن له الأرض وكل صفراء وبيضاء، قال أهل خيبر: نحن أعلم بالأرض منكم، فأعطناها على أن لكم نصف الثمرة ولنا نصف، فزعم أنه أعطاهم على ذلك، فلما كان حين يصرم النخل بعث إليهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، فحزر عليهم النخل، وهو الذي يسميه أهل المدينة الخرص، فقال: في ذه كذا وكذا، قالوا: أكثرت علينا يا ابن رواحة! فقال: فأنا ألي جزر النخل وأعطيكم نصف الذي قلت، قالوا: هذا الحق وبه تقوم السماء والأرض، قد رضينا أن نأخذه بالذي قلت)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي لما افتتح خيبر اشترط أن يكون له الأرض والصفراء والبيضاء -وهما الذهب والفضة- غنيمة وفيئاً للمسلمين، فطلبوا أن يقوموا بالأرض؛ لأنهم أهل خبرة وأهل معرفة، ويكون لهم نصيب منها مقابل القيام عليها، فالرسول صلى الله عليه وسلم عاملهم على الشطر مقابل عملهم، والشطر الآخر يكون للمسلمين؛ لأنهم أصحاب الأرض.
فكان عليه الصلاة والسلام يرسل عبد الله بن رواحة ليخرص النخل حتى يعرف مقداره قبل أن يؤكل ويستفاد منه، فيعرف أنه يساوي كذا إذا صرم وجذ.
فقال: في هذه كذا، وفي هذه كذا، يعني: في هذه النخلة كذا صاع، وهذه فيها كذا صاع، وهذه فيها كذا صاع، وهذه فيها كذا صاع، والمجموع هو كذا وكذا، فقالوا: أكثرت علينا يا ابن رواحة! يعني: في التقدير، فقال: إن شئتم أخذت هذا المقدار وأعطيكم حقكم أو أنكم تأخذونه تعطوننا حقنا، فأخذوه، وقبل ذلك قالوا: قد أكثرت، وهم يعلمون بأنه لم يكثر؛ ولهذا رضوا بأن يعطوا المسلمين حقهم الذي هو نصف ما قدره ابن رواحة.
فمعنى كلام ابن رواحة أني حزرت النخل، وأعطيكم النصف على حسب ما حزرت، فمثلاً لو قدره عشرين ألف صاع، فأعطيكم عشرة آلاف صاع، وهو النصف المتفق عليه.(390/16)
تراجم رجال إسناد حديث (افتتح رسول الله خيبر واشترط أن له الأرض)
قوله: [حدثنا أيوب بن محمد الرقي].
أيوب بن محمد الرقي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا عمر بن أيوب].
عمر بن أيوب صدوق له أوهام، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا جعفر بن برقان].
وهو صدوق يهم في حديث الزهري، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ميمون بن مهران].
ميمون بن مهران وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن مقسم].
مقسم هو مولى ابن عباس، وهو صدوق، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبدالمطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(390/17)
شرح حديث (افتتح رسول الله خيبر واشترط أن له الأرض) من طريق ثانية وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا علي بن سهل الرملي حدثنا زيد بن أبي الزرقاء عن جعفر بن برقان بإسناده ومعناه قال فحزر وقال: عند قوله: (وكل صفراء وبيضاء) يعني: الذهب والفضة له].
تقدم هذا.
قوله: [حدثنا علي بن سهل الرملي].
علي بن سهل الرملي صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا زيد بن أبي الزرقاء].
زيد بن أبي الزرقاء وهو ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن جعفر بن برقان بإسناده ومعناه].
مر ذكره.(390/18)
شرح حديث (افتتح رسول الله خيبر واشترط أن له الأرض) من طريق ثالثة وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا كثير -يعني ابن هشام - عن جعفر بن برقان حدثنا ميمون عن مقسم أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فذكر نحو حديث زيد قال: فحزر النخل، وقال: فأنا ألي جذاذ النخل، وأعطيكم نصف الذي قلت].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهو مرسل عن مقسم، وليس فيه ذكر ابن عباس، وهو مثل ما تقدم.
قوله: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري].
محمد بن سليمان الأنباري صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا كثير يعني ابن هشام].
كثير بن هشام وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن جعفر بن برقان حدثنا ميمون عن مقسم].
مر ذكرهم.(390/19)
الخرص(390/20)
شرح حديث (كان النبي يبعث ابن رواحة فيخرص النخل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الخرص.
حدثنا يحيى بن معين حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: أخبرت عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يبعث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه، ثم يخير اليهود يأخذونه بذلك الخرص أو يدفعونه إليهم بذلك الخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق)].
الخرص هو الحزر والتقدير، فيقول عبد الله بن رواحة: هذه النخلة فيها كذا، وهذه فيها كذا، وهذه فيها كذا، فيجمع المجموع ويقول: النخل إذا جذ ويبس يبلغ كله كذا صاعاً، هذا هو الخرص أو الحزر، وقد مر ذكره في الأحاديث السابقة.
وفي هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرسل عبد الله بن رواحة ليخرص نخل خيبر، وفيه بيان أن الخرص من أجل معرفة مقدار الزكاة، بل وهو أيضاً من أجل معرفة حق صاحب النخل إذا كان النخل عند رجل يسقيه لصاحبه.
إذاً: الخرص يكون من أجل معرفة قدر الزكاة، ومن أجل معرفة حصة الشريك.
قوله: [(كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه)].
يعني: إذا صلح الثمر، ولا يخرص قبل ذلك؛ لأنه قد تصيبه الآفة، ولكنه يخرص بعد أن يطيب، ويتمكن الناس من استعماله.
قوله: [(ثم يخير يهود يأخذونه بذلك الخرص أو يدفعونه إليهم بذلك الخرص)].
وهذا مثل ما مر أن عبد الله قال لهم: ألي الجذاذ وأعطيكم النصف، يعني: إذا ادعيتم أني أكثرت عليكم.
قوله: [(لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق)].
هذا هو بيان الحكمة من الخرص؛ لأنها إذا أكلت الثمار لا يعرف مقدار الزكاة، ولا يعرف مقدار حصة المشارك.(390/21)
تراجم رجال إسناد حديث (كان النبي يبعث ابن رواحة فيخرص النخل)
قوله: [حدثنا يحيى بن معين].
يحيى بن معين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حجاج].
حجاج بن محمد المصيصي الأعور وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
عبد الملك بن جريج المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرت عن ابن شهاب].
وهذا فيه انقطاع، لأن فيه واسطة مجهولة.
[عن ابن شهاب].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(390/22)
شرح حديث (أفاء الله على رسوله خيبر فأقرهم كما كانوا) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن أبي خلف حدثنا محمد بن سابق عن إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أنه قال: (أفاء الله على رسوله خيبر فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كانوا، وجعلها بينه وبينهم، فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها عليهم)].
أورد المصنف حديث جابر وهو مثل الذي قبله إلا أن فيه اختصاراً.
قوله: [حدثنا ابن أبي خلف].
محمد بن أحمد بن أبي خلف وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا محمد بن سابق].
وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن إبراهيم بن طهمان].
إبراهيم بن طهمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
محمد بن مسلم بن تدرس المكي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(390/23)
شرح حديث جابر (خرصها ابن رواحة أربعين ألف وسق) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق ومحمد بن بكر قالا: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: خرصها ابن رواحة أربعين ألف وسق، وزعم أن اليهود لما خيرهم ابن رواحة أخذوا الثمر عليهم عشرون ألف وسق].
أورد أبو داود حديث جابر أن عبد الله بن رواحة خرص نخل خيبر أربعين ألف وسق، والوسق ستون صاعاً، وأن اليهود دفعوا للمسلمين النصف عشرين ألف وسق.
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن حنبل مر ذكره.
[عن عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومحمد بن بكر].
ومحمد بن بكر صدوق قد يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير عن جابر].
مر ذكرهم.(390/24)
الأسئلة(390/25)
وجه تفريق أبي داود بين باب المخابرة والمزارعة
السؤال
إذا كانت المخابرة هي المزارعة فلماذا ذكر أبو داود رحمه الله باب المزارعة ثم ذكر باب المخابرة؟
الجواب
لعله من أجل لفظ المخابرة.(390/26)
حال حديث (من زرع في أرض قوم فليس له من الزرع شيء)
السؤال
حديث: (من زرع في أرض قوم فليس له من الزرع شيء) ما حاله؟
الجواب
هو حديث صحيح، ووجود شريك وهو صدوق يخطئ كثيراً لا يؤثر، فقد صحح هذا الحديث بعض أهل العلم مثل ابن القيم.(390/27)
علة تحريم تأجير البقالة مع بضاعتها
السؤال
ما هي العلة في عدم جواز تأجير المحل مع البضاعة؟
الجواب
لأن البضاعة أعيان مملوكة لصاحبها، فلا تؤجر البضاعة وإنما يؤجر المكان؛ لأن التأجير للمنفعة لا للعين التي تباع، لكن إذا قال: البضاعة قيمتها كذا وكذا، والدكان إيجاره كذا، فلا بأس، فالبيع للأعيان والإيجار للمنافع، والبيع يتم، والإيجار يكون مثلاً كل سنة على حسب ما يتفقان عليه.(390/28)
البذور في المزارعة على العامل
السؤال
البذور في المزارعة هل تكون من صاحب الأرض أو من العامل؟
الجواب
من العامل، لا من صاحب الأرض؛ لأن مالك الأرض يسلمه الأرض فقط، ويوضح هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يحمل البذر من المدينة إلى اليهود في خيبر، لكن لو اشترط العامل أن يكون البذر على صاحب الأرض فلا بأس.(390/29)
لا فرق بين المخابرة والمزارعة
السؤال
هل يمكن أن يقال: المخابرة هي المنهي عنها، والمزارعة هي الجائزة؟
الجواب
لا فرق بين المزارعة والمخابرة.(390/30)
معنى المعاومة
السؤال
ما معنى بيع المعاومة؟
الجواب
المعاومة هي بيع الأعوام أو بيع السنين، كأن يقول: أبيعك ثمرة نخلي لعدة سنوات، مثل خمس سنوات كل سنة بألف ريال، فهذا لا يجوز؛ لأنه بيع شيء لا يوجد، فلعله في سنة من السنوات لا تصلح الثمرة أو تطلع شيئاً قليلاً، فهو شيء مجهول.(390/31)
معنى التشديد في المزارعة
السؤال
أليس في الأحاديث الأولى تشديد في المزارعة باعتبار أن الإنسان إذا لم يمكنه زراعة أرضه أعطاها لغيره فلا يستفيد من كرائها؟
الجواب
التشديد معناه: أنه يوجد وعيد فيها، والأحاديث التي مضت في الباب هي بمعنى هذا.(390/32)
معنى الوكالة والمضاربة
السؤال
هل هناك فرق بين الوكالة والمضاربة؟
الجواب
المضاربة شركة، والوكالة نيابة، فالمضاربة العمل يكون فيها من شخص، ورأس المال من شخص آخر، على نسبة يتفقان عليها كثلث أو ربع.
وأما الوكالة فهي نيابة، يقول: وكلتك أن تفعل كذا مثل أن تبيع كذا أو تبني كذا.(390/33)
حكم الشجرة إذا مالت إلى ملك الغير
السؤال
عندنا في بعض المناطق الجبلية تنجرف الأرض، وتتداخل الأراضي، فيدخل بعض الأشجار في حدود الغير، فلمن تكون هذه الأشجار؟
الجواب
الأرض لابد أن لها حدوداً، وما كان داخل حدود كل واحد فهو لصاحبه، وإن كان المقصود أن الأصل في جهة ولكن رأسها مائل، فمعلوم أنها لصاحب الأصل، وليست لصاحب الأرض التي مالت الشجرة إليها.(390/34)
حكم من زرع في أرض الدولة
السؤال
ما حكم من زرع أرضاً للدولة؟
الجواب
الحكم المتقدم يعم الدولة أو غير الدولة، فإذا أقر المالك على ذلك فلا بأس، وإن لم يقر فإنه يؤخذ منه هذا الزرع، وله نفقته.(390/35)
حكم من زرع في أرض غيره
السؤال
إن لم يوافق صاحب الأرض على ما فعله ذلك الغاصب من الزرع في أرضه، فهل النفقة تكون لصاحب الأرض؟
الجواب
ورد الحديث بأن يكون للغاصب النفقة، وإذا حصلت خصومة ذهبوا إلى القاضي.(390/36)
حكم استئجار البستان قبل أن تثمر الثمرة
السؤال
هل يجوز كراء البستان بمبلغ معين في السنة قبل أن يثمر؟
الجواب
نعم، فيجوز أن يعطي الإنسان أرضه مساقاة وفيها نخل مثلاً، ويقول: استأجر هذه الأرض لمدة سنة مثلاً بعشرة آلاف ريال، ويستخدمها العامل ويسقي الزرع والنخل، وله الأجرة وهي هذه العشرة الآلاف، والاستئجار غير الشركة؛ لأن الشركة هي المزارعة، وتكون على الثمرة والنتيجة تكون بينهما، وأما التأجير بالدراهم والدنانير فهذا شيء مستقل، هذا له الأجرة، وهذا سلم الأرض لينتفع بها، فإن ربح كثيراً فهو له، وإن خسر فهو عليه.(390/37)
حكم طواف الوداع
السؤال
حج رجل ثم ضاع منه الجواز، ثم رحل قبل أن يطوف طواف الوداع، فما الحكم؟
الجواب
من حج ولم يطف طواف الوداع فإن عليه فدية، وهي شاة تذبح بمكة وتوزع على فقراء الحرم؛ لأنه ترك واجباً من واجبات الحج.(390/38)
وقت إسلام أبي هريرة
السؤال
نجد اختلافاً في إسلام الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه في مناهج التعليم عن أقوال بعض أهل العلم، فمتى أسلم؟
الجواب
كان إسلامه عام خيبر.(390/39)
شرح سنن أبي داود [391]
الإجارة لها أحكام كثيرة، وبعض أنواع الإجارة صحيحة وبعضها غير صحيحة، ومعرفة أحكامها من المهمات؛ فإنه لا يخلو الإنسان -غالباً- أن يكون أجيراً أو مؤجراً.
وللإجارة والبيع أحكام؛ فمنها الجائز، ومنها المحرم.(391/1)
الإجارة(391/2)
شرح حديث عبادة (علمت ناساً من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إلي رجل منهم قوساً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الإجارة.
باب في كسب المعلم.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع وحميد بن عبد الرحمن الرؤاسي عن مغيرة بن زياد عن عبادة بن نسي عن الأسود بن ثعلبة عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (علمت ناساً من أهل الصفة الكتاب والقرآن، فأهدى إلي رجل منهم قوساً فقلت: ليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله عز وجل، لآتين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلأسألنه، فأتيته فقلت: يا رسول الله! رجل أهدى إلي قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن، وليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله، فقال: إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبلها).
حدثنا عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد قالا: حدثنا بقية قال: حدثني بشر بن عبد الله بن يسار قال عمرو: وحدثني عبادة بن نسي عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه نحو هذا الخبر، والأول أتم، (فقلت: ما ترى فيها يا رسول الله؟ فقال: جمرة بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها)].
أورد أبو داود كتاب الإجارة، وقد مر كتاب البيوع، والبيوع يتعلق ببيع الأعيان، ويكون على الدوام والتأبيد، بمعنى أن الإنسان يبيع السلعة ويأخذ ثمنها، والمشتري يأخذ السلعة ويملكها باستمرار، لا ترجع إلى المالك، بل من اشترى -مثلاً- أرضاً فإنها تبقى في ملكه حتى تخرج من ملكه ببيع أو إرث أو غير ذلك، أما الإجارة فهي تعتبر بمثابة بيع المنافع، ولا بد فيها من التحديد بمدة معينة، ولا يجوز أن يكون الأجل مجهولاً، بل لا بد أن يكون الأجل معلوماً، لمدة سنة أو لمدة سنتين، وكلما انتهت السنة -مثلاً- إما أن يجدد العقد وإما أن يترك أحدهما تجديده، وفي أثناء المدة ليس لأحد منهما أن يفسخ العقد؛ لأنه عقد لازم من الطرفين، فليس للمالك أن يخرج المستأجر قبل انتهاء المدة، وليس للمستأجر أن يخرج ويقول: استلم أرضك أو استلم عمارتك، أنا لا أريد أن أستمر؛ لأنه عقد لازم، ولا يتم الفسخ في أثناء المدة إلا برضا الطرفين، فالإجارة عقد على المنافع، والمنافع توجد شيئاً فشيئاً.
والعلماء متفقون على جواز الإجارة، ولم يخالف فيها إلا ابن علية والأصم، وابن علية هو إبراهيم بن إسماعيل، كما قال عنه الذهبي في الميزان: جهمي هالك، وأبو بكر بن كيسان الأصم معتزلي، فهما من المبتدعة، وكلامهما وجوده مثل عدمه.
ثم كيف تكون الإجارة ممنوعة أو محرمة، والحال أنه لا يستغني أحد عنها، لأنه لا يستطيع الإنسان أن يملك كل شيء، وأن يكون عارفاً لكل مهنة، فلا يحتاج إلى أن يستأجر كهربائياً أو يستأجر سباكاً؟ هذا شيء غير معقول وغير صحيح، والمسألة مجمع عليها، ولم يخالف فيها إلا هذان المبتدعان.
أورد أبو داود باب كسب المعلم، يعني كون المعلم يأخذ أجرة على تعليمه، هل له ذلك أو ليس له ذلك؟ العلماء اختلفوا في هذا، فمنهم من قال: إن المعلم لا يأخذ الأجرة، ولكنه يأخذ الجعل الذي يوضع له في بيت المال أو في أوقاف المسلمين على من يعمل أعمال القربات مثل تعليم العلم النافع وتعليم القرآن، فيأخذ الجعل ولا يأخذ الأجرة، ولا يقال: إنه أجير، ولكن يقال: إنه يعمل عملاً طيباً، ويأخذ الجعل الذي خصص في بيت المال أو في أوقاف المسلمين أو من أهل حي أو أهل قرية.
ومن العلماء من قال: إن أخذ الأجرة على التعليم جائزة، ويستدلون بقصة الذي رقى اللديغ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)، قالوا: فهذا يدل على جواز الإجارة على تعليم القرآن.
وكذلك أيضاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (زوجتك على ما معك من القرآن)، فقد جعل المهر تعليمها سوراً من القرآن.
ولا شك أن على معلم القرآن أن يريد القربة والثواب، وإذا أخذ الشيء الذي جعل له فقد أخذ شيئاً من الثواب المعجل له في الدنيا قبل الآخرة، ولكن لا ينبغي أن تكون القرب كالمهن الأخرى، فلا يفعل القربة إلا بشيء معلوم، فقد نقل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه في كتاب آداب المشي إلى الصلاة أنه قيل للإمام أحمد: إن رجلاً يقول: أصلي بكم رمضان بكذا وكذا درهماً فقال: أسأل الله العافية! ومن يصلي خلف هذا؟! يعني: أن هذا همه الدنيا، ولا يعمل إلا للدنيا، لكن إذا كانت هناك أموال في بيت المال أو أوقاف مخصصة لمن يقوم بهذا العمل المشروع الذي هو قربة إلى الله عز وجل، أو اتفق أناس فيما بينهم على أنهم يطلبون من أحد المعلمين أن يعلم أولادهم، ويجعلون له جعلاً يعطونه إياه في مقابل تعليمه؛ فهذا لا شك أنه سائغ وجائز.
أورد أبو داود حديث عبادة بن الصامت من طريقين، وفيه أنه علم بعض أهل الصفة الكتابة والقرآن، وأنه أهدى له قوساً، فأخذه وتردد في قبوله وفي حله له، فجاء يستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (جمرة من نار بين كتفيك)، وفي اللفظ الآخر: (إن أحببت أن تطوق بها طوقاً من نار فاقبلها).
وهذا يدل على تحريم أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وقال بعض أهل العلم في التوفيق بين هذا وبين ما جاء في جواز أخذ الأجرة: يحمل هذا الحديث على ما إذا كان متعيناً عليه أنه يعلم القرآن، وليس هناك أحد غيره يقوم بهذا العمل، فإنه يقوم به في غير مقابل، أما إن كان غير متعين عليه فله أن يأخذ الأجرة.
ومنهم من قال: إذا كان فعله على سبيل الاحتساب فليس له أن يأخذ عليه شيئاً، وأما إذا كان في نيته أنه إذا أعطي شيئاً في مقابل عمله فإنه سيأخذه، فإن ذلك لا بأس به، ويكون حديث عبادة بن الصامت محمولاً على أنه فعل أمراً مشروعاً متبرعاً متطوعاً ثم أخذ عليه شيئاً مقابل تطوعه، وأما الأجرة على الرقية فسيأتي ذكرها في الباب الذي بعد هذا.(391/3)
تراجم رجال إسناد حديث (علمت ناساً من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إلي رجل منهم قوساً)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
أبو بكر بن أبي شيبة هو عبد الله بن محمد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا وكيع].
وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحميد بن عبد الرحمن الرؤاسي].
حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مغيرة بن زياد].
صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب السنن.
[عن عبادة بن نسي].
عبادة بن نسي وهو ثقة أخرج له أصحاب السنن.
[عن الأسود بن ثعلبة].
الأسود بن ثعلبة وهو مجهول، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن عبادة بن الصامت].
عبادة بن الصامت رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث فيه مجهول، ولكن الطريق الثاني يشهد له ويؤيده ويقويه.
قوله: [حدثنا عمرو بن عثمان].
عمرو بن عثمان هو ابن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وكثير بن عبيد].
كثير بن عبيد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا بقية].
بقية بن الوليد وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني بشر بن عبد الله بن يسار].
بشر بن عبد الله بن يسار وهو صدوق، أخرج له أبو داود.
[قال عمرو: وحدثني عبادة بن نسي].
عمرو هو عمرو بن عثمان.
وقوله: وحدثني عبادة بن نسي يدل على أنه أخبره بهذا وبغيره؛ لأن هذه العبارة: (وأخبرني) تدل على أنه يوجد شيء محذوف، بدليل واو العطف، وهم يلتزمون الإتيان بها في الأسانيد من أجل دلالتها على أن هناك شيئاً آخر معطوفاً على هذا، بخلاف ما إذا كانت الرواية بدون عطف، فإنه يقول: أخبرني بدون واو.
[عبادة بن نسي].
مر ذكره.
[عن جنادة بن أبي أمية].
جنادة بن أبي أمية تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبادة بن الصامت].
مر ذكره.(391/4)
كسب الأطباء(391/5)
شرح حديث (من أين علمتم أنها رقية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كسب الأطباء.
حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن رهطاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلقوا في سفرة سافروها، فنزلوا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفوهم، قال: فلدغ سيد ذلك الحي، فشفوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا بكم لعل أن يكون عند بعضهم شيء ينفع صاحبكم، فقال بعضهم: إن سيدنا لدغ، فشفينا له بكل شيء فلا ينفعه شيء، فهل عند أحد منكم شيء يشفي صاحبنا؟ يعني: رقية، فقال رجل من القوم: إني لأرقي، ولكن استضفناكم فأبيتم أن تضيفونا، ما أنا براق حتى تجعلوا لي جعلاً، فجعلوا له قطيعاً من الشاء، فأتاه فقرأ عليه بأم الكتاب ويتفل حتى برأ كأنما أنشط من عقال، فأوفاهم جعلهم الذي صالحوه عليه، فقالوا: اقتسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنستأمره، فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: من أين علمتم أنها رقية؟! أحسنتم واضربوا لي معكم بسهم)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي كسب الأطباء يعني: أنه مباح وسائغ، وكون الطبيب يأخذ أجرة على تطبيبه وعلاجه لا بأس بذلك؛ لأنه بذل جهداً وعملاً، وأخذه الأجرة مقابل ذلك سائغ، وليس من قبيل التعليم؛ لأن الهداية ما تعرف إلا بالقرآن والسنة، وأما العلاج فإنه يأتي من طرق متعددة، فإنه ما أنزل الله داء إلا وأنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله.
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنهم كانوا في سفر مع جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمروا بحي من العرب فاستضافوهم فلم يضيفوهم يعني: ما أعطوهم حق الضيافة وما قدموا لهم الضيافة، فكانوا قريبين منهم، فلدغت سيدهم دابة من ذوات السموم (حية أو عقرب) فبحثوا عن كل شيء يعالجونه به فما حصل شفاؤه، وبقي على تألمه وتأثره وتضرره، فقال بعضهم: لو أنكم رأيتم هؤلاء الذين نزلوا بكم عسى أن يكون معهم شيء يشفي، فجاءوا إليهم وقالوا لهم: هل عندكم من شيء يشفي، فقد فعلنا كل ما نستطيع من أجل شفاء سيدنا مما أصابه فلم نجد شيئاً، فلعل أن يكون عندكم رقية؟ فقال بعضهم: إني لراق، ولكننا استضفناكم فلم تضيفونا، فلست براق حتى تجعلوا لي جعلاً، فجعلوا له قطيعاً من الغنم، فقرأ عليه فاتحة الكتاب، فقام كأنما أنشط من عقال، يعني قام كأنه ما حصل به أي شيء، وشفي تماماً.
وأصل كلمة (أنشط من عقال) أن البعير يعقل بعقال في يده، وإذا أريد أن يقوم من أجل استخدامه والاستفادة منه بالركوب أو الحمل عليه؛ فك عقاله الذي كان يمنعه من القيام، فإذا فك عقاله قام بسرعة، وهذا الشخص مثل البعير الذي ربطت يده في العقال، وكان يحاول أن يقوم فلا يتمكن، فعندما فك العقال قام بسرعة، فهذا عندما قرأ عليه شفي.
فأعطوهم المقدار الذي اتفقوا معهم عليه، وقد كان الاتفاق مع الراقي، ولكنه صار لهم جميعاً، وهذا من مكارم الأخلاق ومن محاسن العادات، حيث إن الرفقة يشتركون في هذه الأجرة، ولا يختص بها الراقي وحده عن رفاقه وأصحابه.
ولما أرادوا أن يأكلوا ترددوا، لأن هذه الغنم مقابل قراءة، فخشوا أن يكون ذلك ممنوعاً، فذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وسألوه وقال: (أحسنتم، اضربوا لي معكم بسهم)، ويريد بذلك أن تطييب خواطرهم، وليس ذلك رغبة في أن يكون له نصيب مما حصلوا، لكنه لما رآهم مترددين متوقفين أراد أن يطيب خواطرهم بأن يشاركهم في الأكل من هذا الشيء الذي هم متوقفون فيه، حتى يطمئنوا إلى أن هذا الذي حصلوه حلال، وهذا الذي حصل لهم مقابل علاج، وليس مقابل تعليم؛ لأن التعليم فيه الهداية، والهداية لا تكون إلا بطريق القرآن والسنة، وأما العلاج فيكون بطريق القرآن وغير القرآن، ولهذا قال: (كسب الأطباء)؛ لأن هذا يعتبر من قبيل الطب؛ لأنه عالجه وبرأ من اللدغة بهذا العلاج، فدل على أن أخذ الطبيب للأجرة جائز، وليس هو من قبيل التعليم؛ لأن التعليم فيه الهداية وفيه الخروج من الظلمات إلى النور وفيه سعادة الدنيا والآخرة، وأما هذا فليس فيه إلا الشفاء من المرض، والعلاج يكون بالقرآن وبغير القرآن، ولكن الهداية لا سبيل إليها إلا عن طريق الكتاب والسنة، وهو الوحي الذي جاء به رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وقد قيل: إن الذي رقى هو أبو سعيد رضي الله عنه، ولكنه أبهم نفسه، والراوي قد يبهم نفسه، ولا بأس بهذا، وهو صادق في قوله: (قال رجل من القوم)، فهو من القوم.
قوله: [فأوفوهم جعلهم الذي صالحوه عليه، فقالوا: اقتسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا].
المراد أنهم يقتسمون هذا الجعل، وإن كان الذي رقى واحداً، وكونه يشترك ورفقته في هذا الجعل من مكارم الأخلاق.
قوله: [فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنستأمره] هذا يدلنا على ما كان عليه أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام من التورع ومن الرجوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام في معرفة الأحكام الشرعية.
قوله: [فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أين علمتم أنها رقية؟! أحسنتم، واضربوا لي معكم بسهم)].
قال هذا تطييباً لخواطرهم، حتى لا يكون في نفوسهم شيء وتردد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو سيد الخلق- سيأكل من هذا الشيء الذي حصلوه، ويشاركهم فيه.(391/6)
تراجم رجال إسناد حديث (من أين علمتم أنها رقية)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو عوانة].
هو الوضاح بن عبد الله اليشكري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بشر].
هو جعفر بن إياس بن أبي وحشية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي المتوكل].
أبو المتوكل الناجي هو علي بن داود ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد].
هو سعد بن مالك بن سنان، أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(391/7)
شرح حديث (من أين علمتم أنها رقية) من طريق ثانية وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أخيه معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهذا الحديث].
أورد المصنف طريقاً آخر لهذا الحديث، ولم يسق المتن، وأحال إلى متن الرواية السابقة.
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا يزيد بن هارون].
يزيد بن هارون الواسطي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا هشام بن حسان].
هشام بن حسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن سيرين].
محمد بن سيرين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أخيه معبد بن سيرين].
معبد بن سيرين وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبي سعيد].
مر ذكره.(391/8)
شرح حديث (كل فلعمري لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن خارجة بن الصلت عن عمه رضي الله عنه: (أنه مر بقوم فأتوه فقالوا: إنك جئت من عند هذا الرجل بخير، فارق لنا هذا الرجل، فأتوه برجل معتوه في القيود، فرقاه بأم القرآن ثلاثة أيام غدوة وعشية، وكلما ختمها جمع بزاقه ثم تفل، فكأنما أنشط من عقال! فأعطوه شيئاً فأتى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فذكره له، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كل؛ فلعمري لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق)].
أورد أبو داود حديث عم خارجة بن الصلت وهو علاقة بن سحار، وأنه مر بأناس وفيهم رجل معتوه مقيد، فطلبوا منه أن يرقيه، فرقاه بفاتحة الكتاب، فكان يقرأ ثم يتفل عليه، وبعدما قرأ عليه شفي، فأعطوه جعلاً، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (كل؛ فلعمري من أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق).
وقوله: (لعمري) هذه من الصيغ المؤكدة، وليست قسماً، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يستعمل هذا كما في هذا الحديث، وعائشة رضي الله عنها كانت تستعمل هذا كما جاء عنها أنها قالت: لعمري ما أتم الله عمرة من لم يطف بين الصفا والمروة، وكذلك يستعمله العلماء من أهل السنة، فهو ليس من ألفاظ القسم، وإنما هو من ألفاظ تأكيد الكلام، والشيخ حماد الأنصاري رحمه الله كتب في هذا بحثاً، وهو منشور في مجلة الجامعة بعنوان (لعمري).(391/9)
تراجم رجال إسناد حديث (كل لعمري من أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن معاذ].
عبيد الله بن معاذ العنبري ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
معاذ بن معاذ العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن أبي السفر].
عبد الله بن أبي السفر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن خارجة بن الصلت].
خارجة بن الصلت وهو مقبول أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن عمه].
هو علاقة بن سحار، وهو صحابي، أخرج له أبو داود والنسائي.(391/10)
الأسئلة(391/11)
حكم الرقية للكافر
السؤال
هل هذا الذي رقي في حديث الرقية كان كافراً؟ وهل تنفع رقية الكافر مع عدم إيمانه بالقرآن؟
الجواب
لا أدري هل كان كافراً أو مسلماً، لكن الرقية هي علاج، وقد يشفي الله الكافر بهذا العلاج.(391/12)
حكم التخصص لرقية المرض
السؤال
الآن بعض المقرئين يتخصص لرقية المرض، ويفتح له عيادة لذلك أو في بيته، فما الحكم؟
الجواب
نفع الناس طيب، ولكن ليس بهذا التوسع وبهذا الابتذال الذي قد حصل، فهذا التوسع غير جيد، حتى أن بعضهم بسبب كثرة المتعالجين عنده يقرأ على عدة أشخاص! فهذا لا وجه له، وكونه يبيع الماء المرقي هذا توسع غير جيد.(391/13)
الحكمة من الخرص
السؤال
لماذا يخرصون النخل ولا ينتظرون اجتناءه ثم يكال ويقسم بالنصف؟
الجواب
لأن النخل يؤكل رطباً، ويستفاد منه وهو رطب، وفيه الزكاة، فمن أجل أن تعرف مقدار الزكاة فيه يخرص، فالذي يقوم على النخل يأكل منه ما يشاء، ولكنه يضمن نصيب المالك من المقدار الذي خرص، وكذلك مقدار الزكاة من المقدار الذي خرص.
إذاً: يترتب على الخرص فائدتان: الأولى: أن صاحب الحق يعرف مقدار ما يستحقه.
الثانية: أن العامل يتصرف في الثمرة ببيعها وهي رطبة ويأكل ويهدي ويتصدق ويتصرف، ولكنه ضامن للمقدار الذي يستحقه الطرف الثاني، وكذلك الزكاة.
والزكاة تخرج من رأس المال الذي حزر كله.(391/14)
الفرق بين المساقاة والمزارعة
السؤال
ما الفرق بين المساقاة والمزارعة؟
الجواب
المساقاة ليس فيها زرع، والمزارعة فيها زرع، والمساقاة تكون في النخل والشجر، فالإنسان يدفع شجراً مثل النخل، ويقوم إنسان بسقيه وتعاهده وتلقيح ثمرته وخدمته ومعالجته ودفع أنواع الأذى عنه بالمبيدات، ونحو هذه الأشياء التي يحتاج إليها، وأما المزارعة فهي تقديم أرض، والإنسان له أن يتفق مع إنسان يزرع براً أو يزرع شعيراً أو يزرع أي زرع على حسب الاتفاق بينهما أو يجعل الأمر إليه مطلقاً، فيزرع فيها ما شاء، وهكذا المساقاة تكون في كل الشجر.(391/15)
وجه ذكر حديث عبادة (أهدى إلي رجل) في كتاب الإجارة
السؤال
لفظ الحديث: (أهدى إلي قوساً) فلماذا أدخله أبو داود رحمه الله في كتاب الإجارة؟
الجواب
هذا ليس من قبيل الإجارة، ولكن كأن هذا القوس أجرة في مقابل عمل، يعني: أنه علمه القرآن فأهدى إليه قوساً مقابل منفعة التعليم.(391/16)
خلاف العلماء في حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن يشمل تعليم السنة
السؤال
هل الخلاف في جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن فقط أم يشمل تعليم السنة والتدريس، فيكون الأولى عدم أخذ الأجرة على التعليم مطلقاً؟
الجواب
السنة والتفسير وما يتعلق بهما كل ذلك يدخل في الخلاف، أما الحساب واللغة العربية التي هي مكملات ووسائل وليست غايات فلا، أما الكتاب والسنة فبهما هداية الخلق، فالناس يتعلمونهما من أجل أن الطريق إلى الله عز وجل إنما يكون بهما، والهداية إنما تكون بهما، والسير على الصراط المستقيم إنما يكون بسلوكهما.(391/17)
كسب الحجام(391/18)
شرح حديث (كسب الحجام خبيث)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كسب الحجام.
حدثنا موسى بن إسماعيل أخبرنا أبان عن يحيى عن إبراهيم بن عبد الله -يعني ابن قارظ - عن السائب بن يزيد عن رافع بن خديج رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (كسب الحجام خبيث، وثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب كسب الحجام، أي: حكمه.
وحكم كسب الحجام أنه حلال، ولكنه مكسب ليس بشريف، بل هو من أردأ المكاسب، لما فيه من استعمال الدم، وكان الحجام في الأزمنة الماضية يمص المحاجم، وقد يسبق إلى حلقه شيء من الدم بسبب المص؛ ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفطر الحاجم والمحجوم)، فالمحجوم لكونه خرج منه دم، والحجام لأنه مظنة أن ينتقل إلى حلقه دم بسبب المص.
وفي الأزمنة المتأخرة صارت الحجامة بدون مص، ولكن هي مهنة رديئة وليست شريفة، فكسب الحجام من المكاسب التي يرغب عنها، والناس لا بد لهم منها، ومع ذلك فهي من أردأ المكاسب وأدناها، وليس كسبها حراماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره، ولو كان حراماً لم يعطه كما قال ذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
أورد أبو داود حديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كسب الحجام خبيث)، والمقصود بالخبيث هنا الرديء وليس المحرم كما قال الله عز وجل: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267] يعني: لا تعمدوا إلى الشيء الرديء فتنفقون منه، وأما الجيد الذي يعجبكم فلا تقدمون على الإنفاق منه، بل كما قال الله عز وجل: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، فليس المقصود بالخبيث هنا المحرم، وإنما المقصود به الرديء، وكسب الحجام لا شك أنه رديء، ولكنه مباح، والدليل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى الحجام أجره، ولو كان حراماً لم يعطه.
قوله: (وثمن الكلب خبيث)، المقصود بالخبيث هنا المحرم؛ لأن الكلب لا يصلح أن يكون سلعة تباع ويشترى، وإنما يجوز استعماله في أمور معينة هي: الصيد والماشية والحرث فقط، كما جاء ذلك في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن احتاج إليه استعمله، ومن لم يحتج إليه تركه أو أعطاه غيره، أما كونه يباع ويشترى فهذا غير لائق، وإنما يستعمل للحاجة، ومن صار تحت يده فهو مختص به، وهو أولى به من غيره، وإن استغنى عنه فلا يبعه، وإنما يعطيه لمن يستعمله أو يرسله ويتركه مع الكلاب المرسلة المهملة.
قوله: (ومهر البغي خبيث) المراد ما تأخذه المرأة الزانية في مقابل زناها، فهذا حرام لكون الزنا حراماً، وما أخذ عليه حرام.
إذاً: هذا الحديث مشتمل على ثلاثة أمور، كل منها وصف بأنه خبيث، ولكنها ليست كلها على حد سواء وطريقة واحدة، بل منها ما هو خبيث بمعنى أنه من الخبائث المحرمة، ومنها ما هو خبيث بمعنى أنه من المكاسب الرديئة.(391/19)
تراجم رجال إسناد حديث (كسب الحجام خبيث)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا أبان].
أبان بن يزيد العطار وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن يحيى].
يحيى بن أبي كثير اليمامي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم بن عبد الله يعني ابن قارظ].
إبراهيم بن عبد الله بن قارظ وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن السائب بن يزيد].
السائب بن يزيد وهو صحابي صغير، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن رافع بن خديج].
رافع بن خديج وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(391/20)
شرح حديث (استأذنه في إجارة الحجامة فنهاه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن ابن محيصة عن أبيه رضي الله عنه (أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إجارة الحجام فنهاه عنها، فلم يزل يسأله ويستأذنه حتى أمره أن اعلفه ناضحك وأطعمه رقيقك)].
أورد أبو داود حديث محيصة رضي الله تعالى عنه أنه كان يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في إجارة الحجامة، فكان ينهاه، وكرر عليه فقال: (اعلفه ناضحك وأطعمه رقيقك)، وهذا يدل على ما دل عليه الحديث الذي قبله من أنه شيء لا يحرص عليه، ولا يفرح به، ولا يرغب فيه، بل كسب الحجام من المكاسب الرديئة والدنيئة التي ليست بذات شرف، ومع هذا فالناس لابد لهم منها، ويجوز أخذ الأجرة على الحجامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الحجام أجره، ولو كان حراماً لم يعطه كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه.
قوله: (اعلفه ناضحك وأطعمه رقيقك) هذا يدل على أنه مباح وليس بحرام، وفيه أنه ليس مما يرغب فيه، لأنها مهنة غير شريفة، لكن يصار إليها على قدر الحاجة، ولا بد للناس منها، والناضح من الدواب هي التي ينضح عليها أي: يستنبط الماء عليها، ويخرج الماء من البئر بواسطتها، والرقيق هو المملوك، فأذن له أن ينفقه على رقيقه وعلى نواضحه مع أن نفقتهما واجبة عليه، وهذا يدل أنه حلال، ولكن نهاه عن ذلك من أجل أنه كسب رديء.(391/21)
تراجم رجال إسناد حديث (استأذنه في إجارة الحجامة فنهاه)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة.
[عن ابن شهاب].
محمد بن مسلم بن عبيدالله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن محيصة].
هو حرام بن سعد بن محيصة، وهو ثقة أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبيه].
المراد به جده محيصة، وهو محيصة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج له أصحاب السنن.(391/22)
شرح حديث (احتجم وأعطى الحجام أجره)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (احتجم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأعطى الحجام أجره، ولو علمه خبيثاً لم يعطه)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره، ولو علمه خبيثاً -يعني: حراماً- لم يعطه، مع أنه قال: إنه خبيث كما في الحديث الأول، ولكن المقصود بالخبيث هناك الرديء كما قال تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267] يعني: الرديء، مثل التمر الذي يكون حشفاً غير جيد، فهذا يقال له خبيث بمعنى رديء، وليس خبيثاً بمعنى حرام.
فبين ابن عباس أن ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن كسب الحجام خبيث لا يراد بالخبيث المحرم الذي جاء في وصف النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحل الطيبات ويحرم الخبائث، لكن المراد أنه من المكاسب الدنيئة التي لا ينبغي أن يحرص عليها ويتنافس عليها ويعتنى بها، والناس لا بد لهم منها، وتتخذ هذه المهنة على حسب الحاجة.(391/23)
تراجم رجال إسناد حديث (احتجم وأعطى الحجام أجره)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا خالد].
خالد بن مهران الحداء وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
عكرمة مولى ابن عباس وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(391/24)
شرح حديث (حجم أبو طيبة رسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن حميد الطويل عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (حجم أبو طيبة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمر له بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة، وهو رقيق وليس بحر، فأمر له بصاع مقابل هذه الحجامة، وأمر أهله أن يخففوا من خراجه، يعني المبلغ الذي يطلبون منه أن يحضره لهم؛ لأنهم تركوه يعمل ويأتي لهم في كل يوم بكذا، وهو يجتهد أن يأتي لهم بالشيء الذي يحددونه له، وهذا يسمى خراجاً، فأمرهم أن يخففوا عنه من خراجه، فمثلاً بدلاً من أن يأتيهم كل يوم بعشرين ريالاً يأتيهم بعشرة ريالات.(391/25)
تراجم رجال إسناد حديث (حجم أبو طيبة رسول الله)
قوله: [حدثنا القعنبي عن مالك عن حميد الطويل].
حميد بن أبي حميد الطويل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد رباعي، بين أبي داود وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أربعة أشخاص، وهي أعلى الأسانيد عند أبي داود.(391/26)
شرح سنن أبي داود [392]
الشريعة قائمة على ركنين: عبادات ومعاملات.
وقسم المعاملات واسع جداً؛ وفيه أحكام وخلافات كثيرة ومعلومة.
ولكن ما نص الشارع على تحريمه وجب الانتهاء عن إتيانه.
ومن ذلك النهي عن كسب الإماء، وعسب الفحل وغير ذلك.(392/1)
كسب الإماء(392/2)
شرح حديث (نهى عن كسب الإماء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كسب الإماء.
حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن محمد بن جحادة قال: سمعت أبا حازم أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كسب الإماء)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي باب في كسب الإماء، والمقصود من ذلك الكسب الذي يكون عن طريق الزنا أو الشيء الذي يكون مشكوكاً فيه أو فيه ريبة، وأما إذا كانت الأمة تكسب بالغزل أو الخياطة أو الغسل أو التنظيف على وجه يؤمن معه حصول الأمر المحرم؛ فإن ذلك كسب حلال ومباح ولا شيء فيه.(392/3)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى عن كسب الإماء)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن معاذ].
عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
معاذ بن معاذ العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن جحادة].
محمد بن جحادة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي حازم].
هو سلمان الأشجعي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.(392/4)
شرح حديث (نهانا عن كسب الأمة إلا ما عملت بيدها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عكرمة حدثني طارق بن عبد الرحمن القرشي قال: جاء رافع بن رفاعة رضي الله عنه إلى مجلس الأنصار فقال: (لقد نهانا نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم اليوم فذكر أشياء ونهى عن كسب الأمة إلا ما عملت بيدها وقال هكذا بأصابعه، نحو الخبز والغزل والنفش)].
أورد أبو داود حديث رافع بن رفاعة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أشياء محرمة، وذكر من بينها كسب الأمة إلا ما عملت بيدها، يعني الشيء الذي اكتسبته بعملها بيدها كغزل أو خياطة أو نحو ذلك من الأشياء التي تعملها بيدها، وأما إذا كان الكسب عن طريق محرم أو مشتبه فإنه هو المقصود بالنهي عن كسب الأمة.
قوله: [(إلا ما عملت بيدها، وقال هكذا بأصابعه نحو الخبز والغسل والنفش)].
يعني: نفش الصوف، فهو يكون متلبداً فينفش حتى يهيأ للغزل؛ لأنه إذا أخذ من ظهور الدواب يكون متلبداً وملتصقاً بعضه ببعض، فيحتاج إلى ينفش حتى يصلح أن يغزل.
والغزل هو غزل الصوف حتى يكون خيوطاً فيتخذ منه فرشاً أو عباءة أو غير ذلك.(392/5)
تراجم رجال إسناد حديث (نهانا عن كسب الأمة إلا ما عملت بيدها)
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هارون بن عبد الله الحمال البغدادي ثقة، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا هاشم بن القاسم].
هاشم بن القاسم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عكرمة].
عكرمة بن عمار وهو صدوق يغلط، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني طارق بن عبد الرحمن القرشي].
طارق بن عبد الرحمن القرشي وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن رافع بن رفاعة].
رافع بن رفاعة وهو صحابي صغير، أخرج له أبو داود.(392/6)
شرح حديث (نهى عن كسب الأمة حتى يعلم من أين هو)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبي فديك عن عبيد الله -يعني ابن هرير - عن أبيه عن جده رافع -هو ابن خديج - رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن كسب الأمة حتى يعلم من أين هو)].
أورد أبو داود حديث رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن كسب الأمة حتى يعرف من أين هو، يعني: حتى يعلم أنه من حلال، ومعنى هذا أنه إذا كان حراماً أو أنه مشتبهاً فيه فإنه منهي عنه، وإن كان معلوماً عن طريق الغزل أو النفش أو الخبز أو غير ذلك مما هو من عمل يدها فإنه يكون مباحاً.(392/7)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى عن كسب الأمة حتى يعلم من أين هو)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن أبي فديك].
هو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله يعني ابن هرير].
وهو مستور، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
هو هرير بن عبد الرحمن مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن جده رافع].
صحابي مر ذكره.
والحديث في إسناده من هو مستور ومن هو مقبول، ولكن الأحاديث التي مرت تقويه.(392/8)
حلوان الكاهن(392/9)
شرح حديث (نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في حلوان الكاهن.
حدثنا قتيبة عن سفيان عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (أنه نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي باب في حلوان الكاهن يعني: في تحريمه، وهو ما يعطاه مقابل الكهانة، فهو حرام؛ لأن الكهانة حرام، وما يؤخذ عليها يكون حراماً، وكسب الكاهن من المكاسب المحرمة الخبيثة التي لا تجوز، ولا يجوز فعل الكهانة ولا أخذ العوض عليها، ومعروف قصة أبي بكر رضي الله عنه في الغلام الذي أتى له بطعام فأكله ثم قال له: أتدري من أين هذا؟! تكهنت في الجاهلية لرجل فأعطاني هذا، فـ أبو بكر رضي الله عنه أدخل أصبعه في فمه فاستقاء ما في بطنه.(392/10)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن)
قوله: [حدثنا قتيبة].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان عن الزهري].
سفيان هو ابن عيينة المكي ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، والزهري مر ذكره.
[عن أبي بكر بن عبد الرحمن].
أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وفقهاء المدينة السبعة ستة منهم متفق على عدهم في الفقهاء السبعة، ومختلف في السابع، فالستة المتفق عليهم هم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وخارجة بن زيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وعروة بن الزبير بن العوام، هؤلاء الستة متفق على عدهم في الفقهاء السبعة، وأما السابع ففيه ثلاثة أقوال: قيل: هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وقيل: هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وقيل: هو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
ولـ ابن القيم رحمه الله كتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين -إعلام بكسر الهمزة- وليس أعلام بفتحها، فهو ليس تراجم للأعلام بل هو إعلام بمعنى إخبار، فهو إعلام الموقعين، يعني المفتين عن الله عز وجل، والمبينين للأحكام التي شرعها الله عز وجل، وقد ذكر ابن القيم في أول كتاب إعلام الموقعين جماعة من أهل الفتوى في الأمصار في زمن الصحابة وزمن التابعين ومن بعدهم، ولما جاء عند ذكر فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين جعل السابع أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وذكر بيتين في جمعهم: إذا قيل من في العلم سبعة أبحر روايتهم ليست عن العلم خارجه فقل هم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجة وقافية كل بيت تنتهي بقوله (خارجه) وهذه من البلاغة في هذين البيتين.
والفقهاء السبعة لقب يأتي ذكرهم به على سبيل الإجمال في بعض المسائل، مثل مسألة زكاة العروض يقال: قال بها الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة، فبدلاً من أن يقال: قال بها أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وفلان وفلان يختصر ذلك فيقال: الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة.
[عن أبي مسعود].
عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه، وهو مشهور بكنيته، واسمه عقبة بن عمرو، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقد يتصحف أبو مسعود إلى ابن مسعود كثيراً، مثل ما جاء في بعض طبعات كتاب سبل السلام في الحديث المشهور عن أبي مسعود: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) فإنه قال فيه: عن ابن مسعود، وصوابه عن أبي مسعود وليس ابن مسعود.(392/11)
عسب الفحل(392/12)
شرح حديث (نهى عن عسب الفحل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في عسب الفحل.
حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا إسماعيل عن علي بن الحكم عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن عسب الفحل)].
أورد أبو داود هذه الترجمة باب في عسب الفحل، يعني: حكمه، وعسب الفحل هو أخذ الأجرة على نزوه على الأنثى، فالفحل من الحيوانات ينزو على الإناث، فأخذ الأجرة على نزوه منهي عنه؛ لأن هذا من الأمور التي ينبغي أن تكون مبذولة فيما بين الناس، ثم أيضاً فيها جهالة، وأيضاً هو شيء لا يقدر على تسليمه، وذلك أن الفحل قد ينزو ولا ينزو، فكيف يأخذ الإنسان شيئاً مقابل لا شيء، وهو إنما ينزى من أجل أن يخرج منه ماء فتحمل منه الأنثى، فقد يحصل منه أنه ينزو ولا يحصل حمل.
إذاً: هو شيء غير مقدور على تسليمه، وهو شيء مجهول، ولا يدرى هل يحصل حمل أو لا يحصل، فإذا بذل بالمجان وبدون مقابل، فذلك لا يؤثر، إن حصل حمل فالحمد لله، وإن لم يحصل شيء فليس هناك شيء أخذ في مقابل ذلك.
والحاكم استدرك هذا الحديث على البخاري مع أنه في صحيح البخاري، فـ الحاكم أحياناً يستدرك أحاديث على الصحيحين وهي موجودة في الصحيحين، فيكون هذا من أوهامه، حيث يقول: وهذا الحديث على شرط البخاري ولم يخرجه، وهو قد أخرجه، مثل هذا الحديث فإن البخاري رحمه الله أخرجه في كتاب الإجارة.
وقال الحافظ ابن حجر في شرحه: وقد وهم الحاكم فقال: إنه على شرط البخاري ولم يخرجه، وقد أخرجه كما هنا، ولعله بحث عنه في كتاب البيوع فلم يجده فنفى وجوده في صحيحه، بسبب أنه بحث عنه في غير مظنته، ومعلوم أن البخاري رحمة الله عليه يأتي بالأحاديث في أبواب كثيرة، فقد يورد الحديث في غير مظنته، فيترتب على ذلك أن الحاكم يبحث عنه في مكان يظن أنه فيه فلا يجده، فعند ذلك يحكم بأنه لم يخرجه.
وبعض أهل العلم أجاز عسب الفحل إذا كان ينزو على عدد معين من الحيوانات، ولكن الحديث واضح في أن أخذ الأجرة على ذلك منهي عنها مطلقاً، حتى لو أخذ الأجرة بشرط وجود الحمل فإن هذا لا يجوز.
إذاً: لا يجوز بيع عسب الفحل، لكن إذا جعل ماء الفحل في أنابيب، ولقحت بها البقر مثلاً، فهذا لا بأس ببيعه؛ لأنه شيء معلوم مشاهد، وليس فيه جهالة.
وقد أجاز بيع عسب الفحل مالك وشبهه بعض أصحابه بأجرة الرضاع وإبار النخل، ولكن بينهما فرق، فالتأبير موجود فيه الغبار الذي ينتقل، وكذلك الرضاع موجود في الثدي الحليب، وكما هو معلوم أن الاسترضاع جائز، والظئر التي ترضع تأخذ الأجرة على رضاعها، وهذا ليس مثل النزو الذي قد يحصل منه شيء، وقد لا يحصل منه شيء، ثم هو أيضاً لا يكون باستمرار مثل الرضاع، وإنما يكون مرة واحدة قد يكون فيها ماء، وقد لا يكون فيها ماء.(392/13)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى عن عسب الفحل)
قوله: [حدثنا مسدد بن مسرهد].
مسدد بن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا إسماعيل].
إسماعيل بن علية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي بن الحكم].
علي بن الحكم وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(392/14)
الأسئلة(392/15)
نجاسة الكلب
السؤال
في حديث رافع بن خديج دلالة على أن الكلب نجس؛ لأن ثمنه خبيث فذاته أولى بالخبث؟
الجواب
لعابه من أشد الأشياء نجاسة؛ ولهذا صار تطهيره بكيفية خاصة، وهو أنه يغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب سبع مرات أولاهن بالتراب، فنجاسته مغلظة، لكن ليس معنى ذلك أن من لمس جسده أصابته نجاسة.
ونجاسة كلب الصيد كغيره، إلا أنه يعفى عما لامس بلعابه من الصيد، ومع ذلك ينظف المكان الذي عض الصيد فيه.(392/16)
حكم استعمال الكلب في حدائق الحيوان للحراسة
السؤال
ما حكم استعمال الكلب في حدائق الحيوان للحراسة؟
الجواب
الذي ورد في الحرث والماشية والصيد، فالحديقة إذا كانت تحتاج إلى حراسة لوجود زرع فيها، أو أشياء ثمينة، والناس بحاجة إلى حراستها بالكلاب؛ فلا بأس.(392/17)
الصائغ(392/18)
شرح حديث (لا تسلميه حجاماً ولا صائغاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى [باب في الصائغ.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي ماجدة قال: قطعت من أذن غلام أو قطع من أذني، فقدم علينا أبو بكر رضي الله عنه حاجاً فاجتمعنا إليه، فرفعنا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمر: إن هذا قد بلغ القصاص، ادعوا لي حجاماً ليقتص منه، فلما دعي الحجام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إني وهبت لخالتي غلاماً وأنا أرجو أن يبارك لها فيه فقلت لها: لا تسلميه حجاماً ولا صائغاً ولا قصاباً)].
أورد أبو داود (باب في الصائغ)، والصائغ هو الذي يصوغ الحلي وينقله من كونه كسراً وقطعاً إلى كونه حلياً يتجمل به ويتحلى به ويستفاد منه في الزينة، وهذا العمل إذا أتي به على الوجه المشروع وابتعد فيه عن الربا أو الغش وسلم من الأمور المحرمة؛ فإنه لا بأس به، فما يأخذه الصائغ في مقابل الذهب الذي صاغه لا بأس به إذا خلا من أمر محرم.
أورد أبو داود حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفيه أن أبا ماجدة قال: قطعت من أذن غلام أو قطع من أذني فقدم علينا أبو بكر حاجاً فاجتمعنا إليه، فرفعنا إلى عمر.
يعني: أنهم تخاصموا إليه فأحالهم إلى عمر ليقضي بينهم.
وقوله: قطعت من أذن غلام أو قطع من أذني، هذا شك من الرواة الذين هم دون صاحب القصة.
فقال عمر رضي الله عنه: (إن هذا قد بلغ القصاص) معناه أنه يستحق أن يقطع من أذنه مثلما قطع من أذن صاحبه، فقال: (ادعوا لي الحجام) أي من أجل أن يقطع المقدار المقابل من الجاني.
فلما دعي الحجام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إني وهبت لخالتي غلاماً وأنا أرجو أن يبارك لها فيه، وقلت لها: لا تسلميه حجاماً ولا صائغاً ولا قصاباً).
يعني: أوصاها ألا تسلمه إلى حجام يعلمه الحجامة، فالحجامة فيها مخالطة الدم، ويتعرض الحجام إلى شيء من هذه القاذورات والأوساخ التي تخرج من جسد الإنسان بواسطة الحجامة، وأيضاً أوصاها ألا تسلمه إلى صائغ ليعلمه الصياغة؛ لأن عمله قد يكون فيه شيء من الربا أو غير ذلك من المحذورات الشرعية.
وأيضاً أوصاها ألا تسلمه إلى قصاب، وهو الجزار الذي يخالط الدم ويكون في ثيابه دم، وهذا الحديث ضعيف.(392/19)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تسلميه حجاماً ولا صائغاً)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد بن سلمة].
حماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن العلاء بن عبد الرحمن].
العلاء بن عبد الرحمن الحرقي وهو صدوق ربما وهم، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي ماجدة].
أبو ماجدة وهو مجهول أخرج له أبو داود.
[عن عمر].
عمر رضي الله تعالى عنه أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
والحديث علته أبو ماجدة أو ابن ماجدة فإنه مجهول، وأما ابن إسحاق فهو مدلس، ولكنه جاء في بعض الطرق التي سيذكرها المصنف وفيها تصريحه بالسماع.(392/20)
شرح حديث (لا تسلميه حجاماً ولا صائغاً) من طريق ثانية وتراجم رجال إسناده
[قال أبو داود: روى عبد الأعلى عن ابن إسحاق قال ابن ماجدة رجل من بني سهم: عن عمر بن الخطاب].
ذكر أبو داود طريقاً أخرى للحديث، وفيه أن ابن إسحاق قال: ابن ماجدة -رجل من بني سهم- وهذا زيادة تعريف له، وقال ابن ماجدة بدل أبو ماجدة في الطريق الأولى.
وعبد الأعلى بن عبد الأعلى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(392/21)
شرح حديث (لا تسلميه حجاماً ولا صائغاً) من طريق ثالثة وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يوسف بن موسى حدثنا سلمة بن الفضل حدثنا ابن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن الحرقي عن ابن ماجدة السهمي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه].
قوله: [حدثنا يوسف بن موسى].
صدوق أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[حدثنا سلمة بن الفضل].
سلمة بن الفضل صدوق كثير الخطأ، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة في التفسير.
[حدثنا ابن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن عن ابن ماجدة عن عمر].
قد مر ذكرهم.(392/22)
شرح حديث (لا تسلميه حجاماً ولا صائغاً) من طريق رابعة وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الفضل بن يعقوب حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق حدثنا العلاء بن عبد الرحمن الحرقي].
وهذا الطريق فيه تصريح ابن إسحاق بالتحديث والسماع من العلاء بن عبد الرحمن الحرقي.
قوله: [حدثنا الفضل بن يعقوب].
الفضل بن يعقوب صدوق أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق حدثنا العلاء بن عبد الرحمن عن ابن ماجدة عن عمر].
قد مر ذكرهم.(392/23)
العبد يباع وله مال(392/24)
شرح حديث (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في العبد يباع وله مال.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، ومن باع نخلاً مؤبراً فالثمرة للبائع إلا أن يشترط المبتاع)].
أورد أبو داود باباً في العبد يباع وله مال، يعني: لمن يكون هذا المال الذي بيده؟ هل يكون للبائع أو يكون للمبتاع الذي هو المشتري؟ أورد أبو داود حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من باع عبداً وله مال فماله لبائعه إلا أن يشترط المبتاع) يعني: أن البيع حصل على عين العبد فقط، والمال الذي بيده يكون للبائع؛ إلا أن يشترط المبتاع ويقول: أشتريه والمال الذي بيده.
والعبد لا يملك، وما في يده يكون لمالكه، والأصل أن ما بيد العبد هو لسيده، وليس له، فيكون للبائع، ولكن إن اشترط المبتاع ذلك فإنه يكون له، ومثل ذلك أيضاً النخل المؤبر، قال: (ومن اشترى نخلاً قد أبر فهو للبائع إلا أن يشترط المبتاع) أما إذا كان لم يؤبر فإنه يكون داخلاً في المبيع ويكون للمشتري، ولكن بعد أن يخرج من أكمامه ويؤبر، فإنه يكون للبائع؛ لأنه نماء ماله، فهو مثل الولد المنفصل الذي يكون مع أمه من بهيمة الأنعام، فإنه يكون لبائع الأم وليس للمشتري، وهكذا الثمر المؤبر إلا إذا اشترط المشتري أن يكون ذلك الثمر الذي أبر له، فإنه يكون له بالشرط، أما إذا خلا العقد من ذكر من له الثمرة بعد التأبير أو المال الذي بيد العبد؛ فإنه يكون للبائع، وإن حصل اشتراط المشتري على البائع أنه له فالعبرة بهذا الشرط الذي حصل بينهما.(392/25)
تراجم رجال إسناد حديث (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم].
سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أحد فقهاء المدينة السبعة على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم.
[عن أبيه].
قد مر ذكره.(392/26)
شرح حديث (من باع عبداً وله مال فماله للبائع) من طريق أخرى وذكر الاختلاف فيها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقصة العبد].
أورد أبو داود الحديث عن ابن عمر عن عمر بقصة العبد، يعني أن من باع عبداً وله مال فماله لبائعه ما لم يشترط المبتاع، وليس فيه ذكر التأبير.
والتأبير هو تلقيح النخل، يؤخذ شيء من طلع النخل الذكر ويشق الوعاء الذي فيه الثمرة فيوضع أجزاء مما في النخلة الذكر في النخلة الأنثى، وبذلك يصلح، وإلا فإنه يكون شيصاً بمعنى أنه لا يكون جيداً إذا خلا من التأبير، بل يكون حبات صغيرة مستطيلة، وفي ذلك القصة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (أنتم أعلم بدنياكم).
قوله: [حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن عمر].
وهذا الإسناد خماسي، وفيه رواية صحابي عن صحابي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بقصة النخل].
يعني دون ذكر العبد، فهو عكس الأول، فالطريق الأول في قصة العبد دون التأبير، والطريق الثاني في قصة النخل دون العبد، والطريق الذي قبلهما جمع بين قصة العبد وقصة النخل.
[قال أبو داود: واختلف الزهري ونافع في أربعة أحاديث هذا أحدها].
يعني بعضهم ذكر هذا، وبعضهم ذكر هذا.(392/27)
شرح حديث جابر (من باع عبداً وله مال) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان قال: حدثني سلمة بن كهيل قال: حدثني من سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه في قصة العبد، وهو: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع)، وفي إسناده رجل مجهول، ولكن هو مطابق لما تقدم، فيشهد له ما تقدم، ولو لم يكن إلا هو لما ثبت، لكن كون الحديث ثبت من طريق أخرى فيكون هذا من جملة الشواهد.
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني سلمة بن كهيل].
سلمة بن كهيل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثني من سمع جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله مر ذكره.(392/28)
الأسئلة(392/29)
حكم شراء العبد وما في يده
السؤال
إذا قال الرجل: اشتريت العبد والذي في يده، ألا يدل أنه اشترى شيئاً مجهولاً فيه غرر؟
الجواب
إذا كان لا يعرف ما في يده فلا شك أنه مجهول، لكن إذا كان يراه ويشاهده، فإنه يكون معلوماً.(392/30)
حكم شراء الكلب للحاجة
السؤال
إن احتاج الرجل إلى كلب للماشية أو الزرع، ووجد من يبيع الكلب، فهل يشتريه والإثم على البائع؟
الجواب
لا يشتريه، بل يبحث عن كلب من الكلاب من دون شراء.(392/31)
حكم بيع الحيوانات المفترسة
السؤال
هل النهي عن بيع الكلب يشمل كل حيوان مفترس من السباع؟
الجواب
كل الحيوانات المفترسة لا يجوز بيعها من باب أولى.(392/32)
حكم الخيار في عقد الإجارة
السؤال
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) هل ينزل عليه الإجارة فإذا تفرقوا تمت الإجارة؟
الجواب
نعم؛ لأن الإجارة بيع المنافع، وذاك بيع الأعيان.(392/33)
حكم كسب الأمة بالغناء
السؤال
ما حكم كسب الأمة إذا كانت مغنية؟
الجواب
حرام؛ لأن الغناء حرام.(392/34)
حكم عمل المرأة في البيع في دكان
السؤال
ما حكم عمل المرأة في البيع في الدكان حيث تخالط الرجال الذين يشترون منها؟
الجواب
الرجال لهم أن يشتروا من المرأة إذا احتاجوا إلى ذلك، لكن الذي ينبغي للنساء أن تكون بمعزل عن الرجال، وأن تكون لهن أسواق خاصة تأتيهن النساء، ويشترين منهن، ومن اضطرت إلى أن تبيع وهي متسترة ومتحجبة، فلا بأس، ولكن لا تكون في دكان، بل تأتي إلى مكان في بعض الأحيان مثل أن تجلس في طرف السوق، أما كونها تكون في دكان، ويتعامل معها الرجال، ويدخلون عليها؛ فهذا لا يصح ولا ينبغي أن يكون.(392/35)
حكم الأكل من كسب الزوجة
السؤال
ما حكم أخذ الرجل من كسب امرأته بما كان فيه شبهه من هذا النوع؟
الجواب
الشبهة فيما يتعلق باتهام بالفاحشة، وصعب أن المرأة تتهم بهذا، ولكن الإماء كان عندهن ابتذال، ويحصل منهن ما لا يحصل للحرائر، وكان لهن وضع خاص غير الحرائر، فلا يقال: إن المرأة مثل الأمة التي جاء النهي عن كسبها.(392/36)
حال حديث (نهى عن كسب الأمة إلا ما عملت بيدها)
السؤال
في حديث عكرمة بن عمار قال: حدثني طارق بن عبد الرحمن القرشي قال: جاء رافع بن رفاعة إلى مجلس الأنصار فقال: (لقد نهانا نبي الله صلى الله عليه وسلم اليوم) إلخ، هل في هذا انقطاع حيث إن طارقاً لم يسمعه من رافع، ولم يحضر مجلس الأنصار؟
الجواب
حكاية القصة بهذا اللفظ تفيد بأنه يوجد انقطاع، لكن هذا الحديث تشهد له الأحاديث الأخرى.(392/37)
حكم اقتسام الورثة لتركة من كان كسبه حراماً
السؤال
هل يجوز للورثة أن يأخذوا من إرث المورث إذا كان كسبه حراماً؟
الجواب
بعض العلماء يقول: إن الذي ينبغي هو التنزه عن هذا، ومعلوم أن الكسب الحرام يصرف في أمور ممتهنة وغير محترمة مثل بناء الحمامات، فإذا تنزهوا عن هذا فهذا هو الذي ينبغي، ويصرفونها في هذه المصارف.(392/38)
حكم العمل في مختبرات التحاليل وفي الصرف الصحي
السؤال
هل يلحق بمهنة الحجام الذين يعملون في مختبرات التحاليل، وكذلك الذين يعملون في الصرف الصحي؟
الجواب
لا شك أن هذه من المهن التي ليست شريفة.(392/39)
شرح سنن أبي داود [393]
شملت الأحكام الشرعية جميع المعاملات، وهذا من مقتضى شمول الشريعة للأزمان والأحوال، ومما بينته السنة من ذلك حكم بيع العبد وله مال، وتلقي الركبان وبيع النجش وبيع حاضر لباد وبيع المصراة والاحتكار.(393/1)
التلقي(393/2)
شرح حديث (لا يبع بعضكم على بيع بعض)
قال المصنف رحمه الله تعالى [باب في التلقي.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (لا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها الأسواق)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: (باب في التلقي) أي: تلقي الركبان، أو تلقي الجلب، أو تلقي السلع التي تجلب ويأتي بها غير أهل البلد، سواء كانوا من بادية أو غير بادية، فلا يجوز لمن كانوا من أهل البلد أن يخرجوا ويستقبلوهم قبل أن يصلوا إلى البلد، فيشتروا منهم السلع كلها، ثم يهبطوا بها إلى البلد؛ لأنهم قد يخدعونهم بأن يقولوا: الأسعار رخيصة، فيشتروا منهم السلع التي معهم كلها، فيكون في ذلك غبن للبائعين، وأيضاً يكون في ذلك إضرار بأهل البلد؛ لأن الجالب الذي يريد أن يبيع بضاعته الناس يشاهدونها، وكل منهم يشتري ويحصل له ارتفاق بهذا الشراء، بخلاف ما إذا اشتراها تاجر من أهل البلد ثم ادخرها، أو حجزها، أو جعلها عنده وباعها بأسعار زائدة، فإن هذا فيه مضرة على الناس.
وعلى هذا فتلقي الركبان فيه محذوران: أحدهما يرجع إلى الجالبين: وهو أنه قد يحصل لهم غبن، والثاني: يرجع إلى أهل البلد، وهي أن حاجة أهل البلد يختص بها إنسان من أهل البلد ثم يدخرها، ويضيق عليهم في ذلك.
وقد جاء في بعض النصوص أن البائع إذا دخل السوق فله الخيار إذا رأى أنه غبن.
وأبو داود رحمه الله عبَّر بالتلقي، ولم يقل: تلقي الركبان، أو تلقي السلع، أو تلقي الجلب بذكر المضاف والمضاف إليه، وإنما أتى بأل، وهي دالة على المضاف إليه لأنها بدل من المضاف إليه، فقوله: (التلقي) أي: تلقي الركبان، فأحياناً يحذف المضاف إليه ويؤتى بأل بدلاً منه، وهذا موجود في اللغة وفي كلام العلماء للاختصار، مثل أسماء الكتب التي هي مكونة من مضاف ومضاف إليه، فكثيراً ما يذكرونها بدون المضاف إليه مع إضافة أل، فمثلاً يقال: كتاب البلوغ، بدل (بلوغ المرام) أو الفتح، بدل (فتح الباري) أو المنتقى، بدل (منتقى الأخبار).
وقد جاء في القرآن قول الله عز وجل: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11] يعني: أقدامكم، وقوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 39] يعني: هي مأواه {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] أي: هي مأواه.
ولعل أبا داود رحمه الله اختار التلقي؛ لأنه قد جاء المضاف على ألفاظ متعددة، فقد جاء: تلقي الركبان، وجاء: تلقي السلع، وجاء: تلقي الجلب، وقد جاء عند أبي داود ذكر السلع وذكر الجلب، وهي ألفاظ متعددة، فلعله من أجل تعدد ألفاظ المضاف إليه اختار أن يأتي بلفظ يشمل هذا وهذا، وهو أن يأتي بأل التي تقوم مقام المضاف إليه أو تدل على المضاف إليه.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبع بعضكم على بيع بعض) وهذا يكون فيما إذا حصل بيع بين شخصين وبينهما خيار مجلس أو خيار شرط، فإذا حصل البيع والشراء وهم لا يزالون في المجلس، فلهم خيار المجلس، فكل واحد له أن يفسخ ما دام في المجلس، فيأتي رجل ثالث إلى المشتري ويقول: اترك هذه السلعة التي اشتريتها وأنا أبيعك مثلها بأرخص منها، إذا كانت بعشرة فأنا أبيعك إياها بثمانية، فهذا يعتبر من البيع على بيع أخيه، أو كان في العقد خيار شرط، فقال المشتري: أعطني مدة ثلاثة أيام أفكر، وبعد ذلك أخبرك هل أعزم على الشراء أو أترك، فيأتي شخص آخر إلى المشتري في مدة الخيار فيقول له: اترك هذه السلعة وأنا أبيعك مثلها بأرخص منها، هذا هو البيع على بيع أخيه.
وأما الشراء على شرائه فهو مقابل هذا، فيكون البائع والمشتري كل منهما له خيار، فيأتي رجل للبائع ويقول: اترك هذا البيع، وأنا أشتريه منك بأزيد من هذا، فإذا باع السلعة بعشرة على إنسان وهما في خيار مجلس أو خيار شرط يأتي شخص للبائع ويقول له: أنا أشتريها منك بإحدى عشر ريالاً، وأزيدك ريالاً على السعر الذي اشترى منك هذا الشخص، فكل ذلك لا يجوز، لا يبيع على بيع أخيه، ولا يشتري على شراء أخيه.
قوله: [(ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها الأسواق)].
أي: ولا تلقوا السلع فتشترونها من الجالبين قبل أن يصلوا إلى الأسواق، ولكن حتى يهبطوا بها الأسواق، وبعد ذلك كل يشتري؛ لأنها إذا وصلت الأسواق رآها الناس فكلٌّ يشتري منها، وفي ذلك مصلحة لأهل البلد ومصلحة للجالب.(393/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يبع بعضكم على بيع بعض)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر].
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد رباعي من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(393/4)
شرح حديث (نهى عن تلقي الجلب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة حدثنا عبيد الله -يعني ابن عمرو الرقي - عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (نهى عن تلقي الجلب فإن تلقاه متلق مشتر فاشتراه فصاحب السلعة بالخيار إذا وردت السوق)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة وهو مثل حديث ابن عمر في النهي عن تلقي الجلب، فإن تلقاه متلق فالبائع بالخيار إذا هبط السوق.
وإذا كان أصحاب القرى لا يسيرون إلى السوق، بل يقف أحدهم على أطراف المدينة بسلعته ويشترى منه فلا بأس، ما دام أنه جاء إلى هذا المكان وجلس يبيع فيه، وهذا لا يسمى تلقي ركبان، وإنما الكلام على أناس يريدون الأسواق، فيتلقاهم أناس قبل أن يصلوا إلى الأسواق فيشتروا منهم.(393/5)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى عن تلقي الجلب)
قوله: [حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة].
الربيع بن نافع أبو توبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا عبيد الله يعني ابن عمرو الرقي].
ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب].
أيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن سيرين].
محمد بن سيرين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً.
[قال أبو علي: سمعت أبا داود يقول: قال سفيان: لا يبع بعضكم على بيع بعض أن يقول: إن عندي خيراً منه بعشرة].
هذا تفسير للبيع على بيع أخيه، وهو أن يقول الرجل للمشتري: إن عندي خيراً منه بعشرة، وقد يزيد وقد ينقص عن السعر الذي باعه به، فقد تكون السلعة أحسن والسعر واحداً.
وأبو علي المذكور هو الراوي عن أبي داود.
وقوله: (قال سفيان)، قد يكون المقصود به سفيان الثوري أو سفيان بن عيينة، ومعلوم أن كلاً منهما لم يدركه أبو داود، وإنما يروي عنه بواسطة، وكل منهما ثقة.(393/6)
النهي عن النجش(393/7)
شرح حديث (لا تناجشوا)
قال المصنف رحمه الله تعالى [باب في النهي عن النجش.
حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تناجشوا)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي النهي عن النجش، والنجش هو أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها، إما أن يريد أن ينفع البائع أو يريد أن يضر المشتري، بحيث إذا جاء رجل يشتري يقول: هذه السلعة مرغوب فيها، فهذا الرجل يزيد فيها، فيكون في ذلك ضرر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تناجشوا) أي: أن الإنسان إذا كانت السلعة يُحرَّج عليها وينادى عليها فإنه لا يزيد إلا إذا كان سيشتري، أما أن يزيد وهو لا يريد أن يشتري، وإنما ليرفع السعر للبائع؛ فهذا محرم، أما إن كان له رغبة في الشراء، وزاد من أجل رغبته في الشراء، فهذا ليس بنجش، وإنما النجش أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها ليزيد في الثمن، وقد يكون البائع صديقاً له، وهو يريد أن ينفعه من قبل هذا المشتري.(393/8)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تناجشوا)
قوله: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح].
أحمد بن عمرو بن السرح ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا سفيان عن الزهري].
سفيان هو ابن عيينة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، والزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
قد مر ذكره.(393/9)
النهي عن بيع حاضر لباد(393/10)
شرح حديث (نهى أن يبيع حاضر لباد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النهي أن يبيع حاضر لباد.
حدثنا محمد بن عبيد حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبيع حاضر لباد، فقلت: ما يبيع حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمساراً)].
أورد أبو داود هذه الترجمة (باب لا يبيع حاضر لباد) والحاضر هو ساكن الحاضرة، والبادي هو ساكن البادية الذي يأتي بسلعة ويجلبها، فيأتيه أحد أهل الحاضرة فيقول: بدلاً من أن تبيعها برخص، اتركها عندي في الدكان، وأنا أبيعها لك على مهل بسعر أغلى ولي جزء من الأجرة، فيكون واسطة -أي: سمساراً- يبيع له، فبدلاً من كونه يبيعها ويأخذ ثمنها ويمشي والناس يستفيدون منه، يحول بين الناس وبين الاستفادة.
أما أن يبيع له الحاضر في الحال فلا بأس، مثل أن ينادي بها ويصوت في الحراج، فهذا لا بأس به، وإذا أتى صاحب البادية بالسلع وهو لا يريد أن يبيعها في الحال، فذهب إلى شخص من الحاضرة وقال له: أنا أريد أن تبيع لي هذه السلعة؛ فهذا لا بأس به، وإنما المحذور أن يقول الحاضر للبادي: لا تبع السلع، ولكن دعها عندي أبعها لك؛ فهذا هو الممنوع.(393/11)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى أن يبيع حاضر لباد)
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد حدثنا محمد بن ثور].
محمد بن عبيد يحتمل أن يكون محمد بن عبيد بن حساب أو محمد بن عبيد المحاربي، وذلك أن كلاً منهما روى عنه أبو داود، وهما رويا عن محمد بن ثور، وكل منهما يحتج به، فـ محمد بن عبيد بن حساب ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي، ومحمد بن عبيد المحاربي صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
ومحمد بن ثور ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن طاوس].
عبد الله بن طاوس بن كيسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
طاوس بن كيسان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(393/12)
شرح حديث (لا يبع حاضر لباد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زهير بن حرب أن محمد بن الزبرقان أبا همام حدثهم -قال زهير: وكان ثقة- عن يونس عن الحسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يبع حاضر لباد، وإن كان أخاه أو أباه)].
أورد أبو داود حديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً: (لا يبع حاضر لباد، ولو كان أباه أو أخاه) بمعنى أن يقول له: هذه السلع لا تبعها على الناس، ولكن دعني أتولى بيعها على مهل؛ لأن بيع الجلب في الحال فيه مصلحة للناس، ومصلحة للمالك؛ لأن المالك إذا أخذ القيمة يمكن أن يشتري بها سلعاً ويستفيد منها، ويجلب مرة ثانية، بخلاف ما إذا بيعت على مهل فإنه قد يحصل على ربح زائد، ولكنه لا يجد الفلوس في الحال بحيث يأتي بسلعة أخرى ويجلبها مرة ثانية، فهذا الحديث مثل الذي قبله، وفيه زيادة في التأكيد: (ولو كان أباه أو أخاه).(393/13)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يبع حاضر لباد)
قوله: [حدثنا زهير بن حرب].
زهير بن حرب أبو خيثمة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[أن محمد بن الزبرقان حدثهم].
هو صدوق ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[قال زهير: وكان ثقة].
هذا توثيق لـ محمد الزبرقان.
[عن يونس].
يونس بن عبيد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
الحسن بن أبي الحسن البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(393/14)
شرح حديث (كان يقال لا يبع حاضر لباد)
[قال أبو داود: سمعت حفص بن عمر يقول: حدثنا أبو هلال قال: حدثنا محمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (كان يقال: لا يبع حاضر لباد) وهي كلمة جامعة، لا يبيع له شيئاً، ولا يبتاع له شيئاً].
أورد أبو داود هذا الأثر عن أنس قال: (لا يبيع حاضر لباد) وهي كلمة جامعة، لا يبيع له شيئاً، ولا يبتاع له شيئاً، يعني لا يقول: دعني أشتري لك، لأنه قد يخص به بعض الناس دون بعض، فإذا ترك وحاله اشترى ممن شاء، أو اشترى من هذا ومن هذا ومن هذا، فيكون في ذلك فائدة لجهات مختلفة متعددة.
أما إن كان مشغولاً أو بحاجة إلى من يشتري له، فوكل أحد الناس ليشتري له؛ فلا بأس بذلك.
وقائل هذه الكلمة: (هي كلمة جامعة) هو محمد بن سيرين.(393/15)
تراجم رجال إسناد حديث (كان يقال لا يبع حاضر لباد)
قوله: [سمعت حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبو هلال].
أبو هلال الراسبي محمد بن سليم صدوق فيه لين، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن محمد عن أنس].
مر ذكرهما.(393/16)
شرح حديث طلحة (نهى أن يبيع حاضر لباد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن سالم المكي أن أعرابياً حدثه أنه قدم بحلوبة له على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزل على طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه فقال: (إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى أن يبيع حاضر لباد)، ولكن اذهب إلى السوق فانظر من يبايعك فشاورني حتى آمرك أو أنهاك].
أورد أبو داود حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أنه جاء رجل بحلوبة له يريد أن يبيعها، وكأنه فهم أنه أراد أن يبيع الحلوبة فقال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد) ولكن اذهب إلى السوق واعرف الأسعار، وإن أردت بيعها فارجع إلي في ذلك.
فهذا الحديث مثل ما تقدم أنه لا يبيع حاضر لباد، ولكن لو أن إنساناً أراد أن يستشيره مثلما جاء في قصة طلحة فلا بأس بذلك.(393/17)
تراجم رجال إسناد حديث طلحة (نهى أن يبيع حاضر لباد)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سالم المكي].
سالم المكي يحتمل أنه ابن شوال، ويحتمل أنه مجهول.
[طلحة بن عبيد الله].
طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث ضعيف فيه راو مجهول، وفيه عنعنة ابن إسحاق، أما الأعرابي فهو صحابي.(393/18)
شرح حديث جابر (لا يبع حاضر لباد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لا يبع حاضر لباد، وذروا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه: (لا يبع حاضر لباد، وذروا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)، وهذا فيه إشارة إلى استفادة الناس من السلع التي تجلب، ولا يختص بها أحد دون غيره، فلا يقول: لا تبعها، ودعها عندي في الدكان وأنا أبيعها لك على مهل.
فيحول بين الناس وبين الاستفادة منها في وقت جلبها، ويحصل هو وحده على الفائدة من ورائها، بحيث يبيعها بغلاء ويحصل أجرة على بيعها.(393/19)
تراجم رجال إسناد حديث جابر (لا يبع حاضر لباد)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا زهير].
زهير بن معاوية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو الزبير].
محمد بن مسلم بن تدرس المكي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد رباعي من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(393/20)
المصراة(393/21)
شرح حديث (لا تصروا الإبل والغنم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من اشترى مصراة فكرهها.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تلقوا الركبان للبيع، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها: فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)].
أورد أبو داود باب من اشترى مصراة فكرهها.
والمصراة هي الناقة أو البقرة أو الشاة التي حبس اللبن في ضرعها مدة حتى صار الضرع كبيراً، فيظن من رآها أن هذا حليب اليوم أو حليب البارحة، وقد يكون مضى عليه عدة أيام، فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن تصرية الإبل والغنم ومثلها البقر؛ لأن فيه غشاً للناس وتغريراً عليهم، حيث يظنون أنها حلوب، وأنها كثيرة اللبن، فيغتر من يشتريها.
فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وجعل من اشترى المصراة بخير النظرين بعد أن يحلبها، ويعرف أن هذا الحليب له مدة في ضرعها، فيكون بخير النظرين إذا سخطها: إن أراد أن يبقيها أبقاها، وإن أراد أن يرجعها فإنه يرجعها وصاعاً من تمر مقابل الحليب الذي حلبه، ولا يرد بدله حليباً بل تمراً كما جاء في هذا الحديث، والتمر كان قوت أهل المدينة وكانوا يدخرونه، أما لو لم يكن عندهم تمر فليرد صاعاً من غير التمر.(393/22)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تصروا الإبل والغنم)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي الزناد].
أبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعرج].
الأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
قد مر ذكره.(393/23)
شرح حديث (من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أيوب وهشام وحبيب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء ردها وصاعاً من طعام لا سمراء)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وفيه أن من اشترى شاة مصراة أو بقرة أو ناقة فإنه بخير النظرين لمدة ثلاثة أيام: إن أبقاها أبقاها، وإن ردها رد صاعاً من طعام لا سمراء، والطعام يطلق على التمر وعلى غيره، فقوله: (لا سمراء) يعني: الحنطة، أي: البر، فيكون المقصود بالطعام هنا هو التمر حتى يتفق مع الحديث الأول؛ لأنه نفى السمراء التي هي البر.(393/24)
تراجم رجال إسناد حديث (من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أيوب].
كلهم مر ذكرهم.
[وهشام].
هشام بن حسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحبيب].
حبيب بن الشهيد وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة].
مر ذكرهما.(393/25)
شرح حديث (من اشترى غنماً مصراة احتلبها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مخلد التميمي حدثنا المكي -يعني: ابن إبراهيم - حدثنا ابن جريج قال: حدثني زياد أن ثابتاً مولى عبد الرحمن بن زيد أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من اشترى غنماً مصراة احتلبها: فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة وهو مثل الذي قبله، إلا أنه ذكر غنماً، والمقصود أنه عن كل شاة صاع من تمر، وليس المقصود صاعاً عن عدة شياه، ولكن عن كل شاة احتلبها صاع تمر.
وبعض أهل العلم لم يقل بحديث المصراة، وقال: إن صاعاً من تمر يخالف القياس، والأصل أنه يرد حليباً بدل الحليب!
و
الجواب
أن ما جاء بالشرع هو أصل بنفسه، فلا يقال إنه خالف القياس أو إنه ليس بأصل؛ لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لا بد أن يعول عليه، وأن يؤخذ به، فهو أصل بنفسه، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي عين هذا، فيصار إلى ما عينه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبعضهم تكلم في أبي هريرة من جهة كونه راوي الحديث، وقال: إنه ليس في الفقه مثل عبد الله بن مسعود، وهذا معناه أنه ليس بفقيه، ففيه لمز له؛ فهذا غلط وخطأ، والحافظ ابن حجر رحمه الله لما ذكر هذا عمن قاله وقال معلقاً عليه: وقائل هذا الكلام إنما آذى نفسه، ومجرد تصوره يغني عن التكلف في رده! وهذا صحيح؛ لأنه كلام باطل لا قيمة له، ثم نقل عن أبي المظفر السمعاني في رده على أبي زيد الدبوسي في كتاب اسمه الاصطلام أنه قال: ولا يجوز التعرض لجناب أحد من الصحابة، والكلام في الصحابة بدعة من البدع.(393/26)
تراجم رجال إسناد حديث (من اشترى غنماً مصراة احتلبها)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مخلد التميمي].
عبد الله بن مخلد التميمي مقبول أخرج له أبو داود.
[حدثنا المكي يعني ابن إبراهيم].
مكي بن إبراهيم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو من كبار شيوخ البخاري، وهو أحد الذين روى عنهم الثلاثيات.
[حدثنا ابن جريج].
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني زياد].
زياد بن سعد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن ثابتاً مولى عبد الرحمن بن زيد أخبره].
ثابت مولى عبد الرحمن بن زيد ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبي هريرة].
مر ذكره.(393/27)
شرح حديث (من ابتاع محصّلة فهو بالخيار ثلاثة أيام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو كامل حدثنا عبد الواحد حدثنا صدقة بن سعيد عن جميع بن عمير التيمي أنه قال: سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ابتاع محصلة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحاً)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر وفيه: (من ابتاع محصلة) يعني: مصراة حبس اللبن في ضرعها، وفيه: (إن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحاً) وهذا يخالف ما تقدم من الروايات في أنه يرد تمراً، ولا يرد سمراء، والسمراء هي القمح، وهذا الحديث غير صحيح، والمعتمد والمعول عليه هو الحديث المتقدم الذي في الصحيحين وغيرهما من أنه يرد صاعاً من تمر، وليس قمحاً.(393/28)
تراجم رجال إسناد حديث (من ابتاع محصلة فهو بالخيار ثلاثة أيام)
قوله: [حدثنا أبو كامل].
أبو كامل الجحدري وهو فضيل بن حسين وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الواحد].
عبد الواحد بن زياد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا صدقة بن سعيد].
صدقة بن سعيد مقبول، أخرجه له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن جميع بن عمير].
جميع بن عمير وهو صدوق يخطئ، أخرج له أصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عمر].
عبد الله بن عمر رضي الله عنه وقد مر ذكره.
والحديث غير صحيح؛ لأنه فيه من هو متكلم فيه، والأمر الثاني: أنه يخالف الأحاديث السابقة التي في الصحيحين وفي غيرهما في ذكر التمر.(393/29)
الاحتكار(393/30)
شرح حديث (لا يحتكر إلا خاطئ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النهي عن الحكرة.
حدثنا وهب بن بقية أخبرنا خالد عن عمرو بن يحيى عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن المسيب عن معمر بن أبي معمر -أحد بني عدي بن كعب - رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحتكر إلا خاطئ)].
أورد أبو داود باب النهي عن الحكرة، وهو احتكار الطعام الذي يكون الناس بحاجة إليه، فيخفيه ويدخره حتى تشتد الحاجة إليه أكثر ويبيعه بسعر غال، فهذا لا يسوغ ولا يجوز، وذلك أن فيه تضييقاً على الناس في شيء هم بحاجة إليه.
أورد أبو داود حديث معمر بن أبي معمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحتكر إلا خاطئ) أي: آثم.(393/31)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يحتكر إلا خاطئ)
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
وهب بن بقية الواسطي وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[أخبرنا خالد].
خالد بن عبد الله الواسطي الطحان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن يحيى].
عمرو بن يحيى المازني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عمرو بن عطاء].
محمد بن عمرو بن عطاء وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن المسيب].
مر ذكره.
[عن معمر بن أبي معمر].
معمر بن أبي معمر رضي الله عنه، خرج حديثه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.(393/32)
خلاف العلماء فيما لا يجوز فيه الاحتكار
[فقلت لـ سعيد: فإنك تحتكر قال: ومعمر كان يحتكر].
قيل: إن هذا يحمل على شيء ليس الناس بحاجة إليه، وليس من الأشياء الضرورية مثل الطعام أو ما يشبه الطعام.
[قال أبو داود: وسألت أحمد: ما الحكرة؟ قال: ما فيه عيش الناس].
يعني: الذي به قوت الناس وطعام الناس، بحيث يسد فاقتهم ورمقهم، هذا هو الذي فيه الحكرة، ولا يكون في كل شيء؛ لأن بعض الأشياء يمكن أن تخزن والناس ليسوا بضرورة إليها، مثل الكماليات التي الناس بغنية عنها وقد لا يحتاجون إليها.
[قال أبو داود: قال الأوزاعي: المحتكر من يعترض السوق].
يعني: يترقب الذي يحتاج إليه الناس في السوق للبيع، فيحول بينهم وبينه، هذا هو المحتكر.
ويدخل فيه الذي يتلقى الركبان ثم يحتكر الشيء الذي تلقاه والناس بحاجة إليه.(393/33)
شرح أثر (ليس في التمر حكرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فياض حدثنا أبي ح وحدثنا ابن المثنى حدثنا يحيى بن الفياض حدثنا همام عن قتادة قال: ليس في التمر حكرة، قال ابن المثنى: قال عن الحسن، فقلنا له: لا تقل عن الحسن.
قال أبو داود: هذا الحديث عندنا باطل].
أورد المصنف هذا الأثر عن الحسن أنه ليس في التمر حكرة، والتمر هو من القوت والطعام الذي يحتاجه الناس، ولهذا جاء في حديث المصراة أنه يرد صاعاً من تمر؛ لأنه الطعام الذي يأكله الناس.
قال أبو داود: هو حديث باطل؛ لأن التمر هو أهم طعام في المدينة، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم (بيت لا تمر فيه جياع أهله)، لأنه هو الطعام عندهم، فإذا كان التمر ليس فيه حكرة فما هي الحكرة؟(393/34)
تراجم رجال إسناد أثر (ليس في التمر حكرة)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فياض].
محمد بن يحيى بن فياض ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
يحيى بن فياض وهو لين الحديث، أخرج له أبو داود.
[قال ح وحدثنا ابن المثنى].
وهذه طريق أخرى، ومحمد بن المثنى هو أبو موسى الزمن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يحيى بن فياض حدثنا همام].
يحيى بن فياض تقدم، وهمام بن يحيى العوذي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
الحسن بن أبي الحسن البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[فقلنا له: لا تقل: عن الحسن].
يعني: لا تأت بلفظ فيه تدليس؛ لأن قتادة مدلس، فإذا قال: عن الحسن فهذا اللفظ فيه تدليس، وعلى كل فالأثر غير صحيح.
وقد يكون معناه أن الحسن بن أبي الحسن رفيع المنزلة، وكونه يقول مثل هذا الكلام الشاذ أمر ليس بالهين؛ لأن التمر هو قوت للناس، وإذا لم يكن فيه احتكار فلا يكون الاحتكار في شيء.
[قال أبو داود: كان سعيد بن المسيب يحتكر النوى والخبط والبزر].
هذا فيه بيان الشيء الذي يجوز أن يحتكر، وهو الشيء الذي الناس ليسوا بحاجة إليه، فمن ذلك نوى التمر، وهو علف للإبل، والعلف يمكن أن يحصل من غيره مما يخرج من الأرض.
والخبط هو ورق الشجر.
والبزر: هو بذور الأشياء التي تزرع من بقول وغيرها.(393/35)
حكم كبس علف الدواب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وسمعت أحمد بن يونس يقول: سألت سفيان عن كبس القت فقال: كانوا يكرهون الحكرة، وسألت أبا بكر بن عياش فقال: اكبسه].
هو علف الدواب، فبدلاً من كونه يباع وهو رطب ويستفاد منه، فقد يدخر لكونه كثيراً زائداً عن الحاجة، فيكبسونه بمعنى أنهم يضمون بعضه إلى بعض وييبسونه، ثم يستعمل وهو يابس، هذا هو الكبس، ثم يبيعونه في وقت آخر وهو يابس، وهذا لا بأس به.
وقول سفيان: (كانوا يكرهون الحكرة) هذا لفظ عام، وكأنه أراد منه التعميم، وأنه يدخل فيه احتكار قوت الدواب.
وقول أبي بكر بن عياش: (اكبسه) يعني: أنه لا بأس باحتكاره؛ لأنه ليس من الأشياء الضرورية.
قوله: [سمعت أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سألت سفيان].
هو الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وسألت أبا بكر بن عياش].
أبو بكر بن عياش ثقة، أخرج له البخاري ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.(393/36)
الأسئلة(393/37)
حكم تلقي أصحاب البضائع إذا كانوا يعلمون بأسعار السوق
السؤال
إذا كان تجار البلد يتلقون الركبان في مكان خارج البلد أشبه بالسوق، فيشترون منهم البضاعة بالجملة، وكان البائع عالماً بأسعار السوق، فهل هذا الفعل جائز؟
الجواب
إذا كان المكان الذي خرجوا إليه سوقاً فلا إشكال، فإن السوق يكون في عدة أماكن، فإذا كان هناك سوق خارجي يذهب الناس إليه، فلا إشكال، وإنما الكلام في أناس يلتقون بهم في الطريق قبل أن يصلوا إلى الناس ويشترون منهم.(393/38)
حكم البيع في الميناء
السؤال
هل يندرج في الحديث البيع في الميناء حيث تلقي السفن حمولاتها؟
الجواب
لا، فإذا كان الميناء فيه محل للبيع فهو مثل السوق، فإذا كان من عادة الناس أنهم يذهبون إلى الميناء، ويشترون السلع من الميناء، فلا بأس.(393/39)
حكم عرض سعر أرخص لعميل يتعامل مع تاجر آخر
السؤال
إذا كان هناك شخص يشتري سلعة يومية من محل معين كل يوم بسعر ثابت، فهل يجوز لصاحب محل آخر أن يعرض على المشتري نفس السلعة بثمن أرخص؟
الجواب
لا، فهذا فيه محذور؛ لأنه سيترك معاملته ويتحول إلى معاملته هو، فيضر أخاه بأن يأخذ عميله منه، وقد يبيعه برخص في هذه المرة، وبعد ذلك يرفع عليه السعر.(393/40)
النصيحة بالتمهل في البيع ليست من تلقي الجلب
السؤال
أنا أعرف سعر السوق، ويريد أخي أن يبيع سيارته فقلت له: لا تبعها في هذا الوقت واتركها عندي لأبيعها لك بسعر أعلى، فهل هذا الفعل صحيح؟
الجواب
لا بأس بهذا؛ لأن هذا ليس فيه تلقي جلب، ولا فيه أي محذور، فكلاهما من أهل البلد، فإذا كان يعرف أن الأسعار في أوقات يكون فيها هبوط، وفي أوقات يكون فيها ارتفاع فقال مثل هذا لأخيه؛ فلا بأس.(393/41)
حكم بيع الحاضر للبادي بدون أجرة
السؤال
هل النهي عن بيع الحاضر للبادي ينتفي إذا كان سيبيع له بدون أن يأخذ منه أجرة، بل مساعدة له وإحسان إليه؟
الجواب
لا يبيع حاضر لباد ولو بدون أجرة، وفي الحديث: (وذروا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) فكونه يبيع له السلع على مهل يضر أهل السوق.(393/42)
حكم الإجارة على إجارة أخيه
السؤال
ما حكم الإجارة على إجارة شخص آخر، بحيث يقول للمستأجر: عندي شقة أحسن من هذه، فأنا أؤجرها لك؟
الجواب
النتيجة واحدة، فهي مثل البيع على بيع أخيه؛ لأن الإجارة هي بيع المنافع، وهي كبيع الأعيان داخلة تحت البيع على بيع أخيك، لأن هذا يبيع المنفعة، وهذا يبيع السلعة، فلا فرق بين الإجارة والبيع.(393/43)
حكم عرض السلعة على من يريد الشراء حال السوم
السؤال
ما حكم عرض السلعة على رجل يريد شراء سلعة، وهو يساوم تاجراً فيها؟
الجواب
إذا كانت السلعة تسام، ولم يحصل اتفاق بينهما، فلا بأس؛ لأن البيع على البيع يكون في خيار مجلس أو خيار شرط، أي: وقد تم الاتفاق بينهما.(393/44)
شرح سنن أبي داود [394]
نهى الشرع عن الغش في البيع، وحذر منه، ونهى عن التسعير والاحتكار، وأوجب للمتبايعين الخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر.(394/1)
كسر الدراهم(394/2)
شرح حديث (نهى أن تكسر سكة المسلمين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كسر الدراهم.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا معتمر قال: سمعت محمد بن فضاء يحدث عن أبيه عن علقمة بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب كسر الدراهم.
المقصود بكسر الدراهم: عمل شيء في الدراهم لا يحصل معه الاستفادة منها، وذلك بأن تكسر فتكون قطعتين فلا يستفاد منها على هذه الصورة، هذا هو المقصود بالكسر، أي أن يقرض منها شيئاً، أو يجعل الدرهم قطعتين، فإنه في هذه الحالة لا يستفاد منه.
ومنه أيضاً تحويل الدراهم إلى زينة وإلى حلي، فيحصل بذلك ضرر على الناس؛ لأن الفضة والذهب تحول من كونها عملة ونقداً إلى كونها حلياً؛ فيترتب على ذلك مضرة بالناس.
أورد أبو داود رحمه الله حديثاً ضعيفاً لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عن عبد الله بن سنان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن تكسر سكة المسلمين إلا من بأس) والسكة المقصود بها: النقد.
وقوله: (إلا من بأس)، يعني: إذا حصل فيها شيء من التلف يقتضي أن تكسر، أو حصل فيها اعوجاج أو شيء يخرجها عن هيئتها التي هي عليها، ولا يمكن الانتفاع بها على تلك الصورة؛ فيمكن أنها تكسر ثم تسك من جديد أو تحول إلى حلي.
ولم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم سكة خاصة للمسلمين، والمقصود السكة التي يتعامل بها المسلمون وإن كانت من غيرهم، وبعدما وجدت السكة للمسلمين فإن الحكم -لو كان ثابتاً- يشملها.
والأوراق النقدية لا يجوز أن يعبث بها ويرسم أو يكتب عليها بحيث تشوه صورتها، ويترتب على ذلك أن الناس لا يقبلونها.(394/3)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى أن تكسر سكة المسلمين)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معتمر].
معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت محمد بن فضاء].
محمد بن فضاء، وهو ضعيف، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبيه].
وهو فضاء بن خالد وهو مجهول، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن علقمة بن عبد الله].
علقمة بن عبد الله بن سنان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو صحابي، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.(394/4)
التسعير(394/5)
شرح حديث (يا رسول الله سعر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التسعير.
حدثنا محمد بن عثمان الدمشقي أن سليمان بن بلال حدثهم قال: حدثني العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً جاء فقال: يا رسول الله! سعِّر، فقال: بل أدعو، ثم جاءه رجل، فقال: يا رسول الله! سعِّر، فقال: بل الله يخفض ويرفع، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة)].
أورد أبو داود باب التسعير، والتسعير: هو تحديد السعر، بحيث يقال: لا يباع بأكثر من كذا، ويلزم أن يكون البيع بهذا السعر، هذا هو التسعير، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فهو حرام، ولما طلب منه ذلك قال: (بل أدعو) يعني: بأن تحصل الأرزاق وتكثر ولا يحتاج الناس إلى تسعير، فلما روجع قال: (إني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة)، وهذا يفيد بأن التسعير من الظلم، فقد يكون صاحب البضاعة اشتراها بثمن غال ثم يلزم بأن يبيعها بسعر رخيص، فيكون في ذلك ظلم عليه؛ لأنه اشترى بثمن غال ثم ألزم بأن يبيع بسعر رخيص، ولكن إذا تواطأ التجار على رفع الأسعار فإنهم لا يمكنون من ذلك؛ لأن هذا تعاون على الإثم والعدوان وتعاون على الظلم، فحينئذٍ تتدخل الدولة فتسعر دفعاً للظلم.
قوله: [(أن رجلاً جاء فقال: يارسول الله! سعِّر، فقال: بل أدعو)].
يعني: يدعو الله أن يبسط لهم الرزق ويكثر الخير.
قوله: (ثم جاءه رجل، فقال: يارسول الله! سعر، فقال: بل الله يخفض ويرفع)].
يعني: يحصل منه بسط الرزق ويحصل منه تضييق الرزق، يبسط الرزق لمن يشاء، ويقدر على من يشاء، بمعنى: يضيق، فالتقدير هو التضييق والتقليل.(394/6)
تراجم رجال إسناد حديث (يا رسول الله سعر)
قوله: [حدثنا محمد بن عثمان الدمشقي].
محمد بن عثمان الدمشقي ثقة، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن سليمان بن بلال].
هو أبو جماهر سليمان بن بلال، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني العلاء بن عبد الرحمن].
العلاء بن عبد الرحمن صدوق ربما يهم، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً.(394/7)
شرح حديث (إن الله هو المسعر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه وقتادة وحميد عن أنس: (قال الناس: يا رسول الله! غلا السعر فسعر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله هو المسعر، القابض الباسط الرزاق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال)].
هذا الحديث مثل الذي قبله، وفيه أن هذا إلى الله عز وجل، فهو الذي يخفض ويرفع ويبسط ويضيق، وهذه من أفعال الله عز وجل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد سبحانه وتعالى، وهو الذي يأتي بالخير ويأتي بالنعم، وإذا شاء أن تقل فكل ذلك يرجع إلى مشيئة الله سبحانه وتعالى.
ولو ألزم التجار بسعر معين، فقد تكون السلع دخلت عليهم بأثمان غالية، فإذا ألزم التاجر أن يبيع بأقل مما اشترى فهذا يعني أنه ألزم بالخسارة، وفي ذلك ظلم له.
قوله: [(إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق)].
هذه من أفعال الله عز وجل، والقابض الباسط متقابلان، أي: تضييق الرزق وتوسيعه.
والمسعر يعني أن الله هو الذي بيده كل شيء، وهو الذي يحصل منه كثرة الرزق بأيدي الناس ولا يحتاجون إلى طلب تسعير، وقد يحصل خلاف ذلك فيحتاج الناس إلى التسعير، لكن التسعير فيه ظلم للناس كما عرفنا، لكن لا يقال: إن من أسماء الله المسعر؛ لأن هذا من أفعال الله عز وجل، فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن الله بهذه الأشياء، ولا يقال: إن هذا من أسماء الله.
والقابض الباسط متقابلان، قال الله: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الشورى:12]، فكل منهما مرتبط بالآخر.
والله هو النافع الضار لكن لا يقال: من أسماء الله النافع الضار، فالله عز وجل يوصف بأنه نافع وضار، أعني: يخبر عنه بأنه نافع ضار، لكن لا يقال: إن من أسمائه النافع الضار.
والرزاق جاء في القرآن في قوله تعالى: {إن الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]، وأما الرازق فجاء في هذا الحديث، وهو إخبار عن أفعال الله سبحانه وتعالى، لكن لا أدري هل جاء اسم الرازق في غير هذا الحديث؟(394/8)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الله هو المسعر)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا عفان].
عفان بن مسلم الصفار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد بن سلمة].
حماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا ثابت].
ثابت بن أسلم البناني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[وقتادة وحميد عن أنس].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وحميد بن أبي حميد الطويل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(394/9)
النهي عن الغش(394/10)
شرح حديث (ليس منا من غش)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب النهي عن الغش.
حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل حدثنا سفيان بن عيينة عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر برجل يبيع طعاماً، فسأله: كيف تبيع؟ فأخبره، فأوحي إليه أن أدخل يدك فيه، فأدخل يده فيه، فإذا هو مبلول، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ليس منا من غش)].
أورد أبو داود باباً في النهي عن الغش، والغش هو الشيء فيه عيب فيخفيه البائع ويبيعه على أساس أن ظاهره السلامة، ولكنه من الداخل على عكس الذي يراه الناس، مثل أن تكون الأطعمة التي تباع ظاهرها جميل، ولكن إذا قلبت ونكست وجد أسفلها يختلف عن أعلاها، فهذا من الغش، والواجب أن يكون أسفل الشيء وأعلاه على حد سواء.
والغش حرام لا يجوز؛ لأن فيه إضراراً بالناس، وأكلاً لأموالهم بالباطل.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل يبيع طعاماً فقال: كيف تبيع؟ فأخبره، فأوحي إليه أن أدخل يدك في الطعام فأدخل يده فإذا هو مبلول) يعني: أن الأعلى سليم والداخل مبلول، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من غش)، وهذا من أحاديث الوعيد الدالة على خطورة هذا الأمر، وأنه أمر ليس بالهين، والمعنى: أنه ليس على منهجنا وعلى طريقتنا وعلى ما يلزم من الاتباع لما نحن عليه، بل هذا مخالف؛ لأن الذي عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو ألا يكون هناك غش، وأن يكون ظاهر ما يباع وباطنه على حد سواء، ولا يكون الظاهر سليماً والباطن سيئاً وأخفي من أجل الغش والخديعة للناس؛ فإن ذلك حرام لا يجوز.
وفي بعض الألفاظ أنه قال: (ألا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس) يعني: هذا الذي فيه بلل؛ لأن من الناس من قد يشتري الشيء الذي فيه نقص بسعر أقل، فالسعر يختلف، وليس كل الناس يأخذ هذا الرديء، فقد يكون بعض الناس لا يريد إلا الجيد، لكن من يعرف أنه رديء فإنه يشتريه بثمن يماثل الرديء، فهذا لا بأس به.(394/11)
تراجم رجال إسناد حديث (ليس منا من غش)
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل حدثنا سفيان بن عيينة].
سفيان بن عيينة المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة].
مر ذكرهم.(394/12)
كراهة سفيان تفسير حديث (ليس منا من غش) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن الصباح عن علي عن يحيى أنه قال: كان سفيان يكره هذا التفسير: ليس منا: ليس مثلنا].
أورد المصنف أثراً عن سفيان الثوري أنه كان يكره هذا التفسير بأن يقال: (ليس منا) معناه: ليس مثلنا، وكان يحب أن يبقى الحديث على ظاهره، وهكذا أحاديث الوعيد التي فيها الزجر، حتى يحصل للناس منها رهبة وخوف؛ لأن الأمر خطير، فإذا أبقيت على ما هي عليه خاف الناس، فيكون في ذلك زجر لهم.
قوله: [حدثنا الحسن بن الصباح].
الحسن بن الصباح البزاز صدوق يهم، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن علي].
علي بن عبد الله المديني وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة في التفسير.
[عن يحيى].
يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
سفيان هو الثوري كما ذكره المزي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وإن كان سفيان بن عيينة فهو أيضاً ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.(394/13)
خيار المتبايعين(394/14)
شرح حديث (المتبايعان كل واحد منهما بالخيار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في خيار المتبايعين.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يفترقا، إلا بيع الخيار)].
أورد أبو داود باباً في خيار المتابعين، والخيار هو كون كل واحد من المتبايعين أو أحدهما له حق الاختيار في مدة معينة، إما وقت المجلس، أو المكان الذي تم فيه البيع، أو يشترط أحدهما أو كل منهما الخيار لمدة ثلاثة أيام أو أربعة أيام أو خمسة أيام.
وخيار الشرط وخيار المجلس كل منهما صحيح وثابت، وإذا اتفقا على إمضاء البيع في المجلس واختارا عدم ثبوت خيار المجلس فلهما ذلك.
وإما إذا تم البيع وحصل السكوت وليس هناك اتفاق على إسقاط خيار المجلس فإنه يثبت لهما الخيار إلى أن يتفرقا بالأبدان، وينفض الاجتماع الذي كانا فيه، وهذا هو التفرق بالأبدان، وهو الذي دل الدليل على أنه هو المقصود.
وبعض أهل العلم يقول: إن المقصود التفرق بالكلام، فإذا تم البيع في المجلس ثم صار هناك كلام آخر ليس له علاقة بالبيع؛ فهذا تفرق، ولا خيار لهما في المجلس.
ولكن هذا غير صحيح، فالتفرق المراد به بالأبدان، وسيأتي ما يدل عليه، وأنه لو طال الجلوس ولو لمدة يوم وليلة وما تفرقوا فإن خيار المجلس ثابت لهما ما داما جالسين لم يحصل بينهما الفراق.
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يفترقا، إلا بيع الخيار) ما لم يفترقا، أي بأبدانهما، بأن ينفض الاجتماع وكل يذهب إلى جهته، وعند ذلك يستقر البيع، وأما قبل أن يحصل انفضاض المجلس فكل واحد منهما له أن يترك البيع، وكذلك لو انفض المجلس وقد اشترطا أن يكون لهما الخيار مدة ثلاثة أيام مثلاً، فإنه يعتبر الشرط، ويتم البيع عند انتهاء مدة الشرط، وإذا اتفقا في المجلس على إسقاط خيار المجلس بأن قال أحدهما للآخر: اختر أن البيع قد تم، فإنه يعتبر، ويدل عليه قوله: (إلا بيع الخيار)، فإنه يحتمل أن يكون كل واحد منهما يقول لصاحبه: اختر، ويحتمل أنه إذا حصل بينهما اتفاق على أن الخيار يمتد بعد المجلس إلى مدة ثلاثة أيام أو خمسة أيام أو أربعة أيام فإن الأمر يكون على حسب ما يتفقان عليه.
وقد شرع الخيار لأن الإنسان قد يحصل له في المجلس شيء من الندم أو عدم الارتياح للعقد، فيكون بإمكانه أن يتخلص من هذا البيع ما دام في المجلس.
أما إذا تفرقا ثم ندم فقد تم البيع فلا رجوع، ولكن يستحب للآخر أن يقيله، ولا يلزمه ذلك.
أما إذا تبين في السلعة وجود عيب كان موجوداً من قبل، وليس طارئاً، فهذا يسمى خيار العيب وهو غير خيار الشرط وخيار المجلس.
وبعض التجار يكتب في محله: البضاعة لا ترد ولا تستبدل، وهذا هو الأصل، إلا إذا كان في السلعة عيب فيلزمه إرجاعها، وإلا فقد تم البيع بمجرد تفرقهم، لكن إذا وافق البائع على الرد أو الاستبدال فله ذلك، وإن لم يوافق فلا يلزم بذلك.
والبيع والشراء من خلال الهاتف جائز، ويعتبر انتهاء المكالمة تفرقاً بالأبدان، فلهما خيار المجلس مدة المكالمة، وبعد انتهائها ينتهي خيار المجلس.(394/15)
تراجم رجال إسناد حديث (المتبايعان كل واحد منهما بالخيار)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر].
هو الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(394/16)
شرح حديث (المتبايعان كل واحد منهما بالخيار) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمعناه قال: (أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى بمعناه وفيه: (أو يقول لصاحبه اختر) يعني: نريد أن ننهي الاتفاق وألا نبقي بالخيار، وهذا كما لو كانوا في سفينة أو كانوا في مكان يطول فيه جلوسهم واجتماعهم أو كانوا مسافرين والسفر متصل فيما بينهم، فإذا خير أحدهما صاحبه أو اتفقا على إمضاء البيع في المجلس فإنه يمضي، وينتهي خيار المجلس.
أما أن يقول للمشتري: اشتر السلعة لكن ليس لك خيار فهذا لا يصح، فالخيار لا يلغى، ولكن إذا مضى وقت ثم اتفقا على إسقاط الاستمرار فلا بأس، أما كونه عند البيع يقول له: ليس هناك خيار، فلا؛ لأن هذا لا يحصل به المقصود من خيار المجلس، وهو إعطاء الفرصة للشخص؛ لأنه قد يندم بعد دقائق فيكون عنده مجال لفسخ العقد.(394/17)
تراجم رجال إسناد حديث (المتبايعان كل واحد منهما بالخيار) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد عن أيوب].
حماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
وأيوب السختياني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن ابن عمر].
مر ذكرهما.(394/18)
شرح حديث (ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله)].
أورد المصنف حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار، يعني سواء اتفقا على خيار شرط لعدة أيام أو اتفقا على إنهاء الخيار الذي يكون في المجلس كما مر آنفاً.
قوله: [(ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله)] أي: خشية أن يفسخ العقد، فيفارقه من أجل أن ينهي مدة الخيار، وهذا قيل إنه ليس على سبيل التحريم وإنما هو على سبيل الكراهة، ولو أنه فارقه من أجل أن يتم البيع صح البيع ولكنه خلاف الأولى، والإنسان يغادر المجلس عندما ينتهي من المجلس.(394/19)
تراجم رجال إسناد حديث (ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وبغلان قرية من قرى بلخ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
الليث بن سعد المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عجلان].
هو محمد بن عجلان المدني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن، ويقال في ترجمة ابن عجلان: حملت به أمه أربع سنين.
[عن عمرو بن شعيب].
عمرو بن شعيب وهو صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وجزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عمرو بن العاص].
عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وهذا الإسناد فيه بيان أن الجد هو عبد الله بن عمرو؛ لأنه أحياناً يأتي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهنا صرح بالجد وأنه عبد الله بن عمرو وليس محمداً جد عمرو وأبا شعيب؛ لأنه لو كان محمداً لكان الحديث مرسلاً؛ لأن محمداً ليس بصحابي.
فـ شعيب سمع من جده عبد الله بن عمرو.(394/20)
شرح حديث أبي برزة (البيعان بالخيار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا حماد عن جميل بن مرة عن أبي الوضيء قال: غزونا غزوة لنا فنزلنا منزلاًَ فباع صاحب لنا فرساً بغلام، ثم أقاما بقية يومهما وليلتهما، فلما أصبحا من الغد حضر الرحيل، فقام إلى فرسه يسرجه فندم، فأتى الرجل وأخذه بالبيع، فأبى الرجل أن يدفعه إليه، فقال: بيني وبينك أبو برزة صاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر فقالا له هذه القصة، فقال: أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، قال هشام بن حسان: حدث جميل أنه قال: ما أراكما افترقتما].
أورد أبو داود حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله تعالى عنه، وفيه قصة عن أبي الوضيء قال: غزونا غزوة لنا فباع رجل فرساً بغلام، وعند الرحيل أراد صاحب الفرس الذي بالغلام أن يركب على الفرس، فجعل يسرجه ليستخدمه ويركب عليه، فجاء المشتري الذي دفع العبد في مقابل الفرس وأراد أن يأخذ الفرس، فأبى أن يسلمه إياه، فاتفقا على أن يتحاكما إلى أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، فجاءا إليه وهو في ناحية المعسكر فقال: أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالا: نعم، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا) وما أراكما قد افترقتما، يعني: أن مدة الخيار باقية لصاحب الفرس، فله أن يأخذ فرسه؛ لأنه لا زال في مدة الخيار، وكونهما يصليان مثلاً في المجلس لا يؤثر، وهذا يبين أن مدة خيار المجلس قد تطول ما لم يحصل الافتراق.
وفيه دليل على أنه إذا حصل التحاكم إلى شخص صاحب علم ليقضي بين المتخاصمين، فإن ذلك يصح، ولا يلزم أن يكون قاضياً منصوباً من جهة الإمام، فإنهما إذا تراضيا على أن يحكما شخصاً وهو صاحب علم وعنده معرفة ورضيا بحكمه، فإن ذلك صحيح، وقصة أبي برزة رضي الله تعالى عنه دليل على ذلك، ويلزمهما قضاؤه إذا تراضيا عليه.(394/21)
تراجم رجال إسناد حديث أبي برزة (البيعان بالخيار)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا حماد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جميل بن مرة].
جميل بن مرة، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[عن أبي الوضيء].
هو عباد بن نسيب، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[عن أبي برزة].
أبو برزة الأسلمي نضلة بن عبيد رضي الله عنه وهو صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(394/22)
شرح حديث (لا يفترقن اثنان إلا عن تراض)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن حاتم الجرجرائي قال: مروان الفزاري أخبرنا عن يحيى بن أيوب قال: كان أبو زرعة إذا بايع رجلاً خيره، قال: ثم يقول: خيرني، ويقول: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا يفترقن اثنان إلا عن تراض)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يفترقن اثنان إلا عن تراض) يعني: إذا بقيا في المجلس حتى انتهى المجلس وهما باقيان على البيع وراغبان فيه، فمعناه أن كل واحد منهما في هذه الفترة رضي بما حصل له من الشراء أو البيع.
قوله: [كان أبو زرعة إذا بايع رجلاً خيره، قال: ثم يقول: خيرني].
بمعنى أن كل واحد منهما اختار مضي البيع وتمام البيع.(394/23)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يفترقن اثنان إلا عن تراض)
قوله: [حدثنا محمد بن حاتم الجرجرائي].
محمد بن حاتم الجرجرائي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[قال: مروان الفزاري أخبرنا].
مروان الفزاري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وقوله: قال: مروان أخبرنا، هذا من تقديم الاسم على الصيغة، فبدل أن يقول: أخبرنا مروان قال: مروان أخبرنا، وهذه الصيغة يستعملها بعض المحدثين، فبدل أن يقول: (أخبرنا مروان) يقول: (مروان أخبرنا)، يعني: بدل أن يكون فعل وفاعل يكون مبتدأ وخبره جملة فعلية بعده.
[عن يحيى بن أيوب].
يحيى بن أيوب بن أبي زرعة بن عمرو بن جرير وهو لا بأس به بمعنى صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي.
[عن أبي زرعة].
وهو جده، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
مر ذكره.(394/24)
شرح حديث حكيم بن حزام (البيعان بالخيار ما لم يفترقا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي الخليل عن عبد الله بن الحارث عن حكيم بن حزام رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت البركة من بيعهما)].
أورد أبو داود حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه مرفوعاً: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا)، وهذا يتعلق بخيار المجلس.
وبعد ذلك ذكر ما يتعلق بحسن المعاملة والصدق وعدم الكذب وعدم إخفاء العيوب فقال: (فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)، قوله: (صدقا) يعني: في بيعهما ولم يخفيا العيوب، (وإن كتما) يعني: حصل كتمان العيوب.
وهذا الحديث يفيد بأن الصدق والمعاملة الطيبة سبب لحصول البركة، وأن عكس ذلك من كتمان العيب ومن الكذب سبب في محق البركة.(394/25)
تراجم رجال إسناد حديث حكيم بن حزام (البيعان بالخيار ما لم يفترقا)
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
هو هشام بن عبد الملك، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الخليل].
أبو الخليل هو صالح بن أبي مريم، وثقه ابن معين والنسائي، وأخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن الحارث].
عبد الله بن الحارث بن نوفل، قيل: له رؤية، وقيل: إنه من ثقات التابعين، واتفقوا على توثيقه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حكيم بن حزام].
حكيم بن حزام رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(394/26)
خلاف الرواة في بعض ألفاظ حديث حكيم بن حزام (البيعان بالخيار ما لم يفترقا)
[قال أبو داود: وكذلك رواه سعيد بن أبي عروبة، وحماد وأما همام فقال: (حتى يتفرقا أو يختارا ثلاث مرار)].
سعيد بن أبي عروبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وحماد هو ابن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
وهمام بن يحيى العوذي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قوله: [فقال: (حتى يتفرقا أو يختارا) ثلاث مرات].
يعني: أنه يمكن أن يتم البيع قبل التفرق، وذلك بأن يحصل الاختيار.
وقوله: (ثلاث مرار) كأنه كررها ثلاث مرات.(394/27)
موقف طالب العلم من أقوال المجتهدين
الإمام أبو حنيفة رحمه الله لم يقل بخيار المجلس، وقد قال هو وغيره من الأئمة: إذا قلت قولاً يخالف حديثاً فخذوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم واتركوا قولي، فالأئمة الأربعة رحمة الله عليهم جميعاً كل واحد منهم جاء عنه ما يدل على أنه إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح فإنه يؤخذ به ولا يؤخذ بقوله، وهذا من إنصافهم وجميل فعلهم رحمة الله عليهم جميعاً.
وقد جاء عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد.
والناس بالنسبة للعلماء -سواء الأئمة الأربعة أو غيرهم- على ثلاثة أصناف طرفان ووسط: فمنهم من يتعصب ويغلو، ومنهم من يجفو، ومنهم من يتوسط ويعتدل.
فالذين يغلون لا يعدلون عن قول الإمام حتى ولو وجد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلافه، وقالوا: لو كان صحيحاً لعلمه الإمام ولا يخفى على الإمام! وهذا غلو وتعصب، فلا أحد يقول: إنه لا يخفى على الإمام شيء من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث تكون جميع أقواله وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم محصورة عند شخص من الناس، ولا يفوته منها شيء، هذا لا يقال في حق أحد.
ومن الناس من يجفو فيقول: لا نرجع إلى كلام العلماء، بل نحن رجال وهم رجال! والتوسط بينهما أن يرجع الإنسان إلى كلامهم ويرجع إلى ما كتبوه ودونوه، ويترحم عليهم، ويدعو لهم، ويستفيد من علمهم، ويستعين بهم في الوصول إلى الحق.
قال ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح: العلماء يُحترمون ويُوقرون ويرجع إلى علمهم للاستفادة منهم، ويستعان بهم في الوصول إلى الحق، فإذا وصل إلى الحق اكتفى الإنسان به عن غيره.
ثم ضرب لذلك مثلاً فقال: مثل النجوم يهتدى بها في البر إلى جهة القبلة في الظلام وفي الفلوات، لكنه إذا وصل إلى الكعبة ورآها فإنه لا يحتاج إلى أن ينظر في النجوم ليهتدي إلى القبلة؛ لأنه وصل إلى الكعبة ورآها، لكنه عندما يكون بحاجة إلى الاستفادة من النجوم يستفيد منها، وكذلك الإنسان يستفيد من العلماء ما دام أن الحق ما تبين له، وما وقف على الدليل الواضح في المسألة، فيرجع إلى كلام العلماء ويستفيد من علمهم وهذا هو العدل والإنصاف، وهذا هو الذي يريده الأئمة، وهو الذي أوصى به الأئمة، وهو أنه إذا وجد الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يصار إليه ولا يصار إلى أقوالهم؛ لأن السلامة والعصمة إنما هي في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وفيما جاء عن الرسول كتاباً أو سنة، ففيهما السلامة والنجاة، وأما العلماء فهم يخطئون ويصيبون، ولا يعدمون الأجر أو الأجرين، من اجتهد منهم وأصاب الحق فإنه يحصل أجرين، أجراً من أجل اجتهاده وأجراً من أجل إصابته، ومن اجتهد وأخطأ فإنه يحصل أجراً على اجتهاده وخطؤه مغفور.
إذاً: المجتهدون لا يعدمون أجراً أو أجرين، وكل مجتهد له نصيب من الأجر، ولا يقال: كل مجتهد مصيب، فالحق واحد.
ولهذا قسم النبي صلى الله عليه وسلم المجتهدين إلى قسمين فقال: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن حكم فاجتهد وأخطأ فله أجر واحد)، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما جعل كل مجتهد مصيباً للحق، بل الحق يصيبه من يصيبه، ويخطئه من يخطئه، لكن لكل مجتهد نصيب من الأجر.(394/28)
الأسئلة(394/29)
حكم الخروج عن أقوال الأئمة الأربعة
السؤال
هل يصح أن يقال: لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة؛ لأنها حوت الدين وجمعت الأحكام وأصحابها أئمة فضلاء؟
الجواب
لا يقال هذا، فقد كان الناس قبل أن يوجد الأئمة الأربعة على خير وعلم أيضاً، والأئمة الأربعة رحمة الله عليهم اجتهدوا، وهم دائرون بين أجر وأجرين، ولا يجوز لأحد أن يتعصب لأحد منهم أو يلتزم بمذهب معين، اللهم إلا أن يكون عامياً لا يعرف الحق بنفسه، ولا يجد من يدله على الحق، فهذا معذور، فكونه يأخذ بقول واحد من الأئمة الأربعة إذا لم يجد من يبين له الحق لا بأس به، والتقليد عند الضرورة إليه سائغ وهو اتباع قول القائل من غير معرفة دليله، وهذا جائز عند الضرورة، كشخص ليس عنده قدرة على الاجتهاد، ولم يجد من يبين له الحق، فعليه أن يتقي الله ما استطاع، ولا بأس بالتقليد له، وأما كون الإنسان يعرف الحق أو يكون قد عرف الحق ثم لا يأخذ به تعصباً لبعض الأئمة فهذا غلط، فكيف يترك الحق بعد أن عرف الدليل؟(394/30)
كيفية الكتمان من جهة المشتري
السؤال
جاء في حديث الخيار (وإن كتما وكذبا) كيف يكون الكتمان من جهة المشتري؟
الجواب
من جهة الثمن، فقد يكون فيه تزييف، وقد يكون الثمن ليس نقداً، بل كل من البائع والمشتري يعطي الآخر سلعة، فكل واحد قد يكون عنده غش ويكتم العيب.(394/31)
معنى البركة في البيع
السؤال
ما المقصود بالبركة في البيع؟
الجواب
هي حصول الفائدة من السلعة، وأن الله يبارك في أكلها، وإذا نزعت البركة فقد يأكلها ولا يحصل له بركة في أكلها.(394/32)
خيار المجلس في عقد الإجارة
السؤال
قد يستأجر الإنسان شقة ويتفق مع الحارس، ولم يكتب شيئاً، فهل ينعقد التأجير بمجرد التفرق أو بكتابة عقد الإيجار؟
الجواب
إذا تم الأمر بدون كتابة، فإنه يتم البيع أو الإجارة بدون كتابة.(394/33)
حكم التبليغ عن التجار الذين يرفعون الأسعار
السؤال
إذا وجدت تجاراً متواطئين على رفع سلعة معينة، فهل أرفع أمرهم إلى السلطان؟
الجواب
نعم.(394/34)
الحكمة من تحريم التسعير
السؤال
هل يمكن أن نقول: إن الحكمة من عدم تحديد السعر أن يوجد التنافس بين التجار في تخفيض الأسعار للمسلمين؟
الجواب
الحكمة من عدم تحديد السعر هي دفع الظلم؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة).(394/35)
حكم تسعير الأدوية
السؤال
ما حكم تسعير الأدوية من قبل وزارة الصحة حتى لا ترتفع قيمة الدواء؟
الجواب
لا بأس به؛ لأن مصادر الدواء معروفه، والحاجة له ماسة، وليس مثل الطعام والأشياء التي يحتاج إليها الناس دائماً، فلو ترك الأمر لهم فقد يرفعونها أضعافاً مضاعفة.
والآن توجد منتجات غذائية يسعرها المصنع ويكتب عليها قيمتها، بحيث إن الناس يعرفون أن هذه المنتجات سعرها كذا، وهذا التسعير ليس من الدولة، بل صاحب المصنع هو الذي يحدد السعر، فلا بأس به.
وإذا سعرت الدولة بعض الأدوية، فيجوز أن تباع برخص من أجل أن يجذب الزبائن.(394/36)
حكم بيع التقسيط المنتهي بالتمليك
السؤال
ما حكم بيع السيارات بالتقسيط المنتهي بالتمليك؟
الجواب
فيه خلاف بين أهل العلم في هذا الزمان، وأكثر المشايخ يقولون: هذا غير سائغ، ولا شك أن تركه أولى للإنسان.(394/37)
شرح سنن أبي داود [395]
يجب على التاجر المسلم أن يكون صدوقاً أميناً رفيقاً، وينبغي له أن يقيل المشتري بيعته، وقد رغب في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويحرم على التاجر أن يبيع بالعينة، وهي أن يبيع سلعته ديناً ثم يشتريها ممن باعها له بسعر أقل نقداً، وهي حيلة على الربا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التبايع بها، وأخبر أن التبايع بها من أسباب ذل المسلمين، وتسلط الكافرين عليهم، وجاء في الشرع جواز بيع السلم إذا كان بكيل معلوم إلى أجل معلوم بثمن معلوم.(395/1)
فضل الإقالة(395/2)
شرح حديث (من أقال مسلماً أقال الله عثرته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في فضل الإقالة.
حدثنا يحيى بن معين حدثنا حفص عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من أقال مسلماً أقال الله عثرته)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في فضل الإقالة، أي: الإقالة في البيع، بأن يندم المشتري بعد أن يلزم البيع، فيرغب إلى البائع أن يقيله، بمعنى أنه يترك البيع بحيث ترجع إلى هذا نقوده، وذاك يأخذ سلعته، أو العكس: بأن يكون البائع هو الذي ندم، فيطلب من المشتري الإقالة بحيث يرد عليه النقود ويأخذ منه السلعة التي باعها عليه، هذه هي الإقالة.
ومعناها أن البيع لزم واحتيج إلى الفسخ بموافقة الطرفين؛ لأن أحد الطرفين لا يملك الفسخ بمفرده بعد أن يلزم البيع، فإذا ندم أحدهما وطلب من الآخر أن يعفيه من هذا البيع وأن يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل البيع.
وقد ورد في فضلها والترغيب فيها هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من أقال مسلماً أقال الله عثرته) أي: من أقال مسلماً بيعته لكونه ندم على البيع -سواء كان البائع أو المشتري- وطلب من الآخر أن يلغي البيع ويرجع السلعة إلى البائع والثمن إلى المشتري، فإن هذا فيه فضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقال الله عثرته) أي: يوم القيامة.
وهذا الحديث فيه بيان أن الجزاء من جنس العمل؛ لأن العمل إقالة البيع، والجزاء إقالة العثرة يوم القيامة، وهو التجاوز عن الذنوب، فهو من الأدلة الدالة على أن الجزاء من جنس العمل، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن يسر على مسلم يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة).(395/3)
تراجم رجال إسناد حديث (من أقال مسلماً أقال الله عثرته)
قوله: [حدثنا يحيى بن معين].
يحيى بن معين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حفص].
حفص بن غياث، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
هو ذكوان السمان مشهور بكنيته أبي صالح، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو أكثر السبعة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(395/4)
البيعتان في بيعة(395/5)
شرح حديث (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن باع بيعتين في بيعة.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن زكريا عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب من باع بيعتين في بيعة، والمقصود ببيعتين في بيعة أن تكون عنده سلعة فيبيعها بالنقد بثمن ويبيعها بالأجل بثمن زائد على الثمن الحال، فيأخذ السلعة دون أن يحدد هل أخذها بالحال أو المؤجل، فإنه في هذه الحالة له الثمن الأقل، وإن أخذ الأكثر فإنه يكون قد أخذ ربا؛ لأنه ما دخل على بينة، وإنما دخل في أمر مبهم بين أن يكون حالاً أو يكون مؤجلاً، أما لو دخل على أنه حال أو دخل على أنه مؤجل فإن هذا ليس من قبيل البيعتين في بيعة.
فلو اتفق معه على أنه سيأخذ السلعة بالتأجيل بزيادة في الثمن فلا بأس، ولو قال: أنا سآخذه معجلاً بالثمن الأقل فلا بأس، وإنما الذي فيه بأس أن يذكر له البائع هذا السعر وهذا السعر ثم يأخذه المشتري دون اتفاق على أحد الأمرين، فله أوكسهما، أي: أقلهما، وهو سعر الحال، أو الربا إن أخذ الثاني؛ لأنه ما دخل على بينة.
وقد ذكر الشوكاني في نيل الأوطار عند شرح هذا الحديث في باب بيعتين في بيعة، أن الحكم الذي فيه المنع هو ما كان على الإبهام، أما لو اتفقا على التأجيل ولو كان السعر زائداً من أجل التأجيل فإنه لا بأس بذلك، وذكر أنه لا يعلم خلافاً في ذلك إلا عن جماعة من أهل البيت منهم علي بن الحسين رحمة الله عليه، وقد ذكر الشوكاني في شرح هذا الحديث أنه ألف في ذلك رسالة خاصة ذكر فيها الأدلة على جواز هذا، وسماها شفاء العليل فيما جاء في زيادة الثمن من أجل التأجيل.(395/6)
تراجم رجال إسناد حديث (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
أبو بكر بن أبي شيبة هو عبد الله بن محمد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن يحيى بن زكريا].
يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عمرو].
محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي وهو صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
قد مر ذكره في الإسناد الذي قبل هذا.(395/7)
النهي عن العينة(395/8)
شرح حديث (إذا تبايعتم بالعينة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النهي عن العينة.
حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني حيوة بن شريح ح وحدثنا جعفر بن مسافر التنيسي حدثنا عبد الله بن يحيى البرلسي حدثنا حيوة بن شريح عن إسحاق أبي عبد الرحمن -قال سليمان: - عن أبي عبد الرحمن الخراساني أن عطاء الخراساني حدثه أن نافعاً حدثه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم).
قال أبو داود: الإخبار لـ جعفر، وهذا لفظه].
أورد أبو داود: (باب في العينة)، والعينة: هي أن يبيع الإنسان سلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها بائعها بسعر أقل معجلاً، فتكون النتيجة أن العين رجعت إلى صاحبها وبقيت ذمة المشتري مشغولة بالزيادة، فقيل لها عينة؛ لأن عين العين المشتراة رجعت إلى صاحبها وبقيت الذمة مشغولة بما اشتراها به المشتري أول مرة، بمعنى أنه باعها مثلاً: بألف ريال لمدة سنة ثم إنه اشتراها ممن اشتراها بثمانمائة ريال، فالسلعة رجعت لصاحبها الأول، وبقيت الذمة مشغولة بمائتين.
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: (إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، والمقصود من ذلك أنهم ركنوا إلى الدنيا، واشتغلوا بالبيع المحرم -الذي هو العينة- وتركوا الجهاد في سبيل الله وأعرضوا عن الآخرة والاشتغال لها، وذلك لكونهم يحرصون على الدنيا وتحصيلها بأي طريق، فهذا هو المذموم، وليس معنى ذلك أن الاشتغال بالزراعة محرم، وكذلك الأخذ بأذناب البقر بمعنى كونهم يستنبطون عليها الماء ويستفيدون منها، فهذا غير محرم، ولكن المذموم أن يكون همهم الدنيا، وأنهم يأخذون الدنيا ولو بطريق الحرام، ويعرضون عن الجهاد في سبيل الله؛ فإن هذا من أسباب الذل والهوان للمسلمين.
وهذا الحديث إسناده صحيح، وهو يدل على تحريم بيع العينة، وكثير من الناس اليوم يتعاملون بها، وبعضهم يعلم بحرمتها ولا يترك التعامل بها! ولو أن شخصاً اشترى سلعة بألف ريال مؤجلة ثم باعها إلى بائع آخر بتسعمائة ريال معجلة، هذه المعاملة لا بأس بها، وتسمى مسألة التورق.
فبيع العينة أن يبيعها على من اشتراها منه، وأما التورق فهو أن يبيعها على شخص آخر.(395/9)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا تبايعتم بالعينة)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
سليمان بن داود المهري المصري ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا ابن وهب].
عبد الله بن وهب المصري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني حيوة بن شريح].
حيوة بن شريح المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، ويوجد حيوة بن شريح آخر شامي في طبقة متأخرة، وكل منهما ثقة.
[قال: ح وحدثنا جعفر بن مسافر التنيسي].
صدوق ربما أخطأ، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا عبد الله بن يحيى البرلسي].
عبد الله بن يحيى البرلسي لا بأس به، بمعنى صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود.
[حدثنا حيوة بن شريح عن إسحاق أبي عبد الرحمن].
إسحاق أبو عبد الرحمن الخراساني فيه ضعف، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[وقال سليمان: عن أبي عبد الرحمن الخراساني].
يعني أن سليمان -وهو الشيخ الأول- قال: عن أبي عبد الرحمن الخراساني، وما قال: عن إسحاق أبي عبد الرحمن.
[عن عطاء الخراساني].
صدوق يهم كثيراً، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر].
الصحابي الجليل رضي الله عنهما، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود: الإخبار لـ جعفر، وهذا لفظه].
(الإخبار لـ جعفر) يعني: الشيخ الثاني، (وهذا لفظه) أي: سياقه، ولهذا أشار أبو داود في أثناء الإسناد إلى لفظ سليمان فيما يتعلق بـ إسحاق أبي عبد الرحمن الذي هو أبو عبد الرحمن الخراساني، ولم يقل: إسحاق؛ لأنه ساقه على لفظ جعفر، ولم يسقه على لفظ سليمان، ثم أشار إلى الاختلاف بين جعفر وبين سليمان.
والمقصود بالإخبار: أن رواية سليمان ليس فيها إخبار، وعطاء الخراساني مدلس، ومعنى هذا أن أحد شيخي أبي داود جاء من طريقه التصريح بالإخبار.(395/10)
السلف(395/11)
شرح حديث (من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في السلف.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي قال: حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن عبيد الله بن كثير عن أبي المنهال عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، وهم يسلفون في التمر السنة والسنتين والثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)].
أورد أبو داود باباً في السلف، والسلف: هو عكس بيع التأجيل؛ لأنه تعجيل الثمن وتأجيل المثمن، وبيع التأجيل: تعجيل المثمن وتأجيل الثمن.
ومثال السلف أن يقدم رجل نقوداً لآخر مقابل تمر إلى وقت الجذاذ من هذا النخل أو من نخل مطلق صفته كذا وكيله كذا.
ويقال للسلف: السلم، والسلم لغة أهل العراق، والسلف لغة أهل الحجاز، وقيل: العكس، ولكن الصحيح أن السلف لغة أهل الحجاز، والسلم لغة أهل العراق؛ ولهذا تجد في كتب الحنابلة السلم، وفي كتب المالكية السلف، ويوضح أن لغة أهل الحجاز هي السلف هذا الحديث: (قدم المدينة وهو يسلفون)، وما قال: يسلمون، والمدينة في الحجاز، وأهل العراق يعبرون بالسلم كالحنابلة والحنفية، وأما المالكية فيعبرون بالسلف.
كان أهل المدينة يسلفون في التمر؛ لأن المدينة بلد التمر، وقوتهم التمر، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم) يعني: لا بد أن يعرف مقدار المسلف فيه الذي هو في الذمة، فإن كان مكيلاً فيكون كيله معلوماً، وإن كان موزوناً فيكون وزنه معلوماً، ومثله لو كان معدوداً أو مذروعاً فيكون بأذرع معلومة أو بعدد معلوم، فالرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الكيل والوزن ليبين أن الحكم في المكيلات يكون بمعرفة الكيل، وفي الموزونات يكون بمعرفة الوزن، وهكذا في المعدودات بمعرفة العد، والمذروعات بمعرفة الذرع، وهكذا.
قوله: (السنة والسنتين والثلاث) معناه: أن الرجل يدفع الثمن نقوداً مقابل تمر موصوف في الذمة مقداره كذا، وكيله كذا، يستلمه بعد سنة أو سنتين أو ثلاث، وهذا سائغ جاءت به السنة عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، لكنه لابد أن يكون منضبطاً بتحديد الكيل وتحديد الأجل، فلا يكون الأجل مطلقاً، بل لابد أن يكون محدداً إما بسنة أو سنتين أو ثلاث، وهكذا.(395/12)
تراجم رجال إسناد حديث (من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا سفيان].
سفيان بن عيينة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي نجيح].
هو عبد الله بن أبي نجيح، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن كثير].
عبد الله بن كثير، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي المنهال].
هو عبد الرحمن بن مطعم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(395/13)
شرح حديث ابن أبي أوفى (كنا نسلف في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة ح وحدثنا ابن كثير أخبرنا شعبة -وهذا لفظ حفص - أخبرني محمد أو عبد الله بن مجالد قال: اختلف عبد الله بن شداد وأبو بردة في السلف، فبعثوني إلى ابن أبي أوفى رضي الله عنه فسألته فقال: (إن كنا نسلف على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في الحنطة والشعير والتمر والزبيب) - زاد ابن كثير: إلى قوم ما هو عندهم.
ثم اتفقا: وسألت ابن أبزى رضي الله عنه فقال مثل ذلك].
أورد أبو داود حديث ابن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه، وفيه أنهم كانوا يسلفون في الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وزاد ابن كثير: إلى قوم ما هو عندهم، يعني في وقت العقد ما هو موجود، ولكن يغلب على الظن وجوده في وقت الوفاء، وهذا فيه بيان أن السلف يكون بالتمر وغيره، وعبد الله بن أبي أوفى قال: يسلفون، وهذا يبين أن السلف لغة أهل الحجاز.(395/14)
تراجم رجال إسناد حديث ابن أبي أوفى (كنا نسلف في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا ابن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا شعبة أخبرني محمد أو عبد الله بن مجالد].
الصواب أنه ابن أبي مجالد وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن ابن أبي أوفى].
عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وسألت ابن أبزى].
هو عبد الرحمن بن أبزى، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(395/15)
تراجم رجال إسناد طريق أخرى لحديث (كنا نسلف على عهد رسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى وابن مهدي قالا: حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي المجالد وقال عبد الرحمن: عن ابن أبي المجالد، بهذا الحديث قال: عند قوم ما هو عندهم.
قال أبو داود: الصواب: ابن أبي المجالد، وشعبة أخطأ فيه].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله.
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
محمد بن بشار الملقب بندار البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد القطان البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وابن مهدي].
ابن مهدي هو عبد الرحمن بن مهدي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي من رجال الجرح والتعديل، والذهبي رحمه الله في كتاب من يعتمد قولها في الجرح والتعديل وذكر: أن يحيى وعبد الرحمن إذا اجتمعا على تضعيف شخص لا يكاد يندمل جرحه، معناه: أنهما مصيبان، وكونهما يتفقان على جرح شخص يعني أنه مجروح.
[حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي المجالد وقال عبد الرحمن: عن ابن أبي المجالد].
شعبة تقدم، وعبد الله بن أبي المجالد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[قال أبو داود: الصواب ابن أبي المجالد وشعبة أخطأ].
يعني في الأول قال: ابن المجالد.
وصوابه ابن أبي المجالد.(395/16)
من أحكام بيع السلم
في قوله: (إلى أجل معلوم) لو قال له: أسلفتك إلى العام القادم، أو الشهر القادم ولم يحدده باليوم، فإن هذا لا يجوز، إذ لابد أن يحدد أوله أو آخره أو وسطه؛ لأن هذا مبهم، وعند النسائي في كتاب المزارعة ذِكْرُ صيغ كانوا يستعملونها للعقود، وكانت في غاية الدقة، يقول مثلاً: غرة المحرم، انسلاخ المحرم، يعبرون بتعبيرات دقيقة، ليس فيها إبهام أو إشكال، أو أي شيء يؤدي إلى الخصام والمنازعة.
إذاً: لابد من التحديد وإلا فسوف يبقى الإبهام والإشكال.
ومما يذكر: الفرق بين بيع السلم والنهي عن بيع السنين، مع الاشتراك في أن الثمن غير موجود: أن السلم بيع موصوف في الذمة، وأما بيع السنين فهو بيع ثمر نخلات معينة قد تنتج وقد لا تنتج.
فالسلم شيء موصوف وثابت في الذمة، فما أسلف في نخلات معينة بأن قال: ما تنتجه هذه النخلة، وإنما يقول: في ذمتي عند حول السنة الفلانية كذا من التمر، أو كذا من البر، أو كذا من الشعير.
فالفرق بين السلم وبيع السنين: أنه باعه ثمرة هذا النخل بعد سنتين، وقد لا يحصل بعد سنتين، وأما السلم فهو مقدار من المكيال يكون في ذمته إن كان عنده نخل أوفى من نخله، وإن لم يكن عنده نخل أوفى من خارج النخل؛ لأنه شيء موصوف في الذمة، فيتعلق بالذمة، وليس متعلقاً بأعيان أو بثمرات نخلات معينة.(395/17)
شرح حديث (فنسلفهم في البر والزيت سعراً معلوماً وأجلاً معلوماً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المصفى حدثنا أبو المغيرة حدثنا عبد الملك بن أبي غنية حدثني أبو إسحاق، عن عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي رضي الله عنه قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الشام، فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في البر والزيت، سعراً معلوماً وأجلاً معلوماً، فقيل له: ممن له ذلك؟ قال: ما كنا نسألهم)].
أورد أبو داود حديث ابن أبي أوفى، وأنهم غزوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم الشام عزوة تبوك؛ لأن الرسول ما غزا من الشام إلا تبوك في السنة التاسعة.
(فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام).
أنباط الشام، قيل: إنهم العرب الذين دخلوا في العجم، فنسوا لغتهم، وعرفوا لغة العجم، وقيل: إنهم من نصارى العرب، دخلوا مع العجم.
(كنا نسلفهم في البر والزيت سعراً معلوماً وأجلاً معلوماً)، فقيل: (ممن له ذلك؟).
يعني: ممن له ذلك الشيء المسلف فيه، قال: ما كنا نسألهم، يعني: أنه شيء يكون في الذمة، ولا يلزم أن يكون موجوداً وقت العقد، ولكنه عند حلول الأجل حيث يكون غالباً وجوده، فإنه يجوز فيه السلم.(395/18)
تراجم رجال إسناد حديث (فنسلفهم في البر والزيت سعراً معلوماً وأجلاً معلوماً)
قوله: [حدثنا محمد بن المصفى].
محمد بن المصفى صدوق له أوهام، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا أبو المغيرة].
أبو المغيرة هو عبد القدوس بن حجاج ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الملك بن أبي غنية].
عبد الملك بن أبي غنية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وهو هنا منسوب إلى جده عبد الغني.
[حدثنا أبو إسحاق].
أبو إسحاق الشيباني سليمان بن فيروز الشيباني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن أبي أوفى].
عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه وهو صحابي مر ذكره.
لو أن الوقت المحدد جاء ولم يخرج التمر، أو أصابته جائحة، فيصح الإتيان بتمر مزرعة أخرى غير المتفق عليه؛ لأن هذا شيء في ذمته، والمهم أن يأتي بتمر.(395/19)
ما جاء في السلم بثمرة بعينها(395/20)
شرح حديث (لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في السلم بثمرة بعينها.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق عن رجل نجراني عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رجلاً أسلف رجلاً في نخل فلم تخرج تلك السنة شيئاً فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: بم تستحل ماله؟ اردد عليه ماله، ثم قال: لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه)].
أورد أبو داود باباً في السلم بثمرة بعينها، يعني: بنخل معين، أو نخلة أو نخلات معينة إذا كانت نخلات معينة وهي قليلة جداً، كنخلة ونخلتين، فهذا لا يصلح، ولكن إن كان في بستان كبير فلا بأس، والموصوف في الذمة لابد منه، إن أتى به وإلا أتى بغيره، أو رد عليه القيمة.
أورد أبو داود حديث (أن رجلاً أسلف رجلاً في نخل فلم تخرج تلك السنة شيئاً).
يعني: لم يخرج ذلك النخل شيئاً.
(فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بم تستحل ماله؟).
يعني: النقود التي أخذتها منه، لأن صاحب النخل لم يخرج نخله ثمراً، وقد وصلته النقود المعجلة فبأي شيء يستحلها.
قوله: (اردد عليه ماله).
يعني: النقود التي أعطاها إياك، وإن أعطاه شيئاً مقابله ينطبق عليه الوصف فلا بأس.
ثم قال: (لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه).
وهذا الحديث ضعيف؛ لأن الناس يسلفون السنة والسنتين كما مر في الحديث السابق فكيف لا يسلف حتى يبدو صلاحه؟ فإذا بدا صلاحه جاز بيعه؛ لأنه قد طاب وبدأت الاستفادة منه، والحديث الذي سبق فيه جواز السلم السنة والسنتين والرسول أقرهم على ذلك، وقال: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم، أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم).
وهذا الحديث غير صحيح؛ لأنه ورد في طريقه رجل مجهول مبهم، فالحديث لم يصح، فما جاء فيه من ذكر أنه لا يكون له السلف حتى يبدو صلاحه غير صحيح، وهو مخالف للحديث الصحيح الذي سبق أن مر.
قوله في الترجمة: (باب في السلم بثمرة بعينها).
يعني: ثمر نخل بعينه، المهم أن يكون له ثمر ينطبق عليه الشروط التي جرت بينهم.
إذاً: في شجرة معينة لا يجوز؛ لأنها قد لا تثمر، لكن كونه بستاناً كبيراً فيه عشرات أو مئات النخل، فلا بأس؛ لأنه في الغالب يوجد فيه، لكن النخلة والنخلتين أو الثلاث قليلة قد لا تنتج.(395/21)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير مر ذكره.
[أخبرنا سفيان].
سفيان هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق].
أبو إسحاق السبيعي عمرو بن عبد الله الهمداني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رجل نجراني].
رجل نجراني مبهم.
[عن ابن عمر].
ابن عمر مر ذكره.(395/22)
الفرق بين بيع ما لا يملك وبيع العرايا وبيع السلم
بيع ما لا يملك: كونه يبيع سلعة معينة لا يملكها، وليس شيئاً موصوفًا في الذمة يوجد في الوقت المحدد، فهذا لا بأس به؛ لأنه يكون موجوداً في ذلك الوقت، فيعطيه إياه، أما كونه يبيع سلعة لا يملكها، فمعناه أنه لا يملك ثمرة النخل، أو أنه لا يملك النخل، ولكن السلم بيع شيء موصوف في الذمة، وهذا لا بأس به.
أما بيع العرايا فهو بيع يكون الثمن فيه تمراً والمثمن تمراً على رءوس النخل، وأما السلم فالثمن فيه دراهم، وأما في العرايا فهو تمر، فصار فيه محذور من جهة أن فيه بيع الشيء بمثله بدون تقابض، وهذا لا يجوز، فلا بد من التماثل والتقابض، لكنه رخص في العرايا لحاجة الناس وبحدود معينة، وأما الذي السلم فليس له دخل في العرايا؛ لأن هذا قدم ثمناً وليس تمراً، وإنما قدم نقوداً والمبيع شيء موصوف في الذمة، هذا شيء وهذا شيء.
كما أن السلم ليس مستثنى من أصل مثل العرايا التي أبيحت للحاجة.(395/23)
ما جاء في السلف لا يحول(395/24)
شرح حديث (من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب السلف لا يحول.
حدثنا محمد بن عيسى حدثنا أبو بدر عن زياد بن خيثمة عن سعد -يعني: الطائي - عن عطية بن سعد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: باب السلف يحول، يعني: يحول إلى غيره من الثمر، فبدلاً من أن يكون تمراً يحوله إلى بر أو ما إلى ذلك، فهذا هو المقصود بالترجمة، ومعناه أن الذي في الذمة هو الذي يلزم، وأنه لا يحول إلى غيره.
والحديث ضعيف، وقد سبق أن مر بنا حديث الذي كان يبيع التمر بالدراهم، ثم يأخذ بالدنانير بدل الدراهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: لا بأس إذا كان بسعر يومها وحصل التقابض، يعني: بين الذهب والفضة.
وهذه المسألة الحديث الوارد فيها ضعيف وكونه يحوله إلى غيره هذا فيه خلاف بين أهل العلم، منهم من أجازه، ومنهم من منعه، ولكن إذا كان في أمر لا محذور فيه ولا شبهة ولا ريبة فلا بأس بأن يحوله مثلاً إلى شيء آخر لا يكون فيه ربا، ولا يكون من قبيل الربا الذي يلزم فيه التماثل والتقابض.
ومن أمثلة الربويات: التمر يحول إلى بر؛ ففيه شبهة، لأن فيه قبض، فهذا في الذمة وهذا سلم، فالتمر والبر بينهما ربا من حيث التقابض، لا من حيث التفاوت.(395/25)
تراجم رجال إسناد حديث (من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
محمد بن عيسى الطباع ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا أبو بدر].
أبو بدر هو شجاع بن الوليد صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زياد بن خيثمة].
زياد بن خيثمة ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن سعد -يعني: الطائي -].
سعد الطائي لا بأس به، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن عطية بن سعد].
عطية بن سعد العوفي صدوق يخطئ كثيراً وهذا علة الحديث عطية العوفي فهو يدلس وروى بالعنعنة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري هو سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(395/26)
الأسئلة(395/27)
حكم التقابض في النقود
السؤال
هل بيع السلف مستثنى من النهي الوارد في الحديث: (فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)؛ لأن السلف ليس فيه تقابض؟
الجواب
ما دام أن الثمن نقوداً فلا يلزم فيها التقابض، والنقود لا يلزم فيها التقابض أبداً؛ لأنه لو كان لا بيع إلا بالنقود وبالتقابض ما وجد بيع إلا في حاضر، ويجوز تعجيل الثمن وتأجيل المثمن وهو السلم، ويجوز تعجيل المثمن وتأجيل الثمن وهو بيع التقسيط والتأجيل، والمحذور إنما هو في الأشياء التي يجري فيها الربا، وأما بالنسبة للذهب والفضة فهي أثمان الأشياء.(395/28)
مثال لما لا شبهة فيه من السلم
السؤال
لو تفضلتم بتقديم مثال على السلف المحول الذي لا شبهة فيه؟
الجواب
أن يكون عليه تمر، فاتفق مع المشتري على أن يعطيه مكانه سيارة.(395/29)
حكم البيعتين في بيعة
السؤال
هناك من يستدل بقصة موسى مع شعيب في مهر ابنته: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} [القصص:28] في جواز بيعتين في بيعة؟
الجواب
نهى الرسول عن بيعتين في بيعة، وهذا شرعنا، وأما هناك فقد ذكر فيه ثمان حجج، وأما الباقي فقد كان تبرعاً، فإذاً لا توجد بيعتان في بيعة، والاتفاق كان على ثمان، والباقي كان أمره إلى موسى عليه الصلاة والسلام.(395/30)
وجه الربا في قوله (فله أوكسهما أو الربا)
السؤال
في قوله: (فله أوكسهما أو الربا) لم أفهم وجه دخول الربا في ذلك؟
الجواب
دخول الربا كونه حصل الاتفاق على شيء غير معين؛ لأنه دائر بين هذا وهذا، فهو إما أن يأخذ الأقل فيكون البيع صحيحاً، وإما أن يأخذ الثاني فيكون محرماً.
والربا كأنه جاء بين سعر حاضر وسعر غائب، فالسعر الحاضر هو المعتبر، وما زاد عليه يكون رباً.(395/31)
حكم بيع السلعة للبائع بأكثر من ثمنها
السؤال
ما الحكم إذا باع المشتري السلعة التي اشتراها لصاحبها بأكثر مما اشتراها منه؟
الجواب
لا بأس إذا باعها عليه بأكثر؛ لأن المحذور ألا تبقى ذمة المشتري مشغولة، وأما الآن فليست مشغولة، ولهذا قالوا: (بأقل)، أما لو كان بأكثر فهذه خارجة عن المحذور.(395/32)
حكم البدء بالاستغفار بعد الصلاة مباشرة
السؤال
إذا انتهى الرجل من الصلاة فهل يبدأ بالتكبير أم بالاستغفار أو يجمع بينهما؟
الجواب
يبدأ بالاستغفار، والتكبير يأتي في الآخر: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر.(395/33)
حكم الصلاة إلى غير القبلة جهلاً
السؤال
نشأت في بيت قديم أصلي مع والدي في اتجاه معروف للقبلة في البيت، ثم هدم البيت وبني من جديد، واشتريت سجادة بها بوصلة لتحديد القبلة، فغيرت اتجاه القبلة عن الاتجاه القديم المعروف،
و
السؤال
ما حكم صلاة خمسين عاماً في اتجاه القبلة في البيت القديم الذي هدم؟ وهل أتبع اتجاه القبلة السابق أم الاتجاه الذي حددته البوصلة في المصلى؟
الجواب
يجتهد في المستقبل، ثم إذا كان الانحراف يسيراً فلا يؤثر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين المشرق والمغرب قبلة).
أما اتجاه القبلة فإذا كانت البوصلة سليمة عمل بها، لكن ينظر أهل الخبرة والمعرفة في تحديد القبلة مثل الجهات المسئولة، هذا إذا كان المقصود النافلة، وأما الفريضة فيجب عليه أن يصليها في المسجد.(395/34)
شرح سنن أبي داود [396]
إن المعاملات المالية ما لم تقم على العدل كانت سبباً في فشو الظلم بين الناس والاعتداء على الحقوق؛ لذا أمر الشارع بوضع الجوائح بين الناس على تفصيل عند أهل العلم، وأمر أصحاب الماء بألا يمنعوا الناس من الماء ليسقوا مواشيهم، وتهدد مانع فضل مائه، إذ الناس شركاء فيه، هذا ما لم يكن أحوج إليه هو أو استخرجه بأموال وتعب فيه، ومما ورد النهي فيه من البيوع: ثمن الكلب والهر والخمر والخنزير والأصنام.(396/1)
ما جاء في وضع الجائحة(396/2)
شرح حديث (خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في وضع الجائحة.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن بكير عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدقوا عليه؛ فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك)].
أورد أبو داود باباً في وضع الجوائح.
والجوائح هي الآفات التي تحصل للثمار كالجراد أو المطر والبرد وغير ذلك من الآفات التي تصيب الثمرة، وسبق أن الثمر لا تباع إلا بعد بدو الصلاح، وأنه قبل بدو الصلاح لا يجوز بيعه أصلاً، والعقد غير صحيح بل باطل، إلا إذا كان سيجز ويباع بسرًا، فإنه لا بأس بذلك، ولكنه إذا اشتراه بعد بدو الصلاح ثم حصلت جائحة، فإنها توضع، بمعنى: أنه لا يلزم المشتري دفع مال مقابل هذا الذي تلف، وإنما يتلف على حساب المالك وليس على حساب المشتري، وقد سبق أن مر بنا الحديث: (بم يأخذ أحدكم مال أخيه).
أورد حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمارٍ ابتاعها؛ فكثر دينه).
يعني: خسر فيها، وأنه تركها حتى حصل الجذاذ وأصابتها آفة، أو أنه حصل أن هبطت قيمتها، ولم يكن لها قيمة، فكثر دينه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتصدق عليه فجمع له مقداراً من المال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوه وليس لكم إلا ذلك)، فالمقصود من قوله: (خذوه): خذوا هذا الموجود والباقي في الذمة، {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]؛ لأن هذا ليس من قبيل وضع الجوائح فليس من قبيل أن الثمرة بيعت على رءوس النخل بعد ما بدا صلاحها ثم أصابتها جائحة فتوضع، بمعنى أن المشتري ملزم ولهذا قال: (تصدقوا عليه، وقال: ليس لكم إلا ذلك) يعني في الوقت الحاضر، والباقي نظرة إلى ميسرة: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، فهو ليس من قبيل وضع الجوائح التي جاء الحديث بوضعها.(396/3)
تراجم رجال إسناد حديث (خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
الليث بن سعد المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بكير].
بكير بن عبد الله بن الأشج ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عياض بن عبد الله] عياض بن عبد الله ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري مر ذكره.(396/4)
شرح حديث (إن بعت من أخيك تمراً فأصابتها جائحة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود المهري وأحمد بن سعيد الهمداني قالا: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني ابن جريج.
ح وحدثنا محمد بن معمر حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج المعنى أن أبا الزبير المكي أخبره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إن بعت من أخيك تمراً فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه مرفوعاً أنه قال: (إن بعت من أخيك تمراً) أي: على رءوس النخل، وأما إذا باعه تمراً وسلمه إياه أو خلى بينه وبينه وسلمه في مكانه، فإنه يذهب على حساب المشتري، ولكن المقصود التمر الذي بيع على رءوس النخل وأصابته جائحة، وفيه قال: (بم تأخذ مال أخيك بغير حق)؛ لأن البائع ما سلمه للمشتري الذي باعه إياه وهو على رءوس النخل، أما إن كانت القضية في أمر قد سلم له وقبضه، ودخل في حوزته، ثم تلف وهو في حوزته، فإنه ليس على حسابه، وليس على البائع أن يرد شيئاً من القيمة، كما لو حصل أن إنساناً باع سلعة وأخذ قيمتها، ثم لما ذهب المشتري جاء اللصوص وأخذوها من هذا المشتري، فلا يرجع إلى البائع يقول: أخذها اللصوص، أعطني القيمة، لأنها ضاعت على حسابه.
وهذا الحديث محمول على الثمر الذي على رءوس النخل.
والحديث يناسب له وضع الجوائح، وأما الأول فلا علاقة له بوضع الجوائح.
ولعل الحديث جاء ضمناً وليس في وضع الجوائح.(396/5)
تراجم رجال إسناد حديث (إن بعت من أخيك تمراً فأصابتها جائحة)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري وأحمد بن سعيد الهمداني].
أحمد بن سعيد الهمداني صدوق، أخرج له أبو داود.
[أخبرنا ابن وهب].
ابن وهب مر ذكره.
[أخبرني ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا محمد بن معمر].
محمد بن معمر صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو عاصم].
أبو عاصم النبيل وهو الضحاك بن مخلد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج المعنى أن أبا الزبير].
أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(396/6)
ما جاء في تفسير الجائحة(396/7)
شرح أثر (الجوائح كل ظاهر مفسد من مطر أو برد) وتراجم رجال إسناده
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في تفسير الجائحة.
حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني عثمان بن الحكم عن ابن جريج عن عطاء قال: [(الجوائح كل ظاهر مفسد من مطر أو برد أو جراد أو ريح أو حريق)].
سبقت بعض الأحاديث المتعلقة بوضع الجوائح، وهذه الترجمة تتعلق بتفسير الجوائح، وقد أورد أبو داود رحمه الله أثراً عن عطاء بن أبي رباح المكي رحمه الله أنه قال: (الجوائح كل ظاهر مفسد من مطر أو برد أو جراد أو حريق) أي: تكون الجائحة بمثل هذا مما يحصل به تلف الثمر، وهذه أمثلة للأمور التي تحصل بها الجوائح للثمار.
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
سليمان بن داود المهري المصري ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عثمان بن الحكم].
عثمان بن الحكم صدوق له أوهام أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء].
عطاء بن أبي رباح المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(396/8)
شرح أثر (لا جائحة فيما أصيب دون ثلث رأس المال) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب أخبرني عثمان بن الحكم، عن يحيى بن سعيد أنه قال: (لا جائحة فيما أصيب دون ثلث رأس المال، قال يحيى: وذلك في سنة المسلمين).
أورد المؤلف أثراً عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو: لا جائحة فيما إذا كان الضرر دون الثلث من الثمرة، ولا يتحمله البائع، وإنما يذهب على حساب المشتري.
قال: وهذا في سنة المسلمين، وسبق أن مر بنا أن الإمام مالكاً رحمه الله هو الذي يقول بأن الجائحة فيما دون الثلث، وقال أبو داود بأنه لا يعلم شيئاً يدل على التحديد بالثلث، وأن الأمر مطلق، وقول يحيى هذا هو حكاية لعمل أهل المدينة؛ لأن يحيى من أهل المدينة، قوله: [وذلك في سنة المسلمين] يعني: المعمول به في المدينة.
معناه: أن الجائحة إذا كانت دون الثلث لا يسقط عن المشتري منها شيء، وإذا كانت فوق الثلث فإنه يسقط، وتعتبر الجائحة فيما فوق الثلث.
قوله: [حدثنا سليمان بن داود، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عثمان بن الحكم، عن يحيى بن سعيد].
يحيى بن سعيد الأنصاري المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(396/9)
ما جاء في منع الماء(396/10)
شرح حديث (لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في منع الماء.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: باب في منع الماء، يعني: أن الماء الزائد عن حاجة الإنسان لا يمنعه.
وأورد أبو داود حديث أبي هريرة: (لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ)، وهذا فيما إذا كان الإنسان عنده بئر وحولها مكان فيه مرعى وكلأ، فلا يعطي الناس من الماء لتشرب مواشيهم، من أجل أن يبتعدوا عن الكلأ فيستفيد منه هو؛ لأنهم إذا لم يحصلوا على ماء عند هذا المكان فإنهم ينتقلون عنه، فيستفيد منه وحده، ويكون في ذلك إلحاق الضرر بالناس.
ولكن عليه أنه يسقي مواشيهم، وأن يحسن إليهم بسقي المواشي، ويشاركهم في الكلأ، ويبذل الإحسان إليهم بكونه يسقي مواشيهم، فهذا فيه الإشارة إلى أن إحالة الإنسان بين الناس وبين الكلأ الذي جعله الله في الأرض العامة غير لائق بالمسلم، بل يشاركهم في الانتفاع بالكلأ، ويحسن إليهم في سقي مواشيهم.(396/11)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وأما النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
أبو صالح هو ذكوان السمان المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب السنة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
يلاحظ أن الترجمة في منع الماء، مع أن الحديث في منع فضل الماء، وكما هو معلوم أن الإنسان إذا كان الماء قليلاً وليس فيه زيادة، فنفسه أولى من غيره، وحاجته أولى من غيره، ومعلوم أن النهي إنما ورد في منع الفضل والمقدار الزائد على حاجته، والنهي هنا عام وسيأتي التقييد له.(396/12)
شرح حديث (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: رجل منع ابن السبيل فضل ماء عنده، ورجل حلف على سلعة بعد العصر -يعني: كاذباً- ورجل بايع إماماً فإن أعطاه وفى له، وإن لم يعطه لم يف له)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله) يعني: التكليم الذي فيه راحتهم وسعادتهم، وإلا فإن التكليم يمكن أن يكون على وجه التبكيت والتقريع، ويكون هذا ضرراً، ومنه قول الله عز وجل: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] وهذا كلام، لكنه كلام فيه تقريع وتبكيت لا يحصلون من ورائه على فائدة، ولا يحصل لهم السرور والارتياح والاطمئنان، فهذا لا ينافي ما جاء من أن الله تعالى يخاطب الكفار ويقول: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]؛ لأن المنفي غير المثبت.
(ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: رجل منع ابن السبيل فضل ماء عنده)، ابن السبيل هو عابر السبيل، سواء كان بنفسه أو معه راحلته أو رواحله، فإن الماء يبذل له، ولا يحال بينه وبينه.
(ورجل حلف على سلعة بعد العصر -يعني: كاذباً-)، يعني: ليروجها ولينفقها، كما جاء في الحديث الآخر: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) أي: المروج لها، الذي يأتي بما يجعل المشتري يغتر بحلفه وبكلامه الذي فيه ترويج لها.
أما عن بعد العصر فقد قيل: إن هذا من الأوقات التي تكون فيها الأيمان مغلظة، وقد سبق أن مر بنا تغليظ اليمين بالمكان، كما جاء في الحلف عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من حيث الزمان.
(ورجل بايع إماماً فإن أعطاه وفى له، وإن لم يعطه لم يف له) يعني: بايع إمامه أو إمام المسلمين من أجل الدنيا، لا من أجل أن يقوم بالشيء الذي يجب عليه، وإنما بايع من أجل الدنيا، فإن حصل له الذي بايع من أجله رضي، وإن لم يحصل ذلك فإنه يسخط، فبيعته إنما هي من أجل الدنيا، وليست من أجل السمع والطاعة في المعروف على الوجه الذي شرعه الله عز وجل في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].(396/13)
تراجم رجال إسناد حديث (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
أبو بكر بن أبي شيبة هو عبد الله بن محمد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا وكيع].
وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأعمش].
الأعمش مر ذكره.
[عن أبي صالح عن أبي هريرة].
وقد مر ذكرهم.(396/14)
شرح حديث (ثلاثة لا يكلمهم الله) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش بإسناده ومعناه، قال: (ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) وقال: في السلعة: (بالله لقد أعطي بهذا كذا وكذا، فصدقه الآخر فأخذها)].
أورد الحديث من طريق أخرى وفيه زيادة على الأول، فهناك قال: (لا يكلمهم الله) فقط، وهنا قال: (لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)، وفيه أيضاً: بيان ذكر الحلف، وأنه حلف أنه أعطي بها كذا وكذا، حتى يرغب المشتري فيها، فيكون كذاباً في خبره، وأيضاً أكد ذلك بحلف كاذب بالله لقد أعطي بها كذا وكذا.
فيذكر السعر، مائة ريال مثلاً.
و (كذا وكذا) كناية عن ذكر السعر من أجل أن يزيد على هذا المقدار، مع أنه ما أعطي هذا المقدار ولا حصل له هذا المقدار من أحد، ولكنه عن طريق الكذب والعياذ بالله.
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن الأعمش بإسناده ومعناه].
مر ذكرهم.(396/15)
شرح حديث (ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال الماء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا كهمس عن سيار بن منظور -رجل من بني فزارة- عن أبيه عن امرأة يقال لها: بهيسة عن أبيها رضي الله عنه قالت: (استأذن أبي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فدخل بينه وبين قميصه، فجعل يقبل ويلتزم، ثم قال: يا نبي الله! ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: الماء، قال: يا نبي الله! ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: الملح، قال: يا نبي الله! ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: أن تفعل الخير خير لك)].
أورد أبو داود حديث رجل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم غير مسمى، فهذه بهيسة، قيل: إن لها صحبة، وقيل: مجهولة لا تعرف، وهي تحكي عن أبيها أنه دخل بين النبي صلى الله عليه وسلم وقميصه، يعني أنه رفع قميص النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يقبله وقال له: (ما هو الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: الماء، ثم قال: ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: الملح، ثم قال: ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: أن تفعل الخير خير لك)، والحديث في إسناده رجلان متكلم فيهما، وفيه هذه المرأة التي لا تعرف.
والمقصود بالماء والملح: أن هذه من الأشياء التي يمكن أن يسألها الناس بعضهم بعضاً ولا تمنع، والمقصود من ذلك الشيء الذي فيه مقدار الحاجة، بأن يطلب مثلاً ماء من أجل الشرب، أو الملح من أجل الطعام، وأما حمل الملح فهذا مال يتمول، ويمكن أن يمنع، يعني إذا كان عند إنسان مملحة وكان يبيع الملح، ثم يأتي إنسان ليأخذ منه بالمجان، وهو في أرضه وقد تعب عليه فلا.
ولكن يبدو إن صح الحديث أنه من الأشياء التي تبذل ولا يؤخذ لها مقابل عند الحاجة إليها، كأن يكون الناس معهم طعام ولكن ليس معهم ملح يملحون به طعامهم، فيمكن أن يسألوا، وهذا من الأشياء السهلة البسيطة التي يمكن للناس أن يتعاطوها، وأن يسأل بعضهم بعضاً إياها، ولا يعتبر سؤال مثل ذلك عاراً؛ لأن هذه أشياء مبذولة وأمرها سهل، ومن يسألها وهو محتاج إليها لحاجته الحاضرة فلا بأس بذلك.
والحديث كما أشرت غير صحيح، ولكنه إن صح فهذا هو معناه: أنه يحمل على الشيء الذي لا يمنع من الأمور السهلة البسيطة التي لا ينبغي للناس أن يتشاحوا فيها.
قال الخطابي: الملح إذا كان في معدنه في أرض أو جبل غير مملوك فإن أحداً لا يمنع من أخذه.
وهذا صحيح لا إشكال فيه، وهذا مثل الماء الذي في الفلاة، كل يأخذ منه نصيبه، والملح إذا كان غير مملوك يأخذ كل نصيبه، لكن إذا كان في ملك الإنسان، فإذا كان للحاجة الحاضرة فلا بأس، وأما إن كان غير مملوك فهو مبذول لكل أحد.
الكلأ مشترك، والملح إذا كان في فلاة مشترك، والماء إذا كان في فلاة مشترك، ولكن الماء إذا كان في حوزة إنسان، وفي إنائه ووعائه وسقائه؛ فإنه ملكه، ولكن يبذله لمن يحتاج إليه.(396/16)
تراجم رجال إسناد حديث (ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال الماء)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن معاذ].
عبيد الله بن معاذ العنبري ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
معاذ بن معاذ العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا كهمس].
كهمس بن الحسن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سيار بن منظور].
سيار بن منظور مقبول أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبيه].
أبوه مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن امرأة يقال لها: بهيسة].
وقيل: لا تعرف، أخرج لها أبو داود والنسائي.
[عن أبيها].
صحابي مقل، قيل: اسمه عمير، أخرج له أبو داود والنسائي].
في السند أربعة كلهم روى لهم أبو داود والنسائي، اثنان مقبولان، والثالثة مجهولة لا تعرف، والرابع صحابي، والصحابة المجهول فيهم في حكم المعلوم، إذ جهالة الصحابة لا تؤثر؛ لأنهم عدول بتعديل الله عز وجل لهم، ولهذا ما من رجل من رجال الإسناد إلا ويحتاج إلى السؤال عن حاله، ليعرف أهو ثقة أم غير ثقة، وأما الصحابي فيكفيه شرفاً وفضلاً ونبلاً أن يقال: إنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشرف برؤية النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحياة الدنيا، ومتع بصره بالنظر إليه، وشنف سمعه بسماع صوته صلى الله عليه وسلم، فصار لهم فضل وميزة، ولهذا درج العلماء على أن الراوي إذا كان صحابياً لم يزيدوا على أكثر من أن يقولوا: صحابي أو له صحبة، ولا يقولون: ثقة، ولا غيرها من الأشياء التي يحتاج إليها في حق من بعدهم.(396/17)
حكم منع الماء الموقوف في المساجد
قد يقال: ما حكم منع الماء الموقوف في المسجد عن الناس إذا احتاجوا إليه، علماً أن الواقف جعل هذا الماء في المسجد لغرض الوضوء والتطهر؟ ف
الجواب
إن كان يستخدم في داخل المسجد فنعم، أما إن كان المقصود الخروج به والناس مضطرون له وما وجدوا غيره فلا، وإن كان العكس وما يؤثر على الاستعمال في الداخل فلا بأس؛ لأن الذي وضعه لا يمنع كون الإنسان يستفيد منه في الخارج إذا كان مضطراً إليه، كأن تكون هناك صنابير فيها ماء لمن يتوضأ، وأراد إنسان أنه يملأ قربته أو ما إلى ذلك، فإذا كان الماء كثيراً ولا شح فيه ولا تضييق على الذين جعل لهم فلا بأس؛ لأن الذي وضع مثل هذا لا يمنع مثل هذا.(396/18)
شرح حديث (المسلمون شركاء في ثلاث الكلاء والماء والنار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا علي بن الجعد اللؤلؤي أخبرنا حريز بن عثمان عن حبان بن زيد الشرعبي عن رجل من قرن ح حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا حريز بن عثمان حدثنا أبو خداش -وهذا لفظ علي - عن رجل من المهاجرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثلاثاً أسمعه يقول: (المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلأ والماء والنار)].
أورد أبو داود حديث رجل من المهاجرين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الناس شركاء في ثلاث: الكلأ والماء والنار)، أي: إذا كان في فلاة وليس في الأرض إنسان، أما إذا كان الكلأ في أرضه وفي ملكه فهو له، ولا أحد يدخل في ملكه من أجل أن يرعى، وإنما يرعى في الفلاة التي ليست ملكاً لأحد، فالمقصود بالأرض الفلاة التي ليست خاصة ولا ملكاً لأحد؛ فإن الناس شركاء فيها، ولا يختص أحد بالكلأ دون أحد، بل هو مبذول لكل من احتاج إليه.
وكذلك الماء إذا كان في الفلاة فالناس شركاء فيه، وكذلك إذا احتاج الناس إلى الحصى أو الحجارة التي يقدحون بها النار ويورونها، بحيث يضرب الواحد حجراً بحجر فتقدح، ثم يأخذون منه النار، فإذا كان مثل هذه الأشياء في الفلاة، فإن الجميع شركاء فيها.
وكذلك أيضاً إذا احتيج إلى الماء للشرب، فإنه لا يمنع كما مر في الحديث الضعيف: (لا يمنع الماء، ولا يمنع الملح) وكذلك أيضاً فيما يتعلق بالنار، فكونه يطلب شيئاً يسيراً من أجل أن يوقد به النار، أو جذوة من النار، هذه كلها أمور سهلة وبسيطة، والناس شركاء فيها، فلا يصلح أن تمنع، والناس يحتاج بعضهم إلى بعض، لاسيما إذا كانوا في البراري وليس معهم حاجاتهم الكافية التي لا بد منها.
معناه: أن بعضهم يحسن إلى بعض، ولا يشح بعضهم على بعض.(396/19)
تراجم رجال إسناد حديث (المسلمون شركاء في ثلاث في الكلاء والماء والنار)
قوله: [حدثنا علي بن الجعد اللؤلؤي].
علي بن الجعد اللؤلؤي ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود.
[أخبرنا حريز بن عثمان].
حريز بن عثمان ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن حبان بن زيد الشرعبي].
حبان بن زيد الشرعبي ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود.
[عن رجل من قرن].
رجل من قرن الذين منهم أويس القرني، وهناك قرن من الأزد، وفي النسبة يقال: قَرَني أو قَرْني، وقرن من مراد وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أويس بقوله: (يأتيكم رجل من اليمن يقال له أويس من قرن من مراد، وله والدة كان باراً بها)، وذكر شيئاً من صفاته.
[ح وحدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عيسى بن يونس].
عيسى بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حريز بن عثمان حدثنا أبو خداش].
أبو خداش هو حبان بن زيد الشرعبي.
[وهذا لفظ علي].
يعني طريق علي بن الجعد.
[عن رجل من المهاجرين].
هو نفسه ذاك الرجل الذي من قرن، وليس رجلاً من قرن يروي عن رجل من المهاجرين، وإنما الرجل الذي من المهاجرين هو نفسه من قرن، فهو متصل، وليس فيه مبهم إلا الصحابي، وإبهام الصحابي لا يؤثر.
والحديث صححه الألباني.
ومما ينتبه إليه: أنه إذا طلب شخص النار من أجل التدخين لا نعطيه؛ لأن هذا تعاون على الإثم والعدوان.(396/20)
ما جاء في بيع فضل الماء(396/21)
شرح حديث (أن رسول الله نهى عن بيع فضل الماء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في بيع فضل الماء.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال عن إياس بن عبد رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع فضل الماء)].
أورد أبو داود باباً في بيع فضل الماء، يعني: حكمه، وهل يجوز أم لا؟ ومن قبل أورد باباً في منع فضل الماء، وأما هذا فهو في منع بيعه على من هو محتاج إليه، كعابر السبيل، أو إنسان يسقي مواشيه، فهذا يعطاه بدون مقابل، وأما إذا حازه في قربته، أو سيارته، أو خزانه، وجعل يبيعه، فلا بأس بذلك إذا فعل هذا من أجل تيسيره وتسهيله على الناس، وكونه في متناولهم.
والمنع يأتي فيما إذا كان هناك ضرورة إليه، وأما إذا دخل في ملك الإنسان، وعبأ له (وايت) فله أن يبيعه، ولا مانع من ذلك، ويمكن للإنسان أن يشتري السيارة من أجل أن يعبئ الماء ويبيعه على الناس.
ومثل هذا من يبيع الماء وقد صرف على استخراجه من باطن الأرض أموالاً كثيرة، فيبيعه لمن سيزرع مزرعة بجانبه فلا بأس؛ لأنه استنبطه وتعب في إخراجه بواسطة المضخات فهي تحتاج إلى وقود أو كهرباء، وكل ذلك فيه صرف أموال.
أما ماء زمزم فلا بأس أيضاً ببيعه إذا حازه الإنسان في سيارة أو قربة، أو وعاء، وهذا فيه تسهيل للناس بدلاً من كونهم يبحثون عن وعاء، ثم يذهبون إلى زمزم، وقد يشق عليهم ذلك، ولا يحصلون عليه بسهولة.(396/22)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله نهى عن بيع فضل الماء)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار].
داود بن عبد الرحمن العطار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن دينار].
عمرو بن دينار المكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي المنهال].
هو عبد الرحمن بن مطعم، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إياس بن عبد].
إياس بن عبد رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب السنن.(396/23)
ما جاء في ثمن السنور(396/24)
شرح حديث (أن النبي نهى عن ثمن الكلب والسنور)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ثمن السنور.
حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي ح وحدثنا الربيع بن نافع أبو توبة وعلي بن بحر قالا: حدثنا عيسى وقال إبراهيم: أخبرنا عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن ثمن الكلب والسنور)].
أورد أبو داود باباً في ثمن السنور.
يعني: في حكمه وهل هو جائز أو غير جائز.
وقد أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى ثمن الكلب والسنور)، معناه: أنه لا يباع الكلب ولا يباع السنور، لكن من احتاج إليهما اختص بهما واستفاد منهما، ومن استغنى عنهما أرسلهما وتركهما بدون أن يأخذ لهما ثمناً.
والكلب سبق أن مر شيء يتعلق به مع مهر البغي وحلوان الكاهن، وسيأتي أيضاً ما يخصه بعد هذا، والسنور جاءت الأحاديث في المنع من ثمنه، فيكون حكمه حكم الكلب، بمعنى أن من احتاج إليه استفاد منه، ومن استغنى عنه تركه وأرسله دون أن يبيعه.(396/25)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي نهى عن ثمن الكلب والسنور)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي].
إبراهيم بن موسى الرازي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا الربيع بن نافع].
الربيع بن نافع أبو توبة الحلبي ثقة، أخرجه حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[وعلي بن بحر].
علي بن بحر ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي].
[حدثنا عيسى].
عيسى بن يونس مر ذكره.
[وقال إبراهيم: أخبرنا].
يعني: في رواية إبراهيم أنه قال: أخبرنا، وهناك في الإسناد الأول حدثنا.
[عن الأعمش].
الأعمش مر ذكره.
[عن أبي سفيان].
أبو سفيان هو طلحة بن نافع صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(396/26)
شرح حديث (أن النبي نهى عن ثمن الهرة) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق حدثنا عمر بن زيد الصنعاني: أنه سمع أبا الزبير عن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ثمن الهرة)].
أورد أبو داود حديث جابر من طريق أخرى، وفيه النهي عن ثمن الهرة.
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عمر بن زيد الصنعاني].
عمر بن زيد الصنعاني ضعيف، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبي الزبير].
أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
مر ذكره، وكون الحديث فيه ضعيف لا يؤثر؛ لأنه جاء من طرق أخرى.(396/27)
العلة في تحريم ثمن الهرة
يبدو والله أعلم أن الهر من الأشياء التي قد يستفيد الناس منها، فهي مثل الاستفادة من الكلب، فمن يستفيد منه يختص به، ومن يستغني عنه فإنه يرسله، ولا تكون مثل هذه الحيوانات محلاً للتجارة والبيع والشراء، وإنما ينتفع بها، فمن احتاج إليها وقد اختص بها أبقاها، ومن استغنى عنها تركها دون أن يأخذ لها ثمناً.
أما بقية الحيوانات التي تستخدم للزينة وليست للنفع، مثل الطيور توضع في أقفاص للزينة، فإن حبس الحيوانات في الأقفاص إيذاء لها، وإن أحسنوا إليها وأعطوها ما تحتاج فالأمر أخف، ولكن إن حصل إهمالها أو الغفلة عنها ثم ماتت فإن ذلك فيه خطورة كما جاء في حديث المرأة التي حبست هرة فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا هي سقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، لأنه قد يحصل الغفلة والنسيان، فيترتب على ذلك أنها تموت أو تتضرر، فيكون في ذلك تعذيب للحيوان.(396/28)
ما جاء في أثمان الكلاب(396/29)
شرح حديث (أنه نهى عن ثمن الكلب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في أثمان الكلاب.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا سفيان عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أنه نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن)].
أورد أبو داود باباً في أثمان الكلاب، يعني: وأنها لا تجوز أن تباع ولا أن يؤخذ لها ثمن، وقد سبق أن مر ذلك في حديث: (كسب الحجام خبيث، وثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وحلوان الكاهن خبيث)، وهنا أورد حديث أبي مسعود (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن).
وقد مر ذكر هذه الأشياء فيما مضى.(396/30)
تراجم رجال إسناد حديث (أنه نهى عن ثمن الكلب)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
سفيان هو ابن عيينة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بكر بن عبد الرحمن].
أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي مسعود].
أبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(396/31)
شرح حديث (وإن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم عن قيس بن حبتر عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ثمن الكلب، وإن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، وإن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً) يعني: يحصل على الخيبة؛ لأن الكلاب لا تؤخذ لها أثمان، فمن احتاج إليها استفاد منها، ومن استغنى عنها تركها وأرسلها يستفيد منها من يستفيد منها بدون مقابل يؤخذ عليها.
وهذا أيضاً يؤكد التحريم؛ لأن قوله: (وإن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً)، يعني ليس له إلا الخيبة.(396/32)
تراجم رجال إسناد حديث (وإن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً)
قوله: [حدثنا الربيع بن نافع، حدثنا عبيد الله -يعني: ابن عمرو -].
عبيد الله بن عمرو الرقي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الكريم].
عبد الكريم بن مالك الجزري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قيس بن حبتر].
قيس بن حبتر ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن عبد الله بن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحابه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
تنبيه: هناك سؤال يتكرر خاصة إذا درسنا مثل هذا الحديث، ففي الوقت الحاضر لا يمكن امتلاك كلب للاستفادة منه كالحراسة أو الزراعة أو الكلاب البوليسية إلا بشرائه، لكن أقول: لماذا لا يحصل إلا بالشراء؟ فالذي يريدها قد يحصل عليها كما حصل عيلها من يبيعها، أما بيع الدب والنمر وأولادها فكلها من فئة الكلاب، والحيوانات المفترسة لا تباع، ففيها ما هو مفترس وأسوأ من الكلب.
وبعض العلماء يقول: يجوز استعمال الحديث على ظاهره، بأن يوضع التراب بكف من طلب الثمن، لكن الذي يظهر أنه من جنس: (وللعاهر الحجر) أي: الزاني لا يحصل ولداً بزناه، وإنما له الخيبة.(396/33)
شرح حديث (أن رسول الله نهى عن ثمن الكلب) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة أخبرني عون بن أبي جحيفة أن أباه رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن ثمن الكلب)].
أورد حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب)، فهو جاء عن عدد من الصحابة.
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
أبو الوليد الطيالسي هشام بن عبد الملك ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن حجاج الواسطي ثم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عون بن أبي جحيفة].
عون بن أبي جحيفة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
وهب بن عبد الله السوائي أبو جحيفة مشهور بكنيته، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهذا الإسناد من الرباعيات، وهي من أعلى ما يكون عند أبي داود.(396/34)
شرح حديث (لا يحل ثمن الكلب) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب حدثني معروف بن سويد الجذامي أن علي بن رباح اللخمي حدثه أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا يحل ثمن الكلب، ولا حلوان الكاهن، ولا مهر البغي)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة وهو مثل ما تقدم في أول هذا الباب وفي أبواب تقدمت ذكر هذه الثلاثة، وأنها حرام.
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن وهب].
ابن وهب مر ذكره.
[حدثني معروف بن سويد الجذامي].
معروف بن سويد الجذامي مقبول أخرج له أبو داود والنسائي.
[أن علي بن رباح اللخمي].
علي بن رباح اللخمي ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.(396/35)
الأسئلة(396/36)
حكم إعطاء شيء بدلاً عن ثمن الكلب
السؤال
هل يجوز أخذ الكلب وإعطاء شيء بدلاً عنه؟
الجواب
إذا وجد بيع وشراء فلا يجوز، وإما إن أخذه من غير مواطأة، بمعنى أنه أحسن إليه إذ أعطاه إياه، وهو كافأه على ذلك من غير مواطأة، هذا يبدو أنه لا بأس به إن شاء الله؛ لأن هذا ليس ثمناً.(396/37)
حكم ثمن كلب الصيد
السؤال
الشيخ الألباني رحمه الله تعالى صحح حديث: (نهى عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد)؟
الجواب
لا أدري عن صحته، لكن إذا صح فيستثنى، ومع ذلك فالأولى ألا يؤخذ له ثمن، ولا يقال: إنه حرام إذا صح، لكن الأولى والذي ينبغي أن الكلاب لا يؤخذ لها أثمان.
وما دام أنه جاء الاستثناء في شيء فإنه يوقف عنده، وكأن الحديث جاء بما يتعلق أن الكلاب تستعمل للحراسة وللزرع وللماشية وللصيد، فإذا جاء شيء يخص الصيد لا يلحق به، ويمكن إن صح هذا أن كلاب الصيد يتعب عليها ما لا يتعب على كلاب حراسة الزرع؛ لأن هذه فيها تعليم وتمرين على الصيد، وعلى الإمساك وعدم الأكل، وما إلى ذلك.
فإن صح فيقتصر عليه ولا يتجاوز إلى غيره، وفرق بين كونه يحتاج إلى الماشية والزرع، وبين كونه يحتاج إلى الصيد، فالأخير فيه تعب وتعليم، فإن صح فله وجه.
وهل يقاس عليها الكلاب التي تكتشف المخدرات ومهربيها؟ إذا صح الحديث في الصيد فالكلاب التي تمرن على اكتشاف المخدرات لا شك أنها تشبه كلب الصيد، وليست مثل كلب حراسة الزرع والماشية.(396/38)
حكم الانضمام لجماعة يبايع فيها أمير على السمع والطاعة
السؤال
عندنا جماعة في أحد البلدان الإسلامية مشتغلة بالدعوة إلى الله عز وجل، ولها أمير، والأفراد الذين تحت هذه الجماعة ملزمون ببيعة الأمير على السمع والطاعة في المنشط والمكره، على ما يحب ويكره، فهل هذا مشروع؟
الجواب
ليس هذا مشروعاً، وهذه الجماعة إذا احتاجت إلى وجود رئيس لها ومسئول عنها فلا يبايع، وهو مثل الأمير في السفر تماماً، وأمير السفر لا يبايع، وإنما يختار من أجل أن يكون مرجعاً لأصحابه، بحيث لو أراد أحد أن يذهب إلى مهمة، أو إلى جهة معينة، يستأذنه حتى يعرف أين ذهب، بخلاف ما لو لم يكن هناك أمير، فلعل كل شخص يمشي ولا يدري أحد عن أحد، لكن إذا جعلوا لهم أميراً، وصار يستأذن، وإذا أرادوا أن ينزلوا منزلاً رجعوا إلى رأيه، وإذا أرادوا أن يرتحلوا رجعوا إلى رأيه، فهذا لا بأس، وهذا من جنسه، وأما قضية البيعة فإنه لا يبايع إلا الإمام الذي يقيم الحدود، ويسمع له ويطاع بالمعروف.
أما أمير يبايعونه في الحضر على السمع والطاعة، فإن الحضر مثل السفر، ما دام أنه ليس إماماً وليس والياً، فلا بيعة، لا في الحضر ولا في السفر.(396/39)
معنى حديث (بايع إماماً)
السؤال
قوله: (ورجل بايع إماماً) في الحديث هل هو مطلق يشمل كل إمام، أم هو خاص بالإمام الأعظم؟
الجواب
المقصود الإمام الذي يكون بيده الأمر، سواء كان إماماً أعظم أو ولي مكاناً من الأرض، أو في جزء من الأرض واختص به يقوم بشئونه وهو المسئول عنه؛ لأنه لو كان لا يبايع إلا للإمام الأعظم كان لا يسمع ولا يطاع إلا إذا وجد إمام أعظم يملك الدنيا، ويتولى الأرض كلها، وهذا لا يكون، بل إن وجد فيسمع له ويطاع وإن كان في ناحية فإنه يسمع له ويطاع في المعروف.(396/40)
حك استخدام ماء الشرب في التطهر من النجاسة
السؤال
هل يجوز استخدام الماء الذي أوقف للشرب في غير الشرب، كأن يصيب الإنسان نجاسة، وهو محتاج لإزالتها فيستخدم هذا الماء؟
الجواب
إذا كان مضطراً إلى هذا فنرجو أنه لا بأس به؛ لأنه لا يمنع من مثل هذا في العادة.(396/41)
حكم حبس الطير
السؤال
ما توجيه حديث: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟)، فقد كان عنده طير وقد حبسه؟
الجواب
نعم حبسه؛ فيجوز حبسه مع الإحسان إليه وعدم إيذائه، وحبسها في أقفاص يترتب على ذلك نسيانها وإهمالها، فيعرض الإنسان نفسه للإثم، والحديث صحيح: (يا أبا عمير! ما فعل النغير) ولا يلزم أن هذا النغير محبوس في قفص، بل يكون مثل الدجاج الذي يكون في البيوت مرسلاً يذهب ويأتي ويأكل، بخلاف الذي يكون في القفص، فإنه قد يغفل عنه، وليس مطلقاً بحيث يذهب ويأكل مما في البيت، ففرق بين هذا وهذا.(396/42)
حكم إقامة أمير للجماعة دون بيعة
السؤال
هل يجوز أن يقام أمير للجماعة دون أن يبايع، ولكن يسمع له ويطاع دون بيعة؟
الجواب
كون الناس يعينون أميراً في السفر يسمع له ويطاع، فلا معنى له إذا لم يسمع له ويطاع، ويكون وجود الإمارة حينئذ مثل عدمها.(396/43)
حكم تعدد الجماعات الإسلامية
السؤال
هل يجوز وجود أكثر من جماعة في البلاد الإسلامية؟ وقد تتمسك بهذا الكلام الجماعات الإسلامية المنحرفة الموجودة في الساحة.
الجواب
الجماعات الإسلامية المنحرفة الموجودة هي قائمة، ولا تحتاج إلى أن تستفتي، بل هم يفتون أنفسهم، ولكن الكلام هو للذين هم على حق، وعلى سنة، فإذا وجدت الجماعات وصارت تدعو إلى باطلها، فمن حق الذين هم على حق وعلى سنة أن يجتمعوا، وأن يتعاونوا، وأن يجعلوا لهم جماعة، وأن يكون لهم شخص مسئول يرجعون إليه ينظم أمورهم، ويرتب شئونهم، فإذا وجدت هذه الأشياء فلا بأس أن توجد تلك الجماعة التي على حق، وإذا تركت الجماعة هذه لا يجتمعون ولا يتعاونون، فمعناه: أن الميدان صار للمنحرفين والمبطلين ولا مجال للصالحين فيه، فإذا وجد هذا التفرق، ووجدت الجماعات، وصار كل يقوم بالدعوة إلى ما عنده، وإلى ما هو عليه، فالذي ينبغي لمن هم على سنة أن يجتمعوا، وأن يتعاونوا، وأن يكون لهم رئيس يرجعون إليه، وينظم شئونهم, ويرتب أمورهم.(396/44)
حدود طاعة الأمير
السؤال
بعض طلبة العلم يستدلون بكلامكم السابق في عدم جواز البيعة، وأن هذا الأمير لا يبايع، بل يكون أميراً كأمير السفر، ويلزم من هذا أن طاعة الأمير واجبة في كل شيء، بل إذا أراد أحدهم السفر أو إقامة درس في منزله لا بد أن يوافق له الأمير وإلا عد عاصياً؟
الجواب
التنظيم كما هو معلوم لا بد منه، والفوضى ليست طيبة، فإذا اتخذت الجماعة أميراً أو مديراً أو رئيساً أو مسئولاً يرجعون إليه فهذا ينبغي أن يكون مبنياً على تنظيم، ومعلوم أن المقصود من ذلك التنظيم، وإلا فلو أن إنساناً قام بشيء أكثر مما جعل له لم يمنع، فإذا قيل مثلاً: أنت تؤدي محاضرتين في المكان الفلاني فليس معناه المنع من الزيادة على ذلك، ونحن كلامنا مع أهل السنة، فإذا كان الشخص قد نظم له محاضرتين وعنده استعداد لأن يزيد فلا مانع ولا يقال إن هذا فيه معصية؛ لأن المقصود هو النفع.(396/45)
حكم قتل الكلاب التي لا يستفاد منها
السؤال
هل يجوز قتل هذه الكلاب التي لا يستفاد منها؟ وهل تقتل بالسم مثلاً؟
الجواب
الكلاب التي فيها مضرة تقتل، والكلاب التي لا ضرر منها تترك ولا تقتل.(396/46)
حكم العمليات الانتحارية
كلام الملقي: هناك أسئلة وجهت لعدة مشايخ، منها سؤال لسماحة العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله نصه: بعض الجماعات تقر الجهاد الفردي مستدلة بموقف الصحابي أبي بصير، وتقوم بما يسمى بعمليات استشهادية، وأقول: انتحارية، فما حكم هذه العمليات؟ فأجاب الشيخ: كم صار لهم؟ السائل: أربع سنوات، فقال الشيخ ناصر: ربحوا أم خسروا؟ السائل: خسروا، فقال الشيخ ناصر: من ثمارهم تعرفون.
مسألة العمليات الاستشهادية هل هناك جيش إسلامي يقاتل في سبيل الله؟ وأجاب نفسه قائلاً:
الجواب
لا، ثم قال: حين يكون هناك جهاد قائم على الأحكام الشرعية له قائد هو الذي ينظم المعارك، وهو الذي يأذن بأن ينتحر فلان في سبيل القضاء على عدد من الكفار؛ فإن هذا الفعل يجوز، والآن هذا غير موجود، ولذلك يجب سد هذا الباب حتى نهيئ الجو الذي نوجد فيه خليفة أولاً، ونوجد قائداً يأتمر بأمر الخليفة، ونوجد جنداً يأتمرون بأمر القائد وهكذا ولذلك فلا بد من: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105].
إلى أن قال: هؤلاء الذين ينتحرون الله أعلم بعبادتهم الله أعلم بعاداتهم، قد يكون فيهم من لا يصلي وقد يكون شيوعيا.
إلى آخره.
لكن كلام الشيخ ناصر غير مستقيم؛ لأن قتل النفس لا يجوز، ولا يجوز أن يقدم الإنسان على شيء فيه قتل نفسه القتل المحقق فيكون قاتلاً لنفسه، وأما كونه يقتل في سبيل الله من غير أن يكون هو الذي قتل نفسه أو السبب في قتل نفسه فلا بأس، وكلام الشيخ ناصر فيه نظر، حتى ولو وجد الإمام.
كذلك وجه سؤال للشيخ ابن عثيمين فأجاب بقوله: الذي يجعل المتفجرات في جسمه من أجل أن يضع نفسه في مجتمع من مجتمعات العدو قاتل لنفسه، وسيعذب بما قتل به نفسه في نار جهنم خالداً فيها مخلداً، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن قتل نفسه بشيء أنه يعذب به في نار جهنم، وعجباً من هؤلاء الذين يقومون بمثل هذه العمليات وهم يقرءون قول الله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] , ثم يفعلون ذلك! هل يقصدون شيئاً؟! هل ينهزم العدو، أم يزداد العدو شدة على هؤلاء الذين يقومون بهذه التفجيرات؟ وكما هو مشاهد الآن في دولة اليهود حيث لم يزدادوا بمثل هذه الأفعال إلا تمسكاً بعنجهيتهم، بل إنا نجد أن الدولة اليهودية في الاستفتاء الأخير نجح فيها اليمينيون الذين يريدون القضاء على العرب، ولكن من فعل هذا مجتهداً ظاناً أنه قربة إلى الله عز وجل فنسأل الله تعالى ألا يؤاخذه؛ لأنه متأول جاهل.
وأما الاستدلال بقصة الغلام؛ فقصة الغلام حصل فيها دخول في الإسلام لا نكاية بالعدو؛ ولذلك لما جمع الملك الناس وأخذ سهماً من كنانة الغلام وقال: باسم الله رب الغلام؛ صاح الناس كلهم ربنا رب الغلام، فحصل به إسلام أمة عظيمة، فلو حصلت مثل هذه القصة لقلنا: إن هنالك مجالاً للاستدلال، والنبي صلى الله عليه وسلم قصها علينا لنعتبر بها، لكن هؤلاء الذين يرون تفجير أنفسهم إذا قتلوا عشرة أو مائة من العدو، فإن العدو لا يزداد إلا حنقاً عليهم وتمسكاً بما هم عليه.
أما سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ المفتي العام للملكة فقد قال: ما وقع السؤال عنه من طريقة قتل النفس بين الأعداء أو ما أسميته بالطرق الانتحارية فإن هذه الطريقة لا أعلم لها وجهاً شرعياً، ولا أنها من الجهاد في سبيل الله، وأخشى أن تكون من قتل النفس، نعم إثخان العدو وقتاله مطلوب، بل ربما يكون متعيناً، لكن بالطرق التي لا تخالف الشرع.
وقال الشيخ الدكتور صالح بن غانم السدلان: لا شك أن من يعرض نفسه للقتل المؤكد الذي يعلم ويجزم ويتيقن أنه بهذا الفعل ستزهق روحه وتخرج روحه ويعد في عداد الأموات، إذا كان متيقناً من هذا وفعله فإنه يعد قاتلاً لنفسه، وأما إذا كان الأمر مظنوناً كمن يدخل معركة يقاتل وربما يقتل والغالب أنه ينجو، ولكن قد يكون هذا الظن الضعيف يصدق فيقتل، فإن هذا لا يعد قاتلاً لنفسه، بل إذا كان في معركة في سبيل الله لإظهار الحق وإزهاق الباطل فإنه يعتبر شهيداً.(396/47)
ما جاء في ثمن الخمر والميتة(396/48)
شرح حديث (إن الله حرم الخمر وثمنها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ثمن الخمر والميتة.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب حدثنا معاوية بن صالح عن عبد الوهاب بن بخت عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم الخمر وثمنها، وحرم الميتة وثمنها، وحرم الخنزير وثمنه).
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في ثمن الميته والخمر، أي: في حكم ذلك، وأنه حرام؛ وذلك أن هذه الأعيان يحرم الانتفاع بها، فتكون أثمانها حراماً، والله تعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، فهي حرام وثمنها حرام، فلا يجوز استعمالها ولا بيعها واستعمال ثمنها؛ لأنها حرام وثمنها حرام.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم الخمر وثمنها)، فحرم الخمر وحرم الثمن الذي يكون في مقابلها، والشيء الذي حرمه الله حرم ثمنه، أي: لا يجوز بيعه ولا يجوز أخذ الثمن في مقابل ذلك الشيء المحرم.
(وحرم الميتة وثمنها) فالميتة حرام وثمنها حرام، (وحرم الخنزير وحرم ثمنه)، فهذه الأشياء يحرم استعمالها، وثمنها حرام، وأدواتها محرمة، وأثمانها محرمة، والله عز وجل إذا حرم شيئاً حرم ثمنه.(396/49)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الله حرم الخمر وثمنها)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري، ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عبد الله بن وهب].
عبد الله بن وهب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معاوية بن صالح].
معاوية بن صالح صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الوهاب بن بخت].
عبد الوهاب بن بخت ثقة أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي الزناد].
أبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعرج].
الأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج المدني، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أكثر السبعة حديثاً على الإطلاق رضي الله تعالى عنه وأرضاه.(396/50)
شرح حديث (إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة: (إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة؛ فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود! إن الله لما حرم عليهم شحومها، أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله كان يقول عام الفتح: (إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) , الميتة كما هو معلوم هي كل ما أزهق روحه من غير ذكاة، وإذا أزهقت بذكاة لا تكون ميتة، وهذا إنما يكون في مأكول اللحم، أما غير مأكول اللحم فذكاته لا تجعله غير ميتة بل هو ميتة ذكي أم لم يذك، وإنما الذي يأكل لحمه إذا لم يذك صار ميتة وإذا ذكي صار حلالاً.
والخمر كل ما خامر العقل وغطاه من أي شيء كان (ما أسكر كثيره فقليله حرام) وكل مسكر خمر، وكل خمر حرام على أي وجه كان وعلى أي حال كان، سواء كان سائلاً أو غير سائل، فكل ما فيه إسكار وتغطية وفقدان للعقل فإنه يكون حراماً قليله وكثيره، وما أسكر كثيره فقليله حرام؛ لأنه وإن لم يسكر فإنه وسيلة للمحرم.
والأصنام هي الأشياء المنحوتة، والتي كانت تعبد من دون الله عز وجل، فهي أيضاً محرمة وإن كانت من الحجارة، والحجارة في أصلها حلال إلا أنها على هيئتها تلك تكون حراماً، لكنها إذا كسرت وقطعت واستفيد من كسرها في بنيان وفي غير ذلك فلا بأس، وإنما المقصود إذا كانت على هيئتها وعلى كيفيتها تلك، أما إذا كسرت وحطمت وصارت قطعاً وكسراً واستعملت في بنيان وفي غيره فاستعمالها سائغ.
(فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة؟).
أي: أخبرنا عن شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، وتدهن الجلود، ويستصبح بها الناس، يعني: يستضيئون بها، مثل الزيت الذي يستضاء به، فقال: (لا.
هو حرام) فمن العلماء من قال: يرجع إلى البيع، ومعنى ذلك: أن الاستصباح وطلاء السفن سائغ، ومن العلماء من قال: إن ذلك يرجع إلى المسئول عنه، وإن الاستصباح به محرم، وكذلك طلاء السفن، ودهن الجلود، فيكون قوله: (لا.
هو حرام) أي: هذا الذي سئل عنه، فيكون هذا من أعمال الجاهلية التي كانت موجودة من قبل وحرمها الإسلام.
وقد اختلف العلماء في ذلك على قولين: منهم من قال بجواز الاستفادة منها في هذه الأمور، ومنهم من قال بتحريمها وهم الجمهور، يعني: قالوا بأن استعمال الشحوم في جميع الوجوه حرام كاستعمال الميتة، ولا يستثنى من الميتة إلا الجلد إذا دبغ كما جاء في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا دبغ جلد الميتة فإنه يطهر بالدباغ) وأما غير ذلك فهو باق على التحريم، ولا يخرج منه شيء.
قوله: (فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: لا هو حرام، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحوم الميتة أجملوها) أي أذابوها فباعوها وأكلوا أثمانها، وهذا تحيل واحتيال للوصول إلى الاستفادة من المحرم بتحويله من حال إلى حال، أي: من كونه شحماً إلى أن يصير ودكاً، وأنه تغير اسمه من كونه شحماً إلى كونه مذاباً يقال له: ودك، وهو حرام؛ لأنه لا يجوز استعماله وتحويله إلى أن يكون ودكاً فإنه يكون بذلك حراماً.
وأيضاً بيعه وإن كان شحماً محرم لأنه تابع للميتة، وكذلك بعد تحويله إلى ودك فهو أيضاً حرام، والله تعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، فهم جملوها أي أذابوها وباعوها، فأكلوا أثمانها، وهذه من الحيل التي يتوصل بها إلى الأمر المحرم.(396/51)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
الليث بن سعد المصري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن أبي حبيب].
يزيد بن أبي حبيب المصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن أبي رباح].
عطاء بن أبي رباح المكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(396/52)
شرح حديث (إن الله حرم بيع الخمر والميتة) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عاصم عن عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن أبي حبيب قال: كتب إلي عطاء عن جابر نحوه، ولم يقل: (هو حرام)].
أورد أبو داود حديث جابر، وهو مثل الذي قبله إلا أنه لم يقل: (هو حرام)، وإنما قال: لا.
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
محمد بن بشار الملقب بندار البصري وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة، وهو من صغار شيوخ البخاري، ومات قبل البخاري بأربع سنوات، فقد توفي البخاري سنة (256هـ)، ومحمد بن بشار توفي (252هـ)، وقد توفي معه في تلك السنة أيضا شيخان للبخاري وهما من صغار شيوخه، وهما أيضاً من شيوخ أصحاب الكتب الستة، وهما: محمد بن مثنى الملقب بـ الزمن، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، هؤلاء الثلاثة من صغار شيوخ البخاري، وقد ماتوا في سنة واحدة قبل وفاة البخاري بأربع سنوات.
[حدثنا أبو عاصم].
هو النبيل الضحاك بن مخلد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو من كبار شيوخ البخاري الذي يروي عنهم الثلاثيات.
[عن عبد الحميد بن جعفر].
عبد الحميد بن جعفر صدوق ربما وهم أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد بن أبي حبيب].
يزيد بن أبي حبيب مر ذكره.
[عن عطاء عن جابر].
مر ذكرهما.
ثبت عند الإمام أحمد في مسنده أن السؤال جاء: (أرأيت بيع شحوم الميتة) لكن الحديث كما في الصحيحين: أن شحوم الميتة تطلى به السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: هو حرام، ولو كان فيه ذكر بيع فإن تحريم الميتة يشمل كل أجزائها سواء شحمها أو لحمها، ولا يستثنى من ذلك إلا ما به جاء نص استثنائي، وهو الجلد إذا دبغ.(396/53)
شرح حديث (إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد أن بشر بن المفضل وخالد بن عبد الله حدثاهم المعنى عن خالد الحذاء عن بركة قال مسدد في حديث خالد بن عبد الله: عن بركة أبي الوليد ثم اتفقا: عن ابن عباس قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً عند الركن، قال: بصره إلى السماء فضحك، فقال: لعن الله اليهود -ثلاثاً- إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه) ولم يقل في حديث خالد بن عبد الله الطحان: رأيت، وقال: (قاتل الله اليهود)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم عند الركن قد رفع رأسه إلى السماء وضحك وقال: (قاتل الله اليهود! إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها)، وهو مثل الذي قبله.
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[أن بشر بن المفضل].
بشر بن المفضل ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وخالد بن عبد الله].
خالد بن عبد الله هو الطحان الواسطي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد الحذاء].
خالد بن مهران الحذاء ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة, والحذاء هذا لقب لُقب به خالد بن مهران، وقيل: إن سبب تلقيبه بالحذاء ليس على ما يتبادر للذهن من بيع الأحذية أو صنعها، وإنما كان يجالس الحذائين فقيل له الحذاء، وقيل: إنه كان يقول للحذاء: احذ على كذا، يعني: قص من الجلد على هذا النحو الذي رسمته، فقيل له الحذاء، فهو من الإضافة إلى أدنى ملابسة أو أدنى مناسبة، وهو كونه يجلس عند الحذائين.
[عن بركة].
بركة أبو الوليد ثقة أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(396/54)
شرح حديث (من باع الخمر فليشقص الخنازير)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا ابن إدريس ووكيع عن طعمة بن عمرو الجعفري عن عمر بن بيان التغلبي عن عروة بن المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من باع الخمر فليشقص الخنازير)].
أورد أبو داود حديث المغيرة بن شعبة: (من باع الخمر فليشقص الخنازير) وقيل معناه: أنه من باع الخمر مستحلاً لها فإنه كذلك يستحل الخنازير، وكل منهما محرم؛ فاستحلاله حرام، واستعماله حرام، فالتشقيص المقصود به الاستحلال، والمقصود: أن من استحل الخمر يستحل الخنزير، ومن استحل الخنزير استحل الخمر؛ لأن كل ذلك حرام، والحديث في إسناده رجل متكلم فيه، فهو ضعيف، ولكن كل من الخنزير والخمر محرمان وكذلك أثمانهما.(396/55)
تراجم رجال إسناد حديث (من باع الخمر فليشقص الخنازير)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي أخرج له في عمل يوم الليلة.
[حدثنا ابن إدريس].
ابن إدريس ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ووكيع].
وكيع بن الجراح الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن طعمة بن عمرو الجعفري].
طعمة بن عمرو الجعفري صدوق أخرج له أبو داود والترمذي.
[عن عمر بن بيان التغلبي].
عمر بن بيان التغلبي مقبول أخرج له أبو داود.
[عن عروة بن المغيرة بن شعبة].
عروة بن المغيرة بن شعبة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المغيرة بن شعبة].
رضي الله عنه، وحديثة أخرجه أصحاب الكتب الستة، والحديث في إسناده هذا المقبول.(396/56)
شرح حديث (حرمت التجارة في الخمر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن سليمان عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة قالت: لما نزلت الآيات الأواخر من سورة البقرة فقرأهن علينا وقال: (حرمت التجارة في الخمر)].
أورد أبو داود حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنه لما نزلت الآيات من أواخر سورة البقرة في الربا التي أولها: ((الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)) حرم الله التجارة بالخمر، فذكر تحريم الربا وتحريم الخمر وأخبر بتحريم هذا وتحريم هذا، فهو دليل على ما ترجم له من تحريم الخمر والميتة.(396/57)
تراجم رجال إسناد حديث (حرمت التجارة في الخمر)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان].
سليمان بن مهران الكاهلي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الضحى].
أبو الضحى هو مسلم بن صبيح ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسروق].
مسروق بن الأجدع ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحده من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(396/58)
شرح حديث (حرمت التجارة في الخمر) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش بإسناده ومعناه، قال: الآيات الأواخر في الربا].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى، وفيه بيان الآيات الأواخر أنها في الربا، وهو مثل الذي قبله إلا أنه ذكر الأعمش بلقبه، وفي الإسناد الأول ذكر باسمه، ومعرفة ألقاب أصحاب الأسماء فائدتها ألا يظن الشخص الواحد شخصين بمعنى: أنه يأتي باسمه مرة في إسناد ومرة بلقبه في إسناد، فيظن ظان أن هذا غير هذا فقد جاء مرة سليمان ومرة جاء الأعمش.
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية].
أبو معاوية محمد بن خازم الضرير الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.(396/59)
شرح سنن أبي داود [397]
أتى الشرع بالتحذير من بيع الطعام في مكانه الذي هو فيه قبل أن ينقل، بأن يتملكه المشتري ثم يبيعه، وإلا فهو تحايل على الربا ودخول في المحظور.(397/1)
ما جاء في بيع الطعام قبل أن يستوفى(397/2)
شرح حديث (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى، أي: يكال أو يحمل إذا كان صبرة أو كوماً من الطعام بدون كيل فإنه يحمله صاحبه وينقله من مكان البائع إلى مكانه، وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة تدل على أن الإنسان يحوز الشيء الذي يشتريه، وأكثر الأحاديث التي وردت في الطعام وردت على لفظ العموم، ومعناها: أن الإنسان لا يبيع شيئاً وهو عند البائع إلا بعد أن يدخل في ملكه ويقبضه، ولا يبيعه وهو في حوزة البائع قبل أن يقبضه.
والأمر ليس خاصاً بالطعام بل يعم غيره، وهذا فيما إذا كان المبيع في ملك ومكان البائع فيحول إلى مكان المشتري، لكن إذا باع البائع في مكان مشاع مشترك مثل أسواق الخضار والثمار حيث الناس يأتون بالبضائع ويجمعونها، ثم يبيع ويأخذ الثمن ويمشي، فهذا لا يحتاج إلى تحويل لأن الأرض ليست ملكاً للبائع، وإنما هي مشاعة مشتركة فيأخذ البائع نقوده ويمشي، ويبقى الذي اشتراه في مكان هو للناس جميعاً ليس خاصاً بأحد، وإنما الكلام في دكان البائع أو مستودعه أو مخزنه فإنه لا يبيعه على أحد إلا بعد أن يحوزه، أما مثل هذا فحيازته تخليته مثل حيازة العمارة والعقار إنما هو بالتخلية بينه وبينه.
(من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه) أي: ولا يبعه على شخص آخر حتى يستوفيه سواء كان يكال أو لا يكال.
بالنسبة للعقار إذا حصل اتفاق بين الناس بشهود أو بغير شهود يصح، لكن لما كثر الاختلاف بين الناس صارت الأمور تحتاج إلى توثيق، وإلى كتابات العدل وفي المحاكم حتى تثبت هذه الحقوق وحتى لا يحصل اختلاف أو شجار ونزاع بين الناس، والبيع يصح ولو لم يكن موثقاً إذا حصل شهود.(397/3)
تراجم رجال إسناد حديث (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة القعنبي أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الصحابي الجليل، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا الإسناد رباعي، وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(397/4)
شرح حديث (كنا في زمن رسول الله نبتاع الطعام فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن عمر أنه قال: (كنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتاع الطعام فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبعه، يعني: جزافاً)].
وهذا مثل الذي قبله أنه إذا بيع لابد أن ينقل، وأنه يكال إذا كان يكال، وهذا في الحديث السابق، وأما هنا فقد قال: فإنه ينقل من مكان البائع إلى مكان آخر للمشتري أو يودعه عند أحد، المهم أن يخرجه من مكان البائع.
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك].
مر في الذي قبله.(397/5)
شرح حديث (فنهى رسول الله أن يبيعوه حتى ينقلوه) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى عن عبيد الله أخبرني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كانوا يتبايعون الطعام جزافاً بأعلى السوق، فنهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه).
وهذا مثل الذي قبله.
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد الشيباني الإمام ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى].
يحيى بن سعيد القطان ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
عبيد الله بن عمر العمري المصغر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن ابن عمر].
وقد مر ذكرهما.
وستأتي الحكمة من ذلك النهي فيما بعد.(397/6)
شرح حديث (نهى أن يبيع أحد طعاماً اشتراه بكيل حتى يستوفيه) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب حدثنا عمرو عن المنذر بن عبيد المديني أن القاسم بن محمد حدثه أن عبد الله بن عمر حدثه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع أحد طعاماً اشتراه بكيل حتى يستوفيه)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر من طريق أخرى، وهو مثل ما تقدم.
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب حدثنا عمرو].
عمرو هو عمرو بن حارث المصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المنذر بن عبيد المديني].
المنذر بن عبيد المديني مقبول أخرج له أبو داود والنسائي.
[أن القاسم بن محمد].
القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر] عبد الله بن عمر مر ذكره.
والحديث فيه رجل مقبول لا يؤثر؛ لأنه مثل الحديث الأول، ومثل الأحاديث الأخرى التي هي بمعناه فهو ليس مستقلاً برواية الحديث، وإنما هو مشابه للطرق الأخرى التي هي بمعناه، ولا سيما أول حديث في الباب؛ فهو مطابق له.(397/7)
شرح حديث (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يكتاله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة قالا: حدثنا وكيع عن سفيان عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يكتاله)، زاد أبو بكر قال: قلت لـ ابن عباس: لم؟ قال: ألا ترى أنهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجى (أي: مؤجل)].
وهذا مثل الذي قبله، إلا أنه فيه بيان حكمة التحريم، وقال: ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجى، معناه: أن السلعة تبقى في مكانها، ويكون البيع بالذهب، وهذه الحركة إنما هي بالنقود، وأما الطعام فتروح وتغدو عليه عدة بيعات وهو في مكانه، وصارت القضية كأنها قضية بيع نقود بنقود مع التفاضل؛ لأن السلعة باقية في مكانها وتجري عدة بيعات والسلعة ما تحركت، فأصبحت المسألة بيع نقود بنقود مع التفاضل.(397/8)
تراجم رجال إسناد حديث (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يكتاله)
قوله: [حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة].
أبو بكر بن أبي شيبة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة، وعثمان أخوه مر ذكره.
[حدثنا وكيع].
وكيع مر ذكره.
[عن سفيان].
سفيان هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، إذا جاء وكيع يروي عن سفيان فالمراد به الثوري، وهو ثقة فقيه وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن طاوس].
هو عبد الله بن طاوس ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
طاوس بن كيسان ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.(397/9)
علة وجوب نقل السلعة قبل بيعها
تعليل ابن عباس رضي الله عنهما لا يفيد بعمومه سواء كان البيع في محل البائع أو كان المكان مشاعاً لأن العلة ليست واحدة؛ لأنه إذا باع السلعة وهي في مكانها فهو لم يقبضها، أما إذا كانت في حوزته فإنه يقبضه إياها؛ لأنها من قبل كانت عند البائع وهنا في حوزته، وقد كانوا يتبايعون والسلعة في مكانها، وأما إذا كانت في حوزته فباعها من غيره فهذا الغير لا يبيعها إلا إذا نقلها، والذي سيشتري منه لا يبيعها إلا إذا نقلها.
أما إذا كان المكان مشاعاً فلا إشكال؛ فإن الإنسان يأخذ النقود ويترك السلعة ويقبضها صاحبها، ثم يأتي الثاني ويبيعها للثالث، ويأخذ النقود، والثالث يبيعها للرابع، المهم أن السلعة مسلمة، ولا يسلم الشيء إلا بعد قبضه.
فإذا حصل القبض وكل أخذ حقه فلا يوجد أي محذور لأن هذا سائغ، وأما ذلك فلا يسوغ إلا إذا نقل، فإذا أعطاه ثمنه ونقله إليه جاز له أن يبيعه، ومن قبل النقل لا يجوز له البيع، وعليه أن ينتقل من مكان المشتري الأول لأي مكان آخر.
كذلك السيارات يحدث أنها تباع في نفس المكان بل بدون أن تركب عليها اللوحات، يحرج عليها ثم تملك ثم تباع في نفس المكان، لكن لابد من نقل كل شيء؛ إذ النقل ليس خاصاً بالطعام في الحديث، وسيأتي ما يدل على أن الأمر أعم وأوسع في حديث زيد بن ثابت وحديث حكيم بن حزام، والمعنى الذي في الكيل موجود في كل شيء، ولهذا جاء عن ابن عباس أنه يقاس غير الطعام عليه، والأحاديث دالة على العموم.(397/10)
شرح حديث (إذا اشترى أحدكم طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد وسليمان بن حرب قالا: حدثنا حماد ح وحدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة وهذا لفظ مسدد عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اشترى أحدكم طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه)، قال سليمان بن حرب: (حتى يستوفيه) زاد مسدد قال: وقال ابن عباس وأحسب أن كل شيء مثل الطعام].
أورد أبو داود حديث ابن عباس، وهو مثل ما تقدم، وفيه قول ابن عباس أن كل شيء مثل الطعام في الحكم، وأن غيره يقاس عليه، والقياس صحيح، ولكن قد جاءت أحاديث تدل على العموم في الطعام وغير الطعام، فحديث جابر: (من باع شيئاً فلا يبعه حتى يستوفيه) وحديث زيد بن ثابت أعم من أن يكون طعاماً أو غير طعام.(397/11)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا ابتاع أحدكم طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه)
قوله: [حدثنا مسدد وسليمان بن حرب].
مسدد ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
وسليمان بن حرب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد هو ابن زيد، وإذا جاء مسدد أو سليمان بن حرب يروي عن حماد غير منسوب فالمراد به حماد بن زيد، وإذا جاء موسى بن إسماعيل يروي عن حماد غير منسوب فالمراد حماد بن سلمة.
[ح وحدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة].
أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وهذا لفظ مسدد عن عمرو بن دينار].
عمرو بن دينار ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن طاوس عن ابن عباس].
وقد مر ذكرهما.(397/12)
شرح حديث (رأيت الناس يضربون على عهد رسول الله إذا اشتروا الطعام جزافاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: (رأيت الناس يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا الطعام جزافاً أن يبيعوه حتى يبلغه إلى رحله)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر أنه قال: (رأيت الناس يضربون إذا ابتاعوا الطعام جزافاً) يعني لا يبيعه إلا بعد أن يبلغه إلى رحله، بمعنى: أنه يحمله وينقله، وفي هذا الإشارة إلى أن المحتسب والمسئول عن مثل هذا يؤدب الناس، ولو كان ذلك بالضرب حتى يحملوه وينقلوه من مكان البائع إلى رحل المشتري أو إلى مكان آخر، ولا يلزم أن يؤديه إلى رحله؛ لكن المهم أن يقبضه وينقله من مكان البيع.(397/13)
تراجم رجال إسناد حديث (رأيت الناس يضربون على عهد رسول الله إذا اشتروا الطعام جزافاً)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيدالله بن شهاب الزهري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم].
سالم بن عبد الله بن عمر وهو ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر].
وقد مر ذكره.(397/14)
معنى قوله: (إذا اشتروا الطعام جزافاً)
ومعنى قوله: [جزافاً] أي بدون كيل، يعني: كوماً من التمر أو البر أو الشعير غير مكيل ولا يعرف مقداره، ومعلوم أنه يجوز شراؤه بالدراهم أو بالدنانير أو بالطعام من غير جنسه، أما إذا بيع بجنسه فلابد أن يتحقق التماثل ولا يجوز أن يباع جزافاً؛ وقد سبق أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل إذا بيع الطعام بطعام من جنسه وأنه لابد أن يعرف مقداره صاعاً بصاع، وأما إذا بيع بجنس آخر فيجوز التفاضل لكن بشرط التقابض.(397/15)
شرح حديث (نهى أن تباع السلع حيث تبتاع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عوف الطائي حدثنا أحمد بن خالد الوهبي حدثنا محمد بن إسحاق عن أبي الزناد عن عبيد بن حنين عن ابن عمر قال: (ابتعت زيتاً في السوق، فلما استوجبته -أي: صار في ملكي- لنفسي لقيني رجل فأعطاني به ربحاً حسناً، فأردت أن أضرب على يده، فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفت فإذا زيد بن ثابت فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم)].
أورد أبو داود حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه الذي فيه العموم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تبتاع السلع حتى يحوزها التجار -يعني: الذين اشتروا- إلى رحالهم، ولا يبيعونها في مكانها عند البائع، فهذا يفيد العموم، وأن الأمر لا يختص بالطعام، وأنه في عموم السلع سواء كانت سيارات أو حديداً أو غير ذلك.(397/16)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى أن تباع السلع حيث تبتاع)
قوله: [حدثنا محمد بن عوف الطائي].
محمد بن عوف الطائي ثقة أخرج له أبو داود والنسائي في مسند علي.
[حدثنا أحمد بن خالد الوهبي].
أحمد بن خالد الوهبي صدوق أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي الزناد].
أبو الزناد مر ذكره واسمه عبد الله بن ذكوان.
[عن عبيد بن حنين].
عبيد بن حنين ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر] ابن عمر مر ذكره.
ربما تكون الحكمة في النهي عن البيع قبل الحيازة ألا يحصل النزاع فيما لو حصل تلف للبضاعة.(397/17)
الأسئلة(397/18)
حكم استخدام العطور والأدوية المحتوية على الكحول
السؤال
جاء في عدد من الأسئلة السؤال عن العطور التي فيها كحول، وكذلك بعض الأدوية الطبية التي تستخدم الكحول والبنج للتخدير والتطهير، فهل تدخل في النهي؟
الجواب
كونه يوجد في أشياء بنسبة قليلة أو ضئيلة لا يؤثر ولا يمنع منه.(397/19)
حكم استخدام البنزين
السؤال
البنزين يسكر بالشم أو بالشرب فهل يعتبر حراماً؟
الجواب
حرام استعماله في الشرب، وأما أن يستعمل في الشيء الذي يستفاد منه فلا بأس، وهناك أشياء قد تستعمل في التغرية ويستفيدون منها، فكونها تستعمل وقد تسكر لا يقال: إنها حرام بل يجوز استعمالها في الشيء الذي وضعت من أجله، لكن لا يجوز استعمالها في الشيء الذي فيه مضرة.(397/20)
حكم بيع الخمر والخنزير من الكفار
السؤال
ما حكم بيع الخمر والخنزير على الكفار؟
الجواب
لا يجوز للمسلم أن يبيع الخمر والخنزير على أحد لا مسلم ولا كافر.(397/21)
حكم استخدام الميتة محنطة للزينة
السؤال
بالنسبة للميتة وتحنيطها ووضع مواد لتبقى على ما هي عليه واستخدامها للزينة، ما حكم ذلك؟
الجواب
لا ينبغي هذا؛ لأن هذا مع مرور الزمان يفتتن بها، ويعتقد فيها أمور محذورة ومحرمة كما حصل في الشرك الذي حصل في الأمم السابقة باتخاذ الصور وإبقائها، ثم طال الأمد فعبدوها.(397/22)
حكم بيع الميتة لمن يستفيد من دبغ جلدها
السؤال
ما حكم بيع الميتة لمن عُلِم أنه يستفيد من جلدها بعد أن يدبغها؟
الجواب
الميتة لا تباع، لكن إذا كان الإنسان عنده ميتة وأراد آخر أن يأخذ جلدها يمكنه من ذلك، أما الميتة فإنها لا تباع، ولو كان من أجل أن يأخذ جلدها لأن الجلد أبيح استعماله بعد دبغه، فإذا أخذها الإنسان واستعمل جلدها ودبغه فلا بأس، وأما كونه يبيع الميتة من أجل جلدها فلا.(397/23)
حكم لعب الأطفال
السؤال
ما حكم بيع لعب الأطفال ذوات الأرواح، هل تعتبر من الأصنام؟
الجواب
تعتبر من الصور المحرمة التي لا يجوز استعمالها وتعاطيها.(397/24)
حكم بيع الحمار الأهلي
السؤال
إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، فلماذا جاز الحمار وقد حرم الله أكله؟
الجواب
الحمار حرم الله أكله، ولكن أباح الله ركوبه واستعماله، فيباح بيعه وثمنه، واستعماله فيما أبيح وشرع استعماله فيه، وأما بيعه لذبحه وأكله فهو حرام، فهو محرم الأكل، ولكنه مباح الاستعمال، وإباحته إنما هي لركوبه واستعماله والحمل عليه، لا من أجل أكله.(397/25)
حكم بيع الخنازير لإطعامها للسباع
السؤال
بعض الناس يقوم باصطياد الخنازير ثم يبيعها للقائمين على حديقة الحيوانات كي يطعموها لحيوانات مثل السباع، فهل هذا فعل جائز؟
الجواب
لا يجوز بيع الخنزير.(397/26)
الحيل الشرعية
السؤال
ذكرتم أن بيع الشحم مذاباًَ من الحيل المحرمة، فهل هناك حيل جائزة؟
الجواب
هناك حيل جائزة، وابن القيم ذكر كثيراً منها في إعلام الموقعين، ومنها الحيلة التي حصلت من يوسف عليه السلام للحصول على أخيه كما ذكرها الله في القرآن، وكذلك أيوب عليه السلام عندما أمره الله أن يضرب زوجته بضغث فيه مائة شمراخ ليبر قسمه.(397/27)
حكم شراء العقار من بنوك لا تمتلكه إلا بعد اختياره من المشتري
السؤال
ما حكم شراء العقار من بعض البنوك بالتقسيط إذا كانت الشركة لا تملك العقار إلا إذا اختاره المشتري، ثم بعد ذلك تقسط الثمن عليه؟
الجواب
البائع إذا ملك السلعة أو العقار ودخل في ملكه وكان المشتري بالخيار -أي أن للمشتري أن يشتري من هذا البائع أو لا يشتري- ليس معناه أنه ملزم بالبيع بالكلام الذي جرى من قبل، فإذا كان البائع اشترى السلعة ودخلت في ملكه والذي يريد أن يشتريها ليس ملزماً فله أن يشتري وإلا فلا.(397/28)
حكم بيع السلعة في المكان الذي اشتريت منه
السؤال
إذا باع الشخص طعاماً في المكان الذي اشتراه فهل يصح البيع؟
الجواب
لا يصح البيع، والعقد باطل.(397/29)
حكم شراء السلعة وبيعها في مكانها في السوق
السؤال
يتم البيع الآن في سوق الخضار بطريقة المزايدة، فإذا رست البضاعة على أحد في السوق العام أخذها، ثم تبقى في مكانها، ثم يبيعها على المشترين، فهل هذا جائز؟
الجواب
المكان هنا ليس ملكاً لأحد، وإنما هو مكان مشاع توضع فيه البضائع ويبيعها البائعون ثم يقبضون أثمانها ويذهبون وتبقى في ذلك المكان العام؛ لأن هذا المكان ليس خاصاً بأحد فلا ينقلها إلى مكان؛ لأن النقل يجب إذا كان المكان ملكاً للبائع، وهذا مكان عام.
أما العلة التي ذكرها ابن عباس فعلى اعتبار أنه ما قبض، وأما هذا فقد قبض.
المهم هو النقل إن كان المكان خاصاً، أما إن كان عاماً فلا، والسوق ليس مكاناً لأحد حتى ينقل أو يحاز، وإنما البائع جاء لمكان مشاع كل يبيع فيه، ثم أخذ نقوده مقابل بضاعته ومشى، وذاك حل محله، ويمكن أن يأتي آخر فيأخذ النقود ويسلمه البضاعة، فإذا كان المكان مبذولاً لكل من يريد فالنقل ليس مطلوباً.(397/30)
دليل نقل البضائع المشتراة من محل البائع
السؤال
جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (كانوا يتبايعون الطعام في أعلى السوق ثم يبيعونه في مكانه، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينقلوه) فما توجيه قوله (أعلى السوق) علماً بأن السوق مكان عام مشترك؟
الجواب
لعله ليس مكاناً مشاعاً كأن يكون دكاكين.(397/31)
بيع السيارات في المعرض قبل النقل
السؤال
إذا بيعت السيارة في معرض من المعارض وبائعها غير صاحب المعرض، فهل يجوز أن يبيعها المشتري في مكانها؟
الجواب
المشتري لابد أن يحوزها ويخرجها من مكان الشراء.(397/32)
حكم بيع البضاعة على الورق
السؤال
إذا اشتريت بضاعة واستلمت فاتورة ثم بعتها قبل أن أستلم البضاعة، فما الحكم؟
الجواب
الورقة ليس لها قيمة والكلام عن البضاعة.(397/33)
انقسام الأسواق إلى مكان مشاع وغيره
السؤال
قلتم: إن البيع إذا كان في مكان مشاع فلا بأس أن يبيع شيئاً منه بعد ما اشتراه قبل نقله، وجاء في حديث ابن عمر الأخير أنه ابتاع زيتاً في السوق ومع ذلك نهاه زيد بن ثابت فما توجيه ذلك؟
الجواب
قوله: (في السوق) ليس معناه أنه في مكان مشاع؛ لأن السوق فيه دكان ونحوه.(397/34)
وجوب نقل السيارة المشتراة من المعرض قبل بيعها
السؤال
لماذا لابد أن تنقل السيارة من مكانها السابق مع أنها في مكان مشاع وهو الحراج؟
الجواب
الحراج مكان مملوك وكذا المعارض مملوكة، والمقصود أن يأخذها من مكان البيع إلى رحله أو إلى مستودعه.(397/35)
حكم قول الرجل لامرأته (أنت علي حرام)
السؤال
أثناء عودتي من العمل وجدت الزوجة تتكلم مع رجل أجنبي، فقلت لها: أنت علي حرام، مع العلم بأن هذه الزوجة تعاني من مرض نفسي، فما الحكم؟
الجواب
إن كان يريد الطلاق فإنه يكون طلاقاً وإن كان يريد أن يحلف عليها بذلك فعليه كفارة يمين كما جاء في القرآن في أول سورة التحريم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ) [التحريم:1] ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) [التحريم:2].(397/36)
حكم الاعتداء على حقوق الطبع والنسخ
السؤال
البعض يشتري برامج الكمبيوتر ويفك منها برنامج الحماية، ثم يقوم بنسخ هذه البرامج وبيعها بثمن قليل، مع أن النسخة الأصلية تباع بأسعار غالية، فهل هذا جائز؟
الجواب
على الإنسان أن يحافظ على حقوق الناس، وألا يعتدي عليها، ولو كان هو نفسه صاحب هذا الشأن فهل يوافق أن يعمل له هذا العمل؟ معلوم أنه لا يوافق، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي في صحيح مسلم، وهو ضمن حديث طويل: (فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه) يعني: يعامل الناس كما يحب أن يعامله به الناس.(397/37)
حكم بيع ما ليس ملكاً للشخص
السؤال
عندنا شركة تقوم ببيع مساكن عن طريق الإيجار، وتشترط دفع نسبة من المال مقدماً، مع العلم أنها لا تمتلك هذه المساكن، وإنما هو مشروع تزعم أنها ستنجزه بعد سنتين، فهل هذا العقد يدخل في بيع ما ليس عنده، أو بيع شيء مجهول؟
الجواب
الإنسان لا يبيع شيئاً كهذا، أما كونه يواعد أو يقول: أنا أريد هذا الشيء اجعلوا عندي خبراً حتى لا يفوتني إذا وجد؛ فلا بأس، أما أن يتم البيع على شيء لم يوجد فلا.(397/38)
ما جاء في الرجل يقول عند البيع لا خلابة(397/39)
شرح حديث (إذا بايعت فقل لا خلابة)
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يقول عند البيع لا خلابة.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر: (أن رجلاً ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بايعت فقل: لا خلابة، فكان الرجل إذا بايع يقول: لا خلابة)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: (باب في الرجل يقول عند البيع لا خلابة) أي: لا خديعة.
والمقصود من ذلك: أن الشخص قد لا توجد عنده خبرة أو معرفة أو فطنة في البيع، وأنه قد يخدع ويزاد عليه في السعر، وقد يكون عنده شيء من الغفلة، فهو عندما يذكر شيئاً يدل على حاله يجعل البائع على حذر من أن يقع في أمر لا يصلح ولا ينبغي، وأنه إن حصل منه خديعة فإنه سيترتب على ذلك رجوع المبيع إليه، وعدم بقاء البيع على ما هو عليه، هذا هو المقصود من الترجمة ومما جاء تحتها.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن رجلاً جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم وقال بأنه يخدع في البيع، فقال له: إذا بايعت فقل: لا خلابة، يعني: لا خديعة، فكان الرجل إذا بايع يقول: لا خلابة.
ويترتب على ذلك أن البائع يعرف وضع المشتري، وأنه إن حصل له شيء فيه ظلم أو غبن كبير فإن الأمر سيعود إلى ما كان، بحيث ترجع السلعة إلى بائعها ولا يستفيد من ذلك البيع شيئاً.
ثم (لا خلابة) هي التي جاءت في الحديث، وقد لا يفهم معناها عند الناس في كل زمان وفي كل وقت، لكن تقال الكلمة التي تؤدي معناها من قبل مثل ذلك الرجل، أي: يقول هذا الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ما يؤدي نفس المعنى مما يتعارف عليه الناس ويفهمه الناس، بأن يقول: أنا وضعي كذا فلا تخدعني، وإذا حصل بيع وترتب على ذلك غبن كبير فإن من حقي أن أرجع بسبب الغبن.(397/40)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا بايعت فقل لا خلابة)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن دينار].
عبد الله بن دينار ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد رباعي من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(397/41)
شرح حديث (فقل هاء وهاء ولا خلابة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبد الله الأرزي وإبراهيم بن خالد أبو ثور الكلبي المعنى قالا: حدثنا عبد الوهاب قال محمد: عبد الوهاب بن عطاء أخبرنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبتاع وفي عقدته ضعف، فأتى أهله نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله! احجر على فلان؛ فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن البيع، فقال: يا نبي الله! إني لا أصبر عن البيع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت غير تارك البيع فقل: هاء وهاء ولا خلابة).
قال أبو ثور: عن سعيد].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه في قصة رجل كان في عقدته ضعفاً، قيل معناه: إن في لسانه ضعفاً، وفي عقله ضعفاً، ولكنه ما وصل إلى حد أنه لا يعقل، بل هو يعقل لكن عنده شيء من الخلل في عقله ولسانه، فجاء أولياؤه أو أقاربه وقالوا: (احجر عليه) أي: امنعه من التصرف في البيع والشراء، فسأله، فقال له إنه لا يستطيع أن يصبر على البيع، فقد اعتاد البيع وألفه، وهو لا يصبر عنه.
فقال له: إذا كان الأمر كذلك فعندما تبيع فقل: هاء وهاء ولا خلابة، يعني: ادفع الثمن وخذ السلعة أو العكس، وقل: لا خلابة، كما في الحديث السابق الذي فيه إشارة إلى حال الإنسان وإلى ضعفه، وأنه إذا ترتب على ذلك خديعة فإن من حقه أن يعود على من خدعه مع ضعفه وعدم قدرته وتمكنه من أن يعرف ما هو أصلح وأنفع لنفسه.(397/42)
تراجم رجال إسناد حديث (فقل هاء وهاء ولا خلابة)
قوله: [حدثنا محمد بن عبد الله الأرزي].
محمد بن عبد الله الأرزي ثقة يهم أخرج له مسلم وأبو داود.
[وإبراهيم بن خالد أبو ثور].
إبراهيم بن خالد أبو ثور ثقة أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثنا عبد الوهاب قال محمد: عبد الوهاب بن عطاء].
عبد الوهاب بن عطاء صدوق ربما أخطأ أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا سعيد عن قتادة].
سعيد بن أبي عروبة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وقتادة بن دعامة البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو ثور: عن سعيد].
يعني قال في روايته: (عن سعيد)؛ لأن الأول قال: أخبرنا سعيد.
وإسناد الحديث كما هو معلوم فيه من هو صدوق، ولكن هو بمعنى الحديث السابق الذي فيه (لا خلابة) المتفق عليه من حديث ابن عمر.(397/43)
الحجر على السفيه
وفي الحديث جواز الحجر على من لا يحسن البيع لسفهه إذا كان يضيع المال، وأما إذا لم يكن وعنده شيء من الضعف فلا يحجر عليه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما حجر على هذا الذي جاء، ولكن من عرف فيه سفه لكونه يبذر ويفسد المال يحجر عليه بالتصرف في ماله، وينفق عليه منه، ولا يمكن من التصرف فيه لأنه يضيعه ويتلفه، وقد يكون كبيراً وقد يكون صغيراً، ويبدو أنه ليس بخاص بل هو عام في كل أحد.
وكما هو معلوم فإنه كلمة (لا خلابة) يقولها للبائع، لأن المقصود أن من يعامله يعرف حاله حتى لا يقع معه في أمر محذور، ثم يترتب عليه أن يعاد إليه البيع، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى هذا اللفظ الذي يعرفونه، ولكن الناس إذا كانوا لا يعرفون مثل هذا اللفظ وأتوا بشيء يؤدي معناه حصل المقصود، أو يقول: أنا لا توجد عندي خبرة فلا تخدعني أو يقول: لا خديعة، أو: لا تخدعني أنا هذا شأني وهذا حالي.(397/44)
شرح سنن أبي داود [398]
جاءت الشريعة بحفظ الضرورات الخمس ومنها الأموال فحرمت ما يضر به أو يضيعه، وأوجبت ما يطهره كالزكاة، وأجازت المعاملات التي تنميه وتباركه ما لم تكن من طريق حرام.
ومن ذلك بيع العربون، وبيع ما لا يملك، وسلف وبيع أو شرطان في بيع.(398/1)
ما جاء في العربان(398/2)
شرح حديث (نهى رسول الله عن بيع العربان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في العربان.
حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: قرأت على مالك بن أنس أنه بلغه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان) قال مالك: وذلك فيما نرى والله أعلم: أن يشتري الرجل العبد أو الدابة ثم يقول: أعطيك ديناراً على أني إن تركت السلعة أو الكراء فما أعطيتك لك].
أورد أبو داود هذه الترجمة (باب في بيع العربان)، وهو العربون، ومعناهما واحد، وهو الذي يقدمه الإنسان لسلعة ثم يترك ولا يواصل البيع، أو يقول لهم: إن أتيت لك بالباقي وإلا فإن العربان يكون لك.
هذا هو المقصود ببيع العربان.
وقد أورد فيه أبو داود حديثاً ضعيفاً لم يثبت؛ لأن فيه انقطاعاً فقد قال: بلغني، أي أن هناك وسائط محذوفة، وهو غير ثابت من حيث الإسناد، والعلماء اختلفوا في ذلك، فمنهم من قال باعتبار ذلك، ومنهم من قال بعدم اعتباره، والحديث لم يثبت عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(398/3)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى رسول الله عن بيع العربان)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: قرأت على مالك بن أنس أنه بلغه عن عمرو بن شعيب].
عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص صدوق أخرج له البخاري في جزء القراءة، وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
شعيب بن محمد صدوق أخرج له البخاري في جزء القراءة والأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن جده].
عبد الله بن عمرو بن العاص وهو جدهم جميعاً جد شعيب وجد ابنه عمرو، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(398/4)
دخول العربان في البيع والإجارة
[أن يشتري الرجل العبد أو يكاري الدابة].
يعني سواء كان عربوناً على بيع أو على استئجار.
وإذا أعطى البائع عربوناً على أنه إذا لم يتم البيع أعاد له العربون فهذا جائز، وليس فيه إشكال.(398/5)
ما جاء في الرجل يبيع ما ليس عنده(398/6)
شرح حديث (لا تبع ما ليس عندك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يبيع ما ليس عنده.
حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام أنه قال (يا رسول الله! يأتيني الرجل فيريد مني البيع ليس عندي فأبتاعه له من السوق؟ فقال: لا تبع ما ليس عندك)].
أورد أبو داود باباً في الرجل يبيع ما ليس عنده، أي: أنه ليس له ذلك، وإنما يبيع الشيء الذي يملكه وهو في حوزته، وأما الشيء الذي ليس عنده فلا يبرم الاتفاق عليه، ولكنه يقول إن لم يكن عنده: أنا أبحث لك، وإن وجدت جئتك به، أما كونه يجري الاتفاق معه ويتم البيع بينه وبينه وهو ليس في حوزته وليس في ملكه فهذا ممنوع، وأما إذا لم يحصل اتفاق، ولكنه قال: أنا ليس عندي وسأبحث عنه فإن وجدته أتيتك به، ويكون الاتفاق بعد الحضور؛ فهذا لا بأس به، وإنما المحذور أن يتفق معه وليس المبيع بحوزته، فيبيعه شيئاً لا يملكه، والإنسان لا يبيع إلا ما يملك وما هو عنده وفي حوزته وتحت تصرفه.
أورد أبو داود حديث حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه أنه قال: يأتيني الرجل يشتري مني الشيء فلا يكون عندي فأشتريه له ثم أبيعه له، أي: فهو يتفق معه ثم يذهب يبتاعه ويبيع عليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبع ما ليس عندك) لأنه قد يجري البيع ثم يبحث عن المبيع ولا يجد، فمعناه: أنه أبرم على غير أساس وعلى شيء غير موجود، وقد لا يحصل، فليرجئ البيع حتى يتم الملك، وحتى يوجد الشيء الذي يباع.(398/7)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تبع ما ليس عندك)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو عوانة].
أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بشر].
أبو بشر هو جعفر بن إياس المشهور بـ ابن أبي وحشية وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يوسف بن ماهك].
يوسف بن ماهك ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حكيم بن حزام].
حكيم بن حزام رضي الله عنه صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.
إذا أراد البيع وقال: سآتيك بالسلعة وهي ليست عنده، فلا يفعل، ولكن إذا وعده وقال: سآتيك بها ثم يكون البيع، فلا بأس.
لكن الواقع أن بعض المحلات التجارية إذا طلبت منه السلعة وليس عنده يمهل المشتري ويحضرها له من جاره ويبيعها له، ثم فيما بعد يحاسب جاره على قيمتها، وكون المشتري يعلم بأن الشيء ليس عنده وسيحضره من غيره وهو يجب أن تكون الأغراض التي اشتراها من مكان واحد دفعة واحدة؛ هذا لا بأس به إذا كان هكذا، أما كونه يحاسبه ويتفق معه ويأخذ منه النقود والسلعة غير موجودة فهذا هو الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (لاتبع ما ليس عندك) أما كونه يقول عن أشياء: ليست عندي لكن سأذهب لآتي لك بها من جاري أو من غيري، فيجلس وينتظره فهذا لا بأس، وكونه لا يحاسب جاره إلا فيما بعد لا فرق.
أما كونه يعطيه المال من أجل أن يشتري له سلعة موصوفة في ذمته فجائز، وهذه وكالة.(398/8)
شرح حديث (لا يحل سلف وبيع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زهير بن حرب حدثنا إسماعيل عن أيوب حدثني عمرو بن شعيب حدثني أبي عن أبيه حتى ذكر عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم تضمن، ولا بيع ما ليس عندك)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل سلف وبيع) ولعل المقصود بالسلف القرض، فيقول: أبيعك هذه السلعة على أن تقرضني كذا، فيكون هذا البيع معه قرض، والقرض جر نفعاً، وقد أجمع العلماء أن على كل قرض جر نفعاً فهو ربا، فيكون هذا القرض قد بني على بيع، ويترتب على هذا الشرط أنه حصلت فائدة بسبب القرض، فيكون ذلك من قبيل الربا المحرم، أو من قبيل البيع على أن يسلفه بشيء غائب إلى أجل.
(ولا شرطان في بيع) قيل المراد بالشرطين مثل بيعتين في بيعه، أو صفقتين في صفقة، فيكون محرماً.
وأما الشروط الفاسدة فغير معتبرة قلت أو كثرت، والمقصود: شرطان ليسا من قبيل ما هو محرم ولا من قبيل ما هو جائز، وإنما من قبيل اجتماع شيئين في شيء واحد؛ بأن تكون بيعتان في بيعة، فيكون هذا مثالاً لما يدخل تحت هذا البيع، أو مثل العينة بأن يقول: أشتري منك هذه السلعة بثمن مؤجل, وأبيعها عليك بثمن معجل أقل، فيكون أيضاً من قبيل بيعتين في بيعة، فيكون الشرطان الممنوعان ما كانا من هذا القبيل.
وأما إذا كانت الشروط صحيحة لا محذور فيها فلا بأس، وإذا كانت الشروط فاسدة فقليلها وكثيرها ممنوع لا يجوز، وإنما المقصود الذي يكون من هذا القبيل.
(ولا ربح ما لم تضمن) يعني: كون الإنسان يربح شيئاً هو غير ضامن له لو تلف، بل يتلف على حساب غيره، وذلك لأن الربح تابع للضمان، إذ إن الغرم بالغنم.
وأما ربح ما لم يضمن، مثل الإنسان الذي يشتري السلعة ثم يتركها عند البائع، فلو ضاعت أو تلفت كانت على حساب البائع؛ لأنها بحوزته ما سلمت، فإذا باعها الذي اشتراها قبل أن يقبضها وربح فيها فمعناه أنه ربح في شيء هو غير ضامن له.
(ولا بيع ما ليس عندك) هو الذي مر في حديث حكيم بن حزام.(398/9)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يحل سلف وبيع)
قوله: [حدثنا زهير بن حرب].
زهير بن حرب أبو خيثمة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وقد أخرج له مسلم كثيراً، وهو الشيخ الثاني بعد أبي بكر بن أبي شيبة من حيث كثرة الأحاديث؛ لأن مسلماً خرج لـ أبي بكر بن أبي شيبة ألفاً وخمسمائة حديث، وخرج لـ أبي خيثمة زهير بن حرب ألفاً ومائتي حديث، وهو مكثر عنهما، ولكن إكثاره عن أبي بكر بن أبي شيبة أكثر من إكثاره عن أبي خيثمة زهير بن حرب.
[حدثنا إسماعيل].
هو ابن علية ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب].
أيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب عن أبيه].
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مر ذكرهم.
في السند عمرو بن شعيب قال: حدثني أبي عن أبيه حتى ذكر عبد الله بن عمرو، كأن المقصود به عن أبيه الذي هو جده؛ لأن الجد أب.(398/10)
معنى قوله (ولا شرطان في بيع)
قوله: (ولا شرطان في بيع) هو مثل بيعتين في بيعة؛ لأن بيعتين في بيعة هي بمعنى الشرطين في بيع، مثل أن يقول: هو حاضر بكذا وغائب بكذا، ثم يأخذه دون أن يعين، فصار كأنه دخل في أمرين مبهمين لم يعين واحداً منهما، ولو عين واحداً منهما زال الإشكال، لو دخل على أنه حاضر ناجز يكون حاضراً ناجزاً، وإن دخل على أنه غائب ومؤجل وبالتقسيط يكون دخل على أنه غائب، لكن كونه دخل على الإبهام صار بمثابة بيعتين في بيعة أو صفقتين في صفقة أو شرطين في بيع.
قال الخطابي: ولا فرق بين أن يشترط عليه شيئاً واحداً أو شيئين؛ لأن العلة في ذلك كله واحدة وذلك لأنه إذا قال: بعتك هذا الثوب بعشرة دراهم على أن تقصره لي, فإن العشرة التي هي الثمن تنقسم على الثوب وعلى أجرة الإقصار.
اهـ.
ولكن هذا لا بأس به وليس فيه محذور، وكون الإنسان يشتري منه ويقول: قصره أو اعمل فيه كذا أو كمله لا بأس بذلك ومادام أن البائع سيتولى تكميله على الصورة التي يريدها فلا بأس بذلك.
قال الخطابي: وإذا صار الثمن مجهولاً بطل البيع، وكذلك هذا في الشرطين وأكثر، وكل عقد جمع تجارة وإجارة فالسبيل في الحساب هذا السبيل.
اهـ.
على كل: تفريق الصفقة معروف, ويمكن أن يحصل البيع بشيئين وتتفرق الصفقة، بأن يكون هذا له ما يستحقه وهذا له ما يستحقه.
فإذا جاء إنسان عنده القماش وهو الخياط واتفق معه على أن يعطيه قماشه وأجرة خياطته بكذا فلا بأس، كما لو باعه شيئاً جاهزاً وثوباً كاملاً يستفيد منه على الوجه الذي يريد، فمثل ذلك لا بأس به.(398/11)
ما جاء في شرط في بيع(398/12)
شرح حديث قصة بيع جمل جابر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في شرط في بيع.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى -يعني: ابن سعيد - عن زكريا حدثنا عامر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (بعته -يعني: بعيره- من النبي صلى الله عليه وآله وسلم واشترطت حملانه إلى أهلي -قال في آخره-: تراني إنما ماكستك لأذهب بجملك؟! خذ جملك وثمنه فهما لك)].
أورد أبو داود: (باب في شرط في بيع)، ومعلوم أن الشرط في بيع إما أن يكون صحيحاً وإما أن يكون غير صحيح، فإن كان صحيحاً فالبيع صحيح والشرط صحيح، وإن كان غير صحيح فيفسد الشرط ويبقى البيع، مثل قصة بريرة واشتراط أهلها الولاء لهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أقر البيع وألغى الشرط؛ لأنه شرط باطل، وعلى هذا فالشروط إما أن تكون صحيحة -سواء كانت شرطاً واحداً أو أكثر- فهي معتبرة، وإن كانت غير صحيحة فهي فاسدة وغير معتبرة.
أورد أبو داود حديث جابر في قصة بيعه جمله من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا في طريقهم إلى المدينة، وكان قد أعيا وصار وراء الجيش، فالنبي صلى الله عليه وسلم ضربه ودعا له، فصار يسبق غيره، والرسول قال: (بعنيه بكذا، فباعه إياه واشترط ظهره إلى المدينة)، أي: أن يستمر راكباً عليه إلى المدينة، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم عندما وصل المدينة وأراد أن يسلمه الثمن قال: (تراني ماكستك) يعني لما قال: بعنيه بكذا، بعنيه بكذا, (لآخذ جملك! خذ جملك ودراهمك)، فأعطاه الدراهم التي اتفق معه عليها، وأعطاه الجمل الذي اشتراه منه صلى الله عليه وسلم.
والحاصل: أن الشرط الصحيح معتبر، والشرط الفاسد غير معتبر.
[واشترطت حملانه إلى أهلي].
يعني: أن يركبه إلى أن يصل إلى المدينة؛ لأنه اشتراه في الطريق.
قال في آخره: (تراني إنما ماكستك لأذهب بجملك).
أي: ترى أنني لما قلت: بعني بكذا بعني بكذا أريد أن أحصل على جملك برخص, خذ جملك ودراهمك.
فأعطاه الدراهم وأعطاه الجمل صلى الله عليه وسلم.(398/13)
تراجم رجال إسناد حديث قصة بيع جمل جابر
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى -يعني: ابن سعيد -].
يحيى بن سعيد القطان البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زكريا].
زكريا بن أبي زائدة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عامر عن جابر].
عامر بن شراحيل الشعبي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(398/14)
شرح سنن أبي داود [399]
الخراج بالضمان قاعدة عظيمة من قواعد المعاملات المالية، فالمشتري يضمن المبيع، وله ما انتفع منه إلى حين إرجاع المبيع بالعيب؛ لأنه لو تلف المبيع ما بين مدة العقد أو الفسخ لكانت من ضمان المشتري فوجب أن يكون الخراج من حقه.
وهذا من شمول دين الإسلام واهتمامه بحقوق الناس.(399/1)
ما جاء في عهدة الرقيق(399/2)
شرح حديث (عهدة الرقيق ثلاثة أيام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في عهدة الرقيق.
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان عن قتادة عن الحسن عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عهدة الرقيق ثلاثة أيام).
حدثنا هارون بن عبد الله حدثني عبد الصمد حدثنا همام عن قتادة بإسناده ومعناه، زاد: إن وجد داء في الثلاث ليال رد بغير بينة، وإن وجد داء بعد الثلاث كلف البينة أنه اشتراه وبه هذا الداء.
قال أبو داود: هذا التفسير من كلام قتادة].
أورد أبو داود باباً في عهدة الرقيق، وهو العبد المملوك الذي يباع ويشترى، فإذا اشترى عبداً يمهل ثلاثة أيام، فإن وجد فيه عيباً فإنه يرده بدون أن يكون هناك بحث، وإن كان بعد ذلك كلف المشتري البينة أنه اشتراه وبه هذا الداء.
وهذا تفسير من بعض الرواة، ولكن الحديث غير صحيح، وما ثبت في هذا شيء.
لكن ينظر في العيب فإن كان قديماً رد، وإن كان جديداً طارئاً لم يرد, أعني أن فيه التفصيل: فقد يظهر العيب وعليه أثر الجدة وأنه طارئ, وقد لا يكون كذلك, فالشيء الذي حدث في ملك المشتري لا يرجع به على البائع، وأما الشيء الموجود من قبل فهذا هو الذي يمكن يرجع به على البائع.
وهل تلزم البينة؟ إن كانت البينة موجودة فلا إشكال؛ لكن قد لا توجد البينة في هذا, والعيوب منها ما يظهر بالنظر إليه ويعلم حداثته، ومنها ما لا يظهر.(399/3)
تراجم رجال إسناد حديث (عهدة الرقيق ثلاثة أيام)
قوله: [قال حدثنا مسلم بن إبراهيم].
مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبان].
أبان بن يزيد العطار ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
الحسن بن أبي الحسن البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عقبة بن عامر].
عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة، والإشكال فيه من ناحية رواية الحسن عن عقبة، قيل: إنه لم يسمع منه، فيكون مرسلاً.
[حدثنا هارون بن عبد الله].
هارون بن عبد الله الحمال البغدادي ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثني عبد الصمد].
عبد الصمد بن عبد الوارث العنبري صدوق أخرج أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا همام].
همام بن يحيى العوذي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة بإسناده ومعناه].(399/4)
العيب الذي يرد به العبد
ومثال للعيب الذي يرد به العبد: كونه فيه شيء يمنعه من العمل، كألم في ظهره, فهذا لا يستفاد منه، وليس كل داء يكون عيباً، فهناك أشياء يسيرة -مثل الدمل أو ما إلى ذلك- لا تؤثر.
ولا يمكن العمل بحديث العربان أو حديث عهدة الرقيق، ولا يغتر بما ورد عن الإمام أحمد: الحديث الضعيف أحب إلي من رأي الرجال؛ لأن قصد الإمام أحمد بالحديث الضعيف هو الذي ينجبر ويكون حسناً لغيره، أما الضعيف أصلاً فلا يعول عليه ولا يعمل به، لأن وجوده مثل عدمه.(399/5)
ما جاء فيمن اشترى عبداً فاستعمله ثم وجد به عيباً(399/6)
شرح حديث (الخراج بالضمان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن اشترى عبداً فاستعمله، ثم وجد به عيباً.
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا ابن أبي ذئب عن مخلد بن خفاف عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الخراج بالضمان)].
أورد أبو داود هذه الترجمة فيمن اشترى عبداً فاستعمله ثم وجد به عيباً، فهذا الاستعمال الذي حصل قبل أن يظهر عيبه، هل يدفعه المشتري للبائع أم لا؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان)، يعني: فكما أن المشتري لو تلف تلف على حسابه، فإذاً: هذه الاستفادة منه إنما تكون في مقابل الضمان.
والخراج هو الفائدة والأشياء التي تحصل من وراء العبد في مقابل الضمان، يعني: لو تلف تلف على حسابه.
إذاً: له الغنم الذي هو الخراج، كما أن عليه الغرم الذي هو الضمان, لأنه لو تلف لكان من ضمانه؛ لأنه تلف في ملكه وتحت يده فلا يستحق البائع أن يعطى مقابل الاستخدام؛ لأن الخراج بالضمان كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: والخراج بالضمان.(399/7)
تراجم رجال إسناد حديث (الخراج بالضمان)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن أبي ذئب].
هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مخلد بن خفاف].
مخلد بن خفاف مقبول أخرج له أصحاب السنن.
[عن عروة].
عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(399/8)
شرح حديث (الخراج بالضمان) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمود بن خالد حدثنا الفريابي عن سفيان عن محمد بن عبد الرحمن عن مخلد بن خفاف الغفاري قال: كان بيني وبين أناس شركة في عبد فاقتويته وبعضنا غائب، فأغل علي غلة، فخاصمني في نصيبه إلى بعض القضاة، فأمرني أن أرد الغلة، فأتيت عروة بن الزبير فحدثته، فأتاه عروة فحدثه عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الخراج بالضمان)].
أورد الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله.
قوله: [كان بيني وبين أناس شركة في عبد فاقتويته].
أي: استخدمته واستفدت منه، ويدخل في ذلك الأرض إذا استعملها ووجد فيها عيباً فردها، وكذلك الماشية، فلا فرق بين العبد وغير العبد، مع العلم أن الماشية ينفق عليها مع كونه ضامناً لها أيضاً، فكما أنه يحلبها مثلاً فيستفيد ومن حليبها فهو يطعمها علفاً, فإذاً: هناك فائدة وهناك أيضاً ما صرفه عليها، لكن العبد كما هو معلوم يمكن أن يعمل فتحصل الفائدة من ورائه، لكن القضية مبنية على كونه مضموناً عليه لو هلك.
أما المصراة فإن الرسول حكم بردها ومعها صاعاً من تمر، ولا يوجد فيها خراج بالضمان؛ لأن فيها تثليثاً, والرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه المهلة لمدة ثلاثة أيام، إن رضيها بقيت وبقي الأمر على ما هي عليه، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر، وإذا تلفت المصراة خلال الثلاثة أيام فإنه يضمنها؛ لأنه ما عرف أنها مصراة إلا بعدما حلبها.
وقوله: [كان بيني وبين أناس شركة في عبد فاقتويته].
أي أنه حصل خلاف في أن الخراج بالضمان، فرجعوا إلى عروة بن الزبير فحدثهم بالحديث؛ لأن القاضي أراد أن يحكم بغير ما جاء في قصة الخراج والضمان فرجعوا إلى عروة فبين أن حكم الرسول صلى الله عليه وسلم أن الخرج بالضمان.
[فأغل علي غلة، فخاصمني في نصيبه إلى بعض القضاة، فأمرني أن أرد الغلة، فأتيت عروة بن الزبير فحدثته، فأتاه عروة فحدثه].
لأنه لا يستحق أن يرد عليه شيئاً.
[فحدثه عن عائشة عليها السلام].
هذه اللفظة غريبة وغالباً ما تأتي عند ذكر فاطمة فيقال: عليها السلام، وهذا من عمل النساخ مثلما قال ذلك ابن كثير في تفسير قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] فقال: إنه يأتي في بعض الكتب (فاطمة عليها السلام أو علي عليه السلام، أو الحسن عليه السلام) وقال: هذا من عمل نساخ الكتب، وليس من عمل المصنفين والمؤلفين, فعندما ينسخ الكتاب شخص يأتي عند ذكر الآل فيقول: (عليه السلام)، وإلا فإن الصحابة يعاملون معاملة واحدة، أما جبريل فيقال (عليه السلام)، والكلام هو على تخصيص بعض الصحابة دون بعض.(399/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (الخراج بالضمان) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا محمود بن خالد].
محمود بن خالد الدمشقي ثقة أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الفريابي].
هو محمد بن يوسف الفريابي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عبد الرحمن] هو ابن أبي ذئب ذكر هناك منسوباً إلى جده، وهنا ذكر باسمه واسم أبيه.(399/10)
شرح حديث (الخراج بالضمان) من طريق ثالثة وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن مروان حدثنا أبي حدثنا مسلم بن خالد الزنجي حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً ابتاع غلاماً فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم، ثم وجد به عيباً فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرده عليه، فقال الرجل: يا رسول الله! قد استغل غلامي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الخراج بالضمان).
قال أبو داود: هذا إسناد ليس بذاك].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى عن عروة عن عائشة وهو مثل الذي قبله، وقال: إسناده ليس بذاك، يعني أن فيه شخصاً متكلماً فيه، وهو مسلم بن خالد الزنجي، ولكن يشهد لهذه الطريق تلك الطريق.
قوله: [حدثنا إبراهيم بن مروان].
إبراهيم بن مروان الطاطري صدوق أخرج له أبو داود.
[حدثنا أبي].
مروان بن محمد الطاطري ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا مسلم بن خالد الزنجي].
مسلم بن خالد الزنجي صدوق كثير الأوهام، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثنا هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة عن عائشة].
وقد مر ذكرهما.(399/11)
الأسئلة(399/12)
الأحكام الشرعية المترتبة على خداع البائع
السؤال
ماذا يترتب على البائع المخادع من أحكام شرعية إن ثبت خداعه؟
الجواب
معلوم أن من حصل منه الخداع فإنه يحصل له الإثم، وإذا ترتب على خداعه أكل أموال الناس بالباطل فيكون الأمر أشد وأخطر.
أما إذا كان في البيع غبن فاحش فلا شك في جواز رد السلعة.
ومن صور الخداع ما يصنعه بعض التجار عندما يستوردون سلعاً قد استوردها غيرهم, ثم يأتونهم فيشترون منهم سلعتهم ويدفعون لهم عربوناً بغرض تعطيلهم عن البيع حتى يبيعوا هم بالسعر الذي يريدونه، ثم يتخلون عن العربون اليسير الذي دفعوه؟(399/13)
حكم استقراض السلعة لبيعها
السؤال
إذا جاء المشتري وطلب مني سلعة فقلت له: انتظر حتى أذهب إلى أحد المحلات وآخذ منه السلعة، على أن أردها له بعد أن أحصل عليها، وأبيعها للمشتري؟
الجواب
لا بأس، فكأنه أخذها قرضاً.(399/14)
حكم الاتفاق على السعر دون قبض الثمن
السؤال
إذا اتفقت مع المشتري على سعر، ثم قلت: سوف آتيك بالسلعة, وهي ليست عندي، ولم أقبض منه الثمن لكني اتفقت معه على السعر؟
الجواب
إذا تم البيع فهذا لا يجوز، أما إن قال له: الأسعار هي كذا وكذا ولا يوجد عندي، ولكن إن وجدت عند غيري جئتك بها فلا بأس، لكن كونه يتم الاتفاق والسلعة غير موجودة، فهذا هو الذي أتى في الحديث: (لا تبع ما ليس عندك).(399/15)
حكم استقراض الذهب لبيعه
السؤال
كثير من أصحاب الذهب تقول له: أريد كذا وكذا، فيقول: انتظر فيذهب ويأتي به من المحل الثاني، ثم يبيعه، ثم يدفع للمحل الذي اشترى منه؟
الجواب
لا بأس مادام أنه ما تم بينهما بيع, فكونه ذهب وأتى بشيء من جاره أو من محل آخر، ثم جرى البيع بينهما فلا بأس، وإنما المحذور أن يكون قد جرى بينه وبين المشتري البيع، ثم ذهب ليأتي به.(399/16)
حكم قول الحاذق في البيع لا خلابة
السؤال
هل للمبتاع الذي يعرف البيع أن يقول: لا خلابة؟
الجواب
من كانت لديه خبرة في البيع فلا حاجة إلى أن يقول هذا الكلام.(399/17)
حكم التبايع بالعينة للجاهل
السؤال
ماذا يعمل من بايع بالعينة من غير أن يعلم الحكم؟
الجواب
العقد فاسد سواء علم الحكم أو لم يعلم، لكن الإنسان الذي يقدم على الشيء وهو يعلم أنه محرم لا شك أن هذا على خطر كبير، والشاعر يقول: إن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم(399/18)
جريان النهي عن بيع ما ليس عنده في كل شيء
السؤال
بيع ما ليس عنده هل يجري في كل شيء حتى في العقارات؟
الجواب
نعم يجري في كل شيء بلا فرق.(399/19)
حكم أخذ الثمن وتحويل المشتري على بائع آخر
السؤال
بعض المحلات التجارية إذا لم تكن عنده السلعة يتصل على جاره, فإذا علم أنها موجودة عند جاره أخذ المبلغ من المشتري وأعطاه ورقة يحوله إلى جاره ليأخذ منه السلعة، ثم هو يحاسب جاره فيما بعد؟
الجواب
هذا يبدو أنه لم يبع ما ليس عنده.(399/20)
جواز الاتفاق على سعر لسلعة غير موجودة
السؤال
هل يجوز أن أقول: ليس عندي، ولكن أتصل وأسأل الشركة الموزعة, ثم يسألهم فيقولون: عندنا, فيقول: أبيعه لك بكذا, فهل أطلبه لك من الشركة أو لا؟
الجواب
هذا ليس به بأس.(399/21)
حكم دفع الثمن معجلاً في وكالات قطع الغيار
السؤال
بعض شركات قطع غيار السيارات لها فروع فإذا طلبت القطعة من أحد هذه الفروع قال لك: ادفع الثمن، وبعد أيام ستأتينا طلبية من الشركة الأصلية؟
الجواب
إذا كان الشيء غير موجود، وطلب منهم إحضاره فهذا ليس فيه بأس، وكونه يعطيهم من أجل أن يحضروا له القطعة وسعرها معروف، وهو موكل لهم، فهذا يعتبر بمثابة الوكالة.(399/22)
حكم تعليق التأجير بشرط شراء المتاع
السؤال
ذهبت لأستأجر شقة من شخص كان مستأجراً لها من صاحب المنزل، فاشترط علي شراء ما في الشقة من متاع لكي أستأجرها، فهل هذا جائز؟
الجواب
لا بأس بهذا.(399/23)
مثال للبيع من دون ضمان
السؤال
هل هناك مثال للبيع دون ضمان؟ كمن عنده سلعة حاضرة يعطيها هذا الشخص، فيكون باع شيئاً هو ضامن له، وإذا أخذه فإنه سيتلف على حسابه؛ لأنه قبل البيع على ضمان البائع وبعد البيع يكون على ضمان المشتري، وإنما الشيء الذي ليس فيه ضمان فهو مثل أن يبيع السلعة قبل قبضها.(399/24)
ما تفسد به العقود من الشروط
السؤال
بعض العلماء قال: إن المقصود بـ: (ولا شرطان في بيع) أنه إذا اجتمع شرطان فاسدان في بيع فإنهما يفسدان العقد، أما لو كان شرطاً واحداً فاسداً فإن هذا الشرط لا يفسد العقد؟
الجواب
هذا غير واضح؛ لأن الشرط قد يفسد العقد من أصله ولو كان واحداً، ولا يلزم أن العقد لا يفسد من أصله إلا إذا وجد شرطان فاسدان.(399/25)
ما جاء فيما إذا اختلف البيعان والمبيع قائم(399/26)
شرح حديث (فهو ما يقول رب السلعة أو يتتاركان)
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب إذا اختلف البيعان والمبيع قائم.
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي عن أبي عميس أخبرني عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث عن أبيه عن جده أنه قال: اشترى الأشعث رضي الله عنه رقيقاً من رقيق الخمس من عبد الله رضي الله عنه بعشرين ألفاً، فأرسل عبد الله إليه في ثمنهم، فقال: إنما أخذتهم بعشرة آلاف، فقال عبد الله: فاختر رجلاً يكون بيني وبينك، قال الأشعث: أنت بيني وبين نفسك، قال عبد الله: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فهو ما يقول رب السلعة أو يتتاركان)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب إذا اختلف البيعان والمبيع قائم]، أي: أن السلعة موجودة لم تستهلك، فما الحكم؟ أورد أبو داود رحمه الله حديث عبد الله بن مسعود الذي فيه أنه باع على الأشعث رقيقاً بعشرين ألفاً, ولما جاء يتقاضاه الثمن قال: إن له عشرة آلاف، وكان الاختلاف في قيمة المبيع هل هي عشرون أو عشرة؟ فـ ابن مسعود يقول: إنها عشرون، والأشعث يقول: إنها عشرة، فقال عبد الله: اختر رجلاً يكون بيني وبينك نتحاكم إليه، فقال: أنت بيني وبين نفسك، فروى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع أو يتتاركان) أي: أنهما يتفقان على إنهاء العقد وأن السلعة ترجع إلى صاحبها، وأن القول قول البائع مع يمينه، ويدفع المشتري المقدار الذي ادعاه البائع وهو عشرون ألفاً.
وذكر (والسلعة قائمة) جاء في بعض الطرق من طريق رجل متكلم فيه، ولكنه يمكن أن يكون مفهوماً من قضية المتاركة؛ لأن المتاركة معناها أن السلعة ترجع إلى صاحبها، وهذه إنما تكون حيث تكون قائمة موجودة، والحديث يدل على أن القول قول البائع، وإذا قيل: القول هو قول البائع فإنه يكون مع يمينه.(399/27)
تراجم رجال إسناد حديث (فهو ما يقول رب السلعة أو يتتاركان)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
محمد بن يحيى بن فارس الذهلي ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عمر بن حفص بن غياث].
عمر بن حفص بن غياث ثقة ربما وهم أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا أبي].
حفص بن غياث ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عميس].
هو عتبة بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث].
عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث مجهول الحال أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبيه].
وهو مقبول أخرج له أبو داود.
[عن جده].
مقبول وهو أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن عبد الله بن مسعود].
عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(399/28)
شرح حديث (فهو ما يقول رب السلعة أو يتتاركان) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا هشيم قال أخبرنا ابن أبي ليلى عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه أن ابن مسعود رضي الله عنه باع من الأشعث بن قيس رضي الله عنه رقيقاً فذكر معناه، والكلام يزيد وينقص].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله إلا أن فيه زيادة ونقصاً.
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا هشيم].
هشيم بشير الواسطي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن أبي ليلى].
هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى صدوق سيء الحفظ جداً أخرج له أصحاب السنن.
[عن القاسم بن عبد الرحمن].
القاسم بن عبد الرحمن ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن مسعود].
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مر ذكره.
إذاً فالطريقان يؤيد بعضهما بعضاً فيكون حجة.(399/29)
شرح سنن أبي داود [400]
لقد بين الشرع جميع الأحكام التي يحتاجها العباد في دنياهم وأخراهم، فلم يفرط في شيء، ومن ذلك أحكام الشفعة في العقارات والأراضي والطرقات، والموجب للشفعة دفع الضرر بسوء المشاركة، كذلك فيما يتعلق بأحكام الإفلاس وما يتبع ذلك من أخذ الحقوق، وكذلك إذا وجد المسلم بهيمة حسيرة قد سيبها أهلها فله أن يأخذها يتملكها بذلك وحكمها حكم اللقطة، إلا إذا كان صاحبها تركها مهلكة.(400/1)
ما جاء في الشفعة(400/2)
شرح حديث (الشفعة في كل شيء ربعة أو حائط)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الشفعة.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الشفعة في كل شرك ربعة أو حائط، لا يصلح أن يبيع حتى يؤذن شريكه؛ فإن باع فهو أحق به حتى يؤذنه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب في الشفعة, والشفعة هي استحقاق الشريك حصة شريكه إذا باعها على رجل آخر، فإنه يستحق انتزاعها بالقيمة التي باعها شريكه على غيره؛ وذلك من أجل رفع الضرر، فقد يحصل في اختلاف الشركاء من يكون سيء المعاملة فيترتب على ذلك ضرر، وقد يشتري بعض الناس حصة شريك مشاعة من أجل أن يضار غيره، فشرعت الشفعة من أجل ذلك، فيمكن أحد الشريكين أن ينتزع حصة شريكه التي باعها على رجل آخر بالقيمة التي اتفق عليها.
فالشفعة حق أعطي للشريك، وهذا فيما إذا كان مشاعاً ولم يتميز نصيب كل منهما، وأما إذا تميز وقسمت الأرض التي بين الشريكين وعرف كل حدوده وأرضه فإنه في هذه الحالة لا شفعة؛ لأن الاشتراك قد ذهب وصار نصيب كل واحد معلوماً متميزاً ولا يقال: إنه شريك، فإذا قسمت الأرض ووضعت الحدود وصرفت الطرق فعند ذلك لا شفعة.
ويستحق الشريك الشفعة بالسعر الذي اشترى به المشتري، وقد جاء في أكثر الأحاديث التي جاءت في الشفعة أنه: (إذا وضعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة)، فهذا يكون في العقار والأراضي، فبعض أهل العلم قصر الحكم في ذلك على الأراضي؛ لأنه جاء فيها ذكر التقسيم والحدود والطرق، وبعض أهل العلم عمم الحكم حتى في المنقولات التي يكون فيها الاشتراك؛ لأن الضرر الذي يكون في الثابت غير المنقول يكون أيضاً في المنقول، كشخصين لهما سيارة يعملان عليها بالأجرة، ثم إن أحد الشريكين باع حصته، فبعض أهل العلم قال: لا شفعة فيها؛ لأن الأحاديث التي وردت إنما وردت في الطرق والأراضي والعقار التي لم تقسم ولم يعرف كل واحد منهما نصيبه، لكن قد جاء ما يدل على العموم كما في حديث عن جابر رضي الله عنه: (الشفعة في كل شيء) عند الطحاوي وذكره الحافظ في البلوغ، وقال: إن رجال إسناده ثقات، وهو يدل على عموم الحكم في الثابت والمنقول؛ لأن المحذور يكون في الاشتراك في الأرض، وكونه يأتينا شريك جديد، ومثله إذا كانوا شركاء في سيارة أو دابة، فإن المحذور الذي يكون في الأرض موجود في مثل المنقولات، وعلى هذا فالشفعة ثابتة في كل شيء، سواء في الثابت أو المنقول.
وأورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه قال: (الشفعة في كل شرك ربعة أو حائط) يعني: منزل أو بستان، (لا يصلح أن يبيعه حتى يؤذن شريكه) أي: ينبغي على الشريك أن يخبر شريكه، فلا يبيعه بدون علمه، وإنما يخبره بأنه سيبيع، فإذا كان يريد أن يشتريها اشتراها، فمن حسن المعاملة، ومن الأخلاق الكريمة، ومن حسن معاملة الشريك لشريكه أنه عندما يريد أن يبيع أن يخبره؛ حتى يكون على علم، وإن باع فإن الشريك له الحق في أن ينتزع حصة الشريك من شريكه الذي انتقلت إليه، (لا يصلح أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن باع فهو أحق به حتى يؤذنه) فإن باع فهو أحق به أي: الشريك الذي لم يبع أحق بحصة الشريك البائع، (حتى يؤذنه)، فإذا علم بأن البيع قد تم وحصلت الشفعة بعد علمه مباشرة فإنها تنفذ، وأما إذا علم وترك ثم أراد أن يشفع فيما بعد فإن ذلك لا يمكنه؛ لأنه لو كان الأمر كذلك فإنه يمكن الشريك الذي لم يبع أن يأتي في أي لحظة بعد أن تمضي مدة طويلة إلى المشتري الذي اشترى من شريكه فيقول له: أنا شفعت، فالشفعة مقيدة بالعلم، وعند بلوغ الخبر إليه بأن البيع قد تم فإن ترك الشفعة، أو لم يذكر أنه شفع، أو لم يخبر بأنه شفع، أو يشهد على أنه شفع وأنه قد أعلمه، ولكنه ترك حتى مضت مدة فيسقط حقه في الشفعة؛ لأن إعطاءه الفرصة بدون تحديد لا شك أن فيه مضرة على المشتري الذي اشترى من شريكه.(400/3)
تراجم رجال إسناد حديث (الشفعة في كل شيء ربعة أو حائط)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسماعيل بن إبراهيم].
هو إسماعيل بن إبراهيم بن علية ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
هو أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما صحابي ابن صحابي وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(400/4)
حكم الشريك إذا رفع السعر بالاتفاق مع المشتري ليضر شريكه
معلوم أن الشفعة قد تحصل وقد لا تحصل فليست محققة؛ لأن الشريك قد لا يشفع، فكونه يصير مقصوداً من أجل الإضرار بالشريك والشريك يعلم أن الشريك يرغب في ذلك فلا شك أن هذا لا يسوغ ولا يجوز، وكونه يؤخذ بالشيء الذي تم به البيع فإنه يؤخذ بذلك، وإذا كان قد زاد في السعر وحصل إضرار فإن الذي حصل منه ذلك الإضرار آثم، وصنيعه يشبه صنيع النجش وهو الزيادة في السلعة ممن لا يريد شراءها، فإنه يكون آثماً والبيع صحيح.(400/5)
شرح حديث (فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة)].
أورد أبو داود حديث جابر من طريق أخرى، وفيه قال: (إنما جعل رسول الله الشفعة في كل ما لم يقسم) يعني: في الشيء المشاع، وأما ما قد قسم وعرف كلّ نصيبه فلا شفعة فيه؛ لأنه لا اشتراك إذا حصلت القسمة وعرف كلّ نصيبه، فقد انتهت الشركة فلا شفعة، إلا أن يكون هناك شيء مشترك بينهما كالطريق كما سيأتي في الحديث، فإن الاشتراك في الطريق أيضاً يترتب عليه استحقاق الشفعة مادام أن القسمة ما وجدت، فوجود طريق مشترك يدخل على المحلين وعلى القطعتين، فهذا الاشتراك الذي في الطريق يفيد حصول الشفعة؛ لأن الضرر يحصل أيضاً في الدخول والخروج وبالاشتراك في الطريق الذي هو خاص بهما، فإذا لم يوجد شيء يربط بينهما، وكل استقل بنصيبه وليس هناك اشتراك في الأرض ولا في الطريق فلا شفعة.
فقوله: (إنما جعل رسول الله الشفعة في كل ما لم يقسم)؛ لأن الشريكين حقهما مشاع، وكل واحد حقه غير متميز، وكل جزء من الأرض لكل منهما فيه نصيب حتى تقسم ويعرف أن هذا لهذا وهذا لهذا.
(فإذا وضعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة)، أي: عند ذلك تزول الشركة، والأحاديث التي وردت في الشفعة إنما هي فيما يقسم من العقار، وجاء في حديث جابر: (الشفعة في كل شيء)، وهذا عام يشمل العقار وغير العقار, وهذا مثال للقاعدة المشهورة التي يقولون فيها: الحكم على بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصص العام؛ لأن (الشفعة في كل شيء) عام يشمل العقار وغير العقار، وقد جاءت نصوص خاصة في العقار لا تخصص العام، بل العام باق على عمومه، وإنما الذي حصل هو أن ذلك الخاص جاء مرتين، مرة داخل تحت اللفظ العام، ومرة منصوص عليه على سبيل الاستقلال، فمن القواعد التي يذكرها الفقهاء: أن الحكم على بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصص العام، فحديث جابر عند الطحاوي: (الشفعة في كل شيء) يدخل فيها المنقول والعقار، ثم جاءت نصوص خاصة بالعقار، فهذه النصوص الخاصة في العقار لا تخصص العام ويقال: إن الحكم مقصور عليها، بل الحكم على العموم، يكون هذا الذي نص عليه بخصوصه ليس مخصصاً، وإنما هو بعض أجزاء العام فيكون منصوصاً عليه مرة على سبيل الاستقلال، ومرة على سبيل الاندراج تحت اللفظ العام.(400/6)
تراجم رجال إسناد حديث (فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة بن عبد الرحمن].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر رضي الله عنه مر ذكره.(400/7)
شرح حديث (إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا الحسن بن ربيع حدثنا ابن إدريس عن ابن جريج عن ابن شهاب الزهري عن أبي سلمة أو عن سعيد بن المسيب أو عنهما جميعاً, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو مثل حديث جابر في أن الشفعة فيما لم يقسم، وأنه إذا قسمت الأرض وحدت وكل عرف حدوده وتميز حقه عن حق صاحبه فإنه لا شفعة.
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا الحسن بن الربيع].
الحسن بن الربيع ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن إدريس].
هو عبد الله بن إدريس ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج عن ابن شهاب عن أبي سلمة أو عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة، وأحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[أو عنهما جميعاً].
وهذا لا يؤثر، وواحد منهما يكفي.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق.(400/8)
شرح حديث (الجار أحق بسقبه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا سفيان عن إبراهيم بن ميسرة سمع عمرو بن الشريد سمع أبا رافع رضي الله عنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الجار أحق بسقبه)].
أورد أبو داود حديث أبي رافع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجار أحق بسقبه)، هذا الحديث يوردونه في كتاب الشفعة، ومن العلماء من قال بشفعة الجار، ومنهم من قال: إنه لا يكون له شفعة إلا إذا كان هناك اشتراك في أمر آخر غير الأرض، وهو الطريق أو مسيل الماء يكون لهما جميعاً، أو غير ذلك من الأمور المشتركة التي يحصل النزاع فيها لو بقيت، فقيل: إن المراد (بسقبه) بره وإحسانه، وأن الجار يحسن إلى جاره، وعلى هذا يكون لا علاقة له بالشفعة، ومنهم من يقول: إن المراد بذلك الشفعة، ولكن الأحاديث التي وردت في أنه: (إذا وضعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) تدل على أنه لا شفعة، اللهم إلا أن يكون هناك اشتراك في أمر آخر غير الاشتراك في الأرض، ويحصل بسببه الخلاف والنزاع، فعند ذلك تصير الشفعة لا من أجل الجوار, ولكن من أجل الاشتراك في مثل الطريق الذي سيأتي ذكره في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(الجار أحق بسقبه)، يعني: حصول الشفعة، وفسر بأن المقصود به البر والإحسان، وأن الجار أحق بإحسان جاره وببره ومعروفه، ومعلوم أنه قد جاءت السنة في نصوص كثيرة في الحث على الإحسان إلى الجار، وثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).(400/9)
تراجم رجال إسناد حديث (الجار أحق بسقبه)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا سفيان].
هو ابن عيينة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم بن ميسرة].
إبراهيم بن ميسرة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن الشريد].
عمرو بن الشريد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي فقد أخرج له في الشمائل.
[عن أبي رافع].
أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
ولو كان الجزء المشترك بين القطعتين هو سور واحد فلا يحق للجار أن يشفع، مادام وضعت الحدود فيوضع جدار آخر في الوسط، ويفصل حق هذا من هذا.(400/10)
شرح حديث (جار الدار أحق بدار الجار أو الأرض)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (جار الدار أحق بدار الجار أو الأرض)].
أورد أبو داود حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قال: (جار الدار أحق بدار الجار أو الأرض) يعني فيما يتعلق بالشفعة، وإذا كان كل شيء متميز فالأمر كما جاء في الأحاديث السابقة: (إذا وضعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) , ولكنه يكون من مكارم الأخلاق، فكون الجار يعرض على جاره ويخبره حتى ولو كان ليس له شفعة من أجل أنه إذا أراد أن يتوسع في هذه الأرض المجاورة أو في هذا البيت المجاور له، ولعله يستفيد منه، فهذا من الأمور الطيبة التي ينبغي أن تكون بين الجيران.(400/11)
تراجم رجال إسناد حديث (جار الدار أحق بدار الجار أو الأرض)
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
أبو الوليد الطيالسي هشام بن عبد الملك ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
الحسن بن أبي الحسن البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سمرة].
سمرة رضي الله عنه، وقد أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
والحديث من رواية الحسن عن سمرة، ولكنه موافق للحديث الذي مر: (الجار أحق بسقبه).(400/12)
شرح حديث (الجار أحق بشفعة جاره)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم أخبرنا عبد الملك عن عطاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً)].
وهذا حديث جابر رضي الله عنه أن: (الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها ولو كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً).
قوله: (إذا كان طريقهما واحداً) فيه بيان أن الشفعة تكون مع الجوار ومع تميز حق كل واحد منهما؛ وذلك لحصول الاشتراك في الطريق؛ لأن الاشتراك في الطريق أيضاً يؤدي إلى الخصومات والمنازعات، كما كان يؤدي الاشتراك في الأرض المشاعة إلى ذلك، فالشيء المشاع هو المشترك بين الجارين، والطريق لهما جميعاً فهذا يعطي حق الشفعة، فالذي تثبت فيه الشفعة للجار هو الشيء الذي يشتركان فيه ويؤدي إلى الخصومات والنزاع لو جاء شخص جديد، وأما إذا كان متميزاً وليس هناك اشتراك لا في طريق ولا في غير طريق فإن الشفعة لا تثبت، وقد مر في الأحاديث: (فإذا وضعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة).
قوله: (ينتظر بها وإن كان غائباً) معناه أن حقه ثابت ولو كان غائباً بحيث إنه إذا جاء أو علم فإن له حق الشفعة ولو ما مضى عليها وقت، والمهم أنه من حين يعلم فعليه أن يشفع إن كان يريد الشفعة.
وأما إذا لم يعلم الشريك أن شريكه قد باع، وكان قد باع منذ فترة طويلة، فإن له أن يشفع حتى ولو كان في ذلك ضرر على المشتري، وأما إذا علم فليس له حق، وأما إذا وجد بنيان فقد يكون هذا سبباً في عدم الرغبة في الشفعة، ولكن الآن كما هو معلوم سهولة الاتصالات تبسط الأمر، ويمكن أن يعلم الإنسان أو يتصل به، فإن شفع فالحمد لله، وإن لم يشفع بقيت البيعة لمن هي له.
والمشتري قبل أن يتصرف حتى لا يقع في محذور ويقع اختلاف يتصل بالشخص ويقول: إني اشتريت فإن شفع انتهى، وإن لم يشفع بقي البيع على ما هو عليه.(400/13)
تراجم رجال إسناد حديث (الجار أحق بشفعة جاره)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم].
هشيم بن بشير الواسطي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا عبد الملك].
عبد الملك بن أبي سليمان صدوق له أوهام أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عطاء عن جابر].
عطاء بن أبي رباح ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وجابر مر ذكره.(400/14)
ما جاء في الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده(400/15)
شرح حديث (أيما رجل أفلس فأدرك الرجل متاعه بعينه فهو أحق به من غيره)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك ح وحدثنا النفيلي حدثنا زهير المعنى عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمر بن عبد العزيز عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (أيما رجل أفلس فأدرك الرجل متاعه بعينه فهو أحق به من غيره)].
أورد أبو داود: باب في الرجل يفلس فيجد متاعه بعينه عنده، يعني: فيكون أحق به من الغرماء؛ لأن المفلس عندما يكون عنده عدة غرماء دائنون، ثم يجد أحدهم متاعه في حوزته فإنه يكون أحق به ولا يكون مشتركاً بينه وبين الغرماء؛ لأن الغرماء لهم حق الاشتراك فيما يكون في حوزة المدين المفلس الذي ليس عنده شيء، لكن إذا كان أحد الغرماء نفس متاعه موجود بعينه فهو أحق به ولا أحد يشاركه فيه فيأخذه ويختص به، ولا يكون أسوة الغرماء.
وأورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أيما رجل أفلس فأدرك الرجل متاعه بعينه فهو أحق به من غيره).
قوله: (أيما رجل أفلس) يعني: وعنده غرماء وقد وجد أحد الغرماء متاعه عند المفلس فهو أحق به من غيره، ولا يقول الشركاء: لنا فيه نصيب، فيباع ويقسم قيمته علينا, لا؛ فإن هذا يختص به صاحبه؛ لأن العين التي يستحقها صاحبها موجودة بعينها؛ فإنه يأخذها ولا يشاركه فيها غيره، ولا يوافق الشركاء على طلبهم أن لهم فيه نصيباً باعتبارهم غرماء.
ثم المفلس هو الذي ليس عنده شيء, أو أن عنده أشياء تافهة وهي الفلوس, والفلوس هي أقل شيء في العمل فليست من ذهب ولا فضة، ولكنها مثل القروش أو الأشياء التي ليست لها قيمة، فيقال ذلك للمفلس الذي ليس عنده شيء، أو لأنه نزل مستواه إلى أن صار من أصحاب الفلوس التي هي الأشياء التافهة البسيطة وفي هذا يقول الشاعر: لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلس يعني: تقدم لشرائها لهبوط قيمتها، فقد صارت تباع بالفلوس التي هي الأشياء التافهة التي تكون بأيدي الذين ليس عندهم شيء، (حتى سامها) أي: تقدم لشرائها كل مفلس؛ لأنها قد أصابها هزال حتى بدا من هزالها كلاها، أي: طلعت كلاها مع الجوانب حتى تقدم المفلسون لشرائها؛ لأن مستواها نزل حتى صارت تشترى بالأشياء التافهة، ولهذا يقال للذي عنده الفلوس مفلس، وهي الجزئيات اليسيرة التي هي دون الذهب والفضة، والنبي صلى الله عليه وسلم في الحديث قال: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع)، أي: ليس عنده شيء, فالرسول صلى الله عليه وسلم بين المفلس حقاً، وهو أشد إفلاساً من هذا وهو مفلس الآخرة (يأتي بصلاة وزكاة وصيام وحج، ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، فيعطى لهذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من سيئات من ظلمهم فطرح عليه ثم طرح على النار).(400/16)
تراجم رجال إسناد حديث (أيما رجل أفلس فأدرك الرجل متاعه بعينه فهو أحق به من غيره)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، وأحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا النفيلي حدثنا زهير].
النفيلي مر ذكره وزهير هو ابن معاوية ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[المعنى عن يحيى بن سعيد].
يحيى بن سعيد الأنصاري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم].
أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر بن عبد العزيز].
عمر بن عبد العزيز هو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بكر بن عبد الرحمن].
أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.(400/17)
شرح حديث (وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئاً، فوجد متاعه بعينه فهو أحق به، وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء)].
أورد أبو داود هذا الحديث وهو مرسل عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن الإنسان إذا ابتاع شيئاً ثم أفلس المشتري, فوجد متاعه بعينه فهو أحق به من الغرماء، وأنه إن مات فإنه يكون أسوة الغرماء؛ لأنه صار ميراثاً، فحالة الحياة غير حالة الموت، فإذا وجده والمشتري حي فإنه أحق به، وأما إذا كان قد مات فإنه يعتبر الذي خلفه ميراثاً ويكون أسوة الغرماء، ومعلوم أن الدين مقدم على الميراث والوصية، فهو لا يكون ميراثاً إلا بعدما يخرج الدين والوصية.
وقوله: (أسوة الغرماء) يعني: أنهم يستحقون الاشتراك فيه بعد موته، ولعل الفرق بين حالة الحياة وحالة الموت: أن حالة الحياة صاحبه لا يزال يمكنه أنه يعمل ويوفي، وأما إذا مات فقد انتهى الأمر.
وقد ذكر الخطابي رحمه الله مسألة: إذا ما دفع بعض الثمن، وذكر قولين في ذلك، قال: ذهب مالك إلى جملة ما في الحديث، وقال: إن كان قبض شيئاً من ثمن السلعة فهو أسوة الغرماء.
والذي يبدو أنه إذا كان قبض الثمن أو شيئاً من الثمن فهو أسوة الغرماء؛ لأن الحق لم يبق كما هو فهو ليس كله حقه بل هو بعض حقه، وهذا من أمثلة القاعدة التي مرت: أن الحكم على بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصص العام، فالأول مطلق: (من وجد متاعه)، وليس فيه تقييد بأنه بيع؛ لأنه قد يكون اشتراه على أنه قرض, أو أقرضه هذه السلعة على أن يرد سلعة مكانها، فبقيت في حوزته فلم يستنفدها فإنه يكون أحق بها، وهنا ذكر البيع، فذكر البيع لا يدل على أن الأمر مقصور على البيع، وإنما هو عام في جميع وجوه إدراك الشيء، والمدرك مستحق له سواء عن بيع أو غير بيع، فالحكم على بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصص في العام، وكونه يحكم على البيع بأنه يكون كذا لا يخصص العام الذي يدخل فيه البيع وغير البيع.
قوله: (أسوة الغرماء) معناه: أنه هو الغرماء سواء، فكل له نصيب من هذه القطعة أو هذا المتاع، ونصيبه يأخذه كما يأخذ الغرماء، وأنه يوزع بينهم على قدر ديونهم، فمن كان نصيبه أكثر من الدين يصير له أكثر من الموجود، ومن كان أقل يكون نصيبه أقل.
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم].
وقد مرّ ذكرهم، والحديث مرسل.(400/18)
شرح حديث (وإن كان قد قضى من ثمنها شيئاً فهو أسوة الغرماء فيها) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود حدثنا عبد الله -يعني: ابن وهب - أخبرني يونس عن ابن شهاب قال أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر معنى حديث مالك زاد: (وإن كان قد قضى من ثمنها شيئاً فهو أسوة الغرماء فيها)].
وهذا مثل الذي قبله إلا أن فيه زيادة: (وإن كان قد قضى من ثمنها شيئاً فهو أسوة الغرماء)؛ لأن المتاع لم يبق متمحضاً له؛ فقد وصل إليه بعض قيمته.
قوله: [حدثنا سليمان بن داود].
سليمان بن داود المهري المصري ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الله -يعني: ابن وهب -].
عبد الله بن وهب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس].
يونس بن يزيد الأيلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
ابن شهاب مر ذكره.
[عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام].
مر ذكره.(400/19)
شرح حديث (اقتضى منه شيئاً أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عوف الطائي حدثنا عبد الله بن عبد الجبار -يعني: الخبائري - حدثنا إسماعيل -يعني: ابن عياش - عن الزبيدي، -قال أبو داود: وهو محمد بن الوليد أبو الهذيل الحمصي - عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه قال: (فإن كان قضاه من ثمنها شيئاً فما بقي هو أسوة الغرماء، وأيما امرئ هلك وعنده متاع امرئ بعينه اقتضى منه شيئاً أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة، وهو فيما سبق مرسل وهنا متصل، وفيه أن الإنسان إذا مات فإنه أسوة الغرماء سواء وصل إليه بعض الثمن أو لم يصل.
قوله: [(فإن كان قضاه من ثمنها شيئاً فما بقي هو أسوة الغرماء)] أي: إن قضاهم شيئاً فهو أسوة الغرماء، وإذا مات سواء قضى أو لم يقض فهو أسوة الغرماء.
قوله: [حدثنا محمد بن عوف الطائي].
محمد بن عوف الطائي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي في مسند علي.
[حدثنا عبد الله بن عبد الجبار الخبائري].
عبد الله بن عبد الجبار الخبائري صدوق أخرج له أبو داود.
[عن إسماعيل -يعني: ابن عياش -].
إسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن أهل بلده، أخرج له البخاري في جزء رفع اليدين وأصحاب السنن.
[عن الزبيدي].
الزبيدي هو محمد بن الوليد الحمصي الزبيدي، وهو ثقة عن أهل بلده، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة].
قد مر ذكرهم.
[قال أبو داود: حديث مالك أصلح].
يعني الأول المرسل، وهو من رواية عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
ومعناه: أنه أقوى وأرجح، لكنه لا يؤثر على الحديث الثاني المتصل.
يقول الخطابي: وهذا الحديث لم يأت مسنداً من هذا الطريق، ويضعفه أهل النقل بسبب رجلين من رواته، ورواه مالك مرسلاً، فدل أنه لا يثبت مسنداً.
ولعلهما إسماعيل وعبد الله بن عبد الجبار ففيهما كلام، لكن الحافظ حكم بأنهما صدوقين.
والحديث ثابت، وإن وجد كلام في بعض رجاله فلا يؤثر.
ثم أيضاً هو شاهد؛ لأن الحديث الأول مرسل وفيه بعض هذا المتصل والمرسل هو (أيما رجل أفلس فأدرك رجل متاعه بعينه فهو أحق به من غيره).
وهو عام، لكن قد يكون المراد به ذاك الذي فيه هذه التفاصيل، وإلا فإن ذلك عام يشمل، لكن هذا فيه تفاصيل لا توجد في ذاك، لكن الحديث المرسل الذي من طريق مالك فيه ما في المتصل هذا.(400/20)
شرح حديث (من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو داود -هو الطيالسي - حدثنا ابن أبي ذئب عن أبي المعتمر عن عمر بن خلدة قال: أتينا أبا هريرة رضي الله عنه في صاحب لنا أفلس، فقال: لأقضين فيكم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة وهو يختلف عن الذي قبله؛ لأنه قال: (من أفلس).
وهذا لا إشكال فيه؛ لأنه مطابق للأحاديث السابقة، ولكن أتى في الحديث قبله: أنه يكون أسوة الغرماء، سواءً قبض من الثمن شيئاً أو لم يقبض، وهنا يقول: إنه أحق به من غيره بعد أن مات، فهو يخالف ذاك، وهذا في إسناده من هو متكلم فيه، والسابق هو المعتبر، فيكون ليس أحق به وإنما يكون أسوة الغرماء كما مر.(400/21)
تراجم رجال إسناد حديث (من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به)
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
محمد بن بشار الملقب بـ بندار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو داود الطيالسي].
أبو داود الطيالسي ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا ابن أبي ذئب].
هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي المعتمر].
أبو المعتمر مجهول الحال أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن عمر بن خلدة].
عمر بن خلدة ثقة، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة رضي الله عنه مر ذكره.(400/22)
ما جاء فيمن أحيا حسيراً(400/23)
شرح حديث (من وجد دابة قد عجز عنها أهلها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن أحيا حسيراً.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد ح وحدثنا موسى حدثنا أبان عن عبيد الله بن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن الشعبي، وقال عن أبان: إن عامراً الشعبي حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من وجد دابة قد عجز عنها أهلها أن يعلفوها فسيبوها فأخذها فأحياها فهي له).
قال في حديث أبان: قال عبيد الله: فقلت: عمن؟ قال: عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله سلم.
قال أبو داود: هذا حديث حماد، وهو أبين وأتم.
حدثنا محمد بن عبيد عن حماد -يعني: ابن زيد - عن خالد الحذاء عن عبيد الله بن حميد بن عبد الرحمن عن الشعبي يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من ترك دابة بمهلك فأحياها رجل فهي لمن أحياها)].
أورد أبو داود: باب فيمن أحيا حسيراً، والمراد بالحسير المنقطع الذي ترك لهزاله، فرغب أهله عنه وتركوه في الفلاة؛ لأنهم لم يتمكنوا من الاستفادة منه.
فمن العلماء من قال: إن من وجده فإنه يملكه؛ لأن أهله تركوه وهو من جنس الشيء الذي رغب عنه أهله ورموه، ومن الأشياء التي قد يستغنى عنها فمن وجدها يأخذها، فكونه رمي في الشارع يعني أن أهله رغبوا عنه، فكذلك هذا.
فالعلماء اختلفوا في مثل هذا وهو الدابة التي وجدت هزيلة وضعيفة فأحياها الإنسان، وأحسن إليها، وأعلفها وسقاها حتى نجت وسلمت، فمن العلماء من يقول: إنه يملكها ويستحقها؛ لأنها شيء رغب عنه، ومنهم من يقول: إنها لقطة وإن جاء صاحبها فيما بعد وادعاها فإنه يعطيه إياها، والذين قالوا: بأنه يملكها أخذوا بهذا الحديث، والحديث حسنه الشيخ الألباني والتحسين فيه نظر من جهة أن فيه شخصاً يقال له: عبيد الله بن حميد الحميري ولم يوثقه إلا ابن حبان، والطريقان يدوران عليه، والألباني حسنه لأن ابن حبان وثقه، وهو متساهل في التوثيق، لكن قال: روى عنه جماعة، وما ذكر فيه شيء فيكون حسناً، ومعلوم أن رواية الجماعة تكون عن الثقة وعن الضعيف، وروايتهم للضعيف لبيان أن هذا هو الذي وجدوه، ولكن لا يعني هذا أن ما رووه عنه يكون صحيحاً؛ فإن هذا يرجع إلى دراسة الأسانيد والحكم عليها على ما تقتضيه، فالحقيقة أن في تحسينه نظر، وقد يكون هذا الذي وجد لم يتركه أهله، وإنما فقد من أهله وحصل له هزال، إذاً فأهله ما تركوه، فليس مجرد وجود شيء هزيل دليل على أن أهله تركوه، فالقول: بأنه بمجرد حصوله عليه يمتلكه لهذا الحديث فيه نظر.(400/24)
تراجم رجال إسناد حديث (من وجد دابة قد عجز عنها أهلها)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد بن سلمة بن دينار ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ح وحدثنا موسى حدثنا أبان].
موسى هو: ابن إسماعيل، وأبان بن يزيد العطار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن عبيد الله بن حميد بن عبد الرحمن الحميري].
عبيد الله بن حميد بن عبد الرحمن الحميري مقبول أخرج له أبو داود.
[عن الشعبي].
هو عامر بن شراحيل الشعبي ثقة، فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال عبيد الله: فقلت: عمن؟ قال: عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم].
هذا فيه بيان أنه عن عدد من الصحابة، والصحابة كما هو معلوم جهالتهم لا تؤثر، والمجهول فيهم في حكم المعلوم، ولكن آفته هي في عبيد الله بن حميد الذي لم يوثقه إلا ابن حبان، وهو معروف بتساهله.
[قال أبو داود: وهذا حديث حماد؛ وهو أبين وأتم].
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد عن حماد -يعني: ابن زيد -].
محمد بن عبيد بن حساب ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
وحماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقد عرفنا فيما مضى أنه إذا جاء موسى يروي عن حماد غير منسوب فالمراد به ابن سلمة، وإذا جاء محمد بن عبيد يروي عن حماد فالمراد به حماد بن زيد.
[عن خالد الحذاء].
خالد بن مهران الحذاء ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن حميد بن عبد الرحمن عن الشعبي يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم].
وهذا صورته صورة المرسل ولكنه لما سأله في الأول وقال: عمن؟ قال: عن عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، دل على أنه متصل، وأنه ليس بمرسل، وإنما آفته عبيد الله بن حميد.(400/25)
الأسئلة(400/26)
حكم إخبار الشريك في البيع
السؤال
هل يجب إخبار الشريك قبل البيع أو يبيع ثم يخبره؟
الجواب
إخبار الشريك قبل أن يبيع هو الذي يليق بمكارم الأخلاق, لكنه لو باع ولم يخبره فإن له حق الشفعة، ولو أخبره ولم يحصل منه شراء، ولكنه باع فأيضاً له حق الشفعة.(400/27)
حكم الشفعة إذا علمت حدود كل أرض
السؤال
إذا كانت أرضك معلومة الحدود، وأرض جارك كذلك معلومة الحدود, فإذا أردت بيع أرضك هل لجارك أن يشفع؟
الجواب
لا, ليس له أن يشفع إذا كان كل واحد حدوده معروفة وليس بينهما شيء مشترك، كالطريق الذي يخصهما كما سيأتي في حديث: (فإنه لا شفعة)؛ لأنه لو كان كل جار يشفع على شريكه لأمكن أن كل القطع ينتزعها واحد, ويتسلسل حتى تدخل في ملكه كل المنطقة.(400/28)
سبب تسمية الشفعة بذلك
السؤال
ما هو سبب تسمية الشفعة بهذا الاسم؟
الجواب
لا أعلم، اللهم إلا أن يكون السبب ما يحدث من ضم الجزئين لبعضهما، وأن يكون الشيء المفرد ينضم إليه آخر وهو حصة الشريك فيكون بمثابة الشفع، والحكمة هي منع المضارة، وأما عن سبب التسمية فلا أدري اللهم إلا أن يقال: إن القطعة التي يملكها الشريك استحق الآخر ضمها إليه فيكون قد شفع حقه بحق شريكه.(400/29)
حكم شفعة الجار في المسكن
السؤال
ألا يمكن حمل أحاديث الجار على أنه الجار في السكن، فيكون له حق الشفعة في المقسوم، وحمل الأحاديث الأخرى على الشريك غير المساكن، فيكون جمع بين الأحاديث؟
الجواب
مادام أن كل واحد نصيبه متميزاً فإنه لا شفعة.(400/30)
حكم الشفعة
السؤال
هل الشفعة على الوجوب أو الاستحباب؟
الجواب
الشفعة لازمة إذا شفع؛ بحيث أن المشتري لا يمكنه الاحتفاظ بشرائه والإبقاء عليه, وأما من ناحية كونه يشفع أو لا يشفع فهذا لا يقال عنه: مستحب أو واجب, فإن أراد يشفع فيشفع، وإن أراد أن يترك فيترك، فله ذلك الحق لا يستحب ولا يجب، فإن أراده فهو له وإن لم يرده تركه، فهو أمر مباح.(400/31)
حكم الشفعة لأهل عمارة واحدة
السؤال
في بلادنا يسكن الناس في عمائر، وكل واحد يملك البيت الذي يسكنه ولو كانوا في دور واحد، فهل للجار الشفعة حينئذ؟
الجواب
نعم له الشفعة، وقد يكون لكل واحد دور منفصل فعندها لا توجد شفعة؛ إذ كل واحد مستقل بطريقه فليس له حق، وأما إذا كان مدخل العمارة واحداًَ فإن الاشتراك قائم؛ إذ الطريق واحدة.(400/32)
حكم من أخذ دابة عجفاء
السؤال
إذا مر على دابة حسيرة مكسورة أو عجفاء ما العمل؟
الجواب
إن أخذها فإنها لقطة يعرفها.(400/33)
حكم قتل الحيوان المسيب
السؤال
بعض الناس -وخاصة في غير مأكول اللحم- مثلاً لو مر على حمار أهلي فوجده بهذه الحال قال: أنا أرحمه أذبحه بدلاً من أن يتعذب؟
الجواب
كيف يتعذب؟ الله سبحانه وتعالى أرحم بعباده وخلقه منه، فليس له أن يذبحه، ومعنى هذا أن الإنسان إذا كانت عنده دابة وأصابها مرض وهي ذات روح فإنه يذبحها، وقد يشفيها الله عز وجل، فليس له أن يذبح حيواناً من أجل أن يرحمه أو أنه لا يتعذب.(400/34)
حسن تعامل الجار مع جاره في الشفعة
السؤال
في مختصر صحيح البخاري للزبيدي عن أبي رافع رضي الله عنه مولى النبي صلى الله عليه وسلم: أنه جاء إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فقال: ابتع مني بيتي في دارك، فقال سعد: والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة، قال أبو رافع: لقد أعطيت بها خمسمائة دينار، ولولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الجار أحق بسقبه)، ما أعطيتكها بأربعة آلاف وأنا أعطى بها خمسمائة دينار فأعطاها إياه.
الجواب
هذا يعتبر من مكارم الأخلاق، إذ كون الإنسان يراعي الجار ويحسن إليه، ولا يتسبب في الإتيان إليه بمن يؤذيه.(400/35)
أجنحة الملائكة
السؤال
هل هناك دليل على أن الأجنحة في الملائكة عليهم السلام للطيران؟
الجواب
لا يوجد شيء يدل أو ينفي، لكن كون لهم أجنحة قد يفهم منها أنهم يطيرون بها، وهم لا شك أنهم يطيرون.(400/36)
فائدة أجنحة الملائكة
السؤال
هل هذه القاعدة صحيحة: إن الجناح في الملك ليس له فائدة معقولة عندنا ولكن له فائدة لا ندركها؟
الجواب
الله أعلم، فقد يكون للطيران؛ لأن الله جعل الملائكة كلهم ذوي أجنحة كما قال الله عز وجل: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1]، يعني: جعل لهم أجنحة، وجبريل له ستمائة جناح كما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم.(400/37)
موضع سجود السهو
السؤال
متى سجود السهو يكون قبل السلام ومتى يكون بعد السلام؟
الجواب
يكون قبل السلام إذا كان بسبب نقص، كأن قام من التشهد الأول فإنه يسجد قبل السلام، وإذا كان بسبب الزيادة يكون بعد السلام.(400/38)
موضع سجود السهو للمتأخر عن الجماعة
السؤال
إذا جاء المأموم متأخراً فمتى يسجد للسهو؟
الجواب
بعدما يقضي ما فاته يسجد في آخر صلاته كما سجد الإمام.(400/39)
إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع
السؤال
إذا لم يكن المبيع قائماً فالقول قول من؟
الجواب
قول البائع؛ لأن الحديث الذي ورد ليس فيه إذا كان المبيع قائماً، وإنما هذا جاء في بعض الطرق من طريق ابن أبي ليلى.(400/40)
شفعة الجار إذا كان المبنى منفصلاً
السؤال
لو أن الجار باع ملكه على سيئ الخلق هل يكون لأحد الجيران شفعة؟
الجواب
إذا كان منفصلاً فليس لأحد شفعة.(400/41)
تخصيص العام
السؤال
بالنسبة للقاعدة التي ذكرتموها أن الحكم على بعض أفراد العام لا يخصصه، كيف نميز بين النصوص المخصصة وبين هذه النصوص التي يذكر فيها بعض أفراد العام ولا يكون هناك تخصيص؟
الجواب
الحكم شامل لهذا الفرد ولغيره، فيكون ذكره كأنه ذكر مرتين مرة على سبيل الاستقلال ومرة على سبيل اندراجه تحت غيره، مثل عطف الخاص على العام.(400/42)
شرح سنن أبي داود [401]
من عقود الإرفاق بين المسلمين القرض الحسن، إلا أن هذا الدَّين قد يحتاج إلى توثيقه بعين تسمى الرهن، وللرهن ضوابط وأحكام ثابتة في الشرع تجعل العين محفوظة والراهن مطمئناً والمرتهن آمناً على دَينه من غير أن يلج باب الربا، ومن يسر الدين وعدله وسماحته أن جعل الولد من أطيب كسب الوالد، فالولد وماله لأبيه، كذلك لم يغفل الإسلام نفقة الزوجة والأولاد فللمرأة أن تأخذ ما يكفيها وأولادها من دون علم زوجها، لكن بالمعروف.(401/1)
ما جاء في الرهن(401/2)
شرح حديث (لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهوناً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرهن.
حدثنا هناد عن ابن المبارك عن زكريا عن الشعبي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهوناً، والظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويحلب النفقة)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في الرهن، والرهن هو: أن يأخذ البائع من المشتري سلعة إلى أجل، فهي عين يستوثق بها في حقه حتى إذا لم يحصل الوفاء عند حلول الأجل تباع العين المرهونة ويأخذ حقه منها، وإذا بقي شيء فإنه يكون لصاحب العين.
فالرهن هو توثقة دين بعين، أي: أن العين تؤخذ من أجل الاطمئنان على حصول الدين ممن كان عليه ذلك الدين، فهو دين في ذمة يستوثق منه بعين مرهونة، والرهن جاء ذكره في القرآن في السفر، وجاء في السنة في الحضر، قال الله عز وجل: {وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، يعني: أن الشيء الذي يكون في الذمة يقبض عليه رهن إذا احتاج الأمر إلى ذلك.
وفي السنة جاء حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي أورده أبو داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهوناً)، يعني: إذا كانت الدابة مرهونة بيد المرتهن، فهو يحلبها في مقابل نفقته عليها؛ لأنها تحتاج إلى نفقة، فإذا أنفق عليها فإنه يأخذ الحليب في مقابل النفقة.
قوله: (والظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً)، مثلاً البعير أو الحمار التي يركب عليها فإنه يركب المرتهن عليها في مقابل ما ينفقه عليها من النفقة.
وهذا الحديث يدل على أن المرتهن يستفيد من الرهن في مقابل ما يحتاج إليه من العلف والحلب والركوب، فإن ذلك الركوب والحليب يكون في مقابل الانتفاع به، فكما أنه ينفق على الشاة ذات اللبن فإن ذلك إنفاق في مقابل الحليب، والمرهون إذا كان دابة مركوبة فذلك الركوب في مقابل الإنفاق، والمقصود بالذي يركب ويحلب هو المرتهن، أي: الذي أخذ العين ليستوثق بها عن الدين في مقابل النفقة، وهو يدل على أن الرهن ممكن أن يكون بيد المرتهن إذا لم يقبل إلا أن يكون في يده.
وقوله: (يحلب ويركب إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويحلب النفقة)، هذا إنما يكون في حق المرتهن، وأما الراهن فلا حاجة إلى أن يقال له: إنه بنفقته إذا كان مرهوناً؛ لأن الراهن هو المالك، فكونه ينفق عليه فإنما ينفق على ملكه، وأما المرتهن فلا ينفق على ملكه وإنما ينفق على ملك غيره، وهذا الإنفاق الذي ينفقه يأخذ مقابله فيستفيد في الركوب أو الحلب.
وقد يكون الذي يركب ويحلب شخص ثالث جعلت وديعة عنده، يعني: فلا هي عند الراهن ولا عند المرتهن ولكنها جعلت وديعة عند شخص، فهذا الذي استودعت عنده أيضاً له أن يحلب ويركب في مقابل النفقة التي ينفقها.
قوله: (وعلى الذي يركب ويحلب النفقة) سواءً كان هو المرتهن أو طرف ثالث اتفقا على أن يكون الرهن وديعة عنده، فإذا كان مما يحلب ويركب فحلب ما يُحلب وركب ما يُركب فإنه يكون ذلك في مقابل الإنفاق عليه، وهو يدل على أن الرهن يمكن أن يكون بيد المرتهن، ويمكن أن يكون بيد الراهن إذا اتفاقا على ذلك، ولكن لا يجوز للراهن أن يتصرف فيه بالبيع، وأما أن يتصرف فيه بالركوب أو بالإجارة أو غير ذلك فهذا لا بأس به.
وله أن يؤجره إذا كان بيد المالك له؛ لأن الرهن على العين وليس على المنفعة، فالمنفعة ملك للراهن الذي هو مالكها، فله أن يؤجرها ولكن ليس له أن يبيعها؛ لأن الحق متعلق بالعين وليس بالمنفعة، فالمنفعة يمكن أن تؤجر والعين لا تباع.
والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم: فمنهم من قال: إن الرهن يكون بيد الراهن، ومنهم من يقول: إن الرهن يكون بيد المرتهن، ولكن الحديث فيه أن على الذي يحلب النفقة، ومعلوم أن هذا إنما يكون في حق غير المالك، وأما المالك فهذا الأصل في حقه.(401/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهوناً)
قوله: [حدثنا هناد].
هو هناد بن السري ثقة، أخرج له البخاري في (خلق أفعال العباد) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك المروزي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زكريا].
هو زكريا بن أبي زائدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الشعبي].
هو عامر بن شراحيل الشعبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً.(401/4)
نماء الرهن
للرهن نماءان: منفصل ومتصل، فأما النماء المتصل فهو تابع للرهن، وأما النماء المنفصل فلا يتبع الرهن.
فالمتصل يأخذه الراهن تبعاً للرهن؛ لأنه لا ينفصل مثل الصوف أو شيء من ذلك، وأما ولد الدابة فلا يدخل في الرهن، ولا ينتفع منه إلا إذا كانت هناك حاجة إلى الإنفاق، وأما ما لا حاجة فيه فلا؛ فمثلاً إذا أخذ السيارة فإنه يوقفها ولا يستخدمها، وإذا أوقفها فإنها لا تتلف؛ إذ ليست مثل الدابة التي إن لم يعلفها فإنها تتلف.
فالنماء المنفصل ليس تابعاً للمرتَهَن؛ لأن الراهن رهن العين فقط، وأما نماؤها يرجع إلى الراهن المالك، فله أن يبيع النتاج؛ لأن الرهن ليس عليه وإنما هو على العين وحدها.
وأما بالنسبة للسيارة فهل تقاس على الظهر فيركبها مقابل ما يصرفه عليها من البنزين؟ لا، ليس له أن يستخدمها؛ لأن الظهر يحتاج إلى نفقة وإلا مات، فهو ينفق عليه ويركبه، وأما السيارة فلا يترتب على إيقافها شيء.
ويقاس على السيارة البيت؛ فلو رهنه فإنه لم ينتفع به؛ لأنه إذا انتفع به صارت عليه أجرة، وتسقط من الدين إذا اتفقا على أنه يسكنه ويستفيد منه، فيصير له قيمة وتسقط بحسابها.
وإذا تلف الرهن فهو على حساب الراهن إلا إذا فرط فيه الذي هو بيده، وحينئذ يضمن؛ لأن يده يد أمينة.(401/5)
الاستفادة من الرهن للمرتهن
جرت العادة في بعض البلدان أن الشخص إذا رهن أرضاً للبائع فإن البائع يستفيد منها بالزرع، والواجب أنه لا يستفيد منها إلا إذا كان محتاجاً إلى إحيائها مثل الدواب، وأما إذا لم تكن كذلك فليس له ذلك.
وأما الراهن فإنه يستفيد منها؛ لأنها ملكه، ولكن ليس له أن يبيعها؛ لأن حق المرتهن متعلق بالعين، فإذا جاء الأجل ولم يوفه فله حق المطالبة في بيعها وأخذ نصيبه منها، وأما أن يستفيد منها صاحبها بأن يزرعها أو يؤجرها فله ذلك؛ لأن هذا حقه وملكه، والمنفعة لا دخل للمرتهن فيها فهي لمالك العين، وإنما ربط الحق بالعين بحيث لا يتصرف فيها مالكها بالبيع، وأما أن يتصرف فيها بالإجارة أو بالانتفاع بأن يزرعها إذا كانت أرضاً زراعية أو بيتاً يسكنه فلا بأس بذلك لكنه لا يبيعه.
وأما بالنسبة للسيارة فإذا توقفت لمدة طويلة فقد تتلف الكفرات، فإن كان بقاؤها يفسدها فلا بأس أن يحركها شيئاً يسيراً يحصل به المقصود، وهذه الحركة لا تكلفه الكثير من البنزين، ويمكن فعل هذا داخل المستودع.
وإذا كان الرهن أمة فلا يجوز للمرتهن أن يطأها، فلا يطؤها إلا مالكها، ولا يجوز للمرتهن أن يرهن الرهن لشخص آخر، وهذه شبيهة بمسألة ذكرها الحافظ ابن حجر في (تهذيب التهذيب) في ترجمة أحد النحويين لما قيل له: لو سهى رجل في صلاته فماذا عليه؟ قال: عليه سجود سهو، فقيل: ولو سها في سجود السهو فماذا يصنع؟ قال: عندنا أن المصغر لا يصغر، يعني: ليس في سجود السهو سجود سهو، فالرهن كذلك، فلا يحق للمرتهن أن يرهنه.
[قال أبو داود: وهو عندنا صحيح] يعني: الحديث صحيح.(401/6)
شرح حديث (هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالا: حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة؛ بمكانهم من الله تعالى، قالوا: يا رسول الله! تخبرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، وقرأ هذه الآية: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62])].
أورد أبو داود هذا الحديث وهو لا علاقة له بباب الرهن، وإنما هو في المحبة في الله وفضلها، فقال بعض أهل العلم: لعله أورده للإشارة إلى أنه ينبغي على المسلمين أن يتعاونوا ويتساعدوا فيما بينهم، وأن ييسر بعضهم على بعض، ويحسن بعضهم إلى بعض، فيقرض المسلم أخاه إذا احتاج، ويمهله في السداد، ولا يحوجه إلى أن يشتري شيئاً ثم يقوم برهن عين يملكها في مقابل ذلك الدين الذي عليه.
والواقع وكما هو واضح أنه لا علاقة له بالرهن فهو في غير مظنته، وهذا من الأحاديث التي تأتي في غير مظنتها، إذ لا يبحث عن هذا الحديث في باب الرهن، ولا مجال لأن يوجد فيه.
قال: [(إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة؛ بمكانهم من الله تعالى).
وهذا لا يعني أنهم فوق الأنبياء والشهداء، ولا يجوز أن يفهم هذا الفهم؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أفضل الخلق وأفضل البشر، ولا يجوز أن يظن أو يتصور أن ولياً من أولياء الله يكون أفضل من نبي من أنبياء الله، أو أفضل من رسول من رسل الله، فإن الرسل بإجماع المسلمين أفضل وخير البشر.
وقوله: (يغبطهم) لا يدل على أنهم أفضل من الأنبياء، وإنما معنى ذلك أنهم يمدحونهم، ويثنون عليهم، ويعترفون بمنزلتهم، ويحصل لهم الاغتباط بما حصل لهم لا أنهم يغبطونهم لأنهم أعلى منهم أو فوقهم، فهذا لا يجوز أن يتصور، وإنما معناه ما أشرت إليه من ناحية أن الفاضل قد يغبط المفضول إذا رآه على حالة حسنة وطريقة طيبة، فيغبطه وإن كان أفضل منه، فليس بلازم أن الغابط يكون دون المغبوط، فالرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم خير وأفضل البشر، ولا يجوز أن يفهم أن غيرهم قد يكون أفضل منهم، فالأولياء لم تحصل لهم الولاية إلا باتباع الرسل، والحق والهدى الذي حصل لهم إنما تلقوه عن طريق اتباع الرسل صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم.
ومن الكلام الذي قاله بعض الناس في هذا الزمان وهو من أسوأ وأقبح الكلام ما قاله الخميني زعيم الرافضة في هذا العصر في كتابه (الحكومة الإسلامية): وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل، فهذا والعياذ بالله من أقبح وأسوأ الكلام، فكيف يكون علي والحسن والحسين وتسعة من أولاد الحسين -وهم الأئمة الاثنا عشر عند الرافضة- كيف يكونون بهذه المنزلة التي لا يصل إليها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فهذا من أبطل الباطل، والحديث الذي معنا ليس فيه دلالة على مثل هذا المعنى الباطل، وإنما فيه أن الرسل والشهداء يغبطونهم، وليس فيه أنهم يغبطونهم لأنهم دونهم وأنهم حصلوا على منازل أعلى من الأنبياء عند الله عز وجل، فلن يكون أحد أعلى منهم منزلة عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الأولياء والمتقين ما حصلوا عليه من الخير إنما حصلوه عن طريق اتباعهم للرسل، وعن طريق إيمانهم بالرسل، والرسل هم الذين تلقوا الوحي من الله عز وجل إما سماعاً لكلام الله من الله، أو جاء به الرسول الملكي إلى الرسول البشري.
أن يكون لبعض المشائخ تلميذ من التلاميذ في منزلة عالية وفهم وإدراك واستيعاب وحفظ وإتقان فيغبطه شيخه، ولا يقال: إن هذه الغبطة لا تكون إلا من الأدنى للأعلى فهو عنده ما عنده وزيادة، وقد يكون أيضاً دونه لكن لا يقال: إن كل غابط فهو دون المغبوط، فالغابط قد يكون أعلى من المغبوط كما في هذا الحديث: (إن من عباد الله لأناساً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء).
(قالوا: يا رسول الله! تخبرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور).
ذكر هنا صفات هؤلاء التي جعلتهم يصلون إلى هذه المنزلة: أنهم تحابوا في الله ومن أجل الله، فلم يتحابوا من أجل أرحام ومصالح دنيوية متبادلة، أي: قريب يعطف على قريبه ويحبه من أجل قرابته، أو من أجل مال أعطي إياه، أو إحسان حصل، فليست هذه المحبة من أجل هذه الأمور، وإنما من أجل الله، كما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)، فهو يحب الله ورسوله، ويحب ما يحبه الله ورسوله ومن يحبه الله ورسوله، فتكون محابه تابعة لما يحبه الله، فليست المحبة من أجل تبادل منافع، أو صلة وقرابة، وإنما جمع بينهما الحب في الله، وفاعل ذلك أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، قال: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه)، فالذي جمعهم هو الحب في الله، وتفرقا على الحب في الله، فليس هناك شيء جمعهم سواه، ولا تفرقوا عنه إلى شيء سواه، ولهذا: (أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله)، وهذه صفات المؤمنين أنهم يحبون من يحب الله ورسوله وما يحبه الله ورسوله، ويبغضون ما يبغضه الله ورسوله ومن يبغضه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (بروح الله) قيل: المقصود بالروح هنا القرآن، فالقرآن يقال له: روح، كما قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، يعني أنه بني على اتباع ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الذي يحب في الله ومن أجل الله هو الذي يكون متبعاً لما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(فوالله! إن وجوههم لنور، وإنهم على نور).
يعني: أن وجوههم فيها إشراق وإضاءة، {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24]، وهم على نور يعني: على منابر من نور، (لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس وقرأ هذه الآية: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]).
وأولياء الله بينهم الله بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] أي: أن ولاية الله عز وجل ليست شيئاً خاصاً يحصل لبعض الناس دون بعض، ويؤدي ذلك الأمر إلى أن يصرف له شيء من حق الله عز وجل ويغالى فيه، فولاية الله عز وجل تكون بالإيمان والتقوى، فمن كان متقياً لله عز وجل مؤمناً به فإنه ولي من أولياء الله، وليست الولاية حكراً على أناس معينين لا تتجاوزهم إلى غيرهم، فكل من كان مؤمناً تقياً فهو ولي لله؛ لأن الله يقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]، فهؤلاء هم أولياء الله، وهذا هو تعريف أولياء الله لا تعريف بعض من يدعي الولاية وتدعى له الولاية ثم يكون فوق الناس، فيصرف له الناس شيئاً مما يستحقه الله تعالى، فيغلون فيه ويتجاوزون الحدود.
إن ولاية الله عز وجل بابها مفتوح، فمن يريد أن يكون من أولياء الله فما عليه إلا أن يكون مؤمناً تقياً، فيلتزم بطاعة الله وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، ويحذر من الوقوع في معصية الله ومعصية رسوله، وبذلك يكون من أولياء الله، وأما تلك الولاية التي تكون لشخص من الناس، والناس يقدسونه ويعظمونه ويصرفون له شيئاً لا يستحقه، ويبذلون له من الأموال بحجة أنه ولي من أولياء الله، وإذا مات ينذرون له النذور، ويتقربون إليه بأنواع من العبادات، حتى تجد بعض الناس لا يعلم لله طريقاً يوصل إليه إلا عن طريق ولي من الأولياء، والله عز وجل قريب من عباده: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186].
ومما يدخل في حديث المحبة: محبة الحي لميت بينه وبينه قرون من الزمن كحب الصحابة والصالحين من السلف، وحب أولياء الله الحاضرين والمتقدمين، ولا شك أن هذا مطلوب، فيحب الإنسان ما يحبه الله ورسوله ومن يحبه الله ورسوله، وكل من كان مؤمناً تقياً ومعروفاً بالفضل والعلم والخير فإننا نحبه، سواء كان من المتقدمين أو من المتأخرين.(401/7)
تراجم رجال إسناد حديث (هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم)
قوله: [حدثنا زهير بن حرب].
زهير بن حرب أبو خيثمة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[وعثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمارة بن القعقاع].
عمارة بن القعقاع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير].
أبو زرعة بن عمرو بن جرير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر].
هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وأبو زرعة لم يدرك عمر فهو منقطع، ولكن جاء الحديث عن أبي هريرة من طريق عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة، وأبو زرعة يروي عن أبي هريرة كثيراً، وآخر حديث في صحيح البخاري هو من هذه الطريق: عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)، فقد جاء الحديث عند ابن جرير من طريق عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة بألفاظ مقاربة إلا في أشياء يسيرة منه، وعلى ذلك فيكون هذا الذي جاء عن عمر يشهد له حديث أبي هريرة.
وقد ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله عند تفسير: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] الحديث عن أبي هريرة، ثم ذكر حديث عمر وقال: إنه منقطع؛ لأنه لم يدركه.(401/8)
ما جاء في الرجل يأكل من مال ولده(401/9)
شرح حديث (إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه وولده من كسبه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يأكل من مال ولده.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن عمارة بن عمير عن عمته أنها سألت عائشة رضي الله عنها: في حجري يتيم أفآكل من ماله؟ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وولده من كسبه)].
أورد أبو داود باب في الرجل يأكل من مال ولده، يعني: أن ذلك سائغ، وذلك أن الولد من كسبه فهو سبب وجوده، فيكون له حق عليه، وإذا كان محتاجاً فنفقته واجبة عليه، وإذا أخذ من مال ولده ما لا يلحق به ضرراً فإن له ذلك؛ لأنه من كسبه.
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أنها سألتها امرأة أن في حجرها يتيم وأنها تأكل من مال ولدها اليتيم؟ فذكرت عائشة رضي الله عنها الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وولده من كسبه)، وهذا فيه أن عائشة رضي الله عنها لما سئلت أجابت بالحديث، وهذه هي طريقة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في كثير من الحالات، فالواحد منهم عندما يسأل فإنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فيأتي بالجواب ويأتي بدليل الجواب، فيكون ذكر الدليل مشتمل على الجواب، فكانوا إذا سئلوا ضمنوا جوابهم الأثر، ومن أوضح الأمثلة على ذلك حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أول حديث في صحيح مسلم، فـ ابن عمر رضي الله عنه لما جاءه اثنان من العراق وقالوا: إنا وجدنا قبلنا أناساً يقولون بالقدر وأنه كذا وكذا، ثم قال: أخبرهم أنني بريء منهم وأنهم برآء مني، ثم قال: حدثني عمر، وأتى بالحديث الطويل من أجل: (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره).
فكانوا إذا سئلوا أجابوا بالأثر، وصنيع عائشة رضي الله عنها هو من هذا القبيل، فلم تقل: نعم واكتفت، وإنما ذكرت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيكون في ذلك الإجابة عن المطلوب وزيادة الدليل.(401/10)
تراجم رجال إسناد حديث (إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه وولده من كسبه)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن معتمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم].
إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمارة بن عمير].
عمارة بن عمير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمته].
لم أقف عليها.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والأحاديث كثيرة في هذا الموضوع، وهو أن الرجل يأكل من مال ولده وقد أوردها المصنف رحمه الله تعالى، ووجود هذه المرأة المبهمة في هذا الإسناد لا يؤثر؛ لأنه ليس الحديث الوحيد الذي جاء في هذا الباب، فقد جاء فيه أحاديث كثيرة مثل حديث: (إن أبي يجتاح مالي)، وقد ذكر الحافظ ابن حجر طرقه وجمعها وأشار إليها في (فتح الباري) (5/ 211).(401/11)
شرح حديث (ولد الرجل من أطيب كسبه) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة وعثمان بن أبي شيبة المعنى قالا: حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن الحكم عن عمارة بن عمير عن أمه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ولد الرجل من أطيب كسبه، فكلوا من أموالهم)].
أورد أبو داود حديث عائشة من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله.
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة].
عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[وعثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة مر ذكره.
[حدثنا محمد بن جعفر].
هو محمد بن جعفر غندر البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحكم].
هو الحكم بن عتيبة الكندي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمارة بن عمير عن أمه عن عائشة].
قال هنا: عن أمه، وهناك قال: عن عمته، فيمكن أن الراوية من جهة أمه وعمته، ويمكن أن يكون ذكر إحداهما خطأ.
[قال أبو داود: حماد بن أبي سليمان زاد فيه: (إذا احتجتم) أو هو منكر].
يعني: أن هذه الزيادة منكرة، فالأحاديث جاءت بدونها، ومعلوم أن الحاجة هي الأصل، ولكن لا يقال: إنها لمجرد الحاجة، فلو كان الإنسان مستغنياً وعنده ما يكفيه ولكن أراد أن يأخذ من مال ولده فله ذلك بشرط ألا يحصل إضرار به، فليست المسألة تتوقف على الحاجة، فالنفقة واجبة عليه عند الحاجة، وأما إذا كان عن غير حاجة فيجوز له أيضاً الأكل من مال ولده.
وحماد بن أبي سليمان صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأصحاب السنن.(401/12)
شرح حديث (أنت ومالك لوالدك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله! إن لي مالاً وولداً، وإن والدي يجتاح مالي، قال: أنت ومالك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم)].
هذا حديث عبد الله بن عمرو، والذي مر هو حديث عائشة وفيه المرأة المبهمة، وهنا الطريق مستقيمة وهو بمعناه، وفيه: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن لي مالاً وولداً وإن أبي يجتاح مالي) أي: أنه يأخذ منه كثيراً حتى يؤثر عليه، ومعلوم أن النفقة لازمة له، ولهذا أجابه بقوله: (أنت ومالك لوالدك) أي: أن له حقاً في مالك.
قوله: (وأن الولد من أطيب الكسب) لكن ليس له أن يجتاح ماله ويلحق به ضرراً بحيث يأخذ ماله ويبقيه بدون مال، ولكن يستفيد من ماله على وجه لا يضر بالولد.(401/13)
تراجم رجال إسناد حديث (أنت ومالك لوالدك)
قوله: [حدثنا محمد بن المنهال].
محمد بن المنهال ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حبيب المعلم].
حبيب المعلم صدوق أخرج له أصحاب الكتب.
[عن عمرو بن شعيب].
هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو، وهو صدوق أخرج له البخاري في (جزء القراءة) وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه هو شعيب، وهو صدوق أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) و (جزء القراءة) وأصحاب السنن.
[عن جده].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وهو الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(401/14)
ما جاء في الرجل يجد عين ماله عند رجل(401/15)
شرح حديث (من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به ويتبع البيع من باعه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يجد عين ماله عند رجل.
حدثنا عمرو بن عون حدثنا هشيم عن موسى بن السائب عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به، ويتبع البيع من باعه)].
أورد أبو داود: باب في الرجل يجد عين ماله عند رجل.
وتأتي كثيراً التراجم بذكر الرجل، وهذا ليس له مفهوم، بمعنى أن المرأة لا تختلف في ذلك، فحكم الرجال والنساء سواء، وإنما يأتي ذكر الرجال لأن الغالب أن الخطاب معهم، وإلا فإن النساء مثل الرجال في ذلك، والأحاديث التي مرت قريباً في الرجل يجد متاعه عند رجل قد أفلس، وكذلك المرأة إذا وجدت متاعها عند رجل قد أفلس أو عند امرأة قد أفلست، وكذلك الدائن سواء كان رجلاً أو امرأة فلا فرق بين هذا وهذا، والأصل هو التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام إلا إذا جاء نصوص تميز بين الرجال والنساء في الأحكام فعند ذلك يصار إليها، وإلا فإن الغالب أن ذكر الرجال إنما هو لكونهم مخاطبين، ولهذا يأتي في الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه)، وكذلك المرأة إذا كانت تصوم فوافق صومها يوم الثلاثين.
وهذه الترجمة: وجد عين ماله عند رجل، لا تعارض الأبواب السابقة التي فيها ذكر المفلس؛ لأن هذا يتعلق بالغصب، إذ معناه: إن يسرق مال إنسان أو يغصب ثم يجده عند شخص، وهذا الشخص ليس هو الغاصب وإنما اشتراه من الغاصب أو وهبه له الغاصب، فلصاحب المال أن يأخذه، وله أن يطالب هذا الذي بيده ماله بأن يسلمه له، ثم هذا الذي أخذت منه العين التي كانت مغصوبة يرجع على البائع الذي باعه وأخذ منه الفلوس وهو لا يملك السلعة، فهذا هو المقصود من هذه الترجمة، ومن حديث سمرة بن جندب.
وهذا الحديث من رواية الحسن عن سمرة، وكما هو معلوم أن الذي ثبت له سماعه منه إنما هو حديث العقيقة فقط، وأما غير ذلك فإذا لم يأت شيء يدل عليه أو يقويه فإنه لا يعتبر ثابتاً، وهذا الحديث جاء من هذا الطريق فهو ضعيف، لكنه صحيح من حيث الحكم ومن حيث المعنى؛ لأن صاحب المال أحق بماله، فإذا سرق مال الإنسان ثم وجد ذلك المسروق بعينه عند شخص من الناس فإنه يطالبه ويأخذه، ثم يبحث ذلك الشخص عن الذي باعه وهو غير مالك، فيأخذ حقه منه.(401/16)
تراجم رجال إسناد حديث (من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به ويتبع البيع من باعه)
قوله: [حدثنا عمرو بن عون].
عمرو بن عون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن موسى بن السائب].
هو موسى بن السائب صدوق أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
هو الحسن بن أبي الحسن البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سمرة بن جندب].
صحابي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(401/17)
ما جاء في الرجل يأخذ حقه من تحت يده(401/18)
شرح حديث (إن أبا سفيان رجل شحيح)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يأخذ حقه مِن تحت يده.
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا هشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن هنداً أم معاوية جاءت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: (إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني ما يكفيني وبني، فهل علي جناح أن آخذ من ماله شيئاً؟ قال: خذي ما يكفيك وبنيك بالمعروف)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، وهذا من جنس ما قبله، فللرجل أو المرأة أن يأخذا مما تحت أيديهما، وذكر الرجل في الترجمة لأن الخطاب غالباً يكون مع الرجال، فهذا هو وجهه وإلا فالحديث كله يتعلق بامرأة ستأخذ مما تحت يدها، فالرجال والنساء في الأحكام سواء كما هو معلوم.
والمقصود من هذا أن الإنسان إذا كان له حق على إنسان وكان في يده شيء لذلك الإنسان، أو وصل إليه مال لذلك الإنسان فله أن يأخذ حقه من ذلك المال الذي بيده لاسيما إذا كان الرجل الذي عليه الحق مماطلاً أو غير قائم بالتسديد والتوفية، وهذه يسمونها مسألة الظفر، وهو أن من كان له حق على إنسان ووقع في قبضته شيء من ماله فله أن يستوفي حقه من ذلك الذي وقع في يده، فإن فضل شيء رده لصاحبه، وأن نقص عن حقه طالبه بالباقي.
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها في قصة هند امرأة أبي سفيان أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني وولدي ما يكفيني، فهل آخذ من ماله ما يكفيني؟ قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، ومحل الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لها بأن تأخذ من مال أبي سفيان الذي يكون تحت يدها، وتنفق به على نفسها وولدها، ولكن ذلك الإنفاق وذلك الأخذ يكون بالمعروف، فلا يكون فيه تقتير ولا تبذير وإسراف، وإنما تأخذ كفايتها على قدر الحاجة دون أن تزيد في ذلك، وهذا يدلنا على ما ترجم له قال المصنف رحمه الله تعالى، وأن للإنسان أن يأخذ حقه من مال غيره إذا وقع في قبضته.
وفيه أيضاً ذكر الإنسان بالشيء الذي لا يعجبه إذا كان ذلك في مقام التقاضي أو الاستفتاء أو غير ذلك؛ لأنها قالت: (إن أبا سفيان رجل شحيح)، ومعلوم أن أبا سفيان لا يعجبه أن يقال عنه: رجل شحيح، فذكر الإنسان بشيء هو فيه لا يعجبه لا بأس به عند الحاجة، وليس هذا من قبيل الغيبة، فهذا مما هو مأذون فيه، لأن (الغيبة ذكرك أخاك بما يكره)، لكن إذا كان ذلك في باب الجرح والتعديل وثبوت الشهادة فإنه يذكر الإنسان بما فيه، وكذلك في الاستشارة يخبر المستتشار مستشيره بما يعلمه فيه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المرأة التي سألته عن معاوية وأبي الجهم لما خطباها.
والحديث فيه دليل على أن للقاضي أن يحكم بعلمه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما طلب منها البينة على ما ادعته، لكن هذا ليس بقضاء وإنما هو فتوى، ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم قال لها: خذي ما يكفيك دون أن يطلب منها ما يثبت كلامها؛ لأنه ربما علم أن هذا من شأن أبي سفيان رضي الله عنه، فهو عنده شيء من البخل والشح، فمن أجل ذلك أذن لها الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تأخذ ما يكفيها وولدها بالمعروف.(401/19)
تراجم رجال إسناد حديث (إن أبا سفيان رجل شحيح)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
عروة ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقد مر ذكرها.(401/20)
شرح حديث (إن أبا سفيان رجل شحيح) من طريق ثانية وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا خشيش بن أصرم حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاءت هند إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل ممسك، فهل علي من حرج أن أنفق على عياله من ماله بغير إذنه؟ فقال: النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لا حرج عليك أن تنفقي بالمعروف)].
أورد أبو داود حديث عائشة من طريق أخرى، وهو مثل ما تقدم.
قوله: [حدثنا خشيش بن أصرم].
خشيش بن أصرم ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة عن عائشة].
وقد مر ذكرهما.(401/21)
شرح حديث (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو كامل أن يزيد بن زريع حدثهم حدثنا حميد -يعني: الطويل - عن يوسف بن ماهك المكي قال: كنت أكتب لفلان نفقة أيتام كان وليهم، فغالطوه بألف درهم فأداها إليهم، فأدركت لهم من مالهم مثليها، قال: قلت: أقبض الألف الذي ذهبوا به منك؟ قال: لا، حدثني أبي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)].
أورد أبو داود حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)، وهذا لا يعارض ما تقدم من الإذن لمن له حق أن يأخذه؛ لأن ذاك حق وليس بخيانة، وإنما النهي هنا عن خيانة من يخون، فالإنسان إذا حصل له خيانة فلا يعاقب بخيانة وإنما يصفح ويتجاوز ويؤدي الأمانة إلى من ائتمنه.
وقد أورد أبو داود حديث ذلك الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أن يوسف بن ماهك كان كاتباً لرجل عنده أيتام وأنهم غالطوه بألف، يعني: عندما بلغوا وسلم لهم أموالهم ادعو عليه ألفاً، فأعطاهم إياه، فذكر له يوسف بن ماهك: أنه ظفر لهم بألفين، فهل آخذ لك حقك من هذا الذي بيدي؟ فقال: لا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) يعني: إذا كانوا أخذوا بغير حق وكانوا مبطلين فلا يعاملهم بنفس معاملتهم، وإنما يعفو ويحسن في المعاملة.(401/22)
تراجم رجال إسناد حديث (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك)
قوله: [حدثنا أبو كامل].
هو أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي.
[أن يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع مر ذكره.
[حدثنا حميد -يعني: الطويل -].
هو حميد بن أبي حميد الطويل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يوسف بن ماهك المكي].
يوسف بن ماهك ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رجل عن أبيه].(401/23)
شرح حديث (أد الأمانة إلى من ائتمنك) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء وأحمد بن إبراهيم قالا: حدثنا طلق بن غنام عن شريك قال ابن العلاء: وقيس عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)].
أورد المصنف حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ الحديث المتقدم، والحديث المتقدم فيه رجل مجهول وهو صاحب الحساب مع الأيتام، وهو هنا من حديث أبي هريرة، فيكون ثابتاً من طريق أبي هريرة.
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأحمد بن إبراهيم].
هو أحمد بن إبراهيم الدورقي ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا طلق بن غنام].
طلق بن غنام ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن شريك].
هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي صدوق يخطئ كثيراً، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[قال ابن العلاء: وقيس].
يعني أن قيس مشارك لـ شريك وقرين له، فهناك اثنان من طريق ابن العلاء: شريك وقيس بن الربيع، وأما الدورقي فإنه لا يرويه إلا عن طريق شريك.
وقيس بن الربيع صدوق أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبي حصين].
هو أبو حصين عثمان بن عاصم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
هو أبو صالح السمان ذكوان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وأبو هريرة مر ذكره.(401/24)
الأسئلة(401/25)
حكم الإنفاق على أب لا يصلي
السؤال
إذا كان الأب لا يصلي فهل يجوز لي أن أنفق عليه؟
الجواب
أنفق عليه، ولكن هناك شيء أهم من الإنفاق عليه وهو نصحه وتوجيهه ودعوته وتخويفه، وأعظم بر له هو العمل على هدايته؛ لأن هذا فيه سلامته من العذاب في الدار الآخرة، وأما النفقة فهي لقوام الجسد في هذه الحياة، والصلاة والاستقامة هي الزاد الذي ينفع في الدار الآخرة: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]، فعليه أن ينفق عليه إذا كان محتاجاً إلى النفقة، ولكن أهم شيء هو أن يسعى في هدايته وإنقاذه من الهلكة.(401/26)
استواء الذكر والأنثى في الأكل من أموالهم
السؤال
هل البنت اليتيمة مثل الولد في الأكل من مالها؟
الجواب
نعم هي مثله؛ فإذا احتاج الأب إلى بنته تنفق عليه إذا كانت صاحبة مال فلا فرق بين الولد والبنت؛ لأن الولد يشمل الابن والبنت: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:11]؛ ويدخل فيه البنت، ويقول: {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:11]، والوالد هنا يشمل الذكر والأنثى، وقال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11].(401/27)
مدة نفقة الوالد على ولده
السؤال
ما هي مدة نفقة الوالد على ولده، هل لها سن معين؟
الجواب
معلوم أنه ما دام صغيراً يعني فإنه ينفق عليه، وإذا كبر وليس عنده قدرة على الكسب فإنه ينفق عليه، وأما إذا كان عنده قدرة على الكسب فإنه يرشده إلى أن يكتسب.(401/28)
سبب اشتراط عدم الإجحاف بمال الولد
السؤال
لماذا نشترط ألا يجحف الوالد بمال ولده؟
الجواب
معلوم أن الإنسان له حق في ماله، وهو أولى بماله من غيره، فكون الوالد يقضي على ماله ويبقى الولد فقيراً، فهذا لا يصلح، ولكن لا بأس أن الوالد يستفيد والولد يستفيد، فلا يصح أن يمسي غنياً ثم يصبح فقيراً؛ لأن والده سحب جميع ماله، ثم يذهب يسأل الناس! فهذا لا يستقيم.(401/29)
حكم أخذ الولد الغني والده للحج
السؤال
إذا كان عند الولد مال كثير فهل يجب عليه أن يذهب بوالده لأداء مناسك الحج؟
الجواب
إذا كان والده لم يحج، والابن قادر على ذلك فإن هذا من أعظم البر والإحسان، فيمكنه من أداء هذا الفرض، بل للوالد أن يأخذ من مال ولده ويحج به.(401/30)
حكم قول العامة (خان الله من يخون)
السؤال
تقول العامة: خان الله من يخون، فما حكم هذه المقولة؟
الجواب
هذا من أكبر الغلط، فلا تضاف الخيانة إلى الله عز وجل والعياذ بالله.(401/31)
حكم أخذ الحق من غير جنس ما أخذ منه
السؤال
هل يأخذ الرجل حقه من مال عنده لرجل وذلك ليس من جنس حقه، بمعنى: أن حقه من الغنم ووقع تحت يده من البقر؟
الجواب
يمكن أن يأخذه منه بقيمته.(401/32)
حكم أخذ الولد من مال والده بغير علمه
السؤال
هل للولد أن يأخذ من مال أبيه بالمعروف من غير علمه؟
الجواب
ليس له ذلك.(401/33)
حكم فتح المطعم في نهار رمضان للمسلم والكافر
السؤال
هناك مسلم صاحب مطعم في فرنسا هل يجوز له أن يبيع فيه في نهار رمضان سواءً للمسلم أو للكافر؟
الجواب
لا يجوز للمسلم أن يبيع الطعام في نهار رمضان لا للمسلمين ولا للكفار.(401/34)
بيع الرهن بعد انتهاء المدة
السؤال
إذا انتهت المدة المعيّنة للرهن، فماذا يفعل الذي عنده الرهن؟
الجواب
إذا لم يوفه حقه عند انتهاء المدة يباع الرهن ويأخذ حقه، وإن وجدت الزيادة ردها عليه، وإن كان هناك نقص فيبقى في ذمته.(401/35)
أحاديث الأبدال
السؤال
ما قولكم في الأبدال الذين أثبتهم كثير من العلماء كـ السيوطي؟
الجواب
لا نعلم شيئاً ثابتاً في الأبدال، لكن لا شك أن الله عز وجل قد هيأ لهذا الدين من يقوم به، فلا يخلو زمان من قائم لله بحجته ممن يوضح ويبين هذا الدين، فهذا المعنى موجود، وأما أحاديث الأبدال فليس منها شيء ثابت.(401/36)
استئذان الوالد للأخذ من مال ولده
السؤال
إذا أراد الأب أن يأخذ من مال ولده فهل يلزمه الاستئذان، أم يأخذ بدون استئذان؟
الجواب
لا شك أن الاستئذان أحسن، ولكن لو أخذ بدون استئذان كان له ذلك.(401/37)
شرح سنن أبي داود [402]
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها بخير منها، وهذا الأمر له أثره العظيم في نفس المهدي، فقبول الهدية فيه تطييب لقلب ونفس المهدي، فهو نوع من الكرم وباب من حسن الخلق يتألف به القلوب، وتدخل الهبة في الهدية، ولكن الهبة يحرم الرجوع فيها، أما الهدية لشخص من أجل قضاء حاجة فقبولها يعتبر من أبواب الربا، أما الهبة والعطية للأولاد فيشترط فيها العدل بين الأولاد، فكما أن الآباء يحبون من أولادهم أن يبروهم، فعليهم أن يعدلوا بينهم في العطية، فإن المفاضلة بين الأولاد بلا سبب مدعاة للعقوق، ومدعاة للشحناء والقطيعة بين الأولاد.(402/1)
ما جاء في قبول الهدايا(402/2)
شرح حديث: (أن النبي كان يقبل الهدية ويثيب عليها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قبول الهدايا.
حدثنا علي بن بحر وعبد الرحيم بن مطرف الرؤاسي قالا: حدثنا عيسى -وهو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي - عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في قبول الهدايا، أي: في حكم ذلك وأنه سائغ لا بأس به، ذلك في حق من يسوغ له أن يقبل الهدية ككونه ليس عاملاً ولا موظفاً، فإن كان من الموظفين الذين يهدى لهم من أجل محاباتهم ومن أجل تحصيل شيء بسبب ولايتهم ورئاستهم وما إلى ذلك، فإن هذا لا يجوز.
وأورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها) يعني: كان يقبلها ويثيب عليها بمثلها وأحسن منها، وهذا شأن وطريقة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ودل هذا على أن قبول الهدية حيث يكون المهدى إليه لا يترتب على الإهداء إليه دفع مضرة أو جلب مصلحة، أو أنه من أجل ولايته أو رئاسته أو ما إلى ذلك فإن مثل ذلك لا يسوغ، وبالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم فهو إمام المسلمين وسيد الخلق أجمعين، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهو معصوم بخلاف غيره فإنه غير معصوم، ولهذا فمن كان والياً أو موظفاً فلا يجوز له قبول الهدية؛ لأنه يحدث بسبب قبولها وبسبب الإهداء إليه أمور لا تصلح ولا تنبغي، ومن أجلها جاء النهي عن ذلك في أحاديث أخرى كما جاء في قصة ابن اللتبية الذي ذهب لجباية الزكاة فكان يهدى إليه، فلما جاء قال: (هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقال عليه الصلاة والسلام: ألا جلس في بيت أمه حتى ينظر هل تأتي إليه هديته؟)، يعني: أن الهدية لم تأت من أجل شخصه، وإنما جاءت من أجل مهمته وولايته، فدل هذا على أن الهدايا للعمال لا تجوز وأنها غير سائغة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها، والإثابة هي إعطاء شيء في مقابلها مثلها أو أحسن منها.
ومعلوم أن الهدايا تختلف، فقد تكون مثلاً هدية من كبير إلى صغير، أو من غني إلى فقير، وهذه ليس فيها مقابلة ولا إثابة إلا الدعاء، ولو أن إنساناً فقيراً أعطى لشخص كبير شيئاً وهو يرغب من ورائه بأن يحصل شيئاً أكثر فهذا هو الذي يثاب عليه، وهذا هو الذي يعطى في مقابل الهدية مثلها أو أكثر منها.(402/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي كان يقبل الهدية ويثيب عليها)
قوله: [حدثنا علي بن بحر].
علي بن بحر ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي.
[وعبد الرحيم بن مطرف الرؤاسي].
عبد الرحيم بن مطرف الرؤاسي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا عيسى].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(402/4)
شرح حديث: (وايم الله لا أقبل بعد يومي هذا من أحد هدية إلا أن يكون)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عمرو الرازي حدثنا سلمة -يعني: ابن الفضل - حدثني محمد بن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وايم الله! لا أقبل بعد يومي هذا من أحد هدية إلا أن يكون مهاجراً قرشياً، أو أنصارياً، أو دوسياً، أو ثقفياً)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال: (وايم الله! لا أقبل بعد يومي هذا من أحد هدية إلا أن يكون مهاجراً قرشياً، أو أنصارياً، أو دوسياً، أو ثقفياً).
ولعل ذلك أن هؤلاء قد عرفوا عزة النفس، وعدم الإلحاح والتطلع إلى شيء كثير جداً، وقد جاء في بعض الروايات ذكر السبب، وهو أن أعرابياً جاء فأعطاه حتى أعطاه أضعافاً مضاعفة، ومع ذلك ظل ساخطاً بعد ذلك، فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم هذه المقالة.(402/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (وايم الله لا أقبل بعد يومي هذا من أحد هدية إلا أن يكون)
قوله: [حدثنا محمد بن عمرو الرازي].
محمد بن عمرو الرازي ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة.
[حدثنا سلمة - يعني: ابن الفضل -].
سلمة بن الفضل صدوق كثير الخطأ، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة في التفسير.
[حدثني محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سعيد بن أبي سعيد].
هو سعيد بن أبي سعيد المقبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا الإسناد فيه من هو متكلم فيهم، وقد صححه الألباني.(402/6)
الفرق بين الهدية والعطية والهبة والصدقة
والفرق: بين الهدية والعطية والهبة والصدقة أن الصدقة تكون من الغني إلى الفقير، وأما الهدية فتكون من المثيل إلى المثيل، ومن الأدنى إلى الأعلى، والعطية بمعنى الهبة، والهدية -كما هو معلوم- قد يطلب بها المقابل، وأما الهبة والعطية فلا تكون كذلك.(402/7)
الأسئلة(402/8)
درجة حديث (تهادوا تحابوا)
السؤال
ما صحة حديث: (تهادوا تحابوا)؟
الجواب
هذا حديث حسن.(402/9)
حكم الإهداء لمدرس التحفيظ
السؤال
ولدي يحفظ القرآن في أحد المساجد عند أحد المشايخ، وهو موظف عند جماعة التحفيظ، وودت أنه كلما انتهى من جزء أهدى لهذا المدرس هدية، فهل هذا يدخل في هدايا الموظفين؟
الجواب
الذي يظهر أنه يدخل؛ لأنه موظف، والهدية تجعله يميل إليه ميلاً خاصاً، ويعنى به عناية خاصة من أجل هذه الهدية، وقد يحصل منه تقصير في حق من لا يكون كذلك، فتكون المسألة فيها تنافس عن طريق الهدايا.
والحاصل: ما دام أنه موظف فلا يهدى إليه.(402/10)
ما جاء في الرجوع في الهبة(402/11)
شرح حديث: (العائد في هبته كالعائد في قيئه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الرجوع في الهبة.
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان وهمام وشعبة قالوا: حدثنا قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (العائد في هبته كالعائد في قيئه)].
أورد أبو داود رحمه الله باب الرجوع في الهبة، أي: أن يهب الإنسان شيئاً ثم يطلب إعادته ممن أعطاه إياه، فهذا هو الرجوع في الهبة، وهو مذموم، وجاء ما يدل على تحريمه مع استثناء الوالد فيما يعطيه لولده فإن ذلك مستثنى وسائغ، وأما غيره فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على التنفير منه، وتمثيله بأنه كالعائد في قيئه، ومعلوم أن القيء قبيح مستقذر، وكون الإنسان يقيء ويرجع إلى قيئه فهذا شيء لا تقبله النفوس، وأيضاً جاء في الأحاديث بأنه يشبه الكلب، فهو يدل على التنفير والتحذير منه وأنه غير سائغ، وهو سائغ في حق الوالد فقط؛ لأن مال الولد كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك)، كما سبق أن مر بنا، وأيضاً فالوالد قد يحتاج إلى الرجوع؛ لأنه قد يفضل بعض أولاده على بعض ولا يسوي بينهم، فيلزمه أن يرجع في هبته التي أعطاها لبعض الأولاد حتى يسوي بين الأولاد ويعطي الآخرين مثل ما أعطى الذي أعطاه.
فالحاصل: أن الوالد له حكم يخصه، فهو مستثنى من الرجوع في الهبة، وأما غيره فإنه لا يجوز له ذلك.(402/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (العائد في هبته كالعائد في قيئه)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبان].
هو أبان بن يزيد العطار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[وهمام].
هو همام بن يحيى العوذي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وشعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال: همام: وقال: قتادة: ولا نعلم القيء إلا حراماً] يعني: أنه يحرم على الإنسان أن يأكل قيأه، بل هو في غاية الاستقذار.(402/13)
شرح حديث: (لا يحل لرجل أن يعطي عطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يزيد -يعني: ابن زريع - حدثنا حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن طاوس عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل، فإذا شبع قاء ثم عاد في قيئه)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر وحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لرجل أن يعطي عطية ثم يعود فيها إلا الوالد فيما يعطي ولد، ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل فيشبع، فإذا قاء رجع في قيئه)، فهذا فيه استثناء الوالد، وفيه أيضاً التمثيل بالكلب، وذلك شيء مستقبح؛ لأن القيء قبيح، والكلب فعله قبيح، فيكون ذلك من أسوأ الأعمال، وفعل في غاية الدناءة والسوء.
واستثناء الوالد من ذلك لأنه إذا رجع فكأنما رجع في ماله لحديث (أنت ومالك لأبيك)، وقد يحتاج الوالد إلى الرجوع إذا أعطى بعض بنيه ولم يعط الباقين، أو لم يتمكن من إعطاء الباقين، فإن عليه أن يرجع حتى يسوي بينهم فيعطيهم جميعاً على حد سواء، وذلك بأن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، فهو عندما يمنح الأولاد فإنه يعطيهم على قدر إرثهم ولا يسوي بين البنين والبنات، وإنما يعطي على قدر الإرث، فكما هي الحالة بعد الموت، {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فكذلك إذا أعطى في الحياة فإنه يعطي الذكر مثل الأنثيين.
ولا يقاس عليه الزوج في هبته لزوجته؛ لأن الاستثناء إنما حصل للولد.(402/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يحل لرجل أن يعطي عطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يزيد -يعني: ابن زريع -].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حسين المعلم].
هو حسين بن ذكوان المعلم، ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب].
عمرو بن شعيب صدوق، أخرج حديثه البخاري في (جزء القراءة) وأصحاب السنن.
[عن طاوس].
طاوس بن كيسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[وابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.(402/15)
شرح حديث (لا يحل لرجل أن يعطي عطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني أسامة بن زيد أن عمرو بن شعيب حدثه عن أبيه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (مثل الذي يسترد ما وهب كمثل الكلب يقيء فيأكل قيئه، فإذا استرد الواهب فليوقف فليعرف بما استرد، ثم ليدفع إليه ما وهب)].
أورد أبو داود حديث عمرو بن شعيب من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، وفيه: (فإذا استرد الواهب فليوقف فليعرف) يعني: إذا أراد الواهب أن يسترد ما وهبه فليعرف ويوقف على الحكم، وأن ذلك غير سائغ، وأن هذا مثل صنيع الكلب الذي يقيء فيعود في قيئه فهو أعطى من أجل أن يحصل له مقابل، ولما لم يحصل واسترد فإنها ترد عليه.
قوله: (ثم ليدفع إليه ما وهب) يعني: يرجع له ولا يعطى أكثر، وهذا إذا أراد أن يرجع بالشيء الذي أعطاه؛ لأنه ما حصل الشيء الذي يريد؛ فليرجع إليه.(402/16)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يحل لرجل أن يعطي عطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
سليمان بن داود المهري المصري ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني أسامة بن زيد].
هو أسامة بن زيد الليثي، وهو صدوق يهم أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب عن أبيه].
عمرو بن شعيب مر ذكره، وأبوه شعيب بن محمد صدوق، أخرج حديثه البخاري في (الأدب المفرد) و (جزء القراءة) وأصحاب السنن.
وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما هو الصحابي الجليل، وأحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(402/17)
ما جاء في الهدية لقضاء الحاجة(402/18)
شرح حديث: (من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الهدية لقضاء الحاجة.
حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا ابن وهب عن عمر بن مالك عن عبيد الله بن أبي جعفر عن خالد بن أبي عمران عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)].
أورد أبو داود: باب في الهدية لقضاء الحاجة، أي: أن يشفع له شفاعة ثم يأخذ عليها شيئاً، ومعنى ذلك: أن هذا فيه طلب الثواب، فالإنسان عندما يأخذ في مقابله شيء مع أنه أمر سهل فإن ذلك يؤثر في النية والإحسان وعدم تحصيل الثواب الذي يكون بالإحسان؛ لأنه أخذ مقابله عرضاً من الدنيا.
أورد أبو داود حديث أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)، أي: أن فيه شبهاً؛ لأن هذا إحسان، والأصل أنه لا يأخذ في مقابله شيء، وكونه فعل ذلك محسناً ثم يأخذ في مقابله شيئاً فإن ذلك يؤثر فيه، فهو كالذي أتى باباً عظيماً من أبواب الربا، يعني: أن فيه شبهاً، وهذا تحذير من هذا العمل، فمن شفع شفاعة حسنة فليرجو ثوابها عند الله عز وجل، ولا يكون شأنه كشأن من عمل هذا العمل وهمه الدنيا والبحث عنها في مقابل هذا الإحسان الذي ينبغي أن يكون لله، وأن يبذل بدون مقابل.(402/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)
قوله: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح المصري ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب].
ابن وهب مر ذكره.
[عن عمر بن مالك].
عمر بن مالك لا بأس به أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن عبيد الله بن أبي جعفر].
عبيد الله بن أبي جعفر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد بن أبي عمران].
خالد بن أبي عمران صدوق أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن القاسم].
هو القاسم بن عبد الرحمن، وهو صدوق يغرب كثيراً، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) وأصحاب السنن.
[عن أبي أمامة].
هو أبو أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه، وحديثه أخرج أصحاب الكتب الستة.(402/20)
ما جاء في الرجل يفضل بعض ولده في النحل(402/21)
شرح حديث النعمان بن بشير: (هذا تلجئة فأشهد على هذا غيري)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يفضل بعض ولده في النحل.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم أخبرنا سيار وأخبرنا مغيرة وأخبرنا داود عن الشعبي، وأخبرنا مجالد وإسماعيل بن سالم عن الشعبي عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: (أنحلني أبي نحلاً، قال إسماعيل بن سالم من بين القوم: نحلة غلاماً له، قال: فقالت له أمي عمرة بنت رواحة: ائت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأشهده، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأشهده، فذكر ذلك له فقال له: إني نحلت ابني النعمان نحلاً، وإن عمرة سألتني أن أشهدك على ذلك، قال: فقال: ألك ولد سواه؟ قال: قلت: نعم، قال: فكلهم أعطيت مثل ما أعطيت النعمان؟ قال: لا).
قال: فقال بعض هؤلاء المحدثين: (هذا جور)، وقال بعضهم: (هذا تلجئة فأشهد على هذا غيري).
قال مغيرة في حديثه: (أليس يسرك أن يكونوا لك في البر واللطف سواء؟ قال: نعم، قال: فأشهد على هذا غيري).
وذكر مجالد في حديثه: (إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم، كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك)].
أورد أبو داود: باب في الرجل يفضل بعض ولده في النحل، يعني: في العطية، والنحل جمع نحلة وهي العطية، فلا يجوز أن يخص الوالد بعض أولاده بالعطايا والأموال، فإذا أعطى فليسوِّ بينهم في العطية، فإذا كانوا ذكوراً وإناثاً فإنه يعطي للذكر مثل حظ الأنثيين، فيسوي بين الإناث ويسوي بين الذكور، ويجعل للذكر مثل حظ الأنثيين كالشأن في الميراث، فمن الناس من يريد أن يسوي بين الذكور والإناث في الحياة، حتى لا يحصل التفريق بينهم بعد الممات، فيريد أن يعطي النساء أكثر مما يستحققنه وذلك بأن يعطيهن في حياته وهذا غلط، فإذا وزع عليهم في الحياة فليوزع كما يوزع الميراث، وهذا من حيث العطايا، وأما من حيث النفقة فإن ذلك يختلف باختلاف أحوالهم، فالصغير يختلف الإنفاق عليه من الكبير، وإذا جاء موعد زواج واحد منهم يزوجه، لكن لا يرصد لكل واحد مقدار ما أعطى الآخر في الزواج، وإذا بلغ إلى أنه يعطى سيارة وأعطى سيارة فلا يرصد لكل واحد منهم أن يعطيه ذلك، ولكنه إذا وصل ذاك الذي دونه إلى ما وصل إليه هذا فإنه يعامله كما عامل هذا، لا أنه إذا أعطى إنساناً شيئاً من النفقة أنه يلزمه يرصد للباقين مثل ما رصد له، وإنما يعطي كلاً في وقته بحسبه، فقد ترتفع المهور وقد تنخفض، وقد تزيد أسعار السيارات وقد تنخفض وهكذا.
فالحاصل: أن هذا يعتبر من جملة النفقة التي تختلف باختلاف الأحوال، ولا يعتبر من قبيل العطايا التي لابد فيها من التسوية، وإنما ذلك فيما إذا أعطاهم نقوداً، أو عقاراً، أو أشياء يتملكونها فيسوي بينهم على ما ذكر، وهو أن للذكر مثل حظ الأنثيين.
قال: [(أنحلني أبي نحلاً، قال إسماعيل بن سالم من بين القوم: نحلة غلاماً له).
يعني: أن الرواة الذين رووه عن عامر الشعبي عن النعمان بن بشير كلهم قالوا: نحلاً، إلا إسماعيل بن سالم من بينهم فإنه قال: غلاماً، (فقالت له أمي عمرة بنت رواحة: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشهده).
-والنعمان من صغار الصحابة، وقد توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام وعمره ثمان سنوات- فقالت أمه لأبيه: أشهد على ذلك رسول الله عليه السلام.
وتريد بذلك أن تتوثق من هذه العطية لولدها وذلك بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ حتى لا يشاركه أو ينافسه أو يعترض عليه أحد من إخوانه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ذلك: (ألك ولد سواه؟ قال: نعم، قال: أكلهم نحلتهم مثل هذا؟ قال: لا)، وهذا يدل على أن القاضي أو المفتي عندما يعرض عليه شيء فإنه يستوضح من الأمور التي يمكن أن يبنى عليها الحكم؛ لأن الحكم قد يختلف باختلاف الجواب، فإذا كان ليس له ولد غيره فإن النحلة في محلها؛ لأنه لا منافس له، وإن كان له أولاد سواه فإنه يختلف: فإما أن يسوي بينهم بأن يعطيهم مثل ما أعطاه، أو يسترجع هذا الذي أعطاه؛ حتى يكون عادلاً بينهم.
فهذا فيه دلالة على أنه عند الفتوى والقضاء فإنه يسأل عن الأمور والملابسات التي قد يترتب عليها اختلاف في الحكم؛ لأنه قال: (ألك ولد سواه؟ قال: نعم.
قال: أكلهم أعطيتهم؟ قال: لا)، فعند ذلك نهاه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر بالعدل بين الأولاد، وقال: (لا تشهدني على جور).
وطلب عمرة رضي الله عنها إشهاد النبي صلى الله عليه وسلم كأنها تريد أن تستوثق من هذا الذي حصل؛ لكي يصير ملكاً محققاً بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم وموافقته على ذلك.
وقد ذكر المصنف هنا عدة أشخاص يروون عن الشعبي، وقد اختلفوا في الألفاظ التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعض هؤلاء الذين روو عن الشعبي قالوا: (هذا جور)، وقال بعضهم: (هذا تلجئة)، ومعناه: إضافة المال إلى شخص وتخصيصه به، (فأشهد على هذا غيري).
وقال مغيرة في حديثه: (أليس يسرك أن يكونوا لك في البر واللطف سواء؟).
قوله: (أشهد على هذا غيري) فيه تهديد وليس إذناً، فليس معناه: أنا لا أشهد ولكن غيري يشهد، وإنما هو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فقوله: (اصنع ما شئت) ليس أمراً وإرشاداً بأن يصنع ذلك، ولكنه تهديد، فكذلك قوله هنا: (أشهد على هذا غيري)، فهو حرام لا يجوز ولا ينفذ بل يرجع، ومثل هذا قوله عز وجل: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، فليس في الآية تخيير؛ لأنه تعالى قال بعد ذلك: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29].
وذكر مجالد في حديثه: (إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك)].
يعني: عليه لهم العدل وعليهم له البر، فكما أنه يحب أن يكونوا بارين به فعليه أن يكون عادلاً بينهم.(402/22)
تراجم رجال إسناد حديث النعمان بن بشير: (هذا تلجئة فأشهد على هذا غيري)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الفقيه الإمام المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سيار].
هو سيار أبو الحكم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأخبرنا مغيرة].
هو مغيرة بن مقسم الضبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأخبرنا داود].
هو داود بن أبي هند ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الشعبي].
هو عامر بن شراحيل الشعبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأخبرنا مجالد].
مجالد بن سعيد ليس بالقوي، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[وإسماعيل بن سالم].
إسماعيل بن سالم ثقة، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن الشعبي عن النعمان بن بشير].
الشعبي مر ذكره، والنعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو من صغار الصحابة، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره ثمان سنوات.(402/23)
من أحكام العطايا والمنح وقسمتها بين الأولاد
مما ينبغي أن يعلم: أن ما سبق هو فيما يتعلق بالعطايا والمنح، وأما إذا كان الشخص فقيراً وأولاده متفاوتون فيهم الغني والفقير، وأعطى الفقير لفقره شيئاً يقتاته لا أن يعطيه مالاً يتموله دونهم، فله ذلك بأن يعطيه شيئاً ينفق به على نفسه منه، وكونه يحسن إليه من أجل الأكل أو اللبس فلا بأس بذلك لفقره، وأما أن يعطيه عقاراً أو أموالاً يتمولها فليس له ذلك.
وقد جاء الحديث في الصحيح: أنه وهب النعمان حائطاً، ولعل هذا من اختلاف الرواة، ولعل بعضها أرجح من بعض، وأما أن تكون قضيتين مستقلتين ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قال له مثل هذا الكلام ثم يعود الصحابي إلى فعله ثانية فإن هذا مستبعد؛ إذ كيف تحصل القصة ويبين عليه السلام الحكم ثم يتكرر نفس الفعل في المرة الثانية، ثم يعود الصحابي يستفتي وقد عرف ذلك من قبل، فهذا بعيد، وتعدد الروايات قد يحمل على أنه منحه هذا ومنحه هذا، فيصدق عليه أنه ذكر هذا على حدة وهذا على حدة.
[قال أبو داود في حديث الزهري: قال بعضهم: (أكل بنيك)، وقال بعضهم: (ولدك)].
فالأولاد يدخل فيهم الذكور والإناث، وأما البنين فيطلق على الذكور ويدخل البنات في هذا الحكم، ويكون ذكر البنين على سبيل التغليب، وأما الولد فإنه يشمل الذكر والأنثى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} [النساء:12] يعني: ذكراً أو أنثى؛ لأن الولد يراد به الذكر والأنثى.
[وقال ابن أبي خالد عن الشعبي فيه: (ألك بنون سواه؟)، وقال أبو الضحى عن النعمان بن بشير: (ألك ولد غيره؟)].
وهذا اختلاف في العبارات، وهو مثل: ألك ولد؟ والولد يشمل الذكر والأنثى، والبنين خاصة بالأبناء؛ ويقابلها البنات، وعلى هذه الرواية يكون ذكر البنين على سبيل التغليب لا أن الحكم خاص بالبنين دون البنات، فالبنون والبنات كلهم أولاد مستحقون لأن يسوى بينهم، إلا أن الفرق بين الذكور والإناث: أن الإناث يعطين على النصف مما يعطاه الذكور كالشأن في الميراث؛ لأن المال قسمه الله عز وجل على أنه للذكر مثل حظ الأنثيين، والفرق بين الذكور والإناث أن الذكر حقه قابل للنقصان وأما الأنثى فحقها قابل للزيادة؛ لأنها تتزوج ويكون لها مهر وزوجها ينفق عليها، وأما الولد فهو يبحث عن مهر وينفق على نفسه وعلى زوجته وأولاده، فمن أجل ذلك حصل التفريق بينهما، فإذا حصل أن أعطوا في الحياة فإنهم يعطون كما يعطون بعد الوفاة.
وبعض الناس يفعلون أمراً يخالف الشرع فيما يتعلق بالذكور والإناث، فيريد أن يسوي بينهم في الميراث فيعطيهم في الحياة بالتسوية حتى لا يقسم بينهم الميراث وتعطى المرأة النصف، فيكون في ذلك مخالفة للشرع إذا كان ذلك مقصوداً، وقال بعض أهل العلم: يسوي بين الذكور والإناث في العطية، ولكن الأظهر -والله أعلم- أنه لا يسوى بين الذكور والإناث.
وأما رواية مجالد فهو ليس بالقوي، ولكن معناها صحيح؛ لأن العدل هو أن يبروه جميعاً، فكذلك عليه أن يعدل بينهم، وقد جاء: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)، فلا بأس أن يعطى كل واحد مائة ريال، أو ألف ريال، أو عشرين ألف ريال أو أقل أو أكثر، فهذه تسوية، لكن الإناث تكون على النصف.
ورواية مجالد حكم عليها الشيخ الألباني بالشذوذ وقال: صحيح إلا هذه، ولكنها من حيث المعنى مستقيمة وليس فيها إشكال؛ لأنه يحب أن يكونوا في البر له سواء، فكذلك عليه أن يعدل، والعدل مطلوب، كما جاء: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) في أحاديث أخرى.
وقد يكون بعض الأبناء أبر بأبيه من بعض فإذا حصل منه له خدمة وانقطع له فله أن يعطيه مقابل هذا الانقطاع، وأما كونه يعطيه أموالاً يميزه بها عن غيره تكون أكثر مما يقابل هذا الذي بذله من أجله وأراد أن يكافأ عليه، فليس له ذلك.
[قال أبو داود في حديث الزهري].
الزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وقال ابن أبي خالد عن الشعبي].
ابن أبي خالد هو إسماعيل بن أبي خالد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وقال أبو الضحى: عن النعمان].
أبو الضحى هو مسلم بن صبيح ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(402/24)
شرح حديث النعمان بن بشير في العطية من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن هشام بن عروة عن أبيه قال: حدثني النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: (أعطاه أبوه غلاماً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ما هذا الغلام؟ قال: غلام أعطانيه أبي، قال: فكل إخوتك أعطى كما أعطاك؟ قال: لا، قال: فاردده)].
أورد أبو داود الحديث السابق من طريق أخرى، وفيه أن المخاطبة كانت للنعمان، وفي السابق كانت لأبيه، ويمكن أن يكون حصل ذلك من النعمان ثم حصل من أبيه، أو حصل منهما جميعاً، وفيها أيضاً زيادة أنه يرد ذلك الذي أعطي ولم يحصل به العدل، وسبق أن ذكرنا في الحديث السابق أن الوالد له أن يرجع فيما وهب؛ لأن الرجوع قد يكون له سبب وهو أنه أعطى بعضاً دون بعض، والمطلوب هو التسوية، فقد يحتاج هنا إلى أنه يرجع؛ لأنه إما أنه لا يريد أن يعطيهم مثل ما أعطاه، أو أنه ليس عنده شيء يمكن أن يعطيهم مثل ما أعطاه، وعلى هذا إذا لم يسو بينهم فعليه أن يرجع في تلك العطية.(402/25)
تراجم رجال إسناد حديث النعمان بن بشير في العطية من طريقة ثانية
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
مر ذكره.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة عن أبيه عن] هشام بن عروة وأبوه مر ذكرهما.
[عن النعمان].
النعمان مر ذكره.(402/26)
شرح حديث النعمان بن بشير في العطية من طريقة ثالثة وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن حاجب بن المفضل بن المهلب عن أبيه قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اعدلوا بين أولادكم، اعدلوا بين أبنائكم)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اعدلوا بين أولادكم، اعدلوا بين أبنائكم)، وهذا فيه الأمر بالعدل والتسوية بين الأولاد إذا كانوا ذكوراً وإناثاً، فيسوى بين الأبناء إذا كانوا ذكوراً خلصاً أو إناثاً خلصاً، وإن كانوا ذكوراً وإناثاً فيسوى بين الذكور ويسوى بين الإناث، وتكون الإناث على النصف مما يعطاه الذكور كما في الميراث، وقد جاء في بعض الروايات: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم).
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد بن درهم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حاجب بن المفضل بن المهلب].
حاجب بن المفضل بن المهلب ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبيه].
وهو صدوق أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن النعمان بن بشير].
النعمان رضي الله عنه مر ذكره.(402/27)
شرح حديث النعمان بن بشير في العطية من طريق رابعة وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن رافع حدثنا يحيى بن آدم حدثنا زهير عن أبي الزبير عن جابر قال: قالت امرأة بشير: انحل ابني غلامك، وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: إن ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلاماً، وقالت لي: أشهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (له إخوة؟ فقال: نعم، قال: فكلهم أعطيت مثلما أعطيته؟ قال: لا، قال: فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وهو مثل ما تقدم، وقال: (إنه لا يصلح هذا)، يعني: أن يعطى بعض البنين ويترك البعض، وقال: (إني لا أشهد إلا على حق)، وفي بعض الألفاظ: (إني لا أشهد على جور).
قوله: [حدثنا محمد بن رافع].
محمد بن رافع النيسابوري ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا يحيى بن آدم].
يحيى بن آدم الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
هو أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
تنبيه: الأم والأب سواء، فإذا أعطت بنيها فلا بد أن تعدل بينهما سواء ذلك في الهبة أو الرجوع فيها.
ولو أعطيت ابنك شيئاً بسيطاً كالريال والريالين فلا يلزم في ذلك التسوية خصوصاً إذا أعطيته لحالة معينة؛ لأنه قد يعطي هذا اليوم ريالاً وهذا يعطيه ريالاً، وهذا إذا احتاج يعطيه ريالاً آخر وهكذا، وهذا يعتبر من قبيل النفقة لا العطايا التي فيها مال، فهذا قد يحتاج إلى مقدار فيعطيه إياه، وقد يحتاج هذا إلى مقدار فيعطيه إياه، وهذا من قبيل النفقة وليس من قبيل الهدايا والهبات التي يكون فيها تمول، والأولاد يتفاوتون في الأشياء اليومية، فالذين في الثانوي ليسوا كمن هم في الابتدائي، فالأول يعطى أكثر من الثاني.(402/28)
ما جاء في عطية المرأة بغير إذن زوجها(402/29)
شرح حديث: (لا يجوز لامرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في عطية المرأة بغير إذن زوجها.
حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد عن داود بن أبي هند وحبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يجوز لامرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: باب في عطية المرأة بغير إذن زوجها، أي: إذا كانت المرأة سفيهة فلا تعطي بغير إذن زوجها مادام أنها قد دخلت في عصمته، بمعنى أنه قد عقد عليها وصارت زوجة له، وإن كانت رشيدة فينبغي لها أن ترجع إليه وتشاوره، وإن أعطت فلها ذلك، ولكن الاستئذان يعتبر من المعاملة الحسنة ومن العشرة الطيبة، والرجوع إليه هو الذي ينبغي، وقد جاء ما يدل على تصرف النساء بأموالهن بدون الرجوع إلى الأزواج، كما في حديث ابن عباس الذي فيه: (أن النبي خطب الناس ثم جاء وخطب النساء في العيدين فقال: تصدقن يا معشر النساء! فإنكن أكثر حطب جهنم، فقمن النساء يلقين من أقراطهن وخواتيمهن)، ومعلوم أن هذا ليس فيه إذن الأزواج، فالمرأة لها حق التصرف في مالها بدون الرجوع إلى الزوج، لكن من مكارم الأخلاق، ومن المعاملة الطيبة والعشرة الحسنة أن ترجع إليه وتستشيره، فهذا هو المقصود من الترجمة.
وأورد حديث عبد الله بن عمرو: (لا يجوز لامرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها)، يعني: أنها لا تتصرف إلا بإذنه، وكما عرفنا أن هذا على الاستحباب إلا أن تكون سفيهة فليس لها ذلك.(402/30)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يجوز لامرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن داود بن أبي هند وحبيب المعلم].
داود بن أبي هند مر ذكره.
[وحبيب المعلم].
حبيب المعلم صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده].
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مر ذكرهم.(402/31)
شرح حديث: (لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو كامل حدثنا خالد -يعني: ابن الحارث - حدثنا حسين عن عمرو بن شعيب أن أباه أخبره عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها)].
أورد أبو داود هذا الحديث وهو مطلق؛ لأنه لم يذكر: (في مالها)، ولكنه يحمل على مالها، وأما ماله فمعلوم أنه ليس لها أن تعطيه إلا بإذن زوجها، وهو إما أن يكون إذن معين أو مطلق، أي: أنه أعطاها إذناً عاماً بأنها تعطي في حدود كذا، أو من كذا وكذا فإن لها ذلك، هذا إذا كان في ماله، وأما إذا كان في مالها فيدل عليه الحديث الأول، وكلاهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أي: أن المسألة تتعلق بمالها، فالحكم هو أن ذلك من قبيل المعاملة الطيبة والعشرة الحسنة لا أنه حرام لا يسوغ، فلها أن تتصرف في مالها إذا لم تكن سفيهة بدون إذنه.(402/32)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها)
قوله: [حدثنا أبو كامل].
هو أبو كامل الجحدري فضيل بن حسين ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا خالد -يعني: ابن الحارث -].
خالد بن الحارث ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حسين].
هو حسين المعلم، وقد مر ذكره.
[عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده].
وقد مر ذكرهم.(402/33)
الأسئلة(402/34)
حكم الرجوع عن الهبة بالنية
السؤال
رجل نوى أن يهب رجلاً، فهل له أن يرجع في نيته؟
الجواب
النية لا يترتب عليها شيء، وما دام أنه لم يخرج منه شيء فله أن يرجع، ومجرد النية لا يترتب عليها شيء، حتى إذا عيّنتَ الهدية ولم تعطها إياه فلك أن ترجع.(402/35)
حكم الرجوع في الهبة إذا كان الواهب يحتاجها
السؤال
إذا كان المهدي محتاجاً إلى هذه الهبة، فهل يجوز له الرجوع؟
الجواب
إذا أهداها من أجل أنه يحصل على أكثر منها ولم يحصل فيمكنه أن يرجع فيها، وهو معنى الحديث الذي مر.(402/36)
حكم امتناع الموهوب من رد الهبة
السؤال
هل يجوز للموهوب أن يمتنع من رد الهبة؟
الجواب
إذا أعطي من أجل الثواب ولم يثب فإنه يرجعها.(402/37)
الجمع بين المكافأة على المعروف وكونه من الربا
السؤال
كيف يجمع بين هذا الحديث وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه)؟
الجواب
يبدو -والله أعلم- أن ذاك في غير الشفاعة التي ينبغي أن تبذل بين الناس بدون مقابل، وقد دل هذا الحديث على منع أخذ شيء في مقابلها، وأما غيرها فيدل عليه هذا الحديث: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه).(402/38)
حكم التهادي قبل الشفعة
السؤال
من أهدي إليه قبل أن يشفع فهل يدخل في هذا الحديث؟
الجواب
إذا وجد التهادي بين الاثنين من قبل وكانت هذه عادة مستمرة بينهما فلا بأس، وأما إذا كان لا يعرف التهادي بينهم ولكنه جاء وأعطاه ذلك ثم عقبه بطلب الشفاعة، فهذه الهدية من أجل تلك الشفاعة التي مهد لطلبها بتقديم هذه الهدية.(402/39)
دخول الهدايا غير العينية في عموم الإهداء
السؤال
هل يدخل في الهدايا الأشياء غير العينية، كإيصاله بالسيارة، أو إيصال أولاده، أو إعطاء أولاده هدايا؟
الجواب
نعم يدخل بلا شك، فكونه يوصل أولاده، أو يوصله بالسيارة لا شك أن هذا من الانتفاع.(402/40)
حكم الهدية إذا لم تنفع الشفاعة
السؤال
إذا لم تنفع الشفاعة فأعطاه هدية؟
الجواب
الإعطاء في الأصل ليس هذا محله، وقبولها فيه هذا الوعيد الشديد، فعليه أن يرجعها نفعت الشفاعة أو لم تنفع.(402/41)
حكم قبول الهدية
السؤال
ما حكم قبول الهدية هل هو واجب أو سنة؟
الجواب
الموظف لا يجوز له أن يقبل الهدية، وأما إذا كان غير ذلك وليس في قبولها محذور وردها يترتب عليه مضرة، أو تضرر المهدي، فينبغي له أن يقبلها، ولكن يثيب عليها بما هو خير منها.(402/42)
حكم الإهداء للمعلم بمناسبة يوم المعلم
السؤال
هناك يوم يسمى يوم المعلم، وهو تقدير لدور المعلم في التعليم، وفي المدارس يحصل تقديم بعض الهدايا من بعض الطلاب لمعلميهم تقديراً لهذه المناسبة، فهل يجوز ذلك بأن يجتمع الطلاب ويشترون هدية لأستاذهم؟
الجواب
لا، لا يجوز هذا لا في هذه المناسبة ولا في غيرها، وهذه المناسبة محدثة لا يصلح أن الناس يصنعون فيها أموراً خاصة.(402/43)
حكم الإهداء لأهل العلم
السؤال
هل يجوز لي أن أهدي هدية لشيخ درسني في السنوات الماضية ولن يدرسني بعد ذلك؟
الجواب
لا ينبغي هذا.(402/44)
حكم رد الهدايا بسبب الاختلاف
السؤال
أهديت لرجل هدايا، ثم بعد مدة اختلفت معه اختلافاً أدى إلى الفرقة بيننا فرد إلي جميع الهدايا ووضعها في بيتي، فهل هذا يدخل في الرجوع في الهدية؟ وكيف أردها إليه؟
الجواب
إن كان هو الذي أرجعها وأنت لم تطلبها منه فلا يضرك ذلك.(402/45)
حكم أخذ الهدايا على تعليم الدين تطوعاً
السؤال
هل يجوز أخذ الهدايا إذا كنتُ أعلّم الناس الدين في سبيل الله متطوعاً؟
الجواب
لا ينبغي للإنسان أن يأخذ إذا كان مثلما جاء في الحديث: (اجعل لنا شخصاً من أهل الصفة) فالنبي صلى الله عليه وسلم حذره من ذلك ومنعه منه.(402/46)
حكم عطايا الأب لأبنائه كأشخاص
السؤال
ما حكم عطايا الأب لبعض أبنائه تشجيعاً؟
الجواب
إذا كان سيعطي مثلاً الذي يحل الواجب أو نحو هذا فلا بأس بذلك؛ لأن هذا ليس من إعطائهم كأشخاص، بل هو إعطاء من أجل التنافس والمنافسة.(402/47)
حكم الالتحاق بالجامعات الشرعية بدون رضى الوالدين
السؤال
بعض الطلاب تركوا دراسة الطب والهندسة وغيرها من الكليات في جامعات بلادهم والتحقوا بالجامعة الإسلامية وأهلهم غير راضين بذلك، فهل هذا يعتبر من العقوق؟ وما نصيحتكم؟
الجواب
لا ليس هذا من العقوق؛ لأن الإنسان إذا ذهب لطلب العلم ومعرفة الحق والعمل به والدعوة إليه فهذا هو المطلوب، ولكن ينبغي له مع ذلك أن يسترضي أهله، وأن يحسن إليهم، وأن يعمل ما يمكنه من الأمور التي فيها رضاهم، وأما أن يترك العلم من أجلهم فلا يفعل ذلك، بل يستمر في طلب العلم ولكن يحرص مع ذلك على إرضائهم وتطييب خواطرهم بأي وسيلة ممكنة.(402/48)
شرح سنن أبي داود [403]
إن مما يقوي أواصر الأخوة ويزيد في المحبة العطايا والهبات، ويدخل في الهبات ما يسمى بالعمرى والرقبى، وهي هبات مرتبطة بالعمر، سواء كان عمر الواهب أو عمر الموهوب له، وقد يستمر نفعها لورثة الموهوب له وقد لا يستمر.(403/1)
ما جاء في العمرى(403/2)
شرح حديث (العمرى جائزة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في العمرى.
حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا همام عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (العمرى جائزة)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في العمرى].
العمرى هي: عطية مضافة إلى العمر والحياة، يقول: أعطيتك هذه الدار مدة عمرك أو مدة حياتك، أو ما بقيت، أو ما عشت، أو ما إلى ذلك من الألفاظ التي تدل عليها، وقيل لها عمرى؛ لأنها مأخوذة من العمر، وهو أن يقول: مدة عمرك أو ما عشت.
وجاءت أحاديث تدل على اعتبارها وثبوتها، وأنها إذا حصلت فإنها معتبرة وثابتة، وفيها تفصيل جاء بيان بعضه في بعض الأحاديث التي ستأتي، وهو أنه إذا قال: أعطيتك لك ولعقبك، فإن هذه شأنها شأن ماله الذي يجري فيه الميراث؛ بحيث أنه ينتفع به في حياته ولو بقي بعد وفاته فإنه يكون لعقبه ويورث، وقد يكون مطلقاً بأن يقول: ما عشت أو ما حييت؛ فإن هذا يكون مثل الذي قبله؛ لما جاء من أحاديث مطلقة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أثبت ذلك، وأقر كون شأنه شأن الميراث.
والحالة الثالثة: أن يقول: هي لك ما عشت، فإذا مت فإنها تعود إلي أو إلى ورثتي، ففي هذه الحالة فيها خلاف، فمنهم من قال: إن هذا الشرط لا يعتبر، وشأنها شأن الأشياء المطلقة التي لا قيد فيها.
ومنهم من قال: إنه معتبر، وأنه بمثابة العارية التي يستفاد منها وترد في الوقت الذي يحدد إذا كان الأمر يحتاج إلى تحديد.
وعلى هذا فالعمرى سائغة وثابتة، وإن قيد بأنها له ولعقبه، فالأمر واضح ولا إشكال فيه، وإن سكت عن ذكر العقب فالأحاديث جاءت بأنها تكون أيضاً كذلك شأنها شأن الميراث، وإن جاء التقييد فهذا فيه خلاف بين أهل العلم، والذي يظهر أنه معتبر ويكون من قبيل العارية، وأنه إذا قال: ترجع إليَّ بعد وفاتك فإنها تكون بمثابة العارية.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العمرى جائزة)، أي: أنها سائغة ومشروعة وأنه لا مانع منها.(403/3)
تراجم رجال إسناد حديث (العمرى جائزة)
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
أبو الوليد الطيالسي هو هشام بن عبد الملك الطيالسي، وهذه ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا همام].
هو همام بن يحيى العوذي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن النضر بن أنس].
النضر بن أنس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بشير بن نهيك].
بشير بن نهيك ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق، وهذا الإسناد كل رجاله ممن خرج لهم أصحاب الكتب الستة.(403/4)
شرح حديث (العمرى جائزة) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد حدثنا همام عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مثله].
أورد أبو داود الحديث من طريق سمرة بن جندب، وهو من رواية الحسن عن سمرة، ورواية الحسن عن سمرة معروف أن الثابت منها حديث العقيقة وغيره فيه خلاف، والأظهر عدم ثبوت ما يأتي من هذه الطريق إلا إذا وجد لها شواهد، والحديث الأول شاهد لها، فإذاً العبرة بالحديث السابق الذي لا إشكال فيه، وهذا الإسناد الذي فيه إشكال جاء ما يؤيده ويدل عليه، فهو ثابت بالإسناد الذي قبله، ولو لم يأت ولم يثبت إلا من هذه الطريق فهذا الحكم شأنه شأن الأحاديث الأخرى التي في ثبوتها نظر، ولكن حديث أبي هريرة المتقدم بمعناه وهو دال على ما دل عليه، فيكون هذا الذي جاء عن سمرة ثابتاً بحديث أبي هريرة.
قوله: [حدثنا أبو الوليد عن همام عن قتادة عن الحسن].
الحسن بن أبي الحسن البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سمرة].
هو سمرة بن جندب رضي الله عنه صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(403/5)
شرح حديث (العمرى لمن وهبت له) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان عن يحيى عن أبي سلمة عن جابر: أن نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقول: (العمرى لمن وهبت له)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (العمرى لمن وهبت له) وهذا مطلق ليس فيه ذكر العقب، فيدل على أنها هبة، وأنها تكون لمن وهبت له، وشأنها شأن سائر أمواله، بمعنى: أنه ينتفع بها ويرثها ورثته من بعده.
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبان].
هو أبان بن يزيد العطار وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن يحيى].
هو يحيى بن أبي كثير اليمامي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف المدني، وهو ثقة فقيه، أخرج أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(403/6)
شرح حديث (من أعمر عمرى فهي له ولعقبه) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني حدثنا محمد بن شعيب أخبرني الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن جابر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (من أعمر عمرى فهي له ولعقبه يرثها من يرثه من عقبه)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعمر عمرى فهي له ولعقبه)، وهذا يدل على أنه إذا كان اللفظ مطلقاً وأنه أعمر عمرى فإنها تكون له ولعقبه، وإن لم ينص على ذكر العقب؛ وقوله: (من أعمر عمرى فتكون له ولعقبه)، معناه: شأنها شأن الميراث، وأنها شأن المملوك الذي ملكه الإنسان بمجرد كونه وهب له، فهذا يدلنا على أن ما كان مطلقاً من العمرى فإن شأنه شأن المال الذي يجري فيه الميراث، وأنها تكون للموهوب ولعقبه من بعده.
قوله: [حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني].
مؤمل بن الفضل الحراني صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا محمد بن شعيب].
هو محمد بن شعيب بن شابور، وهو صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[أخبرني الأوزاعي].
الأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما وقد مر ذكره.(403/7)
شرح حديث (من أعمر عمرى فهي له ولعقبه) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن الزهري عن أبي سلمة وعروة عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعناه].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وقال: إنه بمعنى الذي قبله.
قوله: [حدثنا أحمد بن أبي الحواري].
أحمد بن أبي الحواري ثقة، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثنا الوليد].
هو الوليد بن مسلم الدمشقي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأوزاعي عن الزهري عن أبي سلمة وعروة عن جابر].
وقد مر ذكرهم.
[قال أبو داود: وهكذا رواه الليث بن سعد عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر].
الليث بن سعد ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(403/8)
ما جاء في ذكر العقب في العمرى(403/9)
شرح حديث (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من قال فيه: ولعقبه.
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا بشر بن عمر حدثنا مالك -يعني ابن أنس - عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث)].
أورد أبو داود باب من قال فيه: ولعقبه، أي: في العمرى، ولعقبه يعني: قال: لك ولعقبك، أو له ولعقبه، يعني: أنها مقيدة وليست مطلقة، فإنها تكون له ولعقبه، بل إنه لو لم يقل: ولعقبه فإنها تكون له كما جاء في الأحاديث المطلقة، وهذا ليس فيه إشكال والأمر فيه في غاية الوضوح؛ لأنه أعطى عطاءً تجري فيه المواريث، ويكون مثل المال الخاص الذي يكون للإنسان ويرثه عقبه من بعده، فتكون هذه المسألة من أوضح ما يكون فيما يتعلق بكونها تنتقل للمواريث؛ فإذاً شأنها شأن الأموال التي تحصل للإنسان، ويكون مالكاً لها، ويجري فيها ما يجري في سائر أمواله.
قوله: [(أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي يعطاها لا ترجع للذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث)].
لأنه قال: (له ولعقبه)، فجاء على وجه تجري فيه المواريث حيث نص على العقب.(403/10)
تراجم رجال إسناد حديث (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[ومحمد بن المثنى].
محمد بن المثنى هو أبو موسى العنزي الملقب بـ الزمن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا بشر بن عمر].
بشر بن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مالك -يعني ابن أنس -].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، وأحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله].
وقد مر ذكرهم.(403/11)
حديث (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه) من طرق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حجاج بن أبي يعقوب حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب بإسناده ومعناه].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وأحال على الذي قبله وأنه بإسناده ومعناه.
قوله: [حدثنا حجاج بن أبي يعقوب].
حجاج بن أبي يعقوب ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا يعقوب].
هو يعقوب بن إبراهيم السعدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبي].
هو إبراهيم بن سعد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن صالح].
هو صالح بن كيسان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
ابن شهاب هو محمد بن مسلم مر ذكره.
[قال أبو داود: وكذلك رواه عقيل عن ابن شهاب ويزيد بن أبي حبيب عن ابن شهاب، واختلف على الأوزاعي في لفظه عن ابن شهاب، ورواه فليح بن سليمان مثل حديث مالك].
ثم ذكر طرقاً أخرى للحديث: [قال أبو داود: وكذلك رواه عقيل عن ابن شهاب].
هو عقيل بن خالد بن عقيل المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ويزيد بن أبي حبيب].
هو يزيد بن أبي حبيب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[اختلف على الأوزاعي في لفظه عن ابن شهاب ورواه فليح بن سليمان].
فليح بن سليمان صدوق كثير الخطأ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(403/12)
شرح حديث (فإذا قال هي لك ما عشت ترجع إلى صاحبها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله قال: (إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك.
فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها)].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه من طريق أخرى، وفيه: (إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك فإذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها)، وهذا مخالف لما تقدم من أنها تجري فيها المواريث.
لكن الكلام على قوله: (فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صحابها) لأنه سبق ذكر أن شأنها شأن المواريث؛ فلو قال: إنها ترجع إلي فلا شك أنها ترجع، وإذا أطلق فقد سبقت الأحاديث بأنها شأن الميراث.
قوله: [(ما عشت)] هي بمعنى: عمرك، ومثلها في المعنى: ما بقيت، أو عمرك، أو مدة حياتك، هذه هي العمرى فلا ترجع إليه؛ لأنه جاء في حديث جابر: (من أعمر عمرى فهي له ولعقبه يرثها من يرثه من عقبه) الدلالة على أنها تكون له، وكلمة: عمرى هي نفسها: ما عشت؛ إذ لا فرق بين ما عشت وبين عمرى؛ لأن العمرى معناها مدة عمرك.
لكن إذا قال: فإذا مت ترجع إلي، ونص على أنها ترجع، فهي ترجع، وفيه خلاف فمنهم من قال: إن الشرط لا يعتبر.
ولا يقال: إن قوله: لك ما عشت، وقوله: لك حتى إذا مت رجعت متقارب المعنى؛ لأنه عندما قال: إذا مت رجعت إلي، هذا نص على رجوعها إليه، وأما إذا قال: ما عشت، فنفس الحديث الذي مر أن العمرى له ولعقبه وأنه يجري فيها الميراث.
والمسألة هذه فيها خلاف والتي بعدها فيها خلاف، والمتفق عليه منها هي الأولى: (هي لك ولعقبك)، ولا خلاف فيها.
وقول جابر: (إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صحابها)، هذا تفسير منه وأما صاحب عون المعبود فقد أشار إلى اجتهاده فقال: قال في فتح الودود وهو شرح لسنن أبي داود، لـ أبي الحسن السندي في خمس مجلدات قال: هذا اجتهاد من جابر بن عبد الله، ولعله أخذه من مفهوم حديث: (أيما رجل أعمر عمرة له ولعقبه)، والمفهوم لا يعارض المنطوق، ولا حجة في الاجتهاد فلا يخص به الأحاديث المطلقة.
انتهى.(403/13)
تراجم رجال إسناد حديث (فإذا قال هي لك ما عشت ترجع إلى صاحبها)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر].
وقد مر ذكر الثلاثة.(403/14)
شرح حديث (لا ترقبوا ولا تعمروا، فمن أرقب شيئاً أو أعمره فهو لورثته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا ترقبوا ولا تعمروا، فمن أرقب شيئاً أو أعمره فهو لورثته)].
أورد أبو داود حديث جابر: (لا ترقبوا ولا تعمروا، فمن أرقب شيئاً فهو له ولورثته)، والرقبى كما سيأتي في أثر مجاهد بن جبر: أنه يعطيه العين فيقول: إن مت قبلك فهي لك وإن مت قبلي فإنها ترجع إلي، وقيل لها: رقبى؛ لأن كل واحد يرقب موت الآخر وينتظره حتى تصير له، فإن مات الواهب المعطي فإنها تكون للمْرقَب، وإن مات المرقب فإنها ترجع للمْرقِب أي: الواهب.
قوله: [(لا ترقبوا ولا تعمروا)] المقصود من هذا ما جاء ذكره في بعض الأحاديث: (أمسكوا أموالكم) ومعناه: أن الإنسان إذا أراد أن يعطي عطاءً فليكن مما ليس له علاقة بالعمر أو بالحياة، ويمسك ماله ويجري فيه ما يجري في أمواله، ولا يأتي به على هذه الطريقة، والنهي عنه لا يدل على تحريمه بل إذا وجد فإنه يصح ويثبت، وأن الأولى هو عدم الإرقاب وعدم الإعمار.
(فمن أرقب شيئاً أو أعمره فهو لورثته).(403/15)
تراجم رجال إسناد حديث (لا ترقبوا ولا تعمروا، فمن أرقب شيئاً أو أعمره فهو لورثته)
قوله: [حدثنا إسحاق بن إسماعيل].
هو إسحاق بن إسماعيل الطالقاني وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء عن جابر].
عطاء بن أبي رباح المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وجابر رضي الله عنه مر ذكره.(403/16)
شرح حديث جابر في صدقة الابن على أمه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا معاوية بن هشام حدثنا سفيان عن حبيب -يعني: ابن أبي ثابت - عن حميد الأعرج عن طارق المكي عن جابر بن عبد الله قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في امرأة من الأنصار أعطاها ابنها حديقة من نخل فماتت، فقال ابنها: إنما أعطيتها حياتها، وله إخوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هي لها حياتها وموتها، قال: كنت تصدقت بها عليها، قال: ذلك أبعد لك)].
أورد أبو داود حديث جابر في قصة الابن الذي أعطى أمه حديقة، ولما ماتت قال: إنها لي؛ لأنه إنما أعطاها مدة حياتها، لكن إخوته الذين يريدون أن يرثوا هذه الحديقة خاصموا في ذلك، وعارضوا الكلام الذي قاله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هي لها حياتها وموتها) لأنه إن أعطاها إياها عطية فليس لها علاقة في العمرى فهي ثابتة وانتهت من حين حصل الإعطاء، وإذا ماتت فشأنها شأن الميراث، وإن أعطاها إياها على أنها عمرى وأنها لها ما عاشت وهي مطلقة فقد عرفنا أن شأنها شأن الميراث، فقال: إنما هي صدقة، قال: (ذلك أبعد لك) يعني: ما دام أنها صدقة فقد ملكتها في الحال، ولا علاقة لها بالعمرى، وهي أبعد من أن ترجع إلى هذا الذي يريد أن ترجع إليه.
والحديث ضعفه الألباني، ولا أدري ما وجه التضعيف، ولعله بسبب حبيب بن أبي ثابت فهو مدلس، والحديث معناه متفق مع الأحاديث الأخرى ولا يخالفها؛ لأنها إن كانت عطية فالعطية ثابتة في الحال وليس لها علاقة بمدة الحياة، وإن كان المقصود أنها مدة حياتها فهي من قبيل العمرى التي شأنها شأن الميراث، وإن كانت من قبيل الصدقة فهي أعظم وأثبت من قضية العمرى المقيدة بمدة حياتها، فمعناه صحيح ومتفق مع الأحاديث الأخرى التي تتعلق بالعمرى.(403/17)
تراجم رجال إسناد حديث جابر في صدقة الابن على أمه
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا معاوية بن هشام].
معاوية بن هشام صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا سفيان].
سفيان هو الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حبيب -يعني ابن أبي ثابت -].
حبيب بن أبي ثابت ثقة، يدلس ويرسل، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد الأعرج].
حميد الأعرج ليس به بأس، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن طارق المكي].
طارق المكي وثقه أبو زرعة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما وقد مر ذكره.(403/18)
ما جاء في الرقبى(403/19)
شرح حديث (والرقبى جائزة لأهلها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرقبى.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم أخبرنا داود عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (العمرى جائزة لأهلها، والرقبى جائزة لأهلها)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب في الرقبى، والرقبى على وزن العمرى، والعمرى تتعلق بالعمر، والرقبى تتعلق بعمر واحد منهما إما الواهب أو الموهوب له؛ لأنه يقول: هذه لك إن مت قبلك فهي لك، وشأنها شأن أموالك، وإن مت قبلي فإنها ترجع إلي، وقيل لها: رقبى؛ لأن كل واحد منهما يرقب وينتظر موت الآخر حتى يحصل على ذلك الشيء الذي وقع بينهما الاتفاق عليه، وهذا التفسير سيأتي عن مجاهد بن جبر في آخر الباب.
وهي مثل العمرى من حيث أنها له ولعقبه يرثها إذا مات الواهب قبله، أما إن مات الموهوب له قبل الواهب فإنها ترجع للواهب.(403/20)
تراجم رجال إسناد حديث (والرقبى جائزة لأهلها)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن حنبل مر ذكره.
[حدثنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا داود].
هو داود بن أبي هند، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي الزبير].
هو أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر مر ذكره.(403/21)
شرح حديث (ولا ترقبوا فمن أرقب شيئاً فهو سبيله) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي قال: قرأت على معقل عن عمرو بن دينار عن طاوس عن حجر عن زيد بن ثابت أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أعمر شيئاً فهو لمعمره محياه ومماته، ولا ترقبوا فمن أرقب شيئاً فهو سبيله)].
أورد أبو داود حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (من أعمر شيئاً فهو لمعمره محياه ومماته)، يعني: من وهب شيئاً لشخص مدة عمره فهو لمعمره حياته ومماته معناه: أنه يجري فيه الميراث، ويكون له في حياته، وبعد وفاته يورث لمن بعده كما مر في الأحاديث السابقة المطلقة التي فيها أن العمرى تكون له ولعقبه من بعده.
قوله: [(ولا ترقبوا فمن أرقب شيئاً فهو سبيله)].
يعني: سبيل وطريقة الميراث.
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[قرأت على معقل].
هو معقل بن عبيد الله الجزري، وهو صدوق يخطئ، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن عمرو بن دينار].
هو عمرو بن دينار المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن طاوس].
هو طاوس بن كيسان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حجر].
هو حجر بن قيس، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن زيد بن ثابت].
زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(403/22)
شرح أثر (والرقبى هو أن يقول الإنسان هو للآخر مني ومنك) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن الجراح عن عبيد الله بن موسى عن عثمان بن الأسود عن مجاهد قال: العمرى أن يقول الرجل للرجل: هو لك ما عشت، فإذا قال ذلك فهو لورثته، والرقبى هو أن يقول الإنسان: هو للآخر مني ومنك].
قوله: [هو للآخر مني ومنك]، يعني: إن مت قبلك يكون لك، وإن مت قبلي يكون لي، ولهذا كل واحد منهم يرقب الآخر حتى يكون له ذلك؛ فمن من مات أولاً يكون للمتأخر منهما وهذا تفسير من مجاهد للرقبى والعمرى.
قوله: [حدثنا عبد الله بن الجراح].
عبد الله بن الجراح صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود والنسائي في مسند مالك وابن ماجة.
[عن عبيد الله بن موسى].
عبيد الله بن موسى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عثمان بن الأسود].
عثمان بن الأسود ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجاهد].
هو مجاهد بن جبر المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(403/23)
الأسئلة(403/24)
العمرى هبة
السؤال
هل العمرى وقف؟
الجواب
لا ليست بوقف ولكنها هبة، سواء كانت أرضاً يزرعها أو داراً يسكنها.(403/25)
حكم العمرى للأب والابن من بعده
السؤال
لو قال: أعمرتك هذه الدار مدة عمرك ثم لابنك فلان هل يجوز؟
الجواب
يجوز.(403/26)
حكم الرقبى إن مات الواهب والموهوب سوياً
السؤال
رجل أرقب آخر داراً فماتا سوياً في حادث سيارة ولم يتبين أيهما مات قبل؟
الجواب
الواهب أولى بها.(403/27)
العمرى والرقبى ليستا وصية
السؤال
هل العمرى والرقبى بمنزلة الوصية فيجوز فيها أكثر من الثلث؟
الجواب
لا ليست بمنزلة الوصية؛ لأنها منحة في الحياة، وليست بعد الموت.(403/28)
عدم أثر النية في العمرى والرقبى من غير تلفظ
السؤال
لماذا لا تعتبر النية في العمرى، فربما يقول: هي لك مدة حياتك ولا يشترط، ونيته أن تعود إليه بعد وفاته؟
الجواب
الأحاديث جاءت بأن الألفاظ المطلقة تكون له ولعقبه، وفي الحديث قال: (أنا أعطيتها ما عشت، قال: إنها لا ترجع إليك).(403/29)
حكم التراجع في العمرى
السؤال
هل للمعمر أن يتراجع في العمرى؟
الجواب
ليس له ذلك.(403/30)
الفرق بين العمرى والهبة
السؤال
ما الفرق بين العمرى والهبة؟
الجواب
الهبة ناجزة بأن يعطيه هذه الدار، ويقول: خذها الآن، والعمرى نوع من الهبة ولكنها مقيدة.(403/31)
ميراث المتصدق من صدقته
السؤال
إذا كان الذي أعطي العمرى ممن يرث المعطي، فهل يرث منها؟
الجواب
نعم، يرث مما أعطاه كتلك المرأة قال لها: (وجب أجرك وردها عليك الميراث)، حديث ورد أنها تصدقت بكذا وكذا (وجب أجرك، وردها عليك الميراث)؛ لأن المتصدق عليه ملك فإذا مات يرثه.(403/32)
حكم العمرى لمدة ثلاث سنوات
السؤال
إذا قال: هي لك لمدة ثلاث سنوات، ثم ترجع إلي، فما الحكم؟
الجواب
في هذه الحالة تعتبر عارية لمدة ثلاث سنوات.(403/33)
فائدة التقييد في العمرى بقوله: (ما عشت)
السؤال
إذا قال: هي لك ما عشت، أفلا يكون التقييد بقوله: ما عشت.
لغواً لا فائدة له، على القول بأنها تكون لمن وهبت له ولعقبه؟
الجواب
جاء في الأحاديث ما يدل على أن مثل ذلك له ولعقبه.(403/34)
الجمع بين جواز الرقبى والنهي عنها
السؤال
كيف الجمع بين قوله: (الرقبى جائزة لأهلها)، وقوله: (لا ترقبوا)؟
الجواب
قوله: (لا ترقبوا) نهي وإشارة إلى أن الإنسان يمسك ماله ولا يخرجه بهذه الطريقة، ولكنه إذا أرقب فإن الرقبى ثابتة.(403/35)
الفرق بين الرقبى والعمرى
السؤال
كيف نميز بين الرقبى والعمرى؟
الجواب
العمرى يقول فيها: هي لك ما عشت، أو لك ولعقبك، وأما الرقبى فكما جاء تفسيرها عن مجاهد تقول: هي للآخر منا موتاً، إن أنا مت قبلك فهي لك، وإن مت قبلي فإنها ترجع إلي.
ولابد من التلفظ، أما مجرد النية فهي في القلوب ولا يدرى عنها فلا يثبت بها حكم، لحديث: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل)، فالإنسان عندما ينوي أن يتصدق له أن يرجع، والنية لا يثبت بها شيء، ولو نوى أن يطلق دون أن ينطق فما يثبت طلاق، وكذلك لو نوى أن يعتق وما تلفظ فلا يعتبر قد أعتق.
كما أن العمرى والرقبى تكون للزوجة أيضاً، وما دام أنها متعلقة بحياته فلا علاقة لها بتقييدها بأنها زوجة، أو إذا أعطاها لامرأة غير زوجته فإن الأمر متعلق بأنها عطية يجري فيها الميراث.(403/36)
إثبات طيران الملائكة بالأجنحة
السؤال
هل تطير الملائكة بالأجنحة؟
الجواب
نعم، جاء ما يدل على أنها تطير بالأجنحة، وذلك فيما جاء في قصة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأنه لما قطعت يداه في غزوة مؤتة عوضه الله تعالى بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة، وقد جاء في صحيح البخاري في كتاب المناقب: أن عبد الله بن عمر كان إذا لقي عبد الله بن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين، والحافظ ابن حجر في شرحه قال: لعله يشير إلى كذا، وذكر حديثاً عند الطبراني في الكبير وقال: إنه بإسناد صحيح، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن جعفر: (هنيئاً لك أباً يطير بجناحين في السماء مع الملائكة)، وذكر أحاديث أخرى ومنها حديث ابن عباس وقال: إنه بإسناد جيد أنه قال: (أبوك له جناحان يطير بهما مع جبريل وميكائيل)، فهذا يدل على أن للملائكة أجنحة يطيرون بها.(403/37)
معنى حديث (الرقبى جائزة)
السؤال
ألا يكون معنى قوله: (الرقبى جائزة) أي: هبة وهدية لأهلها؟
الجواب
جائزة يعني: ثابتة وغير محرمة، ولا شك أنها هبة ولكنها مقيدة إذ ليست كالهبة المطلقة التي ناوله إياها، أو قال: هذه هبة لك، ثم خرجت منه في الحال، ولا تقييد لها بأمر مستقبل.(403/38)
حكم بيع العمرى والرقبى
السؤال
هل يجوز بيع العمرى والرقبى؟
الجواب
نعم يجوز؛ لأنه ملك للإنسان.(403/39)
حكم تقييد العمرى بالرجوع إلى الواهب
السؤال
إذا قال: العمرى لك وليست لعقبك؟
الجواب
إذا قال: هي لك وليست لعقبك وترجع إلي، فهذا مثل التقييد بكونها ترجع إلي.(403/40)
حكم الضمان في العمرى والرقبى
السؤال
هل يدخل في العمرى والرقبى الخراج بالضمان بحيث إن الضمان على المعمر والمرقب؟
الجواب
لا؛ لأنها ملك للمعمر، إلا على ما استكتبا القيد، وهي للمعمر على كل حال سواء كانت يجري فيها الميراث أو أنها مقيدة بأنها ترجع إليه، ومعناه مثلما جاء في الرهن أنه يركب ويحلب، فكذلك إذا استفاد منها فإن الغنم له والغرم عليه، لكن إذا تلفت من أصلها فإنها تتلف على حساب مالكها.
وبالنسبة للرقبى فمحتمل أن تعود إذا مات المرقب إليه، لكن على كل يصير مثلما قلنا: مقابل الانتفاع يكون الغرم.(403/41)
حكم هدايا العمال
السؤال
جرت العادة أن الطالبة في مدارس تحفيظ القرآن إذا نجحت في اختبار أجزاء من القرآن تمر على مدرسات المدرسة في فصولهن وتهدي لهن بعض الحلوى إظهاراً لفرحتها وشكراً لربها، فهل هذه الحلوى والهدايا تعتبر من هدايا العمال؟
الجواب
المسألة عامة وليس فيها تمييز بين شيء وشيء، فهي ما أعطت المدرسات إلا من أجل أنهن مدرسات، وأما الطالبات فلا بأس من التهادي بينهن، وأما المدرسات فلا يهدى إليهن شيء من الطالبات.(403/42)
حكم التصدق بأموال مشوبة بحرام
السؤال
هل يجوز أن يتصدق الرجل بأمواله المشتبهة تخلصاً منها؟
الجواب
( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، والأموال إن كانت غير نظيفة وغير نزيهة أو محرمة، فإن التخلص منها يكون بصرفها في أمور ممتهنة كتعبيد الطرق وبناء الحمامات، وما أشبه ذلك.(403/43)
حكم الجمع بين صلاتي الجمعة والعصر
السؤال
هل يجوز الجمع بين صلاة الجمعة والعصر؟
الجواب
الذي يظهر أنه لا يجوز؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، والجمع إنما جاء بين الظهر والعصر، وأما مع الجمعة فإنه لم يثبت في ذلك شيء، ولهذا لا يصلح أن يجمع بين الجمعة وبين العصر.(403/44)
حكم إقامة جماعة ثانية في المسجد
السؤال
هل يجوز إقامة جماعة في المسجد بعد الجماعة الأولى والمسجد به إمام راتب؟
الجواب
هذا فيه تفصيل، فإذا كان هؤلاء الذين جاءوا -الجماعة الثانية- متعمدين لأن يصلوا وحدهم ولا يريدون أن يصلوا وراء الإمام فهذا لا يجوز، وإن كانوا جاءوا ليصلوا ولكن الذي حصل أن الصلاة فاتتهم، فلهم أن يصلوا جماعة ثانية ولا بأس بذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاء رجل مفرد قال: (من يتصدق على هذا فيصلي معه؟)، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن توجد له الصلاة عن طريق الصدقة، فإذا جاءوا اثنين أو ثلاثة ولا يحتاجون إلى صدقة فلا يقال لهم: كل واحد يذهب يصلي في بيته؛ لأنكم جئتم ثلاثة، ولو جاء واحد يقال له: ابحث عن واحد يتصدق معك، هذا ما يحتاج إلى صدقة، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن توجد الجماعة الثانية ولو عن طريق الصدقة فحصولها بدون صدقة أولى.(403/45)
حكم الاحتفال بختم قراءة القرآن
السؤال
نقرأ جزءاً من القرآن في كل يوم، فإذا كان اليوم الثلاثون -يوم الختم- يصنع بعض الإخوان الشاي والقهوة ويقولون: هذا يوم الختمة، أي: يوم الجزء الأخير، فما حكم هذا؟
الجواب
لا بأس به إن شاء الله، ولكن لو كان هذا للفقراء والمساكين فهو أحسن.(403/46)
بيان أن الملائكة يتفاوتون في عدد أجنحتهم
السؤال
هل ورد ما يدل على أن الملائكة تطير بجناحين؟
الجواب
الذي له جناحان هو جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يطير بهما مع الملائكة، والملائكة قال الله عز وجل عنهم: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1]، وجاءت السنة بأن جبريل له ستمائة جناح، فالجناحان هما لـ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يطير بهما مع الملائكة، ولا يشكل عليه ما جاء في صفة جبريل عليه السلام أن له ستمائة جناح، لأن النبي قال عن جعفر إنه يطير بجناحين، يعني: له جناحان وهما بدل اليدين، وجاء في الحديث نفسه: (عوضه الله عن يديه)، وهو نفس الحديث الذي قال عنه ابن حجر: بإسناد جيد.(403/47)
حكم الهدايا والولائم من آباء الطلاب للمدرسين
السؤال
إذا أعطانا أحد آباء طلابنا هدية أو دعانا لأكل في بيته، فهل يجوز لأحدنا أن يحضر أو أن يأخذ هذه الهدية؟
الجواب
الذي يبدو أنه لا فرق بين الهدية من الولد أو من الوالد؛ لأن النتيجة واحدة، ولكن كونه يقيم وليمة وتكون عامة وهم يحضرون تبعاً فلا بأس.(403/48)
حكم التصدق على حارس مدرسة ينتج عنها محاباة
السؤال
هناك حارس مدرسة بنات وهو فقير، وأريد أن أتصدق عليه؛ لكنني أعلم أنه سيراعيني بمناداة الطالبات اللاتي من طرفي إذا جئت إلى المدرسة مباشرة، فهل أتصدق عليه؟
الجواب
لا تفعل ما دامت المسألة فيها محاباة، وإن تصدقت فلا يكن قصدك أن يراعيك.(403/49)
معنى حديث (يرفع العلم ويكثر الجهل)
السؤال
هل رفع القرآن في آخر الزمان يدخل تحت عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (يرفع العلم ويكثر الجهل)، أم أن رفع العلم خاص بموت العلماء؟
الجواب
لا يدخل في رفع العلم رفع القرآن، فذاك يوم من الأيام لا يكون القرآن في المصاحف ولا في الصدور منه شيء، وأما رفع العلم فمعناه كثرة الجهل، وقلة العلماء، وقبض العلم بقبض العلماء.(403/50)
حكم كتابة الاسم على الهدية للذكرى
السؤال
هل يجوز أن يهدي الرجل لآخر هدية ويكتب فيها اسمه لكي يذكره بعد سنوات ولا ينساه؟
الجواب
كونه يكتب عليها اسم المهدى إليه لكي يستعملها كأن يكون ختماً فيه اسمه أو قلماً عليه اسمه فلا بأس، أما اسم شخص من الناس كل من يراه يقول: هذا ما شاء الله أهداه إليك فلان ونحن ما أهدى لنا فلا يفعل.(403/51)
حضور مجالس العلم
السؤال
أبي يريد مني ألا أحضر مجالس العلماء والاستفادة منهم، لا لسبب شرعي وإنما لأنني مستقيم والحمد لله، فبماذا تنصحونني هل أطيعه أم ماذا؟
الجواب
احضر مجالس العلم، واسع إلى أن يحضر والدك معك.(403/52)
خطأ عبارة (يصح أن يقع الظلم من الله عقلاً)
السؤال
هل هذه العبارة صحيحة: يجوز أن يقع الظلم من الله عقلاً ولا يجوز أن يقع شرعاً؟
الجواب
لا يصح أن يقال هذا الكلام أبداً، ولا يضاف الظلم إلى الله مطلقاً.(403/53)
جواز الهبة لمدة مؤقتة
السؤال
رجل صاحب عمارة قال لطالب: لك أن تسكن في هذا البيت ما دمت طالباً في الجامعة، فهل تعتبر عمرى؟
الجواب
هذه هبة مؤقتة بمدة دراسته في الجامعة.(403/54)
حكم الجمع بين الجمعة والعصر
السؤال
حصل لي أني جمعت في سفر بين الجمعة والعصر، فماذا علي؟
الجواب
لا بأس وليس عليك شيء.(403/55)
حكم دفع الرشوة لأخذ الحقوق
السؤال
شخص لا يستطيع أن يحصل على حقه إلا بدفع الرشوة، فماذا يعمل؟
الجواب
لا يجوز له أن يدفع الرشوة وإنما عليه أن يرفع الأمر إلى من يوقف هذا المرتشي عند حده، ويحول بينه وبين كونه لا يؤدي حقوق الناس إلا إذا أعطوه رشوة، لكن لو لم يوجد من ينصفه؛ وسوف يضيع عليه حقه، أو يحصل له تعطيل وحبس لمصالحه إلا أن يعطي فهذا ليس فيه بأس؛ لأن كونه يعطي شيئاً من أجل أن يحصل على ماله كله أحسن من كونه يضيع عليه ماله كله، أو يحصل له مضرة كبيرة لأنه لم يعط، أما إذا وجد سبيلاً إلى أن يوقف هذا المرتشي أو هذا الظالم عند حده فلا يجوز له ذلك؛ لأن مثل هذا يجرئ هؤلاء المرتشين إلى أن تكون معاملتهم للناس بهذه الطريقة، إما أن يرشوه أو أن يضيع عليهم مصالحهم.(403/56)
حكم تحية المسجد لمن توضأ
السؤال
إذا خرج الإنسان من المسجد النبوي ليتوضأ ثم عاد، فهل عليه أن يصلي تحية المسجد؟
الجواب
نعم؛ لأنه لما دخل في الحمامات خرج من المسجد، فإذا خرج منها ودخل في المسجد فإنه يصلي، ثم أيضاً من سنن الوضوء أن يصلي ركعتين بعده غير تحية المسجد، فالحاصل أنه يصلي ركعتين؛ لأن الحمامات ليست بمسجد، لكن الساحة مسجد، فإذا دخل الحمامات وخرج منها خرج من غير المسجد إلى المسجد.(403/57)
حكم توجيه القدمين باتجاه القبلة
السؤال
هل يصح أن يقال: إن من باب تعظيم شعائر الله عدم توجيه القدمين ومدهما تجاه القبلة؟
الجواب
لا يقال هذا؛ لأن مد الرجلين إلى القبلة ليس فيه عدم تعظيم لشعائر الله عز وجل، والإنسان كما هو معلوم إذا كان مستلقياً أو كان مريضاً فإنه يحتاج إلى أن يمد رجليه للقبلة، وعندما يصلي وهو مستلق يكون بهذه الطريقة، ولا يقال: إن هذا من عدم التعظيم، ولعل الذي ينوي عدم التعظيم هذا هو من جاء بالنية السيئة.(403/58)
حكم التسمي بعبد المتعال
السؤال
ما حكم التسمية بعبد المتعالي وعبد المقيت؟
الجواب
لا بأس؛ لأن المقيت من أسماء الله.
والمتعالي كذلك كما قال: {وهو الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9].(403/59)
حكم الهبة للأحفاد الأيتام دون غيرهم
السؤال
رجل له ولدان، وكل منهما له أولاد، مات أحد هذين الولدين فوهب هذا الرجل لأولاده منزلاً بحجة أنهم أيتام، والولد الثاني لم يعطه ولا لأولاده شيئاً، فما الحكم؟
الجواب
أولاد الابن لا يرثون، فكونه يعطيهم أو يوصي لهم لأنهم لا يرثون فلا بأس بذلك؛ ولأن الوصية تكون مشروعة لغير الوارث، فإن أعطاهم لفقرهم وضعفهم فلا بأس، وقد عرفنا أنه لو كان أولاده فيهم أغنياء وفقراء فله أن يعطي الفقير من أجل أن يأكل لا من أجل أن يملكه عمارة، أو ما له قيمة، ولا يعطي الأغنياء مثلما يعطي الفقير لفقره.(403/60)
شرح سنن أبي داود [404]
جاءت الأحاديث الدالة على أن العارية مضمونة، وهذا فيه مصلحة للناس، بحيث يطمئن الناس على حقوقهم، وأنها مضمونة؛ لأن من استعار عارية فهي في ضمانه حتى يعيدها كما أخذها، وإن تلفت فيؤدي مثلها أو يدفع ثمنها، وكذلك من أفسد شيئاً على أخيه غرم مثله، ومن أتلفت ماشيته زرعاً بالنهار فليس لصاحب الزرع شيء، وإن كان ليلاً فعلى صاحب الماشية أن يغرم لصاحب الزرع ما أتلفت ماشيته، وهذا فيه مراعاة لجميع الناس.(404/1)
ما جاء في تضمين العارية(404/2)
شرح حديث (على اليد ما أخذت حتى تؤدي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في تضمين العارية.
حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا يحيى عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤدي)، ثم إن الحسن نسي فقال: هو أمينك لا ضمان عليه].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في تضمين العارية].
العارية هي: العين التي ينتفع بها، وبعد الانتفاع بها ترد على صاحبها.
وهل تضمن إذا فقدت، أو لا تضمن؟ من العلماء من قال: إنها تضمن؛ لأنها في حوزته فعليه أن يؤديها أو يؤدي مثلها إن كان لها مثل، أو قيمتها إذا لم يكن لها مثل.
ومن العلماء من قال: إن يده يد أمان وليس عليه ضمان إلا أن يفرط كالذي تكون عنده الوديعة.
والإمام أبو داود رحمه الله أورد حديث سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤدي)، أي: أن هذا لازم عليها، وأنه حق متعين على صاحب اليد الذي عليه أداؤه وإرجاعه، وإذا لم يؤده فإنه يؤدي نظيره ومثيله إذا كان له مثيل أو قيمته إذا لم يكن له مثل.
وقد جاء في بعض الأحاديث التي سيذكرها أبو داود ما يدل على الضمان، وذلك في قصة الأدرع التي استعارها رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولما فقد بعضها قال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبها: (أنا أغرم لك، فقال: لا)، فدل هذا على أنها مؤداة؛ فإن كانت موجودة فبعينها، وإن كانت قد تلفت فإنه يؤدي مثلها، وإن لم يكن لها مثل فإنه يؤدي قيمتها.
وحديث سمرة بن جندب رضي الله عنه هو من طريق الحسن بن أبي الحسن البصري، والمعروف عند العلماء أن في رواية الحسن عن سمرة ثلاثة أقوال، ولكن المشهور: أن الثابت من رواية الحسن عن سمرة هو حديث العقيقة؛ لأنه هو الذي صرح فيه بالسماع، أما غيره فإن الأصل أنه مدلس ولا يقبل إلا ما صرح فيه بالسماع، والذي ثبت تصريحه بالسماع فيه هو حديث العقيقة، وغير هذا مما رواه الحسن عن سمرة يكون من قبيل غير الثابت؛ لأنه روى بالعنعنة وليس سماعه ثابتاً إلا في حديث العقيقة وحده.
قوله: [(على اليد ما أخذت حتى تؤدي)].
يعني: أنه شيء لازم لها ومتحتم عليها أن تؤديه.
قوله: [ثم إن الحسن نسي فقال: هو أمينك لا ضمان عليه].
أي أنه ليس بلازم أن يؤدي، وليس بضامن على كل حال، لكن على القول بأن يد المستعير هي مثل يد الأمين المستودع، وهو لا يضمن إلا إذا فرط، فإذا لم يفرط فإنه لا ضمان عليه، وعلى هذا القول فإنه ليس هناك تنافٍ بين قوله: (أمينك لا ضمان عليه)، وبين قوله: (على اليد ما أخذت حتى تؤدي)، على اعتبار أن يده يد أمانة وأن عليها أن تؤديه حيث لم يحصل هناك تفريط، أما إذا حصل تفريط فإن الضمان لازم على كل حال.(404/3)
تراجم رجال إسناد حديث (على اليد ما أخذت حتى تؤدي)
قوله: [حدثنا مسدد بن مسرهد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي عروبة].
ابن أبي عروبة هو سعيد بن أبي عروبة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
هو الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سمرة].
هو سمرة بن جندب رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وابن أبي عروبة مختلط لكنه من أثبت الناس في قتادة، وأيضاً قتادة مدلس وروى بالعنعنة، كما أن المشهور في رواية الحسن أنه ما سمع إلا حديث العقيقة.(404/4)
شرح حديث صفوان بن أمية في ضمان العارية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن محمد وسلمة بن شبيب قالا: حدثنا يزيد بن هارون حدثنا شريك عن عبد العزيز بن رفيع عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استعار منه أدراعاً يوم حنين، فقال: أغصب يا محمد؟! فقال: لا، بل عارية مضمونة)].
أورد أبو داود حديث صفوان بن أمية رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه أدرعاً فقال: أغصب يا محمد! قال: لا بل عارية مضمونة)، وكان ذلك في حال كفره، ثم قال له: إن ما في قلبي الآن يختلف عما كان في قلبي من قبل، يعني أنه بعد أن أسلم اختلف وضعه عما كان عليه من قبل.(404/5)
تراجم رجال إسناد حديث صفوان بن أمية في ضمان العارية
قوله: [حدثنا الحسن بن محمد].
هو الحسن بن محمد الزعفراني، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[وسلمة بن شبيب].
سلمة بن شبيب ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا يزيد بن هارون].
هو يزيد بن هارون الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شريك].
هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي، وهو صدوق اختلط، وهو يخطئ كثيراً، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد العزيز بن رفيع].
أبوه عبد العزيز بن رفيع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أمية بن صفوان بن أمية].
أمية بن صفوان بن أمية مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبيه].
أبوه صفوان رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[قال أبو داود: وهذه رواية يزيد ببغداد، وفي روايته بواسط تغير على غير هذا].
أي: يزيد بن هارون الواسطي في روايته بواسط تغير عن روايته ببغداد.(404/6)
شرح حديث صفوان بن أمية في ضمان العارية من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا جرير عن عبد العزيز بن رفيع عن أناس من آل عبد الله بن صفوان أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (يا صفوان! هل عندك من سلاح؟ قال: عارية أم غصباً؟ قال: لا بل عارية، فأعاره ما بين الثلاثين إلى الأربعين درعاً، وغزا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حنيناً، فلما هزم المشركون جمعت دروع صفوان ففقد منها أدراعاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لـ صفوان: إنا قد فقدنا من أدراعك أدراعاً، فهل نغرم لك؟ قال: لا يا رسول الله! لأن في قلبي اليوم ما لم يكن يومئذ).
قال أبو داود: وكان أعاره قبل أن يسلم ثم أسلم].
أورد أبو داود حديث صفوان بن أمية من طريق أخرى وهو مثل الذي قبله، إلا أن فيه أنه قال له: (هل نغرم لك؟) وقد مر أنه قال: (عارية مضمونة)، فقال: لا؛ لأن في قلبي الآن ما لم يكن في قلبي من قبل، يعني: أنه الآن أسلم والذي في قلبه الآن بعد أن أسلم يختلف عن الذي كان في قلبه قبل أن يسلم، ولعل قوله: (غصباً) يعني: أن هذا قاله قبل أن يسلم.(404/7)
تراجم رجال إسناد حديث صفوان بن أمية في ضمان العارية من طريق ثانية
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
أبو بكر بن أبي شيبة هو عبد الله بن محمد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد العزيز بن رفيع].
عبد العزيز بن رفيع مر ذكره.
[عن أناس من آل عبد الله بن صفوان].
وهم مجهولون مبهمون وهو مرسل؛ لأنهم يحكون عن الشيء الذي حصل في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولكن الأحاديث يشد بعضها بعضاً فيما يتعلق بقصة صفوان.(404/8)
حديث صفوان بن أمية في ضمان العارية من طريق ثالثة وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا أبو الأحوص حدثنا عبد العزيز بن رفيع عن عطاء عن ناس من آل صفوان قال: (استعار النبي صلى الله عليه وآله وسلم) فذكر معناه].
أورده من طريق أخرى وهو مثل الذي قبله.
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا أبو الأحوص].
أبو الأحوص هو سلام بن سليم الحنفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد العزيز بن رفيع عن عطاء].
عطاء بن أبي رباح المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(404/9)
شرح حديث (العارية مؤداة، والمنحة مردودة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي حدثنا ابن عياش عن شرحبيل بن مسلم قال: سمعت أبا أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن الله عز وجل قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث، ولا تنفق المرأة شيئاً من بيتها إلا بإذن زوجها، فقيل: يا رسول الله! ولا الطعام؟ قال: ذاك أفضل أموالنا، ثم قال: العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم)].
أورد أبو داود حديث أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه، وهو مشتمل على عدة أمور منها ما يتعلق بالعارية، وهذا هو محل الشاهد من إيراد الحديث، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)؛ لأن الله قسم المواريث، كما قال الله عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فذكر في الآية الأولى من سورة النساء عمودي النسب الآباء والأمهات والأولاد والبنات.
وذكر في الآية الثانية الذين يرثون بالفرض فقط ولا يكون لهم نصيب في التعصيب، وهم الأزواج والزوجات والإخوة لأم، وذكر في آخر سورة النساء الذين يرثون بالفرض والتعصيب، وهم الإخوة الأشقاء والإخوة لأب، فالأخوات يرثن بالفرض إذا كن وحدهن، وإذا كان معهن غيرهن من إخوانهن فإنه ((لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)).
قوله: [(إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه)] يعني: بما بينه في كتابه من المواريث، وكذلك ما بينته السنة مع الكتاب في بيان أحكام المواريث.
قوله: [(فلا وصية لوارث)] أي: كما كان موجوداً من قبل، كما قال الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:180]، فإنه لا وصية لوارث، وهذا مما جاء نسخه في السنة؛ لأن قوله: ((كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ)) هذا جاء في القرآن نسخ بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث).
قوله: [(ولا تنفق المرأة شيئاً من بيتها إلا بإذن زوجها، فقيل: يا رسول الله! ولا الطعام؟ قال: ذلك أفضل أموالنا)].
يعني: لا تنفق الزوجة من ماله ولا من موجودات البيت التي هي ملك للزوج، ولا الطعام الذي هو أفضل الأموال، وهذا يختلف عما كان موجوداً من قبل، فليس لها أن تخرج شيئاً مما في البيت من الطعام أو غيره من مال زوجها إلا بإذنه، سواءً بإذن معين أو مطلق، فإذا أذن لها إذناً معيناً بأن تخرج كذا وكذا تفعل، وإن أذن لها إذناً مطلقاً بأنها تخرج ما مقداره كذا وكذا فلها أن تفعل ذلك.
قوله: [(العارية مؤداة)]، يعني: أنها ترجع وتعاد إلى صاحبها الذي أعارها.
قوله: [(والمنحة مردودة)]، يعني: المنيحة التي يعطيها الإنسان لفقير مثل شاة ليحلبها وليستفيد من حليبها ودرها فإنه يردها إلى صاحبها؛ لأنه أعطاه المنفعة ولم يعطه العين، فالعين للمالك والمنفعة للممنوح، فهو يستفيد منها في حال وجود المنفعة، ثم يردها إلى صاحبها.
قوله: [(والدين مقضي)]، يعني: أنه لازم ومتعين قضاؤه.
قوله: [(والزعيم غارم)] وهو الضامن، فمن ضمن حقاً لإنسان على إنسان فإنه يلزمه، يعني: إذا لم يسدد المضمون عنه يسدد الضامن وهو الغارم أو الزعيم، ولهذا جاء في القرآن: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72]، يعني: أنا ضامن له.(404/10)
تراجم رجال إسناد حديث (العارية مؤداة، والمنحة مردودة)
قوله: [حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي].
عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا ابن عياش].
ابن عياش هو إسماعيل بن عياش، وهو صدوق في روايته عن أهل بلده مخلط في رواية غيرهم، وهو هنا يروي عن واحد من أهل بلده وهو شرحبيل بن مسلم؛ لأنه شامي وشرحبيل شامي كذلك، وأخرج لـ ابن عياش البخاري في رفع اليدين وأصحاب السنن.
[عن شرحبيل بن مسلم].
صدوق فيه لين أخرج حديثه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبي أمامة].
هو أبو أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(404/11)
شرح حديث يعلى بن أمية في ضمان العارية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن المستمر العصفري حدثنا حبان بن هلال حدثنا همام عن قتادة عن عطاء بن أبي رباح عن صفوان بن يعلى عن أبيه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً، وثلاثين بعيراً، قال: فقلت: يا رسول الله! أعارية مضمونة أو عارية مؤداة؟ قال: بل مؤداة).
قال أبو داود: حبان خال هلال الرأي].
أورد أبو داود حديث يعلى بن أمية رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً وثلاثين بعيراً فقال: يا رسول الله! أعارية مضمونة، أو عارية مؤداة؟ قال: بل مؤداة).
معناه: أنه يحافظ عليها ويرجعها.
وسواء قيل: هي مضمونة أو مؤداة، فإنها تؤدى وتضمن بمثلها إلا أن يعفو صاحبها عن القول بأن اليد يد ضمان.
وسؤال يعلى: (أعارية مضمونة أو مؤداة)، يفيد التفريق عنده: تضمنها لي أو تؤديها، لكن معناه: أنها عندما تستهلك يؤتى ببدالها، أو أنه يحافظ عليها وترجع بعينها.(404/12)
تراجم رجال إسناد حديث يعلى بن أمية في ضمان العارية
قوله: [حدثنا إبراهيم بن المستمر العصفري].
إبراهيم بن المستمر العصفري صدوق يغرب، أخرج له أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا حبان بن هلال].
حبان بن هلال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا همام].
هو همام بن يحيى العوذي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة عن عطاء بن أبي رباح عن صفوان بن يعلى].
صفوان بن يعلى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه يعلى بن أمية رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذه غير القصة السابقة؛ لأن هذه فيها إبل.
[قال أبو داود: حبان خال هلال الرأي].
هذا تعريف بـ حبان هذا، وأنه خال شخص يقال له: هلال الرأي.(404/13)
ما جاء فيمن أفسد شيئاً يغرم مثله(404/14)
شرح حديث (فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول وحبس المكسورة في بيته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن أفسد شيئاً يغرم مثله.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى ح وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا خالد عن حميد عن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادمها قصعة فيها طعام، قال: فضربت بيدها فكسرت القصعة) -قال ابن المثنى: -فأخذ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الكسرتين، فضم إحداهما إلى الأخرى فجعل يجمع فيها الطعام ويقول: غارت أمكم -زاد ابن المثنى -: كلوا، فأكلوا حتى جاءت قصعتها التي في بيتها)، ثم رجعنا إلى لفظ حديث مسدد قال: (كلوا، وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا، فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول وحبس المكسورة في بيته)].
أورد أبو داود باباً فيمن أفسد شيئاً يغرم مثله.
يعني: إذا أتلف شيئاً يغرم مثله، وأورد فيه حديث أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند إحدى زوجاته فأرسلت إليه إحدى زوجاته بطعام في قصعة، فلما جاء الخادم بها ضربت صاحبة البيت الذي هو عندها القصعة فكسرتها، فضم النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين إلى بعضهما وجعل ينقل الطعام ويجعله فيهما ويقول: غارت أمكم)، يعني: أن هذا الذي حصل كان بسبب الغيرة بينها وبين الزوجة الأخرى، ثم إنه أتي بالقصعة السليمة التي في بيت زوجته التي كسرت القصعة وحبس الغلام عنده، ثم أعطاه القصعة السليمة، وأبقى القصعة المكسورة عند الكاسرة، فأرسل هذه عوضاً عن هذه، ومحل الشاهد: أن هذا الذي أتلف أخذ مكانه شيئاً صحيحاً أعطاه لمن أتلف له، وهذا يدل على أنه يضمن الشيء الذي أفسده بمثله.
وقيل: إن هذا الذي حصل في هذا الحديث من قبيل أن البيتين للرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه هو المتصرف فيهما، وأنه أخرج شيئاً من بيت إلى بيت، وسليم بدل مكسور، وأن الكل إنما هو للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو تعويض منه وليس من الكاسرة، لكن الحكم: أن من أتلف شيئاً لغيره فإنه يكون مضموناً ولو لم يكن متعمداً، مثلما يحصل في قتل الخطأ ففيه الدية ولو كان خطأً، وكذلك الإنسان إذا أفسد شيئاً لغيره ولو كان مخطئاً فإنه يضمنه.
قوله: [(فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادمها قصعة فيها طعام قال: فضربت بيدها فكسرت القصعة) يعني: التي أهدي الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيتها.
قوله: [قال ابن المثنى: (فأخذ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى، فجعل يجمع فيها الطعام، ويقول: غارت أمكم)].
هذا من رواية أحد شيخي أبي داود وهو محمد بن المثنى.
قوله: [زاد ابن المثنى: (كلوا فأكلوا حتى جاءت قصعتها التي في بيتها) ثم رجعنا إلى لفظ حديث مسدد].
يمكن أنهما بنفس اللفظ؛ لأنه قال: رجعنا إلى لفظ مسدد، يعني: كأن هذا لفظ محمد بن المثنى و (كلوا) هذه ليست عند مسدد ولكن عنده هذا الذي عند محمد بن المثنى ولكن بلفظ آخر، معناه: أنه متفق معه في المعنى، ولكن هذه الزيادة ليست عند مسدد، وإنما هي عند محمد بن المثنى، وأما الذي قبل ذلك فهو عندهما.
والقصة لا يفهم منها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان فقط مع إحدى زوجاته بل الرسول معه ضيوف في بيتها ولهذا خاطبهم فقال: (غارت أمكم).
قوله: [(فأكلوا حتى جاءت قصعتها التي في بيتها)].
يعني: قصعة الكاسرة التي كان عندها في بيتها.
قوله: [ثم رجعنا إلى لفظ حديث مسدد قال: (كلوا، وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا، فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول وحبس المكسورة في بيته)].
يعني: حبس الرسول وقال له: انتظر، فلما فرغوا من الأكل وأتوا بالقصعة السليمة أعطاه القصعة السليمة ليرجع بها إلى التي أرسلتها، وأبقى القصعة المكسورة في بيت الكاسرة فتكون لها.(404/15)
تراجم رجال إسناد حديث (فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول وحبس المكسورة في بيته)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى ح وحدثنا محمد بن المثنى].
محمد بن المثنى العنزي الملقب بـ الزمن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا خالد].
هو خالد بن الحارث، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد].
هو حميد بن أبي حميد الطويل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا من الرباعيات لأن بين أبي داود وبين الرسول صلى الله عليه وسلم فيه أربعة أشخاص، ولكنه من طريقين إحداها فيها مسدد عن يحيى بن سعيد، والطريق الثانية فيها: ابن المثنى عن خالد، وكل منهما يروي عن حميد عن أنس ويعتبر الحديث رباعياً.(404/16)
شرح حديث (إناء مثل إناء، وطعام مثل طعام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني فليت العامري عن جسرة بنت دجاجة قالت: قالت عائشة: (ما رأيت صانعاً طعاماً مثل صفية، صنعت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طعاماً فبعثت به فأخذني أفكل فكسرت الإناء، فقلت: يا رسول الله! ما كفارة ما صنعت؟ قال: إناء مثل إناء وطعام مثل طعام)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: (أن صفية صنعت طعاماً -وكانت تجيد صنع الطعام- ثم أرسلته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذتها الغيرة فكسرت القصعة، فقالت: ما كفارة ذلك يا رسول الله؟! قال: طعام بطعام وإناء بإناء) يعني: ترسل إناء سليماً بدل الإناء المكسور، وليس هناك طعام يرجع، ولكن فيما يبدو أنه بيان للحكم العام، وأن كل من أتلف شيئاً فإنه يضمنه.
وقوله: (طعام بطعام) للإشارة على أنه لو حصل إتلاف طعام على أحد فإنه يغرم له، ويكون هذا من زيادة البيان والإيضاح، وأن الحكم عام في الذي حصل وفي الذي لم يحصل، ويكون هذا من الزيادة في الجواب، ويكون مثل قوله: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)؛ لأنهم سألوا عن الوضوء من ماء البحر فالرسول أجابهم وزاد، وهنا ذكر شيئاً يتعلق بالقصة والذي حصل به الضمان، وزاد شيئاً ليبين أن هذا حكم عام، وأن كل من أتلف شيئاً فإنه يضمنه، فيكون ذكر الطعام مع أنه ما حصل طعام بطعام، وما حصل تعويض بطعام؛ لأن الطعام أكل، ولكن للإشارة إلى أن الحكم واحد، وأن من أتلف شيئاً فعليه أن يضمن مثله.
قوله: [(ما رأيت صانعاً طعاماً مثل صفية)]، معناه: أنها تجيد صنع الطعام.
قوله: [(صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً فبعثت به فأخذني أفكل)] أفكل معناه: رعشة من الغيرة، فحصل ما حصل من كسر الإناء.(404/17)
تراجم رجال إسناد حديث (إناء مثل إناء، وطعام مثل طعام)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان].
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني فليت العامري].
فليت صدوق أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن جسرة بنت دجاجة].
وهي مقبولة، أخرج لها أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[قالت: عائشة].
عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والألباني ضعف الحديث، ولكنه بمعنى الحديث السابق.(404/18)
ما جاء في المواشي تفسد زرع قوم(404/19)
شرح حديث (على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب المواشي تفسد زرع قوم.
حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه: (أن ناقة للبراء بن عازب رضي الله عنهما دخلت حائط رجل فأفسدته عليهم، فقضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل)].
أورد أبو داود باباً في المواشي تتلف شيئاً كيف يكون الحكم؟ وهل يكون مضموناً أو غير مضمون؟ جاء في حديث محيصة بن مسعود في قصة ناقة البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رفع إليه أمرها قال: (على أهل المواشي أن يحفظوها في الليل، وعلى أهل الزرع أن يحفظوه في النهار)، ومعنى ذلك: أنه إذا قصر هؤلاء فهم مفرطون، وإذا قصر هؤلاء فهم مفرطون؛ وذلك أن المواشي عادة يسرح بها أهلها في النهار، وإذا جاءوا في الليل ردوها إلى مراحها وحضائرها، فلو أهملوها وتركوها كانوا مفرطين فيضمن أصحاب المواشي؛ لأنهم تركوها في الليل وكان عليهم أن يحفظوها، وأما في النهار فأهل الزروع هم الذين يحفظونها ويكونون عندها يشاهدونها ويعاينونها، وغالباً أن مواشيهم تكون معهم؛ لأن المواشي يسرح بها في النهار للرعي وتعود في الليل، فالنبي صلى الله عليه وسلم قضى بأن على أهل المواشي أن يحفظوا مواشيهم بالليل، وعلى أهل الزروع أن يحفظوا زروعهم في النهار، ومن حصل منه تقصير فهو من جنى على نفسه.(404/20)
تراجم رجال إسناد حديث (على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل)
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي].
أحمد بن محمد بن ثابت المروزي هو ابن شبويه، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حرام بن محيصة].
هو حرام بن سعد بن محيصة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو محيصة جده وهو صحابي، أخرج له أصحاب السنن.(404/21)
شرح حديث (وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمود بن خالد حدثنا الفريابي عن الأوزاعي عن الزهري عن حرام بن محيصة الأنصاري عن البراء بن عازب قال: (كانت لي ناقة ضارية فدخلت حائطاً فأفسدت فيه، فكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها، فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل)].
أورد أبو داود حديث البراء رضي الله عنه وهو مثل الذي قبله من حديث محيصة في قصة ناقة البراء.
قوله: [(كانت لي ناقة ضارية)].
ضارية: قيل هي التي اعتادت أن تأتي لأماكن الناس والأماكن القريبة فتأكل منها.
ولو أن شخصاً له مواشي مثل الأبقار والأغنام وحوله مزارع لأشخاص آخرين، فلصاحب المواشي أن يترك ماشيته في النهار ترعى كيف تشاء؛ بدليل أن عليه الحفظ بالليل فقط، أما في النهار فحفظ الزروع والثمار على أصحابها بدليل هذا الحديث.(404/22)
تراجم رجال إسناد حديث (وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل)
قوله: [حدثنا محمود بن خالد].
هو محمود بن خالد الدمشقي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الفريابي].
الفريابي هو محمد بن يوسف الفريابي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأوزاعي].
الأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن حرام بن محيصة عن البراء بن عازب].
وقد مر ذكرهم، والبراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة، وعلى هذا فـ حرام يروي عن جده محيصة ويروي عن البراء بن عازب.(404/23)
سبب جمع أبي داود بين البيوع والإجارات في كتاب واحد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [آخر كتاب البيوع والإجارات].
كتاب البيوع والإجارات كتاب واحد بدأ في أوله بكتاب البيوع والإجارات، وذكر في آخره آخر كتاب البيوع والإجارات، وجاء في أثنائه كتاب الإجارة، مع أن أكثر الذي جاء بعد كتاب الإجارة هو في البيوع، وقد ختم الكتاب بذكر أمور ليست من البيوع ولكنها تابعة للبيوع مثل التضمين، وإعطاء الأولاد، وعدم التمييز بينهم وما إلى ذلك، فهذه أمور ألحقت بالكتاب وليست منه، وأما كثير من الأبواب التي بعد قوله: كتاب الإجارة هي ليست في الإجارة وإنما هي في البيع، ولهذا ذكر كتاب البيوع والإجارات في الأول واستمراره إلى الآخر هو الذي يكون مطابقاً للواقع.
على كل كون الكتابين كتاب واحد مثلما ذكر في الأول هو المطابق للواقع؛ لأن أكثر الأحاديث بعد قوله: كتاب الإجارة في البيوع وليست في الإجارة.(404/24)
الأسئلة(404/25)
ضمان المفرط المتعدي لكل شيء
السؤال
هل كل من أفسد شيئاً يضمنه وإن كان مؤتمناً؟
الجواب
نعم إذا كان قد أفسده؛ لأن الأمين يضمن إذا كان متعدياً أو مفرطاً، وإنما لا يضمن إذا لم يفرط.(404/26)
ضمان الوالد لما أتلفه ولده
السؤال
هل يضمن الوالد ما أتلف ولده؟
الجواب
ما دام أنه ولده فهو ولي أمره، والصغير أو المجنون إذا حصل منه إتلاف لغيره فإن الضامن له والمسئول عنه وليه.
أما إذا كان الولد مسئولاً عن نفسه وولي أمر نفسه فالذي يضمن الولد، والمتلف له يطالب الولد لا الوالد.(404/27)
ضمان السيد عن خادمه وعبده
السؤال
هل يضمن السيد عن الخادم؟
الجواب
الخادم هو الذي يضمن عن نفسه؛ لأن الخادم أجير وله أجرة فيضمن من ماله.
أما إذا كان عبداً فإن جنايته في رقبته.(404/28)
ضمان العارية إذا أتلفت من قبل الغير
السؤال
إذا كان عندي عارية فأتلفها غيري فهل علي الضمان؟
الجواب
نعم عليك الضمان؛ لأنك أنت المسئول، وأنت تطالب الذي أتلف، وصاحب العارية يطالبك.(404/29)
ضمان ما أتلف خطأ
السؤال
كسرت زجاجاً في مطبخ الجامعة خطأً فهل علي الضمان؟
الجواب
نعم عليك الضمان.(404/30)
علو الله على عرشه
السؤال
هل تصح هذه العبارة في معرض الرد على من أنكر الاستواء حيث يقال: يلزم من تفسير الاستواء بأنه العلو أن يكون الله جسماً، فيرد عليه: ليس بلازم القول: بأن استواء الله على العرش علوه عليه؟
الجواب
ليس بلازم؛ لأن الاستواء هو العلو، لكن كلمة جسم هذه من عبارات أهل الكلام المذموم، وهي من الألفاظ التي فيها إجمال، فإذا أريد بالجسم أن الله تعالى يشبه خلقه، وأنه له جسماً كأجسام الخلق، فالله منزه عن ذلك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وإن أريد به وجود ذات مستقلة قائمة بنفسها مباينة للخلق، فالله تعالى كذلك، وإذا لم يكن كذلك فإنه يكون العدم، كما قال بعض أهل العلم عن الذين ينفون الصفات بأنهم يصفون الله بالعدم، مثلما قال ابن عبد البر في كتابه التمهيد: إن الذين ينفون الصفات يصفون المثبتة بأنهم مشبهة؛ لأنهم لا يتصورون الإثبات إلا مع تشبيه، ثم قال ابن عبد البر: وهم عند من أقر بها نافون للمعبود، أي: أن الذين يقرون بالصفات ويثبتونها لله عز وجل يعتبرون الذين ينفونها نافون للمعبود؛ لأنه لا يتصور وجود ذات مجردة من جميع الصفات.
هذا كلام ابن عبد البر في كتاب التمهيد.
والذهبي رحمه الله في كتابه العلو نقل كلام ابن عبد البر في التمهيد وعلق عليه بقوله: قلت: صدق والله، يعني: صدق ابن عبد البر في كلامه هذا، ثم ذكر عن حماد بن زيد مثلاً يوضح هذا الذي قاله ابن عبد البر بأنهم نافون للمعبود، وحماد بن زيد يأتي كثيراً في طبقة شيوخ أصحاب الكتب الستة، ولم يدركوه جميعاً وإنما يروون عنه بواسطة.
يقول الذهبي قلت: صدق والله، فإن الجهمية مثلهم كما قال حماد بن زيد: إن جماعة قالوا: في دارنا نخلة، فقيل: لها سعف؟ قالوا: لا ما لها سعف، قالوا: لها خوص؟ قالوا: لا ما لها خوص، قالوا: ألها ساق؟ قالوا: ما لها ساق، وكل صفة من صفات النخل يسألونهم عنها يقولون: لا ما توجد في نخلتنا هذه الصفة، قيل: إذاً ما في داركم نخلة، ما دام أن جميع صفات النخل لا توجد فيها، فليس لها سعف ولا خوص ولا ساق، وكل ما توصف به النخلة منفي عنها إذاً ليس هناك نخلة، فالذي يقول: الله ليس بسميع ولا بصير ولا ولا إلى آخره، النتيجة أنه لا وجود له، وهذا معنى كلام ابن عبد البر رحمة الله عليه: أنهم عند من يثبت الصفات نافون للمعبود، ولهذا يقول أيضاً بعض أهل العلم: إن المعطل يعبد عدماً، يعني: لا وجود لمعبوده، والمشبه يعبد صنماً.(404/31)
تشابه حكم النبي مع حكم سليمان في الحكم في إفساد المواشي
السؤال
بالنسبة لحكم النبي صلى الله عليه وسلم على ناقة البراء أليس فيه شبه بما ذكره الله عن داود وسليمان؟
الجواب
بلى هناك شبه: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء:78].(404/32)
عقيدة ابن رشد الجد والحفيد
السؤال
ابن رشد القرطبي صاحب بداية المجتهد قال: إن الأعمال ليست من الإيمان، وهذا قول الجمهور، والقول بأن الأعمال من الإيمان قول شاذ؟
الجواب
أولاً ابن رشد هما اثنان: ابن رشد الحفيد وابن رشد الجد، ابن رشد الحفيد هو محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد يطابق اسمه اسم جده، واسم أبي جده اسم أبيه وكل منهما قرطبي وكل منهما قاضٍ، وكل منهما يقال له: ابن رشد، فاحتاجوا إلى أن يقولوا: ابن رشد الحفيد وابن رشد الجد، حتى يميزوا بينهما؛ لأنه متفق معه في اسمه واسم أبيه وبلده وبكنيته فاضطروا إلى أن يميزوا بينهما فيقولوا: الحفيد والجد، والجد هو المشهور عند المالكية بـ: مقدمات ابن رشد، وأما الحفيد فهو فيلسوف، وابن تيمية ذكره وذكر أشياء مما أخذ عليه في العقيدة.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن رشد في عدة مواضع من كتبه في درء تعارض العقل والنقل، وفي الصفدية، وفي شرح الأصفهانية، وكما يمكن الرجوع إلى الكتب التي تفهرس كتب شيخ الإسلام، إذ يمكن أن يوقف على مواضع ذكره في تلك الكتب.
وأما الجد فهو فقيه معروف، والمشهور عند المالكية عقيدته، ولا أعرف عنها شيئاً.(404/33)
حكم أخذ المرأة من مال زوجها الشحيح
السؤال
إذا كان زوج المرأة شحيحاً، فهل يجوز لها أن تنفق بغير إذن زوجها؟
الجواب
في حديث هند امرأة أبي سفيان قالت: (إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني، فهل لي أن آخذ من ماله من غير علمه؟ فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).
أما قضية الصدقة فلا تتصدق من بيته إلا بإذنه، أما إذا كانت تعلم منه أنه لا يمانع حتى ولو لم يأذن فلا بأس، وإذا كان شحيحاً فلابد أن تستشيره، وتكون على معرفة بإذنه أو عدم إذنه.(404/34)
حكم من أتلف ما استعاره من الوقف
السؤال
شريط وقف وضع في مسجد وأتلفه أحد المستعيرين، فهل يأتي ببدله أو يعطي القيمة؟
الجواب
يأتي ببدله.(404/35)
نسخ الوصية للوارث
السؤال
ما صحة القول بأن حديث: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه)، بأن هذا تخصيص وليس بنسخ؟ وهل يوجد مثال على نسخ السنة بالقرآن غير هذا؟
الجواب
لا يصح؛ لأن الآية فيها وصية، والحديث يقول: (لا وصية)، ولا يوجد إلا هذا المثال المشهور، فعندما يمثلون يمثلون به.(404/36)
شرح سنن أبي داود [405]
لقد جاءت الأحاديث المحذرة من تولي القضاء في حق من طلبه وحرص عليه، أما من لم يطلبه وكان عنده القدرة على القضاء ولم يكن هناك غيره فيتعين عليه قبوله حتى لا تضيع الحقوق، وحتى لا تعم الفوضى؛ لأنه لابد للناس ممن يفصل بينهم في الخصومات، أما غير ذلك ممن يحكم ويقضي بغير علم أو يقضي بغير الحق مع العلم فقد جاء أنهما من أصحاب النار.(405/1)
ما جاء في طلب القضاء(405/2)
شرح حديث (من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أول كتاب الأقضية.
باب في طلب القضاء.
حدثنا نصر بن علي أخبرنا فضيل بن سليمان حدثنا عمرو بن أبي عمرو عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين)].
قوله: [أول كتاب الأقضية] والأقضية جمع قضاء، والمراد به الإخبار بالحق على وجه الإلزام به.
أي: أن فيه إخباراً وإلزاماً، وذكر الإلزام فيه تمييز بينه وبين الفتوى؛ لأن الفتوى إخبار بالحق من غير إلزام به، والقضاء إخبار بالحق مع الإلزام به.
إذاً: كل من الفتوى والقضاء فيه بيان للحق وإخبار بالحق، ثم يتميز القضاء عن الفتوى بأن مع بيان الحق إلزاماً به، والفتوى ليس مع بيان الحق إلزام به.
قوله: [باب في طلب القضاء] يعني: كون الإنسان يسعى ليحصل القضاء ويطلب القضاء فهذا غير محمود؛ لأن الإنسان قد لا يعان عليه إذا حرص عليه ورغب فيه، ولكن إذا كلف به وطلب منه فهو مظنة لأن يعان عليه وأن يوفق ويسدد، وهذا مثل الولايات كما جاء في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، في الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثة من الأشعريين وبينهم أبو موسى الأشعري، وكان لا يعرف مهمة هؤلاء وما أرادوه من الكلام عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم طلبوا أن يولوا العمالة على الصدقة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا لا نولي هذا الأمر أحداً طلبه).
أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين) وهذا فيه بيان خطورة القضاء وشدته، وأنه ليس بالأمر الهين، وأن الإنسان قد يفتتن فيه، وقد يحصل له فيه ما لا تحمد عاقبته، لاسيما إذا كان برغبة منه وبطلب منه، ففي ذلك تحذير من ولاية القضاء، ومعلوم أن هذا حيث لا يتعين على الإنسان، وأما إذا تعين عليه فإنه لابد للناس من قضاة يقضون بينهم ويحكمون بينهم، ولو تركوا بدون قضاة لحصل من الشر ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، أما من يكلف بالقضاء فإن ذلك حَري أن يعان، ولكن إذا وجد غيره ممن يقوم مقامه وحصل على السلامة منه فلا شك أن ذلك خير كثير؛ لأنه جاء فيه هذا الذي يدل على شدته وعلى خطورته، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين) والمقصود منه: أن فيه خطراً على دين الإنسان، والذبح المقصود به الهلاك، فهو ليس كالذبح بالسكين الذي به تلف الجسم وذهابه، ولكن فيه خطورة على دين الإنسان؛ لأنه قد يحصل منه الجور ويحصل منه الحيف ويحصل منه الميل عن الحق، ويترتب على ذلك ضرر كبير للإنسان، وهذا هو المقصود من قوله: (قد ذبح بغير سكين).(405/3)
تراجم رجال إسناد حديث (من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين)
قوله: [حدثنا نصر بن علي].
هو نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا فضيل بن سليمان].
فضيل بن سليمان صدوق له خطأ كثير، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عمرو بن أبي عمرو].
عمرو بن أبي عمرو ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد المقبري].
هو سعيد بن أبي سعيد المقبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً.(405/4)
شرح حديث (من جُعل قاضياً بين الناس فقد ذبح بغير سكين) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا نصر بن علي أخبرنا بشر بن عمر عن عبد الله بن جعفر عن عثمان بن محمد الأخنسي عن المقبري والأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (من جُعل قاضياً بين الناس فقد ذبح بغير سكين)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة من طريق أخرى: (من جعل قاضياً بين الناس فقد ذبح بغير سكين) وهو مثل الذي قبله.
قوله: [حدثنا نصر بن علي أخبرنا بشر بن عمر].
نصر بن علي مر ذكره، وبشر بن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن جعفر].
عبد الله بن جعفر ليس به بأس، وهي بمعنى صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عثمان بن محمد الأخنسي].
عثمان بن محمد الأخنسي صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب السنن.
[عن المقبري والأعرج].
المقبري مر ذكره، والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
قد مر ذكره.(405/5)
الأسئلة(405/6)
حكم الالتحاق بالمعاهد الشرعية للقضاء ووجه اعتبار ذلك طلباً للقضاء
السؤال
من درس القضاء في المعاهد الشرعية التي تدرس القضاء، ويكون بعد الدراسة قاضياً، هل يعد ذلك طلباً للقضاء ويأثم بفعله ذلك، مع كونه دخل تلك المعاهد باختياره؟
الجواب
لا، ما يعتبر طالباً للقضاء ولا آثماً؛ لأنه كما هو معلوم لابد للناس من قضاة، وإذا تخلى الناس عن القضاء حصلت الفوضى وحصلت الأضرار الكبيرة، وإنما يكون مذموماً في حق الإنسان الذي يكون في عافية منه ثم هو يطلبه، أما الذي يتعين عليه ويقوم به فإنه يرجى له الخير.(405/7)
وجه اتهام كل من طلب ولاية
السؤال
يستدل بحديث أبي موسى على أن كل من طلب ولاية فإنه متهم في قصده لذلك؟
الجواب
لا يكون متهماً في قصده، ولكن يخشى عليه؛ لأن الإنسان إذا طلب شيئاً قد لا يعان عليه.
أما أن قصده سيئ فلا؛ لأن الإنسان قد يكون قصده حسناً، ولكن طلب الشيء لا يجعل ذلك مشجعاً ومرغباً في توليته وإنما يولى غيره ممن لم يطلب ذلك، مثلما حصل لـ أبي موسى حين جاء هو واثنان من الأشعريين، ولما طلبا التولية من الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إنا لا نولي هذا الأمر أحداً طلبه)، ثم إنه صلى الله عليه وسلم ولى أبا موسى الأشعري؛ لأن أبا موسى الأشعري لم يعرف عن الشيء الذي جاءا من أجله، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنني ما علمت هذا الذي قالاه وهذا الذي جاءا من أجله، فالرسول صلى الله عليه وسلم ولاه ولم يولهما.(405/8)
ما جاء في خطأ القاضي(405/9)
شرح حديث (القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في القاضي يخطئ.
حدثنا محمد بن حسان السمتي حدثنا خلف بن خليفة عن أبي هاشم عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار)].
أورد أبو داود باباً في القاضي يخطئ.
القاضي إذا قضى بين الناس بجهل فهو غير معذور؛ لأن كونه يقضي بين الناس وهو جاهل لا يسوغ له ذلك، حتى ولو أصاب الحق فهو آثم؛ لأن إصابته الحق كما يقولون: رمية من غير رامٍ، ولأنه ليس عالماً وإنما هو جاهل، فكونه صادف الحق ووافق الحق لا يفيده ذلك شيئاً؛ لأنه إنما قضى بجهل.
وإنما الذي يغفر له الخطأ هو الذي يكون عنده قدرة وعنده علم ويجتهد ثم يخطئ، فإنه عند ذلك إذا اجتهد وأخطأ يكون مأجوراً أجراً واحداً وقد رفع عنه الإثم، والذي اجتهد وأصاب يحصل على أجرين، أجراً للاجتهاد وأجراً للإصابة كما سيأتي في حديث عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه.
أورد أبو داود رحمه الله حديث بريدة بن الحصيب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به) يعني: إنسان عنده علم وقضى بعلم فهو في الجنة؛ لأنه عرف الحق وقضى به.
قوله: [(ورجل عرف الحق فجار في الحكم)]، يعني: أنه عرف الحق وقضى بغيره وجار في حكمه فهذا في النار؛ لأنه عرف الحق ولم يعمل به.
والثالث الذي قضى بجهل فهو في النار أيضاً؛ لأنه لم يقض بعلم.
إذاً: فالذين هم في النار اثنان: إنسان علم ولكنه حاف وجار وعصى، والثاني: حكم بغير علم فكل منهما آثم، وكل منهما مخطئ، لكن الأول أشد وأسوأ؛ لأن من يعصي الله على بصيرة أسوأ وأشد ممن يعصيه عن جهل، ولهذا يقول الشاعر: إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم وعلى هذا فالقضاة ثلاثة كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاض عرف الحق وقضى به فهو في الجنة، وقاض عرف الحق ولكنه جار في حكمه فهو في النار، ورجل قضى بجهل فهو في النار.(405/10)
تراجم رجال إسناد حديث (القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار)
قوله: [حدثنا محمد بن حسان السمتي].
محمد بن حسان السمتي صدوق لين الحديث، أخرج له أبو داود.
[حدثنا خلف بن خليفة].
خلف بن خليفة صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي هاشم].
هو أبو هاشم الرماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن بريدة].
هو عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: هذا أصح شيء فيه، يعني حديث ابن بريدة (القضاة ثلاثة)].(405/11)
شرح حديث (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا عبد العزيز -يعني ابن محمد - أخبرني يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن بسر بن سعيد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر).
فحدثت به أبا بكر بن حزم فقال: هكذا حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة].
أورد أبو داود حديث عمرو بن العاص، وكذلك ورد من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر).
قوله: [(إذا حكم الحاكم فاجتهد)] يعني: أراد الحكم فاجتهد، وهو مثل قول الله عز وجل: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] يعني: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضئوا، فكذلك إذا أراد الحاكم الحكم، (فاجتهد) يعني: بذل وسعه في الوصول إلى الحق فأصاب فله أجران: أجر على اجتهاده، وأجر على إصابته.
وإذا حكم فاجتهد وأخطأ فله أجر واحد على اجتهاده، وخطؤه مغفور مرفوع عنه الإثم.
وهذا الحديث واضح الدلالة على أنه ليس كل مجتهد مصيباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم المجتهدين إلى قسمين: مصيب، ومخطئ، ولو كان كل مجتهد مصيباً لما كان لهذا التقسيم من فائدة.
إذاً: فالحديث واضح الدلالة على أن المجتهدين منهم من يصيب الحق ومنهم من يخطئه، ومن اجتهد وأصابه حصل على أجرين، ومن اجتهد ولم يصبه حصل على أجر واحد وخطؤه مغفور، وليس كل مجتهد مصيباً، لكن إذا أريد به إصابة الأجر فنعم كل مجتهد مصيب الأجر، وليس كل مجتهد مصيب الحق.(405/12)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة].
هو عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد العزيز -يعني ابن محمد -].
هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يزيد بن عبد الله بن الهاد].
يزيد بن عبد الله بن الهاد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إبراهيم].
هو محمد بن إبراهيم التيمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بسر بن سعيد].
بسر بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص].
أبو قيس مولى عمرو بن العاص ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن العاص].
عمرو بن العاص رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
قوله: [فحدثت به أبا بكر بن حزم فقال: هكذا حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة].
يعني: أن هذه طريق أخرى جاءت عن أبي هريرة كما جاءت عن عمرو بن العاص.
[فحدثت به أبا بكر بن حزم].
أبو بكر بن حزم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبو سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.(405/13)
شرح حديث (من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عباس العنبري حدثنا عمر بن يونس حدثنا ملازم بن عمرو حدثني موسى بن نجدة عن جده يزيد بن عبد الرحمن -وهو أبو كثير - حدثني أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من طلب قضاء المسلمين حتى يناله، ثم غلب عدلُه جورَه فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار)، معلوم أن العدل مطلوب والجور مذموم، وأن ما حصل منه إصابة الحق فيه فهو مأجور عليه، وما حصل منه فيه الجور وعدم الإتيان بالحق فهو مأزور عليه، والعكس الذي غلب جوره عدله فإنه مأزور في كل ما جار به، وإن حصل منه عدل فهو مأجور عليه.
ومن العلماء من قال: إن غلب جوره عدله يعني: أنه صار عادلاً وأنه لم يكن جائراً، وعلى هذا يكون محموداً وعكسه يكون مذموماً.
والحديث غير صحيح؛ لأنه ورد في إسناده من هو متكلم فيه.(405/14)
تراجم رجال إسناد حديث (من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة)
قوله: [حدثنا عباس العنبري].
هو عباس بن عبد العظيم العنبري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عمر بن يونس].
عمر بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ملازم بن عمرو].
ملازم بن عمرو صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[حدثني موسى بن نجدة].
موسى بن نجدة مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن جده يزيد بن عبد الرحمن وهو أبو كثير].
يزيد بن عبد الرحمن أبو كثير ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني أبو هريرة].
أبو هريرة رضي الله عنه وقد مر ذكره.
إذاً: الحديث فيه رجل مجهول فهو غير صحيح.(405/15)
شرح حديث (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) إلى قوله (الفاسقون) هؤلاء الآيات الثلاث نزلت في اليهود
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن حمزة بن أبي يحيى الرملي حدثني زيد بن أبي الزرقاء حدثنا ابن أبي الزناد عن أبيه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال: ({وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] إلى قوله: {الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] هؤلاء الآيات الثلاث نزلت في اليهود خاصة في قريظة والنضير)].
أورد أبو داود أثراً عن ابن عباس أن الآيات التي في المائدة نزلت في اليهود، ولكن الحكم لا يختص بهم، بل يكون لهم ولغيرهم، ولكن ذلك لا يعني أن كل من حكم بغير ما أنزل الله يكون كافراً ككفر اليهود والنصارى، وإنما في ذلك تفصيل؛ فإن كان ذلك الذي حكم بغير ما أنزل الله معتقداً أن الشريعة قاصرة، وأنها غير كافية، أو أن أحكامها جائرة قاسية لا تناسب العصر، أو قال: إن الحكم بما أنزل الله لا بأس به، لكن الحكم بغير ما أنزل الله أحسن من الحكم بما أنزل الله، فإن كل ذلك كفر وردة عن الإسلام، وأما إذا كان الحكم بغير ما أنزل الله مع كون الإنسان يعتبر نفسه مذنباً، فإن هذا كفر دون كفر كما جاء ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه.
قوله: [هؤلاء الآيات الثلاث نزلت في اليهود خاصة في قريظة والنضير].
قريظة والنضير من قبائل اليهود، لكن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.(405/16)
تراجم رجال إسناد حديث (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) إلى قوله (الفاسقون) هؤلاء الآيات الثلاث نزلت في اليهود
قوله: [حدثنا إبراهيم بن حمزة بن أبي يحيى الرملي].
إبراهيم بن حمزة بن أبي يحيى الرملي صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثني زيد بن أبي الزرقاء].
زيد بن أبي الزرقاء ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا ابن أبي الزناد].
هو عبد الرحمن بن أبي الزناد، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو عبد الله بن ذكوان، وأبو الزناد لقب، وعبد الرحمن هذا الذي يروي عنه هو الذي يكنى به؛ لأن كنيته أبو عبد الرحمن، ولقبه أبو الزناد فهو لقب على صيغة كنية وليس بكنية.
وعبد الله بن ذكوان المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة].
هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو ابن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(405/17)
الأسئلة(405/18)
وجه التعبير في الحديث بالحاكم دون التعبير بالقاضي
السؤال
لماذا عبر في حديث عمرو بن العاص بالحاكم ولم يعبر بالقاضي؟
الجواب
المعنى واحد؛ لأن القاضي هو حاكم يحكم بما أنزل الله.(405/19)
فضل من أصاب الحق على من لم يصبه
السؤال
هل من أصاب الحق يفضل على من لم يصبه؟
الجواب
نعم يفضل بالأجر كما هو معلوم؛ لأن من أصاب الحق يحصل على أجرين، أما من أخطأ ولم يصب الحق فإنه لا يحصل إلا على أجر واحد.(405/20)
حكم من يحكم بين الناس بدون علم مع عدم وجود من يقضي بينهم
السؤال
ما حكم من قضى بين الناس وأخطأ وهو ليس بقاض، علماً أنه لا يوجد من يقضي بين الناس؟
الجواب
إذا كان ليس عنده قدرة، ولا معرفة بأمور القضاء فليس له أن يقضي بين الناس.(405/21)
ضابط تكفير من يحكم بغير ما أنزل الله
من حكم بغير ما أنزل الله في مسألة أو مسألتين أو ثلاث، إذا لم يكن مستحلاً فإنه لا يكفر، وأما إذا كان مستحلاً ولو مسألة فإنه يكفر، وليس هناك تحديد بعدد معين، وليس هناك فرق بين الواحدة والثنتين والثلاث.
وإذا كانت الشريعة قائمة ثم أتى آت وبدلها، ووضع قوانين وألزم الناس بالتحاكم بها، فإن هذا يكون كفراً، أما إذا كانت القوانين موجودة والحاكم أو السلطان الذي جاء ورث تركة فاسدة، وعنده نية التخلص من هذه التركة الفاسدة، ويعمل على التخلص منها وتغييرها إلى أحكام الشريعة فهذا على خير، ولكن يكفر الذي يستحل ذلك أو يعتبر أنه لا فرق بين الشريعة وبين غيرها، أو يتهم الشريعة بما تتهم به من قصور أو قسوة أحكام وما إلى ذلك، فهذا يكون مرتداً.(405/22)
ما جاء في طلب القضاء والتسرع إليه(405/23)
شرح حديث أبي مسعود (إنه كان يكره التسرع إلى الحكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في طلب القضاء والتسرع إليه.
حدثنا محمد بن العلاء ومحمد بن المثنى قالا: أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن رجاء الأنصاري عن عبد الرحمن بن بشر الأنصاري الأزرق قال: (دخل رجلان من أبواب كندة وأبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه جالس في حلقة فقالا: ألا رجل ينفذ بيننا؟ فقال رجل من الحلقة: أنا، فأخذ أبو مسعود كفاً من حصى فرماه به وقال: مه؛ إنه كان يكره التسرع إلى الحكم)].
أورد أبو داود باباً في طلب القضاء والتسرع إليه.
يعني: أن المبادرة إلى الحكم بين الناس أو الحرص على التقدم فيه وأنه هو الذي يتولاه ويسبق إليه، فهذا غير سائغ، والإنسان لا يستعجل حتى في الفتوى التي هي دون القضاء، وقد كان السلف كل واحد منهم يحيل على الثاني، ويتمنى أن غيره يتولى المهمة دونه، فالتسرع في الأحكام والتسرع في الفتوى والمبادرة إلى ذلك وكونه يسبق غيره في هذا، هذا مذموم وليس بمحمود.
وأورد أبو داود حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله تعالى عنه: (أنه كان في مجلس، وأنه جاء رجلان وقالا: من يحكم بيننا؟ فبادر رجل وقال: أنا، فأنكر عليه أبو مسعود وقال: مه، إنه كان يكره التسرع إلى الحكم).
والحديث ضعيف؛ لأن في إسناده من هو متكلم فيه، ولكن معناه صحيح، من ناحية كراهة كون الإنسان يبادر ويحرص أو يريد أن يتقدم على غيره، فمثل هذه الأمور إذا وجد من يكفي ومن يتحمل يكون الإنسان في عافية.(405/24)
تراجم رجال إسناد حديث أبي مسعود (إنه كان يكره التسرع إلى الحكم)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومحمد بن المثنى].
هو محمد بن المثنى أبو موسى العنزي الملقب بـ الزمن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا أبو معاوية].
هو محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رجاء الأنصاري].
رجاء الأنصاري مقبول، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن عبد الرحمن بن بشر الأنصاري الأزرق].
عبد الرحمن بن بشر الأنصاري الأزرق مقبول، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[وأبو مسعود الأنصاري].
هو عقبة بن عمرو الأنصاري رضي الله تعالى عنه وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(405/25)
الترجيح بين حديث أبي مسعود وحديث أبي برزة رضي الله عنهما
في حديث أبي مسعود أنه إذا حصل من أشخاص الرجوع إلى شخص ليقضي بينهم وأن يحكم بينهم أن ذلك غير سائغ، وقد مر بنا حديث قريب وصحيح في هذا الموضوع، وهو حديث الصحابي أبي برزة رضي الله عنه وذلك عندما تحاكم إليه رجلان أحدهما اشترى فرساً بعبد، وكان صاحب الفرس أراد أن يرجع في خيار المجلس، وكانا قد أقاما يوماً وليلة، فقال: إنكم لا زلتم في مجلسكم وجعل الحكم لصاحب الفرس.
وهذا الحديث الذي فيه إنكار أبو مسعود على من سارع ليحكم بين المتخاصمين هو حديث ضعيف، أما حديث أبي برزة ففيه: إذا اختار اثنان متخاصمان من شخص أن يحكم بينهما وهو أهل للحكم وحكم بينهما فإن ذلك سائغ، وحديث أبي برزة صحيح.(405/26)
شرح حديث (من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا إسرائيل حدثنا عبد الأعلى عن بلال عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه، ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه أنزل الله ملكاً يسدده)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه).
يعني: من حرص على طلبه واستعان ببعض الناس للوصول إليه، حيث جعلهم يساعدونه ويعاونونه للوصول إليه فإنه يوكل إليه.
قوله: [(ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه أنزل الله ملكاً يسدده)].
وذلك لأنه أسند إليه بغير رغبة منه وبغير طلب منه، فهذا حري بأن يسدد، والحديث غير صحيح؛ لأن فيه من هو متكلم فيه، ولكن لا شك أن الحرص على الشيء مذموم، وأن السلامة منه حيث لا يتعين مطلوبة.(405/27)
تراجم رجال إسناد حديث (من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا إسرائيل].
هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الأعلى].
هو عبد الأعلى بن عامر، وهو صدوق يهم، أخرج له أصحاب السنن.
[عن بلال].
هو بلال بن أبي موسى الفزاري، وهو مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أنس بن مالك].
أنس رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث فيه انقطاع، لكن الكلام على أنه إذا جاء من طريق أخرى متصلاً فإنه ينجبر ولا يؤثر، ولكن كونه يوجد في الإسناد المتصل وكذلك المنقطع من هو متكلم فيه فهذا يؤثر فيه.(405/28)
ذكر طرق أخرى لحديث (من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه) وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال وكيع: عن إسرائيل عن عبد الأعلى عن بلال بن أبي موسى عن أنس].
وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وإسرائيل وعبد الأعلى وبلال بن أبي موسى وأنس مر ذكرهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو عوانة: عن عبد الأعلى عن بلال بن مرداس الفزاري عن خيثمة البصري عن أنس].
خيثمة بن عبد الرحمن البصري لين الحديث، أخرج له الترمذي والنسائي.
ولم يذكر الحافظ أن أبا داود أخرج لـ خيثمة؛ لأنه جاء في المعلقات ولم يأت في المتصلات.
[أبو عوانة].
هو وضاح بن عبد الله اليشكري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(405/29)
شرح حديث (لن نستعمل على عملنا من أراده)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا قرة بن خالد حدثنا حميد بن هلال حدثني أبو بردة قال: قال أبو موسى: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لن نستعمل أو لا نستعمل على عملنا من أراده)].
أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري: (لن نستعمل أو لا نستعمل على عملنا من أراده) يعني: أن من طلبه لا يحرص عليه ولا يرغب فيه، وإنما يرغب في الذي لا يطلبه؛ لأن الذي لا يطلبه حري أن يسدد، والذي يطلبه حري بأن يوكل إليه.(405/30)
تراجم رجال إسناد حديث (لن نستعمل على عملنا من أراده)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا قرة بن خالد].
قرة بن خالد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حميد بن هلال].
حميد بن هلال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبو بردة].
هو أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: قال أبو موسى].
هو عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(405/31)
ما جاء في كراهية الرشوة(405/32)
شرح حديث (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كراهية الرشوة.
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الراشي والمرتشي)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في كراهية الرشوة]، يعني: في تحريم الرشوة، والرشوة هي التي تدفع للموظف مثلاً أو للقاضي أو لأي مسئول من أجل الوصول لشيء سواءً كان هذا الشيء حقاً أو باطلاً، فهذه يقال لها: رشوة؛ لأنه يتوصل بها إلى ما يريده الإنسان، قالوا: وهي من الرشا الذي يستخرج به الماء من البئر، فإنه يتوصل به إلى تحصيل الماء وإخراجه من البئر.
وأورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي) الراشي: هو الذي يدفع الرشوة، والمرتشي: هو الذي يأخذ الرشوة.(405/33)
تراجم رجال إسناد حديث (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن أبي ذئب].
هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحارث بن عبد الرحمن].
الحارث بن عبد الرحمن صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قد مر ذكره.
وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الصحابي الجليل، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(405/34)
ما جاء في هدايا العمال(405/35)
شرح حديث (يا أيها الناس من عمل منكم لنا على عمل فكتمنا منه مخيطاًَ فما فوقه فهو غل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في هدايا العمال.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن إسماعيل بن أبي خالد حدثني قيس حدثني عدي بن عميرة الكندي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يا أيها الناس! من عُمَّل منكم لنا على عمل فكتمنا منه مخيطاً فما فوقه فهو غل يأتي به يوم القيامة، فقام رجل من الأنصار أسود كأني أنظر إليه فقال: يا رسول الله! اقبل عني عملك، قال: وما ذاك؟ قال: سمعتك تقول كذا وكذا، قال: وأنا أقول ذلك: من استعملناه على عمل فليأت بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذه، وما نهي عنه انتهى)].
أورد أبو داود باباً في هدايا العمال، وهدايا العمال هي: ما يهدى لهم ويعطون من أجل عمالتهم، والعامل ليس له أن يأخذ ذلك الذي أعطي إياه، وإن أخذه فإنه يكون تابعاً للشيء الذي وكل إليه، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح في قصة ابن اللتبية الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لجباية الصدقة، ولما جاء قال: (هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا جلس في بيت أمه فلينظر هل تأتيه هديته؟)، لأنه ما أعطي إلا من أجل العمالة ومن أجل الولاية، فلا يجوز له أن يأخذ شيئاً، وإن أخذ فإنه يتبع الشيء الذي كلف به واستعمل عليه.
وقد ورد في حديث بهذا اللفظ: (هدايا العمال غلول) وهذا حديث صحيح، فهدايا العمال غلول، وهذا الحديث يدل على ما دل عليه الحديث الذي ترجم له المصنف هنا، حيث بين أن هدايا العمال من جملة الغلول، وأن الإنسان إذا استعمل على عمل فإنه يأتي بالشيء الذي كلف به ولا يأخذ شيئاً مقابله، وإنما يأخذ ما يعطى إياه من جهة الوالي، وينتهي عما نهي عنه من جهة الوالي.
وأورد أبو داود حديث عدي بن عميرة الكندي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: [(يا أيها الناس! من عُمَّل منكم لنا على عمل فكتمنا منه مخيطاً فما فوقه)].
يعني: من استعمل على عمل فكتم مخيطاً وهو الإبرة فما فوقه وهذا شيء قليل تافه، ومع ذلك لا يجوز أن يكتمه، بل كل شيء يؤديه ولو كان شيئاً يسيراً، والتهاون في القليل يؤدي إلى التهاون في الكثير، والاستعفاف عن الشيء القليل من باب أولى أن يستعف عن الكثير.
قوله: [(فهو غل يأتي به يوم القيامة)].
يعني: يأتي يوم القيامة وهو يحمله، قال عز وجل: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] يعني: فيكون فضيحة له عندما يأتي وهو يحمله، مثل ما جاء في الحديث: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر).
وكذلك أيضاً الحديث الآخر: (من اقتطع شبراً من الأرض طوقه من سبع أرضين) يعني مقدار هذا الشبر الذي اقتطعه كل ذلك يكون عليه ويأتي به يوم القيامة، حيث يجعل طوقاً عليه يحمله يوم القيامة، ليكون فضيحة له على رءوس الأشهاد.
قوله: [(فقام رجل من الأنصار أسود كأني أنظر إليه فقال: يا رسول الله! اقبل عني عملك، قال: وما ذاك؟ قال: سمعتك تقول: كذا وكذا، قال: وأنا أقول ذلك: من استعملناه على عمل فليأت بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذه، وما نهي عنه انتهى)].
وهذا الأنصاري رضي الله عنه خاف من هذه التبعة ومن هذه المسئولية، فأراد أن يسلم وأن يبتعد عن أن يعرض نفسه للخطر، وأن يقع في أمر محظور، وقال: (اقبل عني عملك) يعني: أنا ما أريد أن أعمل، قال: (وما ذاك) يعني: ما الذي جعلك تقول هذا الكلام؟ قال: (سمعتك تقول كذا وكذا) قال: نعم وأنا أقوله وأؤكده.(405/36)
تراجم رجال إسناد حديث (يا أيها الناس من عمل منكم لنا على عمل فكتمنا منه مخيطاً فما فوقه فهو غل)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسماعيل بن أبي خالد].
إسماعيل بن أبي خالد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني قيس].
هو قيس بن أبي حازم، وهو ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو الذي قيل عنه: إنه اتفق له أن روى عن العشرة المبشرين بالجنة، وقيل: إنه يستثنى منهم واحد، ولكنه روى عن هؤلاء الخيار الفضلاء الذين هم خير هذه الأمة، وهم العشرة المبشرون بالجنة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح، هؤلاء العشرة المبشرون بالجنة.
[حدثني عدي بن عميرة الكندي].
عدي بن عميرة الكندي رضي الله عنه، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.(405/37)
الأسئلة(405/38)
حكم الشهادات التقديرية
السؤال
هل يدخل في هدايا العمال الشهادات التقديرية؟
الجواب
لا، هذه ليست بهدية، كونه يعمل شيئاً يدل على جودته في عمله وإتقانه لعمله هذه لا تضر.(405/39)
حكم الإهداء للعامل على وجه المحبة
السؤال
ما الحكم إذا أهدي للعامل دون أن يكون للمهدي معاملة عنده إنما هي محبة؟
الجواب
إذا كان التهادي موجوداً من قبل فلا بأس، وإن كان التهادي بعد الولاية فلا.(405/40)
شرح سنن أبي داود [406]
هناك أمور لابد للقاضي مراعاتها، منها: أن لا يقضي القاضي بين الخصمين حتى يسمع منهما جميعاً؛ فإنه أحرى وأجدر في وضوح الحكم، وكون القاضي يخطئ في الحكم ويحكم بالشيء لغير صاحبه فهذا لا يعني أنه يجوز للمقضي له بالشيء أخذه إذا علم أنه لا يحل له فيما بينه وبين الله؛ لأن حكم الحاكم لا يترتب عليه تحريم حلال ولا تحليل حرام.(406/1)
كيفية القضاء بين الخصمين(406/2)
شرح حديث علي (بعثني رسول الله إلى اليمن قاضياً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كيف القضاء.
حدثنا عمرو بن عون أخبرنا شريك عن سماك عن حنش عن علي قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن قاضياً، فقلت: يا رسول الله! ترسلني وأنا حديث السن، ولا علم لي بالقضاء؟ فقال: إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء.
قال: فما زلت قاضياً، أو ما شككت في قضاء بعد)].
أورد أبو داود باب كيف القضاء.
يعني: كيف يقضي الإنسان؟ والمقصود من ذلك أنه يسمع ما عند الخصمين؛ فيسمع من المدعي ثم يسمع من المدعى عليه؛ لأن المدعي هو الذي يبدأ بالكلام ثم المدعى عليه، وبهذه الكيفية يتبين الحكم ويتضح، أما أن يأخذ من واحد دون الثاني أو يسمع كلام واحد دون الثاني فهذه طريقة غير صحيحة؛ لأنه لابد من الأمرين، ولهذا علي رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً، فقلت: يا رسول الله! ترسلني وأنا حديث السن، ولا علم لي بالقضاء؟ فقال: إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان).
هذا هو محل الشاهد من الترجمة، يعني: إذا جلس بين يديك الخصمان للقضاء فاسمع من هذا واسمع من هذا.
قوله: [(فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول؛ فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء)].
يعني: فإنه أحرى أن يتبين لك وجه الحكم بينهما، أما إذا أخذت كلام المدعي ولم تنظر في كلام المدعى عليه تكون أخطأت وقصرت ولم تأت بالذي هو واجب عليك، وهذا فيه بيان الشاهد لما ترجم له المصنف من كيفية القضاء، وهو أن القاضي في طريقته في الحكم بين الناس عليه أن يسمع من هذا ومن هذا.
قوله: [(قال: فما زلت قاضياً، أو ما شككت في قضاء بعد)].
وهذا يدل على فضيلة علي رضي الله عنه وأرضاه، كونه صلى الله عليه وسلم دعا له، وكونه سدد ووفق وأنه ما شك في قضاء قضاه رضي الله تعالى عنه وأرضاه.(406/3)
تراجم رجال إسناد حديث علي (بعثني رسول الله إلى اليمن قاضياً)
قوله: [حدثنا عمرو بن عون].
عمرو بن عون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا شريك].
هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي، وهو صدوق اختلط ويخطئ كثيراً، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سماك].
هو سماك بن حرب، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن حنش].
هو حنش بن المعتمر الكناني، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن علي].
علي رضي الله عنه أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، رضي الله تعالى عنه وأرضاه.(406/4)
الأسئلة(406/5)
حكم القضاء على الغائب الفار من الحق
السؤال
قال مالك والشافعي: يجوز القضاء على الغائب إذا تبين للحاكم أن فراره واستخفاءه إنما هو فرار من الحق ومعاندة للخصم، فهل هذا صحيح؟
الجواب
نعم، هذا فيما إذا كان هناك امرأة ادعت النفقة على زوجها وله مال موجود عند أحد، فإنه يحكم بالإنفاق عليها من ذلك المال، وإذا جاء وادعى أمراً يخالف ذلك فإنه تُسْمَعُ دعواه.
إذاً: الحكم على الغائب في أمر حاضر وأمر لا يقبل التأخير ككون امرأة في عصمته وليس لها نفقة منه، وتطالب بنفقة ويوجد له مال مرصود عند أحد، فيمكن أن تعطى من ذلك المال، وإذا جاء لا يسقط حقه في الرجوع إليها، إذا كانت غير صادقة فيما تقول.(406/6)
حكم قول (عليه السلام) عند ذكر علي رضي الله عنه
السؤال
ما حكم من يقول عند ذكر علي رضي الله عنه: عليه السلام؟
الجواب
كلمة (عليه السلام) هذه ذكر ابن كثير رحمه الله في تفسير سورة الأحزاب عند قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] قال: إنه اعتاد بعض النساخ أو كثير من النساخ أنهم عندما يأتي ذكر علي أو فاطمة يقولون: عليه السلام أو عليها السلام، وهذا غير صحيح؛ لأن الذي ينبغي فيه أن يسوى بين الصحابة، وأن يعامل الصحابة معاملة واحدة، وأن يترضى عنهم، وطريقة السلف هي الترضي عن الصحابة.(406/7)
وجه قول علي (لا علم لي بالقضاء) مع النهي عن القضاء بدون علم
السؤال
في حديث علي رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (لا علم لي بالقضاء)، وقد سبق أن القاضي لا يكون قاضياً إلا إذا كان عالماً، فما التوجيه؟
الجواب
قال ذلك من باب التواضع رضي الله عنه، وأنه يريد السلامة.(406/8)
وجه الجمع بين حديث علي في ضرورة الجمع بين الخصمين وبين حديث هند بنت عتبة
السؤال
في حديث علي لابد أن يكون كل من الخصمين موجوداً، وحديث هند سبق أن قلتم: إنه فتوى.
الجواب
تلك فتوى، والإشكال أن البخاري رحمه الله بوب لحديث هند فقال: باب القضاء على الغائب.
وعلى كل حال فهذا على اعتبار أن هنداً كانت مستحقة للنفقة؛ لأنه كما هو معلوم من حال أبي سفيان رضي الله عنه أنه كان شحيحاً، وأنه كذا وكذا، ومن أجل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لها بأن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها، يعني: كونه قضاءً على غائب من هذا القبيل، لكن الذي يظهر أنه من قبيل الفتوى.(406/9)
حكم من يطلب من الجهات المختصة أن يكون إماماً في أحد المساجد
السؤال
هل الذي يطلب من المسئول المختص أن يكون إماماً في أحد المساجد يكون طلبه مذموماً؟
الجواب
إذا كان قصده طيباً، بحيث أنه يريد أن يحافظ على الصلوات، ويريد أيضاً أن يعتني بالقرآن حفظاً وتلاوة وتدبراً، فلكل امرئ ما نوى.(406/10)
حكم تكفير من يحكم بالقوانين الوضعية المخالفة للشريعة
السؤال
هل القاضي الذي يقضي بأحكام وضعية، يكون في النار أو يكون كافراً؟
الجواب
كونه يستحق النار فهذا ليس فيه إشكال، لكن هل يكون كافراً أو يكون غير كافر هذا فيه تفصيل؛ فإذا كان مستحلاً لا شك أنه يكون كافراً، وإذا كان يرى أن أحكام الشريعة غير كافية فهو كافر، وإذا كان يرى أن أحكام الشريعة لا تصلح فهو كافر، وإذا كان يرى أن غير الشريعة أحسن من الشريعة أو مثل الشريعة فهو كافر، أما إذا كان يعرف أن هذا لا يجوز لكنه أقدم عليه مع عدم استحلاله له فهذا يكون معصية.(406/11)
واجب الابن تجاه والده الذي يحكم بالقوانين الوضعية
السؤال
أبي قاضٍ، وفي بلادنا القضاء يكون بالقوانين الوضعية، فهل يجوز لي الأكل من ماله؟
الجواب
إذا أمكنك أن تستغني عنه فذلك خير لك، ولكن الذي ينبغي أن تفعله تجاه والدك هو أن تحرص على سلامته، وأن تنصحه بأن يطلب رزقه من طريق مشروع؛ حتى يكون رزقه حلالاً، وأن يبتعد عن هذا العمل الخبيث الذي هو الحكم بغير ما أنزل الله، والحكم بالقوانين الوضعية الوضيعة.(406/12)
حكم التحاكم إلى من يحكمون بالقوانين الوضعية
السؤال
عندنا في بلادنا القضاة يقضون بالقوانين الوضعية، فإذا حصل لي ظلم من أحد الأشخاص في عرض أو مال، فهل لي أن أتحاكم إليهم؟
الجواب
احرص على أنك تنتهي مع خصمك على طريقة دون أن تصل إلى هؤلاء الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، وإذا كان هناك أحد عنده علم ترجعون إليه وتحكمونه وتصيرون إلى ما يحكم به، هذا هو الذي عليكم أن تفعلوه، وإذا كان غيرك طلبك وألزمك بالذهاب إليهم ولست أنت الذي قصدت ذلك، وأنه لا سبيل غير ذلك، فلك أن تذهب وتبدي ما عندك، ولكن الطريقة المثلى كما هو معلوم من الجانبين الابتعاد عن القضاة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، وتحكيم من يكون عنده علم بالشريعة والنزول على حكمه.(406/13)
حكم تكفير من أصر على الحكم بالديمقراطية دون الشريعة
السؤال
إن هؤلاء الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله قد أقيمت عليهم الحجة؛ لأن الأشرطة منتشرة والكتب موجودة، وهم يصرون على الحكم بالديمقراطية، فهل هذا يقتضي كفرهم؟
الجواب
كونهم عرفوا الحق وحادوا عنه مع اعتقادهم أنهم مخطئون لا يدل على الكفر، فهم مثل العصاة الذين يقدمون على الأمر المحرم وهم يعلمون أنه محرم، فالزاني عنده علم بأن الزنا حرام، ولكنه لم يستحله بل يعترف أنه مخطئ، فهذا ليس بكفر.(406/14)
حكم من استبدل الشريعة بالقوانين الوضعية وألزم الناس بها
السؤال
لو قدم حاكم في بلد إسلامي وغير الشريعة بالقوانين الوضعية التي وضعها الغرب؛ لأجل الحصول على أغراض دنيوية مع كراهيته لهذه القوانين فما حكمه؟
الجواب
ما دام أنه بدل الشريعة وألزم الناس بغير الشريعة، فهذا يكون كافراً والعياذ بالله.
والتبديل كما هو معلوم يكون فيما يتحاكم إليه الناس من القضايا التي يفصل القضاة فيها بينهم، وأما الأمور التي لا يحتاج الناس فيها إلى قضاء فهذا شيء بينهم وبين الله، ولكن الشيء الذي يحتاج فيه الناس إلى قضاة ويذهبون للمحاكم بسببه، ويطلب بعضهم بعضاً من أجل التحاكم فهذا هو الذي يدخل في الحكم بغير ما أنزل الله، وأما فيما يتعلق بأمور عقدية، أو كونه يعتقد عقيدة غير صحيحة فهذا لا يترتب عليه أنه حكم بغير ما أنزل الله، فهذه قضية أخرى؛ لأنه ليس من قبيل الشيء الذي يحتاج الناس إليه في الحكم بينهم والقضاء بينهم.(406/15)
حكم من بدل الشريعة بغيرها ومن أتى بعده وحكم بتلك القوانين
السؤال
ذكرتم الفرق بين من كان يُحكم في بلده بالشرع فنحاه وألزم الناس بالقوانين الوضعية، وبين من أتى بعده وهذه القوانين موجودة، فهذا الأخير إن لم يسع إلى تغييرها، فهل يكون له حكم الأول؟
الجواب
لا يكون له حكم الأول، الإنسان الذي غير وبدل هذا هو الذي كفره واضح، وأما الإنسان الذي جاء والتركة موجودة وبقي على شيء موجود وهو كاره له فإنه يختلف عن ذاك.(406/16)
واجب القضاة والناس تجاه القوانين الوضعية
السؤال
إذا جاء القضاة وهناك قوانين وضعية يحكم بها فهل يتركون العمل في القضاء في بلادهم حتى تحكم الشريعة؟
الجواب
الواجب عليهم أن يتركوا القضاء حتى لا يحكموا بغير ما أنزل الله، وعلى الناس أن يرجعوا إلى قضاة شرعيين إن تمكنوا، كأن ينصبوا رجالاً من أهل العلم حتى يفصلوا بينهم ويرضوا بحكمهم.(406/17)
الحكم بغير ما أنزل الله بين الكفر والمعصية
السؤال
أصل الحكم بغير ما أنزل الله هل هو كفر أو معصية؟
الجواب
الحكم بما أنزل الله يكون كفراً ويكون معصية، بالتفصيل الذي ذكرناه سابقاً.(406/18)
وجه تكفير من استبدل الشريعة بقوانين وضعية وإن لم يجحد الشرعية
السؤال
هل يفهم من كلامكم أن مجرد استبدال الشريعة بقوانين وضعية يكون كفراً وإن لم يجحد؟
الجواب
نعم، فهو لم يغير الشريعة ولم ينحها ويستبدلها بالقوانين إلا لأنه يرى أن هذه القوانين أفضل من الشريعة.(406/19)
ما جاء في قضاء القاضي إذا أخطأ(406/20)
شرح حديث (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قضاء القاضي إذا أخطأ.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن عروة عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئاً، فإنما أقطع له قطعة من النار)].
قوله: [باب في قضاء القاضي إذا أخطأ].
سبق أن عرفنا أن القاضي إذا اجتهد وأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد وخطؤه مغفور، وأنه إذا قضى بغير علم فإنه آثم ولو أصاب، وأنه في النار، وهو أحد القضاة الثلاثة الذين مر ذكرهم في الحديث.
أورد أبو داود رحمه الله حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئاً، فإنما أقطع له قطعة من النار)] وهذا فيه بيان أن الحكم إنما هو بالظاهر، وأنه لا يعلم الغيب إلا الله عز وجل، وأن حكم الحاكم إذا كان بناه على ما ظهر فإنه لا يحرم الحلال ولا يحل الحرام، وإنما على من قضي له بحق أخيه وهو يعلم أنه مبطل ألا يأخذ ذلك الحق؛ لأنه إن أخذه فإنه يعاقب عليه يوم القيامة ويعذب به في نار جهنم، وإنما عليه أن يرد الحق إلى صاحبه.
إذاً: الحكم إنما يكون بالظاهر فلا يكون الحكم ظاهراً وباطناً؛ لأن القاضي قد يأتي إليه شهود يشهدون ويبني حكمه على شهادتهم، وقد يكونون شهود زور، والمقضي له يعلم بأنه مبطل فحكم القاضي له في الظاهر لا يحل الحرام بل عليه أن يرد الحق إلى صاحبه؛ لأنه إنما حكم بالظاهر، والباطن لا يعلمه إلا الله عز وجل.
قوله: [(إنما أنا بشر)] يعني: أنه من جنسهم ولكن الله عز وجل منَّ عليه بالرسالة، وهو صلى الله عليه وسلم ليس له شيء من خصائص الله، بحيث يكون عالماً بكل الغيوب؛ فإن علم الغيب على الإطلاق من خصائص الله سبحانه وتعالى، كما قال الله عز وجل: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، والله تعالى أمر نبيه بأن يقول: إنه لا يعلم الغيب، يقول عز وجل: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام:50] وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188] وعلى هذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يأتيه الخصوم ويكون بعضهم ألحن بحجته من بعض، وقد يأتي بشهود الزور ثم يحكم بتلك الشهادة وهو لا يعلم الغيب، وإنما الله عز وجل هو الذي يعلم الغيب، ولهذا قال: (فمن قضيت له من حق أخيه) يعني: وهو لا يستحقه فحكمي إنما هو بالظاهر ولا يحل الحرام، فهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب على الإطلاق، وإلا فإن الله تعالى قد أطلعه على كثير من الغيوب، ولكن الذي اختص بعلم الغيب مطلقاً بحيث يكون محيطاً بكل شيء، عالم الغيب والشهادة، يعلم السر والنجوى، وهذا كله من خصائص الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، ومما لم يطلعه عليه علم الساعة متى تقوم، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الساعة كما جاء في حديث جبريل قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) وقال عز وجل حكاية عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف:187].
قوله: [(إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض)].
يعني: لو كان عليه الصلاة والسلام يعلم الغيب لعلم المحق من المبطل إذا جاءه الخصمان، ولكنه لا يعلم الغيب فيأتيه الخصمان وكل يدلي بما عنده، وقد يكون بعضهم أبلغ في الحجة وأفصح وأبين وأفطن فيقضي على نحو ما يسمع، ولكن بين صلى الله عليه وسلم أن قضاءه لا يحل ما كان حراماً، فإذا كان الخصم يعلم أنه مبطل فإن حكم القاضي لا يبيح له ذلك الباطل؛ لأن القاضي يحكم بالظاهر، والباطن علمه عند الله عز وجل، فمن كان مبطلاً وعرف أنه مبطل فلا يتذرع بقضاء القاضي ويقول: أنا قضي لي بهذا، أو حكم لي الحاكم بهذا؛ لأن الحاكم حكم بالظاهر، والباطن لا يعلمه إلا الله، فلا يجوز للمقضي له أن يستعمل ذلك الذي قضي له به وهو لا يستحقه، بل عليه أن يعيده إلى صاحبه.(406/21)
تراجم رجال إسناد حديث (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلى)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زينب بنت أم سلمة].
زينب بنت أم سلمة صحابية، وهي ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أم سلمة].
أم سلمة رضي الله عنها هي هند بنت أبي أمية أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، أخرج حديثها أصحاب الكتب الستة.(406/22)
شرح حديث (أتى رسول الله رجلان يختصمان في مواريث لهما لم تكن لهما بينة إلا دعواهما)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة حدثنا ابن المبارك عن أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة قالت: (أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما، لم تكن لهما بينة إلا دعواهما فقال: النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فذكر مثله، فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما: حقي لك، فقال لهما النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أما إذ فعلتما ما فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق، ثم استهما ثم تحالا)].
أورد أبو داود حديث أم سلمة رضي الله عنها أنه جاء رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم يختصمان في ميراث بينهما، ثم ذكر ما تقدم من قوله: (إنما أنا بشر) كما مر في الحديث السابق، فقال كل واحد منهما: حقي لك.
يعني: ليس لي حق والحق لك، كل واحد تبرأ من هذا الذي ادعاه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما إذا فعلتما ما فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق) يعني: بأن يكون القسمان متعادلين ومتساويين.
قوله: [(ثم استهما)] يعني: اعملا القرعة.
قوله: [(ثم تحالا) يعني: ليحلل كل منكما صاحبه.
فهذا يدلنا على ما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من الخوف من الله عز وجل، وأنه لما ذكرهما صلى الله عليه وسلم وبين أن من حكم له بشيء من حق أخيه فإنما يقطع له قطعة من النار، فكل واحد تبرأ وقال: حقي لك.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى كل منهما تبرأ، وكل منهما خاف، وكان الحق بينهما لا يعدوهما فقال لهما: اقتسماه بينكما نصفين، وتوخيا في القسمة بحيث يكون كل قطعة مماثلة للقطعة الثانية، أو كل جزء مماثل للجزء الثاني، ثم بعد ذلك استهما -أي: يعملان القرعة التي يتميز بها ما يكون لهذا- وما يكون لهذا، ثم بعد ذلك يكون التحالل الذي هو كون كل واحد يحلل للآخر ويبيحه، فتكون هناك براءة ذمة وتخالص مما حصل بينهما من الخلاف، بأن يبيح كل منهما صاحبه، ويحلل كل منهما صاحبه.
ووجه الاستهام أن القسمة لم تكن في شيء موزن، وإنما كان في قطع وأشياء غير موزنة وغير مكيلة.
قوله: [(أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما)].
يعني: كل يدعي أن الحق له وهي مواريث قديمة.
قوله: [(لم تكن لهما بينة إلا دعواهما)].
يعني: ليس عند أحد بينة على الآخر إلا مجرد الدعوى، كل واحد يدعي شيئاً.(406/23)
تراجم رجال إسناد حديث (أتى رسول الله رجلان يختصمان في مواريث لهما لم تكن لهما بينة إلا دعواهما)
قوله: [حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة].
هو الربيع بن نافع أبو توبة الحلبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا ابن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك المروزي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أسامة بن زيد].
هو أسامة بن زيد الليثي، وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة].
عبد الله بن رافع مولى أم سلمة ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أم سلمة].
أم سلمة مر ذكرها.(406/24)
شرح طريق أخرى لحديث (أتى رسول الله رجلان يختصمان في مواريث)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عيسى حدثنا أسامة عن عبد الله بن رافع قال: سمعت أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهذا الحديث قال: (يختصمان في مواريث وأشياء قد درست فقال: إني إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي فيه)].
أورد أبو داود رحمه الله تعالى الحديث من طريق أخرى وقال: (إني إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي فيه) ولكن كما هو معلوم أنه إذا اجتهد فأخطأ فإنه لا يقر إلا على حق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وإذا حصل منه شيء نزل الوحي ببيان الحق في ذلك، مثل ما حصل في قصة أسارى بدر، وفي غير ذلك.
قوله: [(يختصمان في مواريث وأشياء قد درست)].
يعني: أشياء قديمة قد درست.(406/25)
تراجم رجال إسناد الطريق الأخرى لحديث (أتى رسول الله رجلان يختصمان في مواريث)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي].
إبراهيم بن موسى الرازي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا عيسى].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أسامة عن عبد الله بن رافع قال: سمعت أم سلمة].
قد مر ذكرهم.
والحديث ضعفه الشيخ الألباني بـ أسامة بن زيد، والحقيقة أن أسامة بن زيد صدوق يهم، وقد صحح العلماء كثيراً من حديثه، ولا يؤثر وجود أسامة بن زيد فيه، والتضعيف فيه نظر.(406/26)
شرح أثر عمر (إن الرأي إنما كان من رسول الله مصيباً لأن الله كان يريه وإنما هو منا الظن والتكلف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو على المنبر: (يا أيها الناس! إن الرأي إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصيباً؛ لأن الله كان يريه، وإنما هو منا الظن والتكلف)].
أورد أبو داود أثر عمر رضي الله عنه: أن الرأي إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيباً؛ لأن الله تعالى كان يريه.
يعني: ينزل عليه الوحي ويبين له صحة ما حكم به، أو العتب عليه فيما رآه كما حصل في أسارى بدر.
قوله: [وإنما هو منا الظن والتكلف].
يعني: الرأي من غير الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو ظن وتخمين، ولكنه إذا كان مبنياً على قياس فهو دليل؛ لأن القياس دليل من جملة الأدلة، ولكنه إذا كان مجرد رأي ليس هناك شيء يستند عليه فهو كما قال عمر: إنما هو الظن والتكلف، ولكن الأثر منقطع غير ثابت؛ لأن الزهري لم يدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لأنه من صغار التابعين الذين أدركوا صغار الصحابة، وعمر رضي الله عنه توفي سنة ثلاث وعشرين والزهري مات سنة مائة وخمس وعشرين فلم يدرك عمر.(406/27)
تراجم رجال إسناد أثر عمر (إن الرأي إنما كان من رسول الله مصيباً لأن الله كان يريه وإنما هو منا الظن والتكلف)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
هو سليمان بن داود المهري المصري، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يونس بن يزيد].
هو يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن عمر بن الخطاب].
هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(406/28)
ترجمة رجال إسناد أورده أبو داود بدون متن
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن عبدة الضبي أخبرنا معاذ بن معاذ أخبرني أبو عثمان الشامي ولا إخالني رأيت شامياً أفضل منه، يعني حريز بن عثمان].
أورد أبو داود هذا الإسناد بدون متن، ولا أدري ما وجهه، وقد جاء في بعض النسخ مثلما قال صاحب عون المعبود.
قوله: [ولا إخالني رأيت شامياً أفضل منه، يعني حريز بن عثمان]، يعني: لا أظنني رأيت شامياً أفضل منه.
قوله: [حدثنا أحمد بن عبدة الضبي].
أحمد بن عبدة الضبي ثقة، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا معاذ بن معاذ].
هو معاذ بن معاذ العنبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني أبو عثمان الشامي].
هو حريز بن عثمان، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.(406/29)
الأسئلة(406/30)
عدم وجود دليل في حديث أم سلمة على أن حديث الآحاد لا يفيد العلم
السؤال
هل في حديث أم سلمة رضي الله عنها دليل على أن حديث الآحاد لا يفيد العلم اليقيني؟
الجواب
لا ليس فيه دليل؛ لأن حديث أم سلمة فيه اختصام وحكم بين المتخاصمين، فلا وجه في كونه يفيد العلم أو لا يفيد العلم.(406/31)
حكم قول أبي حنيفة أن قضاء القاضي نافذ ظاهراً وباطناً
السؤال
ما صحة قول بعض الفقهاء من الحنفية من أن قضاء القاضي نافذ ظاهراً وباطناً؟
الجواب
هذا جاء عن أبي حنيفة وخالفه أصحابه فقالوا بقول الجمهور، وقول أبي حنيفة غير صحيح، كيف يكون نافذاً باطناً والمحكوم عليه يعلم أنه مبطل وأنه إنما قضي له بشهادة زور؟! إذاً: الصواب أنه نافذ ظاهراً لا باطناً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار) فهذا بيان أنه لا ينفذ باطناً وإنما ينفذ ظاهراً، ولكن المحكوم له فيما بينه وبين الله عليه أن يتقي الله عز وجل ولا يأكل مال أخيه بالباطل، فالقول بأنه ينفذ باطناً هذا خطأ ومخالف لما جاء فيه هذا الحديث، ولهذا خالفه أصحابه وقالوا بقول الجمهور.(406/32)
كيفية جلوس الخصمين بين يدي القاضي(406/33)
شرح حديث (قضى رسول الله أن الخصمين يقعدان بين يدي الحكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كيف يجلس الخصمان بين يدي القاضي؟ حدثنا أحمد بن منيع حدثنا عبد الله بن المبارك حدثنا مصعب بن ثابت عن عبد الله بن الزبير قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحكم)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب كيف يجلس الخصمان بين يدي القاضي؟] أي: كيفية جلوسهما، هل يكونان متساويين، أو بينهما فرق، بحيث يكون أحدهما بجواره والثاني يكون بعيداً منه؟
الجواب
أنه لا يفرق بينهما فيقرب أحدهما ويبعد الآخر وإنما يسوي بينهما في الجلوس، وهذا من العدل؛ لأنه لو ميز أحدهما بشيء فيمكن أن يكون ذلك مؤثراً في الشخص الذي لم يميز، فيكون ذلك سبباً في ضياع حجته، وسبباً في عدم إتيانه بالشيء الذي يوضح كلامه ويبينه؛ لأنه حصل له هم بسبب التمييز، فإذا سوي بينهما فإن ذلك يزول.
أورد أبو داود حديث عبد الله بن الزبير وفيه: قعود الخصمين أمام الحاكم، والمعنى صحيح، ولكن الحديث في إسناده ضعف وهو غير ثابت؛ لأن فيه مصعب بن ثابت وهو لين الحديث، فلا يعتبر ذلك ثابتاً ولكن من حيث المعنى هو صحيح.(406/34)
تراجم رجال إسناد حديث (قضى رسول الله أن الخصمين يقعدان بين يدي الحكم)
قوله: [حدثنا أحمد بن منيع].
أحمد بن منيع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن المبارك حدثنا مصعب بن ثابت].
مصعب بن ثابت لين الحديث، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عبد الله بن الزبير].
عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وهذا من الرباعيات.(406/35)
شرح سنن أبي داود [407]
إن الغضب يغير العقل ويحيل الطباع عن الاعتدال، فلذلك أُمِر الحاكم بالتوقف في الحكم ما دام به الغضب، فيقاس على الغضب ما كان في معناه من جوع مفرط، وفزع مدهش، ومرض موجع، وعلى الحاكم أن يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجد فيهما، فإنه يجتهد رأيه ولا يقصر في الاجتهاد وبلوغ الوسع فيه.(407/1)
ما جاء في القاضي يقضي وهو غضبان(407/2)
شرح حديث (لا يقضي الحكم بين اثنين وهو غضبان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب القاضي يقضي وهو غضبان.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أنه كتب إلى ابنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يقضي الحكم بين اثنين وهو غضبان)].
أورد أبو داود باب: القاضي يقضي وهو غضبان.
أي: أنه لا يجوز له ذلك، وإنما يقضي في حال راحته وهدوئه، وعدم وجود ما يشوش فكره وباله؛ لأنه إذا غضب وقضى حال غضبه فإن الغضب يصرفه عن الإدراك والتأمل، وكذلك مثله مما يشابهه بأن يكون في حال جوع شديد أو يكون عنده مرض يؤلمه، فإنه يكون مشغولاً بالألم الذي ربما يؤثر عليه، أو غير ذلك من الأشياء التي تقاس على الغضب.
الحاصل أن القاضي إنما يقضي في حال هدوئه وراحته لا في حال كونه مشوشاً من غضب أو غيره.
أورد أبو داود حديث أبي بكرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقضي الحكم بين اثنين وهو غضبان).(407/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يقضي الحكم بين اثنين وهو غضبان)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان].
مر ذكرهما.
[عن عبد الملك بن عمير].
عبد الملك بن عمير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة].
عبد الرحمن بن أبي بكرة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو نفيع بن الحارث رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(407/4)
الحكم بين أهل الذمة(407/5)
شرح أثر ابن عباس قال ((فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم)) فنسخت قال ((فاحكم بينهم بما أنزل الله))
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الحكم بين أهل الذمة.
حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثني علي بن حسين عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42] فنسخت قال: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:48]].
أورد أبو داود باب الحكم بين أهل الذمة.
يعني: أن أهل الذمة إذا ترافعوا إلى القاضي فإنه يحكم بينهم بحكم الإسلام، ولا ينظر إلى ما عندهم وإلى ما بأيديهم؛ لأن الشريعة الإسلامية ناسخة لجميع الشرائع، والحكم إنما هو بها دون غيرها، ولا يحكم بشيء سواها.
أورد أبو داود أثر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو قول الله عز وجل: [{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42]] يعني: كان هناك تخيير بين أن يحكم بين أهل الذمة أو يعرض عنهم، وأنه إن حكم يحكم بينهم بالقسط، ثم قال: إن ذلك نسخ بقوله: [{فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:48]] يعني: أنه عندما يأتون للتخاصم فإنه يحكم بينهم وليس مخيراً بين أن يحكم ولا يحكم.
والظاهر أنه إذا ترافع أهل الذمة إلى القاضي المسلم فإنه يحكم بينهم.(407/6)
تراجم رجال إسناد أثر ابن عباس قال ((فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم)) فنسخت قال ((فاحكم بينهم بما أنزل الله))
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد المروزي].
هو أحمد بن محمد بن ثابت المروزي وهو ابن شبويه، وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثني علي بن حسين].
هو علي بن حسين بن واقد، وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه ثقة له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد النحوي].
هو يزيد بن أبي سعيد النحوي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(407/7)
شرح حديث (كان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة أدوا نصف الدية وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا إليهم الدية كاملة، فسوى رسول الله بينهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: (لما نزلت هذه الآية: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42]، {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة:42] الآية.
قال: كان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة أدوا نصف الدية، وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا إليهم الدية كاملة، فسوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهم)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس وفيه: لما نزلت: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42]، {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة:42]، فكان بنو النضير إذا قتلوا أحداً من بني قريظة دفعوا لهم نصف الدية، وإذا كان العكس فإنهم يدفعون الدية كاملة، فكان هناك فرق بين القبيلتين، وأن القتيل من هذه القبيلة يكون ديته نصف الدية، وإذا كان من هذه القبيلة يكون الدية كاملة، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما حكم بينهم سوى بينهم وجعل الدية واحدة، وأنه لا فرق بين قبيلة وقبيلة.(407/8)
تراجم رجال إسناد حديث (كان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة أدوا نصف الدية وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا إليهم الدية كاملة، فسوى رسول الله بينهم)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن سلمة].
هو محمد بن سلمة الحراني، وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن داود بن الحصين].
داود بن الحصين ثقة إلا في عكرمة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وهنا فائدة: يقول ابن عدي: إن حديث داود بن الحصين على ضربين: إذا حدث عنه ثقة فحديثه صحيح، وإذا روى عنه غير الثقة كـ ابن أبي حبيبة وإبراهيم بن أبي يحيى فحديثه ضعيف، فالحمل على من روى عنه عن عكرمة وليس عنه هو.
وهذا تفصيل جيد.
[عن عكرمة].
عكرمة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
مر ذكره.(407/9)
الأسئلة(407/10)
حكم إلزام أهل الذمة بحكم القاضي المسلم
السؤال
هل يُلزم أهل الذمة بالعمل بحكم القاضي؟
الجواب
نعم إذا كانوا تحت ولاية المسلمين فإنهم يلزمون كما يلزم المسلمون، لكنهم قد يأتون من بلادهم، ويتحاكمون ويرجعون فلا يكون عليهم سلطة، أما إذا كانوا تحت ولاية المسلمين فإنهم يلزمون بالحكم كما يلزم المسلم، وإلا فما فائدة الحكم؟ وإلزامهم بحكم الإسلام إذا تقاضوا وتحاكموا إلى القاضي المسلم وحكم بينهم، فالحكم نافذ إذا طلب المقضي له أن ينفذ الحكم.
كذلك إذا كانوا يسكنون في بلاد الإسلام، فإنهم يلزمون بأحكام الإسلام، لكونهم في بلاد مسلمة، وذلك إذا كان هناك مقاضاة ولا يكون لهم قضاة، ولكن إذا اصطلحوا فيما بينهم وحلوا مشاكلهم فيما بينهم دون أن يرجعوا إلينا فلسنا ملزمين بالبحث عنهم ومتابعتهم، حتى المسلمين أنفسهم إذا لم يأتوا إلى القاضي فلا يبحث عنهم ولا يتابعوا.(407/11)
اجتهاد الرأي في القضاء(407/12)
شرح حديث معاذ بن جبل في اجتهاد الرأي في القضاء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب اجتهاد الرأي في القضاء.
حدثنا حفص بن عمر عن شعبة عن أبي عون عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد أن يبعث معاذاً إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله)].
قوله: [باب اجتهاد الرأي في القضاء].
يعني: حيث لا يوجد دليل من كتاب ولا سنة فإنه يجتهد في إلحاق النظير بالنظير، يعني: بالقياس أو بلفظ عام، أو قاعدة عامة من قواعد الشريعة، والمقصود من ذلك أنه يجتهد بالرأي بأن يقيس، أو يعتبره ضمن قاعدة من قواعد الشريعة، أو ضمن عموم من عمومات الكتاب والسنة التي يندرج تحتها ذلك الشيء أو تلك النازلة أو تلك الواقعة التي حصلت فيها الخصومة، وليس المقصود من ذلك أنه يعمل بالرأي المجرد دون أن يكون هناك سعي واجتهاد ووصول إلى الحكم بشيء بني عليه الاجتهاد إما قياس أو غير ذلك.
أورد أبو داود حديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: [(كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد قال: أجتهد رأي ولا آلو) يعني: أجتهد رأيي ولا أقصر في الاجتهاد والبحث عن الحق، وإلحاق النظير بالنظير.
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: (الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم) والحديث فيه ثلاث علل: أولاً: أن فيه إرسالاً؛ لأن أصحاب معاذ هم الذين يحكون القصة، ثانياً: أنهم مبهمون، ثالثاً: أن الحارث بن عمرو الذي يروي عن هؤلاء هو أيضاً مجهول.
ففيه هذه العلل، ولهذا ضعفه الشيخ الألباني، ولكن بعض أهل العلم صححه أو حسنه، ومنهم ابن كثير في أول تفسير سورة الفاتحة، وكذلك الشوكاني حسنه وقال: إن ابن كثير جمع فيه جزءاً وقال: كذلك أيضاً أبو الفضل بن طاهر المقدسي جمع فيه جزءاً.
وقد وجدت آثار عن عدد من الصحابة تدل على ما دل عليه، وهي مطابقة له تماماً، وذلك عن عمر بن الخطاب وعن عبد الله بن مسعود وهما في سنن النسائي في باب الحكم باتفاق أهل العلم؛ لأن فيهما زيادة: (بم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فما قضى به الصالحون) يعني: بما اتفق عليه أهل العلم وهو الإجماع، قال: (فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي).
وكأن الألباني استنكره من ناحية المعنى، يعني: أن الكتاب والسنة شيء واحد، وأن كلاهما وحي، وأن هذا التفصيل فيه نظر.
والمقصود من ذلك أن الإنسان عندما يبحث في الأدلة يبحث في القرآن أولاً ثم يبحث في السنة، وكل منهما من ناحية الحكم والتعويل واحد؛ لأن السنة متعبد بها كما يتعبد بالقرآن من حيث العمل، وعليه أن يصير إلى ما يجد من دليل من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يحصل شيئاً من ذلك، ووجد إجماعاً أو حكاية إجماع واتفاق العلماء على ذلك فإنه يأخذ به، وإن لم يكن شيئاً من هذا ولا هذا فإنه يجتهد رأيه، وذلك بإلحاق النظير بالنظير، وإلحاق الشبيه بالشبيه، أو بإدخاله تحت قاعدة عامة، أو إدراجه تحت لفظ عام، أو ما إلى ذلك من الطرق التي يمكن أن يصار إليها؛ لأن الشريعة مستوعبة لكل شيء، وهذا الاستيعاب ليس بألفاظها؛ لأنه ليس كل قضية لابد أن يوجد فيها نص، ولكن هذا يكون بعموماتها وبقواعدها بقياس الشبيه بالشبيه والنظير بالنظير وهكذا، ولهذا كل نازلة تنزل بالناس ولم يعرف لها مثيل فيما مضى فإنه إذا تؤمل في نصوص الكتاب والسنة وفي قواعد الشريعة وفي عمومات النصوص وفي القياس وما إلى ذلك فإنه يمكن إيجاد الحل لها؛ لأن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان وهي مستوعبة لكل شيء.
وأيضاً ذكر صاحب عون المعبود: أن البيهقي في كتابه السنن لما ذكر هذا الحديث الذي معنا ذكر بعد ذلك أربعة آثار: أثر عمر وأثر ابن مسعود وأثر زيد بن ثابت وأثر ابن عباس.
والحديث الذي أنكره الألباني هو هذا الحديث الذي معنا حديث معاذ، أما الآثار فليس فيها إشكال.
لكن كما هو معلوم أن العلماء عندما يأتون بالأدلة يذكرون أولاً أدلة الكتاب ثم أدلة السنة كما يأتي في كثير من المسائل، يعني: عندما يريد المستدل أن يستدل، يقول: وهذه المسألة دل عليها الكتاب والسنة والإجماع والقياس أو المعقول، أما الكتاب فقول الله عز وجل كذا، وأما السنة فقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا، وأما الإجماع فقد حكى فلان الإجماع، وأما القياس فكذا وكذا، أو المعقول فكذا وكذا.(407/13)
تراجم رجال إسناد حديث معاذ بن جبل في اجتهاد الرأي في القضاء
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[عن شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عون].
هو محمد بن عبيد الله الثقفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن الحارث بن عمرو].
الحارث بن عمرو مجهول، أخرج له أبو داود والترمذي.
[عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل].
مبهمون لا يعرفون، فيكون الحديث مرسلاً.(407/14)
طريق أخرى لحديث معاذ بن جبل في اجتهاد الرأي في القضاء وترجمة رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة قال: حدثني أبو عون عن الحارث بن عمرو عن ناس من أصحاب معاذ عن معاذ بن جبل: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما بعثه إلى اليمن، فذكر معناه)].
وهذا مثل الذي قبله إلا أنه هنا منتهٍ إلى معاذاً، وأن معاذ هو الذي حدث بذلك، وفي الحديث الأول أن أصحاب معاذ يروون عن النبي صلى الله عليه وسلم قصة بعث معاذ إلى اليمن.
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
مر ذكره.
[حدثني أبو عون عن الحارث بن عمرو عن ناس من أصحاب معاذ عن معاذ بن جبل].
معاذ بن جبل رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(407/15)
ما جاء في الصلح(407/16)
شرح حديث (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الصلح.
حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني سليمان بن بلال ح وحدثنا أحمد بن عبد الواحد الدمشقي حدثنا مروان -يعني ابن محمد - حدثنا سليمان بن بلال أو عبد العزيز بن محمد شك الشيخ عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الصلح جائز بين المسلمين)، زاد أحمد: (إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً).
وزاد سليمان بن داود: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلمون على شروطهم)].
أورد أبو داود باباً في الصلح، والصلح يكون في أمور كثيرة، يكون بين الزوجين، ويكون بين المسلمين والكفار، ويكون في الخصومات بين الناس، والذي يأتي في المعاملات هو الذي يتعلق بالخصومات بين الناس.
والصلح: هو أن يرضى الطرفان ويتفقا على إنهاء الخصومة فيما بينهما دون أن يكون هناك قضاء ملزم؛ لأن القضاء إلزام لأحد الطرفين، والحكم لواحد على الآخر، وأما الصلح فهو اتفاق فيما بينهما بحيث يكون الخصمان مطمئنين إلى هذا الذي وافقا عليه، أما إذا كان في المسألة حكم وبت في القضية، فأحد الخصمين يكون مستحقاً والآخر ليس له شيء.
إذاً: الصلح يكون بالتراضي وبالاتفاق فيما بين الطرفين، والحق لا يعدوهما، فلهما أن يتصالحا بدون أن يصل الأمر إلى القاضي، وإذا ذهبا إلى القاضي ورأى الإصلاح بينهما، واتفقا على الإصلاح فلا بأس بذلك، ولكن لو أصر أحدهما على الحكم فإن على القاضي أن يحكم، ولا يلزمهما الصلح إذا لم يتفقا عليه.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة: (الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) فإذا كان الصلح على أمر محرم وعلى أمر غير سائغ ويترتب عليه محظور فلا يجوز، وإنما يجوز في أمور سائغة، وفي شيء لا محظور فيه ولا مانع منه.
قوله: [(المسلمون على شروطهم)].
يعني: إذا كانت تلك الشروط مطابقة للكتاب وللسنة، أما إذا كانت تلك الشروط باطلة ومخالفة للحق فإنه لا عبرة بها ولا قيمة لها.(407/17)
تراجم رجال إسناد حديث (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
سليمان بن داود المهري مر ذكره.
[أخبرنا ابن وهب].
مر ذكره.
[أخبرني سليمان بن بلال].
سليمان بن بلال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا أحمد بن عبد الواحد الدمشقي].
أحمد بن عبد الواحد الدمشقي صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا مروان -يعني ابن محمد -].
مروان بن محمد ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا سليمان بن بلال أو عبد العزيز بن محمد شك الشيخ].
هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[شك الشيخ].
قيل: إن الشيخ المقصود هو أبو داود، والذي قال ذلك من دون أبي داود.
[عن كثير بن زيد].
كثير بن زيد صدوق يخطئ، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن الوليد بن رباح].
الوليد بن رباح صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق.(407/18)
شرح حديث كعب بن مالك في تصالحه مع ابن أبي حدرد على قضاء نصف دينه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني عبد الله بن كعب بن مالك أن كعب بن مالك أخبره: (أنه تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى كشف سجف حجرته، ونادى كعب بن مالك فقال: يا كعب! فقال: لبيك يا رسول الله! فأشار له بيده أن ضع الشطر من دينك، قال كعب: قد فعلت يا رسول الله! قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قم فاقضه)].
أورد أبو داود حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: (أنه كان يتقاضى ديناً على ابن أبي حدرد، وأن كان ذلك في المسجد، وأنه ارتفعت أصواتهما حتى سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج أو ظهر إليهما ورفع السجف أي الستارة عن الباب، ونادى كعب بن مالك وأشار إليه أن ضع النصف من الدين، فقال: قد فعلت يا رسول الله! فقال: قم فأقضه).
وهذا فيه صلح؛ لأنهما اتفقا على أن هذا يسقط شيئاً من الدين الذي كانا يختصمان عليه وهو شيء مؤجل، وأنه يكون هناك حط من الدين ووضيعة منه، ولكن على أن يكون هناك تسديد في الحال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قم فاقضه)؛ لأنه لو لم يقضه لحصل للدائن شيئان: الوضيعة والمطل.
إذاً: كونه أسقط شيئاً من الدين الذي له على خصمه، فهذا يدل على ما ترجم له المصنف من الصلح، ويدل على أنه إذا حصل اتفاق أو صلح على أنه يسقط عنه شيئاً من الدين الذي هو في ذمته فإنه يعطيه الذي اتفقا عليه من بعد الحط وبعد الوضيعة.
وفيه دليل على جواز التقاضي في المسجد، وأن الإنسان إذا كان له حق على إنسان وأعطاه إياه في المسجد أن ذلك لا بأس به، وإنما الذي لا يجوز هو البيع والشراء، وأما كونه بيعاً حاصلاً وشراءً حاصلاً من قبل فلا يضر؛ لأن القضية هي قضية تسديد دين، وذلك لا بأس به لهذا الحديث.(407/19)
تراجم رجال إسناد حديث كعب بن مالك في تصالحه مع ابن أبي حدرد على قضاء نصف دينه
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني عبد الله بن كعب بن مالك].
ابن وهب ويونس وابن شهاب مر ذكرهم، وعبد الله بن كعب بن مالك ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[أن كعب بن مالك].
كعب بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(407/20)
الأسئلة(407/21)
حكم اصطلاح الخصمين بعد رفع القضية للقاضي
السؤال
هل للخصمين التراضي بعد أن رفعت القضية للقاضي؟
الجواب
نعم، هذا حقهما ويستريح القاضي، مثلما قال الشاعر: لو أنصف الناس استراح القاضي وجنح الجميع للتراضي وليس ذلك مثل الشفاعات في الحدود إذا وصلت للقاضي.(407/22)
حكم التقاضي للدين في المسجد
السؤال
تقاضيت ديناً من أحد الإخوة داخل المسجد فقال لي: هذا فيه شبهة قد يفهم العوام أنه بيع، أُخرج بنا خارج المسجد، فما رأيكم في عمله؟
الجواب
التقاضي في المسجد ليس فيه بأس؛ لأن حديث كعب بن مالك هذا يدل عليه، والبيع كما هو معلوم غير التقاضي، يعني: إذا طلب رجل من آخر ديناً فأخرج النقود وأعطاه إياها فهذا ليس من قبيل البيع والشراء.(407/23)
حكم رفع الصوت في المسجد للحاجة
السؤال
في الحديث أنه ارتفعت الأصوات ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهما ذلك، فهل في هذا دليل على أن رفع الصوت للحاجة في المسجد جائز؟
الجواب
نعم يدل على أن رفع الصوت للحاجة سائغ، لكن كونه يترك وتغض الأصوات في المسجد لا شك أن هذا هو الذي ينبغي.(407/24)
حكم طلب المدين من الدائن إسقاط بعض الدين لأجل تسديد الباقي
السؤال
هل يجوز لأي شخص عليه ديون ولا يوجد عنده قدرة على السداد أن يطلب من دائنه أن يسقط له نصف الدين ويسدد له الباقي؟
الجواب
يجوز.(407/25)
حكم اتخاذ المحامي عند المخاصمة لقوة حجته وحكم مهنة المحاماة
السؤال
ما حكم اتخاذ المحامي وهو عادة يكون قوي الحجة ولو في الباطل؟
الجواب
الإنسان الذي يعلم أنه مبطل لا يجوز له أن يخاصم بنفسه ولا بمن ينوب عنه، أما الإنسان إذا كان يرى أنه محق فله أن يخاصم بنفسه أو بمن ينوب عنه، وحتى المحامي إذا عرف أن الإنسان مبطل لا يجوز له أن ينوب عنه.
واتخاذ مهنة المحاماة وكون الإنسان فرغ نفسه للنيابة في الخصومات أو في غيرها ليس فيه بأس، لكن الواجب عليه ألا يدخل في شيء إلا بعد أن يدرسه ويعرف أن الشخص الذي ينوب عنه غير مبطل؛ لأن بعض الأشخاص يكون مبطلاً.(407/26)
الرد على شبهة من استدل بقوله تعالى ((ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله)) على جواز المجيء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم لطلب الاستغفار
السؤال
نرجو منكم توضيح قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء:64] الآية، حيث أن بعض المنتسبين لأهل العلم يحملها على ظاهرها من جواز الإتيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته، حتى إننا رجعنا إلى كثير من تفاسير المتقدمين فلم نجد أحداً منهم تطرق لهذه القضية، وهي أنها خاصة في حياته لا بعد موته، وأن من سأله بعد موته فهو شرك صريح، والعجب أن ابن كثير رحمه الله ذكر قصة العتبي في هذه الآية ولم يتعقبها لا إسناداً ولا متناً، فزادنا حيرة، فنرجو منكم الرد على هذه الشبهة من جميع النواحي، حتى من الناحية اللغوية إذ إن بعضهم قال: إذ هذه شرطية تفيد العموم مثل: إذ دخلت المسجد فاقرأ قرآناً، فهي عامة في أي وقت، فنرجو منكم ذكر من رد على هذه الشبهة من المتقدمين وبارك الله فيكم؟
الجواب
أولاً: الآيات هي في المنافقين، والضمير في قوله: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ)) عائد على المنافقين؛ لأن سياق الآيات في المنافقين، يقول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:60 - 64]، ومعلوم أن هذا إنما هو في حياته صلى الله عليه وسلم، وكونهم يأتون إليه ويتوبون ويطلبون منه أن يستغفر لهم إنما يكون ذلك في حياته عليه الصلاة والسلام، وأما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام فلم ينقل عن أحد من أصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم أنه جاء إليه عند قبره وطلب منه أن يستغفر له، وإنما كانوا يأتون إليه في حياته صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا حصل جدب وقحط يطلبون منه الدعاء أن يغيثهم الله فيغيثهم الله، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحصل الجدب في زمن عمر طلب من العباس أن يدعو وقال: (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون).
فلو كان الأمر جائزاً وأنه لا فرق بين الحياة ولا بين الممات لما تركوا الذهاب إليه ولطلبوا منه كما كانوا يطلبون منه في الحياة، فلما عدلوا عن ذلك وصاروا إلى الطلب من الأحياء، واختار عمر رضي الله عنه أقرب قريب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عمه العباس بن عبد المطلب وقوله: (بعم نبينا) يفيد وجه اختيار العباس وهي عمومته للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ما قال: وإنا نتوسل إليك بـ العباس؛ لأن المقصود هو عمومته للنبي صلى الله عليه وسلم وقرابته منه.
وكذلك أيضاً جاء في صحيح البخاري في كتاب المرضى: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (وا رأساه قال: ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك) يعني: لو مت قبلي دعوت لك واستغفرت لك، فقوله هذا الكلام يبين بأن دعاءه واستغفاره إنما هو في حال حياته صلى الله عليه وسلم، ولو كان ليس هناك فرق بين الحياة والموت لما كان هناك حاجة إلى أن يقول هذا الكلام؛ لأنه سواءً سبقها بالموت أو سبقته بالموت فإنه يستغفر لها، هذا إذا كان الأمر أنه لا فرق بين الحياة والموت لكنه قال: (لو كان ذاك وأنا حي دعوت لك واستغفرت لك)، وهذا جاء في صحيح البخاري في كتاب المرضى: باب قول المريض: وا رأساه، وهو يدل على أن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو في حياته، وبعد وفاته قد عرفنا في الحديث أنه عندما يذاد أناس عن الحوض يقال له: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك).
أما قصة العتبي التي أوردها ابن كثير ولم يتعقبها بشيء لا يعول عليها؛ لأنها قصة منام، والمنامات ليست بعبرة ولا يعول عليها، هذا لو ثبتت فكيف وثبوتها فيه شك وفيه نظر.(407/27)
حكم قول القائل خير يا طير
السؤال
عندنا مثل منتشر بين أوساط الناس وهو قول: (خير يا طير) فما حكم ذلك؟
الجواب
هذا من التطير، وهو التشاؤم، والطيرة هي: أن الطير إذا طار إلى اليمين تفاءلوا، وإذا طار إلى اليسار تشاءموا، فقوله: خير يا طير! هذا فيه شيء من التطير.(407/28)
حكم قولهم: من حسن الطالع أن يحصل كذا وكذا
السؤال
ما حكم قول بعضهم: إن من حسن الطالع أن يحصل كذا وكذا؟
الجواب
إذا كان معناه: حسن الحظ، فلا بأس، وأما إذا كان الطالع له معنى آخر سيئ يراد غير ذلك فلا وجه له.(407/29)
شرح سنن أبي داود [408]
إن من حفظ الشريعة الإسلامية للحقوق بأنواعها أن جعلت لها بينات ودلائل، ومن أوضحها الشهادات، فبالشهادة تصان الأموال والأعراض وما إلى ذلك، ولقد بين الشارع فضل الإتيان بالشهادة قبل أن يسألها من له الحق إذا كان لا يعلم بها، بحيث تكون هذه الشهادة سبباً في إرجاع الحقوق إلى أهلها، وبالمقابل حذر الشارع من إعانة المبطل على باطله، وكذلك حذر من شهادة الزور أشد التحذير، وقرنها في الكتاب والسنة بالشرك، ومن أجل حفظ الحقوق أباح الشرع شهادة الذمي عند عدم وجود غيره في السفر.(408/1)
ما جاء في الشهادات(408/2)
شرح حديث (ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الشهادات.
حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني وأحمد بن السرح قالا: أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر أن أباه أخبره أن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان أخبره أن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري أخبره أن زيد بن خالد الجهني أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته أو يخبر بشهادته قبل أن يُسألها) شك عبد الله بن أبي بكر أيتهما قال.
قال أبو داود: قال مالك: الذي يخبر بشهادته ولا يعلم بها الذي هي له.
قال الهمداني: ويرفعها إلى السلطان، قال ابن السرح: أو يأتي بها الإمام، والإخبار في حديث الهمداني قال ابن السرح: ابن أبي عمرة، ولم يقل: عبد الرحمن].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في الشهادات]، والمقصود من ذلك الشهادات التي يبنى عليها الحكم في القضاء؛ لأنه عند وجود المتخاصمين فإن المدعي يطلب منه البينة، والبينة من أوضحها الشهادات، والأحكام فيما يتعلق بالشهادات جاءت الشريعة فيها على تفصيل: فمنها ما لا يكفي فيها إلا أربعة شهود، وذلك فيما يتعلق بالزنا، ومنها ما يكتفى فيها بشاهدين، ومنها ما يكتفى فيها بشاهد ويمين، ومنها ما يكتفى فيها بشاهد واحد.
وقد ألف ابن القيم رحمه الله فيما يتعلق بذلك كتاباً واسعاً اسمه: (الطرق الحكمية)، وأورد فيه أوجه الحكم التي يحكم بها القاضي، وذكر أصناف الشهود، وما يلزم من شهود في كل شيء، وهو كتاب نفيس وكتاب واسع، ومن أحسن ما كتب فيما يتعلق بطرق الحكم التي يحكم بها القاضي.
ومعلوم أن المدعي عليه البينة، والبينة من أوضحها الشهادة، والمدعى عليه عليه اليمين، فإذا لم يأت المدعي بشهود فإن المدعى عليه إذا حلف تبرأ ساحته ويخلى سبيله.
أورد أبو داود رحمه الله حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها) وذلك فيما إذا كان الشاهد عنده شهادة والذي له الحق لا يعلم بهذا الشاهد ولا يعلم أن عنده شهادة، فهو يأتي بشهادته في هذه المسألة، وهذا هو المقصود من كونه وصف بأنه خير الشهداء، أما إذا كان المشهود له يعلم بها، فإن على الذي عنده شهادة أن ينتظر حتى يأتيه صاحب الحق ويطلب منه الإدلاء بشهادته.
إذاً: الممدوح هو الذي يأتي بالشهادة التي لا يكون صاحب الحق عنده علم بها، حيث أن حقه يضيع لو لم تظهر هذه الشهادة، فيكون هذا الشاهد عنده علم يفصل به في الموضوع، ويثبت به الحق لمن له الحق، وهذا هو الذي مدح وأثني عليه ووصف بأنه خير الشهداء.
قوله: [قال: (ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته أو يخبر بشهادته قبل أن يسألها)].
يعني: هذا فيه شك من الراوي، هل قال: (يأتي بشهادته) أو قال: (يخبر بشهادته).
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (يأتي أقوام فيحلفون ولا يستحلفون ويشهدون ولا يستشهدون)، فهذا ذم؛ لأنه على غير هذه الطريقة التي جاءت في هذا الحديث، يعني: كون المرء عنده شهادة والمشهود له لا يدري فيأتي ليفصل بين هذا وهذا ويظهر الحق لمن له الحق هذا هو الممدوح، وأما أولئك الذين لا يبالون بالشهادة ويتسرعون فيها، فتجد الواحد منهم تسبق شهادته يمينه ويمينه شهادته، وقد يكون أيضاً في نفسه شيء على من يشهد عليه؛ بسبب عداوة أو ما إلى ذلك، فهذا هو المذموم.
[قال أبو داود: قال مالك: الذي يخبر بشهادته ولا يعلم بها الذي هي له].
يعني: هذا تفسير أو توضيح لهذا الممدوح، وهو الذي يخبر بشهادته وليس عند الذي له الشهادة علم بها.
قوله: [قال الهمداني: ويرفعها إلى السلطان].
يعني: يدلي بشهادته عند السلطان -أي: القاضي- ليحكم لصاحب الحق.
قوله: [قال ابن السرح: أو يأتي بها الإمام].
يعني: مثل الأولى إلا أنها اختلفت العبارة.
قوله: [والإخبار في حديث الهمداني].
يعني: هذا الإسناد الذي هو موجود وفيه الإخبار، هو لفظ الهمداني الذي هو أحد مشايخ شيخي أبي داود، وأما الشيخ الثاني فعنده عنعنة.
قوله: [قال ابن السرح: ابن أبي عمرة ولم يقل: عبد الرحمن].
يعني: أن السياق الذي فيه عبد الرحمن بن أبي عمرة هو سياق الهمداني، حيث قال: عبد الرحمن بن أبي عمرة وأما ابن السرح فقد قال: ابن أبي عمرة دون أن يقول: عبد الرحمن.(408/3)
تراجم رجال إسناد حديث (ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها)
قوله: [حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني].
أحمد بن سعيد الهمداني صدوق، أخرج له أبو داود.
[وأحمد بن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أخبرنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني مالك بن أنس].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن أبي بكر].
هو عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن أباه أخبره].
هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان].
عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[أن عبد الرحمن بن أبي عمرة].
عبد الرحمن بن أبي عمرة يقال: ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن خالد الجهني].
زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(408/4)
حكم من يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها(408/5)
شرح حديث (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها.
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا عمارة بن غزية عن يحيى بن راشد قال: جلسنا لـ عبد الله بن عمر فخرج إلينا فجلس فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله، ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع عنه، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: [باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها].
معنى هذا: أن من يخاصم أو ينوب عن أحد في خصومة، فإنه لا يدخل في النيابة إلا وهو يعلم أن ذلك الشخص محق، أما إذا دخل وهو يعلم أن ذلك الشخص مبطل فإنه يكون من المتعاونين على الإثم والعدوان، وفيه هذا الوعيد الشديد الذي جاء في هذا الحديث.
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله) يعني: أن من شفع في ترك إقامة الحد وسعى في ذلك فيكون مضاداً لله؛ لأنه حال بين تلك العقوبة التي أوجبها الله عز وجل، وقد جاء في السنة ما يدل على المنع من الشفاعة في الحدود، وأنها إذا وصلت للسلطان فإنه لا يشفع فيها، وقد جاء في ذلك أحاديث، وهذا الحديث يدل أيضاً على خطورة ذلك، وأن في ذلك مضادة لله سبحانه وتعالى.
قوله: [(ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع عنه)].
وهذا هو محل الشاهد للترجمة، يعني: أنه دخل في خصومة يعلم أن صاحبها مبطل، وسواء كان هو المباشر والخصم أو أنه وكيل عن الخصم، فيكون كل منهما متوعد بهذا الوعيد حتى يترك هذا الباطل الذي دخل فيه.
والمحامي لابد أن يعرف أن هذا المدعي الذي سينيبه على حق، وأنه ليس مبطلاً، فإن عرف أنه مبطل فلا يجوز له أن ينوب عنه؛ لأن هذا من التعاون على الإثم والعدوان، وأيضاً من أكل أموال الناس بالباطل.
قوله: [(ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال)].
يعني: أنه مستحق أن يسكن ردغة الخبال، وردغة الخبال جاء في بعض الأحاديث: (أنها عصارة أهل النار).(408/6)
تراجم رجال إسناد حديث (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عمارة بن غزية].
عمارة بن غزية لا بأس به، وهي بمعنى صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يحيى بن راشد].
يحيى بن راشد ثقة، أخرج له أبو داود.
[جلسنا لـ عبد الله بن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(408/7)
شرح طريق أخرى لحديث ابن عمر وفيه (ومن أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله عز وجل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا علي بن الحسين بن إبراهيم حدثنا عمر بن يونس حدثنا عاصم بن محمد بن زيد العمري حدثني المثنى بن يزيد عن مطر الوراق عن نافع عن ابن عمر الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعناه قال: (ومن أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله عز وجل)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وقال: إنها بمعناه وفيه: (ومن أعان على خصومة بظلم، فقد باء بغضب من الله عز وجل).
وهذا مثل الذي قبله، وفيه وعيد لمن أعان على خصومة بظلم، يعني: أنه ساعد الخصم الظالم، كأن ينوب عنه أو يشهد له شهادة زور، أو غير ذلك من الأشياء التي فيها إعانة للظالم في الخصومة من أجل الوصول إلى شيء لا يستحقه، فإن من فعل ذلك فإنه يبوء بغضب من الله.
والحديث في إسناده من هو متكلم فيه، ولكنه شبيه بالذي قبله.(408/8)
تراجم رجال إسناد طريق أخرى لحديث ابن عمر وفيه (ومن أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله عز وجل)
قوله: [حدثنا علي بن الحسين بن إبراهيم].
علي بن الحسين بن إبراهيم صدوق، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثنا عمر بن يونس].
عمر بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عاصم بن محمد بن زيد العمري].
عاصم بن محمد بن زيد العمري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني المثنى بن يزيد].
المثنى بن يزيد مجهول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن مطر الوراق].
مطر الوراق صدوق كثير الخطأ، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وقد مر ذكره.(408/9)
ما جاء في شهادة الزور(408/10)
شرح حديث (عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في شهادة الزور.
حدثنا يحيى بن موسى البلخي حدثنا محمد بن عبيد حدثني سفيان -يعني العصفري - عن أبيه عن حبيب بن النعمان الأسدي عن خريم بن فاتك قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح، فلما انصرف قام قائماً فقال: عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله، ثلاث مرار، ثم قرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج:30 - 31])].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في شهادة الزور]، والزور هو الكذب، وكون الإنسان يشهد زوراً يعني: شهادة بخبر غير مطابق للواقع؛ لأن الشهادة التي تكون حقاً وصادقة هي التي تطابق الواقع، وأما هذه فهي غير مطابقة للواقع؛ لأنها زور وكذب، ولأن الواقع شيء والشهادة شيء آخر.
أورد أبو داود حديث خريم بن فاتك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله عز وجل ثلاث مرار، ثم قرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]).
والحديث في إسناده من هو متكلم فيه، ولكنه من ناحية كون شهادة الزور ذكرت مع الإشراك بالله فنعم ذكرت مع الإشراك بالله، وكونها قرنت مع هذا الأمر الخطير الذي هو أظلم الظلم وأبطل الباطل وأعظم الذنوب الذي هو الإشراك بالله عز وجل فهذا يدل على خطورة الأمر، وقد جاء في حديث متفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت)، وقد جمع بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كما جمع بينهما الله عز وجل في هذه الآية الكريمة، فهي من حيث اقترانها بالشرك هذا صحيح، ولكن إذا أريد أن شهادة الزور مساوية للشرك بالله فهذا غير صحيح، بل الشرك بالله لا يساويه شيء، وكل ذنب دون الشرك فهو تحت مشيئة الله، وأما الشرك فإنه الذنب الذي لا يغفر، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:116].(408/11)
تراجم رجال إسناد حديث (عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله)
قوله: [حدثنا يحيى بن موسى البلخي].
يحيى بن موسى البلخي ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا محمد بن عبيد].
هو محمد بن عبيد الطنافسي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وإذا جاء محمد بن عبيد غير منسوب وهو من طبقة شيوخ شيوخ أبي داود فالمراد به الطنافسي كما هنا، وإذا جاء محمد بن عبيد في طبقة شيوخ أبي داود فالمراد به واحد من اثنين وهما: محمد بن عبيد بن حساب ومحمد بن عبيد المحاربي؛ لأن هذين الاثنين من شيوخ أبي داود، ويأتي ذكرهما بدون هذا التمييز الذي يميز بينهما: ابن حساب أو المحاربي.
[حدثني سفيان -يعني العصفري -].
سفيان العصفري ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو مقبول أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن حبيب بن النعمان الأسدي].
حبيب بن النعمان الأسدي مقبول، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن خريم بن فاتك].
خريم بن فاتك رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب السنن.
والحديث فيه هذان المقبولان: زياد العصفري وحبيب بن النعمان الأسدي.(408/12)
بيان من ترد شهادته(408/13)
شرح حديث (أن رسول الله رد شهادة الخائن والخائنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من ترد شهادته.
حدثنا حفص بن عمر حدثنا محمد بن راشد حدثنا سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رد شهادة الخائن والخائنة، وذي الغمر على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم).
قال أبو داود: الغمر: الحنة والشحناء، والقانع: الأجير التابع مثل الأجير الخاص].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب من ترد شهادته]، من ترد شهادته هو غير العدل المعروف بفسق أو فجور.
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد شهادة الخائن والخائنة) والمقصود بالخائن هنا الفاسق؛ لأن الفسق ومعصية الله عز وجل وعدم الالتزام بما جاء عن الله وعن رسوله خيانة، وليس المقصود بالخيانة الخيانة في المال فقط، وإنما المقصود ما هو أعم من ذلك، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]، ومعلوم أن الأمانة هي كل ما ائتمن الله الناس عليه من الحقوق التي هي لله عز وجل، أو الحقوق التي للناس.
وكونه نص على الأنثى مع الذكر في قوله: (الخائن والخائنة) زيادة في الإيضاح والبيان، كما في قوله: ((السارق والسارقة)) ((الزانية والزاني)) مع أن الحكم واحد، وأحياناً يأتي ذكر الرجال والنساء تبع لهم، وأحياناً يأتي التنصيص على النساء والرجال، كما يأتي كثيراً في القرآن ذكر النساء والرجال والذكور والإناث من المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات وغير ذلك.
قوله: [(وذي الغمر على أخيه)].
يعني: ذو الحقد والبغضاء على أخيه، والأخوة إما أن تكون أخوة الإسلام وأخوة الدين، أو أخوة النسب، وتوجد عداوة فتكون أعم، ولكن ليس المقصود هنا أخوة النسب بل الأخوة في الإسلام، فيكون سببه عداوة من أجل أمور دنيوية، وقد يحمله الحقد والبغضاء على أن يشهد زوراً أو يكذب ويفجر في شهادته.
قوله: [(ورد شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم)].
يعني: ترد شهادة الشخص الذي هو تابع لأهل البيت، أو الذي هو ملازم لأهل البيت، أو الأجير لأهل البيت؛ لأنه متهم في شهادته، أولاً: من ناحية المحاباة.
ثانياً: من أجل أنه يحصل له منهم إما إحسان أو أجرة.
كذلك من كان مثل هذا الشخص الملازم ومن كان يشبهه فإنه يكون متهماً في ذلك؛ لأنه سيجر إلى نفسه منفعة، وشهادة الوالد لولده، أو شهادة الولد للوالد، أو شهادة الزوجة للزوج كلها من هذا القبيل.
كذلك الأشياء التي لا يشهد فيها إلا القرابات، مثل شهادة الأخ لأخيه، فهذه المسألة كما هو معلوم فيها خلاف بين أهل العلم ليست متفقاً عليها، ولكن الحديث هنا ذكر القانع؛ لأن له علاقة بأهل البيت، وبذلك يكون متهماً.(408/14)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله رد شهادة الخائن والخائنة)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا محمد بن راشد].
محمد بن راشد صدوق يهم، أخرج له أصحاب السنن.
[حدثنا سليمان بن موسى].
سليمان بن موسى صدوق في حديثه بعض لين، أخرج له مسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب].
هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو، صدوق، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو شعيب بن محمد، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وجزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن جده].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما وهو صحابي جليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(408/15)
شرح حديث (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن خلف بن طارق الداري حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى بإسناده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا زان ولا زانية، ولا ذي غمر على أخيه)].
وهذا مثل الذي قبله، إلا أن فيه زيادة الزاني والزانية، والزنا نوع من أنواع الخيانة والعياذ بالله، وهي من أعظم الخيانة وأعظم والفواحش.(408/16)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية)
قوله: [حدثنا محمد بن خلف بن طارق الداري].
محمد بن خلف بن طارق الداري مقبول، أخرج له أبو داود.
[حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي].
زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا سعيد بن عبد العزيز].
هو سعيد بن عبد العزيز الدمشقي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سليمان بن موسى بإسناده].
مر ذكره.(408/17)
الأسئلة(408/18)
حكم قبول شهاة الرجل على من يبغضه بسبب فسقه وفجوره ومعاصيه
السؤال
هل تقبل شهادة ذي الغمر على أخيه إذا كان سبب البغض سبباً شرعياً كالابتداع أو الفسوق؟
الجواب
لا، لا ترد شهادته؛ لأن بغضه في الله يحول بينه وبين أن يشهد شهادة زور، وإنما ترد شهادة الذي يكون بغضه من أجل الدنيا، والحقد عليه من أجل الدنيا، ولهذا شهادة المسلمين على الكفار مع وجود العداوة بينهم وبينهم مقبولة؛ لأن البغض ديني وليس دنيوياً، وغالباً أن الحزازات في الدنيا تكون مع ضعف الدين.(408/19)
حكم قبول شهادة حالق اللحية وشارب الدخان والمستمع للأغاني
السؤال
ذكرتم الخائن والخائنة أنه يعم أمور الدين لا الأمور المالية فقط، فهل تقبل شهادة حليق اللحية وشارب الدخان وسامع الأغاني؟
الجواب
هذا يرجع للقاضي؛ لأنه قد يكون المدعى عليه مثله، فإذا اعترض عليه يقال: أنت مثله، وكما هو معلوم فشهادة الفاسق على الفاسق قد تقبل، وإذا اعترض يقال: أنت مثله فكيف ترد شهادته، أو تعترض على شهادته وأنت من جنسه؟ لكن إذا كان الشخص سليماً وليس فيه هذا العيب، وقدح في شهادته فإن له حق القدح، فكونه يعتبر أو لا يعتبر هذا يرجع إلى القاضي.(408/20)
وجه رد شهادة من يربي الحمام
السؤال
ما يذكر في كتب الفقه أن الذي يربي الحمام يقدح في شهادته هل هذا صحيح؟
الجواب
إذا كان من أجل أنه يؤكل، ومن أجل أنه يبيعه، فهذا ليس فيه بأس، أما إذا كان من أجل اللعب به واللهو به فهذا سفه ولهو.(408/21)
حكم شهادة البدوي على أهل الأمصار(408/22)
شرح حديث (لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب شهادة البدوي على أهل الأمصار.
حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني أخبرنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب ونافع بن يزيد عن ابن الهاد عن محمد بن عمرو بن عطاء عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية)].
أورد أبو داود باب شهادة البدوي على أهل الأمصار.
والبدوي: هو ساكن البادية الذي ينتقل من مكان إلى مكان، وليس ثابتاً ومستقراً في بلد وفي مكان، يعني: هو الذي يتبع العشب والرعي ويتبع الأمطار، فتجده يكون شهراً في بلد وشهراً في بلد آخر مع مواشيه وهكذا، وإنما ردت شهادته؛ لأن الغالب على الأعراب أن فيهم الجفاء والجهل، وعدم الإتيان بالشهادات على وجهها، فمن أجل ذلك جاء ما يدل على عدم قبول الشهادة، لكن إذا كان البدوي عنده معرفة وليس عنده الجهل وعدم البصيرة، وأنه يؤدي الشهادة على وجهها فإنه يكون كغيره من الحاضرة، ولا يقال: إن كل أهل البادية يكونون جهلاء، لكن الغالب عليهم الجهل، والغالب عليهم الجفاء، والغالب عليهم عدم البصيرة وعدم الإتيان بالشهادة على وجهها، ولهذا الله ذكر في القرآن الأعراب وبين شدة ما عندهم من الكفر في حال الكفر، وما عندهم من الجهل، وأنهم يمتازون على غيرهم في ذلك، كما قال الله عز وجل: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} [التوبة:97].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة قال: (لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية) وأصحاب القرية: هم سكان القرى والمدن.(408/23)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية)
قوله: [حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني أخبرنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب].
أحمد بن سعيد الهمداني وابن وهب مر ذكرهما، ويحيى بن أيوب صدوق ربما أخطأ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ونافع بن يزيد].
نافع بن يزيد ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن ابن الهاد].
هو يزيد بن عبد الله بن الهاد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عمرو بن عطاء].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن يسار].
عطاء بن يسار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، وهو أكثر الصحابة حديثاً.(408/24)
ما جاء في الشهادة في الرضاع(408/25)
شرح حديث عقبة بن الحارث في شهادة المرأة في الرضاع
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الشهادة في الرضاع.
حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن ابن أبي مليكة قال: حدثني عقبة بن الحارث وحدثنيه صاحب لي عنه وأنا لحديث صاحبي أحفظ، قال: (تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب فدخلت علينا امرأة سوداء فزعمت أنها أرضعتنا جميعاً، فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له، فأعرض عني، فقلت: يا رسول الله! إنها لكاذبة، قال: وما يدريك وقد قالت ما قالت؟ دعها عنك)].
أورد أبو داود باب الشهادة في الرضاع.
يعني: أنه يكفي في ذلك امرأة واحدة؛ لأن هذا من الأمور التي تحصل من النساء فهن اللاتي يرضعن، فتقبل شهادة الواحدة في ذلك، وفي هذا خلاف بين أهل العلم، منهم من قال: إن الأصل أنه لا يقبل إلا ما يكفي في الشهادة وهو شهادة رجل وامرأتين، ومنهم من قال: إنها تكفي شهادة المرأة الواحدة في الأمور التي لا تعرف إلا من طريق النساء، مثل هذا الذي جاء في حديث عقبة بن الحارث: أنه تزوج امرأة فجاءت امرأة سوداء وقالت: إنها أرضعتهما، أي: أرضعت عقبة بن الحارث وهذه التي تزوجها، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك وقال: (إنها كاذبة، فقال عليه الصلاة والسلام: وما يدريك؟ دعها) أي: اترك هذه الزوجة التي شهدت تلك المرأة بأنها أرضعتكما.
والحديث واضح الدلالة في الاكتفاء بشهادة امرأة واحدة.(408/26)
تراجم رجال إسناد حديث عقبة بن الحارث في شهادة المرأة في الرضاع
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد بن زيد].
هو حماد بن زيد بن درهم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي مليكة].
هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عقبة بن الحارث].
عقبة بن الحارث رضي الله عنه، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
قوله: [وحدثنيه صاحب لي عنه، وأنا لحديث صاحبي أحفظ].
وهذا ذكره في الإسناد الذي بعده، وهو عبيد بن أبي مريم.
وهو مقبول، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.(408/27)
شرح حديث عقبة بن الحارث في شهادة المرأة في الرضاع من طريق أخرى وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني حدثنا الحارث بن عمير البصري ح وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن علية كلاهما عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن عبيد بن أبي مريم عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه، وقد سمعته من عقبة ولكني لحديث عبيد أحفظ، فذكر معناه].
ذكر طريقاً أخرى للحديث.
قوله: [حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني].
أحمد بن أبي شعيب الحراني ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا الحارث بن عمير البصري].
الحارث بن عمير البصري وثقه الجمهور وفي أحاديثه مناكير، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[ح وحدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا إسماعيل بن علية].
هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي المشهور بـ ابن علية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[كلاهما عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن عبيد بن أبي مريم عن عقبة بن الحارث].
وقد مر ذكرهم، وعبيد بن أبي مريم مقبول، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[قال أبو داود: نظر حماد بن زيد إلى الحارث بن عمير فقال: هذا من ثقات أصحاب أيوب].
يعني: هذا مدح له مع أنه زميل له، وكلاهما يروي عن أيوب.(408/28)
حكم شهادة أهل الذمة وفي الوصية في السفر(408/29)
شرح حديث أبي موسى الأشعري في شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب شهادة أهل الذمة وفي الوصية في السفر.
حدثنا زياد بن أيوب حدثنا هشيم أخبرنا زكريا عن الشعبي: (أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقاء هذه، ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة، فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا، وإنها لوصية الرجل وتركته، فأمضى شهادتهما)].
أورد أبو داود باب شهادة أهل الذمة وفي الوصية في السفر.
والمقصود أن المسلمين إنما يستشهدون المسلمين ولا يستشهدون الكفار، ولكن إذا حصل هناك ضرورة، وهي خاصة في هذا الموضع الذي جاء في هذا الحديث، وهو أن يكون المسلم في بلد وحده وليس معه أحد من المسلمين يشهده ويوصيه، وأشرف على الهلاك، واحتاج إلى أن يخبر أحداً من أهل الكتاب بأن هذا ماله، وأن له كذا وكذا، وعليه كذا وكذا، وأنه يؤدي هذا المال إلى أهله، فإن ذلك سائغ للضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، كما أن الإنسان عندما يضطر إلى أكل الميتة يأكل منها بقدر الحاجة، فكذلك هنا إذا احتيج إلى أن يشهد الكفار فيما يتعلق بالوصية؛ لأن هناك ضرورة حيث أشرف على الموت، وماله موجود معه ويريد أن يعطيه أحداً من الكفار حتى يتولى إيصاله إلى أهله، فإن ذلك معتبر، وقد جاء بذلك القرآن والسنة.
أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن الشعبي قال: (أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقاء هذه).
ودقوقاء بلد بين بغداد وإربل.
قوله: [(ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته)].
الأصل أن الذي يشهد على ذلك مسلمون لا كفار، ولكن إذا كان هناك ضرورة مثل هذه الصورة ومثل هذه الحالة فقد جاءت السنة مبينة جواز ذلك.
قوله: [(فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة)].
يعني: هذان الرجلان قدما الكوفة بعدما مات هذا الذي أشهدهما وأعطاهما ماله ووصيته.
قوله: [(فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
يعني: هذه حادثة لا يعلم أنها وقعت إلا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي سيأتي في قصة السهمي وهذه الحادثة وقعت بعد تلك الحادثة، يعني: كونه احتيج إلى شهادة كفار في السفر.
قوله: [(فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا)].
فأحلفهما بالله بعد العصر، يعني: كما أن الشهادة تغلظ في المكان فكذلك تغلظ في الزمان، وهذا مما جاء في أن التغليظ في الشهادة يكون بعد العصر، وقد جاء أيضاً ما يدل على ذلك في غير هذا الحديث.
فهو أحلفهما أنهما ما كتما ولا بدلا ولا غيرا هذا الذي أعطاهما إياه، وأنهما أدياه كما أعطاهما دون تغيير ولا تبديل ولا نقص ولا أخذ شيء منه، وجاء في القرآن أنه إذا حصل ارتياب وحصل شك في صدقهم فإنهم يحلفون، قال عز وجل: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} [المائدة:106] الآية.
وهذا ليس خاصاً بأهل الكتاب، وإنما يدخل معهم كل الكفار؛ لأن هذه ضرورة مثل أكل الميتة.
يعني: إذا ما وجد الميت مسلمين فليس له إلا أن يوصي كافراً سواءً كان ذمياً أو غير ذمي، لكن من ناحية التحليف بالله عز وجل بالنسبة للوثنيين الذين لا يقرون بوجود الله عز وجل فهؤلاء تحليفهم بالله معناه أنه من ناحية الشهادة وكونهم يحصل وصية لهم، هذه ضرورة لابد منها، ومعلوم أن الكفار الوثنيين فيهم من يعترف بوجود الله مثل كفار قريش فهم مقرون ومعترفون بتوحيد الربوبية، ومقرون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، فمثل هؤلاء الذين يعترفون بوجود الله يمكن أن يحلفوا.(408/30)
تراجم رجال إسناد حديث أبي موسى الأشعري في شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر
قوله: [حدثنا زياد بن أيوب].
زياد بن أيوب ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا زكريا].
هو زكريا بن أبي زائدة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الشعبي].
هو عامر بن شراحيل الشعبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[فأتيا أبا موسى الأشعري].
هو عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
يقول الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: إن صح سماع الشعبي لهذا الحديث من أبي موسى فالحديث صحيح.(408/31)
شرح حديث ابن عباس في شهادة أهل الكتاب في السفر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن أبي زائدة عن محمد بن أبي القاسم عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال: (خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدما بتركته فقدوا جام فضة مخوصاً بالذهب، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم وجد الجام بمكة، فقالوا: اشتريناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم، قال: فنزلت فيهم: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ)) [المائدة:106] الآية)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رجلاً من بني سهم كان في سفر ومعه تميم بن أوس الداري وكان نصرانياً قبل أن يسلم، وكذلك عدي بن بداء كان أيضاً نصرانياً فمات وأنهما قدما بتركته، ولكنهما أخذا منها جاماً من فضة مخوصاً بالذهب، يعني: أنه مزركش أو على شكل خوص النخل.
فـ تميم وعدي باعا الجام في مكة واقتسما ثمنه وأتيا بالباقي، ووجد الجام بمكة، فسئل من كان عندهم فقالوا: اشتريناه من تميم الداري ومن عدي بن بداء، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان قد استحلفهما ثم لما تبين أنهما خائنان وأنهما استحقا إثماً، حلف اثنان من قرابة السهمي وأحدهما عمرو بن العاص أن شهادتهما أحق من شهادتهما، يعني: أحق من شهادة تميم وعدي وأن الجام إنما هو لصاحبهما.
وبعد أن تبين أن تميماً وعدياً هما اللذان باعا الجام ونزلت هذه الآية آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} [المائدة:106 - 107] يعني: أنهما خانا، فإنه يحلف اثنان من قرابة صاحب التركة، فالرسول صلى الله عليه وسلم حكم به لقرابته.
قوله: [(خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء)].
يعني: وكانا نصرانيين، أما عدي بن بداء فمات نصرانياًً، وأما تميم الداري فقد أسلم، وهو الذي روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث منها حديث: (الدين النصيحة، قالوا: لمن يارسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) أخرجه مسلم في صحيحه.
قوله: [(فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم)].
ومعلوم أن الإشهاد وأن الوصية تكون لمسلم، والله عز وجل قال: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:106] أي: من المسلمين، {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة:106] يعني: إذا لم يوجد من المسلمين فمن الكفار.
قوله: [(فلما قدما بتركته فقدوا جام فضة مخوصاً بالذهب)].
يعني: أهله فقدوا الجام وكانوا يعرفون أن عنده هذا الجام الذي هو كأس من فضة مخوص، يعني: أنه على شكل خوص النخل.
قوله: [(فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجد الجام بمكة)].
فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك وجد الجام، فكانا كاذبين في شهادتهما وحلفهما.
قوله: [(فقالوا: اشتريناه من تميم وعدي)].
يعني: أن الذين كانوا في مكة أخبروا بأنه دخل عليهما تميم وعدي فباعا منهم هذا الجام الذي كان للسهمي.
قوله: [(فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم فنزلت فيهم: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت) الآية)].(408/32)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في شهادة أهل الكتاب في السفر
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا يحيى بن آدم].
هو يحيى بن آدم الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن أبي زائدة].
هو يحيى بن أبي زائدة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن أبي القاسم].
محمد بن أبي القاسم ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي.
[عن عبد الملك بن سعيد بن جبير].
عبد الملك بن سعيد بن جبير لا بأس به، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي.
[عن أبيه].
هو سعيد بن جبير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس وقد مر ذكره.(408/33)
الأسئلة(408/34)
حكم الصلاة على من مات وعليه دين وقد أوصى بتسديده
السؤال
شخص يريد الحج وعليه دين يستطيع الوفاء به بعد الحج، ومع ذلك فقد أوصى ورثته بسداده إن مات، فإن مات قبل رجوعه من الحج هل يصلى عليه أم لا بحكم أنه مدين؟
الجواب
يصلى عليه.(408/35)
حكم الوصية للكتابي المأمون مع وجود المسلم الفاسق غير المأمون
السؤال
إذا لم يجد الرجل المسلم في بلاد الكفار إلا مسلماً لكنه غير مأمون مطلقاً ووجد كتابياً مأموناً، فمن يوصي ومن يعطي تركته المسلم أم الكتابي؟
الجواب
المسلم أولى من الكتابي، كما قال الله: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا} [المائدة:95] ومعلوم أن المسلم أولى من الكافر حتى ولو كان المسلم فاسقاً.(408/36)
حكم إشهاد المسلم للكفار في بلاد الكفار مع وجود المسلمين وعدمهم
السؤال
إذا كان الرجل في بلد الكفار وله حق يحتاج أن يشهد عليه في التوثيق، فهل له أن يشهد الكفار؟
الجواب
الشهادة تكون للمسلمين، إذا كان هناك مسلمون فلا يجوز له أن يشهد الكفار.(408/37)
حكم شهادة البدوي على مثله
السؤال
إذا كان البدوي لا يشهد على صاحب القرية فهل تقبل شهادة البدوي على مثله؟
الجواب
نعم، تصح شهادة البدوي على البدوي.(408/38)
حكم صحة عقد النكاح بشهادة أصحاب المعاصي كحالقي اللحى وغيرهم
السؤال
كلف أحدنا بعقد زواج ولم يحضر المجلس إلا حالق اللحية ومن ظاهرهم رقة الدين، فهل تجوز شهادتهم على عقد النكاح؟
الجواب
يأتون بغيرهم من المأمونين الثقات العدول، لكن لو وقع فإنه يصح، ولكن الكلام عند الاختيار، فنقول: يختار أناساً فيهم سلامة، ولا يقال: إن العقد باطل.(408/39)
حكم الولد من نكاح الشبهة
السؤال
من تزوج امرأة وأنجب منها، ثم علم أنها أخته من الرضاعة، فما حال الولد؟
الجواب
هذا نكاح شبهة، والولد ولده.(408/40)
شرح سنن أبي داود [409]
لا يجوز للحاكم أن يقضي بالشاهد الواحد وإن علم صدقه، وحديث خزيمة خاص به، وإنما يقضي الحاكم باليمين والشاهد؛ لأن جانب المدعي أقوى، ولا تحل اليمين على المدعى عليه إلا إذا عدم المدعي البينة.(409/1)
حكم الحاكم بالشاهد الواحد إذا علم صدقه(409/2)
شرح حديث (أن النبي ابتاع فرساً من أعرابي فاستتبعه النبي ليقضيه ثمن فرسه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به.
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس أن الحكم بن نافع حدثهم أخبرنا شعيب عن الزهري عن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ابتاع فرساً من أعرابي، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابتاعه، فنادى الأعرابي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن كنت مبتاعاً هذا الفرس وإلا بعته، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين سمع نداء الأعرابي فقال: أوليس قد ابتعته منك؟ فقال الأعرابي: لا، والله ما بعتكه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بلى، قد ابتعته منك، فطفق الأعرابي يقول: هلم شهيداً، فقال خزيمة بن ثابت رضي الله عنه: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: بم تشهد؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله! فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين)].
قول المصنف: [باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به] هذه الترجمة ليست على إطلاقها؛ لأن هذا الشاهد الذي جعل الرسول صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين هي من خصائص ذلك الصحابي الذي هو خزيمة بن ثابت رضي الله عنه؛ لأنه بادر إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم والشهادة له؛ لأنه يخبر بالوحي ويخبر عن الله، وهو مصدق في كل ما يقول؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقاً ولا يتكلم إلا بصدق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فهي ليست على إطلاقها في غير هذا الموضع، ولكن يمكن أن يقال: يقبل الشاهد الواحد مع اليمين، والحكم بالشاهد واليمين جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبالنسبة لـ خزيمة الذي جاء ذكره في الحديث أن شهادته بشهادة رجلين فهذا من خصائصه ولا يتعداه إلى غيره، وأما بالنسبة لغيره فإن الشاهد الواحد يكون معه اليمين في جانب المدعي؛ لأنه وجد بينة ولكنها غير كافية، تحتاج إلى ضميمة تضم إليها وهي اليمين من المدعي.
وعلى هذا فالترجمة التي أوردها المصنف ليست واضحة؛ لأنها تتعلق بشيء من خصائص ذلك الشاهد الذي حكم النبي صلى الله عليه وسلم بشهادته؛ لصدقه ولكونه شهد للنبي عليه الصلاة والسلام بأنه صادق في كل ما يقول، فمن أجل ذلك بادر إلى هذه الشهادة وسبق غيره إليها، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين.
وعلى هذا فالترجمة ليست دقيقة في الحقيقة، من جهة أن الدليل خاص، ولا يشمل هذا الشمول الذي اشتملت عليه الترجمة، ولكن كونه يضم إليه اليمين، فهذا ليس فيه إشكال، فيحكم بشاهد واحد مع يمين المدعي كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الوضوء، لما جاء إلى حديث فيه شيء يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، أضاف الحكم إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال في الترجمة: باب صب النبي صلى الله عليه وسلم فضل وضوئه على المغمى، ثم ذكر الحديث الذي فيه أنه صب فضل وضوئه على مغمى عليه فأفاق، ولم يقل: باب صب الزائر على المريض؛ لأن هذا من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن كل ما لامس بدنه صلى الله عليه وسلم يكون فيه بركه، ويكون له ميزة على غيره، فـ البخاري رحمه الله أتى بهذه الترجمة الخاصة التي تدل على الخصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأت بترجمة عامة أوسع مما جاء في الحديث، حيث قال: باب صب النبي صلى الله عليه وسلم فضل وضوئه على المغمى عليه.
أورد أبو داود رحمه الله هذا الحديث عن أخي خزيمة الذي هو عم عمارة بن خزيمة بن ثابت وفيه: [(أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ابتاع فرساً من أعرابي فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه)].
يعني اشترى فرساً من أعرابي، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتبعه كي يعطيه قيمة الفرس، والرسول صلى الله عليه وسلم أسرع وتقدم، والأعرابي كان يمشي ببطء، فصار هناك فجوة كبيرة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، والناس لقوا هذا الأعرابي الذي معه الفرس، فصاروا يساومونه ولا يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اشتراه، وكأنه وجد زيادة، أو أكثر مما كان باعه على النبي صلى الله عليه وسلم فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: [(إن كنت مبتاعاً هذا الفرس وإلا بعته)] فالنبي صلى الله عليه وسلم التفت إليه فقال: [(أو ليس قد ابتعته منك؟! فقال الأعرابي: لا، والله ما بعتكه)] يعني: حلف الأعرابي كاذباً، وهذا الذي حصل من هذا الأعرابي من جفاء الأعراب وجهلهم، وقد سبق أن مر في الحديث قريباً أنه لا تقبل شهادة البدوي على الحضري؛ لأنه يغلب عليهم الجهل، وعدم الإتيان بالأمور على حقيقتها، وهذا يوضح الذي تقدم؛ لأنه قد باع الفرس من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك أنكر وحلف على إنكاره بأنه لم يبعه، ثم قال: [(هلم شهيداً)] يعني: يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر شهوداً على أنه باعه، فقال خزيمة بن ثابت رضي الله عنه: [(أنا أشهد أنك بايعته، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: بم تشهد؟)] يعني: كيف تشهد وأنت ما حضرت؟ فقال: [(بتصديقك يا رسول الله)] يعني: أشهد على صدقك لأنك تأتينا بخبر السماء وبالوحي، والناس يصدقونه في كل ما يقول فكيف لا يصدقونه مع أعرابي؟ فهم يصدقونه في كل ما يقول صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [(فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين)] هذه من خصائصه رضي الله تعالى عنه وأرضاه.(409/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي ابتاع فرساً من أعرابي فاستتبعه النبي ليقضيه ثمن فرسه)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[أن الحكم بن نافع].
هو الحكم بن نافع أبو اليمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا شعيب].
هو شعيب بن أبي حمزة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمارة بن خزيمة].
هو عمارة بن خزيمة بن ثابت وهو ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[عن عمه].
قيل: اسمه عمارة قاله ابن مندة.
وفي نسخة أبي الأشبال قال: قيل: اسمه عمارة بن ثابت صحابي، ورمز له بدال وسين.(409/4)
الأسئلة(409/5)
حكم قضاء القاضي بعلمه
السؤال
إذا علم القاضي صدق أحد المتخاصمين، فهل له أن يقضي بناءً على علمه؟
الجواب
لا، لا يحكم بكونه يعرف صدق هذا وإنما يحكم للمدعي بالبينة، والمدعى عليه عليه اليمين، وإذا وجد بينة غير كافية كالشاهد الواحد، فإنه يضم إليه يمين المدعي، وهذه القصة التي معنا يمكن أن تكون معتبرة مع يمين المدعي.(409/6)
حكم القضاء باليمين والشاهد(409/7)
شرح حديث (أن رسول الله قضى بيمين وشاهد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب القضاء باليمين والشاهد.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي أن زيد بن الحباب حدثهم قال: حدثنا سيف المكي قال عثمان: سيف بن سليمان عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بيمين وشاهد)].
قوله: [باب القضاء باليمين والشاهد] يعني: يمين المدعي مع شاهد يكون معه يشهد على دعواه، فإنه في هذه الحالة تضم إليه اليمين وتكون بمثابة الشاهدين، ولا تحول إلى المدعى عليه؛ لأنه قد وجد شيئاً يرجح جانب المدعي، وهو الشاهد الواحد، فلم يهدر هذا الشاهد ولكن ضم إليه شيء يقويه وهو يمين المدعي، وأما إذا لم يوجد مع المدعي بينة، فإن اليمين تكون على المدعى عليه وتبرأ ساحته باليمين، وعلى هذا فالبينة إذا حصل شاهدان فيما يتعلق بالحقوق حكم بها، وإن لم يوجد إلا شاهد واحد فتلك بينة لا تهدر، ولكن يضم إليها شيء يقويها وهو اليمين على المدعي، وبهذا جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد)] أي: يمين المدعي مع الشاهد الذي يكون معه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أضاف إلى الشاهد يمين المدعي وقضى له على المدعى عليه، ولا يقال: إن هذا يعارض ما جاء أن اليمين على المدعى عليه؛ لأن هذا إنما إذا لم يكن مع المدعي بينة تحتاج إلى ما يقويها، أما إذا وجد مع المدعي شيء من البينة التي هي شاهد واحد، فلا تهدر هذه البينة وإنما يضم إليها بينة أخرى تقويها وهي يمين المدعي، فلا يكون الحكم بالشاهد واليمين معارضاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه) وذلك لأن اليمين على المدعى عليه إذا لم يكن هناك بينة مع المدعي، أما وقد وجد منه بينة ولكنها غير كافية وتحتاج إلى ما يقويها وهو اليمين فيتوجه اليمين إلى المدعي لا إلى المدعى عليه، وعلى هذا فلا تنافي بين الحديثين، يعني: لا تنافي بين ما جاء بالحكم بالشاهد واليمين، وما جاء بأن اليمين تكون على المدعى عليه.
والأصل أنه لا نطلب اليمين من المدعي عليه إلا إذا عدمت البينة من المدعي، ولا يجوز للقاضي استحلاف المدعى عليه إلا إذا عدم المدعي البينة.(409/8)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله قضى بيمين وشاهد)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[والحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[أن زيد بن الحباب].
زيد بن الحباب وهو صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا سيف المكي قال عثمان: سيف بن سليمان].
الشيخ الأول وهو الحسن بن علي قال: سيف المكي فقط، ولم يذكر اسم أبيه، وأما الشيخ الثاني الذي هو عثمان بن أبي شيبة فإنه قال: سيف بن سليمان، يعني: ذكر اسم أبيه، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن قيس بن سعد].
قيس بن سعد، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عمرو بن دينار].
هو عمرو بن دينار المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس] هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(409/9)
طريق ثانية لحديث ابن عباس وفيه (في الحقوق) وترجمة رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى وسلمة بن شبيب قالا: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار بإسناده ومعناه، قال سلمة في حديثه: قال عمرو: (في الحقوق)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وقال: بمعناه، يعني: بمعنى الحديث الذي تقدم.
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى].
محمد بن يحيى مر ذكره.
وسلمة بن شبيب.
سلمة بن شبيب ثقة، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا محمد بن مسلم].
هو محمد بن مسلم الطائفي وهو صدوق يخطئ إذا روى من حفظه، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن دينار بإسناده ومعناه].
عمرو بن دينار مر ذكره.
[قال سلمة في حديثه: قال عمرو: (في الحقوق)].
يعني: أن مثل هذه الشهادة التي مع اليمين إنما تكون في الحقوق ولا تكون في الحدود.(409/10)
طريق ثالثة لحديث اليمين مع الشاهد عن أبي هريرة وترجمة رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن أبي بكر أبو مصعب الزهري حدثنا الدراوردي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى باليمين مع الشاهد)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله وهو مثل حديث ابن عباس الذي تقدم: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد)] يعني: أن الشاهد الذي هو بعض البينة يضم إليه اليمين.
قوله: [حدثنا أحمد بن أبي بكر أبو مصعب الزهري].
أحمد بن أبي بكر أبو مصعب الزهري هو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الدراوردي].
هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي صدوق، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن].
ربيعة بن أبي عبد الرحمن ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن سهيل بن أبي صالح].
سهيل بن أبي صالح، وهو صدوق، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والبخاري إنما أخرج له مقروناًَ، كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من طريقه وهو حديث: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) أورده في ترجمته باب، حيث قال: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) ولم يورده في الأصل؛ لأنه من رواية سهيل بن أبي صالح وهو ليس على شرطه، وإنما يروي عنه مقروناً وتعليقاً.
[عن أبيه].
هو أبو صالح السمان اسمه ذكوان ولقبه السمان ويقال: الزيات؛ لأنه كان يجلب السمن والزيت ويبيعه، وهو مشهور بكنيته، أبو صالح، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(409/11)
طريق رابعة لحديث اليمين مع الشاهد وترجمة رجال الإسناد
[قال أبو داود: وزادني الربيع بن سليمان المؤذن في هذا الحديث، قال: أخبرني الشافعي عن عبد العزيز، قال: فذكرت ذلك لـ سهيل، فقال: أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة أني حدثته إياه ولا أحفظه، قال عبد العزيز: وقد كان أصابت سهيلاً علة أذهبت بعض عقله، ونسي بعض حديثه، فكان سهيل بعد يحدثه عن ربيعة عنه عن أبيه].
أورد أبو داود طريقاً أخرى وفيها كون ربيعة بن أبي عبد الرحمن رواه عن سهيل، وأن سهيلاً نسي بعد ذلك، ولكنه عالم بحفظ تلميذه ربيعة، فكان يحدث به عن ربيعة عنه عن أبيه.
وهذا من النوع الذي يسمى في علم المصطلح (من حدث ونسي) ويقول علماء المصطلح: إن فيه تفصيلاً، فإذا كان الذي نسي أنكر هذا وقال: ما حدثت بهذا قط، أو قال: هذا كذب علي؛ فلا تقبل روايته.
وأما إذا قال: لا أذكر، أو قال: إنه ثقة وأنا قد نسيت، فإنه في هذه الحالة، تعتبر روايته وتقبل، وكان بعض الرواة يقول: حدثني فلان عني أني حدثته عن أبي بكذا.
قوله: [قال أبو داود وزادني الربيع بن سليمان المؤذن.
الربيع بن سليمان المؤذن هو المرادي، وهو ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب السنن.
[أخبرني الشافعي].
هو محمد بن إدريس الشافعي، الإمام المحدث الفقيه، وهو أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن عبد العزيز].
هو الدراوردي وقد مر ذكره.
[قال: فذكرت ذلك لـ سهيل فقال: أخبرني ربيعة].
سهيل بن أبي صالح وربيعة بن أبي عبد الرحمن مر ذكرهما.(409/12)
طريق خامسة لحديث اليمين مع الشاهد مع ترجمة رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن داود الإسكندراني حدثنا زياد -يعني ابن يونس - حدثني سليمان بن بلال عن ربيعة بإسناد أبي مصعب ومعناه، قال سليمان: فلقيت سهيلاً فسألته عن هذا الحديث، فقال: ما أعرفه، فقلت له: إن ربيعة أخبرني به عنك، قال: فإن كان ربيعة أخبرك عني، فحدث به عن ربيعة عني].
أورد أبو داود إسناداً من طريق أخرى، وفيه أيضاً نسيان سهيل وتصديقه ل ربيعة، وتجويزه الرواية عن ربيعة عنه.
قوله: [حدثنا محمد بن داود الإسكندراني].
محمد بن داود الإسكندراني ثقة، وحديثه أخرجه أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا زياد يعني ابن يونس].
زياد بن يونس ثقة، وحديثه أخرجه أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة.
[حدثني سليمان بن بلال].
سليمان بن بلال ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ربيعة بإسناد أبي مصعب ومعناه].
ربيعة مر ذكره.(409/13)
شرح حديث (بعث نبي الله جيشاً إلى بني العنبر فأخذوهم بركبة من ناحية الطائف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا عمار بن شعيث بن عبد الله بن الزبيب العنبري حدثني أبي سمعت جدي الزبيب رضي الله عنه يقول: (بعث نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم جيشاً إلى بني العنبر، فأخذوهم بركبة من ناحية الطائف، فاستاقوهم إلى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، فركبت فسبقتهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: السلام عليك يانبي الله ورحمة الله وبركاته، أتانا جندك فأخذونا، وقد كنا أسلمنا وخضرمنا آذان النعم، فلما قدم بلعنبر قال لي نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل لكم بينة على أنكم أسلمتم قبل أن تؤخذوا في هذه الأيام؟ قلت: نعم، قال: من بينتك؟ قلت: سمرة، رجل من بني العنبر، ورجل آخر سماه له، فشهد الرجل، وأبى سمرة أن يشهد، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: قد أبى أن يشهد لك فتحلف مع شاهدك الآخر؟ قلت: نعم، فاستحلفني فحلفت بالله لقد أسلمنا يوم كذا وكذا، وخضرمنا آذان النعم، فقال: نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: اذهبوا فقاسموهم أنصاف الأموال، ولا تمسوا ذراريهم، لولا أن الله لا يحب ضلالة العمل ما رزيناكم عقالاً، قال الزبيب: فدعتني أمي، فقالت: هذا الرجل أخذ زربيتي، فانصرفت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعني فأخبرته، فقال لي: احبسه، فأخذت بتلبيبه، وقمت معه مكاننا، ثم نظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائمين فقال: ما تريد بأسيرك؟ فأرسلته من يدي، فقام نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال للرجل: رد على هذا زربية أمه التي أخذت منها، فقال: يا نبي الله إنها خرجت من يدي، قال: فاختلع نبي الله صلى الله عليه وسلم سيف الرجل فأعطانيه، وقال للرجل: اذهب فزده آصعاً من طعام، قال: فزادني آصعاً من شعير)].
أورد أبو داود حديث الزبيب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه القضاء بالشاهد واليمين، أي أنه لما قال: [(من يشهد لك أنكم أسلمتم قبل أن تؤخذوا، فقال: سمرة، ورجل آخر قد سماه، فـ سمرة لم يشهد)] يعني: لم يشأ أن يشهد، أما الآخر فقد شهد، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: [(فتحلف مع شاهدك الآخر فاستحلفني فحلفت بالله لقد أسلمنا في يوم كذا وكذا)] يعني: أننا أسلمنا قبل أن نؤخذ، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأن يقاسموا المال، وألا تسبى الذراري، وقال: [(لولا أن الله لا يحب ضلالة العمل ما رزيناكم عقالاً)] يعني: هذا النصف أخذوه، حتى يكون هؤلاء الذين خرجوا قد حصلوا على شيء من المغنم، ولكن الحديث ضعيف، ليس بثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيه شخصين مقبولين، ولا يقبل حديث من يكون كذلك إلا إذا وجد ما يؤيده، وفيما يتعلق بالنسبة للشاهد واليمين، أو الحكم بالشاهد واليمين، فإن حديثي ابن عباس وأبي هريرة المتقدمين يدلان على جواز العمل باليمين مع الشاهد، وأما ما عدا ذلك مما لم يأت إلا في هذا الحديث؛ فإنه لا يكون ثابتاً بمجرد هذا الإسناد.
قوله: [بعث نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم جيشاً إلى بني العنبر، فأخذوهم بركبة من ناحية الطائف].
ركبة مكان قريب من الطائف.
قوله: [(فاستاقوهم إلى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، فركبت فسبقتهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: السلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته، أتانا جندك فأخذونا، وقد كنا أسلمنا وخضرمنا آذان النعم)] يعني: أنهم كانوا يقطعون شيئاً منها لتكون علامة على إسلامهم.
قوله: [(فلما قدم بلعنبر قال لي نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل لكم بينة على أنكم أسلمتم قبل أن تؤخذوا في هذه الأيام؟ قلت: نعم، قال: من بينتك؟ قلت: سمرة رجل من بني العنبر، ورجل آخر سماه له)] يعني سماه للنبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(فشهد الرجل، وأبى سمرة أن يشهد)].
يعني: كون سمرة أبى أن يشهد لعله لم يكن عنده العلم بهذا الذي استشهد عليه.
قوله: [(فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: قد أبى أن يشهد لك فتحلف مع شاهدك الآخر؟ قلت: نعم)].
وهذا هو محل الشاهد للترجمة، يعني: فيه القضاء بالشاهد واليمين، وهذا يشهد له ما تقدم من الحديثين الذي في الصحيحين، وهما: حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة.
[(فاستحلفني؛ فحلفت بالله لقد أسلمنا يوم كذا وكذا، وخضرمنا آذان النعم، فقال: نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: اذهبوا فقاسموهم أنصاف الأموال ولا تمسوا ذراريهم، لولا أن الله لا يحب ضلالة العمل ما رزيناكم عقالاً)].
يعني: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه الذين ذهبوا إليهم واستاقوا ما معهم: اذهبوا وقاسموهم وخذوا النصف.
قوله: [(لولا أن الله لا يحب ضلالة العمل)] يعني: عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والضلالة هي الضياع، يقال: ضل السمن في الطعام إذا ذهب وتلاشى فيه، ومنه قول الله عز وجل: {َقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة:10] يعني: إذا ذهبت أجسامنا واختلطت بالتراب وضاعت في التراب، فهذا المقصود بضلالة العمل.
قوله: [(ما رزيناكم)] يعني: ما نقصناكم.
قوله: [(عقالاً)] الذي هو عقال البعير.
قوله: [(قال الزبيب: فدعتني أمي فقالت: هذا الرجل أخذ زربيتي)].
زربية هي نوع من المتاع والفراش، كما جاء في القرآن: {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية:16].
قوله: [(فانصرفت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعني فأخبرته، فقال لي: احبسه، فأخذت بتلابيبه)].
يعني: احبس الشخص الذي تدعي عليه، فأمسك بتلابيبه يعني: بثوبه من جهة رقبته.
قوله: [(وقمت معه مكاننا، ثم نظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائمين فقال: ما تريد بأسيرك؟ فأرسلته من يدي، فقام نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال للرجل: رد على هذا زربية أمه التي أخذت منها، فقال: يانبي الله! إنها خرجت من يدي، قال: فاختلع نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم سيف الرجل، فأعطانيه، وقال للرجل: اذهب فزده آصعاً من طعام، قال: فزادني آصعاً من شعير)].
يعني: أنه لما لم يجد الزربية أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم سيف الرجل فأعطاه لـ زبيب، وكأن السيف كان أقل من الزربية، فطلب من الرجل أن يعوضه بشيء من الطعام، فزاده على السيف آصعاً من شعير؛ ليكون ذلك السيف والآصع مقابل الزربية.
وهذا الحديث -ما عدا الشاهد واليمين- ما جاء إلا من هذا الطريق، وهذا الحديث غير ثابت لوجود من هو متكلم فيه.(409/14)
تراجم رجال إسناد حديث (بعث نبي الله جيشاً إلى بني العنبر فأخذوهم بركبة من ناحية الطائف)
قوله: [حدثنا أحمد بن عبدة].
هو أحمد بن عبدة الضبي وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عمار بن شعيث بن عبد الله بن الزبيب العنبري].
عمار بن شعيث بن عبد الله بن الزبيب العنبري وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
وشعيث هنا صحفت إلى شعيب، والسبب في هذا أن شعيثاً غير مشهور، وشعيب مشهور، ويقولون للشيء المشهور: الجادة، والشيء غير المشهور: على خلاف الجادة، ولهذا يحصل التصحيف في الشيء الغير المشهور فيؤتى به على اللفظ المشهور؛ لأن لفظ شعيب مشهور وشعيث غير مشهور، وقد سبق أن مر بنا رجل اسمه أبو أناس وأبو أناس صحفت إلى أبي إياس؛ لأن إياساً هي الجادة، وأناساً هذا على خلاف الجادة، فالشيء الذي هو غير مألوف وغير مشهور يحصل فيه التصحيف إلى ما هو مشهور، ومثل: نابت وثابت، يعني: ثابت مشهور وهو الجادة، ونابت غير مشهور، وهذا مر في ترجمة واحد من الرواة في التقريب اسمه: حرمي بن عمارة بن أبي حفصة نابت، بنون وموحدة ثم مثناه، وقيل: كالجادة يعني: ثابت؛ لأن لفظ ثابت هو الجادة، يعني: الشيء الكثير، ونابت قليل جداً أو نادر، ولهذا يذكر ابن حجر في تبصير المنتبه بتحرير المشتبه، عندما يذكر الكثير يقول: كذا الجادة، ثم يذكر شيئاً على خلاف الجادة مثل: أحمد هو الجادة، وهناك شخص يقال له: أجمد بالجيم وهذا نادر، وهو على خلاف الجادة، فيعبرون عن الشيء المشهور بالجادة، وبغيره على خلاف الجادة، والتصحيف يحصل بسبب ذلك، بإخراجه من غير الجادة إلى الجادة، مثل ما هو هنا صحف من شعيث إلى شعيب، ومثل ما مر بنا في أبي أناس صحف إلى أبي إياس.
[حدثني أبي].
وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[قال: سمعت جدي الزبيب] الزبيب رضي الله عنه صحابي، أخرج له أبو داود.(409/15)
الأسئلة(409/16)
حكم تصحيح الحديث لكون الراوي قد حفظه مع طوله
السؤال
ذكر الحديث بهذه التفاصيل، ألا يدل على أن الراوي قد حفظه؟
الجواب
قد يكون الحديث طويلاً ومحفوظاً والذي أتى به قد حفظه، ولكن الإسناد لا يعول عليه، وإنما يحتاج إلى ما يؤيده، فالذي وجد ما يؤيده وهو الشاهد واليمين، فهذا يعتبر، والذي بخلافه لم يأت إلا من هذا الطريق، فلا يعتبر ثابتاً.(409/17)
وجه الشبه بين قصة الرجلين اللذين ادعيا بعيراً عند النبي وقصة المرأتين اللتين ادعيتا الولد عند سليمان
السؤال
أليست قصة الرجلين اللذين ادعيا بعيراً شبيهة بما حصل لسليمان عليه الصلاة والسلام مع المرأتين اللتين ادعتا الولد، فقال: ائتوني بسكين؟
الجواب
هي شبيهة بها، لكن سليمان عليه الصلاة والسلام أتى بشيء استنتج منه الحكم، وهو أنه عندما رأى المرأتين تتنازعانه وتتجاذبانه ويدهما عليه وكل واحدة تدعيه، قال عليه أفضل الصلاة والسلام: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فلما قال هذا الكلام قالت الكبرى التي ليس ولدها: شقه، وقالت الصغرى التي هو ولدها: هو ولدها، فعرف أن أمه هي الصغرى التي أرادت أن يبقى حياً ولو كان مع غيرها، وعرف أن الكبرى التي رضيت بشقه كاذبة؛ لأنه ليس في قلبها رحمة، ففهم منها أنها ليست أمه، وهذا من الفراسة، ومن الشيء الذي يستعمل لمعرفة الحق، ولهذا ترجم له بعض الأئمة بقوله: (باب قول الحاكم أفعل كذا وهو لا يريد أن يفعل) أي: وإنما أراد أن يستنتج الحكم.(409/18)
تحديد ليلة الإسراء والمعراج وحكم إحيائها بالعبادة
السؤال
هل الإسراء والمعراج كان في ليلة سبع وعشرين؟ وما حكم إحياء تلك الليلة؟
الجواب
الإسراء والمعراج ليس له ليلة معينة معروفة؛ لأنه لم يثبت شيء يدل على أنها ليلة سبع وعشرين، أو أنها غير ليلة سبع وعشرين، ولو ثبت أنها ليلة سبع وعشرين، فإنه مع ذلك لا يجوز أن تخص بشيء لم تأت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحق إنما هو باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تميز ليلة من الليالي إلا إذا جاء فيها فضيلة وتمييز عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأعمال التي يتقرب فيها إلى الله عز وجل لابد أن تكون مشتملة على أمرين: أن تكون خالصة لوجه الله، وأن تكون مطابقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد من الإخلاص ولابد من المتابعة، لا بد من تجريد الإخلاص لله وحده، ولا بد من تجريد المتابعة للرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فإذا توافر الشرطان كان العمل مقبولاً ونافعاً، وإذا اختل أحدهما فإنه لا يقبل بل يكون مردوداً.
فإذا فقد الإخلاص وإن كان العمل مبنياً على سنة ومطابقاً للسنة، فإنه يكون مردوداً؛ لقول الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، وفي الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، وإن كان العمل خالصاً لله، ولكنه ليس على السنة فإنه يكون مردوداً، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق علي صحته عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وفي لفظ لـ مسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
وتجريد الإخلاص لله وحده هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا فلا تخص ليلة من الليالي بعمل لم تأت به السنة؛ لأنه لو كان ذلك العمل خيراً لسبق إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما لم يحصل ذلك منهم، دل على أنه ليس بحق، وأن الحق إنما هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
إذاً: من البدع تخصيص ليلة معينة بأنها ليلة الإسراء والمعراج، وتخصيصها بعبادة، وتخصيصها بعمل، ولو كان ثابتاً أنها ليلة سبع وعشرين ثم خصصت بعمل، فإن ذلك لا يجوز، فكيف ولم يثبت أنها ليلة سبع وعشرين! الحاصل أن الأعمال لابد أن تتبع فيها السنن، ولابد أن تكون مطابقة لما جاء عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وإلا فإن إحداث شيء ليس على نهج الرسول عليه الصلاة والسلام يعتبر من البدع المحدثة، والنبي صلى الله عليه وسلم رغب في السنن، وحذر من البدع، فقال عليه الصلاة والسلام: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
فهذه من البدع المحدثة ولشيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه رسالة مشتملة على أمور متعددة، فيما يتعلق ببدعة المولد، وبدعة الإسراء والمعراج، وبدعة إحياء ليلة النصف من شعبان، وكذلك ما يتعلق به برؤيا خادم الحجرة النبوية الذي يقال له: أحمد، وهي كذب وافتراء، وطبعت هذه الرسائل الأربع في كتيب باسم (التحذير من البدع).(409/19)
شرح سنن أبي داود [410]
عند تعارض الدعاوى ولا بينة أو تكون البينة من الخصمين جميعاً فتتساقط الشهادات عند التعارض، ويحكم لهما بالشيء نصفين، هذا عند استوائهما في اليد، أما إذا كان الشيء في يد أحدهما فيحكم به لمن هو عنده وفي حوزته، وهذا من عدل الإسلام وعظمته.(410/1)
حكم الرجلين يدعيان شيئاً وليست لهما بينة(410/2)
شرح حديث: (أن رجلين ادعيا بعيراً أو دابة إلى النبي ليست لواحد منهما بينة فجعله بينهما)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الرجلين يدعيان شيئاً وليست لهما بينة.
حدثنا محمد بن منهال الضرير حدثنا يزيد بن زريع حدثنا ابن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده أبي موسى الأشعري: (أن رجلين ادعيا بعيراً أو دابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ليست لواحد منهما بينة فجعله النبي صلى الله عليه وسلم بينهما).
حدثنا الحسن بن علي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن سعيد بإسناده ومعناه] أورد أبو داود هذه الترجمة [باب الرجلين يدعيان شيئاً وليست لهما بينة] كثيراً ما يأتي في التراجم ذكر الرجال دون النساء، وليس لذلك مفهوم، بل؛ لأن الخطاب في الغالب يكون معهم، فمن أجل ذلك يأتي ذكر الرجال، وإلا فالنساء كذلك، فإذا جاءت امرأتان وادعتا شيئاً وليس بينهما بينة، فهما كالرجال؛ لأن الأحكام يتساوى فيها الرجال والنساء، إلا إذا جاء شيء يميز الرجال على النساء، أو النساء على الرجال، وإلا فالأصل هو التساوي، وهذا يكون في التراجم كثيراً، ويكون أيضاً في الأحاديث، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) فقوله: (إلا رجل) ليس له مفهوم، كذلك المرأة إذا كان لها صوم تصومه، ووافق يوم الشك الذي هو يوم الثلاثين، فلها أن تصومه.
إذاً من كان له صوم سواءًَ كان رجلاً أو امرأة فله أن يصومه بناء على ما اعتاده وعلى ما ألفه واستمر عليه، وإنما المحظور أن يكون مقصوداً من أجل إدراك رمضان والاحتياط لرمضان، أما كون الإنسان مداوماً على صوم الإثنين، ثم وافق يوم الإثنين الثلاثين من شعبان، فإنه لا بأس بأن يصومه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه)، وكذلك الحديث: (إذا ابتاع الرجل متاعاً ثم وجده عند رجل قد أفلس، فهو أحق به من الغرماء) وذكر الرجل هنا لا مفهوم له، وكذلك المرأة، سواء كانت هي المشترية أو البائعة فإن الحكم في ذلك للرجال والنساء على حد سواء.
وقد سبق أن مر بنا حديث اختلاف الرجلين في مواريث لهما ثم إن كل واحد منهما تبرأ منه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرهما بأن يقتسما المواريث بينهما نصفين، وأن يستهما، وأن يتحالا؛ لأن الحق لهما لا يعدوهما.
أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: [(إن رجلين ادعيا بعيراً أو دابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ليست لواحد منهما بينة، فجعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهما).
يعني: هذا فيما إذا كانت يدهما عليه، أما إذا كان في يد واحد منهما، وادعى عليه الثاني، فإنه يحكم باليد لمن هو في يده، والمدعي عليه البينة، وإن لم يأت بالبينة يحلف المدعى عليه؛ لأن اليد معه وهو في حوزته.(410/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رجلين ادعيا بعيراً أو دابة إلى النبي ليست لواحد منهما بينة فجعله النبي بينهما)
قوله: [حدثنا محمد بن منهال الضرير].
محمد بن منهال الضرير ثقة، وحديثه أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن أبي عروبة].
هو سعيد بن أبي عروبة ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[سعيد بن أبي بردة].
سعيد بن أبي بردة وهو ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو أبو بردة بن أبي موسى الأشعري وهو ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي موسى الأشعري].
أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه عبد الله بن قيس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا يحيى بن آدم].
هو يحيى بن آدم الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرحيم بن سليمان].
عبد الرحيم بن سليمان هو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد].
هو سعيد بن أبي عروبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[بإسناده ومعناه].
يعني: عن قتادة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى.(410/4)
شرح حدديث الرجلين يدعيان شيئاً وليس لأحدهما بينة أو تساوت بينتهما
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا حجاج بن منهال حدثنا همام عن قتادة بمعنى إسناده: (أن رجلين ادعيا بعيراً على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبعث كل واحد منهما شاهدين، فقسمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهما نصفين).
حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا ابن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلين اختصما في متاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس لواحد منهما بينة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: استهما على اليمين ما كان، أحبا ذلك أو كرها).
حدثنا أحمد بن حنبل وسلمة بن شبيب قالا: حدثنا عبد الرزاق قال أحمد حدثنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا كره الاثنان اليمين أو استحباها فليستهما عليها) قال سلمة: أخبرنا معمر، وقال: (إذا أكره الاثنان على اليمين).
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا خالد بن الحارث عن سعيد بن أبي عروبة بإسناد ابن منهال مثله، قال: (في دابة وليس لهما بينة، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يستهما على اليمين)].
أي: أن كلاً من الشخصين يدعي أن ذلك الحق له، وليس لهما بينة، فما الحكم في ذلك؟ هل تقسم بينهما أو يكون غير ذلك؟ ذكر أبو داود رحمه الله في هذه الترجمة هذه الأحاديث وفيها: أنه ليس لأحد بينة، ثم قضى بقسمتها بينهما، وأنهما يكونان فيهما على حد سواء، وجاء في بعضها أن كلاً منهما أحضر شاهدين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قسمها بينهما، وجاء في أحاديث أنهما يستهمان على الحلف، فيحلف من يقع له السهم، فيكون له.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال: منهم من قال: إنه يسوى بينهما بحيث يقسم بينهما.
ومنهم من قال: إنه يكون لمن يقع له الاستهام، يحلف ويحوز ذلك.
والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنهما يقتسمان ذلك على حد سواء، حيث لم توجد بينة، أو وجدت بينات ولكنها متساوية، فإنه يكون الأمر لا يعدوها فيكون بينهما.
فإذا تساوت البينات تساقطت، فصار وجودها كعدمها، فرجعت المسألة إلى أنه ليس هناك بينة، وعلى كلٍ فما دام أنه ليس هناك بينة، أو وجدت بينات ولكنها متساوية، فإن النتيجة أن يقسم بينهما؛ لأنه لا مرجح لأحدهما على الآخر.
أما وجود رواية أن لهما بينة، ورواية أنه ليس لهما بينة، فيمكن أن يحمل على أنهما قضيتان، ويمكن أن يحمل على أنها قضية واحدة ولكن على اعتبار وجود البينة فالنتيجة أنهما تساوتا فتساقطتا.(410/5)
تراجم رجال إسناد حديث الرجلين يدعيان شيئاً وليس لأحدهما بينة أو تساوت بينتهما
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
محمد بن بشار، هو الملقب بندار البصري ثقة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حجاج بن منهال].
حجاج بن منهال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا همام].
هو همام بن يحيى العوذي ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة] مر ذكره.
[بمعنى إسناده].
أي: بمعنى إسناده المتقدم.
[حدثنا محمد بن المنهال].
هو محمد بن المنهال الضرير ثقه، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس].
هو خلاس بن عمرو الهجري ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي رافع].
هو أبو رافع الصائغ وهو ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
[حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[وسلمة بن شبيب].
سلمة بن شبيب ثقة، وحديثه أخرجه مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال أحمد: حدثنا معمر] يعني: التعبير الذي جاء عن أحمد أنه قال: حدثنا معمر، وسلمة بن شبيب قال: أخبرنا، يعني: بين الفرق بين الصيغة عند هذا وهذا.
[حدثنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن همام بن منبه].
هو همام بن منبه بن كامل الصنعاني أبو عتبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.
[حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
أبو بكر بن أبي شيبة ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا خالد بن الحارث].
هو خالد بن الحارث الهجيمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن أبي عروبة بإسناد ابن منهال مثله، قال: (في دابة، وليس بينهما بينة، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستهما على اليمين)].
وهذا مثل ما تقدم.
وتضعيف الشيخ الألباني للأحاديث الثلاثة الأول من هذا الباب ما أدري ما وجهه، ولعله من أجل أن فيها إرسالاً، لكنه ذكر أن شعبة الذي جاء الحديث من طريقه مرسلاً قد جاء من طريقه متصلاً.(410/6)
حكم تساقط البينات وصفة الاستهام على اليمين
لو كان لكل واحد منهما بينة، ولكن بينة أحدهما أقوى من بينة الآخر، أيقضى للأقوى أم تتساقط البينات؟ أقول: ما دام أنهم كلهم شهود معتبرون، فإنها تتساقط.
وقوله: [(أن يستهما على اليمين)] يعني: يحلف من خرج له السهم بعد الاستهام ثم يكون له، وهذا مما يجعل القصة الواردة في الأحاديث متعددة.
والأولى في هذه المسألة أن يقسم بينهما المدعى إذا كان قابلاً للقسمة ولعل المقصود أن الاستهام من ناحية البدء، أي: كونه يبدأ بهذا قبل هذا، لا أن هذا يختص به دون الآخر؛ لأن الثاني مستعد أنه يحلف.
الاستحلاف لكل منهما يتبين به من ينكل ومن لا ينكل؛ لأنهما إن استحلفا فقد يحلفان جميعاً، فتكون المسألة مثل ما لو جاءا ببينة متساوية، فيكون بينهما على السواء، أما إذا نكل أحدهما فإنه يقضى عليه، ويختص به من حلف، أما لو أن كلاً منهما ليس عنده بينة، أو كلاً منهما عنده بينة ولكن تساوت البينتان، أو حصل النكول عن اليمين من كل منهما، فإنه يقسم بينهما ما ادعياه بالسوية.
إذاً: إذا حلفا جميعاً أو نكلا جميعاً، فإنها تصير بينهما بالسوية، وإن نكل أحدهما قضي على الناكل الذي لم يحلف، والذي حلف يحكم له، لكن على القول الذي يقول: إنهما يستهمان ويكون الحق لمن يخرج له السهم، فيحلف ويحوز البعير؛ فهذا الحكم غير ذلك الذي سبق.(410/7)
متى تكون اليمين على المدعى عليه(410/8)
شرح حديث (أن رسول الله قضى باليمين على المدعى عليه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في اليمين على المدعى عليه.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي قال: حدثنا نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة قال: (كتب إلي ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى باليمين على المدعى عليه)].
أورد أبو داود [باب في اليمين على المدعى عليه] المدعى عليه هو المطلوب؛ لأن المدعي طالب والمدعى عليه مطلوب، والمدعي هو الذي إذا سكت لم يطلب، والمدعى عليه هو الذي لو سكت فإن سكوته ما ينفع؛ لأن الطالب يتابعه، وأما صاحب الحق إذا سكت، فإن القضية تنتهي، ليس هناك دعوة ولا هناك إشكال، فهذا طالب وهذا مطلوب.
والمدعي يلزمه أن يقيم بينة، فإن لم يقم بينة ولم يعترف المدعى عليه بما ادعي عليه؛ توجهت اليمين على المدعى عليه وبرئت ساحته بذلك، وإنما لزمت البينة على المدعي؛ لأنه لو كان يعطى بمجرد دعواه، لترتب على ذلك أن يدعي أناس أموال قوم ودماءهم وغير ذلك.
لكن جاءت الشريعة بأن المدعي يأتي بالبينة، وإن لم يأت بالبينة ولم يقر المدعى عليه، فإن اليمين تتوجه إلى المدعى عليه ويحلف وتبرأ ساحته، وإن وجد مع المدعي شاهد واحد تضم إليه يمين المدعي ويقضى له؛ لأن جانب المدعي أقوى من جانب المدعى عليه؛ لوجود بعض البينة، فضم إليها اليمين، كما سبق أن مر في الباب السابق (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين).
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: [(أن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه)].(410/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله قضى باليمين على المدعى عليه)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن نافع بن عمر].
نافع بن عمر ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي مليكة].
هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة وهو ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال: كتب إليّ ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا فيه اعتبار الكتابة، وكانت موجودة ومعروفة ومعتبرة بين الصحابة والتابعين، وكذلك أيضاً فيمن دونهم، فقد كانوا يعتبرون الكتابة ويعولون عليها، وهذا منها قال: [كتب إلي ابن عباس] والبخاري قد استعملها في موضع واحد عن شيخه محمد بن بشار قال: كتب إلي محمد بن بشار بكذا وكذا، فالكتابة معتبرة.(410/10)
كيفية اليمين(410/11)
شرح حديث: (احلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عندك شيء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كيف اليمين.
حدثنا مسدد حدثنا أبو الأحوص حدثنا عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:- يعني لرجل حلفه-: (احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندك شيء) يعني للمدعي].
أورد أبو داود [باب كيف اليمين] يعني: كيف تكون اليمين؟ وما هي الصيغة التي يأتي بها الحالف؟ ومعلوم أن القاضي هو الذي يلقن الحالف اليمين، لا أنه يحلف بما يريد.
ومعلوم أن الحلف إنما يكون بالله وبأسمائه وبصفاته، وليس هناك صيغة معينة محددة يوقف عندها ويتقيد بها، بل ينعقد اليمين بكل حلف بالله عز وجل أو بأسمائه أو بصفاته.
أورد الإمام أبو داود رحمه الله حديث ابن عباس في هذه المسألة، وفيه: [(احلف بالله الذي لا إله إلا هو)] وهذا من جملة ما يحلف به، أو يقول: والله العظيم، ورب السماوات والأرض، ورب الكعبة، وغير ذلك من الصيغ التي هي محل الحلف، وذلك بأن تكون بالله عز وجل أو بأسمائه وصفاته.
والحديث الذي ورد هنا فيه ضعف؛ لأنه من رواية عطاء بن السائب، والذي روى عنه هو أبو الأحوص سلام بن سليم وهو ممن روى عنه بعد الاختلاط لا قبله.(410/12)
تراجم رجال إسناد حديث (احلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عندك شيء)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري ثقة، وحديثه أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو الأحوص].
هو سلام بن سليم الحنفي ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عطاء بن السائب].
عطاء بن السائب وهو صدوق اختلط، وحديثه أخرجه البخاري مقروناً، وأصحاب السنن، وعطاء بن السائب تعتبر رواية من روى عنه قبل الاختلاط، وأبو الأحوص سلام بن سليم ليس منهم، والحافظ ابن حجر ذكر في آخر ترجمة عطاء بن السائب في تهذيب التهذيب ستة أشخاص وقال: إن سماعهم منه صحيح؛ لأنهم سمعوا منه قبل الاختلاط، وهم: سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وحماد بن زيد، زائدة بن قدامة، وزهير، وأيوب، وأيضاً الأعمش فيكونون سبعة، هؤلاء رووا عن عطاء قبل الاختلاط، فإذا جاءت رواية عطاء بن السائب ويروي عنه واحد من هؤلاء فروايته صحيحة، وإذا جاءت عن غيرهم، فإن كان ما جاء إلا من هذا الطريق، فإنه لا يكون الحديث ثابتاً، وإن كان جاء من طريق أخرى أو له شاهد، فالعبرة بالشواهد التي تؤيده وتقويه.
[عن أبي يحيى].
هو زياد المكي، وحديثه أخرجه أبو داود والنسائي.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.
[قال أبو داود: أبو يحيى اسمه زياد كوفي ثقة].(410/13)
حكم تحليف الذمي إذا كان مدعى عليه(410/14)
شرح حديث: (كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي فقال لي النبي ألك بينة؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب إذا كان المدعى عليه ذمياًَ أيحلف حدثنا محمد بن عيسى حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن شقيق عن الأشعث رضي الله عنه قال: (كان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألك بينة قلت: لا، قال لليهودي: احلف.
قلت: يا رسول الله! إذاً يحلف ويذهب بمالي! فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) [آل عمران:77]) إلى آخر الآية].
أورد أبو داود [باب: إذا كان المدعى عليه ذمياًَ أيحلف؟].
نعم يحلف، وقد جاءت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أورد أبو داود حديث الأشعث بن قيس رضي الله تعالى عنه أنه قال: [(كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني)].
يعني: جحد هذا الحق الذي للأشعث عنده.
قوله: [(فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألك بينة؟ قلت: لا.
قال لليهودي: احلف، قلت: يا رسول الله إذاً يحلف ويذهب بمالي)].
لما سأل الأشعث: لك بينة؟ قال: لا.
فقال لليهودي: احلف، قال: إذاً يذهب بمالي، فأنزل الله عز وجل أن {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران:77].
يعني: أنه ليس هناك إلا الحلف أو البينة، يعني: بينة المدعي أو يمين المدعى عليه.(410/15)
تراجم رجال إسناد حديث (كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي فقال لي النبي ألك بينة)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
هو محمد بن عيسى الطباع وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا أبو معاوية].
هو محمد بن خازم الضرير الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شقيق].
هو شقيق بن سلمة أبو وائل وهو ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأشعث].
هو الأشعث بن قيس رضي الله تعالى عنه وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والأشعث بن قيس كان ممن ارتد بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وعاد إلى الإسلام، وقد اعتبر العلماء حديثه، ولم يرو أن ذلك الارتداد يسقط صحبته وروايته، بل المعتبر أنه إذا ارتد ومات على الردة خرج عن أن يكون صحابياً، أما لو ارتد وعاد إلى الإسلام فإنه لا يسقط ما كان قد عمله قبل ذلك؛ لأن حبوط العمل قيد بكونه يموت على الكفر وعلى الردة، يقول عز وجل: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة:217] يعني: أن حبوط العمل يكون بالموت على الردة، ولهذا اعتبروه صحابياً وأخذوا بحديثه وأخذوا بروايته، وكل من البخاري ومسلم خرج له حديثه، ولهذا يقول الحافظ ابن حجر في تعريف الصحابي: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام، ولو تخللته ردة في الأصح.
ويقال: إنه كان هناك جنازة وحضرها جرير بن عبد الله البجلي والأشعث، فقال الأشعث لـ جرير: تقدم فإني قد ارتددت وأنت لم ترتد، فقدمه للصلاة على تلك الجنازة.(410/16)
الأسئلة(410/17)
حكم وضع اليد على المصحف عند الحلف
السؤال
ما حكم وضع اليد على المصحف عند الحلف؟ وهل له أصل في الشرع؟
الجواب
ما أعلم أصلاً لوضع الإنسان يده على المصحف أثناء الحلف.(410/18)
حكم الحلف بحق المصحف وبه
السؤال
ما حكم عبارة: (وحق المصحف) هل هي جائزة في الحلف؟
الجواب
لا؛ لأن الحلف إنما هو بالله، وحق المصحف تعظيمه، ولا يحلف بتعظيم المصحف، وإنما يحلف بالله وبأسمائه وصفاته، والمصحف كذلك لا يحلف به؛ لأن المصحف فيه كلام الله الذي هو القرآن، وفيه غير كلام الله مثل: الأوراق وهي مخلوقة، وفيه المداد وهو مخلوق، وفيه الغلاف وهو مخلوق، فلا يحلف بالمصحف لاشتماله على مخلوق وغير مخلوق، وأما القرآن فإنه يحلف به، وإذا قال: والقرآن، فجائز؛ لأن القرآن هو كلام الله.(410/19)
حكم قبول يمين الذمي مع الشاهد الواحد
السؤال
إذا كان المدعي ذمياً وعنده شاهد واحد فقط، فهل يعضد بينته بيمينه؟
الجواب
إذا كان عنده شاهد واحد فحكمه حكم المسلم، ليس هناك فرق.(410/20)
حكم الرجل يحلف على علمه فيما غاب عنه(410/21)
شرح حديث اختصام الكندي والحضرمي في أرض
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الرجل يحلف على علمه فيما غاب عنه.
حدثنا محمود بن خالد حدثنا الفريابي حدثنا الحارث بن سليمان حدثني كردوس عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه: (أن رجلاً من كندة ورجلاً من حضرموت اختصما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أرض من اليمن، فقال الحضرمي: يا رسول الله! إن أرضي اغتصبنيها أبو هذا وهي في يده، قال: هل لك بينة؟ قال: لا، ولكن أحلفه والله ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه، فتهيأ الكندي يعني لليمين) وساق الحديث].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب الرجل يحلف على علمه فيما غاب عنه] وذلك لأن الحلف يكون بالنفي المطلق، يعني: ما حصل كذا ما عندي كذا، ويمكن أن يحلف أنه ما يعلم كذا وكذا، وهذا هو المقصود بالترجمة، يعني: يحلف على علمه فيما غاب عنه، وذلك أن هذا الحضرمي ادعى على الكندي أن أباه غصبه الأرض، وأنها في يد الابن الآن، وهو يريد من الابن أن يسلمها إياه وليس عنده بينة، فإذاً يحلف الابن أو المدعى عليه بأنه لا يعلم أن الأرض للحضرمي؛ لأن هذا شيء غاب عنه وكان في زمن أبيه، وأبوه هو الذي اغتصبها، وهي الآن في حوزة الابن.
فإذاً: حلفه على علمه بأنه لا يعلم عن شيء غاب عنه، فهذا هو المقصود من الترجمة والمقصود من الحديث؛ لأنه قال: يحلف أنه ما يعلم أنها حقي؛ لأن الاغتصاب ليس منه وإنما من أبيه، وهي آلت إليه بالميراث.
[عن الأشعث].
أورد أبو داود رحمه الله حديث الأشعث بن قيس قال: (أن رجلاً من كندة ورجلاً من حضرموت اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرض من اليمن، فقال الحضرمي: يا رسول الله إن أرضي اغتصبنيها أبو هذا وهي في يده، قال: هل لك بينة قال: لا، ولكن أحلفه: والله ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه)].
يعني: يحلف أنه لا يعلم أن هذه الأرض عند أبيه عن طريق الغصب من هذا الشخص، لا يقول: إن هذه الأرض ليست له؛ لأنه شيء يجهله، ولكن الشيء الذي ينفيه هو أنه لا يعلم أن أباه اغتصب هذه الأرض.
قوله: (فتهيأ الكندي يعني لليمين) وساق الحديث.
فتهيأ الكندي وأراد أن يحلف.
قوله: وساق الحديث، هنا اختصره، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتطع مال امرئ بيمينه لقي الله وهو عليه غضبان)، وفيه: أن الكندي قال: (هي أرضه وتركها) يعني: تخلص منها لما سمع الوعيد، وكان تهيأ للحلف، ولكنه لما خوف وبين له الحكم والعقوبة الشديدة والوعيد الشديد قال: (هي أرضه) يعني: أنه قال: ليست لي وهو صادق في دعواه.(410/22)
تراجم رجال إسناد حديث اختصام الكندي والحضرمي في أرض
قوله: [حدثنا محمود بن خالد].
هو محمود بن خالد الدمشقي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الفريابي].
هو محمد بن يوسف الفريابي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الحارث بن سليمان].
الحارث بن سليمان صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثني كردوس].
كردوس وهو مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والنسائي.
[عن الأشعث بن قيس].
الأشعث بن قيس رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(410/23)
شرح حديث اختصام الكندي والحضرمي من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن علقمة بن وائل بن حجر الحضرمي عن أبيه رضي الله عنه قال: (جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا، قال: فلك يمينه، فقال: يا رسول الله إنه فاجر ليس يبالي ما حلف، ليس يتورع من شيء، فقال: ليس لك منه إلا ذلك)].
أورد أبو داود حديث وائل بن حجر رضي الله تعالى عنه، وهو أيضاً يتعلق بقصة حضرمي، وكندي، وهي شبيهة بالمسألة السابقة، ولعلها قصة واحدة، ويكون ذلك الحديث الذي مر وفيه الرجل المقبول، وهو حديث الأشعث له ما يؤيده، ويدل على ما دل عليه هذا الحديث، من أنه ليس للمدعي على من ادعى عليه إلا اليمين إذا لم يكن عنده بينة، أو يحصل إقرار من المدعى عليه.(410/24)
تراجم رجال إسناد حديث اختصام الكندي والحضرمي من طريق ثانية
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هو هناد بن السري أبو السري ثقة، أخرج حديثه البخاري في خلق أفعال العباد، ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو الأحوص].
أبو الأحوص مر ذكره.
[عن سماك].
هو سماك بن حرب صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن علقمة بن وائل بن حجر الحضرمي].
علقمة بن وائل بن حجر صدوق، وحديثه أخرجه البخاري في رفع اليدين، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو وائل بن حجر رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج له البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
وعلقمة بن وائل صح سماعه من أبيه، والحافظ ابن حجر قال: إنه لم يسمع من أبيه، ولكن الصحيح أنه قد سمع، وقد جاء في مسلم من روايته عن أبيه حديث أو حديثان.(410/25)
صيغة يمين الذمي(410/26)
شرح حديث تحليف اليهود على وجود الزنا في التوراة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كيف يحلف الذمي.
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري حدثنا رجل من مزينة ونحن عند سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعني لليهود: (أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى؟).
وساق الحديث في قصة الرجم].
أورد أبو داود [باب كيف يحلف الذمي].
يعني: ما هي الصيغة التي يقولها الذمي عندما يحلف؟ والذمي أو الكافر عندما يحلف فإنه يحلف بشيء يعظمه، كأن يقول: والذي أنزل التوراة على موسى أو ورب موسى أو غير ذلك من الأشياء التي فيها تعظيم عنده.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يعني لليهود: [(أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى؟)].
وهنا سؤال لهم وليس فيه تحليف، فهو عليه الصلاة والسلام عندما سألهم ناشدهم بالله عز وجل على وجه فيه تعظيم لشيء يعظمونه، حيث قال: [(أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة)] وإذا حلف أحدهم يقول: والذي أنزل التوراة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سألهم، سألهم بالله الذي أنزل التوراة.
إذاً: الكفار عندما يحلفون، يحلفون بشيء يعظمونه، ويقال لهم: قولوا: والذي نزل التوراة على موسى، أو ورب موسى، يحلفون بشيء يعظمونه.
والحديث في إسناده رجل مبهم فهو غير ثابت.(410/27)
تراجم رجال إسناد حديث تحليف اليهود على وجود الزنا في التوراة
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري].
عبد الرزاق مر ذكره.
ومعمر هو ابن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا رجل من مزينة].
رجل من مزينة مبهم.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.(410/28)
شرح حديث تحليف اليهود على وجود الزنا في التوراة من طريق ثانية وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد العزيز بن يحيى أبو الأصبغ حدثني محمد -يعني ابن سلمة - عن محمد بن إسحاق عن الزهري بهذا الحديث وبإسناده، قال: حدثني رجل من مزينة ممن كان يتبع العلم ويعيه، يحدث سعيد بن المسيب وساق الحديث بمعناه].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، وفيه العلة التي في الذي قبله، وهي الرجل المبهم من مزينة.
قوله: [حدثنا عبد العزيز بن يحيى أبو الأصبغ].
عبد العزيز بن يحيى أبو الأصبغ صدوق ربما وهم، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثني محمد يعني ابن سلمة].
هو محمد بن سلمة الحراني الباهلي وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الزهري بهذا الحديث وبإسناده].(410/29)
شرح حديث تحليف اليهود من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد عن قتادة عن عكرمة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يعني لـ ابن صوريا: أذكركم بالله الذي نجاكم من آل فرعون، وأقطعكم البحر، وظلل عليكم الغمام، وأنزل عليكم المن والسلوى، وأنزل عليكم التوراة على موسى؛ أتجدون في كتابكم الرجم؟ قال: ذكرتني بعظيم ولا يسعني أن أكذبك) وساق الحديث].
أورد أبو داود الحديث عن عكرمة وهو مرسل، وقد جاء عن جابر رضي الله عنه كما جاء عند المصنف في قصة رجم الزانيين، وأنهما رجما كما جاء ذلك ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقصود من هذا أنه نشدهم بالله عز وجل الذي هذه صفاته، أي: أنه نشدهم بشيء يعظمونه، وبشيء عظيم عندهم، وهو مثل الذي قبله يدل أنهم يُحلَّفون بشيء يعظمونه، بأن يحلفون بربوبية الله عز وجل، أو بصفة من صفاته مضافة إلى شيء يعظمونه، كأن يقول: والذي نزل التوراة، يعني: المتصف بتنزيل التوراة، أو يقول: ورب موسى.(410/30)
تراجم رجال إسناد حديث تحليف اليهود من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
هو محمد بن المثنى العنزي أبو موسى الملقب بـ الزمن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الأعلى].
هو عبد الأعلى بن عبد الأعلى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سعيد عن قتادة].
هو سعيد بن أبي عروبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة وقتادة مر ذكره.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث مرسل، ولكنه جاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وفيه ما في هذا الحديث.
[(قال لـ ابن صوريا)].
ابن صوريا هذا عالم من علماء اليهود.(410/31)
الأسئلة(410/32)
وجه تصحيح الألباني لحديث الرجل الذي من مزينة في مناشدة الرسول لليهود
السؤال
الحديث الأول في هذا الباب الذي فيه رجل من مزينة، صححه الشيخ الألباني كما في الإرواء؟
الجواب
هو ضعيف، لكن لعله صححه من أجل أنه يتعلق بالرجم، والرجم ثابت، لكن من هذا الطريق هو ضعيف.(410/33)
حكم تحليف الذمي بشيء يعظمه لا يتعلق بالله وأسمائه وصفاته
السؤال
هل يجوز تحليف الذمي بأي شيء يعظمه ولو كان يعظم صنماً؟
الجواب
لا يجوز أن يحلف بشيء فيه تعظيم لغير الله كالصنم وغيره، وإنما يحلف بشي فيه تعظيم لله وحده، أو بشيء فيه ذكر كون الله عز وجل منَّ عليهم بكذا وكذا، مثلما جاء في اليهود أنه ظللهم بالغمام ونجاهم من البحر وهي من أفعال الله عز وجل.(410/34)
حكم تحليف القاضي لأناس بغير الله لتهيبهم وخوفهم من ذلك
السؤال
هناك من إذا حلفهم القاضي بالله لا يتورعون من الكذب، لكن إذا حلفهم ببعض شيوخ الطرق يتهيبون، فيصدقون فما حكم ذلك؟
الجواب
لا يجوز أن يحلف إلا بالله؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون.(410/35)
تحليف من لا يقر بالله
السؤال
إذا كان هذا الكافر ممن لا يقر بالله، فكيف يحلف؟
الجواب
التحليف لا يكون إلا بالله ولا يكون بغيره، فصاحب الحق مقصر؛ لأنه لم يحفظ لنفسه بينة، وهذا الذي لا يقر بوجود الله كيف يحلف بالله وهو لا يقر به؟!(410/36)
الرجل يحلف على حقه(410/37)
شرح حديث (إن الله تعالى يلوم على العجز)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الرجل يحلف على حقه.
حدثنا عبد الوهاب بن نجدة وموسى بن مروان الرقي قالا: حدثنا بقية بن الوليد عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن سيف عن عوف بن مالك رضي الله عنه أنه حدثهم: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله تعالى يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك امرؤ فقل: حسبي الله ونعم الوكيل)].
أورد أبو داود [باب الرجل يحلف على حقه] يعني: يحلف على الشيء الذي يستحقه، كأن يحلف المدعى عليه أن هذا الذي طلب منه وهو بيده له، وأنه ليس لغيره، فيحلف على حقه، ومعنى ذلك أن الإنسان عليه أن يأخذ بالحزم وأن يحتاط في أموره، وأنه عندما يكون له حق يشهد عليه، أو يكون عنده البينة التي تثبته، وإذا حصل أنه أخذ بالحزم ثم بعد ذلك فاته الشيء الذي يريده، فإنه يقول: حسبي الله ونعم الوكيل، أما أن يقول: حسبي الله ونعم الوكيل مع العجز ومع عدم الأخذ بالأسباب، فإن الكيس هو خلاف ذلك، والكيس هو أن الإنسان يأخذ بالأسباب، وإذا فاته الشيء الذي أراده، فإنه يقول: حسبي الله ونعم الوكيل، وهذا مثل ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) يعني: استعن بالله عز وجل مع أخذك بالأسباب، ولا تقصر.
(وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل).
ومعنى هذا أن الإنسان مطلوب منه الحزم، ومطلوب منه الاحتياط، ومطلوب منه أنه يحافظ على أموره وشئونه، وأن يأخذ بالأسباب التي يكون فيها حفظ حقه، وإذا فاته شيء بعد ذلك فإنه يقول: حسبي الله ونعم الوكيل، أما أنه لا يأخذ بالأسباب ثم يقول: حسبي الله ونعم الوكيل مع عجزه وكسله، فهذا هو العجز الذي جاء في هذا لحديث.
وفي هذا الحديث أن الذي قضي عليه لم يأخذ بالأسباب وهو المدعي، أما المدعى عليه فإنه حلف على حقه؛ لأنه بيده، وقال: إن هذا حقي، والمدعي يقول: لا، إنه لي، وليس عنده بينة، وذاك حلف وبقي ما بيده بيده.
إذاً: المدعي قصر؛ لأنه لم يأخذ بالأسباب ولم يحتط ولم يشهد على حقه، فالمدعى عليه هو الذي يحلف ويجوز ما بيده.
قال صاحب عون المعبود في شرح هذه الترجمة [باب: الرجل يحلف على حقه]: أي: الرجل يحلف على إثبات حقه، ولا يضيع ماله بمجرد دعوى أحد، بل يقيم عليه البينة، أو يحلف كما أرشده إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [(وعليك بالكيس)].
أما المدعي فإن حقه الذي كان يدعيه فات عليه بعدم البينة؛ لأن ذاك المدعى عليه ما عنده إلا اليمين، والمدعي يقول: إن حقي عند فلان، ولكنه ما عنده البينة التي يستخرج بها هذا الحق، فإذاً فاته الحق الذي له بعدم الاحتياط، ولهذا المقضي عليه قال: حسبي الله ونعم الوكيل، والمقضي عليه هو المدعي حيث لا بينة، إذا حلف المدعى عليه صار مقضياً له، والمدعي هو المقضي عليه، فهو قال: حسبي الله ونعم الوكيل متحسراً على تفريطه، حيث لم يأخذ بالأسباب الواقية له من أن يصل إلى هذا الذي وصل إليه.
قوله: [(إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك امرؤ)].
العجز هو الكسل وعدم الكيس، والعجز مذموم، والمأمور به الحزم في الأمور، كما جاء في الحديث: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز).
فأمر بقوله: (احرص على ما ينفعك) يعني: بالأخذ بالأسباب، ومع الأخذ بالأسباب يعول على الله عز وجل؛ لأن الأسباب لم يجعلها الله نافعة بذاتها، لكن مع أخذه بالأسباب يعول على مسبب الأسباب، وإن فاته شيء مع بذله ما يستطيع فلا يقل: (لو فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن يقل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان).
والعجز والكيس شيئان متقابلان، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كل شيء بقدر، حتى كسل الكسول ونشاط النشيط، كل ذلك بقضاء الله وقدره، ولا يحصل في الوجود شيء إلا وهو بقضاء الله وقدره.
قوله: [(إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك امرؤ فقل: حسبي الله ونعم الوكيل)].
يعني: مع أخذك بالكيس ومع أخذك بالأسباب، فأنت تقول: حسبي الله ونعم الوكيل؛ لأنك بذلت ما تستطيع، أما أن تهمل ثم تعجز، وتقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فلا، لكن خذ بالأسباب وقل: حسبي الله ونعم الوكيل.(410/38)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الله تعالى يلوم على العجز)
قوله: [حدثنا عبد الوهاب بن نجدة].
عبد الوهاب بن نجدة ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي].
[وموسى بن مروان الرقي].
موسى بن مروان الرقي هو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا بقية بن الوليد].
بقية بن الوليد صدوق وهو مدلس، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن بحير بن سعد].
بحير بن سعد وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن خالد بن معدان].
خالد بن معدان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سيف].
هو سيف الشامي وثقه العجلي، أخرج له أبو داود والنسائي.
والعجلي وابن حبان متساهلان في التوثيق.
[عن عوف بن مالك].
هو عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(410/39)
الأسئلة(410/40)
بيان الحديث الذي ضعفه الألباني بسبب الإرسال في باب الرجلين يدعيان شيئاً وليست لهما بينة
السؤال
تضعيف الشيخ الألباني لحديث محمد بن المنهال عن يزيد عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده أبي موسى هو وجود الإرسال، فأين الإرسال في هذا السند؟
الجواب
الإرسال في غير هذا الحديث، هو في الحديث الذي رواه شعبة، وشعبة أيضاً جاء عنه الوصل.(410/41)
حكم تساقط الأحاديث عند التعارض قياساً على تساقط البينات عند التعارض
السؤال
هل يقال في الأحاديث: إنها تعارضت فتساقطت؟
الجواب
لا يقال في الأحاديث: تعارضت فتساقطت، هذا يقال في البينات: إنها تعارضت فتساقطت، وإنما الأحاديث إذا تعارضت يوفق بينها ويجمع بينها.(410/42)
حكم دعاء الله بصفاته
السؤال
هل يجوز دعاء الله بصفاته؟
الجواب
الصفات لا تدعى، لا يقال: يا رحمة الله أعطيني كذا، يا قدرة الله حققي لي كذا، وإنما يقول: يا ألله، يا رحمن، يا رحيم، وأما سؤال الله عز وجل بصفاته وأسمائه فنعم، يعني: له أن يتوسل إليه بأسمائه وصفاته.(410/43)
حكم قول القحطاني في نونيته فوحق حكمتك
السؤال
قال القحطاني في نونيته: فوحق حكمتك، فهل يسوغ هذا الحلف؟
الجواب
يبدو أنه غير مستقيم؛ وهناك حديث ورد لكنه ضعيف وهو: (اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا).
والذين قالوا بهذا، قالوا: إن حق السائلين هو الإجابة، فيكون سأل الله بصفة من صفاته، وكلمة حق حكمتك أو حق القرآن أو ما إلى ذلك هذا ليس له وجه.(410/44)
شرح سنن أبي داود [411]
أجاز الشارع الحكيم حبس المماطل في قضاء الدين؛ وذلك من أجل حفظ حقوق الناس، وحتى لا يماطل من عنده القدرة على الدفع والتسديد، أما من كان معسراً فلا حبس عليه.
وأجازت الشريعة الوكالة في البيع والشراء والأخذ والعطاء وغير ذلك مما يجوز التوكيل فيه؛ لما في ذلك من التيسير على الناس، إذ لو منعت لشق ذلك عليهم، وحث الشارع الجار على ألا يمنع جاره من غرز خشبته في جداره للحاجة، ومن تسريح الماء إلى أرض جاره؛ حتى يعم المجتمع المسلم المودة والألفة والمحبة والأخوة.(411/1)
حكم الحبس في الدين وغيره(411/2)
شرح حديث: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الحبس في الدين وغيره.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا عبد الله بن المبارك عن وبر بن أبي دليلة عن محمد بن ميمون عن عمرو بن الشريد عن أبيه رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) قال ابن المبارك: يحل عرضه: يغلظ له، وعقوبته: يحبس له].
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الحبس في الدين وغيره] المقصود الحبس في الدين في حق الواجد الميسر الذي يماطل، فإنه يحبس حتى يقوم بالوفاء؛ لأنه قادر على ذلك، وهو ظالم في مطله، وقد جاء في الحديث: (مطل الغني ظلم) فيحبس من أجل أنه ظالم، أما من كان فقيراً معدماً فإنه لا يحبس، وإنما ينظر إلى ميسرة، كما قال الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280].
أورد أبو داود حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)] يعني: الواجد هو الموسر الذي يجد الوفاء والسداد.
قوله: [(لي الواجد)] هذا يدل على كونه يحبس، وكونه يغلظ له بالقول، لكونه قادراً وموسراً، وإذا كان معدماً فقيراً، فإنه لا يحبس ولا يستحق الحبس، وإنما الذي يستحقه من كان قادراً ولم يقم بوفاء ما وجب عليه.
والحديث يدل على العقوبة، ويدخل فيها السجن، أو تفسر بالسجن، ولهذا فسر عبد الله بن المبارك هاتين الكلمتين بقوله: [يحل عرضه: يغلظ له بالقول] يعني يتكلم في حقه كأن يقال له: إنك ظالم وغير ذلك، وهذا من الأمور التي يجوز فيها الكلام في الشخص في أمر يكرهه، ولا يعتبر من الغيبة المحرمة، وإنما هو سائغ ويحل عرضه بأن يقول: مطلني حقي وظلمني.
قوله: [وعقوبته] بأن يحبس من أجل الدين الذي عليه حتى يقوم بالسداد؛ لأنه إذا أحس بالعقوبة عند ذلك يترك المماطلة ويقوم بسداد الدين الذي عليه.(411/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الله بن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك المروزي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن وبر بن أبي دليلة].
وبر بن أبي دليلة وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن محمد بن ميمون].
هو محمد بن عبد الله بن ميمون بن مسيكة الطائفي مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عمرو بن الشريد].
عمرو بن الشريد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي فأخرج له في الشمائل.
[عن أبيه].
هو الشريد بن سويد رضي الله عنه وهو صحابي، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.(411/4)
شرح حديث ثعلبة التميمي: (أتيت النبي بغريم لي فقال لي الزمه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا معاذ بن أسد حدثنا النضر بن شميل أخبرنا هرماس بن حبيب رجل من أهل البادية عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغريم لي فقال لي: الزمه، ثم قال لي: يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك؟)].
أورد أبو داود حديث ثعلبة التميمي أنه قال: [(أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بغريم فقال لي: الزمه، ثم قال لي: يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك؟)].
يعني: إذا كان معسراً فإنه لا سبيل إلى ملازمته، ولا سبيل إلى حبسه وإلى سجنه، وإن كان بخلاف ذلك فهو يستحق كما جاء في الحديث الماضي، لكن هذا الحديث الذي الذي معنا حديث ضعيف؛ لأن فيه شخصين تكلم فيهما.(411/5)
تراجم رجال إسناد حديث ثعلبة التميمي: (أتيت النبي بغريم لي فقال لي الزمه)
قوله: [حدثنا معاذ بن أسد].
معاذ بن أسد هو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود.
[حدثنا النضر بن شميل] النضر بن شميل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا هرماس بن حبيب].
هرماس هو مجهول، والمجهول هو الذي لم يرو عنه إلا واحد ولم يوثق، هذا هو مجهول العين، قال الحافظ في التقريب: شيخ أعرابي لم يرو عنه إلا النضر بن شميل أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن أبيه].
أبوه مجهول، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن جده] هو ثعلبة التميمي صحابي، أخرج له أبو داود وابن ماجة.(411/6)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبس رجلاً في تهمة)].
أورد أبو داود حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه: [(أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبس رجلاً في تهمة).
وهذا هو الذي يدخل تحت قول المصنف: [في الدين وغيره] فحديث: (لي الواجد ظلم، يحل عرضه وعقوبته) هو في الدين، وهذا في غيره؛ لأنه ذكر الدين وفيه الحديث الأول، وذكر التهمة، وهو في هذا الحديث، وهو في الذي دخل تحت قوله: [وغيره] يعني: أنه متهم في شيء فحبس ثم بعد ذلك خلي سبيله، والتهمة تكون في أمر من الأمور التي فيها الشخص متهم، والتهمة غير الدين، فالمتهم يحبس في شيء حتى يعرف هل يثبت عليه أو لا يثبت، حتى لا يشرد وينفلت.(411/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي].
إبراهيم بن موسى الرازي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بهز بن حكيم].
بهز بن حكيم وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو حكيم بن معاوية وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن جده].
هو معاوية بن حيدة القشيري صحابي رضي الله عنه، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
وهذا من رواية من روى عن أبيه عن جده، وإذا صح الإسناد إلى بهز فيكون الحديث حسناً، وإذا صح الإسناد إلى عمرو بن شعيب فيكون الحديث حسناً.(411/8)
شرح حديث: (قام رجل إلى النبي وهو يخطب فقال جيراني بم أخذوا فأعرض عنه مرتين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن قدامة ومؤمل بن هشام قال ابن قدامة: حدثني إسماعيل عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، قال ابن قدامة: (إن أخاه أو عمه، قال مؤمل إنه قام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخطب فقال: جيراني بم أخذوا؟ فأعرض عنه مرتين، ثم ذكر شيئاً، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: خلوا له عن جيرانه) لم يذكر مؤمل: وهو يخطب].
أورد أبو داود حديث معاوية بن حيدة قوله: (إن أخاه أو عمه قام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقال: جيراني بم أخذوا؟ فأعرض عنه)].
يعني: بم حبسوا؟ قوله: [(ثم ذكر شيئاً فقال: خلوا له جيرانه)] يعني: أطلقوا سراحهم.
قوله: [(قام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب)].
يعني: أنه خاطبه وهو يخطب، ومحادثة الخطيب سائغ حتى في الجمعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه رجل وهو يخطب يوم الجمعة فقال: (يا رسول الله! هلكت الأموال فانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا فرفع يديه واستسقى) وكذلك الخطيب يجوز له أن يكلم بعض الحاضرين، مثل ما حصل من الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء الرجل الذي كان يتخطى رقاب الناس، فقال له: (اجلس فقد آذيت).
كذلك الرجل الذي جاء ودخل وجلس ولم يصل فقال: (أصليت ركعتين؟ فقال: لا.
قال: قم فصل ركعتين وتجوز فيهما) وكذلك عمر رضي الله عنه لما كان يخطب يوم الجمعة فدخل عثمان بن عفان فقال: أي ساعة هذه؟ -يخاطب عثمان - فقال: إني كنت في كذا فما شعرت إلا وقد جاء الأذان فما زدت أن توضأت وجئت، فقال: والوضوء أيضاً! يعني: لم تغتسل مع تأخرك.
فهذا كله يدل على أن الخطيب يتكلم مع الحاضرين، وأن الخطيب يمكن أن يُخَاطب في الأمر الذي يقتضي ذلك، كأن يطلب منه أن يدعو الله عز وجل بأن يغيثهم الله سبحانه وتعالى، لكن هنا في هذا الحديث ما يدرى أكان في جمعة أم في غير جمعة.(411/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (قام رجل إلى النبي وهو يخطب فقال جيراني بم أخذوا فأعرض عنه مرتين)
قوله: [حدثنا محمد بن قدامة].
هو محمد بن قدامة المصيصي وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[ومؤمل بن هشام].
مؤمل بن هشام هو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[قال ابن قدامة: حدثني إسماعيل].
هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي المشهور بـ ابن علية وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده].
قد مر ذكر الثلاثة.
[قال ابن قدامة: إن أخاه أو عمه].
ابن قدامة هو الشيخ الأول قال: إن أخاه أو عمه، وأما مؤمل فقال: إنه هو الذي خاطب النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: أن معاوية هو نفسه الذي خاطب النبي صلى الله عليه وسلم.
[لم يذكر مؤمل: وهو يخطب].
كلمة [(وهو يخطب)] هي مما جاء عن محمد بن قدامة، فكأنه ساقه بلفظ ابن قدامة؛ وأشار إلى الفرق بينهما بأن أحدهما قال: إن أخاه أو عمه، ومؤمل بن هشام قال: إنه هو، وليس عند مؤمل بن هشام: وهو يخطب، وإنما هي عند محمد بن قدامة.(411/10)
حكم الوكالة(411/11)
شرح حديث: (إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الوكالة.
حدثنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم حدثنا عمي حدثنا أبي عن ابن إسحاق عن أبي نعيم وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمعه يحدث قال: (أردت الخروج إلى خيبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسلمت عليه، وقلت له: إني أردت الخروج إلى خيبر، فقال: إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً، فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته)].
قال المصنف: [باب في الوكالة].
الوكالة: هي نيابة الشخص عن غيره، إما أن يكون نائباً عنه نيابة مطلقة، يقوم مقامه في جميع شئونه، وفي جميع التصرفات، أو نيابة مقيدة بأن يقول: أنت وكيلي في الأمر الفلاني المعين، فيمكن أن تكون الوكالة مطلقة فيتصرف عنه كما يتصرف في ماله، وأن تكون الوكالة مقيدة في أمر من الأمور، كأن يشتري له بيتاً أو يشتري له سيارة، أو أي شيء معين.
والوكالة ثابتة بإجماع العلماء، والناس يحتاجون إليها ولا يستغنون عنها؛ لأنه ليس كل أحد يستطيع أن يقوم بكل شئونه دون أن يوكل أحداً، بل من الناس من لا يستطيع أن يقوم بشئونه؛ لعجزه ولعدم قدرته، فيوكل من يقوم مقامه.
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنه عندما أراد أن يذهب إلى خيبر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بذهابه، فقال: [(إذا أتيت وكيلي)] وهذا محل الشاهد؛ لأنه قال: (وكيلي).
قوله: [(فخذ منه خمسة عشر وسقاً، فإن ابتغى منك آية، فضع يدك على ترقوته)] فهذا يدل على مشروعية الوكالة، وهي مجمع عليها، ويدل على أنه يمكن أن تكون هناك علامة خاصة بين الوكيل والموكل، بمعنى أنه لو أرسل أحداً بدون أن يكون معه بينة فإنه يكفي أن يذكر هذه العلامة الخاصة التي اتفق عليها الطرفان الوكيل والموكل.
والترقوة هو العظم الذي يكون بين الكتف والرقبة، وكل إنسان فيه ترقوتان: ترقوة في اليمين، وترقوة في اليسار.
الحاصل أن الحديث يدل على هذا وعلى هذا، والحديث فيه كلام، لكن من حيث الوكالة فهي مجمع عليها، ولا خلاف فيها بين أهل العلم.(411/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم].
عبيد الله بن سعد بن إبراهيم ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عمي].
عمه هو يعقوب بن إبراهيم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبي].
أبوه ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إسحاق].
ابن إسحاق صدوق يدلس، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن، وهنا روى بالعنعنة.
[عن أبي نعيم وهب بن كيسان].
أبو نعيم وهب بن كيسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(411/13)
أبواب من القضاء(411/14)
شرح حديث: (إذا تدارأتم في طريق فاجعلوه سبعة أذرع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أبواب من القضاء.
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا المثنى بن سعيد حدثنا قتادة عن بشير بن كعب العدوي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إذا تدارأتم في طريق فاجعلوه سبعة أذرع)].
يقول المصنف رحمه الله: [أبواب من القضاء] يعني: هذه أمور متفرقة مختلفة الموضوعات جمعها المصنف في هذه الأبواب، فبدلاً أن يجعل لكل واحد منها باباً مستقلاً قال: [أبواب من القضاء] فسرد الأحاديث التي في موضوعات متفرقة وليست في موضوع واحد، أولها: حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(إذا تدارأتم في طريق) يعني: إذا اختلفتم في طريق فاجعلوه سبعة أذرع، وهذا في غير الطرق التي تكون خاصة بين البيوت التي يجلعها الجيران بينهم، فتكون خاصة بهم، وإنما هذا في الطريق النافذ، فيكون قدرها سبعة أذرع؛ حتى يمكن سير الجمال بأحمالها فيه.
فالحاصل أن الطرق النافذة الشارعة تكون على حسب الحاجة، وقد كانوا قبل ذلك يجعلونها سبعة أذرع، حتى تمشي الجمال بأحمالها وتتقابل دون مزاحمة أو أذى، كما جاء في هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الطرق الخاصة التي تكون بين البيوت والأزقة فلا يلزم أن تكون سبعة أذرع، ولا يلزم أن تدخل فيها الجمال بأحمالها، وإنما المقصود بالتي تكون سبعة أذرع هي الواسعة، ولكل زمان ما يناسبه، فالآن في هذا الزمان توجد سيارات، ويوجد طريق للذهاب وطريق للإياب، فتكون الطرق على حسب ما يحتاج الناس إليه.(411/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا تدارأتم في طريق فاجعلوه سبعة أذرع)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا المثنى بن سعيد].
هو المثنى بن سعيد القسام ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بشير بن كعب العدوي].
بشير بن كعب العدوي وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.(411/16)
شرح حديث: (إذا استأذن أحدكم أخاه أن يغرز خشبة في جداره فلا يمنعه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد وابن أبي خلف قالا: حدثنا سفيان عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إذا استأذن أحدكم أخاه أن يغرز خشبة في جداره فلا يمنعه، فنكسوا، فقال: مالي أراكم قد أعرضتم؟! لألقينها بين أكتافكم).
قال أبو داود: وهذا حديث ابن أبي خلف وهو أتم].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة وهو في موضوع آخر؛ لأن ذاك يتعلق بالطريق، وعرض الطريق وسعة الطريق، وأما هذا فيتعلق بالتعامل بين الجيران، وأن الواحد إذا احتاج إلى أن يضع خشبته فوق جدار جاره، فإنه لا يرده ولا يمنعه، وهذا فيما إذا كان الجدار يتحمل، وأما إذا كان الجدار فيه خلل، أو فيه شقوق، ولو أضيف إليه شيء لسقط، فإنه لا يعمل شيئاً يؤدي إلى سقوطه.
فالحاصل أن الجدار الذي يكون بين الجيران، وكان الذي بناه أول الجارين، وجاء الجار الثاني، فإنه إن احتاج إلى أن يضع خشبة عليه فإنه يفعل، وعلى جاره أن يمكنه ولا يمنعه من ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استأذن أحدكم أخاه أن يغرز خشبة في جداره فلا يمنعه)].
قوله: [(فنكسوا)] يعني: كأنه حصل منهم عدم الرضا بهذا أو بعضهم، فقال: [(ما لي أراكم قد أعرضتم؟! لألقينها بين أكتافكم)] يعني: لأرمين بهذه الحجة وبهذه السنة بين أكتافكم، وأنه يبلغهم إياها، ويصدع بها، وقيل: إن المقصود من ذلك أنه كان أميراً على المدينة فأراد أن يلزمهم بها، يعني: بدل أن يجعلها في الجدار يجعلها على أكتافهم، مبالغة في إلزامهم بهذا الشيء الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.(411/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا استأذن أحدكم أخاه أن يغرز خشبة في جداره فلا يمنعه)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[وابن أبي خلف].
هو محمد بن أحمد بن أبي خلف وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعرج].
هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
قد مر ذكره.
[قال أبو داود: وهذا حديث ابن أبي خلف وهو أتم].
ابن أبي خلف هو الشيخ الثاني وحديثه أتم من حديث مسدد، فـ أبو داود لم يسق لفظ مسدد وإنما ساق لفظ محمد بن أبي خلف؛ لأنه أتم.(411/18)
شرح حديث: (من ضار أضر الله به ومن شاق شاق الله عليه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن يحيى عن محمد بن يحيى بن حبان عن لؤلؤة عن أبي صرمة رضي الله عنه، قال غير قتيبة في هذا الحديث: عن أبي صرمة صاحب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من ضار أضر الله به، ومن شاقّ شاق الله عليه)].
أورد أبو داود حديث أبي صرمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: [(من ضار أضر الله به، ومن شاق شاق الله عليه)] والمقصود أن الجزاء من جنس العمل، فإذا كان العمل فيه ضرراً بالغير، فالجزاء أن يحصل له الضرر من الله، وكذلك إذا كان فيه مشقة على غيره منه فيكون الجزاء أن يحصل له مشقة من الله عز وجل، وقد جاءت أحاديث بمعناه مثل حديث: (لا ضرر ولا ضرار) وكذلك حديث: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه).(411/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (من ضار أضر الله به ومن شاق شاق الله عليه)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى].
هو يحيى بن سعيد الأنصاري المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن يحيى بن حبان].
محمد بن يحيى بن حبان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن لؤلؤة].
لؤلؤة هي مولاة الأنصار وهي مقبولة، أخرج لها البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبي صرمة].
أبو صرمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
والحديث فيه هذه المرأة المقبولة أو المجهولة؛ لأنه ما روى عنها إلا محمد بن يحيى بن حبان، ولكن الحديث له شواهد، مثل حديث: (لا ضرر ولا ضرار)، وحديث: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن شق عليهم فاشقق عليه) وكذلك أيضاً لفظ الحديث جاء من طريق أخرى.(411/20)
شرح حديث سمرة أنه كان له نخل في حائط أنصاري فأبى أن يبيعه أو يناقله أو يهبه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود العتكي حدثنا حماد حدثنا واصل مولى أبي عيينة قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي يحدث عن سمرة بن جندب رضي الله عنه: (أنه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار، قال: ومع الرجل أهله، قال: فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به ويشق عليه، فطلب إليه أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله فأبى، فأتى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فذكر ذلك له، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله فأبى، قال: فهبه له ولك كذا وكذا، أمراً رغبه فيه فأبى، فقال: أنت مضار، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأنصاري: اذهب فاقلع نخله)].
أورد أبو داود حديث سمرة بن جندب أنه كان له نخل عند رجل من الأنصار، وأن ذلك الأنصاري عنده أهله، فكان يأتي نخله فيكون في ذلك مضايقة لهم، فأرادوا أن يتخلصوا من هذا الدخول والخروج، فطلب الأنصاري منه أن يبيع هذه النخلة أو النخلات فأبى، فطلب منه أن يناقله وأن يبادله عنها في مكان آخر غير البستان هذا فأبى، فجاء الأنصاري إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشتكي، فعرض الرسول صلى الله عليه وسلم على سمرة مثل ما عرض عليه الأنصاري فأبى، ثم قال له هبها للأنصاري ورغبة في ذلك فأبى، فقال له: [(أنت مضار، فقال للأنصاري: اذهب فاقلع نخله)].
قوله: [(كانت له عضد)] يعني: مجموعة من النخل متصلة.
وهذا الحديث غير صحيح وغير ثابت؛ لأن فيه انقطاعاً بين أبي جعفر محمد بن علي وبين سمرة بن جندب، ثم أيضاً فيه نكارة من حيث كونه يقلع النخل ويتلف المال على صاحبه دون أن يستفيد منه صاحبه، وكان يمكن أن يلزم بأمر آخر غير أن يضيع عليه حقه، ثم من جهة أخرى كون هذا الصحابي يكون بهذه الصفة التي فيها الشدة والتعنت، وكونه يعرض عليه كل شيء فيأبى؛ فهذا لا يليق بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون هذا فيه شيء من النكارة.
إذاً: الحديث من حيث الإسناد غير ثابت، ومن حيث المتن أيضاً فيه هذه النكارة، من ناحية كون النخل يقطع ويتلف ولا يستفيد منه صاحبه بشيء، ومن جهة أن هذا الصحابي يكون بهذا الوصف الذي جاء في هذا الحديث كلما يعرض عليه يأبى.(411/21)
تراجم رجال إسناد حديث سمرة أنه كان له نخل في حائط أنصاري فأبى أن يبيعه أو يناقله أو يهبه
قوله: [حدثنا سليمان بن داود العتكي].
هو سليمان بن داود العتكي أبو الربيع الزهراني وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا واصل مولى أبي عيينة].
واصل مولى أبي عيينة هو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي].
أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سمرة بن جندب].
سمرة بن جندب رضي الله عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(411/22)
شرح حديث مخاصمة رجل من الأنصار للزبير في شراج الحرة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا الليث عن الزهري عن عروة أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما حدثه: (أن رجلاً خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه الزبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم للزبير: اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك، قال: فغضب الأنصاري فقال: يا رسول الله إن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: اسق ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، فقال الزبير: فو الله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65] الآية)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما: أن أباه الزبير خاصمه رجل من الأنصار في شراج الحرة، والشراج هو المسيل أو السيل الذي يأتي من الحرة إلى البساتين، وبستان الزبير هو الأعلى، وبستان الأنصاري وراءه، ومعلوم أن الأعلى يشرب ثم يشرب الذي وراءه، ولكن الأعلى لا يحبس الماء عن جاره، بحيث يجعله في بستانه وحده دون أن يستفيد جاره، بل يستفيد ويفيد، فيستفيد هو ويرسل على غيره، فخاصم ذلك الأنصاري الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: [(اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك، قال: فغضب الأنصاري فقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟)] يعني: تقول هذا الكلام له؛ لأنه ابن عمتك؛ لأن الزبير أمه هي صفية بنت عبد المطلب وهي عمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي التي ناداها النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] فقال: (يا عباس يا صفية عمة رسول الله يا فاطمة بنت محمد).
[(فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك)] يعني: تقول له هذا الكلام وتجعله يسقي، وهذا كلام فيه جفاء وفيه سوء أدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اسق ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر).
قيل: إن الحكم الأول كان فيه إرفاق بالشخص، وليس هو الحكم الذي يجب أن يكون عليه العمل، وإنما أراد من الزبير أن يحسن إلى الجار بأن يحصل منه أي سقي ثم بعد ذلك يرسل إلى جاره.
قوله: [(اسق ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر)].
يعني: حتى يصل الماء إلى الجدران أو أسفل الجدار، بحيث تمتلئ المزرعة ويصل الماء إلى أسفل الجدار، الذي هو سور المزرعة أو سور البستان.
قوله: [(فقال الزبير: فوالله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65]].
يجوز أن يكون ذلك الشخص من المنافقين؛ لأن النفاق إنما هو في الأنصار، وليس في المهاجرين؛ لأن المهاجرين ليس فيهم نفاق، وإنما النفاق حصل في الأنصار؛ لأنه لما ظهر الإسلام وقويت شوكة المسلمين، وكان في المدينة من لم يصل الإيمان إلى قلوبهم، أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، فيجوز أن يكون هذا الشخص الذي قال هذا الكلام من المنافقين، ويجوز أن يكون من غير المنافقين، ولكنه حصل منه هذا الجفاء الذي هو في غاية السوء.
وكما هو معلوم أن النفاق إنما هو في الأنصار؛ لأن الإسلام ظهر في المدينة، فالذي عنده شر وعنده خبث أظهر الإيمان وأبطن الكفر؛ حتى يعيش مع الناس، وحتى يكون مع الناس وهو منطو على شر، وأما المهاجرون فليس فيهم منافق؛ لأن الإنسان الكافر من أهل مكة لا يحتاج أن يأتي إلى المدينة وعنده كفر، وإنما يبقى في مكة مع الكفار، ولكن المهاجرون خرجوا من أجل نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:8].
فالمهاجرون عندهم الهجرة والنصرة، ولهذا كانوا أفضل من الأنصار؛ لأن عندهم ما عند الأنصار وهو النصرة، وعندهم ما ليس عند الأنصار وهو الهجرة.(411/23)
تراجم رجال إسناد حديث مخاصمة رجل من الأنصار للزبير في شراج الحرة
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
هو هشام بن عبد الملك ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري مر ذكره.
[عن عروة].
هو عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن عبد الله بن الزبير حدثه].
عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابي ابن صحابي، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وهم: عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عن الجميع، وهؤلاء العبادلة الأربعة صحابة أبناء صحابة، وابن الزبير أول مولود ولد بعد الهجرة؛ لأنه ولد والناس في قباء قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم من قباء إلى المدينة، وحنكه النبي صلى الله عليه وسلم.(411/24)
شرح حديث: (أن رسول الله قضى في السيل المهزور أن يمسك حتى يبلغ الكعبين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن الوليد -يعني ابن كثير - عن أبي مالك بن ثعلبة عن أبيه ثعلبة بن أبي مالك: (أنه سمع كبراءهم يذكرون أن رجلاً من قريش كان له سهم في بني قريظة، فخاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مهزور يعني: السيل الذي يقتسمون ماءه، فقضى بينهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الماء إلى الكعبين لا يحبس الأعلى على الأسفل).
حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن حدثني أبي عبد الرحمن بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله: (أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قضى في السيل المهزور أن يمسك حتى يبلغ الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل)].
أورد أبو داود حديث ثعلبة بن أبي مالك عن كبرائهم، وهذا فيه إرسال، ولكن الحديث الثاني متصل، وهو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وكل منهما يشهد للآخر، وفيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تخاصموا في مهزور، وهو المسيل المشترك، جعل من كان في الأعلى يسقي الأول ثم يسقي من كان في الأسفل.
وفيهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بأنه يحبس الماء حتى يصل إلى الكعبين، أي إذا وقف الإنسان وكانت الأرض مستوية، ثم يوصله إلى جاره.
قوله: [(لا يحبس الأعلى على الأسف)] يعني: لا يحول بينه وبين الماء، وإنما يمسك حتى يصل إلى الكعبين ثم يرسله للأسفل.(411/25)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله قضى في السيل المهزور أن يمسك حتى يبلغ الكعبين)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو أسامة].
هو حماد بن أسامة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الوليد يعني ابن كثير].
الوليد بن كثير وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي مالك بن ثعلبة].
أبو مالك بن ثعلبة وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه ثعلبة بن أبي مالك].
ثعلبة بن أبي مالك وهو مختلف في صحبته، وقال العجلي: تابعي ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود وابن ماجة.
[أنه سمع كبراءهم].
فيه جهالة، لكن الحديث الذي بعده معلوم الاتصال، وممكن أن يكون كبراؤهم هم الصحابة.
[حدثنا أحمد بن عبدة].
هو أحمد بن عبدة الضبي ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن].
المغيرة بن عبد الرحمن صدوق يهم، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثني أبي عبد الرحمن بن الحارث].
عبد الرحمن بن الحارث وهو صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب].
عمرو بن شعيب وهو صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة، وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو شعيب بن محمد وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وجزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن جده].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(411/26)
شرح حديث: (اختصم إلى رسول الله رجلان في حريم نخلة فأمر بها فذرعت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمود بن خالد أن محمد بن عثمان حدثهم حدثنا عبد العزيز بن محمد عن أبي طوالة وعمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلان في حريم نخلة، في حديث أحدهما: فأمر بها فذرعت، فوجدت سبعة أذرع، وفي حديث الآخر: فوجدت خمسة أذرع، فقضى بذلك، قال عبد العزيز: فأمر بجريدة من جريدها فذرعت)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلين اختصما في حريم نخلة، الحريم: هو ما تستحقه النخلة من الأرض التي تكون حولها لصاحبها، بحيث يكون ما وراءها لا يملكه، فإذا كان له نخلة في أرض، فإنه لا يملك ما يشاء حول هذه النخلة، وإنما يملك ما يتخذ من الأرض تابعاً لها، وذلك بأن يكون على مقدار عسيبها وجريدها، بأن تؤخذ جريدة منها ثم تجعل في ساقها وتمتد إلى نهاية تلك الجريدة، فيكون ذلك الحد مستديراً من جميع الجهات، هذا هو حريم النخلة، أي: يكون تابعاً لها، والذي يملك النخل يملك هذه الأرض التي بهذا المقدار.(411/27)
تراجم رجال إسناد حديث: (اختصم إلى رسول الله رجلان في حريم نخلة فأمر بها فذرعت)
قوله: [حدثنا محمود بن خالد].
هو محمود بن خالد الدمشقي ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
[أن محمد بن عثمان].
هو محمد بن عثمان أبو الجماهر وهو ثقة، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثنا عبد العزيز بن محمد].
هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي طوالة].
هو عبد الله بن عبد الرحمن وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعمرو بن يحيى].
هو عمرو بن يحيى المازني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو يحيى بن عمارة المازني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد الخدري].
هو سعد بن مالك بن سنان الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور بكنيته ونسبته، كنيته أبو سعيد ونسبته الخدري، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(411/28)
الأسئلة(411/29)
الجمع بين قول أحد الرواة: (فذرعت فوجدت سبعة أذرع) وقول الآخر: (فوجدت خمسة أذرع)
السؤال
في حديث أبي سعيد الأخير قال أحدهما: (فأمر بها فذرعت فوجدت سبعة أذرع)، وقال الآخر: (فوجدت خمسة أذرع) فكيف الجمع بين القولين؟
الجواب
يحتمل أن يكون العسيب طويلاً وأنه يبلغ هذا، أو أنها هي نفسها النخلة ذرع ساقها، والسبعة أذرع هي بمقدار ثلاثة أمتار ونصف.(411/30)
وجه تقدير بعض العلماء لحريم النخلة على حسب طولها
السؤال
لماذا قدر بعض العلماء أن حريم النخلة يكون على حسب طولها؟
الجواب
هذا غير واضح؛ لأنها قد تكون غير باسقة (طويلة) وما يستفاد منها يسقط.(411/31)
وجه قياس حريم الأشجار على حريم النخلة
السؤال
هل يقاس حريم الأشجار الأخرى على حريم النخلة؟
الجواب
نعم، غير النخلة كذلك أيضاً لها حمى، ومعلوم أن أغصانها تنتشر يميناً ويساراً، فالذي يصل إليه الأغصان يعتبر حريماً لها.(411/32)
حكم الخروج من المسجد بعد الأذان
السؤال
بعض الإخوة يخرجون من المسجد بعد الأذان فهل من تنبيه؟
الجواب
الأولى للإنسان أن يخرج من الإشكال، وذلك بأن يخرج قبل الأذان إذا كان يريد أن يخرج من المسجد، وأما إذا كان الخروج لأمر ثم يرجع كالخروج للوضوء مثلاً فلا بأس.(411/33)
شرح سنن أبي داود [412]
إن العلم الشرعي فضله عظيم ومنزلته رفيعة، وقد جاء في فضله آيات وأحاديث كثيرة، ولو لم يكن من فضله إلا أنه طريق من طرق الجنة لكفى؛ لذلك يجب على المسلمين والمسلمات أن يتعلموا أمور دينهم الواجبة؛ حتى يعبدوا الله على علم وبصيرة.(412/1)
الحث على طلب العلم(412/2)
شرح حديث (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب العلم.
باب الحث على طلب العلم.
حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا عبد الله بن داود سمعت عاصم بن رجاء بن حيوة يحدث عن داود بن جميل عن كثير بن قيس أنه قال: كنت جالساً مع أبي الدرداء رضي الله عنه في مسجد دمشق، فجاءه رجل فقال: يا أبا الدرداء! إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ما جئت لحاجة، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: كتاب العلم، والعلم الذي يأتي مدحه والثناء عليه في الكتاب والسنة، وكذلك العلماء الذي يأتي الثناء عليهم في الكتاب والسنة، المقصود بذلك: العلم الشرعي، وعلماء الشريعة، والعلم الشرعي هو: علم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه سلف هذه الأمة، هذا هو العلم المحمود الممدوح الذي أُثني عليه وعلى أهله في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وقد بدأ أبو داود في هذا بباب الحث على طلب العلم، يعني: الترغيب فيه، وأورد فيه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وهو مشتمل على خمس جمل، وكل جملة من هذه الجمل الخمس تدل على فضل العلم الشرعي وفضل أهله.
أول هذه الجمل قوله: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة) وهذا فيه أن الجزاء من جنس العمل، فكما أن الإنسان سلك طريقاً للعلم فجزاؤه أنه يُسهل له طريق الجنة، والجزاء من جنس العمل، فالعمل هو: سلوك طريق يوصل إلى العلم، والجزاء هو: تسهيل وتيسير طريق يوصل إلى الجنة، فهذا يدل على فضل العلم، وأن شأنه عظيم، وفضله كبير، وأن من سلك الطريقة الموصلة إلى العلم فإنه يجازى على ذلك بأن ييسر له الطريق والسبيل التي توصله إلى الجنة، هذه هي الجملة الأولى من الجمل الخمس.
الجملة الثانية: (وإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم)، ووضع أجنحة الملائكة لطالب العلم قيل: هو كونها تتواضع له وتخضع، وتحرص على أن تحيط وتحضر تلك المجالس الخيرة الطيبة، فإن المجالس التي تحضرها الملائكة هي مجالس العلم.
وقيل: معنى وضع أجنحتها: أنها تنتهي من طيرانها وسيرها وتقف عنده، وتحضر ذلك المجلس الذي هو مجلس الذكر ومجلس العلم، وهذا يدل على فضل العلم، وفضل أهله، وفضل مجالس العلم.
الجملة الثالثة: (وإن العالم يستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء) وهذا شيء عظيم، فكون هذه المخلوقات الكثيرة العلوية والسفلية، السماء بما فيها من ملائكة، والأرض وما فيها من دواب وحيوانات في البر والبحر؛ كلها تستغفر لطالب العلم، هذا شيء عظيم! فهذا شأن العوالم الكثيرة والخلائق الكثيرة في السماوات وفي الأرض مع طالب العلم، حيث تستغفر له وتدعو له، وهذا شرف عظيم.
والسماء فيها ملائكة لا يحصيهم إلا الله عز وجل؛ فإن البيت المعمور -وهو في السماء السابعة محاذ للكعبة ولو سقط لسقط عليها- يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة، ومن دخله لا يعود إليه مرة أخرى، وهذا يدل على كثرتهم، وأنهم خلق كثير، وكل هؤلاء يستغفرون لطالب العلم، ويدعون لطالب العلم! فهذا شرف وفضل كبير من الله سبحانه وتعالى للمشتغل بعلم الشريعة علم الكتاب والسنة، علم (قال الله وقال رسوله وقال الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم).
وقيل: إن هذه الدواب تستغفر لطالب العلم؛ لأنه يشتغل بشيء يعود عليها نفعه، ويعود عليها فائدته؛ وذلك أن العلم الشرعي فيه الرفق بهذه الحيوانات وهذه الدواب، وكذلك الحث على الإنفاق عليها ممن يكون مالكاً لها، فيصل إليها نفع العالم ونفع طالب العلم؛ لأنه يظهر الشيء الذي يعم نفعه حتى يصل إلى هذه الدواب، وهذه المخلوقات.
الجملة الرابعة: (وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) يعني: كفضل القمر في وقت الإبدار الذي هو ليلة أربع عشرة، وخمس عشرة، والكواكب لها ضوء ولكنه ضعيف أمام ضوء القمر، فالفرق بين العالم والعابد أن العالم شأنه كشأن القمر، والعابد شأنه كشأن الكواكب، وذلك أن العابد نفعه مقصور عليه لا يتعداه إلى غيره، فالذي يصلي ويكثر من الصلاة فصلاته له، ولا أحد يشاركه في صلاته، لكن الذي يشتغل بالعلم ويتعلم ويعلم ويرشد ويوجه ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فعلمه له ولغيره، فالصلاة للمصلي وحده، والعلم لصاحب العلم ولغير صاحب العلم، فنفعه متعدٍ، فالصلاة أو العبادة نفعها قاصر على صاحبها؛ ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب.
الجملة الخامسة: (وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر) فشرف عظيم للعلماء أن يقال: إنهم ورثة الأنبياء، وأن يوصفوا بأنهم وارثو الأنبياء، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يورث عنهم المال، ولم يرسلوا لجمع المال، وتركه لأقاربهم الوارثين، بل المال لا يورث عنهم، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة).
إذاً: فميراثهم واسع ومبذول لكل أحد، وليس للأقارب دون غيرهم، ولا لأحد دون أحد، وإنما هو لكل أحد مبذول، ومن أراد أن يحصل العلم فالباب مفتوح، والطريق سالك، فما عليه إلا أن يقدم ويحرص على أن يحصل على نصيب من هذا الميراث الذي هو ميراث النبوة؛ ولهذا كان العلماء ورثة الأنبياء؛ لأن الأنبياء جاءوا بالعلم النافع، والعلماء هم الذين يرثونهم ويتلقون ذلك الميراث، ويحافظون عليه، ويعنون به، وينشرونه ويبذلونه ويعملون بما فيه، ويدعون الناس إلى العمل بما فيه، هذا هو شأن العلماء.
إذاً: فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس ميراثهم لأقاربهم، وإنما هو عام لكل أحد؛ لأن المال لا يورث عنهم، وإنما يورث عنهم العلم، ويورث عنهم الحق والهدى، هذا هو ميراثهم، وهو مبذول لكل أحد، وبابه مفتوح لكل أحد، ولا يختص به أحد دون أحد، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وانما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر).
والحاصل: أن هذا حديث عظيم اشتمل على خمس جمل كل واحدة منها تدل على فضل العلم وأهل العلم.(412/3)
تراجم رجال إسناد حديث (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة)
قوله: [حدثنا مسدد بن مسرهد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الله بن داود].
عبد الله بن داود الخريبي ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[سمعت عاصم بن رجاء بن حيوة].
عاصم بن رجاء بن حيوة صدوق يهم، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن داود بن جميل].
داود بن جميل ضعيف، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن كثير بن قيس].
كثير بن قيس ضعيف، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[قال: كنت جالساً مع أبي الدرداء] أبو الدرداء عويمر بن زيد رضي الله تعالى عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مشهور بكنيته أبي الدرداء، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(412/4)
طريق أخرى لحديث (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة) وتراجم رجالها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي حدثنا الوليد قال: لقيت شبيب بن شيبة فحدثني به عن عثمان بن أبي سودة عن أبي الدرداء.
يعني: عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وأحال على الأولى بقوله: بمعناه، أي: بمعنى اللفظ الأول، وبمعنى: الحديث الأول الذي جاء من الطريق الأولى.
قوله: [حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي].
محمد بن الوزير الدمشقي ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا الوليد].
الوليد هو ابن مسلم الدمشقي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: لقيت شبيب بن شيبة].
شبيب بن شيبة مجهول، وقيل: إن الصواب هو شعيب بن رزيق وهو صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود في القدر والترمذي.
[فحدثني به عن عثمان بن أبي سودة].
عثمان بن أبي سودة ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبي الدرداء].
أبو الدرداء رضي الله عنه تقدم ذكره.
الحديث في إسناده الأول رجلان مجهولان، وفي إسناده الثاني راو فيه كلام، والحديث حسنه الألباني، وقال: إن الطريق الثانية حسنة.
والحديث هذا شرحه الحافظ ابن رجب في جزء لطيف على طريقة الحافظ ابن رجب رحمه الله في الأجزاء الحديثية، حيث يروي فيها الآثار عن السلف من الصحابة ومن بعدهم، ومن الأجزاء الحديثية التي شرح فيها بعض الأحاديث هذا الحديث الذي هو حديث أبي الدرداء في طلب العلم، وبعض الجمل من هذا الحديث جاءت في أحاديث أخرى، فالجملة الأولى جاءت في حديث أبي هريرة الذي سيأتي وهو في صحيح مسلم، وكذلك بعض الجمل فيه جاءت متفرقة في بعض الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(412/5)
استغفار جميع الكائنات البحرية وغيرها لطالب العلم
وأما هل الحيتان هي التي تستغفر فقط أم جميع الكائنات التي في البحر؟ ف
الجواب
أن حيوانات البر والبحر والعوالم التي في السماء وهم الملائكة يستغفرون لطالب العلم؛ لقوله: (يستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء).(412/6)
سبب ذكر القمر دون الشمس
وأما سبب ذكر القمر مع أن الشمس أنفع للناس فهو أن القمر يهتدى به في الظلام، والنجوم يهتدى بها، ولكن الاهتداء بالنجوم هو دون الاهتداء بالقمر، وذكر القمر والنجوم لأنها هي التي تكون في الليل والناس يستفيدون منها في الظلام، وهذا يعني أن ظلمات الجهل تبدد بنور وضياء العلم.
وهذا فيه فضل العالم، ويدخل فيه فضل طالب العلم؛ لقوله: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم)، فطالب العلم مشتغل بالوصول إلى هذه الغاية، ولا شك أن له نصيباً من هذا الثواب والفضل.(412/7)
فضل الرحلة في طلب العلم
قوله: [عن كثير بن قيس أنه قال: كنت جالساً مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فجاءه رجل فقال: يا أبا الدرداء! إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه].
هذا يدل على فضل الرحلة في طلب العلم، وعلى أنهم كانوا يرتحلون ويتحملون المشاق في سبيل الحصول على حديث واحد، والسفر في ذلك الوقت شاق ومتعب؛ لأنهم كانوا يسافرون على الدواب وعلى الجمال، ويمكثون الأشهر والمدد الطويلة مع التعب والنصب والمشقة، فكانوا يرتحلون من أجل الحصول على حديث واحد يذكر لهم أنه عند أحد في بلد من البلدان؛ ولهذا كانت الرحلة في طلب الحديث معروفة مشهورة، وفي تراجم الرجال يقال: رحل إلى الشام وإلى العراق وإلى مصر وإلى الحجاز وإلى اليمن، وكل ذلك بعدما يأخذ حديث أهل بلده ويتعلم على من في بلده، ثم بعد ذلك يبحث عن المزيد فيرتحل إلى مختلف الأقطار، وقد تكون الرحلة في حديث واحد كما في هذا الحديث الذي هنا وفيه: أن رجلاً جاء من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشام من أجل حديث واحد بلغه أنه عند أبي الدرداء، وقد قيل: إن تحديث أبي الدرداء بهذا الحديث يحتمل أن يكون هذا الحديث هو الذي كان عنده، والذي كان يقصده الناس من أجله، ويحتمل أن يكون إنما أورده لبيان فضل الاشتغال بطلب العلم، والعناية به، والاهتمام به وتحمل المشاق في سبيل الوصول إليهِ، وكما هو معلوم العلم لا يحصل إلا بالتعب والنصب والمشقة، والعلماء السابقون الذين خلد الله ذكرهم، وبقي الثناء الجميل عليهم إنما كان ذلك نتيجة للجهود العظيمة التي بذلوها في سبيل تحصيل العلم وبذله ونشره، فحصل لهم ذلك الشرف بسبب التعب والنصب والمشقة.
والحاصل: أن هذا يدل على الرحلة في طلب الحديث، وأن الواحد كان يرحل من أجل الحديث الواحد.(412/8)
حكم تسمية مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة
وقوله: [إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم] قد يقول قائل: هل في هذا دلالة على أن تسميتها بالمدينة المنورة خطأ؟
و
الجواب
أن وصف المدينة بالمنورة إنما حصل في أزمان متأخرة، ومعناه: أنها نورت ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحصل الإشعاع والنور والضياء الذي انتشر وظهر منها، ومعلوم أن هذا شيء حادث، ولكن هذه التسمية إنما جاءت في زمن متأخر، وفي القرآن وفي السنة إنما يأتي ذكرها بلفظ المدينة، بدون وصف، يعني: أن الآيات من كتاب الله والأحاديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك في كلام المتقدمين إنما يأتي ذكرها بلفظ المدينة، والمدينة قيل: إنها علم بالغلبة؛ لأنه غلب على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كانت المدينة تطلق على المدن، فكل مدينة يقال لها: مدينة، أي: أن هناك مدناً وقرى، ولكن هذا اللفظ عند الإطلاق ينصرف إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يقول ابن مالك في الألفية في باب الإضافة: وقد يصير علماً بالغلبة مضاف أو مصحوب أل كالعقبة والعقبة مثل المدينة، ومثل الكتاب لـ سيبويه عند النحويين، فعندما يقال: الكتاب ينصرف إلى كتاب سيبويه، والمدينة تنصرف إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا عند الإطلاق؛ ولهذا في شرح هذا البيت من ألفية ابن مالك يقول ابن عقيل في شرحه: إن من الأعلام ما يكون علماً بغلبة الإطلاق مثل المدينة ومثل الكتاب؛ فإن لفظ المدينة إذا جاء ينصرف إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان عاماً في كل مدينة، لكنه عند الإطلاق ينصرف إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، والكتاب الذي هو كتاب سيبويه ينصرف إلى كتاب سيبويه، وإن كان الكتاب يطلق وينطبق على كل كتاب.
الحاصل: أن المعروف في نصوص الكتاب والسنة وكذلك في كلام المتقدمين أنهم يقولون: المدينة فقط، ثم جاء في أزمان بعد ذلك في القرن الثامن في كتب ابن كثير وكتب الحافظ ابن حجر أنهم يقولون: المدينة النبوية، وهذا موجود في فتح الباري في مواضع عديدة، وموجود في تفسير ابن كثير وموجود في البداية والنهاية لـ ابن كثير عندما يأتي ذكر المدينة يقول: المدينة النبوية، ثم في الأزمان المتأخرة قيل: المدينة المنورة، وعلى كل الأمر في ذلك واسع، لكن كونه لا يطلق عليها إلا المدينة المنورة، وإذا ذكرت بغير المنورة بأن قيل: المدينة فقط، أو قيل: المدينة النبوية يستنكر ذلك، فهذا أمر منكر، فكما ذكرت الأمر في ذلك واسع، فهي لا شك أنها المدينة النبوية، وهي المدينة، وهي مدينة منورة بالحق والهدى، وظهور النور والهدى كان من هذه المدينة؛ لأنه شع منها النور، وانطلق منها الهداة المصلحون إلى سائر أقطار الأرض، ولكن كونه يعتقد أو أنه ينكر على من لا يقول: المنورة، بأن يقول: المدينة فقط، أو يقول: مدينة الرسول، أو يقول: المدينة النبوية؛ فهذا الإنكار أمر منكر.
وأنا ذكرت في الفوائد المنتقاة من فتح الباري مواضع كثيرة في فتح الباري وفي تفسير ابن كثير والبداية والنهاية فيها وصف المدينة بالمدينة النبوية.(412/9)
رحلة العلماء لطلب العلو في الأسانيد
رحلة الرجل إلى أبي الدرداء يحتمل أن يكون الحديث كان لا يوجد إلا عند أبي الدرداء، ويحتمل أنه وجده نازلاً، ولكنه ذهب ليحصله عالياً، وقد كانوا يفعلون ذلك، يعني: أن الواحد منهم كان يحصل الحديث نازلاً، ثم يرتحل إلى الذي حدث به من حدثه، ويحصله رأساً، فيكون بذلك مساوياً للذي أخذ منه من قبل، والذي كان حصله عن طريقه نازلاً.(412/10)
شرح حديث (ما من رجل يسلك طريقاً يطلب فيه علماً إلا سهل الله له به طريق الجنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زائدة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من رجل يسلك طريقاً يطلب فيه علماً إلا سهل الله له به طريق الجنة، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة وهو يشتمل على جملتين: الجملة الأولى هي مثل الجملة الأولى في حديث أبي الدرداء وفيها: (ما من أحد يسلك طريقاً ليحصل به علماً إلا سلك الله به طريقاً إلى الجنة).
والجملة الثانية: (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
وحديث أبي هريرة هذا أخرجه مسلم في صحيحه مطولاً، وهو مشتمل على أمور أخرى غير هذين الأمرين، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) كل هذه الجمل موجودة في صحيح مسلم.
وقد أورد النووي رحمه الله هذا الحديث في الأربعين النووية؛ لأنه من جوامع كلم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث حديث عظيم، والحافظ ابن رجب ضمن كتابه جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم شرح هذا الحديث الذي هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وفيه جمل فيها أن الجزاء من جنس العمل، كقوله: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه بها كربة من كرب القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) وبالمناسبة فإن الذي يحصل لإخواننا المسلمين كالأفغانيين من الذهاب عن بلادهم ونزوحهم؛ بسبب الحرب التي حصلت في بلادهم، هم في حاجة إلى المساعدة وإلى الإعانة وإلى بذل ما يمكن إفادتهم به من المطاعم والملابس وما إلى ذلك، ويدخل هذا في قوله: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)، ولاشك أن إخواننا المساكين الذين يحصل لهم ما يحصل من الضرر، ويحصل لهم الهروب من مساكنهم ومن بلادهم، وينالهم ما ينالهم من النصب والمشقة، ويصيرون في العراء بدون مأوى وبدون طعام؛ هم بحاجة إلى مساعدة إخوانهم المسلمين الذين يمدون لهم يد العون.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) أي: أن العمل هو الذي يقرب إلى الله عز وجل، وهو الذي يرتفع الإنسان به درجةً عند الله عز وجل، وليست الأنساب هي التي تقدم وتقرب إلى الله عز وجل، ولكن النسب إذا وجد مع العمل الصالح فهذا شيء طيب، ولكن النسب بدون عمل صالح لا ينفع ولا يفيد، فمن بطأ به عمله على أن يصل إلى المنازل العالية والدرجات الرفيعة، وأن يكون من أهل الجنة، فليس نسبه هو الذي يسرع به إلى المنازل العالية، ويوصله إلى الدرجات الرفيعة عند الله عز وجل، وإنما العمل الصالح هو الذي يوصل إلى هذه المنازل، وإلى دخول الجنة، كما قال الشاعر: لعمرك ما الإنسان إلا بدينه فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب فقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب وهذان البيتان ذكرهما الحافظ ابن رجب في آخر شرح هذا الحديث من كتابه جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، فالتعويل هو على العمل الصالح وليس على الأنساب؛ ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] قال: (يا بني فلان! يا بني فلان! ثم قال: يا صفية عمة رسول الله! أنقذي نفسك من النار لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً).(412/11)
تراجم رجال إسناد حديث (ما من رجل يسلك طريقاً يطلب فيه علماً إلا سهل الله له به طريق الجنة)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زائدة].
زائدة بن قدامة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
أبو صالح هو ذكوان السمان، اسمه ذكوان ولقبه السمان، ويقال له: الزيات، قيل: لأنه كان يجلب الزيت والسمن فلقب بذلك، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(412/12)
رواية حديث أهل الكتاب(412/13)
شرح حديث (ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب رواية حديث أهل الكتاب.
حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري أخبرني ابن أبي نملة الأنصاري عن أبيه رضي الله عنه: (أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده رجل من اليهود مُرَّ بجنازة، فقال: يا محمد! هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أعلم، فقال اليهودي: إنها تتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالله ورسله، فإن كان باطلاً لم تصدقوه، وإن كان حقاً لم تكذبوه)].
أورد أبو داود باب رواية حديث أهل الكتاب، والمقصود من ذلك: أن أهل الكتاب عندما يحصل منهم كلام، ويحصل منهم أحاديث أو إخبار عن شيء موجود في شرائعهم فإنه يروى، ولكنه لا يعول عليه إلا إن جاء في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يؤيده، أما إذا وجد عندهم شيء لم يأت في الكتاب والسنة ما يؤيده، ولم يكن من الأمور الباطلة التي لا تليق برسل الله عز وجل فإنه لا يقبل ولا يرد، وإذا كان الذي يحدثون به ويروونه فيه نيل من أنبياء الله ورسوله، فإن هذا لا يجوز روايته ويجب إنكاره، واعتقاد أنه باطل، وما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يدل على إثباته فإنه يكون ثابتاً بدلالة الكتاب والسنة على ذلك، مثل قول الله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} [المائدة:45]، فهذه أحكام موجودة في التوراة، ونحن عرفنا أنها موجودة في التوراة المنزلة لمجيء القرآن من الله عز وجل بالإخبار بذلك، فالتوارة المنزلة فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف، وهذا عرفناه عن طريق الكتاب العزيز، وكذلك أيضاً ما يأتي عن طريق السنة نصدق به ونعلم أنه موجود في كتبهم؛ لحصول الإخبار به في السنة المطهرة.
وإذا لم يكن لا هذا ولا هذا وليس من الأمور الباطلة التي يجب إنكارها، وكان من الأمور التي لا بأس بها ولا مانع منها، ولكن لم تأت في الكتاب والسنة، وكان كلاماً جميلاً أو كلاماً حسناً؛ فموقفنا منه أننا لا نصدق ولا نكذب به، ونقول: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
إذاً: هذا هو الموقف مما يكون مع أهل الكتاب سواءً مما بأيدهم من كتب، أو مما يضيفونه إلى دينهم من كلام، أو حتى أيضاً ما يوجد في كتبنا من أخبار إسرائيلية لم تكن ثابتة عندنا واشتملت على كلام جميل، فنحن لا نصدق ولا نكذب، ونقول: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم؛ لأننا لو صدقنا مطلقاً فيمكن أن يكون باطلاً، فنكون قد صدقنا بباطل، وإن كذبنا مطلقاً فيمكن أن يكون حقاً فنكون قد كذبنا بحق، ولكن إذا لم نصدق ولم نكذب، ولكن قلنا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم فهذا هو الذي فيه السلامة وفيه العصمة والبعد عن الوقوع في شيء محذور.
وقد أورد أبو داود حديث أبي نملة وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل من اليهود مر بجنازة، فقال: يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أعلم، فقال اليهودي: إنها تتكلم).
يعني: أنه قاله عما عندهم في كتبهم، وعما عندهم في دياناتهم، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الله أعلم) ولعله صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم بما يجري في القبور وما يحصل في القبور من العذاب ومن الكلام ومن السؤال والجواب، وما إلى ذلك، فيحتمل أن يكون الأمر كذلك، ولكن الحديث غير صحيح؛ لأن فيه نملة بن أبي نملة وهو غير محتج به، ولكن الكلام الأخير الذي فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم) هذا ثابت في صحيح البخاري، بل قد جاء في صحيح البخاري في عدة مواضع، منها في كتاب التوحيد ومنها في كتاب الشهادات، وفي مواضع متعددة، وهذه هي الطريقة التي تسلك، فما يحصل من رواية الشيء أو ذكر شيء من أهل الكتاب وعن أهل الكتاب، فإنه يسلك فيه هذا المسلك: لا يُصدقون ولا يُكذبون، ولكن يقال: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم.(412/14)
تراجم رجال إسناد حديث (ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم)
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي].
أحمد بن محمد بن ثابت المروزي هو ابن شبويه، وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني ابن أبي نملة الأنصاري].
ابن أبي نملة هو نملة بن أبي نملة وهو مقبول أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
أبوه رضي الله عنه صحابي، أخرج له أبو داود.(412/15)
حكم الجلوس مع اليهود
إن قيل: هل في هذا الحديث دلالة على جواز الجلوس مع اليهود؟ ف
الجواب
أن اليهود في زمنه صلى الله عليه وسلم كانوا موجودين في المدينة، وكانوا يأكلون عنده، وكانوا يأتون إليه، ومعلوم أنهم إذا كانوا في بلاد المسلمين أو تحت حكم الإسلام، وجاءوا وحضروا لحاجاتهم ولأمورهم أو لأي شيء يقتضي ذلك، فإنه لا بأس بذلك.(412/16)
تكلم الجنازة
الجنازة تتكلم كما جاء في بعض الأحاديث أنها تقول: (قدموني قدموني)، وجاء أيضاً أنها تتكلم في القبر، وأنه يحصل منها كلام، وكل ذلك جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا الحديث الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم) إن ثبت فيكون محمولاً على أنه قبل أن ينزل عليه الوحي ببيان ذلك الذي جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تكلم الجنازة.(412/17)
شرح حديث زيد بن ثابت (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعلمت له كتاب يهود)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا ابن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة -يعني: ابن زيد بن ثابت - قال: قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتعلمت له كتاب يهود، وقال: إني والله! ما آمن يهود على كتابي، فتعلمته، فلم يمر بي إلا نصف شهر حتى حذقته، فكنت أكتب له إذا كتب، وأقرأ له إذا كتب إليه)].
أورد أبو داود حديث زيد بن ثابت في أمر النبي صلى الله عليه وسلم إياه أن يتعلم لغة اليهود حتى يقرأ الكتب التي تأتي بهذه اللغة، وكذلك حتى يكتب إليهم بلغتهم، فكان رضي الله عنه يقرأ ما يأتي ويكتب ما يراد إرساله، وحذقه وأتقنه في فترة وجيزة في مقدار نصف شهر، فرضي الله تعالى عنه وأرضاه.
وهذا الحديث يدل على جواز تعلم اللغة التي يحتاج إلى معرفتها من أجل أن يكتب بها من يحتاج إلى الكتابة في ذلك، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إلى ذلك، وقد أمر زيد بن ثابت بهذا، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بالسبب الذي جعله يأمر زيداً، وهو أنه لا يأمن اليهود؛ لا يأمنهم حين يكتبون ولا يأمنهم حين يقرءون؛ لأنهم قد يقرءون له شيئاً على غير الصواب، وقد يكتبون على غير الصواب، فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد رجلاً من أصحابه يتولى هذه المهمة.
ومناسبة الحديث للترجمة أنه يتعلق بروايات أهل الكتاب، وذلك الذي عند أهل الكتاب يمكن أن يعرف عن طريق الترجمة.(412/18)
تراجم رجال إسناد حديث زيد بن ثابت (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعلمت له كتاب يهود)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا ابن أبي الزناد].
أحمد بن يونس مر ذكره، وابن أبي الزناد هو عبد الرحمن بن أبي الزناد، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن، وعبد الرحمن بن أبي الزناد أبوه أبو الزناد، وكنيته أبو عبد الرحمن أي: أنه يكنى بابنه هذا الذي يروي عنه، وأبو الزناد ليس بكنية، ولكنه لقب على صيغة الكنية، وأبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خارجة يعني: ابن زيد بن ثابت].
خارجة بن زيد بن ثابت تابعي ثقة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال: قال زيد بن ثابت] زيد بن ثابت رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(412/19)
باب في كتاب العلم(412/20)
شرح حديث عبد الله بن عمرو (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كتاب العلم.
حدثنا مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حدثنا يحيى عن عبيد الله بن الأخنس عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟! فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال: اكتب، فو الذي نفسي بيده! ما يخرج منه إلا حق)].
أورد أبو داود باب في كتاب العلم.
يعني: كون العلم يكتب، والعلم لا شك أنه يكتب، والحاجة داعية إلى الكتابة؛ حتى لا يضيع العلم؛ لأنه إذا اعتمد على الحفظ فقد يذهب الحفاظ، ويذهب ما معهم، وقد ينسى الحافظ، ولكنه إذا دون اطمأن الناس إلى ضبط العلم وتقييده وعدم تعرضه للضياع.
وقد جاءت أحاديث تدل على كتابة العلم، وأحاديث تدل على عدم كتابة العلم، وقد جمع العلماء بين ما جاء في النهي عن كتابة العلم وما يدل على كتابة العلم بأن الأحاديث التي فيها النهي كانت متقدمة، ثم جاء الترخيص متأخراً، فدل على أن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بكتابة العلم.
وقيل: إنه كان ممنوعاً في أول الأمر حتى لا يختلط الحديث بالقرآن، ولئلا يلتبس غير القرآن بالقرآن، هذا هو السبب، وأما إذا كتب هذا مستقلاً وهذا مستقلاً ولم يختلط هذا بهذا، فإنه لا بأس به.
والحاصل: أنه جمع بين الأحاديث الواردة في عدم الكتابة والكتابة بما يدل على اعتبارها جميعاً، وأن المنع من الكتابة كان متقدماً، والإذن بالكتابة كان متأخراً.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو أنه قال: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟! فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأومأ بأصبعه إلى فيه -أي: إلى لسانه- فقال: اكتب، فو الذي نفسي بيده! ما يخرج منه إلا حق) والرسول صلى الله عليه وسلم معصوم فيما يبلغ عن الله عز وجل، وكل ما يصدر منه صلى الله عليه وسلم فإنه حق، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وقوله: (كنت أكتب أريد حفظه) يعني: كنت أكتب أريد حفظه بالكتابة، والحفظ حفظان: حفظ صدر وحفظ كتاب، أي: أن الحفظ يكون بالكتاب، ويكون بالصدر، والذي كان يريده هو الحفظ بالكتاب، ومعلوم أن الحفظ بالصدر يعرض له النسيان، وقد يحصل الموت لصاحبه فيذهب معه علمه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء)، والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يحفظون القرآن، ولما مات في قتال المرتدين عدد كبير من القراء، اقترح الصحابة على أبي بكر جمع القرآن؛ لئلا يضيع ويذهب بذهاب حملته، فتردد في فعل ذلك؛ لأنه لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه بعد ذلك استقر رأيه وأداه اجتهاده إلى قبول ذلك وإلى استحسانه، فجمع ما كان عند الصحابة في صحف، ثم في عهد عثمان رضي الله عنه جمع في مصحف واحد، وفرق على المدن، حتى يعتمد الناس عليه، وحتى لا يختلف الناس.
والحاصل: أن كتابة العلم ثابتة، ولو لم تكن الكتابة حاصلة ما وصلت هذه الأحاديث الكثيرة وهذا السنن بالتناقل وأخذ أشخاص عن أشخاص، لكن بهذه الكتابة وبهذا التدوين نفع الله عز وجل بهذه الكتابة وحفظ الله سنة نبيه صلى الله عليه وسلم بتدوينها وكتابتها.
ولهذا يقول ابن القيم: لو لم تحصل الكتابة لم يصل إلينا من العلم إلا الشيء اليسير، لكن الكتابة هي التي بها وصل إلينا ما وصل من هذه الأسفار وهذه المجلدات من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (فنهتني قريش) المقصود: رجال من قريش، والمقصود: المسلمون، وليس المقصود الكفار، فالذين نهوه هم مسلمون من الصحابة، لكنهم خشوا أن يكون هناك شيء يحصل وهو غير مقصود، فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن كل ما يصدر منه صلى الله عليه وسلم حق، وأنه إن حصل منه شيء في حال الغضب فهو حق، ولا يصدر منه إلا حق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، سواء في حال الرضا أو في حال الغضب.(412/21)
تراجم رجال إسناد حديث (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله)
قوله: [حدثنا مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة].
مسدد مر ذكره، وأبو بكر بن أبي شيبة هو عبد الله بن محمد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن الأخنس].
عبيد الله بن الأخنس صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث].
الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث ثقة، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن يوسف بن ماهك].
يوسف بن ماهك ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمرو].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(412/22)
شرح حديث (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا ألا نكتب شيئاً من حديثه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا نصر بن علي أخبرنا أبو أحمد حدثنا كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: دخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث، فأمر إنساناً يكتبه، فقال له زيد: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا ألا نكتب شيئاً من حديثه) فمحاه].
أورد أبو داود حديث زيد بن ثابت الذي فيه أنه كان عند معاوية فسأله معاوية -يعني: سأل زيداً - عن حديث، فأمر شخصاً أن يكتبه، فقال له زيد: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا ألا نكتب شيئاً من حديثه) فمحاه، أي: محاه معاوية، وهذا حصل في زمن متأخر، وقد عرف أن الكتابة مستقرة والكتابة حاصلة، ومعاوية كان يكتب وكان يُكتب إليه، وكان الأمر استقر على كتابة العلم، وكما هو معلوم كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بكتابة العلم، فهذا الحديث فيه شيء؛ ولهذا ضعفه الألباني؛ لأن فيه من هو متكلم فيه، وفي متنه نكارة من جهة أن العلم في زمن معاوية لا يكتب، وأنه يمحى الذي يكتب، وقد كان الصحابة يكتبون في حياته صلى الله عليه وسلم، كما جاء عن ابن عمرو أنه كان يكتب والنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اكتب فما يخرج منه إلا حق) فبالإضافة إلى الكلام الذي في إسناده فالمتن فيه نكارة من جهة أن معاوية محاه كما قال له زيد، ومعاوية كان يكتب، وكانت كتابة العلم بين الصحابة حاصلة وجارية، وكان يكتب بعضهم إلى بعض.(412/23)
تراجم رجال إسناد حديث (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا ألا نكتب شيئاً من حديثه)
قوله: [حدثنا نصر بن علي].
نصر بن علي بن نصر الجهضمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا أبو أحمد].
أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير أبو أحمد الزبيري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا كثير بن زيد].
كثير بن زيد صدوق يخطئ، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن المطلب بن عبد الله بن حنطب].
المطلب بن عبد الله بن حنطب صدوق كثير التدليس والإرسال، وحديثه أخرجه البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[قال: دخل زيد على معاوية].
زيد بن ثابت رضي الله عنه مر ذكره.(412/24)
شرح حديث (ما كنا نكتب غير التشهد والقرآن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو شهاب عن الحذاء عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (ما كنا نكتب غير التشهد والقرآن)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (ما كنا نكتب غير التشهد والقرآن) وهذا الحديث فيه ذكر كتابة الاثنين، وهو يخالف ما جاء من كونهم كانوا يكتبون، وأنه أذن لهم بالكتابة، وعلى هذا فالاقتصار على كتابة القرآن فقط ومعه التشهد فيه ما فيه، والألباني قال عن الحديث: إنه شاذ، يعني: ذكر التشهد والتنصيص عليه، وإنما كانوا يكتبون التشهد وغير التشهد.(412/25)
تراجم رجال إسناد حديث (ما كنا نكتب غير التشهد والقرآن)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو شهاب].
أبو شهاب هو عبد ربه بن نافع صدوق يهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن الحذاء].
الحذاء هو خالد بن مهران الحذاء ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي المتوكل الناجي].
أبو المتوكل الناجي هو علي بن داود وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري هو سعد بن مالك بن سنان الخدري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(412/26)
حديث (أكتبوا لأبي شاه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مؤمل قال: حدثنا الوليد ح وحدثنا العباس بن الوليد بن مزيد قال: أخبرني أبي عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: حدثنا أبو سلمة -يعني: ابن عبد الرحمن - قال: حدثني أبو هريرة رضي الله عنه قال: (لما فتحت مكة قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر الخطبة -خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم- قال: فقام رجل من أهل اليمن يقال له: أبو شاه فقال: يا رسول الله! اكتبوا لي؟ فقال: اكتبوا لـ أبي شاه)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتحت مكة خطب الناس، ولما فرغ من خطبته كان فيهم رجل من اليمن يقال له: أبو شاه، فقال: اكتبوا لي، -يعني: هذا الكلام الذي سمعه في هذه الخطبة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لـ أبي شاه) فدل هذا على كتابة العلم، وإذن الرسول صلى الله عليه وسلم في كتابة العلم، وأن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بكتابته.(412/27)
تراجم رجال إسناد حديث (اكتبوا لأبي شاه)
قوله: [حدثنا مؤمل].
مؤمل بن الفضل صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا الوليد].
الوليد هو ابن مسلم مر ذكره.
قوله: [ح وحدثنا العباس بن الوليد بن مزيد].
العباس بن الوليد بن مزيد صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[قال: أخبرني أبي].
أبوه ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن الأوزاعي].
الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن أبي كثير].
يحيى بن أبي كثير اليمامي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو سلمة يعني: ابن عبد الرحمن].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثني أبو هريرة].
أبو هريرة قد مر ذكره.(412/28)
أثر الأوزاعي في بيان ما هو الشيء الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته لأبي شاه، وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا علي بن سهل الرملي قال: حدثنا الوليد قال: قلت لـ أبي عمرو: ما يكتبوه؟ قال: الخطبة التي سمعها يومئذٍ منه].
هذا أثر مقطوع عن الأوزاعي أخبر فيه أن الذي طلب أبو شاه أن يكتب له، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالكتابة هي نفس الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، فإنه طلب أن تكتب له فأذن له، فهذا أثر من الأوزاعي يبين فيه أن الشيء الذي طلبه أبو شاه والذي أمر النبي بكتابته له إنما هو الخطبة.
قوله: [حدثنا علي بن سهل الرملي] علي بن سهل الرملي صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا الوليد قال: قلت لـ أبي عمرو] الوليد هو ابن مسلم وأبو عمرو هو الأوزاعي ذكر هنا بكنيته، وقبل ذلك ذكر بنسبته.(412/29)
شرح سنن أبي داود [413]
الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ليس كالكذب على آحاد الناس؛ لأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم تشريع، لذا كان الكذب عليه مغلظاً تغليظاً عظيماً، وجاء فيه وعيد شديد بالعذاب والنكال، فعلى العبد المسلم أن يعرف قدر نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يعرف خطر الكذب عليه، وأن يحذر ويحذر غيره، ويزجر من علمه واقعاً في ذلك.(413/1)
التشديد في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم(413/2)
شرح حديث (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التشديد في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
حدثنا عمرو بن عون أخبرنا خالد ح وحدثنا مسدد حدثنا خالد المعنى عن بيان بن بشر قال مسدد: أبو بشر عن وبرة بن عبد الرحمن عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه رضي الله عنه قال: قلت للزبير رضي الله عنه: ما يمنعك أن تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يحدث عنه أصحابه؟ فقال: أما والله! لقد كان لي منه وجه ومنزلة، ولكني سمعته يقول: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: باب في التشديد في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يعني: في بيان أن أمره خطير، وأنه عظيم، وذلك أن فيه إضافة شيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله، وتقويل له ما لم يقله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فالكذب عليه شيء عظيم، والكذب في حد ذاته مذموم وخطير، ولكنه إذا كان على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فإن الأمر في ذلك يكون في غاية الخطورة وفي غاية الشدة.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) وفي بعض الألفاظ أنه قال: (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار) يعني: بدون كلمة (متعمداً)، وذلك أن الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم يكون بالإخبار بخلاف الواقع، وقد يكون تعمداً، وقد يكون خطأً، ولا شك أن التعمد أمره خطير، وبدون التعمد الإنسان قد يكون معذوراً، ولكن الخطورة في كونه يتلقى عنه ذلك الشيء الذي أخطأ فيه، ثم يتداول، ثم يعمل به، فيكون الناس قد عملوا بخطأ حصل عن طريق ذلك الشخص، فمن هنا تكون الخطورة، ويكون الأمر ليس بالأمر الهين حتى ولو كان مع الخطأ، وهذا هو الذي جعل الزبير رضي الله عنه يتوقى؛ وهو لا يتعمد الكذب، وإنما خشي أنه مع الإكثار قد يحصل منه الخطأ، فيتحمل عنه الخطأ، ويتلقى منه ذلك الخطأ، وحتى لو تداركه فقد يذهب أناس بما حدث به، ولا يعلمون بالتدارك، فيعملون بهذا الذي جاء عنه وهو خطأ منه، فمن هنا كان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقون من الإكثار من الرواية؛ خشية أن يخطئوا، ومن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من أكثر من الرواية كالسبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله الأنصاري وعائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عن الجميع، فإن هؤلاء السبعة مكثرون من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أكثر منهم حصل ذلك منه بناءً على ضبطه، وعلى اطمئنانه إلى ما يحدث به، وأيضاً كون أعمار الذين كثر منهم الحديث طالت فكثر الأخذ عنهم، وكثر التلقي عنهم، فصار لهم التميز على غيرهم في كثرة الرواية.
والحاصل: أن من الصحابة من كان يتوقى الإكثار من الحديث خشية أن يحصل منه الخطأ الذي هو غير مقصود، فيترتب على ذلك أن يأخذه غيره، ويعمل به وهو خطأ.
وقوله: [عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: قلت للزبير: ما يمنعك أن تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث عنه أصحابه؟].
يعني: أصحابه الذين عرف عنهم الإكثار، وإلا فمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان مقلاً من الراوية، ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يتفاوتون في كثرة المكث مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي قلة ذلك، وفيهم الذي لم يلقه إلا مرةً واحدة أو مرتين أو أكثر، وفيهم الذي تلقى منه حديثاً أو حديثين، ولكن من الصحابة من كان ملازماً له، فكثرت روايته، بل إن من الذين لازموه -وهم معروفون بملازمته- من قلت روايتهم، ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لازموه، ولكن المدة التي حصلت الملازمة فيها كانت قليلة ومع ذلك كانت روايته كثيرة.
فالحاصل: أن ابن الزبير سأل أباه الزبير رضي الله عن الجميع: ما يمنعك أن تحدث كما يحدث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أي: بعضهم الذين عرفوا بكثرة التحديث، فقال: (لقد كان لي منه وجه ومنزلة) يعني: لي مكانة عنده، فهو من السابقين الأولين، وهو من العشرة المبشرين بالجنة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهو ابن صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قريبه، وكذلك أيضاً زوجته أسماء هي أخت عائشة، وهما ابنتا أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فهناك صلة وثيقة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم من جهة النسب ومن جهة المصاهرة، وإنما الذي منعه من التحديث هو الحديث الذي بلغه، وأنه خشي أن يحصل منه الخطأ في التبليغ عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.(413/3)
تراجم رجال إسناد حديث (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)
قوله: [حدثنا عمرو بن عون].
عمرو بن عون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا خالد].
خالد هو ابن عبد الله الطحان الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا مسدد].
(ح) للتحول من إسناد إلى إسناد، ومسدد هو ابن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا خالد المعنى عن بيان بن بشر].
يعني: أن الرواية في هاتين الطريقتين متفقة من حيث المعنى، وبيان بن بشر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال مسدد: أبو بشر].
يعني: أن الشيخ الأول الذي هو عمرو بن عون قال: بيان بن بشر، وأما مسدد فقال: أبو بشر، وهو بيان بن بشر أبو بشر؛ لأن كنيته وافقت اسم أبيه، فهو أبو بشر، وأبوه اسمه بشر، وهذا يحصل في عدد كبير من الرواة؛ حيث تجد الراوي توافق كنيته اسم أبيه، والعلماء يعتبرون هذا نوعاً من أنواع علوم الحديث، ويقولون: هذا من الأمور المهمة التي ينبغي أن تعرف، وفائدة ذلك: ألا يظن التصحيف بين كلمة ابن وأبيه، فالذي يعرف أنه بيان بن بشر لو جاء في الإسناد عن بيان أبي بشر يعرف أنه واحد، لكن الذي لا يعرف أن كنيته أبو بشر يظن أن (ابن) تصحفت إلى (أبي)، فإذا جاء بيان بن بشر فهو صحيح، وإن جاء بيان أبي بشر فهو صحيح.
والحاصل: أن أحد الطريقين إلى بيان بن بشر وهي الطريق الأولى طريق عمرو بن عون فيها أنه قال: بيان بن بشر، وأما مسدد الذي هو الشيخ الثاني فذكره بالكنية فقط ولم يذكر اسمه، ولا اسم أبيه.
[عن وبرة بن عبد الرحمن].
وبرة بن عبد الرحمن ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن عامر بن عبد الله بن الزبير].
عامر بن عبد الله بن الزبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، أي: الذين اشتهروا بهذا اللقب، وهم من صغار الصحابة، وهم: عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عباس بن عبد المطلب، وهم صحابة أبناء صحابة رضي الله تعالى عن الجميع.
وعبد الله بن الزبير رضي الله عنه هو أول مولود ولد بعد الهجرة؛ لأنه ولد والناس في قباء قبل أن يصلوا إلى المدينة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول ما وصلوا المدينة مكثوا في قباء أياماً، وفي هذه الأيام بنى النبي صلى الله عليه وسلم مسجد قباء، ثم انتقل من قباء إلى المدينة، وكان ابن الزبير ولد في قباء أول ما وصلوا إلى المدينة، وأول ما جاءوا مهاجرين، فحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[قال: قلت للزبير].
الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه، وهو الصحابي الجليل أحد السابقين الأولين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة الذين بشرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة في حديث واحد وقال: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة) عشرة أشخاص سردهم، كل واحد في جملة مكونة من مبتدأ وخبر، فلان في الجنة، وفلان في الجنة، وفلان في الجنة، وفلان في الجنة حتى سرد هؤلاء العشرة؛ وقد جاءت الشهادة بالجنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشخاص آخرين في مناسبات مختلفة، ولكن هؤلاء اشتهروا بهذا اللقب؛ لأنهم جمعوا في حديث واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
واستعمل أبو داود (ح) التحويل ولم يعطف الشيخ الثاني على الأول؛ لأن الفرق في حدثنا وأخبرنا؛ لأن الرواية بين عمرو بن عون وبين خالد كانت بلفظ: أخبرنا، والرواية بين مسدد وخالد بلفظ: حدثنا، فمن أجل التفاوت والتفريق بين لفظي: حدثنا وأخبرنا أتى بـ (ح) التحويل.(413/4)
كيفية مخاطبة الأب
وقول عبد الله بن الزبير: (قلت للزبير) ليس فيه دلالة على مناداة الأب باسمه، وإنما فيه أنه أخبر عن قوله: قلت للزبير كذا وكذا، ومعلوم أن منادة الوالد بالأبوة هو الأدب وهو الذي ينبغي، ومعلوم أن الرواية قد تكون جاءت بالمعنى، وأنه ليس الأمر أنه كان خاطبه بهذا اللفظ، ومعلوم أن الأدب مع الوالد أن يقال: يا أبت، أو يا أبي، وألا يخاطبه باسمه يا فلان، وإنما يخاطبه بالصلة التي تربط بينه وبينه وهي الأبوة، فيقول: يا أبت، أو يا أبي.(413/5)
الحكم على لفظة (متعمداً)
ولفظة: (متعمداً) محفوظة في حديث الزبير، ولكن المشهور أنها ليست موجودة فيه؛ ولهذا الزبير رضي الله عنه ما كان يخاف من التعمد، وإنما كان خوفه من الخطأ؛ لأنه لو كانت القضية قضية تعمد فإنه كان سيسلم؛ لأنه لن يتعمد، ولكن الشيء الذي لا تؤمن السلامة منه هو الخطأ الذي هو غير مقصود.
فإذاً: حال الزبير وشأن الزبير يدل على أن اللفظ الذي هو مناسب حال الزبير أن يكون بدون (متعمداً)؛ لأن كلمة: (متعمداً) هذه يمكن أن الإنسان يتحرز منها، فلا يتعمد الكذب، ولكن الذي لا يمكن التحرز منه هو أن يخطئ؛ بسبب نسيان أو عدم ضبط، أو ما إلى ذلك، فيكون خطأً غير مقصود.(413/6)
الكلام في كتاب الله بغير علم(413/7)
شرح حديث (من قال في كتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الكلام في كتاب الله بغير علم.
حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى حدثنا يعقوب بن إسحاق المقرئ الحضرمي حدثنا سهيل بن مهران أخي حزم القطعي حدثنا أبو عمران عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال في كتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ)].
أورد أبو داود هذه الترجمة باب الكلام في كتاب الله عز وجل بغير علم، يعني: كونه يتكلم في معانيه بغير علم، يعني: برأيه دون أن يكون راجعاً في ذلك إلى كلام الصحابة وكلام التابعين، وكلام أئمة اللغة في بيان المعاني من حيث اللغة العربية، فإن الإنسان إذا تكلم برأيه دون أن يكون بانياً تكلمه على أساس من معرفة تفسير القرآن بالقرآن وتفسيره بالحديث، وبأقوال الصحابة والتابعين وبمعرفة اللغة، وبمقاصد الكلام، والعربية وما إلى ذلك؛ فإنه يكون بذلك متكلماً برأيه، ويكون آثماً، وحتى لو أصاب فإنه يكون مخطئاً؛ لأن إصابته مع عدم العلم بمثابة الرمية من غير رامٍ، فإن الإنسان الذي يطلق الرمية فتصيد صيداً غير مقصود، يقال لهذه الرمية: رمية من غير رامٍ، ويشبه هذا ما سبق أن مر في أول كتاب القضاء أن القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار، وأحد الاثنين هو الذي قضى بجهل، يعني: أن قضاءه كان بجهل وليس بعلم، ومن كان كذلك فإنه يكون آثماً ولو أصاب؛ لأن إصابته للحق جاءت اتفاقاً ولم تكن قصداً، على حد قول القائل: رمية من غير رامٍ.
وأورد أبو داود حديث جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ) يعني: أنه حتى ولو أصاب فإنه يعتبر مخطئاً، وإذا كان مخطئاً فالأمر أشد وأعظم، يعني: أنه إذا أصاب فالأمر أخف، ولكنه آثم؛ لأن هذه الإصابة جاءت اتفاقاً، وإن كان خطأً فالأمر أخطر وأشد.(413/8)
تراجم رجال إسناد حديث (من قال في كتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى].
عبد الله بن محمد بن يحيى ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا يعقوب بن إسحاق المقرئ الحضرمي].
يعقوب بن إسحاق المقرئ الحضرمي صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا سهيل بن مهران].
سهيل بن مهران ضعيف، أخرج له أصحاب السنن.
[حدثنا أبو عمران].
أبو عمران الجوني عبد الملك بن حبيب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جندب].
جندب بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث في إسناده ذلك الرجل الضعيف، فالحديث غير صحيح، ولكن معناه صحيح؛ لأن الكلام بغير علم حذر الله عز وجل منه فقال: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، فالكلام في تفسير كلام الله على غير هدى وعلى غير بينة هو كلام بغير علم، وهو مذموم.
وقوله: [حدثنا سهيل بن مهران أخي حزم القطعي] يعني: أنه أحياناً يقال له: ابن أبي حزم؛ لأن كنية أبيه أبو حزم وحزم أخوه، فأحياناً يقال له: ابن أبي حزم، وأحياناً يقال له: أخو حزم، فكأن حزماً هذا مشهور، ولذا يذكر أبوه مكنىً به، ويذكر أخوه منسوباً إليه، فكلمة: أخو حزم وابن أبي حزم كلها بمعنىً واحد؛ لأن حزماً هو الأخ الذي يكنى به أبوه.(413/9)
حكم تفسير الآيات في الامتحانات بالرأي
في بعض الامتحانات يُسأل الطلاب عن تفسير آية، فبعض الطلاب يجيب برأيه؛ لأجل الحصول على الدرجة، وحكم هذا: أنه لا يجوز؛ إذ لا يجوز الكلام إلا بعلم، فإذا لم يكن هناك علم فليسكت.(413/10)
حكم الأخذ بالتفاسير التي عنيت بالرأي
فإن قيل: هل في هذا دليل على عدم الأخذ بالتفاسير التي عنيت بالتفسير بالرأي كتفسير الرازي والبيضاوي؟ ف
الجواب
لا شك أن هذا يفيد أن الكتب التي بنيت على الرأي يستغنى عنها بالكتب التي كتبت بناءً على الأثر، أو لم تذكر الآثار وتعزا إلى أصحابها لكن الكلام خلاصته هو ما جاء في الأثر، وهذا لا بأس به، وإنما المحذور هو أن يتكلم الإنسان من عند نفسه وهو ليس عنده العلم الذي يمكنه من الكلام.(413/11)
حكم محاولة تفسير الآيات للاختبار
وأما الذي يحاول تفسير آية عند عالم، فيصحح له الخطأ، فإن الذي ينبغي أنه إذا كان يحاول أن يفسر ويرجع إلى كلام أهل العلم، ويأتي بكلام أهل العلم، ويعرض ما يكتبه عليه فلا بأس بذلك، أما أن يكون لا يرجع إلى كلام أهل العلم، ثم يتكلم من عنده وهو ليس عنده قدرة فهذا خطأ.
وأما أن يطرح سؤالاً على مجموعة من الشباب، وكل يجيب برأيه، ثم بعد ذلك يفتيهم ويبين لهم فلا يصلح أن كل واحد يقول برأيه، بل الإنسان الذي ليس عنده علم يسكت.(413/12)
أنواع التفسير
هناك من يقول: إن أغلب الآيات معناها واضح؛ لأننا عرب ونعرف ما نقرأ، وأقول: إن الشيء الواضح لا يحتاج إلى تفسير، ولا يحتاج إلى بيان، وكما قال ابن عباس: التفسير على أوجه متعددة: منها كلام تعرفه العرب بلغاتها، يعني: أي إنسان يفهم معناه؛ لأنه يستوي فيه الناس، وشيء لا يعرفه إلا الراسخون في العلم، فمثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107] هذا كلام مفهوم، وكل يعرف أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يكونون في الجنة.
لكن مثل الآيات التي فيها خفاء كقوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة:106] التي قال بعض أهل العلم: إن هذه الآية من أخفى ما في القرآن من حيث الحكم، ومن حيث المعنى، ومن حيث الإعراب، ومن حيث السياق؛ فمثل هذا لا يعرفه إلا الراسخون في العلم.(413/13)
شرح سنن أبي داود [414]
من الأمور المهمة للعالم وطالب العلم إتقان حفظ العلم والحديث؛ فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالنضرة لمن أتقن حفظ الحديث وبلغه كما سمعه، فعلى طالب العلم أن يحرص على حفظ الحديث، ولا يكون ذلك إلا بتكراره ودوام مراجعته، كما يجب على العالم وطالب العلم دعوة الناس إلى الحق والهدى بهذا العلم؛ فإن في ذلك أجراً عظيماً وثواباً جزيلاً.(414/1)
تكرير الحديث(414/2)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حدث حديثاً أعاده ثلاث مرات)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب تكرير الحديث.
حدثنا عمرو بن مرزوق أخبرنا شعبة عن أبي عقيل هاشم بن بلال عن سابق بن ناجية عن أبي سلام عن رجل خدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا حدث حديثاً أعاده ثلاث مرات)].
أورد أبو داود (باب تكرير الحديث) يعني: كونه يأتي به أكثر من مرة، كأن يأتي به مرتين أو ثلاث مرات وأكثر، هذا هو التكرار، والرسول صلى الله عليه وسلم ليس من عادته أن يكرر كل حديث، وأحياناً قد يكرر الحديث؛ ولهذا يأتي في بعض الروايات: قالها مرتين أو ثلاثاً، أو أعادها مرتين، وهذا يدل على أن التكرار إنما هو في بعض الأحيان وليس دائماً، فالأحاديث الطويلة التي تأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يكررها، ولا يأتي بها في المجلس الواحد عدة مرات، ولو كانت الأحاديث تكرر كلها ما كان هناك فائدة لأن يقول الراوي في بعض الأحاديث: أعادها مرة أو مرتين؛ لأنه يكون هذا هو الشأن لو كان الأمر كذلك، أي: أن الشأن أن كل حديث طال أو قصر يكرر، ويؤتى به أكثر من مرة، وليس الأمر كذلك، وإنما هذا يحصل في بعض الأحيان، والحديث الذي هنا فيه: أنه كان إذا حدث حديثاً أعاده ثلاثاً، ولكنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففيه ضعف، ولكن التفصيل هو ما ذكره بعض أهل العلم أنه كان يحصل ذلك في بعض الأحيان.(414/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حدث حديثاً أعاده ثلاث مرات)
قوله: [حدثنا عمرو بن مرزوق].
عمرو بن مرزوق ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود.
[أخبرنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عقيل هاشم بن بلال].
أبو عقيل هاشم بن بلال ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن سابق بن ناجية].
سابق بن ناجية مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي سلام].
أبو سلام ممطور الحبشي وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن رجل خدم النبي صلى الله عليه وسلم].
هذا رجل مبهم، ومعلوم أن الإبهام في الصحابة لا يؤثر؛ لأن المجهول فيهم في حكم المعلوم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.(414/4)
سرد الحديث(414/5)
شرح حديث: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدث الحديث لو شاء العاد أن يحصيه أحصاه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في سرد الحديث.
حدثنا محمد بن منصور الطوسي حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة قال: جلس أبو هريرة رضي الله عنه إلى جنب حجرة عائشة رضي الله عنها وهي تصلي، فجعل يقول: اسمعي يا ربة الحجرة مرتين! فلما قضت صلاتها قالت: (ألا تعجب إلى هذا وحديثه! إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدث الحديث لو شاء العاد أن يحصيه أحصاه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في سرد الحديث.
يعني: الإتيان به متتابعاً بسرعة، هذا هو السرد: أن يؤتى بالحديث بسرعة، يعني: أن الكلام يكون متتابعاً والرسول صلى الله عليه وسلم كان يأتي به متأنياً، كما جاء عن عائشة في هذا الحديث أنه كان يأتي بالحديث لو شاء العاد أن يحصيه لأحصاه.
يعني: أنه كان يأتي به متأنياً صلوات الله وسلامه عليه وليس مسروداً، وعائشة رضي الله عنها وأرضاها في هذا الحديث لما جاء أبو هريرة وجلس عند حجرتها وكان يسرد الحديث قالت: (ألا تعجب إلى هذا وحديثه) يعني: في سرده وسرعة سرده، ثم قالت: (إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليحدث الحديث لو شاء العاد أن يحصيه أحصاه) يعني: أن كلامه لم يكن مسروداً وإنما فيه تأنٍ.
قوله: [(جلس أبو هريرة إلى جنب حجرة عائشة رضي الله عنها وهي تصلي فجعل يقول: اسمعي يا ربة الحجرة! مرتين)] الذي يبدو أن المراد أنه جاء لحاجة، وليس المقصود أنه جاء ليحدث عند حجرتها، ولكن يمكن أنه جاء لحاجة وجعل ينتظرها وهي تصلي، ثم لعله كان يأتي إليه ناس ويحدثهم عند حجرتها فكان يسرد الحديث فأنكرت هذا عليه.
وليس في الحديث ذم من عائشة لـ أبي هريرة رضي الله عنهما، وإنما فيه بيان أن فعله خلاف الأولى.(414/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدث الحديث لو شاء العاد أن يحصيه أحصاه)
قوله: [حدثنا محمد بن منصور الطوسي].
محمد بن منصور الطوسي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا سفيان بن عيينة].
سفيان بن عيينة المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: جلس أبو هريرة إلى جنب حجرة عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها الصديقة بنت الصديق وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(414/7)
شرح حديث: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث مثل سردكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدثه أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: (ألا يعجبك أبو هريرة؟ جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسمعني ذلك، وكنت أسبح، فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يسرد الحديث مثل سردكم)].
أورد أبو داود حديث عائشة من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، وفيه بيان أنها كانت تسبح، يعني: تصلي، والسبحة هي: الصلاة، ثم إنه قام قبل أن تنتهي من صلاتها، ولو أنها أدركته لبينت له أن فعله خلاف الأولى.(414/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث مثل سردكم)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
سليمان بن داود المهري المصري ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا ابن وهب].
ابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس].
يونس بن يزيد الأيلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير عائشة].
ابن شهاب وعروة وعائشة قد مر ذكرهم في الطريق الأولى.(414/9)
التوقي في الفتيا(414/10)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغلوطات)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب التوقي في الفتيا.
حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا عيسى عن الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن الصنابحي عن معاوية رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن الغلوطات)].
أورد أبو داود باب التوقي في الفتيا، والمقصود بالتوقي: التأني والتثبت وعدم التسرع في الفتوى، وإنما يكون هناك حذر وخوف من الزلل ومن الخطأ، ولا بد أن تكون الفتوى مبنية على تأمل وعلى معرفة الأخبار، فمن حصل له أمر من الأمور فإنه يحتاج إلى معرفة حكمه فإن ذلك المسئول عنه يتوقف عن الفتوى حتى يستفصل بحيث يكون جوابه مبنياً على علم، ثم أيضاً الأسئلة والاستفتاءات المناسب أن تكون مبنية على وقوع الشيء وأن الإنسان بحاجة إلى معرفة الحكم ليطبق حكم الله وليؤدي ما هو واجب عليه في ذلك الأمر الذي حدث له والأمر الذي وقع له، وأن يريد معرفة حكمه.
وأورد أبو داود حديث معاوية رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغلوطات) وفسرت الغلوطات بأنها دقاق المسائل، وقد يكون السؤال تعنتاً وقد يكون من أجل أن يحصل من المسئول شيء يعاب عليه، وأن يحصل منه جواب غير سديد فيكون ذلك سبباً في مذمته والنيل منه، فالأسئلة لا بد أن تكون في أمور واقعة، أو في أمور يحتاج الناس إليها، أما الافتراضات والأشياء التي لا تقع والسؤال عنها لو وقعت وكان كذا وكذا فما الحكم؟ وهي واقعة الندور أو ما إلى ذلك؛ فهذه هي التي عنيت بهذا الحديث.
والحديث ضعيف؛ لأن في إسناده من هو متكلم فيه.
ولكن معناه صحيح من ناحية أنه منهي عن السؤال تكلفاً، ومن الأشياء التي فيها تكلف وسئل عنها صلى الله عليه وسلم وغضب ما جاء في قصة الرجل الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا.
فقال: الرجل أفي كل عام يا رسول الله؟!) يعني: هل يجب علينا أن نحج كل سنة؟ وهذا صعب إذ كيف يستطيع الناس أن يحجوا كل سنة؟ والآن الناس يأتي منهم عدد قليل من كل بلد فتمتلئ الأرض، فكيف لو كان الناس كلهم يحجون وكل من كان قادراً يجب عليه أن يأتي كل عام؟! فهذا فيه صعوبة وفيه مشقة وفيه مضرة، فإن الحج الواجب هو مرة وما زاد فهو تطوع، ومثل هذا السؤال هو من الأسئلة التي لا يسأل عنها، وقد جاء في القرآن قول الله عز وجل: (لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101].(414/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغلوطات)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي].
إبراهيم بن موسى الرازي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عيسى].
عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأوزاعي].
عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن سعد].
عبد الله بن سعد مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن الصنابحي].
الصنابحي هو عبد الرحمن بن عسيلة وهو تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقد رحل من اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما كان في الجحفة في طريقه إلى المدينة، جاء ركب من المدينة وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم توفي، فوصل إلى المدينة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أيام، وهي مدة المسافة بين الجحفة وبين المدينة، ولهذا قال بعض العلماء: كاد أن يكون صحابياً، أي: أنه لم يبق بينه وبين الصحبة إلا شيء يسير، فهو جاء يريد أن يلقى الرسول صلى الله عليه وسلم ويتشرف بصحبته، ولكنه وصل المدينة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بخمسة أيام.
[عن معاوية].
معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(414/12)
شرح حديث: (من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا أبو عبد الرحمن المقري حدثنا سعيد -يعني: ابن أبي أيوب - عن بكر بن عمرو عن مسلم بن يسار أبي عثمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أفتي) ح وحدثنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب حدثني يحيى بن أيوب عن بكر بن عمرو عن عمرو بن أبي نعيمة عن أبي عثمان الطنبذي رضيع عبد الملك بن مروان قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: (من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه) زاد سليمان المهري في حديثه: (ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه) وهذا لفظ سليمان.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة مرفوعاً: (من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه) يعني: إذا كانت الفتوى بجهل فالمفتي آثم، والذي عمل بها على خلاف الصواب يتحمل الذي أفتى إثمه؛ لأنه هو المتسبب في كونه عمل عملاً على خلاف السنة وعمل عملاً ليس وفق ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه) يعني: أنه عارف المصلحة للمسترشد والمستشير ولكنه خانه ودله على شيء خلاف المصلحة، فإذا سأله عن أمر ويعلم أن الرشد للمستشير في شيء ولكنه حاد وأشار عليه بشيء ليس برشد فإنه يكون خائناً في ذلك.
فالمستفتي أو الذي يعمل بخلاف الصواب إذا علم بأن هذه الفتوى غير صحيحة فلا شك أنه آثم، وإذا كان يعلم أن هذا المستفتي غير عالم فإنه مقصر ويكون آثماً، وأما إذا كان الذي سأله عالم وذلك العالم أخطأ فذلك العالم المجتهد غير آثم وهذا المستفتي أيضاً غير آثم، لأنه فعل ما يستطيع.
والحديث حسنه الألباني في موضع، وضعفه في موضع آخر، وفيه مسلم بن يسار وهو مجهول الحال، والحافظ قال عنه: مقبول، والألباني حسنه في السنن ولكنه ضعفه في صفة الفتوى وقال: إن راويه مجهول الحال.
والذي يبدو أن التضعيف أولى، لكنه كما هو معلوم الاستفتاء فيه تفصيل؛ لأنه إذا كانت الفتوى مبنية على غير علم ولفظ الحديث: (بغير علم) فلا شك أن هذا هو المذموم، أما إذا كانت الفتوى مبنية على علم وقد أخطأ المفتي فإنه لا يأثم، وكذلك المستفتي لا يأثم، لأن هذا هو الذي استطاع أن يفعله، يعني: أنه رجع إلى أهل العلم وأخذ بما أفتوه به، لكنه إذا كان المفتي غير عالم والمستفتي يعلم بأنه غير عالم فكلهم شركاء في الإثم.(414/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه)
قوله: [الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا أبو عبد الرحمن المقري].
أبو عبد الرحمن المقري هو عبد الله بن يزيد المقري المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهذا أحد العبادلة الذين يروون عن ابن لهيعة وتكون روايتهم عن ابن لهيعة صحيحة؛ لأنهم سمعوا منه قبل الاختلاط على قول من يقول: إن رواية العبادلة عنه مستقيمة، والعبادلة هم: عبد الله بن يزيد المقري المكي وعبد الله بن المبارك المروزي وعبد الله بن مسلمة القعنبي وعبد الله بن وهب.
[حدثنا سعيد يعني: ابن أبي أيوب].
سعيد بن أبي أيوب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بكر بن عمرو].
بكر بن عمرو المعافري المصري صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة فأخرج له في التفسير.
[عن مسلم بن يسار أبي عثمان].
مسلم بن يسار قال عنه الحافظ: مقبول، وهو مجهول الحال؛ لأنه روى عنه جماعة ولكن لم يوثقه إلا ابن حبان، وهو معروف بالتساهل، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة عبد السلام بن أبي الجنوب في تقريب التهذيب قال: ولا يغتر بتوثيق ابن حبان له فقد ذكره في الضعفاء، أي: أنه ذكره في الثقات وذكره في الضعفاء.
ومسلم بن يسار هذا مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم في المقدمة وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.
قوله: [وحدثنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب حدثني يحيى بن أيوب].
هذه عادة أبي داود في التحويل؛ فإنه أحياناً بعدما يذكر شخصاً أو شخصين في أثناء الإسناد يأتي بالتحويل، مثل ما مر قريباً في الإسناد الذي فيه عمرو بن عون ومسدد عن خالد، فإنه بعد ما انتهى الإسناد من أوله إلى آخره جاء إلى التحويل، ولكنه بين الاختلاف الذي يكون بين الطريقين؛ لأنه أحياناً يذكر الشخص باسم وفي الطريق الثانية يذكره باسم آخر، مثل ما صار في مسلم بن يسار فإنه ذكره في الطريق الثانية بكنيته فقال: عن أبي عثمان الطنبذي وأبو عثمان الطنبذي هو مسلم بن يسار، ففي الطريق الأولى أتى به باسمه وفي الطريق الثانية أتى به بكنيته ولقبه، وطنبذ: قرية من قرى مصر.
وقوله: [حدثنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب حدثني يحيى بن أيوب].
سليمان بن داود وابن وهب مر ذكرهم، ويحيى بن أيوب صدوق ربما أخطأ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بكر بن عمرو].
بكر بن عمرو الناجي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن أبي نعيمة].
عمرو بن أبي نعيمة مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن أبي عثمان الطنبذي رضيع عبد الملك بن مروان عن أبي هريرة].
أبو عثمان الطنبذي هو: مسلم بن يسار، وهو الذي جاء في الإسناد الذي قبله باسمه مسلم بن يسار.(414/14)
بيان خطأ مقولة: (دعها في رقبة عالم واخرج سالم)
هناك مقولة تقول: (دعها في رقبة عالم واخرج سالم) وهذه مقولة غير صحيحة؛ فالإنسان أولاً: لا يسأل إلا من عنده علم، وإذا أخذ بذلك فهو على خير، وأيضاً إن كان المفتي مخطئاً فهو معذور.(414/15)
كراهية منع العلم(414/16)
شرح حديث: (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كراهية منع العلم.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا علي بن الحكم عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في كراهية منع العلم، يعني: عدم بذله عند الحاجة إليه، فالشخص إذا حصلت له واقعة وأراد أن يعرف حكم الله تعالى فيها ليعمل به، ورجع إلى عالم فإن ذلك العالم عليه أن يفتيه إذا كان عنده علم، وإذا لم يكن عنده علم يدله على ذلك ويكون عوناً له على ذلك أو يقول له: اسأل غيري.
فإذا كان المفتي ليس عنده معرفة الجواب أو الاطمئنان إلى الجواب فإنه يحيله إلى غيره، وإن كان عنده الجواب فإنه يجيبه ولا يتأخر في ذلك، فإذا كان عنده الجواب وهو يعرف الجواب فيجيبه في ذلك.
فالعلم فائدته: أن يعمل به ويبذله للغير، بمعنى: أن الإنسان يفيد نفسه ويفيد غيره، وقد ذكرنا في الدرس الماضي الحديث الذي فيه فضل العلم وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب) لأن علم العالم له ولغيره حيث يستفيد منه الناس ببذله، والعابد عبادته له لا تتعداه إلى غيره، فصار العالم مثل القمر، والعابد مثل الكوكب الذي ضوءه شيء يسير بالنسبة إلى ضوء القمر.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة) يعني: يكون اللجام على فمه مماثلة للعمل الذي حصل منه، وهو كونه لم يتكلم بالعلم ولم يبد العلم، ولم يحدث به ولم يخبر به وإنما منعه، فصار الجزاء من جنس العمل، فكما أنه لم يحرك فمه بالنطق بالحق، وإنما أغلقه وأقفله فإنه يوم القيامة يلجم بلجام من نار، يعني: أن الجزاء من جنس العمل.
وقوله: (من سئل عن علم فكتمه) المقصود: العلم الشرعي، والشيء الذي يكون الناس بحاجة إليه، فمثلاً: شخص حصل له واقعة أو حصل له قصة فجاء وسأل فيجب بيان الحكم له في هذه الواقعة، وأما بعض الأشياء التي إخفاؤها يكون فيه مصلحة فهذا المصلحة في إخفائها حتى لا يحصل من الناس التساهل في الأمور؛ مثال ذلك جاء في حديث معاذ رضي الله عنه لما قال: (أفلا أبشر الناس؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تبشرهم فيتكلوا)، فإن بعض الأشياء قد يكون فيها تهاون من الناس إذا علموا بحكمها؛ فكونهم يرغبون في جانب الوعد ويغفلون عن جانب الوعيد ليس من الحكمة وليس من المصلحة، فمن العلم ما ينبغي إخفاؤه، وهو ما يترتب على إظهاره مضرة.
ومن أمثلة العلم الذي ينبغي إخفاؤه: أن الشيخ الألباني رحمه الله اعتنى بمسألة كشف الوجه وبيان أن ستره ليس بواجب، وأكثر من الاستدلال والرد وما إلى ذلك، وأنا أقول: إن هذا من العلم الذي ينبغي إخفاؤه، فكان ينبغي للشيخ رحمة الله عليه أن يخفيه، والناس إذا لم يعرفوا أنه غير واجب فإنه خير لهم، حتى لا يتساهلوا ويتهاونوا، فأنا أقول: هذا من العلم الذي ينبغي إخفاؤه؛ لأن بعض النساء مستعدة للانفلات قبل أن تجد مفتياً، فإذا وجدت مفتياً، قالت: هذا عالم كبير وأفتى بهذا؛ إذاً أنا أفعل هذا الشيء.
هذا مع أن الصحيح أن الذي أقره الشيخ ليس بصحيح.(414/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد هو ابن سلمة بن دينار وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا علي بن الحكم].
علي بن الحكم ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن عطاء].
عطاء بن أبي رباح المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة رضي الله عنه قد مر ذكره.
وأما تعبير الإمام أبي داود بالكراهية في قوله: باب كراهية منع العلم فغالباً أن السلف يعبرون بالكراهة ويريدون بها التحريم، كما قال عز وجل: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38] فإنه عز وجل ذكر جملة من الأمور الكبيرة مثل: الزنا، والقتل، وقتل الأولاد، وغير ذلك ثم قال في آخرها: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38] فالمكروه هنا هو: المحرم.(414/18)
الأسئلة(414/19)
حال حديث: (إذا بليتم فاستتروا)
السؤال
ما حكم حديث: (إذا بليتم فاستتروا)؟
الجواب
لا أعلم، لكن المجاهرة أمرها خطير؛ لأن الإنسان الذي يعصي وهو مختفٍ ليس كالذي يعصي وهو مجاهر.(414/20)
فضل أبي هريرة رضي الله عنه في إكثاره من رواية الحديث
السؤال
بعض الأئمة أخرجوا حديث عائشة رضي الله عنها في سرد الحديث في فضائل الصحابة في فضل أبي هريرة، فما وجه الفضيلة؟
الجواب
يمكن أن يكون ذلك إشارة إلى عنايته بالحديث وإكثاره من الحديث، وكونه قد روى للأمة الشيء الكثير من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(414/21)
حكم القسم بوجه الله
السؤال
ذكرتم فيما مضى أنه يجوز الحلف بالقرآن لأنه صفة من صفات الله، والوجه من صفات الله، فهل يقال: ووجه الله أو والوجه؟ وألا يقال: إنه ينبغي أن يقال: وكلام الله بإضافته لله تعالى؛ لأن صفة الوجه صفة ذاتيه كما أن الكلام صفة ذاتيه؟
الجواب
يمكن أن يقال: ووجه الله، ويقال: وكلام الله، وإذا قيل: والقرآن فالقرآن هو من كلام الله، لكن المصحف لا يقسم به؛ لأن المصحف فيه كلام الله وغير كلام الله، فيه القرآن وغير القرآن، فيه الورق وهو مخلوق، والمداد وهو مخلوق، والغلاف وهو مخلوق، وأما كلام الله عز وجل الذي في المصحف فهو غير مخلوق.(414/22)
أهمية تحري العالم الذي يسأل
السؤال
إذا أفتي الإنسان من شيخ وقال له بعض الناس: اذهب إلى الشيخ الفلاني فقال: أليس الذي أنا أستفتيه شيخ يكفي؟! فما هو الصواب في هذا؟
الجواب
قبل هذا كله يجب أن يبحث ويكون على علم بمن يكون أولى أن يسأله، وعند ذلك يقصد إليه ويسأله وينتهي.(414/23)
حكم ترك النهي عن المنكر
السؤال
من رأى شخصاً يعمل أمراً غير رشيد ولم ينهه فهل هذا من الخيانة؟
الجواب
إذا رآه يعمل أمراً منكراً ولم ينهه فإنه يكون غير قائم بالواجب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).(414/24)
من يتعامل مع البنوك الربوية اعتماداً على فتاوى بعض المفتين
السؤال
في بعض البلدان يتعامل بعض الناس مع البنوك الربوية ويعتمدون في ذلك على الفتاوى من بلادهم، فهل عليهم إثم؟
الجواب
الواجب عليه أن يسألوا أهل العلم، ولا يكفي أن يتلقوا الفتوى من كل أحد، أو يسألوا كل أحد، فإذا كان عندهم علم بأهل العلم وقصروا أو أعجبتهم مثل هذه الفتوى أو أنهم قصدوا أن يعرفوا الفتوى من شخص يحقق لهم الرغبة التي يريدونها، ولم يريدوا أن يستفتوا أحداً يخشون أن يمنعهم، أو أنهم على علم، ولكنهم يريدون مفتياً متهاوناً فإنه يتحمل الإثم، وهم لا شك شركاء في الإثم.(414/25)
فضل نشر العلم(414/26)
شرح حديث: (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن سمع منكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فضل نشر العلم.
حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالا: حدثنا جرير عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن سمع منكم)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: باب في فضل نشر العلم، أي: فضل بذله وتعليمه وإبلاغه إلى الناس؛ ليعملوا به، فيكون من بلغه العلم يعلمه ويعمل به ويبلغه وينشره.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن سمع منكم).
وقوله: (تسمعون) هذا خطاب للصحابة لأنهم هم الذين سمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وسمعوا حديثه وتلقوه منه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وأرضاهم، فكل من سمع كلامه عليه الصلاة والسلام فإنه من أصحابه، ومن رآه ولم يسمع منه فهو من أصحابه عليه الصلاة والسلام.
فمن سمع كلامه ومن سمع حديثه فهو من أصحابه، ومعلوم أنه لا يسمع الرسول عليه الصلاة والسلام إلا أصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، فهم الذين جعلهم الله في زمانه ومكنهم من ذلك بخلاف الذين بعدهم فإنهم لم يروه ولم يسمعوا منه وإنما رأوا من سمع منه، وسمعوا ممن سمع منه، وعلى هذا فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين رأوا النبي عليه الصلاة والسلام وسمعوا كلامه.
وأما التابعون فقد رأوا من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع كلامه، أي: أن أعين الصحابة رأت النبي عليه الصلاة والسلام، وأما التابعون فلم يروا النبي صلى الله عليه وسلم ولكنهم رأوا الأعين التي رأت النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عن الصحابة.
فقوله: (تسمعون) أي: تسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (ويسمع منكم) أي: التابعون يسمعون من الصحابة، فالذين سمعوا الصحابة هم التابعون، والذين رأوا الصحابة هم التابعون.
وقوله: (ويسمع ممن سمع منكم) أي: أتباع التابعين يسمعون من التابعين الذين سمعوا من الصحابة، وهكذا كل جيل يسمع ممن قبله، وممن تقدمه ممن أدركه، وهكذا فيكون شرع الله الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم يتناقله الناس منذ زمن الصحابة ويعملون به ويعبدون الله عز وجل وفقاً لهذا الحق والهدى الذي تلقاه الصحابة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتلقاه التابعون عن الصحابة، وتلقاه أتباع التابعين عن التابعين، وهكذا من بعدهم حتى دونت الكتب وألفت المؤلفات في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصار الناس يرجعون إلى هذه المؤلفات والمصنفات في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فقوله صلى الله عليه وسلم: (تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن سمع منكم) نظير قوله صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) فإن قرنه هم: أصحابه الذين سمعوا منه، والذين يلونهم هم: التابعون الذين سمعوا ممن سمع منهم، وأتباع التابعين هم: الذين سمعوا الذين سمعوا ممن سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا فيه بيان فضل العلم ونشره، وتناقله، وأن كل طبقة تورثه للطبقة التي تليها وهكذا، فطبقة الصحابة هم الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم، وطبقة التابعين هم الذين سمعوا من الصحابة، وطبقة أتباع التابعين هم الذين سمعوا من التابعين، وطبقة أتباع أتباع التابعين هم الذين سمعوا من أتباع التابعين وهكذا.
وهذا الحديث ليس فيه دلالة على قلة أهمية السماع بعد عهد أتباع التابعين؛ لأن الأحاديث قد دونت في الكتب، فلا يدل على تقليل أهمية السماع، وإنما كما هو معلوم حصل بعد ذلك تدوين للكتب، وصار الناس يتوارثون هذه الكتب، والسماع كان موجوداً، فكم من مؤلف ومصنف بعد أصحاب الكتب الستة ممن كان في القرن الرابع أو القرن الخامس يروون بالأسانيد مثل: البيهقي ومثل: الطبراني ومثل: أبو عمر ابن عبد البر ومثل: الخطيب البغدادي، ففيهم من كان في القرن الرابع وفيهم من كان في القرن الخامس ومع ذلك كانوا يروون بالأسانيد: حدثنا فلان قال: حدثنا فلان.
وأما وجه دلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على أتباع التابعين فكأن المقصود أن هذا فيه إشارة إلى الطبقات الثلاث التي هي خير القرون، ولكن كما هو معلوم ليس معنى ذلك أن الأمر يقف عندهم؛ وإنما هذا بيان للطبقات الأولى الثلاث، ومن بعدها يأتي تبعاً لها والسلسلة متصلة.(414/27)
تراجم رجال إسناد حديث: (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن سمع منكم)
قوله: [حدثنا زهير بن حرب].
زهير بن حرب أبو خيثمة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[وعثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فأخرج له في عمل اليوم والليلة.
[قالا: حدثنا جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عبد الله].
عبد الله بن عبد الله الرازي صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة والنسائي في مسند علي.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(414/28)
شرح حديث: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى عن شعبة قال: حدثني عمر بن سليمان من ولد عمر بن الخطاب عن عبد الرحمن بن أبان عن أبيه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه)].
أورد أبو داود حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه مرفوعاً: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه) وهذا يدل على فضل نشر العلم؛ لأن هذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم لمن يقوم بذلك حيث قال: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً حتى يبلغه) يعني: أنه يحفظه ويبلغه، فتتصل السلسلة ويتوارث الناس الحق والهدى ويأخذ جيل عن جيل، وأول جيل أخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم هم أصحابه الكرام لقوله: (سمع منا حديثاً) وهذا يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم هم الذين سمعوا منه مثل الحديث الذي قبله (تسمعون ويسمع منكم).
فهذا الحديث فيه فضل تحمل السنة وتلقيها ونشرها، وفيه بيان أن من فائدة النشر وإبلاغ السنن أنه قد يأتي من يشتغل في الاستنباط، وقد يكون الذي تحمل ليس متمكناً من الاستنباط مثلما يتمكن من يبلغ إياه، فيكون الخير في حفظ هذا الذي حفظ السنة وأتقنها وبلغها لمن بعده، فإن هذا الذي يبلغ قد يستخرج منها ما لم يستخرجه غيره، ولهذا قال: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) فيكون حفظ السنة وأتقنها وحافظ عليها وأداها إلى غيره، وقد يكون ذلك الغير أشد تمكناً في الاستنباط والفقه والفهم، فيستنبط منه أحكام وفوائد.
وقوله: (رب حامل فقه ليس بفقيه) يعني: أن الإنسان قد يحفظ الشيء ولكنه ليس عنده ما يكون عند غيره من الناس من جهة قوة الفهم وقوة الاستنباط أو الحرص على الاستنباط والقصد إلى الاستنباط، ومن المعلوم أن العلم النافع هو الذي جمع فيه بين الرواية والدراية، وجمع فيه بين الفقه والحديث، فالحديث هو الأساس الذي يبنى عليه الفقه، والفقه إذا لم يكن مستنداً إلى حديث فإنه قد يكون مبنياً على رأي مجرد، وقد يكون الذي يشتغل بالفقه ولا يشتغل بالحديث يحتج بحديث ضعيف أو حديث موضوع إذا وجده مسنداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يفعل ذلك لأنه لا يعرف ما يثبت وما لا يثبت، ولهذا تكلم الإمام الخطابي في أول كتابه معالم السنن بكلام جميل في مدح العناية بالحديث والفقه، وأن من يقتصر على الحديث يكون عنده نقص في جانب الفقه، ومن يقتصر على الفقه دون الحديث يكون عنده نقص في جانب الحديث، ولكنه إذا اعتنى بهذا وبهذا فقد جمع بين الحسنيين، ثم ضرب لذلك مثلاً فقال: إن الذي يشتغل بالحديث ولا يشتغل بالفقه والاستنباط مثل الذي يبني له بنياناً فيتقن أساسه ويحكم أساسه ولكنه يقف عند حد الأساس، فلا يستفيد منه الفائدة المرجوة أو الفائدة الكاملة؛ لأن البنيان أحكم أساسه ولكن ما وضع فوقه حجراً وغرفاً وأشياء مما يستفيد الناس منها، وهذا مثل الذي يشتغل بالحديث ولا يشتغل بالاستنباط، فمهمته القراءة دون الفهم ودون معرفة ما يؤخذ من الحديث أو التأمل في الحديث، فهو مثل الذي يبني بنياناً على غير أساس، فالبنيان موجود والغرف موجودة ولكن الأساس غير موجود فيمكن أن ينهار، ولكنه إذا جمع بين إحكام الأساس ووجود الفروع التي بنيت على الأساس، صار هذا هو الإحسان، وهكذا الجمع بين الحديث والفقه يكون فيه تقوية الأساس ووجود البنيان على الأساس.
فهذا يدلنا على أهمية الاستنباط وأهمية الفهم، واستخراج الكنوز من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أيضاً إشارة إلى المحافظة على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن حفظ حديث الرسول على ما هو عليه دون أن يختصر ودون أن يروى بالمعنى لا شك أن هذا هو الذي ينبغي أن يكون؛ لأن هذا فيه تمكين المتفقه من الاستنباط من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم والعناية بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث يستنبط منه ويستخرج منه ما اشتمل عليه من كنوز.
ومن المعلوم أن الإنسان إذا نظر في شروح الحديث يرى كثيراً من الفوائد التي تستنبط من الحديث وأن في الحديث كذا وفي الحديث كذا، ويجد نفائس وأشياء دقيقة، لكن ما كل إنسان يستطيع أن يستخرجها، وقد يتعجب إذا رأى مثلها مستنبطة من الحديث، يعني: من ناحية دقة الفهم وجودة الاستنباط من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن المعلوم أن ثمرة الحديث هو الفقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) والفقه في الدين إنما يكون بالتأمل في نصوص الكتاب والسنة ومعرفة ما اشتملت عليه من كنوز وما اشتملت عليه من أحكام ومن حكم.
وقوله: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً حتى يبلغه إلى من هو أفقه منه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه) هذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم بالنضرة لحامل الحديث، وأولى الناس وأحق الناس بهذه الدعوة الكريمة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن قوله: (سمع منا حديثاً) إنما يراد به أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ورد الحديث بصيغ أخرى تشمل الصحابة وغير الصحابة بلفظ: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها) لأن كلمة: (سمع مقالتي) يمكن أن تكون من النبي صلى الله عليه وسلم ومن غيره، وأما قوله هنا: (سمع منا حديثاً) فلا يكون إلا للصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وقوله: (ورب حامل فقه ليس بفقيه) لأنه عند قوة الحفظ ولكن ما عنده الدقة في الاستنباط واستخراج الكنوز التي في الحديث، فقد يبلغ الحافظ للحديث المتقن له لغيره ممن يكون أشد تمكناً منه في الاستنباط، فيكون هذا الذي حفظ هو الذي مكن غيره من معرفة أحكام الشريعة المستنبطة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الاشتغال بالنصوص ممن وصلت إليه ممن تحملها لا شك أن الفضل في ذلك بعد توفيق الله عز وجل إنما هو للرسول صلى الله عليه وسلم الذي دل الناس على الحق والهدى من بعده، وهكذا الذين تلقوه منه وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(414/29)
تراجم رجال إسناد حديث: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج حديثه البخاري أبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
يحيى هو ابن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عمر بن سليمان من ولد عمر بن الخطاب].
عمر بن سليمان بن عاصم ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن أبان].
عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه أبان بن عثمان ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن زيد بن ثابت].
زيد بن ثابت رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(414/30)
بيان أنه ليس من شرط الراوي أن يكون فقهياً ولا عاملاً بما علم
في هذا الحديث دلالة على أنه ليس من شرط الراوي أن يكون فقيهاً.
ولا يشترط لتبليغ العلم أن يكون المبلغ عاملاً بما علم، ولكن ثمرة العلم هو العمل، والإنسان الذي يعلم ولا يعمل هذا نقص في حقه.(414/31)
حكم رواية الحديث بالمعنى
إذا قال قائل: هل الصحابي أو غيره إذا روى الحديث بالمعنى يناله فضل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً) مع أنه رواه بمعناه؟
الجواب
إذا كان لا يتمكن من اللفظ فإن الله عز وجل يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]؛ لأن المقصود اللفظ والمعنى جميعاً، فإذا تعذر الإتيان باللفظ وهو متقن المعنى فإنه يأتي به ولا يتركه، فما دام أنه أتقن المعنى فيأتي به، وأما إذا كان متقناً اللفظ فلا ينبغي له أن يعدل عنه إلى غيره، بل يتمسك به ويحافظ عليه؛ لأن المحافظة على كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم والاستخراج منه والاستنباط منه لا شك أن هذا هو الأساس وهذا هو الأصل، لكن إذا لم يمكنه الإتيان باللفظ وهو متقن المعنى فإنه يأتي به بالمعنى.
ومن الذين اعتنوا بالألفاظ والمحافظة عليها من المحدثين الإمام مسلم رحمة الله عليه، فإنه اعتنى في كتابه بالمحافظة على الألفاظ وعدم الرواية بالمعنى، فكان يحافظ على الألفاظ ويحرص عليها ولهذا قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في تهذيب التهذيب: قلت: حصل للإمام مسلم حظ عظيم ما حصل لغيره في العناية بالمحافظة على الألفاظ وعدم الرواية بالمعنى، وذكر شيئاً من الثناء عليه في هذا الباب، ثم قال: وقد حاول جماعة من النيسابوريين السير على منواله فلم يفعلوا شيئاً، يعني: لم يبلغوا مبلغه ولا فعلوا مثلما فعل.(414/32)
بيان عدم صحة مقولة: كل محدث فقيه وليس كل فقيه محدثاً
هناك عبارة تقول: (كل محدث فقيه وليس كل فقيه محدثاً) وهذه العبارة ليست بصحيحة، فلا يقال: كل محدث فقيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رب حامل فقه ليس بفقيه) حامل فقه يعني: حديث، ولكنه ليس بفقيه، فليس من شرط المحدث أن يكون فقيهاً، وكونه ليس كل فقيه محدثاً هذا صحيح، ولكن كون كل محدث فقيه ليس بلازم، فقد يكون فقيهاً وقد يكون غير فقيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث: (رب حامل فقه ليس بفقيه)، لكن لا يقال: كل فقيه محدث؛ لأن الفقيه قد يشتغل بالفقه ويعتني بمعرفة المسائل وحصرها وتقييدها ولا يشتغل بالحديث، ولهذا قد يستدل بحديث ضعيف أو حديث موضوع.(414/33)
شرح حديث: (والله لأن يهدي الله بهداك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل -يعني: ابن سعد - رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله! لأن يهدي الله بهداك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)].
أورد أبو داود حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: (والله! لأن يهدي الله بهداك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) وهذا يدل على فضل نشر العلم، وأن من اهتدى على يديه إنسان فهو خير له من حمر النعم.
وقد جاء في ذلك حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل إثم من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) فهذا يدلنا على فضل تبليغ السنن وتبليغ الحديث وتبليغ الحق، وأن من دعا غيره إلى الحق والهدى فاستفاد بسببه فالله يأجر هذا المستفيد على عمله، ويأجر الذي أفاده بمثل ما آجره به دون أن ينقص من أجر الفاعل المستفيد شيئاً، بل يعطي الله الدال مثلما أعطى المدلول تفضلاً منه سبحانه وتعالى؛ ولأنه كان هو السبب في وصول هذه السنة وهذا الحق والهدى إلى هذا الإنسان الذي عمل به.
ولهذا كان نبينا محمد عليه الصلاة والسلام له مثل أجور أمته من حين بعثه الله إلى قيام الساعة، فله صلى الله عليه وسلم مثل أجور أمته كلها من أولها إلى آخرها؛ لأنه هو الذي دل الناس على الحق والهدى، فله أجور أعماله وله مثل أجور أمته، وبهذا يتبين كونه خير الناس، وأنه سيد الخلق، وأنه أفضل البشر؛ لأن هذه الأجور التي تحصل لأمته على اختلاف العصور والدهور باتباع الحق والهدى الذي جاء به يكون له مثل أجورهم كلهم من أولهم إلى آخرهم، وأحق الناس وأسعد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الثواب هم أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، الذين تلقوا السنن عنه وحفظوها وأدوها إلى من بعدهم، فكل صحابي يحفظ سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الناس يتناقلونها ويعملون بها على مر العصور والدهور فالله تعالى يعطي ذلك الصحابي مثلما أعطى كل من عمل بهذه السنة التي جاءت من طريقه والتي رواها عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وهكذا من جاء بعدهم ممن أخذ عنهم، ودل على الحق والهدى الذي جاء عن طريقهم فإنه يؤجر مثل أجور كل من استفاد خيراً بسببه وبسبب دعوته وتوجيهه وإرشاده.
وهذا الحديث قاله النبي صلى الله عليه وسلم في حق علي رضي الله تعالى، وهذا من مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه الراية يوم خيبر وقال له: (ثم ادعهم إلى الإسلام فوالله! لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).
والنعم هي: الإبل، وكانت الحمر هي أنفس أموالهم، فخاطبهم بالشيء الذي هو نفيس عندهم، والذي هو معروف عندهم من المال الذي يعتبر أنفسه وأحسنه، وفيه إقسام للتأكيد.
وقوله: (لأن يهدي الله بك) يدخل في ذلك الهداية من الكفر إلى الإسلام ويدخل فيه الهداية من الضلالة ومن الفسق، كل ذلك يدخل، يدخل في ذلك الهداية التي هي الدخول في الإسلام والخروج من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، أو أن يكون الإنسان على ضلال وهو من المسلمين ثم يهديه الله عز وجل على يديه فينتقل من الضلالة إلى السنة ومن البدعة إلى السنة، فإن الله تعالى يثيب هذا الذي دعا وأرشد مثلما يثيب ذلك العامل، ولا شك أن هذا خير من المال ومن أنفس الأموال.
ومن قام بتوزيع الأشرطة والكتب والمطويات للناس يعتبر عمله هذا من نشر العلم وإن لم يكن هو طالب علم، ويدخل في حديث: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً) إذ لا شك أن المتسبب في الخير والموصل الخير إلى الغير ويهتدي الناس بسبب ذلك لا شك أنه شريك في الأجر.(414/34)
تراجم رجال إسناد حديث: (والله لأن يهدي الله بهداك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم].
عبد العزيز بن أبي حازم صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو أبو حازم سلمة بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهل يعني: ابن سعد].
سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وهذا الإسناد رباعي، والأسانيد الرباعية هي أعلى ما يكون من الأسانيد عند أبي داود.(414/35)
شرح سنن أبي داود [415]
الحديث عن بني إسرائيل مما جاء الشرع بجوازه، فما كان موافقاً لشرعنا ففي شرعنا غنىً عنه، وما كان مخالفاً لشرعنا فلا يؤخذ به، وما ليس موافقاً ولا مخالفاً لشرعنا فلا يصدق ولا يكذب، فعلى طالب العلم أن يعرف هذا، كما أن عليه أن يكون طلبه للعلم من أجل الله عز وجل، لا من أجل غرض دنيوي أو من أجر رياء أو سمعة، فإن من لم يكن طلبه العلم لأجل الله لن يفلح لا في الدنيا ولا في الآخرة.(415/1)
الحديث عن بني إسرائيل(415/2)
شرح حديث (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الحديث عن بني إسرائيل.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)].
أورد أبو داود باب الحديث عن بني إسرائيل، يعني: أن يتحدث بأحاديثهم والأشياء التي تؤثر عنهم وتنقل عنهم، وأن مثل ذلك لا بأس به، لكن هذا كما هو معلوم إذا كان في أمور ليس فيها باطل؛ لأن الحديث بالباطل ونشر الباطل لا يجوز، ولكن إذا كان فيه فوائد وفيه أخبار وما إلى ذلك فإن الحديث سائغ، ومعلوم أن أخبار بني إسرائيل إنما تتناقل وليس هناك أسانيد فيها متصلة، وإنما ساغ للناس أن يتحدثوا بما يسمعوا من أخبارهم لكن إذا كان فيها باطل فليس للإنسان أن يذكر ذلك الباطل إلا مفنداً له ومبيناً فساده وأن ذلك لا يليق ولا يصلح، أما أن يذكر ذلك ويسكت عنه فهذا لا ينبغي.
وهذه الترجمة في الحديث عنهم، وأما الترجمة التي سبق أن مضت فهي في حديثهم وكلامهم؛ لأنه تقدم أن ترجم بقوله: باب رواية حديث أهل الكتاب، يعني: كونهم يتحدثون وينقل عنهم، قال فلان كذا، ولكن الذي هنا هو كونه يوجد أخبار في الكتب تنسب إلى بني إسرائيل فإنه يمكن التحدث بها ويمكن تناقلها حيث لا يكون فيها محذور أو أمر لا يسوغ أو يحصل به ضرر، اللهم إلا أن يبين بطلانه ويبين فساده إذا ذكر وتحدث به.
وأورد أبو داود حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج).
قوله: (حدثوا) يعني: أنه سائغ لهم، والمقصود هنا الإذن والإباحة، وليس المقصود به الوجوب ولا الاستحباب وإنما الإرشاد والإباحة.
وكون الإنسان يذكر شيئاً من أخبارهم يجوز ذلك مثلما هو موجود الآن في كتب أهل السنة من أخبار بني إسرائيل لاسيما في المواعظ.
وأما الحديث عن بني إسرائيل الموجودين الآن فمن المعلوم أن بني إسرائيل الآن ما عندهم إلا الخبث والشر، والأحاديث التي يتحدث بها هي ما كانت عن بني إسرائيل مما هو موجود في الكتب السابقة، فأما اليهود الموجودون الآن لا يبحث عن كلامهم ولا يتحدث به؛ إذ ليس عندهم إلا الشر والخبث، وإنما المقصود من ذلك ما كان من أخبار المتقدمين التي فيها عبر وفيها عظات وفيها كلام جميل وحكم وما إلى ذلك.(415/3)
تراجم رجال إسناد حديث (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
أبو بكر بن أبي شيبة عبد الله بن محمد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا علي بن مسهر].
علي بن مسهر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عمرو].
محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة رضي الله عنه قد مر ذكره.(415/4)
شرح حديث (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن بني إسرائيل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ حدثني أبي عن قتادة عن أبي حسان عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال (كان نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يحدثنا عن بني إسرائيل حتى يصبح ما يقوم إلا إلى عظم صلاة)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدثهم عن بني إسرائيل) ومعلوم أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن بني إسرائيل هو إخبار منه صلى الله عليه وسلم، فإذا ثبت هذا الخبر عن بني إسرائيل بإسناد صحيح متصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يصدق هذا الخبر، ويعتبر هذا الخبر صدقاً ما دام ثابتاً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأما إذا لم يكن ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يصدق ولا يكذب، وقد سبق أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا حدثكم أهل الكتاب بشيء فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت:46]) إلا أن يكون ذلك الحديث الذي جاء عن بني إسرائيل باطلاً كأشياء تضاف إلى الأنبياء لا تليق بهم، فهذه لا يتردد في تكذيبها، بل الواجب هو المبادرة إلى تكذيبها وعدم تصديقها.
وقوله: (كان يحدثنا عن بني إسرائيل حتى يصبح) لعل هذا حصل في بعض الليالي، ومعلوم أن هذا كان بعد صلاة الليل، وليس معنى ذلك أنه يكون من أول الليل إلى آخره، وأنه يشغل بذلك عن صلاة الليل، فقد كان صلى الله عليه وسلم مداوماً عليها، وكان صلى الله عليه وسلم يصلي من أول الليل ومن وسطه ومن آخره حتى انتهى وتره صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى السحر، ومعنى ذلك: أن هذا كان في بعض الأحيان وليس دائماً وأبداً.
وقوله: (وما يقوم إلا إلى عظم صلاة) يعني: إلى صلاة فريضة.
وقوله: (حتى يصبح) معناه: أنه يقوم إلى صلاة الفجر.(415/5)
تراجم رجال إسناد حديث (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن بني إسرائيل)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
محمد بن المثنى أبو موسى العنزي الملقب الزمن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معاذ].
معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي صدوق ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبي].
أبوه هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي حسان].
أبو حسان الأعرج صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عمرو].
عبد الله بن عمرو الصحابي الجليل أحد العبادله الأربعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(415/6)
باب في طلب العلم لغير الله تعالى(415/7)
شرح حديث (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في طلب العلم لغير الله تعالى.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا سريج بن النعمان حدثنا فليح عن أبي طوالة عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الأنصاري عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) يعني: ريحها].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في طلب العلم لغير الله عز وجل، أي: يطلبه لدنيا أو لسمعة وشهرة ولم يكن قصده أن يعرف الحق ويعمل به ويدعو إلى الله عز وجل على بصيرة، وإنما الدافع له والباعث له على طلب العلم هو الدنيا أو طلب الجاه وعلو المنزلة والشهرة وما إلى ذلك، دون أن يكون الباعث له هو ابتغاء وجه الله عز وجل والدار الآخرة ومعرفة الحق للعمل به والدعوة إليه.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من طلب علماً مما يبتغى به وجه الله) لأن العلوم الشرعية يبتغى بها وجه الله عز وجل.
وقوله: (يبتغى به وجه الله) فيه إثبات صفة الوجه لله عز وجل، وإثبات لازم الصفة التي هي رضا الله عز وجل، وأما إذا فسر برضا الله فقط فهذا لا يسوغ؛ لأن الوجه صفة، ورضا الله صفة، فإذا فسر الوجه بأنه الرضا فمعناه: أنه لم يثبت الوجه، ولكن إذا أثبت الوجه وأثبت الرضا الذي هو لازم هذه الصفة في ابتغاء وجه الله عز وجل فإن ذلك صحيح، أما إذا لم تثبت الصفة التي هي: الوجه وقيل: إن معناها رضا الله فقط دون إثبات صفة الوجه فهذا باطل لا يسوغ، وهذا نظير قول القائل في تفسير قول الله عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] قال: في ملكه وتحت تصرفه، فإذا كان يقصد من قوله: في ملكه وتحت تصرفه أن هذا هو معنى اليد وليس لها معنى آخر، وأنها ليست صفة من صفات الله عز وجل؛ فهذا باطل، وإن أريد به إثبات الصفة وإثبات لازم الصفة وهو أن كل شيء في يد الله وكل شيء فهو في ملكه وتحت تصرفه سبحانه تعالى فهذا حق.
وقوله: (عرضاً من الدنيا) يعني: شيئاً من الدنيا وعرضاً من أعراضها الزائلة.
وقوله: (لم يجد عرف الجنة) يعني: ريحها؛ لأن العرف هو: الريح، وليس معنى ذلك أنه يكون حكمه حكم الكفار الذين لا يجدون ريح الجنة أبداً، وإنما المقصود من ذلك: أنه إذا لم يتجاوز الله تعالى عنه لا يحصل ذلك له من أول وهلة، ولكن كل من مات وهو غير مشرك بالله عز وجل فإن أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه وتجاوز عنه، وإن شاء عذبه، وإذا عذبه لا يخلده في النار كتخليد الكفار، وإنما يخرجه منها ويدخله الجنة فيكون مآله إلى الجنة.
وإن قيل: هل يدخل في هذا الحديث الاشتراك في المسابقات التي عليها جوائز، إذا كان طالب العلم ممن يحرص على العلم؟
الجواب
كون الإنسان يشتغل بالعلم من أجل معرفة الحق والهدى ثم بعد ذلك جعلت مسابقة فيها جوائز ودخل فيها فهذا لا يخرجه عن كونه تعلم العلم من أجل معرفة الحق والعمل به؛ لأنه لم يتعلم من أجل الجوائز، ولم يكن الباعث له أن يكون عنده استعداد للمنافسة في الجوائز، وإنما تعلمه لمعرفة الحق والهدى، وهذا جاء عرضاً وتبعاً وشيئاً طارئاً لم يكن هو المقصود عند التعلم وعند الاشتغال بالعلم.
وأما هل يدخل في هذا من يدرس ليصبح مدرساً ويحصل على الراتب؟ فإذا كان غرضه الدنيا فقط فله نصيب من هذا الحديث، وإن كان قصده أنه يتعلم الحق ويعمل به وينفع الناس به فهذا من الثواب المعجل الذي يعجله الله له في الدنيا قبل الآخرة؛ لأن الإنسان قد يعلم ويرشد الناس ويفيد التلاميذ ويكون سبباً في هدايتهم وفي استقامتهم مع كونه مدرساً ويأخذ الراتب الذي يعطى للمدرسين، فإذا كان الباعث له أن يفيد الناس وأن يفيد الطلاب وأن يكون عوناً لهم على معرفة الحق والهدى فلا شك أنه على خير كما قال صلى الله عليه وسلم: (ولكل امرئ ما نوى).(415/8)
تراجم رجال إسناد حديث (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا سريج بن النعمان].
سريج بن النعمان ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا فليح].
فليح بن سليمان صدوق كثير الخطأ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي طوالة عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر].
أبو طوالة عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الأنصاري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن يسار].
سعيد بن يسار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة قد مر ذكره.(415/9)
باب في القصص(415/10)
شرح حديث (لا يقص إلا أمير أو مأمور أو مختال)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في القصص.
حدثنا محمود بن خالد حدثنا أبو مسهر حدثني عباد بن عباد الخواص عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن عمرو بن عبد الله السيباني عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا يقص إلا أمير أو مأمور أو مختال)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في القصص، والقصص هي: ذكر الحكايات والقصص التي فيها تأثير وفيها فوائد للناس، وقد تكون هذه القصص سليمة ومفيدة، وقد يكون فيها شيء من المحذور، فالقاص هو الذي يذكر ويعظ ويأتي بالحكايات والقصص التي فيها تحريك للقلوب وقد لا يكون فيها تحريك للقلوب، ولكنها حكايات عن أناس متقدمين يأتي بها قد تكون مؤثرة وقد تكون غير مؤثرة.
وأورد أبو داود حديث عوف بن مالك رضي الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقص إلا أمير أو مأمور أو مختال).
قوله: (لا يقص) ليس هذا نهياً وإنما هو نفي؛ لأنه لو كان نهياً لصار المختال مأذوناً له في القص، فلو كان نهياً فإن معناه: أنه مأذون لهؤلاء ومنهم المختال لكن المقصود به النفي، يعني: أنه لا يحصل القصص إلا من هذا أو هذا، لكن لا يعني ذلك أنه يكون مأذوناً للمختال.
وقوله: (أمير أو مأمور) الأمير هو: المسئول وهو الذي يتكلم أو مأمور من الأمير، وإذا لم يكن لا هذا ولا هذا فهو الصنف الثالث وهو المختال الذي يحب الفخر ويحب الظهور ويحب البروز وقد يكون مرائياً أو ما إلى ذلك من الصفات.
فهذا إخبار عن الواقع؛ يعني: لا يقص إلا كذا وكذا وكذا، وليس معنى ذلك نفي الوقوع مطلقاً وإنما هو نفي الوقوع إلا من هؤلاء الثلاثة الذين هم: أمير أو مأمور أو مختال، والأمير والمأمور هؤلاء محقون أما المختال فهو منشغل فيما لا يعنيه وداخل في شيء غير مأذون له فيه.
وعلى هذا فقوله: (لا يقص) إخبار عن الواقع، أي: أنه لا يحصل القصص إلا من كذا وكذا وكذا، وهو من جنس قوله صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع) يعني: أن الناس يتجهون إلى النكاح من أجل هذه الأمور وليس أمراً من النبي صلى الله عليه وسلم بأن أن المرأة تنكح لكذا ولكذا ولكذا، وإنما الأمر هو بأنها تنكح من أجل دينها، هذا هو الذي أمر به الشارع، وأما هذا ففيه إخبار عن واقع الناس، فمن الناس من يكون رغبته كذا ومنهم من رغبته كذا ومنهم من رغبته كذا، ومن جنسه لا يقص إلا كذا أو كذا، يعني: أن هذا إخبار بالواقع أن القصص لا تحصل إلا من هذا أو هذا أو هذا والأول والثاني محقان والثالث ليس على حق، وفي هذا دليل على أنه ليس كل أحد يقص على الناس، وإنما الذي يقص يقص بإذن من الوالي؛ لأنه قد يتولى القص ويتولى الكلام من يفسد ومن يضر الناس ومن يلبس على الناس، فلا يتكلم كل من أراد أن يتكلم؛ لأنه قد يتكلم في الضلال وقد يتكلم في إفساد الناس وإفساد عقائد وعبادات الناس، ومثل هذه الأمور إنما تكون من الولاة ونواب الولاة الذين يؤذن لهم ولا تكون ملكاً لأحد؛ لأن عدم تقييدها بترتيب وتنظيم يؤدي إلى الفوضى وإلى أن كل واحد يتكلم بباطله وينشر باطله فيترتب على ذلك فساد الناس.
وقوله: (المختال) يعني: الذي عنده خيلاء وعنده تكبر وحب بروز وظهور وسمعة.(415/11)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يقص إلا أمير أو مأمور أو مختال)
قوله: [حدثنا محمود بن خالد].
محمود بن خالد الدمشقي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا أبو مسهر].
أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عباد بن عباد الخواص].
عباد بن عباد الخواص صدوق يهم، أخرج له أبو داود.
[عن يحيى بن أبي عمرو السيباني].
يحيى بن أبي عمرو السيباني مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن عوف بن مالك الأشجعي].
عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث جاء من طريق أخرى عن عبد الله بن عمرو بن العاص فيكون هذا الرجل المقبول قد وجد ما يعضده ويؤيده ويشهد له.(415/12)
شرح حديث (جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا جعفر بن سليمان عن المعلى بن زياد عن العلاء بن بشير المزني عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري، وقارئ يقرأ علينا، إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام علينا، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سكت القارئ، فسلم ثم قال: ما كنتم تصنعون؟ قلنا: يا رسول الله! إنه كان قارئ لنا يقرأ علينا وكنا نستمع إلى كتاب الله.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: الحمد الله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم.
قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسطنا ليعدل بنفسه فينا، ثم قال: بيده هكذا فتحلقوا وبرزت وجوهم له، قال: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرف منهم أحداً غيري.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين! بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك خمسمائة سنة)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى جماعة من أصحابه وهم فقراء صعاليك وفيهم من يكون ثوبه غير كاف ويستتر بأخيه ويقرب من أخيه حتى لا يظهر شيء من عورته بسبب عدم وجود اللباس الكافي، فوقف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (ما تصنعون؟ قالوا: قارئ يقرأ لنا، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وقال: الحمد الله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه) يشير إلى قوله عز وجل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28] فقال لهم: (أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين! بالنور التام يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذاك خمسمائة سنة) أي: أن الفقراء يسبقون الأغنياء في الدخول؛ لأنهم لا يحاسبون، بخلاف الأغنياء فإنهم يحاسبون على أموالهم وعلى ثرواتهم، فأولئك يسبقونهم لأنهم ليس عندهم شيء يحاسبون عليه من حيث الأموال: تجمعيها ومن أين جاءت؟ وأين صرفت؟ فهذا هو السبب الذي جعل الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء.
والحديث ضعيف ولكن هذه الجملة الأخيرة صحيحة وثابتة؛ لأنها جاءت من طرق مختلفة، أي: أن دخول الفقراء قبل الأغنياء بخمسمائة عام أو بنصف يوم هذا جاء في غير هذا الحديث، والحديث في إسناده من هو متكلم فيه لكن الجملة الأخيرة جاء ما يدل على ثبوتها.(415/13)
تراجم رجال إسناد حديث (جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد مر ذكره.
[حدثنا جعفر بن سليمان].
جعفر بن سليمان صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن المعلى بن زياد].
المعلى بن زياد صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن العلاء بن بشير المزني].
العلاء بن بشير المزني مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن أبي الصديق الناجي].
أبو الصديق الناجي هو بكر بن عمرو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(415/14)
شرح حديث (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثني عبد السلام -يعني: ابن المطهر أبو ظفر - حدثنا موسى بن خلف العمى عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في فضل ذكر الله عز وجل والاشتغال به وأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله عز وجل من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أجلس مع أناس بعد صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة) وهذا يدل على فضل ذكر الله عز وجل، وأن شأنه عظيم عند الله عز وجل، وأنه بهذا الوصف وبهذه المنزلة وبهذه الدرجة التي بينها رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(415/15)
تراجم رجال إسناد حديث (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى)
قوله: [حدثنا محمد بن مثنى حدثني عبد السلام يعني: ابن مطهر].
عبد السلام بن مطهر صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود.
[حدثني موسى بن خلف العمى].
موسى بن خلف العمى صدوق له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والنسائي.
[عن قتادة عن أنس بن مالك].
قتادة مر ذكره، وأنس بن مالك هو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(415/16)
شرح حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له (اقرأ عليَّ سورة النساء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اقرأ علي سورة النساء.
قال: قلت: أأقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري.
قال: فقرأت عليه حتى إذا انتهيت إلى قوله: ((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ)) [النساء:41] الآية، فرفعت رأسي فإذا عيناه تهملان)].
أورد أبو داود حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اقرأ علي، فقال: أأقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟!) أي: كيف اقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟! فقال: (إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأ عليه سورة النساء حتى إذا جاء إلى قول الله عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] الآية قال: فرفعت رأسي فإذا عيناه تهملان) يعني: تذرفان الدموع من البكاء فصلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(415/17)
تراجم رجال إسناد حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له (اقرأ عليَّ سورة النساء)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة مر ذكره.
[حدثنا حفص بن غياث].
حفص بن غياث ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
الأعمش مر ذكره.
[عن إبراهيم].
إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيدة].
عبيدة بن عمرو السليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله].
عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(415/18)
شرح سنن أبي داود [416]
الخمر هي أم الخبائث، فما من شر إلا وهو منطوٍ تحتها، ولهذا حرمها الله عز وجل، وحرم الأسباب الموصلة إليها، ولعن الرسول صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة، فيجب على كل إنسان أن يبتعد عنها، وعن الأسباب الموصلة إليها، وأن يحذر منها وممن يتعاطاها.(416/1)
تحريم الخمر(416/2)
شرح حديث عمر: (نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة أشياء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الأشربة.
باب في تحريم الخمر.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا أبو حيان حدثني الشعبي عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة أشياء: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير.
والخمر: ما خامر العقل.
وثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفارقنا حتى يعهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: كتاب الأشربة.
والأشربة يراد بها ما كان ممنوعاً وما كان غير ممنوع، والممنوع: الخمر، وغير الممنوع: الماء وغير ذلك من الأشياء التي هي على أصل الإباحة ولم تحرم، وما يتعلق بأحكامها وآدابها وما إلى ذلك، هذا هو المقصود بكتاب الأشربة.
وبدأ بباب في تحريم الخمر، والخمر كما جاء عن عمر رضي الله عنه: ما خامر العقل، أي: غطاه وأزاله، فيكون الإنسان من جملة المجانين أو شبيهاً بالمجانين؛ لأنه كان بعقله فسعى إلى إضاعة عقله وتغطيته بهذا الشراب الخبيث الذي هو أم الخبائث؛ لأنه يفضي إلى الخبائث على اختلاف أنواعها ويؤدي إليها؛ لأنه مع زوال العقل يمكن أن يحصل كل شر بسبب ذلك.
والخمر كانت مستعملة في الجاهلية، وجاء الإسلام فحرمها، وكان تحريمه إياها على ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: أنه بين أن الخمر فيها منافع وإثم، ولكن الإثم أعظم من النفع، وهذا فيه إشارة إلى تركها.
المرحلة الثانية: جاء المنع من شربها وقت الصلاة، أي: أنه لا يفعل ذلك والصلاة قريبة بحيث يأتي وقت الصلاة وهو في سكره وغيبوبة عقله.
المرحلة الثالثة: بعد ذلك جاء التحريم البات الذي بين أنها رجس، وأنها من عمل الشيطان، وأمرهم باجتنابها، وأن في ذلك الفلاح، وجاء في الآخر قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91] أي: انتهوا عنها، فتركوها وتخلصوا مما كان موجوداً منها، أعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين نزل عليهم تحريمها.
والخمر حرمت لما فيها من الأضرار والمفاسد؛ ولهذا تسمى أم الخبائث؛ لأن الإنسان إذا فقد عقله يمكن أن يقع في كل محرم، بل قد يقع في نكاح المحارم.
ثم أيضاً كون الإنسان أعطاه الله عقلاً ثم سعى باختياره إلى أن يزول عقله وأن يكون شبيهاً بالمجانين هذا من أسوأ ما يكون وأفحش ما يكون.
وابن الوردي له قصيدة لامية في الآداب وهي جميلة، ومنها جزء من بيت يقول فيه: كيف يسعى في جنون من عقل أي: كيف أن إنساناً أعطاه الله عقلاً ثم يسعى إلى أن يكون مجنوناً ويعمل بفكره وعقله إلى أن يتخلص من عقله فيكون من جملة المجانين؟! هذا شيء عجيب! فالإنسان العاقل الذي أعطاه الله عقلاً لا يسعى إلى أن يدمر عقله وأن يتخلص من عقله، فيكون من جملة المجانين.
والخمر قد جاء تحريمها كما ذكرت على ثلاث مراحل: آية في سورة البقرة، ثم آية في سورة النساء، ثم آية في سورة المائدة وهي التي فيها التحريم البات الذي قال الله فيه: ((فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ))؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما سمع ذلك: انتهينا، وكان يقول: (اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاء) ولما نزل قوله: ((إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ))، وقال في الآخر: ((فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ))، قال رضي الله عنه: انتهينا.
وقد أورد أبو داود حديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة أشياء: من التمر، والعنب، والعسل، والحنطة، والشعير) أي: أن هذا هو الغالب فيها، وليس معنى ذلك أنه مقصور على هذه الأشياء، بل يكون من غيرها، ولكن هذا إشارة إلى الغالب الذي كان موجوداً عندهم في ذلك الوقت، إذ إنه لما نزل تحريم الخمر كانت تتخذ من هذه الأشياء.
ثم إن عمر رضي الله عنه أتى بكلمة تدخل فيها هذه الخمسة وغيرها، حيث عرف الخمر بأنها كل ما يغطي العقل ويخمره ويستره، فما كان كذلك فإنه يقال له خمر، حيث قال: (والخمر ما خامر العقل) أي: كل شيء يغطي العقل ويستره يقال له خمر، سواء كان من هذه الأشياء الخمسة أو من غيرها.
والخمر قيل لها خمر؛ لأنها تغطي العقل وتستره كما يقال للخِمار خمار؛ لأنه يغطي الرأس والوجه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي وقصته دابته: (ولا تخمروا رأسه) أي: لا تغطوه، فالتخمير هو التغطية، فالخمر تغطي العقل وتستره وتحجبه، وتجعل صاحبه يسلب هذه النعمة بشربه ذلك الشيء الذي غطى عقله وصار به من جملة المجانين بعد أن كان من جملة العقلاء.
والخمر فيها أضرار كثيرة ومفاسد عظيمة، ذكر الله عز وجل جملة منها في آية المائدة في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:90 - 91]، فهي مشتملة على عدة أمور تدل على تحريم الخمر وعلى وجوب التخلص والابتعاد منها.
قوله: (ثلاث وددت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفارقنا إلا وقد عهد إلينا فيها عهداً).
يعني: أتى بشيء فاصل بيِّن لا يكون فيه مجال للاختلاف، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخرج من هذه الدنيا إلا وقد بين للناس أمور دينهم، وكان مما بينه ما هو واضح لكل أحد، ومنه ما يعلم بالاستنباط، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما غادر هذه الحياة إلا وقد أكمل الله به الدين وأتم به النعمة، كما قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، لكن عمر رضي الله عنه وأرضاه تمنى أن يكون هناك شيء فاصل في ثلاث: الجد والكلالة وأبواب من الربا، والمقصود بالجد: أبو الأب، وذلك فيما يتعلق بالإرث بينه وبين الإخوة هل يقاسمهم أو يحجبهم؟ أي: هل هو أب فيحجب أو بمنزلة الأخ فيشارك؟ وهي مسألة خلافية بين أهل العلم، وكان رأي الصديق رضي الله عنه وأرضاه أنه يحجب الإخوة؛ لأنه بمنزلة الأب، وعمر رضي الله عنه اختلف رأيه في هذه المسألة وجاء عنه أنه يشارك الإخوة، ولكن قول الصديق رضي الله عنه هو الواضح الجلي، وهو الذي يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)، يدل على أن الجد أولى من غيره؛ لأنه أولى من الإخوة، ولا يقال: إن الإخوة أولى منه، ولا إنهم مثله؛ لأن الجد هو في النسب من الأصول الوارثين، وأما الإخوة فهم حواش وهم كلالة يحيطون بالإنسان، والكلالة: من لا ولد له ولا والد، وأما الجد فهو أصل من أصوله وهو سبب وجوده، وهو بمنزلة الأب، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض) نص في أن الجد مقدم على الإخوة؛ ومقدم على غيره؛ لأنه بمنزلة الأب.
وقد اعتنى ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين بمسائل في الفرائض وفي غيرها، ومن ذلك مسألة الجد والإخوة، وأورد أن الجد يحجب الإخوة، وذكر عشرين وجهاً كلها تدل على تقديم الجد على الإخوة، وأنه يحجبهم، وأنهم لا يشاركونه، بل هو مقدم عليهم.
إذاً: ما يتعلق بالنسبة للجد قد وجد من النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أنه أولى من غيره في قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)، والكلالة: من لا ولد له ولا والد، هذا هو الذي يورث كلالة، أي: ليس له والد وليس له ولد، ومعلوم أن الولد جاء ذكره في القرآن، والوالد لم يذكر، ولكن حصل الإجماع على أن الأب يحجب الإخوة، وأنهم لا يرثون، ويكون مثله الجد تماماً؛ لأنه بمنزلته ويقوم مقامه عند فقده، والمقصود بالكلالة التي فيها الاختلاف هم الإخوة الأشقاء والإخوة لأب، أما الإخوة لأم فأمرهم واضح؛ لأنهم أصحاب فروض يرثون حيث لا أصول ولا فروع، يعني: حيث يكون الميت ليس له أب ولا جد، وكذلك ليس له ابن ولا بنت، فإنهم لا يرثون مع وجود الأصل الوارث والفرع الوارث، وإنما الكلام في الإخوة الأشقاء والإخوة لأب؛ لأنهم هم الذين جاء ذكرهم في آخر سورة النساء في قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء:176] يعني: إن لم يكن لها ولد ولا والد، وهذا بالإجماع، ومعلوم أن الوالد يكون أباً ويكون جداً.
إذاً: الكلالة من ليس له والد ولا ولد.
وقوله: (وأبواب من الربا) قيل: إن هذا إنما هو في ربا الفضل، وأما ربا النسيئة فهذا أمره واضح، فربا الفضل هو الذي فيه إشكال.
الحاصل: أن عمر رضي الله عنه تمنى أن يكون هناك نصوص واضحة لا مجال للاجتهاد فيها، وليس فيها خفاء، والاستنباط منها لا يكون خفياً، هذا هو الذي تمناه، ولكن لا يقال: إن الشريعة لم تأت ببيان هذه المسائل، بل جاءت ببيانها ولكنها فيها خفاء وفيها مجال للاجتهاد، كشأن كثير من المسائل التي تأتي والاجتهاد له مجال فيها.(416/3)
تراجم رجال إسناد حديث عمر (نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة أشياء)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسماعيل بن إبراهيم].
إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم المشهور بـ ابن علية، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو حيان].
يحيى بن سعيد بن حيان أبو حيان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ويحيى بن سعيد أبو حيان بن حيان هذا في طبقة يحيى بن سعيد الأنصاري، وهناك من رجال الكتب الستة ممن يقال له: يحيى بن سعيد أربعة: اثنان في طبقة واثنان في طبقة، فالطبقة المتقدمة هي في صغار التابعين: يحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى بن سعيد أبو حيان هذا، وفي الطبقة المتأخرة: يحيى بن سعيد القطان ويحيى بن سعيد الأموي.
[حدثني الشعبي].
عامر بن شراحيل الشعبي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[عن عمر].
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهاديين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(416/4)
شرح حديث: (لما نزل تحريم الخمر قال عمر اللهم بين لنا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عباد بن موسى الختلي أخبرنا إسماعيل -يعني: ابن جعفر - عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لما نزل تحريم الخمر قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاءً، فنزلت الآية التي في البقرة: ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)) [البقرة:219] الآية، قال: فدعي عمر فقرئت عليه، قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاءً، فنزلت الآية التي في النساء: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43]، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أقيمت الصلاة ينادي: ألا لا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاءً، فنزلت هذه الآية: ((فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ)) [المائدة:91]، قال: عمر: انتهينا)].
أورد أبو داود حديث عمر رضي الله عنه أنه قال: (اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاءً، فنزلت آية البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]) وهذا فيه الإشارة إلى أنه كان ينبغي بمجرد سماع هذا الكلام أن تترك؛ لأن الإثم والضرر أكبر، وذلك لما يحصل من زوال العقل وما يترتب عليه من الأضرار والمنافع.
وكونهم كان يستفيدون منها في البيع والشراء والتجارة هذه من منافعها، ثم نزلت آية النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقربن الصلاة سكران) يعني: لا يشرب في الوقت الذي يكون قريباً من الصلاة حتى لا يأتي وقت الصلاة وهو سكران.
ثم بعد ذلك نزلت آية المائدة التي فيها الحد الفاصل والحكم الفاصل في تحريمها، وأنها محرمة، وأن الأمر قد استقر وانتهى في بيان حرمتها، وأنه لا يجوز للإنسان أن يتعاطاها، ولهذا فإن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بادروا إلى تركها وإلى التخلص مما كان بأيديهم منها فكانوا يهريقونها ويتلفونها امتثالاً لما جاء عن الله وعن رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وفي هذا بيان أن الخمر حصل تحريمها على هذه المراحل الثلاث، وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه كلما تنزل آية لم يكن التحريم فيها باتاً يقول: (اللهم بين لنا في الخمر بياناً شفاءً) ولما نزلت آية المائدة وفي أخرها ((فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ))، قال رضي الله عنه: (انتهينا، انتهينا).
فكان من شأن الصحابة أن أهراقوا ما كان بأيديهم من الخمر وكفوا عن شربها فرضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وفي هذه الآية الكريمة بيان حرمة الخمر والابتعاد عنها من سبعة وجوه: قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة:90]، فأخبر بأنها رجس، فقيل: نجس، وقيل: خبث، وهذا يدل على تحريمها حيث إنها وصفت بهذا الوصف.
ثم قال: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90] فوصفها بأنها من عمل الشيطان، وهذا يدل على تركها والتخلص منها.
ثم قال: {فَاجْتَنِبُوهُ}، والاجتناب يدل على أن يكون الإنسان بعيداً منها، وأن تكون في جانب وهو في جانب بحيث لا يكون هناك تقارب بينه وبينها، بل يكون بعيداً منها.
ثم قال: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وهذا فيه أن تركها فيه الفلاح وأنهم نهوا ليكون لهم الفلاح في ذلك.
ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ والميسر} [المائدة:91]، وهذا فيه أن حصول العداوة والبغضاء بين الناس هو بسبب شرب الخمر، فهذان أمران يدلان على وجوب تركها.
ثم قال: ((وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ))، وهذا فيه أن الخمر فيها صد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهما أمران.
ثم قال: ((فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ)) أي: انتهوا.
فهذه أمور سبعة كلها تدل على الامتناع عن الخمر وعلى أن هذه الآية جاءت حداً فاصلاً بحكمها، وأنه لا يجوز تعاطيها ولا قربانها، بل الواجب هو اجتنابها والابتعاد عنها؛ لأن في ذلك الفلاح والانتهاء من الشر والابتعاد عنه.
وقوله: (فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة ينادي: ألا لا يقربن الصلاة سكران) يعني: أنه كان عند إقامة الصلاة يقول: (لا يقرب الصلاة سكران).
والسكران كما هو معلوم فاقد العقل فلا يخاطب، وهو قبل أن يبدأ الشرب وقبل السكر كان عنده إدراك، وأما مع السكر فليس عنده عقل بل هو من جملة المجانين، ولكن المقصود من ذلك من كان في مبادئ السكر، حيث لم يحصل تغطية عقله، أو أنه قد شرب وهو يعلم من نفسه أنه في هذه المدة أو في هذه الفترة يكون متصفاً بهذا الوصف الذي هو السكر.(416/5)
تراجم رجال إسناد حديث (لما نزل تحريم الخمر قال عمر اللهم بين لنا)
قوله: [حدثنا عباد بن موسى الختلي].
عباد بن موسى الختلي ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[أخبرنا إسماعيل يعني: ابن جعفر].
إسماعيل بن جعفر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسرائيل].
إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق].
أبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو عن عمر].
عمرو بن شرحبيل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن عمر بن الخطاب].
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد مر ذكره.(416/6)
شرح حديث: (أن رجلاً من الأنصار دعا علياً وعبد الرحمن بن عوف فسقاهما قبل أن تحرم الخمر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثنا عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أن رجلاً من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوف فسقاهما قبل أن تحرم الخمر فأمهم علي في المغرب فقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] فخلط فيها فنزلت: ((لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)) [النساء:43])].
أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه: أنه دعاه رجل من الأنصار هو وعبد الرحمن بن عوف قبل أن تحرم الخمر فشربوا، وأنه جاء وقت المغرب فأمهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنه حصل منه تخليط في القراءة بسبب شرب الخمر فنزلت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43].(416/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رجلاً من الأنصار دعا علياً وعبد الرحمن بن عوف فسقاهما قبل أن تحرم الخمر)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
سفيان هو ابن سعيد بن مسروق الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عطاء بن السائب].
عطاء بن السائب صدوق اختلط، وحديثه أخرجه البخاري مقروناً وأصحاب السنن، ولكن الراوي عنه سفيان الثوري، وهو ممن روى عنه قبل الاختلاط فسماعه صحيح؛ لأن عطاء بن السائب سمع منه سبعة قبل الاختلاط فروايتهم صحيحة وهم: سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وزهير بن معاوية، وزائدة بن قدامة، وحماد بن زيد، والأعمش، وأيوب السختياني.
[عن أبي عبد الرحمن السلمي].
أبو عبد الرحمن السلمي هو عبد الله بن حبيب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي بن أبي طالب].
علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهاديين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(416/8)
شرح أثر ابن عباس في نسخ آية المائدة لآيتي البقرة والنساء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثنا علي بن حسين عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43]، و {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219]، نسختهما التي في المائدة: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ} [المائدة:90] الآية)].
أورد أبو داود هذا الأثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية التي في البقرة، والآية التي في النساء نسختهما الآية التي في المائدة وهي: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ)) إلى قوله: ((فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ))، ومعلوم أن تحريم الخمر جاء على مراحل: الأولى: الإشارة إلى المصالح والمفاسد، وأن المفاسد أعظم.
الثانية: التحريم في وقت ما، ومعنى ذلك: أن الحل كان موجوداً؛ لأنه لم يكن التحريم تحريماً عاماً.
فالمرحلة الأولى لم يكن فيها التحريم، وإنما كان فيها الإشارة إلى أن هذا فيه ضرر وفيه منافع ولكن الضرر أكبر.
المرحلة الثالثة: التحريم البات في قوله: ((فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))، ثم قال: ((فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ)) أي: لأنه تحريم بات، وأنه لا يجوز استعمالها في أي حال من الأحوال، بل يجب التخلص منها وعدم شرب شيء منها أصلاً؛ لأنه جاء فيها التحريم الواضح الجلي الذي لا إشكال فيه، وأما قبل ذلك فقد كان تحريماً مؤقتاً يتعلق بقربان الصلاة، وقبل ذلك كانت هناك الإشارة إلى المفاسد والمضار، ولكن لم يكن هناك ذكر التحريم، ولذا بقي استعمال الخمر سائغاً في هاتين الآيتين، ثم جاء التحريم البات في آية المائدة.(416/9)
تراجم رجال إسناد أثر ابن عباس في نسخ آية المائدة لآيتي البقرة والنساء
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد المروزي].
أحمد بن محمد بن ثابت المروزي ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا علي بن حسين].
على بن حسين بن واقد صدوق يهم، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه ثقة له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد النحوي].
يزيد بن أبي سعيد النحوي ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عكرمة].
عكرمة مولى ابن عباس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(416/10)
شرح حديث أنس: (كنت ساقي القوم حيث حرمت الخمر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: (كنت ساقي القوم حيث حرمت الخمر في منزل أبي طلحة وما شربنا يومئذٍ إلا الفضيخ، فدخل علينا رجل فقال: إن الخمر قد حرمت، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلنا: هذا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وفيه أنه لما نزل تحريم الخمر كان أنس رضي الله عنه عند أبي طلحة، وهو زوج أمه، وكان معه أناس يشربون الخمر فجاء رجل وقال: (إن الخمر حرمت، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريمها، وقالوا: هذا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهنا فيه اختصار فقد جاء أنهم تركوها وأهراقوا ما كان عندهم منها، وهذا يدل على مبادرتهم إلى الاستسلام والانقياد لما يأتي عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم من أحكام.(416/11)
تراجم رجال إسناد حديث أنس: (كنت ساقي القوم حيث حرمت الخمر)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد بن زيد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثابت].
ثابت بن أسلم البناني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا الإسناد من الرباعيات، وهي أعلى الأسانيد عند أبي داود.(416/12)
باب العنب يعصر خمراً(416/13)
شرح حديث: (لعن الله الخمر وشاربها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب العنب يعصر للخمر.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن عبد العزيز بن عمر عن أبي علقمة مولاهم وعبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أنهما سمعا ابن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب العنب يعصر للخمر، أي: أنه يتخذ الخمر من العنب، ومعلوم أن الخمر يتخذ من العنب وغير العنب، ولكن المشهور والذي كان كثيراً في الاستعمال عندهم هو العنب حتى قال بعض أهل العلم: إن الخمر من حيث اللغة إنما هي ما يتخذ من العنب.
ولكن كما هو معلوم جاءت النصوص والآثار تدل على أن الخمر تتخذ من العنب وغير العنب، وهم أهل اللغة، فليس الأمر مقصوراً على العنب دون غيره، والتحريم لكل ما أسكر، فكل ما أسكر قليله فإنه يكون حراماً قليله وكثيره، سواء كان من العنب أو غير العنب.
وجاء عن بعض فقهاء الكوفة أنهم كانوا يرون أن القليل الذي لا يسكر من غير العنب يسوغ، ويقصرون التحريم في القليل والكثير على ما كان من العنب خاصة، ولكن الصحيح هو ما جاء في بعض الأحاديث: (ما أسكر قليله فكثيره حرام).
أو (ما أسكر منه الفرق فالقليل منه حرام)، وهذا يدل على أنه لا فرق بين العنب وغير العنب، وأن كل ما أسكر كثيره فقليله حرام من أي شيء كان، سواء كان من العنب أو من غير العنب.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال (لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها ومبتاعها، وحاملها، والمحمولة إليه).
وهذه تسعة أشياء حصل لعنها، وقد جاء عند ابن ماجة زيادة: (وآكل ثمنها) أي أنه لعن في الخمر عشرة فزاد آكل الثمن، وهؤلاء العشرة أربعة منهم متقابلون، يعني: يتكون من كل واحد اثنان: الأول: (شاربها وساقيها) يعني: الذي يسقي والذي يشرب.
والثاني: (وبائعها ومبتاعها) أي: البائع والمشتري.
والثالث: (وحاملها والمحمولة إليه).
والرابع: (وعاصرها ومعتصرها) عاصرها سواء كانت له أو لغيره، ومعتصرها الطالب من غيره أن يعصرها له أو لغيره، كل هذا جاء لعنه في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.(416/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (لعن الله الخمر وشاربها)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فأخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا وكيع بن الجراح].
وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد العزيز بن عمر].
عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز صدوق يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي علقمة].
أبو علقمة الصواب فيه أنه أبو طعمة وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجة.
[وعبد الرحمن بن عبد الله الغافقي].
عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي مقبول أيضاً، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
وهما اثنان مقرونان، وكل منهما مقبول فيشد بعضهما حديث بعض، أو يشد بعضهما رواية بعض.
والحديث قد جاء من طرق أخرى غير هذا الطريق.
[أنهما سمعا ابن عمر].
ابن عمر قد مر ذكره.(416/15)
وجه لعن الخمر
ولعن الخمر في قوله: (لعن الله الخمر) هو على اعتبار أنها سبب الشر وأنها خبيثة، بل هي أم الخبائث.
ويحمل اللعن على المعنى الظاهر وهو الطرد من رحمة الله بالنسبة للفاعلين، فهم الذين يطردون من رحمة الله، وأما الخمر فهي ملعونة؛ لأنها سبب الطرد من رحمة الله.(416/16)
حكم العطور والأدوية المشتملة على كحول
والعطور التي فيها كحول هل تدخل في هذا الذي فيه اللعن؟ وهل يجوز حمل تلك العطور إلى آخرين؟
الجواب
إذا كانت تسكر فإن حكمها حكم الخمر؛ والشيء الذي يكون فيه إسكار يستغنى عنه بالشيء الذي هو سليم طيب، وما أكثر الطيب! فيستغنى به عن الشيء الذي هو خبيث، والذي فيه الإسكار.
وأما الأدوية التي فيها شيء من الكحول بنسبة ضئيلة فإن ذلك لا يؤثر.(416/17)
ما جاء في الخمر تخلل(416/18)
شرح حديث: (أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الخمر تخلل.
حدثنا زهير بن حرب حدثنا وكيع عن سفيان عن السدي عن أبي هبيرة عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن أبا طلحة رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً، قال: أهرقها، قال: أفلا أجعلها خلاً؟ قال: لا)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في الخمر تخلل، يعني: أنها تحول من كونها خمراً مسكراً إلى كونها خلاً، وذلك بأن يطرح فيها أشياء تذهب سكرها، وتذهب شدتها، فتتخذ خلاً يستفاد به في الطعام.
وأورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة أبي طلحة وأنه استأذن النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم في خمر لأيتام وذلك لما نزل تحريم الخمر، وسأل عن كونها تخلل فقال له: (أهرقها)، فدل على أنه لا يجوز الاحتفاظ بها، وأن الإنسان الذي علم بتحريم الخمر عليه المبادرة إلى التخلص منها، وذلك بإهراقها وعدم إبقائها.
وكذلك لا يجوز له أن يعمل على تخليلها، بل الواجب عليه المبادرة إلى إهراقها والتخلص منها، ولو كان التخليل سائغاً لكان هؤلاء الأيتام الذين هم بحاجة إلى المحافظة على أموالهم أولى من يرخص له في ذلك، لكن ما دام أنه حصل التحريم والمنع ولو كان لأيتام دل على أن الأمر لا يسوغ ولا يجوز.
هذا إذا تدخل فيه صنع الإنسان، أما إذا تخللت بنفسها ففي ذلك خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يقول: إن من قصد تخليلها أو قصد أنها تتحول إلى خل بحبسها فإن ذلك لا يجوز، وأما إذا كان لم يقصد هذا وإنما حصل أنها تركت حتى صارت خلاً ولم يكن ذلك مقصوداً فإنه لا بأس به، ولكن التخلص منها والابتعاد منها لا شك أنه هو الذي ينبغي، وذلك لأن القول بأنه إذا تخللت جاز استعمالها يؤدي ذلك إلى الاحتفاظ بها حتى تتحول بنفسها.(416/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً)
قوله: [حدثنا زهير بن حرب].
زهير بن حرب أبو خيثمة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن وكيع].
وكيع مر ذكره.
[عن سفيان عن السدي].
سفيان مر ذكره.
والسدي هو إسماعيل بن عبد الرحمن صدوق يهم، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي هبيرة].
أبو هبيرة هو يحيى بن عباد بن شيبان ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه مر ذكره.(416/20)
الخمر مما هي(416/21)
شرح حديث: (إن من العنب خمراً وإن من التمر خمراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الخمر مما هي؟ حدثنا الحسن بن علي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن الشعبي عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من العنب خمراً، وإن من التمر خمراً، وإن من العسل خمراً، وإن من البر خمراً، وإن من الشعير خمراً)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: الخمر مما هي؟ يعني: من أي شيء تكون؟ ومن أي شيء تتخذ؟ وأورد أبو داود حديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من العنب خمراً، وإن من التمر خمراً، وإن من البر خمراً، وإن من الشعير خمراً، وإن من العسل خمراً) وهذه هي التي جاءت في الحديث الأول الذي قال فيه: (نزل تحريم الخمر وهي تتخذ من كذا وكذا)، فتلك الخمسة هي هذه الخمسة التي جاءت في هذا الحديث، ولكن هذا لا يعني أنها لا تتخذ من غير ذلك، بل تتخذ من غير ذلك، ولكن هذا هو الذي كان مشهوراً عندهم في المدينة أول ما نزل تحريم الخمر.(416/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن من العنب خمراً وإن من التمر خمراً)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا يحيى بن آدم].
يحيى بن آدم الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر].
إسرائيل مر ذكره.
وإبراهيم بن مهاجر صدوق لين الحفظ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن الشعبي عن النعمان بن بشير].
الشعبي مر ذكره.
والنعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما صحابي من صغار الصحابة، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره ثمان سنوات، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(416/23)
شرح حديث: (إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مالك بن عبد الواحد أبو غسان حدثنا معتمر قال: قرأت على الفضيل بن ميسرة عن أبي حريز أن عامراً حدثه أن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة، وإني أنهاكم عن كل مسكر)].
أورد أبو داود حديث النعمان بن بشير أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الخمر من العصير -أي: عصير العنب- والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة.
وهذا الحديث جاء فيه زيادة الذرة، وجاء فيه زيادة الزبيب؛ لأن العصير المقصود به العنب، وهنا ذكر الزبيب، وهذا يبين أن هذه الأشياء إنما هي أمثلة وليست حصراً لما تتخذ منه الخمر.(416/24)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة)
قوله: [حدثنا مالك بن عبد الواحد أبو غسان].
مالك بن عبد الواحد أبو غسان المسمعي ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا معتمر].
معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: قرأت على الفضيل بن ميسرة].
الفضيل بن ميسرة صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي حريز].
أبو حريز هو عبد الله بن حسين صدوق يخطئ، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[أن عامراً حدثه أن النعمان بن بشير].
عامر هو الشعبي، وهو والنعمان بن بشير قد مر ذكرهما.(416/25)
شرح حديث: (الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثني يحيى عن أبي كثير عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة).
قال: أبو داود: اسم أبي كثير الغبري: يزيد بن عبد الرحمن بن غفيلة السحمي، وقال بعضهم: أذينة.
والصواب: غفيلة].
في الحديث السابق الذي مر لما ذكر الستة الأشياء قال: (وإني أنهاكم عن كل مسكر) يعني: منها ومن غيرها، فليس الأمر مقصوراً على هذه الأشياء وإنما هي أمثلة؛ ولهذا جاء بعد ذلك شيء يشملها ويشمل غيرها، وأن الأمر متعلق بالإسكار، أما إذا لم يكن الشراب مسكراً فإنه مباح وحلال، وما وصل إلى حد الإسكار سواء كان منها أو من غيرها، فإنه حرام لا يسوغ ولا يجوز.
ثم أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة) يعني: في الغالب وليس ذلك للحصر كما هو معروف، وقد مر في الأحاديث السابقة ذكر أشياء متعددة غير العنب والتمر يكون منها اتخاذ الخمر.
وأهل الكوفة لا يرون تحريم الخمر إلا إذا كانت من العنب، وأما من غيره فلا يحرم إلا الكثير، وقالوا: إن في اللغة أن الخمر هي من العنب، فما كان من العنب فهو الخمر والباقي يقاس، والقياس لا يكون إلا بالكثير.
ويجاب: بأنه لا يسلم؛ لأن اللغة لا تحصر الخمر في العنب؛ وهذا هو كلام أهل اللغة، فإن الذين ذكروا هذه الأمور المتعددة هم من أهل اللغة وهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد جاء ذلك في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم لو لم يكن هناك إلا القياس، فإن القياس صحيح، وإلحاق النظير بالنظير أمر مطلوب، ولا شك أن المقيس يلحق بالمقيس عليه في جميع الأمور، ومعلوم أن القليل حرام وإن كان لا يسكر سواء كان من العنب أو غيرها؛ لأنه ذريعة إلى الكثير الذي يسكر، فإذا سد الباب وابتعد عن الوقوع في أي شيء يوصل إلى المحذور، فإن هذا قدر مشترك بين العنب وغيره، فلا يكون المنع خاصاً بالعنب دون غيره، وإنما هو للجميع.(416/26)
تراجم رجال إسناد حديث: (الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبان].
أبان بن يزيد العطار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثني يحيى].
يحيى هو ابن أبي كثير اليمامي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي كثير].
أبو كثير هو يزيد بن عبد الرحمن الغبري ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة رضي الله عنه قد مر ذكره.
[قال أبو داود: اسم أبي كثير الغبري: يزيد بن عبد الرحمن بن غفيلة السحمي، وقال بعضهم: أذينة والصواب: غفيلة].
وهذا واضح.(416/27)
كلام ابن القيم في مفاسد الخمر وأضرارها
ابن القيم رحمه الله له كلام في مفاسد الخمر موجود في كتابه حادي الأرواح، ذكر فيه أضرار الخمر المتنوعة فقال: وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:15].
فذكر سبحانه هذه الأجناس الأربعة ونفى عن كل واحد منها الآفة التي تعرض له في الدنيا، فآفة الماء أن يأسن ويأجن من طول مكثه، وآفة اللبن أن يتغير طعمه إلى الحموضة وأن يصير قارصاً، وآفة الخمر كراهة مذاقها المنافي للذة شربها، وآفة العسل عدم تصفيته، وهذا من آيات الرب تعالى أن تجري أنهار من أجناس لم تجر العادة في الدنيا بإجرائها، ويجريها في غير أخدود، وينفي عنها الآفات التي تمنع كمال اللذة بها كما ينفي عن خمر الجنة جميع آفات خمر الدنيا من الصداع والغول واللغو والإنزاف وعدم اللذة.
فهذه خمس آفات من آفات خمر الدنيا: تغتال العقل ويكثر اللغو على شربها، بل لا يطيب لشاربها ذلك إلا باللغو، وتنزف في نفسها وتنزف المال وتصدع الرأس، وهي كريهة المذاق، وهي رجس من عمل الشيطان، توقع العداوة والبغضاء بين الناس، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتدعو إلى الزنا، وربما دعت إلى الوقوع على البنت والأخت وذوات المحارم، وتذهب الغيرة، وتورث الخزي والندامة والفضيحة، وتلحق شاربها بأنقص نوع الإنسان، وهم المجانين, وتسلبه أحسن الأسماء والسمات، وتكسوه أقبح الأسماء والصفات، تسهل قتل النفس وإفشاء السر الذي في إفشائه مضرته أو هلاكه، ومؤاخاة الشياطين في تبذير المال الذي جعله الله قياماً له ولمن يلزمه مؤنته، وتهتك الأستار وتظهر الأسرار، وتدل على العورات، وتهون ارتكاب القبائح والمآثم، وتخرج من القلب تعظيم المحارم، ومدمنها كعابد وثن.
وكم أهاجت من حرب، وأفقرت من غني، وأذلت من عزيز، ووضعت من شريف، وسلبت من نعمة، وجلبت من نقمة، وفسخت مودة، ونسجت عداوة! وكم فرقت بين رجل وزوجته، فذهبت بقلبه وراحت بلبه! وكم أورثت من حسرة وأجرت من عبرة! وكم أغلقت في وجه شاربها باباً من الخير، وفتحت له باباً من الشر! وكم أوقعت في بلية وعجلت من المنية! وكم أورثت من خزية، وجرت على شاربها من محنة، وجرت عليه من سفلة! فهي جماع الإثم ومفتاح الشر، وسلابة النعم، وجالبة النقم، ولو لم يكن من رذائلها إلا أنها لا تجتمع هي وخمر الجنة في جوف عبد كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة) لكفى.
وآفات الخمر أضعاف أضعاف ما ذكرنا، وكلها منتفية عن خمر الجنة.
انتهى ما يتعلق بالمفاسد والأضرار التي تترب على الخمر من كلام ابن القيم رحمه الله في كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.(416/28)
شرح سنن أبي داود [417]
جاءت الشريعة الإسلامية الغراء بحفظ العقل؛ ولهذا حرمت كل ما يؤدي إلى زواله، وأعظم ذلك المسكرات والمخدرات، ووضعت حداً شاملاً لكل ما حرم من المسكرات والمفترات، وهو أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، من أي شيء كان، وعلى أي لون كان، وكيفما كان.(417/1)
النهي عن المسكر(417/2)
شرح حديث (كل مسكر خمر وكل مسكر حرام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب النهي عن المسكر.
حدثنا سليمان بن داود ومحمد بن عيسى في آخرين قالوا: حدثنا حماد -يعني: ابن زيد - عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر وكل مسكر حرام، ومن مات وهو يشرب الخمر يدمنها لم يشربها في الآخرة)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: باب في النهي عن المسكر، وهنا النهي مقيد بوصف وهو الإسكار، فيدل على أن كل ما أسكر فهو حرام، والتحريم إنما هو لما يسكر كثيره، فيكون قليله تابعاً له من حيث الحرمة، بمعنى: أنه يحرم سداً للذريعة.
إذاً: الحكم معلق ومنوط بالإسكار، والوصف الذي من أجله حرمت الخمر هو الإسكار، فالخمر إنما حرمت لحصول الإسكار فيها.
ثم إن أبا داود رحمه الله عقد هذه الترجمة ليبين أن الحكم منوط بالإسكار، وأن المسكر حرام مطلقاً من أي شيء كان؛ لأن الحكم الذي هو التحريم أنيط بعلة الإسكار.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام)، وقوله: (كل مسكر خمر) فيه أن الخمر ليست مقصورة على العنب، وإنما هي متعلقة بكل مسكر، فكل مسكر يقال له: خمر، لأن الإسكار يحصل به تغطية العقل، والخمر تغطي العقل، فيكون الإسكار نتيجة لاستعمال هذا الشراب، أو المادة التي يكون فيها تخمير العقل وتغطيته.
وقوله: (وكل مسكر حرام) يعني: ليس التحريم مقصوراً على نوع معين، بل كل مسكر فهو خمر، وكل مسكر فإن حكمه التحريم، أي: أنه لا يجوز لإنسان أن يتعاطاه لا قليله ولا كثيره، ولو لم يسكر القليل؛ لأن العبرة بالنهاية وبالغاية، فما أسكر كثيره فقليله حرام كما جاءت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وقوله: (ومن مات وهو يشرب الخمر يدمنها) يعني: أنه يكثر من شربها ومستمر على شربها، هذا هو المقصود بالإدمان.
وقوله: (لم يشربها في الآخرة) الأظهر في معناه: أنه لا يدخل الجنة دخولاً أولياً، فلا يتمتع بما فيها من النعيم، ومن ذلك الخمر التي تكون في الجنة، والتي هي سالمة من كل آفات الدنيا، فإنه لما تعاطاها في الدنيا حرمها في الآخرة، لكن هذا الحرمان له في الآخرة لا يعني أنه يستمر وأنه لا يدخل الجنة أبداً، وأنه سيبقى في النار أبد الآباد، وإنما المقصود من ذلك أنه وإن دخل لا يكون مع أول من يدخل الجنة، وإن كان سيدخلها بعد ذلك إن لم يشأ الله عز وجل له قبل دخولها المغفرة؛ لأن كل ذنب دون الشرك فأمره إلى الله عز وجل، إن شاء عفا عن صاحبه وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن لم يشأ العفو عنه وشاء أن يعذبه، فإنه يعذب على مقدار جرمه ثم بعد ذلك يخرج من النار ويدخل الجنة، فمآله إلى الجنة ولا بد.
ومن العلماء من قال: إنه يدخل الجنة، ولكنه لا يشرب الخمر، يعني: أن هذا النعيم الذي في الجنة المتعلق بالخمر لا يحصل له، والذي يظهر هو الأول، وهو من جنس النصوص التي فيها تحريم الجنة أو عدم دخول الجنة لمن فعل فعلاً من المعاصي ومن الكبائر التي ليست كفراً وليست شركاً بالله عز وجل، فإن الأمر في ذلك أنه لا يدخلها مع أول من يدخلها، وإن دخلها بعد ذلك، فمن شاء الله تعالى أن يدخل النار ويعذب فيها فإن مآله إلى الجنة ولا بد.
فقوله: (لم يشربها في الآخرة) يعني: في الجنة.(417/3)
تراجم رجال إسناد حديث (كل مسكر خمر وكل مسكر حرام)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود].
سليمان بن داود أبو الربيع الزهراني ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[ومحمد بن عيسى].
محمد بن عيسى الطباع ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[في آخرين].
يعني: أن هذين الراويين معهما آناس آخرون أشار إليهم أبو داود دون أن يذكرهم واكتفى بذكر هذين الاثنين.
[قالوا: حدثنا حماد يعني: ابن زيد].
حماد بن زيد بن درهم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وكلمة (يعني: ابن زيد) هذه قالها أبو داود أو من دون أبي داود، وأما تلميذه سليمان بن داود أبو الربيع الزهراني أو محمد بن عيسى الطباع فلا يحتاج إلى أن يقول: (يعني)، بل ينسب شيخه كما يريد، ويذكر شيخه كما يريد، لكنهما ذكراه بالاقتصار على لفظ حماد دون أن ينسباه، فمن دون التلاميذ لما أراد أن يضيف شيئاً أتى بكلمة (يعني) حتى يتبين بها أن هذا التوضيح والبيان ليس من التلاميذ، وإنما هو ممن دون التلاميذ.
[عن أيوب].
أيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وهم: عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير، وهو أيضاً أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذين يقول فيهم السيوطي في الألفية: والمكثرون في رواية الأثر أبو هريرة يليه ابن عمر وأنس والحبر كالخدري وجابر وزوجة النبي والبحر المراد به: ابن عباس، وزوجة النبي المراد بها: أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عن الجميع.(417/4)
بيان أن الإدمان لا يلزم منه الاستحلال
قوله: (لم يشربها في الآخرة) الأظهر: أنه لا يدخل الجنة دخولاً أولياً، وهذا لا يفهم منه أن إدمانه على الخمر يدل على استحلاله لها، فإن كان مستحلاً لها فهو لا يدخلها أبداً؛ لأنه يكون كافراً بالاستحلال، ولكن الكلام في غير المستحل.
ولا تلازم بين الإدمان والاستحلال، بل قد يكون الإنسان مدمناً وهو عاصٍ، ويعتبر مذنباً، ولا يقول: إنها حلال، ولكنه مبتلى بهذه الخبيثة أم الخبائث.
فلا تلازم بين الإدمان وبين الاستحلال، فيمكن أن يكون مع الإدمان مستحلاً حيث يقول: الخمر حلال، وليست بحرام، ويمكن أن يكون مع إكثاره منها وإدمانه لها يعتبر نفسه مذنباً، وليس بالمستحل، ويقول: إنه مخطئ وإنه قد ابتلي، وهو يعترف بذنبه، فهذا لا يكون كافراً، لكن إن كان مستحلاً فإنه لا يشربها أبداً ولا يدخل الجنة، وأما مع كونه غير مستحل فإنه لا يدخلها مع أول من يدخلها، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قتات) أي: نمام، يعني: لا يدخلها مع أول من يدخلها، وليس معنى ذلك أنها محرمة عليه أبداً، كما حرمت على الكفار، حيث لا سبيل للكفار إلى دخول الجنة.
بل كل صاحب كبيرة فأمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا وتجاوز عنه ودخل الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبه ولكنه لا يخلده في النار، ولا يبقيه فيها أبد الآباد، بل يخرجه منها ويدخله الجنة ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين هم أهلها ولا سبيل لهم إلى الخروج منها.(417/5)
شرح حديث (كل مخمر خمر وكل مسكر حرام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن رافع النيسابوري حدثنا إبراهيم بن عمر الصنعاني قال: سمعت النعمان بن أبي شيبة يقول: عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كل مخمر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب مسكراً بخست صلاته أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال، قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله؟! قال: صديد أهل النار، ومن سقاه صغيراً لا يعرف حلاله من حرامه كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مخمر خمر) يعني: كل مخمر للعقل، مغطٍ له ساتر له، يكون خمراً، والمقصود بالمخمر: كل مسكر، وهذا مثل قوله في الحديث الأول: (كل مسكر خمر).
فقوله: (كل مخمر خمر) يعني: كل مسكر مغطٍ للعقل ساتر له، فإنه يكون خمراً ويقال له: خمر، من أي شيء كان من العنب أو التمر أو الزبيب أو البسر أو الشعير أو البر أو العسل أو أي شيء يحصل به الإسكار، ويحصل به تخمير العقل وتغطيته، فما كان كذلك فإنه يقال له: خمر.
وقوله: (وكل مسكر حرام) هو من جنس الجملة الأولى التي وردت في الحديث الأول وهي قوله: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام) وهنا قال: (كل مخمر خمر) يعني: كل مسكر مغطٍ للعقل خمر.
وقوله: (وكل مسكر حرام).
هذا فيه بيان التحريم، والفرق بين الجملة الأولى والثانية أن الأولى فيها تسمية الخمر، والثانية فيها بيان الحكم وأنها حرام.
وقوله: (ومن شرب مسكراً بخست -يعني: نقصت- صلاته أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه).
يعني: أن هذا النقصان الذي قد حصل وهذا البخس الذي قد حصل، إذا تاب تاب الله عليه.
وقوله: (فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال) هنا قال: (فإن عاد الرابعة) وما ذكر إلا مرة واحدة، لكن جاء في سنن الترمذي من طريق أخرى عن عبد الله بن عمر أنه ذكر ذلك ثلاث مرات ثم قال: (فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال).
فمعنى ذلك: أنه قال: إن شربها بخست صلاته أربعين صباحاً، فإن عاد بخست صلاته أربعين صباحاً، فإن عاد الثالثة كذلك، ثم قال: (فإن عاد -يعني: للرابعة- كان حقاً على الله عز وجل أن يسقيه من طينة الخبال) ومعنى ذلك: أنه كلما شرب يحصل له المعاقبة بأن يحرم ثواب الصلوات هذه المدة، وإن كان يعتبر مؤدياً للصلاة، ولا يقال: إنه يعيدها لأنها ليس لها أجر، ولكنه فعلها وأداها وحرم ثوابها، وحيل بينه وبين ثوابها عقوبة له على ذلك.
وقوله: (بخست صلاته أربعين صباحاً) أي: أنه يحرم الثواب هذه المدة، فإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد كذلك ثم الثالثة كذلك، وإن عاد الرابعة كان حقاً على الله عز وجل أن يسقيه من طينة الخبال.
وطينة الخبال هي عصارة أهل النار، وعصارة أهل النار هي ما يخرج منهم من الصديد والقيح، فإن هذا هو الذي يسقى إياه من كان على هذه الهيئة وعلى هذا الوصف، وهو كونه يشرب الخمر، ويكرر شربها، فيحرم الأجر في الصلوات التي يصليها، وإن عاد المرة الرابعة يكون هذا جزاؤه بأن يسقى من طينة الخبال وهي عصارة أهل النار، نعوذ بالله من ذلك! ونسأل الله السلامة والعافية.
وقوله: (ومن سقاه صغيراً لا يعرف حلاله من حرامه، كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال) يعني: من سقى صغيراً ليس عنده معرفة بالحلال والحرام خمراً، فإنه يعاقب بهذه العقوبة؛ لأنه فعل هذا الفعل الشنيع مع غيره ممن هو جاهل، وممن هو صغير غير مدرك وغير مميز.(417/6)
تراجم رجال إسناد حديث (كل مخمر خمر وكل مسكر حرام)
قوله: [حدثنا محمد بن رافع النيسابوري].
محمد بن رافع النيسابوري القشيري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة، وهو أحد شيوخ الإمام مسلم الذين أكثر عنهم، والإمام مسلم يوافقه في البلد وفي القبيلة؛ لأن مسلماً قشيري من حيث النسب والقبيلة، ونيسابوري من حيث البلد، وشيخه محمد بن رافع هو بلديه ومن قبيلته، فهو نيسابوري قشيري، وهذا الرجل الذي هو محمد بن رافع هو الذي يروي من طريقه الإمام مسلم صحيفة همام بن منبه، فالأحاديث التي يوردها الإمام مسلم من صحيفة همام بن منبه كلها من طريق محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة، فشيخه في أحاديث الصحيفة هو محمد بن رافع.
[حدثنا إبراهيم بن عمر الصنعاني].
إبراهيم بن عمر الصنعاني مستور، أخرج له أبو داود، والمستور: هو مجهول الحال، وهذا الحديث مذكور في ترجمته في تهذيب الكمال.
[قال: سمعت النعمان بن أبي شيبة].
النعمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن طاوس].
طاوس بن كيسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا المستور الذي في سند الحديث لا يؤثر؛ لأن قضية بخس الصلاة أو نقص الصلاة جاءت من طريق أخرى عن ابن عمر، غير هذه الطريق التي جاءت عن ابن عباس، وأما سقيه من طينة الخبال، فقد جاء ذلك من طرق، وعلى هذا فلا يؤثر وجود هذا الشخص المستور في هذا الإسناد.(417/7)
حكم المخدرات
المخدرات هي أخطر من الخمر؛ لأن الخمر ضررها مؤقت، وأما هذه المخدرات فتهدم الجسم، ويكون مدمنها ميتاً وهو حي، بسبب إتلافها للجسم.
وأما المسكرات فإنها مادامت مسكرة ففيها الضرر، وإذا ذهب السكر رجعت الأجسام إلى طبيعتها وإلى حالتها، وأما هذه المخدرات فتفتك بالجسم وتتلفه، وتميته، ويكون كأنه فقد حياته وهو حي؛ ولهذا فإن ضررها أكبر من ضرر المسكرات؛ لأن المسكرات ضررها يكون ما دام السكر موجوداً، وأما تلك فضررها مستمر ومتصل ودائم.
قيل: وذكر حرمانه الصلاة لأنها أفضل عبادات البدن، وذكرت الأربعين لأن الخمر تبقى في جوف الشارب وعروقه تلك المدة.
أما كون الصلاة أعظم أركان الإسلام فإن هذا ليس فيه إشكال، وأما كون الخمر تبقى في جوف شاربها أربعين فهذا لا أدري وجهه وصحته؟ فكونها تبقى أربعين بهذا التحديد لا أدري ما وجهه؟ وقد جاء ذكر الأربعين في غير الخمر، كقوله صلى الله عليه وسلم: (من أتى عرافاً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) وهذا ليس له دخل بقضية شيء يبقى في جسمه.(417/8)
شرح حديث (ما أسكر كثيره فقليله حرام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة حدثنا إسماعيل -يعني: ابن جعفر - عن داود بن بكر بن أبي الفرات عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) وهذا يدلنا على أن كل مسكر محرم قليله وكثيره، أما كثيره فمن أجل الإسكار، وأما قليله فمن أجل أنه ذريعة إلى الكثير، ووسيلة إلى الوصول إلى الكثير، فلذا يقطع الطريق أمام الإنسان، حتى لا يعرض نفسه للوقوع في هذه الخبيثة أم الخبائث، فلو لم يسكر القليل فإنه لا يجوز تعاطيه وإن لم يسكر؛ لأن الأخذ منه والتساهل فيه يؤدي إلى الوصول إلى الكثير الذي يحصل به الإسكار، لكن إذا منع نفسه من ذلك، وحال بين نفسه وبين ذلك، وأبعد نفسه عن ذلك؛ كان في ذلك سلامته ونجاته.
إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) يدلنا على أن كل ما كان مسكراً من أي شيء كان فإنه حرام، وأن ما أسكر منه الكثير فإنه يحرم منه القليل، ولا يقال: إن الأمر متعلق بالإسكار فقط، وأنا أشرب حيث لا إسكار، بل الرسول صلى الله عليه وسلم منع ذلك؛ لأنه ذريعة ووسيلة إلى الوصول إلى الأمر المحرم، والشريعة جاءت بسد الذرائع.
والإمام ابن القيم رحمه الله ذكر في كتابه إعلام الموقعين تسعة وتسعين دليلاً على سد الذرائع التي توصل إلى الأمور المحرمة، فالوسائل حرمت من أجل الغايات؛ لأنها تؤدي إلى أمر محرم، فحرم ذلك الشيء الذي يؤدي إليه وإن كان هو نفسه لا يحصل منه الإسكار.(417/9)
تراجم رجال إسناد حديث (ما أسكر كثيره فقليله حرام)
قوله: [حدثنا قتيبة].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسماعيل يعني: ابن جعفر].
إسماعيل بن جعفر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن داود بن بكر بن أبي الفرات].
داود بن بكر بن أبي الفرات صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن محمد بن المنكدر].
محمد بن المنكدر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(417/10)
شرح حديث (سئل رسول الله صلى الله عليه سلم عن البتع فقال كل شراب أسكر فهو حرام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع فقال: كل شراب أسكر فهو حرام)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع).
والبتع هو: الشراب الذي يتخذ من العسل، وهذا السؤال خاص معين، ولكنه صلى الله عليه وسلم أعطى جواباً عاماً؛ لأنه قد أعطي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم، فلم يكن جوابه أن قال: هو حرام، أو قال: هل يسكر أو لا يسكر؟ وإنما قال: (كل مسكر حرام).
إذاً: الحكم معلق بالإسكار سواء جاء من العسل, أو جاء من التمر، أو جاء من العنب، أو البسر، أو الشعير، أو الذرة أو الحنطة أو أي شيء، فكل مسكر حرام، فكان هذا من جوابه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه الذي يعطي الحكم عن المسئول عنه وزيادة، وأن الأمر منوط بالإسكار سواء كان من البتع المتخذ من العسل، أو أي نوع آخر.
وأما إقامة الحد هل يكون بتناول القليل أو بالإسكار؟ فذكر بعض العلماء أنه يعرف شرب الخمر بالتقيؤ، ومعلوم أن التقيؤ قد يكون بالقليل، وليس بلازم أن يكون بالشيء الذي يسكر، فمن شرب شيئاً وعرف أنه خمر، فيكون الحكم أنه شرب خمراً، وليس الحكم من أجل حصول الإسكار فقط، وإنما من أجل شرب الخمر، ومعلوم أن من شرب قليلاً فقد شرب خمراً، فمن جملة الأشياء التي يستدل بها على شرب الخمر التقيؤ، فالإنسان إذا تقيأ وعرف أنه خمر فمعناه أنه فعل أمراً يقتضي الحد.(417/11)
تراجم رجال إسناد حديث (سئل رسول الله صلى الله عليه سلم عن البتع فقال كل شراب أسكر فهو حرام)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
ابن شهاب هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف المدني ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(417/12)
طريق أخرى لحديث (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع فقال كل شراب أسكر فهو حرام) وتراجم رجال إسنادها
[قال أبو داود: قرأت على يزيد بن عبد ربه الجرجسي: حدثكم محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري بهذا الحديث بإسناده زاد: (والبتع: نبيذ العسل، كان أهل اليمن يشربونه)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وفيه قوله: (والبتع: نبيذ العسل، كان أهل اليمن يشربونه) يعني: أن هذا تفسير للبتع الذي جاء في الحديث من الطريق الأولى، فإنه سأله عن البتع، فقال: (كل شراب أسكر فهو حرام).
والنبيذ هو شيء ينتبذ في أوعية، ويحصل منه التخمر، ويمكن أن يوضع معه شيء، وإلا فالعسل يمكن أنه يبقى بدون أن يتخمر.
قوله: [قرأت على يزيد بن عبد ربه الجرجسي].
يزيد بن عبد ربه الجرجسي ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثكم محمد بن حرب].
محمد بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزبيدي].
الزبيدي هو محمد بن الوليد الزبيدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن الزهري بهذا الحديث بإسناده].
أي: بإسناده الذي فوق الزهري، وهو عن أبي سلمة عن عائشة.
[قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا إله إلا الله ما كان أثبته! ما كان فيهم مثله.
يعني: في أهل حمص.
يعني: الجرجسي].
هذا نقل من أبي داود عن الإمام أحمد أنه كان يثني على الجرجسي شيخ أبي داود في هذا الحديث، وهو أنه ما كان في أهل حمص مثله، وهذه تزكية له وثناء عليه.(417/13)
شرح حديث ديلم الحميري (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله! إنا بأرض باردة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري حدثنا عبدة عن محمد -يعني: ابن إسحاق - عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن ديلم الحميري رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله! إنا بأرض باردة نعالج فيها عملاً شديداً، وإنا نتخذ شراباً من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، قال: هل يسكر؟ قلت: نعم، قال: فاجتنبوه، قال: قلت: فإن الناس غير تاركيه، قال: فإن لم يتركوه فقاتلوهم)].
أورد أبو داود حديث ديلم الحميري رضي الله عنه: (أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنا نتخذ شراباً من القمح نتقوى به على أعمالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيسكر؟ فقال: نعم, قال: اجتنبوه، قال: إنهم غير تاركيه -يعني: إنهم قد اعتادوه وألفوه- فقال: إن لم يتركوه فقاتلوهم).
سأله صلى الله عليه وسلم عن الإسكار لأن الحكم يتعلق به، أما إذا كان لا يسكر فلا بأس؛ لأن المحذور هو كونه يسكر، فقال: (إنه يسكر).
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوه)، أي: مادام يسكر فإنه يجتنب؛ لأن الخمر يجب اجتنابها والابتعاد عنها.
فقال: (إنهم غير تاركيه) يعني: أنهم قد ألفوه فقال عليه الصلاة والسلام: (إن لم يتركوه فقاتلوهم) يعني: إن امتنعوا وأصروا على أنهم يشربونه فإنهم يقاتلون حتى يتركوه يعني: إذا حصل منهم مقاتلة قوتلوا، لكن إن لم تحصل منهم مقاتلة فإنها تقام عليهم الحدود، فمن حصل منه الشرب أقيم عليه الحد.
فإذا هم قاتلوا بمعنى أنهم وقفوا أمام الجهات المسئولة فإنهم يقاتلون، لكن إذا لم يحصل منهم قتال فإن الذي يحصل منه الشرب يحد.
وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول ديلم: إنه يقويهم على أعمالهم، دليل على أن هذه الخمر فيها فائدة، والله تعالى يقول: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219].(417/14)
تراجم رجال إسناد حديث ديلم الحميري (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله! إنا بأرض باردة)
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هناد بن السري أبو السري ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن [حدثنا عبدة].
عبدة بن سليمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد يعني: ابن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد بن أبي حبيب].
يزيد بن أبي حبيب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مرثد بن عبد الله اليزني].
مرثد بن عبد الله اليزني أبو الخير المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ديلم الحميري].
ديلم الحميري رضي الله عنه صحابي، وحديثه أخرجه أبو داود.(417/15)
شرح حديث أبي موسى (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب من العسل فقال ذاك البتع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن عاصم بن كليب عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب من العسل فقال: ذاك البتع، قلت: وينتبذ من الشعير والذرة فقال: ذاك المزر، ثم قال: أخبر قومك أن كل مسكر حرام)].
أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري أنه سأله عن شراب من العسل فقال: (ذاك البتع، وعن شراب من الشعير والذرة، فقال: ذاك المزر، ثم قال: أخبر قومك أن كل مسكر حرام) يعني: أن حكم هذه الأشربة التي ذكرتها يتعلق بالإسكار، فكل مسكر حرام من أي شيء كان.
وهذا من جنس الحديث الأول الذي فيه السؤال عن البتع فقال: (كل مسكر حرام)، وهنا سئل عليه الصلاة والسلام عن الشراب الذي يقال له البتع والشراب الذي يقال له المزر فقال: (كل مسكر حرام)، فأعطى جواباًَ عاماً يدخل فيه المسئول عنه وغير المسئول عنه بياناً أن الحكم متعلق بالإسكار.(417/16)
تراجم رجال إسناد حديث أبي موسى (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب من العسل فقال ذاك البتع)
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
وهب بن بقية الواسطي ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن خالد].
خالد بن عبد الله الطحان الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عاصم بن كليب].
عاصم بن كليب صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي بردة عن أبي موسى].
أبو بردة بن أبي موسى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وأبو موسى هو عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(417/17)
شرح حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخمر والميسر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن الوليد بن عبدة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وقال: كل مسكر حرام).
قال أبو داود: قال ابن سلام أبو عبيد: الغبيراء: السكركة تعمل من الذرة، شراب يعمله الحبشة].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وقال: كل مسكر حرام).
يعني: بعدما ذكر بعض ما يدخل تحت اسم الخمر وغيرها قال: (كل مسكر حرام) أي: أن الحكم يتعلق بالإسكار، فمن أي نوع اتخذ المسكر فإنه يكون حراماً وليس التحريم على نوع دون نوع وإنما هو مقيد بالإسكار، فمهما وجد فما أسكر كثيره فإن قليله يكون حراماً.
والميسر هو: القمار، والكوبة هي: الطبل، وذكر الطبل مع الخمر؛ لأنه يحصل مع السكر التلذذ بالقيان والمزامير والطرب وما إلى ذلك، فهناك شيء من التلازم بين أم الخبائث وبين آلات اللهو والطرب والكوبة.
والغبيراء هو: نوع من النبيذ الذي يسكر وهو يتخذ من الذرة.
وقوله: [قال ابن سلام أبو عبيد: الغبيراء: السكركة تعمل من الذرة].
السكركة هي: شراب يتخذ من الذرة يستعمل في أرض الحبشة.(417/18)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخمر والميسر)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد بن سلمة بن دينار البصري ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن الوليد بن عبدة].
الوليد بن عبدة مولى عمرو بن العاص ثقة من الثانية، وقيل: هو عمرو بن الوليد مات سنة ثلاث ومائة، أخرج له أبو داود.
[عن عبد الله بن عمرو].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وقوله: [قال ابن سلام أبو عبيد: الغبيراء: السكركة تعمل من الذرة شراب يعمله الحبشة].
هذا تفسير للغبيراء وأبو عبيد القاسم بن سلام له كتاب اسمه (غريب الحديث) فيمكن أن يكون هذا منه.(417/19)
حكم شرب السجائر
فإن قيل: هل يدخل في حديث: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) شرب السجائر؟ ف
الجواب
أن الدخان محرم، وفيه ضرر، وفيه إضاعة للمال، وفيه إتلاف للنفس، وفيه إيذاء للناس، كل هذه أمور محرمة موجود فيه، لكن لا أعلم أنه يسكر.(417/20)
حكم استعمال المسكر للوضوء وغيره
قوله: (كل مسكر حرام)، كلمة (حرام) المقصود بها تحريم الشراب، أما الاستعمال كالوضوء وغيره؛ فالوضوء كما هو معلوم لا يكون إلا بالماء، ولا يكون بالخمر ولا بالعصير؛ لأنها خرجت عن كونها ماءً فلا يقال لها: ماء؛ لأن النبيذ تغير وصار لونه لوناً لون آخر غير لون الماء، وقد يكون خالطه جزئيات منه، فهذا وإن لم يسكر فإنه لا يجوز أن يتوضأ به؛ لأن الوضوء إنما يكون بالماء، وإذا تغير حاله إلى شيء آخر صار له اسم غير الماء فلا يقال له: هذا ماء وإنما يقال له: نبيذ، والتطهر إنما هو بالماء وليس بالنبيذ.(417/21)
شرح حديث (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سعيد بن منصور حدثنا أبو شهاب عبد ربه بن نافع عن الحسن بن عمرو الفقيمي عن الحكم بن عتيبة عن شهر بن حوشب عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر)].
أورد أبو داود حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكر ومفتر)، والمسكر مر ذكره في الأحاديث، والمفتر هو: الذي يحصل منه الفتور والاسترخاء والخمول والكسل، فيصير الإنسان ليس عنده حركة ولا نشاط، بل خمول، هذا هو المُفتر.
وقيل: إن هذا يكون وسيلة ومقدمة للإسكار.(417/22)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر)
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو شهاب عبد ربه بن نافع].
أبو شهاب عبد ربه بن نافع صدوق يهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن الحسن بن عمرو الفقيمي].
الحسن بن عمرو الفقيمي ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن الحكم بن عتيبة].
الحكم بن عتيبة الكندي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شهر بن حوشب].
شهر بن حوشب صدوق كثير الإرسال والأوهام، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أم سلمة].
أم سلمة هند بنت أبي أمية أم المؤمنين رضي الله عنها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
الحديث ضعفه الألباني من أجل شهر بن حوشب.(417/23)
حكم الأدوية المسكنة للأعصاب والمنومة
الأدوية المسكنة للأعصاب والمنومة تعتبر من المفترات، ولكن إذا كانت تستعمل من أجل العلاج والدواء وليس من أجل شرب أو من أجل تخدير أو ما إلى ذلك فلا بأس بها.(417/24)
شرح حديث (وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد وموسى بن إسماعيل قالا: حدثنا مهدي -يعني: ابن ميمون -حدثنا أبو عثمان قال موسى: وهو عمرو بن سالم الأنصاري عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام) والفرق هو: مكيال يتسع لشيء كثير.
وقوله: (فملء الكف منه حرام) هذا كقوله: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) وهنا ذكر هذا المكيال الذي يدل على الكثرة فهو من جنس ما تقدم في قوله: (وما أسكر كثيره فقليله حرام).(417/25)
تراجم رجال إسناد حديث (وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام)
قوله: [حدثنا مسدد وموسى بن إسماعيل].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
وموسى بن إسماعيل مر ذكره.
[قالا: حدثنا مهدي يعني: ابن ميمون].
مهدي بن ميمون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو عثمان قال موسى: وهو عمرو بن سالم الأنصاري].
عمرو بن سالم الأنصاري مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي.
[عن القاسم].
القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة رضي الله عنها قد مر ذكرها.
والأحاديث التي مرت شاهدة لهذا الحديث، فهو وإن كان فيه هذا المقبول إلا أنه متفق مع تلك الأحاديث التي فيها: (كل مسكر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام).(417/26)
شرح سنن أبي داود [418]
حرم الشرع الحنيف في أول الإسلام الانتباذ في أوعية معينة كالدباء والحنتم والمزفت والمقير؛ لأن النبيذ كان إذا تخمر لا يظهر أثر ذلك من خارجها، ثم نسخ ذلك وأُبيح الانتباذ في كل وعاء بشرط ألا يصل النبيذ إلى حد الإسكار، فإذا وصل إلى حد الإسكار فإنه يحرم.(418/1)
باب في الداذي(418/2)
شرح حديث: (ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الداذي.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا زيد بن الحباب حدثنا معاوية بن صالح عن حاتم بن حريث عن مالك بن أبي مريم قال: دخل علينا عبد الرحمن بن غنم فتذاكرنا الطلاء فقال: حدثني أبو مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: باب في الداذي، والداذي قيل: إنها حبوب توضع على النبيذ فيشتد، يعني فتكون سبباً في كونه يكون مسكراً.
وأورد أبو داود حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) يعني: أن الخمر هي كل مسكر (وكل مسكر حرام)، فالحكم يناط بالإسكار ولو سمي المسكر بأي شيء يسمى به، فإن العبرة بالحقائق لا بالألفاظ، فإذا سميت الخمر باسم لا تعرف به، وقد يكون اسماً ظاهره الطيب وظاهره الحسن فإن الأسماء لا تغير من الحقائق شيئاً، فالحرمة حاصلة والتحريم موجود ولو سميت بغير ذلك، وهذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يأتي أناس يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها فيقولون مثلاً: ماء العنب أو ماء الشعير أو ما إلى ذلك، فأي شراب وصل إلى حد الإسكار فهو محرم، وإن كان لم يصل إلى حد الإسكار فهو حلال، وإن وصل إلى حد الإسكار فالقليل والكثير حرام.(418/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زيد بن الحباب].
زيد بن الحباب صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا معاوية بن صالح].
معاوية بن صالح بن حدير صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن حاتم بن حريث].
حاتم بن حريث مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن مالك بن أبي مريم].
مالك بن أبي مريم مقبول، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[قال: دخل علينا عبد الرحمن بن غنم].
عبد الرحمن بن غنم مختلف في صحبته فقيل: صحابي، وقيل: تابعي ثقة أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[فقال: حدثني أبو مالك الأشعري].
أبو مالك الأشعري رضي الله عنه صحابي، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[قال أبو داود: حدثنا شيخ من أهل واسط قال: حدثنا أبو منصور الحارث بن منصور قال: سمعت سفيان الثوري وسئل عن الداذي فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها).
قال أبو داود: وقال سفيان الثوري: الداذي شراب الفاسقين].
أورد أبو داود هذا الحديث من طريق أخرى عن سفيان الثوري وسئل عن الداذي فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) يعني: وهذا معناه: أنه اسم محدث لها وأنه من تسميتها بغير اسمها.
وقوله: [وقال سفيان الثوري: الداذي شراب الفاسقين].
يعني: أن الخمر أو كل شراب مسكر هو شراب أهل الفسوق أو إنما الذي يفعله أهل الفسوق إلا من كان مستحلاً فإنه يكون كافراً.
وقوله: [حدثنا شيخ من واسط قال: حدثنا أبو منصور الحارث بن منصور].
الحارث بن منصور صدوق يهم، أخرج له أبو داود.
[قال: سمعت سفيان الثوري].
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث فيه مقبولان، ولكن له شواهد ذكرها ابن القيم في تهذيب السنن فقال: ولفظ حديث ابن ماجة الذي أشار إليه المنذري: (ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير)، وقد أخرج ابن ماجة أيضاً من حديث ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أبي أمامة يرفعه: (لا تذهب الليالي والأيام حتى يشرب طائفة من أمتي الخمر يسمونه بغير اسمها)، وأخرجه أيضاً من حديث ابن محيريز عن ثابت بن السمط عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال البخاري في صحيحه: باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد قال: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثنا عطية بن قيس الكلابي قال: حدثني عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري والله! ما كذبني سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم تأتيهم الحاجة فيقولون: ارجع إلينا غداً فيبيتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة).
وهذه كلها شواهد لقوله في هذا الحديث: (يسمونها بغير اسمها).(418/4)
الأسئلة(418/5)
حكم الأدوية الطبية والبنج والعطور التي فيها كحول
السؤال
كثرت الأسئلة عن حكم استخدام الأدوية الطبية والبنج والعطور التي فيها كحول؟
الجواب
البنج ليس فيه إسكار، وإنما فيه تخدير حيث يكون الإنسان ليس به حراك لفترة معينة حتى يتمكنوا من إجراء عملية له ونحو ذلك، فالبنج ليس فيه إسكار وإنما فيه شبه الموت، فإذا بنج إنسان يصير كأنه لا حياة فيه، فيقطعون جلده كما يشاءون وهو لا يحس ولا يشعر.
وأما العطور فالأشياء التي فيها كحول تترك، والطيب الطيب كثير بحمد الله، فيستغنى بما هو طيب عن غيره.(418/6)
حكم إقامة الحد على شارب الخمر بمجرد الرائحة
السؤال
هل يقام الحد على شارب الخمر بمجرد الرائحة؟
الجواب
جاء عن بعض الصحابة شيء من هذا، لكن قد يشرب الإنسان خمراً وهو لا يعرف أنها خمر، لذا لا يقام الحد بمجرد الرائحة.(418/7)
حكم الثمر المسكر
السؤال
في بلادنا نوع من الثمرات اسمها دوريان، إذا أكلنا منها أكثر من خمس حبات فقد تؤدي إلى الإسكار، فهل يدخل ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)؟
الجواب
الذي يمنع هو الذي يسكر، والذي يصل إلى حد الإسكار، لكن إذا كان من الأشياء الطيبة فلا، فإن صاحب عون المعبود ذكر أن الزعفران إذا أكثر منه يسكر، مع أنه يستعمل ويخلط بالأطعمة ويستفاد منه، وكونه يحصل الإسكار بالكثرة لا يدل على تحريمه؛ لأنه ليس بشراب ولا بشيء من الأشياء التي تتخذ أو تخمر، وإنما هو شيء طيب، ولكنه قد يؤدي الإكثار منه إلى أمر لا يجوز، لكن لا يقال: إن استعماله لا يجوز، فالزعفران يجوز استعماله، مع أن الكثير منه يسكر، والله أعلم.(418/8)
باب في الأوعية(418/9)
شرح حديث: (نهى عن الدباء والحنتم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الأوعية.
حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا منصور بن حيان عن سعيد بن جبير عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم قالا: (نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: باب في الأوعية، أي: الأوعية التي ينتبذ فيها وتتخذ أوعية للنبيذ، والنبيذ يجوز شربه بشرط ألا يصل إلى حد الإسكار، ولا يجوز تركه حتى يسكر؛ لأنه يكون بذلك خمراً، والخمر لا يجوز استعمالها ولا الاحتفاظ بها، فينتبذ في الأوعية ما لم يصل النبيذ إلى حد الإسكار، فإن لم يصل إلى حد الإسكار فإنه ينتفع به ويستفاد منه.
وقد جاءت أحاديث عديدة فيها نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الانتباذ في بعض الأوعية، وتلك الأوعية كانت غليظة وكثيفة وسميكة بحيث إنه لو حصل التغير إلى حد الإسكار لا يظهر على سطحها من الخارج وعليها من الخارج، بخلاف الأسقية، فإنها إذا وصل النبيذ إلى حد الإسكار تتأثر وتتغير تلك الأسقية، ويظهر تغير ما في باطنها على ظاهرها، وقد تتشقق وتتفطر بسبب ذلك الذي تغير في داخلها، فنهوا في أول الأمر عن الانتباذ في أوعية غليظة سميكة إذا وصل النبيذ فيها إلى حد الإسكار لا يظهر عليها من الخارج، فمنعوا منها ونهوا عنها في أول الأمر، وبعد ذلك رخص لهم أن ينتبذوا في كل وعاء بشرط ألا يشربوا مسكراً، أي: أنه ينتبذ في أي وعاء ولكن بشرط ألا يصل إلى حد الإسكار، وإنما يستعمل قبل أن يصل إلى حد الإسكار.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم وفيه: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن أربعة أشياء: عن الدباء والنقير والحنتم والمزفت).
وهذه أربعة أوعية: الدباء وهو: القرع، وكانوا يقطعون رأس الدباء ثم يستخرجون اللب الذي في وسطها، ويبقى الغلاف الخارجي فييبسونه في الشمس فيكون وعاءً يضعون في وسطه النبيذ واللبن وغير ذلك من الأشربة، فكانوا ينتبذون فيه، ومعنى ذلك: أنهم كانوا يقطعون رأس الدباء الذي فيه العرق فإذا قطع يكون لها فم مستوٍ فيستخرجون اللب من أعلاها إلى أسفلها، ويبقى الغلاف الخارجي فتكون وعاءً توضع فيه الحاجات المائعة وغير المائعة، ومن ذلك أنه كان ينتبذ فيها، فهذا معنى قوله: (الدباء) يعني: أنها لا تتخذ وعاء ينتبذ فيه.
والحنتم: جرار تتخذ من الطين وكان ينتبذ بها.
والمزفت هو: ما طلي بالزفت.
والنقير هو: أنهم كانوا يأتون إلى أصل النخلة أو إلى خشبة عريضة فينقرونها بحيث تكون كالقدح أو الإناء فينتبذون فيها، فهذه الأشياء الأربعة كان النهي عنها موجوداً في أول الإسلام؛ لأن الانتباذ فيها قد يؤدي إلى الإسكار، وقد يغفلون عنها ويصل ما فيها إلى حد الإسكار فيشربونه ويسكرون، فنهوا عن الانتباذ فيها وأمروا أن ينتبذوا في الأسقية التي إذا حصل تغير للذي في داخلها يظهر على سطحها وعلى خارجها أنه تغير، وأنه حصل فيه الاشتداد والتغير، فإنه إذا اشتد يظهر على سطحها وقد يتمزق فيكون ذلك علامة على أنه وصل إلى حد الإسكار فيتركونه، وما كان قبل ذلك يستعملونه، وأما مثل الدباء والنقير والمزفت والحنتم فإنها قد تبلغ إلى حد الإسكار ولكن سطحها الخارجي لا يتبين عليه ذلك؛ لسماكته ولكثافته.
فهذه أوعية كان النهي عنها في أول الأمر وبعد ذلك لما مضى وقت واستقرت الأحكام واستقر للناس تحريم الخمر أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم أن ينتبذوا في كل سقاء لكن بشرط ألا يشربوا مسكراً كما جاء في حديث بريدة الذي ذكر فيه ثلاثة أمور فيها الناسخ والمنسوخ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكراً، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي ألا فادخروا)، فالناسخ والمنسوخ موجود في حديث بريدة بن الحصيب هذا، ومنه الانتباذ في أوعية كالحنتم والنقير والدباء وغير ذلك، فكان الحكم الناسخ أنهم ينتبذون في أي وعاء لكن بشرط ألا يشربوا مسكراً، يعني: أنهم يتنبهون بحيث يستعملونه قبل أن يصل إلى حد الإسكار.
وقول ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما: (نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن) فيه تأكيد للخبر وأنهما يعرفان ذلك تماماً ويشهدان أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن هذه الأشياء، أي عن الانتباذ فيها، وهي هذه الأمور الأربعة أو هذه الأوعية الأربعة.
فهذا إخبار منهما بأن النبي حرم هذا، وأكدا هذا الإخبار بأنهما يشهدان بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حرم ذلك، فشهادتهما فيها إخبار عن شيء سمعاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنهي والتحريم المضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو مأخوذ من سماع كلامه صلى الله عليه وسلم.
والانتباذ هو: وضع بعض الأشياء التي تتحول إلى نبيذ كالتمر ونحوه حتى تصير نبيذاً، يعني: أنهم يضعون التمر في الماء عدة أيام ثم بعد ذلك يتحول ويتحلل إلى أن يختلط بهذا الماء، فهذا هو النبيذ، لكن إذا وصل إلى حد الإسكار فإنه لا يجوز وقبل ذلك يجوز، والحديث الذي فيه قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنهم كانوا يسقونه اللبن فيخرج من جوفه ويسقونه النبيذ فيخرج من جوفه المقصود بالنبيد: أنه كان تمراً يعصرونه مع الماء حتى تختلط حلاوته بالماء فيكون الماء حلواً.
فالنبيذ إذا وصل إلى حد الإسكار بأن وضع التمر في الماء وأغلق عليه مدة ووصل إلى حد الإسكار لا يجوز، وإذا استعمل قبل أن يصل إلى حد الإسكار فإنه جائز، فالانتباذ يشمل نبذ الطعام ونبذ التمر ونبذ الزبيب ونبذ العنب، فالنبيذ هو ماء مختلط به جزئيات التمر أو جزئيات الزبيب أو جزئيات العسل أو جزئيات كذا فقبل أن يسكر هو مباح، وإذا وصل إلى حد الإسكار يصير خمراً حراماً.(418/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (نهى عن الدباء والحنتم)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له أبو داود والبخاري والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الواحد بن زياد].
عبد الواحد بن زياد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا منصور بن حيان].
منصور بن حيان ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر وابن عباس].
ابن عمر هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومثله عبد الله بن عباس بن عبد المطلب هو أحد العبادلة وأحد السبعة.(418/11)
شرح حديث: (حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيذ الجر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم المعنى قالا: حدثنا جرير عن يعلى -يعني: ابن حكيم - عن سعيد بن جبير قال: سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: (حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيذ الجر.
فخرجت فزعاً من قوله: حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نبيذ الجر، فدخلت على ابن عباس رضي الله عنهما فقلت: أما تسمع ما يقول ابن عمر؟ قال: وما ذاك؟ قلت: قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيذ الجر.
قال: صدق؛ حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيذ الجر.
قلت: وما الجر؟ قال: كل شيء يصنع من مدر)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس وابن عمر وهو مثل الذي قبله إلا أن الذي قبله مشتمل على أربعة أشياء، وهذا مشتمل على واحد وهو الحنتم، والحنتم هي جرار تتخذ من المدر الذي هو الطين.(418/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيذ الجر)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومسلم بن إبراهيم].
مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[المعنى قالا: حدثنا جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يعلى يعني: ابن حكيم].
يعلى بن حكيم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن سعيد بن جبير قال: سمعت عبد الله بن عمر].
سعيد بن جبير وعبد الله بن عمر قد مر ذكرهما.(418/13)
حكم العصير الذي يترك أكثر من ثلاثة أيام
إذا اتخذ عصير من التمر أو من الزبيب وترك أكثر من ثلاثة أيام ووضع في مكان بارد كالثلاجة مثلاً هل ينهى عنه أم لا؟
الجواب
القضية ليست قضية أيام، بل القضية قضية إسكار وعدم إسكار، فإذا كان يصل إلى حد الإسكار فلا يجوز استعماله، وإذا كان لا يصل إلى حد الإسكار فإنه لا بأس باستعماله.
فمثل هذا لا يعرف بمعرفة الأوقات أو المدة التي يصل بها إلى حد الإسكار والهيئة التي يكون عليها الغطاء أو إحكام الغطاء، وإنما يعرف بالإسكار، فيقطع الشك باليقين، والناس كانوا يشربون إلى وقت قريب نبيذاً في الأوعية ولا يتركونه مدة طويلة، فالأمر دائر هل وصل إلى حد الإسكار أو لم يصل، ومعلوم أنه إذا وصل إلى حد الإسكار فإنه يعرف من هيئته وشكله ويقذف بالزبد وتكون له صفات معروفة.(418/14)
حكم العصائر
وهنا
السؤال
هل هذه العصائر الموجودة الآن من جنس النبيذ؟
و
الجواب
أن النبيذ يوضع في أوعية، وهذه العصائر قد توضع ولكن لا تكون بهذه الطريقة؛ لأنه يحصل استخراجها في الحال من المواد التي تستخرج منها، والناس يستعملونها ويكون فيها شيء يبقيها على سلامتها ونظافتها، والممنوع هو أن يكون هناك إسكار، وأن يكون هناك شيء مسكر، وأما هذه العصائر الموجودة التي تبقى ففيها مواد تحفظها من أن تفسد أو تتخمر، ثم أيضاً هي لم تأت عن طريق الانتباذ، وإنما جاءت عن طريق العصر، فهي عصرت ووضعت في علبتها.(418/15)
شرح حديث وفد عبد القيس
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن حرب ومحمد بن عبيد حدثنا حماد ح وحدثنا مسدد حدثنا عباد بن عباد عن أبي جمرة قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول.
وقال مسدد: عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وهذا حديث سليمان قال: (قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنا هذا الحي من ربيعة قد حال بيننا وبينك كفار مضر، وليس نخلص إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بشيء نأخذ به وندعو إليه من وراءنا.
قال: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله وشهادة أن لا إله إلا الله وعقد بيده واحدة، وقال مسدد: الإيمان بالله ثم فسرها لهم: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن تؤدوا الخمس مما غنمتم، وأنهاكم عن الدباء والحنتم والمزفت والمقير)، وقال ابن عبيد: النقير مكان المقير، وقال مسدد: والنقير والمقير لم يذكر المزفت.
قال أبو داود: أبو جمرة نصر بن عمران الضبعي].
أورد أبو داود حديث ابن عباس في قصة وفد عبد القيس وأنهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: (إنا هذا الحي من ربيعة وبيننا وبينك كفار مضر ولا نخلص إليك إلا في شهر حرام) يعني: أنهم في الطريق بيننا وبينك ونحن نتحين الأشهر الحرم التي يمتنع الناس فيها من القتال فنأتيك يا رسول الله، وقالوا: إننا نريد أن تعلمنا شيئاً نأخذ به ونعلمه من وراءنا، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم بأربع: الإيمان ثم فسر الإيمان بأنه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتأدية الخمس من المغنم)، وهذا فيه تفسير الإيمان بالأعمال الظاهرة، وهو يدل على أن الإيمان يشمل الأعمال الظاهرة والباطنة، ففي حديث جبريل فسر الإيمان بأعمال باطنة؛ لأنه جاء معه تفسير الإسلام بالأعمال الظاهرة، وهنا فسره بالأعمال الظاهرة، فدل على أن كل واحد منهما إذا أفرد شمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا جمع بينهما فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة كما في حديث جبريل، فإن جبريل سأل عن الإسلام وعن الإيمان ففسر الإسلام بأمور ظاهرة، وفسر الإيمان بأمور باطنة، وهنا حديث وفد عبد القيس ليس فيه ذكر الإسلام مع الإيمان، وإنما ذكر الإيمان ثم فسره بأمور ظاهرة هي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتأدية الخمس من المغنم.
ثم قال: (وأنهاكم عن أربع: عن الدباء والنقير والمزفت والحنتم) وهذه الأمور هي التي مرت في الحديث السابق إلا أن شيوخ أبي داود الثلاثة صار بينهم اختلاف فمنهم من قال: (المزفت والمقير)، ومنهم من قال: (المزفت والنقير)، بدل المقير، والمزفت والمقير معناهما واحد؛ لأن هذا طلي بالزفت وهذا طلي بالقار، فمعناهما واحد أو متقارب، لكن النقير شيء مستقل عنهما، وهو: جذع النخلة الذي ينقر وسطه ويصير وعاءً أو خشبة ينقر وسطها وتصير وعاءً.
وقوله: [(قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنا هذا الحي من ربيعة)].
ربيعة هم: ينتمون إلى ربيعة بن نزار وربيعة أخو مضر وهو ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان.
وقوله: (وبيننا وبينك كفار مضر ولا نخلص إليك) أي: لا نتمكن من الوصول إليك إلا في الشهر الحرام؛ لأن الكفار كانوا يمتنعون عن القتال في الأشهر الحرم.
وقولهم: (إنا هذا الحي من ربيعة)، يعنون أنفسهم، يعني: جئنا إليك وليس يتيسر لنا أن نأتي إليك في كل وقت بل لا يتيسر لنا ذلك إلا في الأشهر الحرم، فنحن نريد منك وصية نأخذ بها ونبلغها من وراءنا؛ لأنه لا يتيسر لنا المجيء كلما أردنا، وإنما نأتي في الأشهر الحرم فقط، ومعلوم أن الأشهر الحرم هي ثلاثة متوالية وواحد منفرد وهو رجب الفرد، ويقال له: رجب الفرد؛ لأنه من الأشهر الحرم جاء منفرداً وحده في أثناء السنة، وأما الثلاثة الباقية فهي مسرودة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، أي: شهر الحج وشهر قبله وشهر بعده.
وقوله: [(فمرنا بشيء نأخذ به وندعو إليه من وراءنا)].
هذا فيه بيان أن الذي يأخذ العلم ويأخذ الحق والهدى يعمل به ويبلغه إلى غيره، فينتفع وينفع ويستفيد ويفيد.
وقوله: [(قال: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله وشهادة أن لا إله إلا الله وعقد بيده واحدة)].
في بعض الألفاظ بدون الواو فتكون شهادة أن لا إله إلا الله تفسيراً للإيمان بالله، وقوله: (وعقد واحدة) يعني: أن الإيمان مع الإسلام هو شيء واحد ولا يقال: إنهما خصلتان وإنما هي خصلة واحدة، ولكن جاء في بعض الروايات أن الإيمان فسر بأمور أربعة: أولها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وقوله: [وقال مسدد: (الإيمان بالله ثم فسرها لهم: شهادة أن لا إله إلا الله)].
وقوله: [وقال مسدد: (الإيمان بالله ثم فسرها لهم: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن تؤدوا الخمس مما غنمتم)].
ولم يذكر لهم الصيام ولا الحج، ولعلهم جاءوا في أول الهجرة قبل أن يفرض الصيام وقبل أن يفرض الحج؛ لأن الحج فرض في السنة الثانية، ومجيئهم يمكن أنه كان قبل ذلك، وهم أول من دخل في الإسلام من الوفود، فإسلامهم متقدم.
وقوله: [(وأن تؤدوا الخمس مما غنمتم)].
يعني: مما غنتم من الجهاد، وهذا فيه أن الجهاد كان قد فرض.
وقوله: [(وأنهاكم عن الدباء والحنتم والمزفت والمقير)].
المزفت والمقير معناهما واحد أو متقارب.
وقوله: [وقال ابن عبيد: النقير مكان المقير].
يعني: النقير مكان المقير مع المزفت، أي: أنه ذكر النقير والمزفت.
وقوله: [وقال مسدد: والنقير والمقير لم يذكر المزفت].
يعني: أن مسدداً ذكر النقير والمقير ولم يذكر المزفت.(418/16)
تراجم رجال إسناد حديث وفد عبد القيس
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومحمد بن عبيد].
محمد بن عبيد بن حساب ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[قالا: حدثنا حماد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا مسدد حدثنا عباد بن عباد].
مسدد مر ذكره، وعباد بن عباد ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي جمرة].
أبو جمرة هو نصر بن عمران الضبعي مشهور بكنيته أبي جمرة، وهو من عبد القيس.
وأبو جمرة يروي عن ابن عباس وهناك راوٍ آخر يروي عن ابن عباس كنيته أبو حمزة واللفظ متقارب وقد يحصل التصحيف بينهما؛ لأن هذا أبو جمرة وهذا أبو حمزة، فالرسم واحد ولم يختلف إلا الجيم والزاي، يعني: نقطة واحدة تكون مع الجيم أو تكون مع الزاي، فهما من الألفاظ التي تتقارب ويحصل التصحيف فيما بينهما وأبو حمزة هو القصاب يروي عن ابن عباس وهو الذي روى عنه الحديث الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن معاوية: (لا أشبع الله بطنك).
وأبو جمرة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.(418/17)
حكم التسمية بعبد القيس
وتسمية القبيلة بعبد القيس هو من الأسماء القديمة مثل عبد المطلب وعبد مناف وعبد العزى، يعني: أنه كانت التسمية موجودة في الجاهلية بهذا التعبير.(418/18)
حكم القتال في الأشهر الحرم
والقتال في الأشهر الحرم هل لا زال باقياً أم أنه قد نسخ؟ هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال: إنه منسوخ، ومنهم من قال: إنه باق، ولكن حرمتها وتعظيمها وكون الناس لا يظلمون أنفسهم فيها لا يزال باقياً، ولكن القتال هو الذي حصل فيه الخلاف، فمن العلماء من قال: إنه نسخ، ومنهم من قال: إنه لم ينسخ وإنه باقٍ.(418/19)
سبب عدم ذكر الصيام والحج في حديث وفد عبد القيس
العظيم أبادي يقول: ولم يذكر في هذه الرواية صيام رمضان إما لغفلة الراوي أو اختصاره وليس ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ولم يذكر الحج أيضاً لشهرته عندهم أو لكونه على التراخي والتفصيل في الفتح.
وعلى كل الذي يبدو -والله أعلم- أنهم وفدوا في زمن مبكر، وأما في السنة التاسعة فالطرق انفتحت والكفار دخلوا في دين الله وظهر الإسلام وغلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، وعلى كل ينبغي أن يرجع أو يتحقق من هذا، لكن حديث وفد عبد القيس موجود في صحيح البخاري في كتاب الإيمان، وقد أورده تحت باب: أداء الخمس من الإيمان، وأتى بهذا الحديث وشرحه الحافظ ابن حجر شرحاً مفصلاً.(418/20)
شرح حديث وفد عبد القيس من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية عن نوح بن قيس حدثنا عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لوفد عبد القيس: أنهاكم عن النقير والمقير والحنتم والدباء والمزادة المجبوبة، ولكن اشرب في سقائك وأوكه)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة وهو مثل الذي قبله إلا أن فيه زيادة: (والمزادة المجبوبة)، وقيل: إن المزادة هي: القربة الكبيرة التي زيد فيها عن الجلد؛ لأن القربة على مقدار الجلد، كجلد الشاه أو جلد العنز، فهذه يقال لها: قربة، وقد تكون كبيرة بحيث يزاد فيها حتى إنها قد تحمل على البعير، وتأخذ ماءً كبيراً، ومنه الحديث الذي فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة امرأة مشركة)، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا في سفر وأنهم فقدوا الماء وأنهم أرسلوا ناساً يبحثون فوجدوا امرأة معها بعير عليه مزادتان، يعني: راويتان كبيرتان واحدة من اليمين وواحدة من الشمال، والمزادة هي أكبر من القربة؛ وقيل لها: مزادة؛ لأنه زيد فيها على مقدار الجلد حتى صارت أكبر، فسألوها عن الماء فقالت: إنه بعيد أو كذا، فقالوا لها: امضي معنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: أهو الصابئ؟ فكان جوابهم أن قالوا: هو الذي تعنيه، ولم يقولوا: هو الصابئ، فأتوا بها إليه، فأخذ القربة وصار يصب منها ووضع أصابعه حتى ملئوا أوعيتهم وبقيت المزادة على ما هي عليه لم تنقص، فأعطوها شيئاً من الطعام، فذهبت إلى قومها فقالت: جئتكم من عند رجل إما أنه كاهن أو أنه نبي، ولكن عليكم أن تدخلوا في دينه، وأن تتبعوه، فصارت سبباً في إسلام قومها.
الحاصل: أنه كان معها مزادتان على جمل، والمزادة هي: القربة التي زيد فيها عن مقدار الجلد.
وقوله: (مجبوبة) المجبوبة هي: التي قطع رأسها الذي هو مكان الرقبة؛ لأن الرقبة من الشاة أو العنز يكون فيها فم السقاء أو فم القربة طرفها، فجبت من أصل الرقبة فصارت كأنها وعاء من الأوعية، وقيل: هي ما لم يكن لها متنفس من أسفلها، وأنا لا يتضح لي هذا؛ لأن المزادة والجلد يتبين من ظاهره التخمر إذا حصل، لكن يمكن أن يكون هذا على اعتبار أنها مفتوحة من فوق وأنها مثل الوعاء المفتوح، والإ فلا يبدو لي وجه كونها ينهى عنها مع أنها من جنس السقاء وكلها من الجلد.
وقوله: (ولكن اشرب في سقائك وأوكه) يعني: أوكه بحبل ورباط حتى لا يدخل فيه شيء، حتى لا يدخل فيه حشرات، وحتى يبقى سليماً نظيفاً، والسقاء إذا حصل فيه شيء من التغير من الداخل ظهر على الجلد من الخارج؛ لأنه رقيق خفيف.(418/21)
تراجم رجال إسناد حديث وفد عبد القيس من طريق ثانية
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
وهب بن بقية الواسطي ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن نوح بن قيس].
نوح بن قيس صدوق، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الله بن عون].
عبد الله بن عون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن سيرين].
محمد بن سيرين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(418/22)
شرح حديث وفد عبد القيس من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان حدثنا قتادة عن عكرمة وسعيد بن المسيب عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة وفد عبد القيس قالوا: (فيم نشرب يا نبي الله؟! فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: عليكم بأسقية الأدم التي يلاث على أفواهها)].
يعني: أنه لما قال: أنهاكم عن كذا وكذا وذكر لهم الأشياء المحرمة التي لا ينتبذون فيها قالوا: (بأي شيء ننتبذ؟! فقال: عليكم بأسقية الأدم)، والأدم هي: الجلود التي يلاث على أفواهها، يعني: أنها تربط وتوكأ أفواهها.
وسيأتي في رواية ثانية أنهم اشتكوا إليه وقالوا: إن أرضنا كثيرة الجرذان فتقرض علينا هذه الجلود.
فلا أدري هل ثبت هذا أو لم يثبت، لكنهم في أول الأمر نهوا عن أشياء سميكة غليظة ورخص لهم في أشياء خفيفة رقيقة، وفي الآخر رخص لهم أن ينتبذوا في كل وعاء بشرط ألا يشربوا مسكراًَ.(418/23)
تراجم رجال إسناد حديث وفد عبد القيس من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان].
مسلم بن إبراهيم مر ذكره، وأبان هو ابن يزيد العطار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
عكرمة مولى ابن عباس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وسعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.(418/24)
شرح حديث وفد عبد القيس من طريق رابعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن عوف عن أبي القموص زيد بن علي حدثني رجل كان من الوفد الذين وفدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من عبد القيس يحسب عوف أن اسمه قيس بن النعمان رضي الله عنه فقال: (لا تشربوا في نقير ولا مزفت ولا دباء ولا حنتم، واشربوا في الجلد الموكى عليه، فإن اشتد فاكسروه بالماء، فإن أعياكم فأهريقوه)].
أورد أبو داود حديث رجل من وفد عبد القيس قيل: إنه قيس بن النعمان قال: (لا تشربوا في نقير ولا مزفت ولا دباء ولا حنتم) وهذه الأمور الأربعة هي التي مرت قبل.
وقوله: (واشربوا في الجلد الموكى) أي: السقاء، وهو الذي مر ذكره.
(فإن اشتد فاكسروه بالماء) يعني: صبوا عليه الماء، والذي يبدو أن هذا قبل أن يبلغ إلى حد الإسكار يصب عليه ماء حتى يستفاد منه، أما إذا وصل إلى حد الإسكار صار خمراً والخمر لا يجوز الاحتفاظ بها والإبقاء عليها.
قوله: (فإن اشتد فاكسروه بالماء، فإن أعياكم فأهريقوه) والاشتداد يقولون: هو دون الإسكار، والذي يبدو أنه يصب عليه الماء قبل الإسكار؛ لأنه إذا وصل إلى حد الإسكار يراق؛ لأنه يصير خمراً، والخمر تراق ولا يحتفظ بها.
قوله: (فإن أعياكم فأهريقوه) يعني: إن غلب وصار خمراً فيراق.(418/25)
تراجم رجال إسناد حديث وفد عبد القيس من طريق رابعة
قوله: [حدثنا وهب بن بقية عن خالد].
خالد هو ابن عبد الله الطحان الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عوف].
عوف بن أبي جميلة الأعرابي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي القموص زيد بن علي].
أبو القموص زيد بن علي ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثني رجل كان من الوفد الذين وفدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من عبد القيس يحسب عوف أن اسمه قيس بن النعمان].
قيس بن النعمان صحابي، أخرج له أبو داود.(418/26)
شرح حديث وفد عبد القيس من طريق خامسة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو أحمد حدثنا سفيان عن علي بن بذيمة حدثني قيس بن حبتر النهشلي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن وفد عبد القيس قالوا: يا رسول الله! فيم نشرب؟ قال: لا تشربوا في الدباء ولا في المزفت ولا في النقير، وانتبذوا في الأسقية، قالوا: يا رسول الله! فإن اشتد في الأسقية؟ قال: فصبوا عليه الماء، قالوا: يا رسول الله! فقال لهم في الثالثة أو الرابعة: أهريقوه، ثم قال: إن الله حرم عليَّ أو حرم الخمر والميسر والكوبة، قال: وكل مسكر حرام)، قال سفيان: فسألت علي بن بذيمة عن الكوبة قال: الطبل].
أورد أبو داود حديث ابن عباس: (أن وفد عبد القيس قالوا: يا رسول الله! فيم نشرب؟ قال: لا تشربوا في الدباء ولا في المزفت ولا في النقير، وانتبذوا في الأسقية) وهذا قد مر شرحه.
وقوله: (قالوا: يا رسول الله! فإن اشتد في الأسقية؟ قال: صبوا عليه الماء) وهذا مثل الذي مر في الحديث الذي قبله.
وقوله: (قالوا: يا رسول الله! فقال لهم في الثالثة أو الرابعة: أهريقوه، ثم قال: إن الله حرم عليَّ أو حرم الخمر والميسر والكوبة) الكوبة فسرت بأنها الطبل، وهو آلة من آلات الملاهي، وذلك لحصول الأغاني مع شرب الخمر كما جاء في قصة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه في الصحيحين، فإنه جب أسنمة الشارفين اللذين كانا لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبقر خواصرهما وكان سكران، وكانت عنده جارية تغني وتقول: (ألا يا حمز للشرف النواء) يعني: أنها تريد أن يفعل ذلك، فقام وخرج وجبها.
وقوله: (وكل مسكر حرام)؛ لأن الحكم يتعلق بالإسكار، فكل ما أسكر من أي نوع كان فإنه حرام.
وقوله: [قال سفيان: فسألت علي بن بذيمة عن الكوبة قال: الطبل].
وهذا تفسير من علي بن بذيمة للكوبة بأنها الطبل.(418/27)
تراجم رجال إسناد حديث وفد عبد القيس من طريق خامسة
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
محمد بن بشار الملقب بندار البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو أحمد].
أبو أحمد هو محمد بن عبد الله الزبيري ثقة قد يخطئ في حديث الثوري، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو هنا يروي عن سفيان، ولكن على كل له شواهد مما قبله.
[حدثنا سفيان].
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي بن بذيمة].
علي بن بذيمة ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[حدثني قيس بن حبتر النهشلي].
قيس بن حبتر النهشلي ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.(418/28)
وقت نزول سورة المائدة
قد يقال: إذا كانت سورة المائدة من آخر السور نزولاً وفيها آية تحريم الخمر أليس يكون وفد عبد القيس وفد متأخراً بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم عليهم هذه الأوعية بعلة الإسكار؟
و
الجواب
أن سورة المائدة هي من آخر ما نزل بلا شك، وهذه الآية في آخرها وهي من آخر ما نزل، ولا شك إن التحريم جاء متأخراً، لكن هذا يحتاج إلى أن يراجع، وهل كانت في الآخر الأمر وهذا منها أم لا؟ ومعلوم أيضاً أن سورة المائدة فيها الوضوء، والصلاة كانت مفروضة في مكة، وفيها كيفية الوضوء وطريقة الوضوء، فقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ليس معناه أن الوضوء لم يكن مفروضاً من قبل، فإن الناس كانوا يصلون بوضوء، وليس هناك صلاة بدون وضوء، ولكن على كل يراجع متى كان وفد عبد القيس.(418/29)
تحريم الانتباذ في بعض الأوعية كان بعد تحريم الخمر
قوله: (فاشربوا في كل وعاء غير ألا تشربوا مسكراً) فيه دليل على نسخ النهي عن الانتباذ في الأوعية المذكورة، قال النووي: كان الانتباذ في هذه الأوعية منهياً عنه في أول الإسلام خوفاً من أن يصير مسكراً فيها ولا يعلم به لكثافتها فيتلف ماليته، وربما شربه الإنسان ظاناً أنه لم يصر مسكراً، فيصير شارباً للمسكر، وكان العهد قريباً بإباحة المسكر، فلما طال الزمان واشتد تحريم المسكرات وتقرر ذلك في نفوسهم نسخ ذلك، وأبيح لهم الانتباذ في كل وعاء بشرط ألا يشربوا مسكراً.
ولكن هذا النسخ عن الانتباذ كان بعد تحريم الخمر كما هو معلوم؛ لئلا تصير خمراً، أما قبل تحريم الخمر فكان الناس يشربونها كما هو معلوم.
فمعنى قوله: إن النهي عن هذه الأوعية كان في أول الإسلام يعني: بعد التحريم وليس قبل التحريم، وإذا كان تحريم الخمر متقدماً فلا إشكال، ولكن تحريم الخمر يبدو أنه لم يكن إلا في آخر الأمر.(418/30)
شرح حديث: (نهانا رسول صلى الله عليه وسلم عن الدباء والحنتم والنقير والجعة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد حدثنا إسماعيل بن سميع حدثنا مالك بن عمير عن علي رضي الله عنه قال: (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدباء والحنتم والنقير والجعة)].
أورد أبو داود الحديث عن علي رضي الله عنه وهو مثل الذي قبله وفيه ذكر الجعة، والجعة فسرت بأنها النبيذ من الشعير.(418/31)
تراجم رجال إسناد حديث: (نهانا رسول صلى الله عليه وسلم عن الدباء والحنتم والنقير والجعة)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد حدثنا إسماعيل بن سميع].
إسماعيل بن سميع صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا مالك بن عمير].
مالك بن عمير مخضرم، أخرج له أبو داود والنسائي، والمخضرم هو الذي أدرك الجاهلية والإسلام.
[عن علي].
علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهدين صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(418/32)
شرح حديث: (نهيتكم عن ثلاث وأنا آمركم بهن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا معرف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهيتكم عن ثلاث وأنا آمركم بهن: نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن في زيارتها تذكرة، ونهيتكم عن الأشربة أن تشربوا إلا في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير ألا تشربوا مسكراً، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي أن تأكلوها بعد ثلاث فكلوا واستمتعوا بها في أسفاركم)].
أورد أبو داود حديث بريدة بن حصيب رضي الله عنه الذي فيه النسخ لتحريم الانتباذ في الأوعية الغليظة السميكة، وأنه كان مباحاً لهم الانتباذ بالأسقية، وأنهم ممنوعون من تلك الأوعية، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص لهم في آخر الأمر أن ينتبذوا في كل وعاء بشرط ألا يشربوا مسكراً، يعني: أنه لابد أن يكون الشرب بشيء لم يصل إلى حد الإسكار، وكان التحريم والمنع في أول الأمر، ولما استقر عندهم تحريم الخمر وألفوا ذلك أبيح لهم أن ينتبذوا في أي وعاء لكن يحتاطون بحيث لا يكون شربهم لشيء مسكر، وإنما لشيء لم يصل إلى حد الإسكار.
وكذلك كان قد نهاهم عن زيارة القبور ثم أذن لهم بزيارتها وقال: (زورها فإنها تذكر الآخرة) أي: أن فيها عبرة وعظة، والإنسان عندما يزور القبور يتذكر الموت ويستعد له بالأعمال الصالحة.
وكان نهاهم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليال ثم بعد ذلك أذن لهم أن يدخروا وأن يتزودوا في أسفارهم، والمنع الذي كان أولاً كان من أجل الدافة، وهم قوم مساكين جاءوا يريدون أن يحصلوا على اللحم فمنعوا من الادخار حتى يبذلوه لهؤلاء المحتاجين، وبعد ذلك جاءت السنة بأن لهم أن يدخروا وأن يتزودوا في أسفارهم وأنه لا مانع من ذلك.
وهذا الحديث فيه الجمع بين الناسخ والمنسوخ؛ لأن قوله: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها)، فيه ناسخ ومنسوخ، وقوله: (كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فادخروا) فيه ناسخ ومنسوخ، وقوله: (كنت نهيتكم عن الانتباذ في أوعية فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكراً) فيه ناسخ ومنسوخ.(418/33)
تراجم رجال إسناد حديث: (نهيتكم عن ثلاث وأنا آمركم بهن)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معرف بن واصل].
معرف بن واصل ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[عن محارب بن دثار].
محارب بن دثار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن بريدة].
عبد الله بن بريدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
بريدة بن حصيب الأسلمي رضي الله عنه، صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(418/34)
شرح حديث: (لما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأوعية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني منصور عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (لما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأوعية، قال: قالت الأنصار: إنه لابد لنا، قال: فلا إذاً)].
أورد أبو داود حديث جابر: (لما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأوعية قالوا: لابد لنا منها، فقال: فلا إذاً) يعني: ما دام الأمر كذلك فإنه لا بأس بها، ويكون الأمر كما هو محمول على أن النهي كان في أول الأمر حيث كان الناس حديثي عهد بتحريمها وبعد أن ألفوا ذلك واستقر لهم الحكم رخص لهم بأن ينتبذوا في كل وعاء.(418/35)
تراجم رجال إسناد حديث: (لما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأوعية)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان حدثني منصور].
سفيان مر ذكره، ومنصور بن المعتمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم بن أبي الجعد].
سالم بن أبي الجعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(418/36)
شرح حديث: (اشربوا ما حل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن جعفر بن زياد حدثنا شريك عن زياد بن فياض عن أبي عياض عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأوعية: الدباء والحنتم والمزفت والنقير، فقال أعرابي: إنه لا ظروف لنا، فقال: اشربوا ما حل)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو قال: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأوعية فقال أعرابي: إنه ليس لنا ظروف، فقال: اشربوا ما حل) يعني: ما كان حلالاً لم يصل إلى حد الحرام الذي هو الخمر، يعني: ما دام حلالاً فاشربوا، وإذا وصل إلى حد الإسكار فابتعدوا عنه، وهذا مثل قوله: (فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكراً).(418/37)
تراجم رجال إسناد حديث: (اشربوا ما حل)
قوله: [حدثنا محمد بن جعفر بن زياد].
محمد بن جعفر بن زياد ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شريك].
شريك بن عبد الله النخعي الكوفي صدوق تغير حفظه لما ولي القضاء، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن زياد بن فياض].
زياد بن فياض ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبي عياض].
أبو عياض عمرو بن الأسود ثقة، أخرج له أصحاب الكتب إلا الترمذي.
[عن عبد الله بن عمرو].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(418/38)
شرح حديث: (اجتنبوا ما أسكر) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن -يعني: ابن علي - حدثنا يحيى بن آدم حدثنا شريك بإسناده قال: (اجتنبوا ما أسكر)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه أنه قال: (اجتنبوا ما أسكر) يعني: اشربوا ما حل ولا تشربوا مسكراً.
قوله: [حدثنا الحسن يعني: ابن علي].
كلمة (يعني) هذه يأتي بها من دون أبي داود؛ لأن أبا داود لا يحتاج إلى أن يقول: (ابن علي) وإنما الذي قالها هو من دون أبي داود؛ لأن أبا داود ينسب شيخه كما يريد، لكنه هنا ما ذكره إلا بلفظ الحسن فالذي دونه هو الذي قال (يعني: ابن علي) وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا يحيى بن آدم].
يحيى بن آدم الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شريك بإسناده].
شريك مر ذكره.(418/39)
شرح حديث: (كان ينبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال (كان ينبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء، فإذا لم يجدوا سقاءً نبذ له في تور من حجارة)].
أورد أبو داود حديث جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له في سقاء)، والسقاء: هو الذي مر ذكره، وأن تلك الأسقية كانت تلاث أفواهها وتوكأ أفواهها، قال: (فإذا لم يجد سقاءً نبذ له بتور)، وهو إناء من حجارة.(418/40)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان ينبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثني زهير].
زهير بن معاوية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو الزبير].
أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر مر ذكره.(418/41)
شرح سنن أبي داود [419]
جاء الشرع الحنيف بتحريم الأسباب الموصلة إلى الحرام، ومن ذلك تحريم الأسباب الموصلة إلى الخمر، ومن الأسباب الموصلة إلى الخمر الجمع بين خليطين في الانتباذ، وكذلك ترك النبيذ حتى يصير خمراً؛ وهذا يدل على أنه يجب على المسلم أن يبتعد عن الخمر وعن الأسباب الموصلة إليها.(419/1)
باب في الخليطين(419/2)
شرح حديث: (نهى أن ينتبذ الزبيب والتمر جميعاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الخليطين.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى أن ينتبذ الزبيب والتمر جميعاً، ونهى أن ينتبذ البسر والرطب جميعاً) [.
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: باب في الخليطين، والمقصود من ذلك في باب الأشربة هو: انتباذ نوعين من الأنواع كالتمر والبسر أو كالزبيب والعنب، أي: أنه لا يجمع بين اثنين فأكثر في وضعهما في وعاء وانتباذهما معاً أو انتباذ الأنواع المتعددة مع بعض، هذا هو المقصود من الترجمة وهو المقصود من الخليطين؛ لأن انتباذ شيء واحد سبق أن مر ما يدل عليه، وسيأتي ما يدل عليه، والترجمة معقودة لنوعين يخلطان وينبذان مع بعض، وقد ورد في الأحاديث النهي عن ذلك، وكثير من أهل العلم حمولها على التحريم، وعللوا ذلك بأنه يسرع إليه الإسكار، وقالوا: إن المنع جاء ولو لم يسكر؛ لأن النهي جاء عن خلطهما، ومعلوم أن الشيء الذي يسكر ممنوع حتى ولو كان من نوع واحد، والخلط ممنوع، والسبب: أنه يفضي إلى الإسكار أو يسرع إليه الإسكار، وقالوا: إن الإنسان يجب عليه أن يمتنع وألا يفعل ذلك، وإن فعل وشرب قبل أن يسكر فهو آثم، وإن شرب بعد الإسكار فهو آثم من الجهتين: من جهة أنه شرب خليطاً وقد منع من الخلط ونهي عن الخلط، ومن جهة أنه شرب مسكراً، ومن المعلوم أن المسكر حرام مطلقاً سواء كان من جنس واحد أو أكثر، ولكن الخلط هو الذي فيه التحريم ولو لم يكن معه الإسكار.
وقد أورد أبو داود أحاديث عديدة تدل على منع الخلط والنهي عنه، أي: بين نوعين من أنواع ما ينتبذ، فيمنع من ذلك ولا يفعل.
وبعض العلماء أجاز ذلك ما لم يصل إلى حد الإسكار،، لكن إن وجد شيء يدل على الجواز فيكون النهي محمولاً على التنزيه، وإن لم يوجد شيء فالأصل أنه يبقى على التحريم كما قاله الكثير من أهل العلم.
وقد أورد أبو داود أولاً حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتبذ الزبيب والتمر جميعاً) أي: بأن ينبذ أو يطرح الزبيب والتمر مع بعض في وعاء ثم يتخذ نبيذاً قبل أن يسكر، فإن ذلك لا يجوز، ولو لم يحصل الإسكار، أما مع الإسكار فلا يسوغ لا من الواحد ولا من أكثر من واحد، فلا ينبذ التمر والزبيب جميعاً، وأما الزبيب ينبذ على حده والتمر ينبذ على حده فلا بأس.
وقوله: (ونهى أن ينتبذ البسر والرطب جميعاً) الرطب هو: الذي استوى وطاب أكله وصار رطباً، والبسر هو: الذي لم يصل إلى كونه صار رطباً وإنما يكون زهواً أو يكون أخضر لم يصل إلى حد الاستواء ولم يصل إلى حد الاحمرار والاصفرار، فالجمع بينهما جمع بين نوعين وبين خليطين، وقد جاء النهي عن ذلك عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(419/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (نهى أن ينتبذ الزبيب والتمر جميعاً)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
الليث بن سعد المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن أبي رباح].
عطاء بن أبي رباح المكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، وهو صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد رباعي، وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود رحمه الله.(419/4)
شرح حديث أبي قتادة: (نهى عن خليط الزبيب والتمر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثني يحيى عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه رضي الله عنه (أنه نهى عن خليط الزبيب والتمر، وعن خليط البسر والتمر، وعن خليط الزهو والرطب، وقال: انتبذوا في كل واحدة على حدة)].
أورد أبو داود حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله تعالى عنه وفيه مثل الذي قبله من النهي عن انتباذ نوعين، أي: فأكثر؛ لأنه إذا لم يجز في نوعين فمن باب أولى ألا يجوز في أكثر من ذلك.
وهذا موقوف على أبي قتادة، ولكن الذي بعده من الطريق الثانية مرفوع.
وقوله: [(أنه نهى عن خليط الزبيب والتمر وعن خليط البسر والتمر، وعن خليط الزهو والرطب)].
(الزهو): الذي احمر واصفر، ومعنى ذلك: أنه لا يخلط الرطب بنوع آخر، وكذلك (الزهو) لا يخلط بنوع آخر و (البسر والبلح) لا يخلط بنوع آخر، وإنما كل واحد ينبذ على حدة دون أن يجمع مع نوع آخر.
وقوله: [(وقال: انتبذوا كل واحدة على حدة)].
يعني: كل واحد ينبذ وحده ليس معه غيره.(419/5)
تراجم رجال إسناد حديث أبي قتادة: (نهى عن خليط الزبيب والتمر)
قوله: [حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل].
أبو سلمة موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبان].
أبان بن يزيد العطار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا يحيى].
يحيى بن أبي كثير اليمامي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن أبي قتادة].
عبد الله بن أبي قتادة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو أبو قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله تعالى عنه وهو صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(419/6)
طريق أخرى لحديث أبي قتادة: (نهى عن خليط الزبيب والتمر) وتراجم رجال إسنادها
[قال: وحدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الحديث].
ذكر أبو داود طريقاً أخرى لـ يحيى بن أبي كثير اليمامي من غير طريق عبد الله بن أبي قتادة وإنما من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي قتادة مرفوعاً إلى رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [وحدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قتادة].
أبو قتادة رضي الله عنه قد مر ذكره.(419/7)
حكم العصير المشكل
والعصير المشكل لا يدخل في هذا النهي؛ لأن العصير شيء يعصر ويشرب، وأما هذا فينتبذ ويخلط نوعان مع بعض، وهذا يكون سبباً لسرعة الإسكار.
وبعض العصائر مكونة من قطع فواكه كثيرة: موز وبرتقال تقطع وتنقع في الماء مع السكر فيقال: مادام أنه ليس بنبيذ وإنما عصر وجمع مع بعض وشرب؛ فلا بأس به.
وفي بعض البلدان يوضع التمر مع الزبيب والتين مع السكر في الماء لمدة ست ساعات تقريباً ثم يتناوله الصائم خصوصاً، وهذا من الخلط الذي نهي عنه.
والفرق بين هذا وبين العصير المشكل أن العصير المشكل يعصر من عدة أشياء ثم تشرب مع بعض، وهذا لا بأس به، أما إذا كانت تقطع قطعاً ثم تنبذ وتترك مدة فإنها تكون من جنس النبيذ، يعني: إذا كان هناك أنواع جمعت وتركت حتى مضى عليها وقت فإن هذا يؤدي إلى أنها تكون نبيذاً، وقد تصل إلى حد الإسكار، لكن إذا عصرت هذه الأشياء ووجد شيء من القطع أو شيء من بقايا العصر وما إلى ذلك فهذا لا يؤثر؛ لأن هذا لا يقال له: نبيذ، بل هذا عصير.(419/8)
حكم خلط الشرابين بعد الانتباذ
وإذا انتبذ كل واحد على حدة ثم خلطهما بعد الانتباذ فإن الاحتياط الابتعاد عن ذلك، لكنه إذا خلطهما معاً وشربهما في الحال فليسا خليطين من ناحية أنه يسرع إليهما الإسكار، وإنما إذا نبذا مع بعض أسرع اليهما الإسكار، وأما إذا جمع بينهما وصب بعضها على بعض وشربها في الحال فهذا لا يؤثر؛ لأنه ليس هذا انتباذ.(419/9)
شرح حديث: (نهى عن البلح والتمر والزبيب والتمر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن حرب وحفص بن عمر النمري قالا: حدثنا شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن رجل -قال حفص: من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نهى عن البلح والتمر، والزبيب والتمر)].
أورد أبو داود حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نهى عن البلح والتمر) أي: أن يخلط بينهما (وعن الزبيب والتمر) أي: أن يخلط بينهما، والمقصود من ذلك: النهي عن أن يجمع بين نوعين وأن يخلط بينهما وأن يجعلا نبيذاً.(419/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (نهى عن البلح والتمر والزبيب والتمر)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحفص بن عمر النمري].
حفص بن عمر النمري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[قالا: حدثنا شعبة].
شعبة بن حجاج الواسطي ثم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحكم].
الحكم بن عتيبة الكندي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي ليلى].
عبد الرحمن بن أبي ليلى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رجل].
هو رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية سليمان بن حرب قال: عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما حفص بن عمر النمري فقال: عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن جهالة الصحابة لا تؤثر، وإنما جهالة غيرهم هي التي تؤثر، فتبين من وصف الرجل من طريق حفص بن عمر أنه صحابي، وجهالة الصحابة لا تؤثر؛ لأن المجهول فيهم في حكم المعلوم.(419/11)
شرح حديث: (كان ينهانا أن نعجم النوى طبخاً أو نخلط الزبيب والتمر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ثابت بن عمارة حدثتني ريطة عن كبشة بنت أبي مريم قالت: (سألت أم سلمة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنه؟ قالت: كان ينهانا أن نعجم النوى طبخاً أو نخلط الزبيب والتمر)].
أورد أبو داود حديث أم سلمة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يعجموا النوى طبخاً وأن يجمعوا بين الزبيب والتمر).
أي: أن يجمعوا بينهما في الخلط بأن يكونا خليطين.
وقوله: (نهانا أن نعجم النوى) فسر بأنهم يطبخون التمر حتى يؤثر ذلك على النوى بحيث يتغير لونه ويتغير شكله فيكون في ذلك عدم الفائدة الكبيرة للدواب؛ لأنه بذلك لا يبقى عليها أثر التمر وأثر الحلاوة وأثر الحلوى بخلاف ما إذا أكل التمر وأخرج النوى فإنه يبقى عليها شيئاً من الحلوى عالق بها، لكن إذا طبخ التمر فإنه يتأثر ويتغير لونه فيكون النوى نفسه لا يستفيد منه الحيوان كما يستفاد منه إذا أكل ومضغ وأخرج منه النوى، وقيل: نهي عن طبخه لأنه يؤثر على التمر ويؤثر في طعمه.(419/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان ينهانا أن نعجم النوى طبخاً أو نخلط الزبيب والتمر)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
يحيى هو ابن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثابت بن عمارة].
ثابت بن عمارة صدوق فيه لين، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثتني ريطة].
ريطة بنت حريث لا تعرف، أخرج حديثها أبو داود.
[عن كبشة بنت أبي مريم].
كبشة بنت أبي مريم لا يعرف حالها، أخرج لها أبو داود.
[قالت: سألت أم سلمة].
أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها هند بنت أبي أمية، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث فيه هاتان المجهولتان فهو غير ثابت، ولكن من ناحية النهي عن الخليطين أو عن الجمع بين الزبيب والتمر فقد جاء ما يشهد له في الأحاديث السابقة.(419/13)
شرح حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له زبيب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود عن مسعر عن موسى بن عبد الله عن امرأة من بني أسد عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له زبيب فيلقي فيه تمراً، وتمر فيلقي فيه الزبيب)].
أورد أبو داود حديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له زبيب فيلقي فيه تمراً، وتمر فيلقي فيه الزبيب) يعني: أنه جمع بين خليطين، وهذا لو صح لكان حجة في أن النهي يحمل على التنزيه، لكن الحديث لم يصح؛ لأن فيه امرأة مبهمة من بني أسد، فهو غير ثابت.(419/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له زبيب)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود].
عبد الله بن داود الخريبي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن مسعر].
مسعر بن كدام ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن موسى بن عبد الله].
موسى بن عبد الله ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي في الشمائل وابن ماجة.
[عن امرأة من بني أسد عن عائشة].
هذه المرأة مبهمة، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(419/15)
شرح حديث عائشة: (كنت آخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب فألقيه في إناء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زياد بن يحيى الحساني حدثنا أبو بحر حدثنا عتاب بن عبد العزيز الحماني حدثتني صفية بنت عطية قالت: دخلت مع نسوة من عبد القيس على عائشة رضي الله عنها فسألناها عن التمر والزبيب فقالت: (كنت آخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب فألقيه في إناء فأمرسه ثم أسقيه النبي صلى الله عليه وسلم)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها من طريق صفية بنت عطية قالت: دخلت مع نسوة من عبد القيس على عائشة: فسألناها عن التمر والزبيب فقالت: (كنت آخذ قبضة تمر وقبضة من زبيب فأمرسها) يعني: أنها تدلكها بأصابعها حتى تطلع الحلاوة التي فيها فتعطيها للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا إذا كان في الحال فأمره سهل، ولكن إذا كان انتباذاً ومكث مدة فإنه كما مر يسرع إليه الإسكار، والإسناد فيه رجل ضعيف وهو أبو بحر، فالحديث غير ثابت.(419/16)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة (كنت آخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب فألقيه في إناء)
قوله: [حدثنا زياد بن يحيى الحساني].
زياد بن يحيى الحساني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو بحر].
أبو بحر هو عبد الرحمن بن عثمان البكراوي ضعيف، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثنا عتاب بن عبد العزيز الحماني].
عتاب بن عبد العزيز الحماني مقبول، أخرج له أبو داود.
[حدثتني صفية بنت عطية].
صفية بنت عطية مجهولة، أخرج لها أبو داود.
[عن عائشة].
عائشة مر ذكرها.(419/17)
حكم غلي الزبيب والشعير والخلط بين أنواع من الفواكه
في بعض البلدان يجعل العصار زبيباً وشعيراً يغليهما على النار مع سكر من الليل، ويضعه في الثلاجة إلى اليوم الثاني، ثم يباع ويشتري الناس منه، وهذا خلط بين شيئين وقد جاء النهي عنه.
وفي بعض البلدان يجعلون أنواعاً من الفواكه قطعاً صغيرة في ماء حلو وبعد ساعات يؤكل، وهذا إذا كان يترك ساعات وقد يسرع إليه الإسكار فليس خارجاً عما تقدم من الجمع بين الأنواع والخلط بينها في النبذ.(419/18)
حكم الانتباذ في الحليب
وبعض الناس يسأل ويقول: ما حكم الانتباذ في الحليب وجمع خليطين في حليب أو غيره بحيث لا يكون ماءً؟
و
الجواب
أنه ممنوع حتى ولو كان حليباً؛ لأن النتيجة واحدة، فلو لم يكن ماءً فيمكن أن يصير الإسكار مع الحليب بل الحليب يتغير طعمه إلى الحموضة.(419/19)
باب في نبيذ البسر(419/20)
شرح أثر جابر بن زيد وعكرمة: (أنهما كانا يكرهان البسر وحده ويأخذان ذلك عن ابن عباس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في نبيذ البسر.
حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن جابر بن زيد وعكرمة: (أنهما كانا يكرهان البسر وحده ويأخذان ذلك عن ابن عباس، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أخشى أن يكون المزاء الذي نهيت عنه عبد القيس.
فقلت لـ قتادة: ما المزاء؟ قال: النبيذ في الحنتم والمزفت)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في نبيذ البسر، ونبيذ البسر هو كغيره من النبيذ، في كونه ينبذ ويصل إلى حد الإسكار، وإذا وصل إلى حد الإسكار فإنه لا يجوز، وإذا شرب قبل أن يسكر فإنه سائغ ما دام نوعاً واحداً ليس معه غيره، وقد جاء في هذا الإسناد من كراهيته عن ابن عباس وقوله: أخشى أن يكون المزاء، وفسر قتادة المزاء بأنه النبيذ في الحنتم والمزفت، لكن سبق أن مر بنا أن هذا كان منهياً عنه في أول الأمر، وأن الانتباذ في الأوعية الغليظة كان ممنوعاً ثم رخص فيه بشرط ألا يشرب الناس مسكراً، وابن عباس رضي الله عنه لم يجزم بالتحريم، وإنما قال: أخشى أن يكون المزاء الذي نهيت عنه عبد القيس، يعني: النبيذ في المزفت والحنتم، ومعلوم أن الذي نهيت عنه عبد القيس أبيح أخيراً، وعلى هذا فالبسر كغيره لا فرق بينه وبين غيره، فإذا انتبذ ولم يصل إلى حد الإسكار فإنه يدخل تحت قوله: (انتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكراً).(419/21)
تراجم رجال إسناد أثر جابر بن زيد وعكرمة: (أنهما كانا يكرهان البسر وحده ويأخذان ذلك عن ابن عباس)
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
محمد بن بشار الملقب بندار البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي].
معاذ بن هشام بن عبد الله الدستوائي صدوق ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وأبوه هشام الدستوائي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن زيد].
جابر بن زيد هو أبو الشعثاء ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعكرمة].
عكرمة مولى ابن عباس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(419/22)
رأي ابن عباس في نبيذ البسر
هذا رأي لـ ابن عباس؛ ولكنه لم يجزم بالحرمة، ثم النهي عن الانتباذ في الحنتم والمقير أو المزفت كان في أول الأمر ونسخ كما مر في الدرس الماضي في الطرق المتعددة عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما، وقد جاء حديث بريدة بن حصيب الذي فيه الناسخ والمنسوخ وفيه قوله: (كنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا في أي وعاء ولا تشربوا مسكراً)، والأحاديث جاءت مطلقة في النهي عن الجمع بينهما فتبقى على ما هي عليه دالة على الحرمة إلا إن ثبت شيء ينقلها من كراهة التحريم إلى كراهة التنزيه، وكثير من الفقهاء والمحدثين قالوا: الجمع منهي منه ولو لم يسكر، وإن حصل الإسكار صار منهياً عنه من الجهتين، ويأثم لو شربه وهو لم يسكر؛ لأنه داخل تحت ما نهي عنه، لكن أنا أقول: إن هذه الأحاديث الصحيحة إن وجد من النصوص شيء يدل على الجواز فيكون له وجه في نقله من التحريم إلى التنزيه.(419/23)
صفة النبيذ(419/24)
شرح حديث: (أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله قد علمت من نحن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في صفة النبيذ.
حدثنا عيسى بن محمد حدثنا ضمرة عن السيباني عن عبد الله بن الديلمي عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: (أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! قد علمت من نحن ومن أين نحن؛ فإلى من نحن؟ قال: إلى الله وإلى رسوله، فقلنا: يا رسول الله! إن لنا أعناباً ما نصنع بها؟ قال: زببوها، قلنا: ما نصنع بالزبيب؟ قال: انبذوه على غدائكم واشربوه على عشائكم، وانبذوه على عشائكم واشربوه على غدائكم، وانبذوه في الشنان ولا تنبذوه في القلل؛ فإنه إذا تأخر عن عصره صار خلاً)].
أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في صفة النبيذ، يعني: أن النبيذ الذي يسوغ شربه ويسوغ استعماله هو الذي لم يصل إلى حد الإسكار، وذلك بأن يترك مدة لا يصل فيها إلى حد الإسكار ثم يشرب.
وقد أورد أبو داود حديث فيروز الديلمي رضي الله عنه قال: (أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! قد علمت من نحن ومن أين نحن) وقوله: (علمت من نحن) يعني: القبيلة، وقوله: (ومن أين نحن) يعني: من البلد، ثم قال: (فإلى أين نحن؟ قال: إلى الله ورسوله) يمكن أن يحمل معنى هذا على أنهم صائرون إلى ما يأتي عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ويلتزمون بما جاء عن الله وعن رسوله صلوات الله وسلامة وبركاته عليه.
وقوله: [(فقلنا: يا رسول الله! إن لنا أعناباً ما نصنع بها؟)].
يظهر من السؤال أن الأعناب كانت عندهم كثيرة وأنها تزيد عن حاجتهم في استعمالها فاكهة، فقال: (زببوها) أي: حولوها إلى زبيب، يعني: يبسوها حتى تكون زبيباً، والزبيب يستعمل طول السنة.
وقوله: [(قلنا: ما نصع بالزبيب؟ قال: انبذوه على غدائكم واشربوه على عشائكم)].
هذا هو محل الشاهد، وهو بيان النبيذ الذي يجوز استعماله، والمعنى: انبذوه في وقت غدائكم واشربوه في وقت عشائكم، وانبذوه في وقت عشائكم واشربوه في وقت غدائكم، يعني: أن الغداء يكون في أول النهار والعشاء في آخر النهار، ففي وقت الغداء ينبذونه للعشاء ويضعونه في وعاء حتى يصير نبيذاً وحتى يختلط بالماء ثم يشرب في وقت مبكر وهو لم يصل إلى حد الإسكار؛ لأن هذه الفترة قصيرة لا يصل فيها إلى حد الإسكار، فقوله: (انبذوه على غدائكم) يعني: في وقت غدائكم، واشربوه في وقت عشائكم.
وقوله: (وانبذوه في وقت عشائكم واشربوه في وقت غدائكم) يعنى: أن الذي ينبذ في وقت العشاء يشرب مع الغداء والذي ينبذ في وقت الغداء يشرب مع العشاء، فيكون هذا من النبيذ المباح الذي فعله سائغ وشربه سائغ؛ لأنه لا يصل إلى حد الإسكار.
وقوله: [(وانبذوه في الشنان ولا تنبذوه في القلل)].
الشنان هي القرب التي تؤخذ من الجلود، وغالباً أن الجلد إذا كان قديماً يقال له: شن، وأما إذا كان جديداً فيمكن أن يقال له: شن، لكن الغالب أنه يستعمل في الشيء القديم الذي تغير أو حصل له اسوداد بسبب طول المكث بخلاف الشيء الجديد فإنه يختلف لونه عن لون القديم.
والقلل هي الجرار وغيرها، لكن عرفنا فيما مضى أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الانتباذ في القلل ولكنه رخص فيه في الآخر كما جاء في حديث بريدة حيث قال: (كنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكراً).
وقوله: [(فإنه إذا تأخر عن عصره صار خلاً)].
يعني: إذا طال مكثه فإنه يتغير.(419/25)
تراجم رجال إسناد حديث: (أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله قد علمت من نحن)
قوله: [حدثنا عيسى بن محمد].
عيسى بن محمد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ضمرة].
ضمرة صدوق يهم قليلاً، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن السيباني].
السيباني هو يحيى بن أبي عمرو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن الديلمي عن أبيه].
عبد الله بن فيروز الديلمي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
وأبوه هو فيروز الديلمي رضي الله عنه صحابي، أخرج له أصحاب السنن.(419/26)
شرح حديث: (كان ينبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء يوكى أعلاه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثني عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن يونس بن عبيد عن الحسن عن أمه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان ينبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء يوكأ أعلاه وله عزلاء، ينبذ غدوة فيشربه عشاءً وينبذ عشاء، فيشربه غدوة)].
أورد أبو داود حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وهو مثل الذي قبله، يعني: أنه كان ينبذ له عشاءً فيشرب غدوة، وينبذ له غدوة فيشرب عشاءً، يعني: أنه كان ينبذ له عند الغداء فيشربه عند العشاء، ثم ينبذ له عند العشاء فيشربه عند الغداء كما مر في الحديث السابق.
وهذه الفترة ليست تحديداً بمعنى أنه لا يجوز الزيادة عليها، وإنما فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستعمل ذلك، وسيأتي في بعض الأحاديث أنه يستعمل أكثر من هذه المدة.
وقوله: (وله عزلاء) قيل: العزلاء هي الفتحة التي تكون في أسفله تجعل ليشرب منها.(419/27)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان ينبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء يوكى أعلاه)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
محمد بن المثنى أبو موسى العنزي الزمن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي].
عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يونس بن عبيد].
يونس بن عبيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن عن أمه].
الحسن بن أبي الحسن البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وأمه اسمها خيرة وهي مقبولة، أخرج لها مسلم وأصحاب السنن.
[عن عائشة].
عائشة قد مر ذكرها.(419/28)
شرح حديث عائشة: (كانت تنبذ للنبي صلى الله عليه وسلم غدوة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا المعتمر قال: سمعت شبيب بن عبد الملك يحدث عن مقاتل بن حيان قال: حدثتني عمتي عمرة عن عائشة رضي الله عنها: (أنها كانت تنبذ للنبي صلى الله عليه وسلم غدوة فإذا كان من العشي فتعشى شرب على عشائه، وإن فضل شيء صببته أو فرغته، ثم تنبذ له بالليل فإذا أصبح تغدى فشرب على غدائه، قالت: يغسل السقاء غدوة وعشية، فقال لها أبي: مرتين في يوم؟ قالت: نعم)].
أورد أبو داود حديث عائشة وهو مثل الذي قبله، وفيه: (أنها كانت تنبذ للنبي صلى الله عليه وسلم غدوة فإذا كان من العشي فتعشى شرب على عشائه) يعني: أن الذي تنبذه له في وقت الغداء يشربه في وقت العشاء مع عشائه، قالت: (وإن فضل شيء صببته أو فرغته) يعني: أن الذي يبقى في الإناء تصبه وتفرغه، ويمكن أنها تطعمه وإلا فإنه يتلف، لكنها لا تبقيه؛ لأن الإناء ينظف ويغسل بعد أن يشرب ما فيه، وذكرت أنه يغسل مرتين، فالذي فيه لا يبقى بحيث يضم إليه شيء آخر، وإنما يصب ويفرغ ذلك السقاء حتى يكون خالياً ثم ينبذ فيه مرة ثانية.
وهذا مثل الذي قبله، فيه انتباذ في الصباح وشرب في المساء أو انتباذ في المساء وشرب في الصباح، والحديث وإن كان فيه هذه التي لا تعرف لكنه مماثل لما تقدم.
وقوله: (فقال لها أبي مرتين في يوم؟ قالت: نعم) أي: فقال أبو عمرة لـ عائشة، كما في تحفة الأشراف وتهذيب الكمال.(419/29)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة: (كانت تنبذ للنبي صلى الله عليه وسلم غدوة)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا المعتمر].
المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت شبيب بن عبد الملك].
شبيب بن عبد الملك صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[يحدث عن مقاتل بن حيان].
مقاتل بن حيان صدوق، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[قال: حدثتني عمتي عمرة].
عمرة لا يعرف حالها أخرج لها أبو داود.
[عن عائشة].
عائشة قد مر ذكرها.(419/30)
شرح حديث: (كان ينبذ للنبي صلى الله عليه وسلم الزبيب فيشربه اليوم والغد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مخلد بن خالد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي عمر يحيى بن عبيد البهراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال (كان ينبذ للنبي صلى الله عليه وسلم الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة، ثم يأمر به فيسقى الخدم أو يهراق).
قال أبو داود: ومعنى يسقى الخدم: يبادر به الفساد.
قال أبو داود: أبو عمر يحيى بن عبيد البهراني].
أورد أبو داود حديث ابن عباس قال: (كان ينبذ للنبي صلى الله عليه وسلم الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة) يعني: أنه كان ينبذ له ثلاثة أيام، يعني: اليوم والغد واليوم الثالث إلى المساء ثم إذا بقي منه شيء فإنه يسقى للخدم، يعني: يبادر به حتى لا يسكر وحتى لا يصل إلى حد الإسكار، فإما أن يستفاد منه وإما أن يصل إلى حد الإسكار فيهراق؛ لأن بقاءه يؤدي إلى فساده ما دام أنه لم يوجد من يشرب منه، والمقصود بإعطائه الخدم: إسقاؤه لمن يستفيد منه قبل أن يصل إلى حد الإسكار.
وقوله: [قال أبو داود: معنى يسقى الخدم: يبادر به الفساد].
يعني يبادر به حتى يستفاد منه قبل أن يفسد، كما قال الله عز وجل: {وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء:6] يعني: أنهم يأكلون أموالهم قبل أن يحصل أن يكبر اليتامى، فقوله: {وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء:6] يعني: مبادرة إلى أخذ الشيء من أموالهم قبل أن يكبروا فتسلم لهم، وهنا يبادر به الإسكار يعني: قبل أن يسكر حتى يستفاد منه ما دام أنه مباح وحلال حيث لم يصل إلى حد الحرام، وكأنه بهذا إذا زاد على ثلاثة أيام يصل إلى حد الإسكار.
وقيل في التوفيق بين هذا الحديث والحديث الذي قبله من جهة يوم وليلة أن ما ينتبذ في الصباح يشرب في المساء وما ينبذ في المساء يشرب في الصباح: لا تنافي بين هذا وهذا، فإما أن يكون هذا جزءاً وهو داخل في الذي بعده، وذاك إخبار عن واقع وهذا أيضاً إخبار عن واقع، ووجود الأصغر مع الأكبر لا تنافي بينهما فإن الأصغر داخل في الأكبر، أو أن هذا يختلف باختلاف الأزمان وباختلاف البرودة والحرارة، وأنه إذا كان في حال البرودة يمكث مدة طويلة وإذا كان في حال الحرارة لا يمكث مدة طويلة.
والحاصل: أنه لا تنافي بين هذا وهذا، والمهم ألا يصل إلى حد الإسكار في هذا وفي هذا.(419/31)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان ينبذ للنبي صلى الله عليه وسلم الزبيب فيشربه اليوم والغد)
قوله: [حدثنا مخلد بن خالد].
مخلد بن خالد ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا أبو معاوية].
أبو معاوية محمد بن خازم الضرير الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
الأعمش سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عمر يحيى بن عبيد البهراني].
أبو عمر يحيى بن عبيد البهراني صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس رضي الله تعالى عنه قد مر ذكره.(419/32)
الأسئلة(419/33)
حكم إسقاء البهائم النبيذ المسكر
السؤال
إذا وصل النبيذ إلى حد الإسكار أيجوز أن يسقى البهائم؟
الجواب
لا تسقى، بل يراق ويتلف.(419/34)
معنى قول أبي داود يبادر به الفساد
السؤال
هل يستفاد من قول أبي داود: يبادر به الفساد أنه يجوز إلقاء فضلات الطعام؟
الجواب
تعطى لمن يستفيد منها ولا تلقى، هذا هو الذي ينبغي، والمقصود بقوله: (يبادر به) يعني: أنه يعطى لمن يستحقه قبل أن يصل إلى حد الفساد؛ لأنه إذا لم يعط لمن يستفيد منه سيحصل له الفساد، وليس معنى ذلك أنه بعدما يحصل له الفساد يبادر به وإنما يبادر به قبل أن يفسد، فما دام أنه يستفاد منه لا يلقى وإنما يعطى لمن يستفيد منه، وإنما الذي يلقى ويتلف هو الذي لا يصلح أن يشرب ولا يصلح أن يستعمل، وهو الذي وصل إلى حد الإسكار.(419/35)
حكم عصير الفواكه المشكل
السؤال
يباع في الأسواق علب فواكه مشكلة مخلوطة ومعها ماء فهل تدخل في هذا النهي؟
الجواب
هذه الفواكه وهذه العصائر لا تدخل في النهي؛ لأنها ليست مسكرة وليست من قبيل ما يسكر.(419/36)
الفرق بين النقع والانتباذ
السؤال
ما الفرق بين النقع والانتباذ؟
الجواب
النقع بمعنى الانتباذ، وكون الشيء ينقع معناه: أنه يوضع في الماء حتى يذوب وحتى يختلط، فالظاهر أنه لا فرق بين النقع وبين الانتباذ.(419/37)
حكم نقيع الأعشاب
السؤال
وضع عدة أعشاب في ماء دافئ من الليل حتى الصباح لتشرب هل هذا يعتبر من نبيذ الخليط المنهي عنه؟
الجواب
إذا كان المقصود بها أدوية فالذي يبدو أنه لا محذور فيها؛ لأن هذه ليست من الأطعمة التي إذا حصل الجمع بينها يحصل الإسكار أو يبادر فيها الإسكار.(419/38)
حكم السوبيا
السؤال
ما حكم السوبيا الموجودة الآن، وهي شعير مع هيل وخبز وسكر يترك ليوم كامل ثم يصفى ويجعل منه عصير، علماً أنه لو مكث في الحرارة يؤدي إلى السكر على كلام كثير من الناس؟
الجواب
وردت الأحاديث دالة على المنع من الخلط بين نوعين فأكثر وإن لم يسكر، والهيل أمره سهل، وإنما الكلام على الخبز الذي يكون معه.(419/39)
حكم وضع أنواع متعددة في ماء حلو أو مالح
السؤال
وضع أنواع متعددة في ماء حلو أو مالح هل يعتبر انتباذاً خصوصاً أن الماء السكري أو المالح من طرق حفظ الأطعمة؟
الجواب
إذا كان فيه أنواع متعددة مثل التمر والعنب أو التمر والزبيب فهذا هو نفس الخليطين.(419/40)
حكم الطرشي
السؤال
ما حكم الطرشي، وهو قطع من الخضار تنقع في ماء مالح أو في خل؟
الجواب
الطرشي كما هو معلوم هو خل إلا أنه موضوع في شيء حامض فيكون الماء حامضاً والقطع التي تكون فيه حامضة، لكن هل يترك مدة وتجمع فيه عدة أشياء في وقت واحد بحيث تمكث مدة أم لا؟ إذا كانت عدة أشياء فهي داخلة في الخليط، إلا إذا كان على اعتبار أنه لا يتحلل، وفيه قطع لا تتحلل؛ لأن التمر والعنب أشياء تحلل، لكن مثل هذه الأشياء كالجزر ونحوه يبقى على قساوته وعلى تماسكه ولا يتحلل والخيار مثله إلا أنه أخف منه قساوة, وفي الغالب أنه تدخل الحموضة في هذه الأشياء، والحموضة ما جاءت من جهة المكث وإنما جاءت من جهة كونه جعل في خل ووضعت فيه هذه الأشياء فصار فيه طعم الخل.
فالتمر أكل والزبيب أكل وينبذ في الماء ثم يتحول إلى شيء، ويقال له: نبيذ، ووضع الجزر ووضع الخيار مع الخل من أجل أن يدخله حموضة ليطيب أكله ولا ينبذ في الماء لا يكون نبيذاً؛ لأن الانتباذ هو في الماء كما هو معلوم، والماء يتغير لونه بسبب الشيء الذي نبذ فيه، لكن الجزر لا يوضع في الماء ولا يوضع الخيار في الماء وإنما يوضع في الخل من أجل أن يدخل فيه الحموضة فيطيب أكله، فلا يكون من قبيل النبيذ في الحقيقة؛ وذلك من جهة أن النبيذ إنما ينتبذ في ماء ويتغير لونه فبدل ما يكون ماءً يصير له اسماً آخر غير الماء، يقال له: نبيذ، وأما وضع الجزر في الماء ووضع الخيار ونحوه فإن الناس لا يضعونه من أجل أن يصير نبيذاً، وإنما يضعونه في خل من أجل أنه يتغير ثم يغمس به ويأكل، وعلى هذا فلا يقال: إن هذا من قبيل النبيذ.(419/41)
منع الخلط بين نوعين فأكثر في الانتباذ
السؤال
هل الممنوع هو الخلط بين الفواكه والحبوب أم أن الخلط ممنوع مطلقاً؟
الجواب
الحديث دل على أنه لا يجمع بين نوعين فأكثر.(419/42)
حكم الخل
السؤال
قوله في حديث: (ولا تنبذوه في القلل فإنه إذا تأخر عن عصره صار خلاً) هل يفهم منه تحريم الخل؟
الجواب
لا؛ لأنه كما هو معلوم الخل ليس شراباً يشرب؛ لأنه حامض، يغمس به شيء يؤكل عليه، أما كونه يشرب فلا؛ لأن الخل لا يشرب.(419/43)
بيان متى يمنع وضع قطع مختلفة من الفواكه في الماء الحلو
السؤال
وضع قطع مختلفة من الفواكه في الماء المحلى بالسكر ثم شربه وأكله هل هو ممنوع مطلقاً أم إذا أسكر؟ وإذا صنع وشرب مباشرة هل يمنع كذلك؟
الجواب
إذا فعل ذلك وشربه أو أكله في الحال فلا بأس، وإنما المنهي عنه كونه يوضع وينتبذ؛ لأن الانتباذ معناه أنه يتحلل ويتغير لون الماء، وأما إذا فعل في الحال مثل كونه يأكل هذا على حده وهذا على حده أو يأكل قطعة من هذه ثم قطعة من هذه مستقلة فهذا من جنسه، وكونه جمعهما في إناء واحد وصب بعضهما على بعض، لا بأس به.(419/44)
حكم الفواكه المشكلة المعلبة
السؤال
هذه الفواكه المشكلة المعلبة تكون صالحة لمدة سنة ولا تتحلل ولو فتحت العلبة ترى فيها قطعاً من الأناناس ومن التفاح ومن الموز وغيرها فما حكمها؟
الجواب
كأنه يبقى بعد العصر شيء من الفتات، وكأن العصر يكون خفيفاً فلا تكون كلها قطعاً صغيرة، وعلى كل لو وجد شيء يدل على جواز الخلط يكون النهي محمولاً على كراهة التنزيه، فالشأن هو في وجود شيء يصرف التحريم إلى التنزيه، فإذا وجد شيء يصرف من التحريم إلى التنزيه فلا إشكال.(419/45)
الفرق بين أسانيد السير والمغازي وأسانيد أحاديث الأحكام
السؤال
هل صحيح أن الأسانيد التي جاءت في السير والمغازي لا تعامل معاملة الأسانيد التي جاءت في أحاديث الأحكام؟
الجواب
هذا ليس بصحيح؛ بل لا يثبت شيء في السيرة ولا في غير السيرة إلا إذا جاء بأسانيد صحيحة.(419/46)
شرح سنن أبي داود [420]
أحل الله عز وجل الطيبات وحرم الخبائث، فعلى المسلم أن يأكل ما حل وطاب، كما أن عليه أن يجتنب ما خبث وحرم، ومن الطيبات التي أحلها الله عز وجل العسل.
ومما يجب على المرء المسلم أن يعلمه أنه لا يجوز له أن يحرم ما أحل الله أو يحلل ما حرم الله؛ فإن ذلك من خصائص الله عز وجل.(420/1)
باب في شراب العسل(420/2)
شرح حديث (أن النبي كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في شراب العسل.
حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل قال: حدثنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج: عن عطاء أنه سمع عبيد بن عمير قال: سمعت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم تخبر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش رضي الله عنها فيشرب عندها عسلاً، فتواصيت أنا وحفصة رضي الله عنهما أيتنا ما دخل عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، فدخل على إحداهن فقالت له ذلك، فقال: بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له؛ فنزلت: ((لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ)) [التحريم:1] إلى ((إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ)) [التحريم:4] لـ عائشة وحفصة رضي الله عنهما: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم:3] لقوله: صلى الله عليه وسلم: بل شربت عسلاً)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: باب في شراب العسل، وشرب العسل هو من أنفع الأشياء وأحلاها، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلوى والعسل.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش رضي الله عنها وكانت تسقيه عسلاً، فتواصت عائشة مع حفصة رضي الله تعالى عنهما أنه إذا جاء عند واحدة منهما تقول كل واحدة له: إني أجد منك ريح مغافير، فلما جاء عند عائشة قالت له ذلك فقال: بل شربت عسلاً ولن أعود إلى ذلك) أي: إلى شرب العسل الذي كان عند زينب رضي الله تعالى عنها، والمغافير هي: ثمر لنبت يكون فيه حلاوة ولكن فيه رائحة كريهة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الرائحة الطيبة ويكره الروائح الغير حسنة، فلما قالت له ذلك خشي أن يكون هذا الشيء الذي يشربه فيه ريح غير طيبة، وكان يحب الرائحة الطيبة ويكره الروائح الغير طيبة، ولذا قال: (بل شربت عسلاً ولن أعود إلى ذلك) والمغافير هو نوع من الثمر ترعاه النحل ثم يخرج منه العسل، فيكون في ذلك العسل رائحة ذلك الذي رعته، ومن المعلوم أن العسل يختلف باختلاف المراعي، يعني: أن جودته ورداءته وحسن رائحته وعدمها تكون باختلاف المراعي التي ترعاها النحل، فالنبي صلى الله عليه وسلم ظن أن هذا العسل الذي شربه من عند زينب من هذا القبيل الذي فيه حلاوة وترعاه وتجرسه النحل ويظهر منه تلك الرائحة التي تكون في تلك الثمرة.
فالحاصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يشرب العسل وكان يحب الحلوى والعسل كما سيأتي، وكانت إحدى أم المؤمنين تسقيه شيئاً من العسل، وأمهات المؤمنين عائشة وحفصة غرن مما قد حصل من زينب فتواصين عليه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لن يعود فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1]، وهذا هو سبب نزول هذه الآية، وقيل: إن سبب نزولها أيضاً كونه حرم مارية على نفسه وهي سريته وقال: إنه لن يطأها، وبعد ذلك أمره الله عز وجل أن يأتي بكفارة اليمين لما كان قد حلف عليه أو امتنع منه، فيحنث فيما عزم عليه ويحل له ذلك الشيء الذي عزم على الامتناع منه، وقد جاء فيما ذكره أبو داود في هذا الحديث عن عائشة بيان سبب نزول هذه الآية، وجاء أيضاً سبب النزول فيما يتعلق بـ مارية القبطية أم ولده إبراهيم.
قوله: [(فدخل على إحداهن فقالت له ذلك فقال: بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له)].
هذا هو وجه التحريم أو الامتناع الذي حصل منه بقوله: (لن أعود له) يعني: شرب العسل، والسبب في ذلك: أنه خشي أن يكون فيه رائحة كريهة من ذلك الثمر الذي رعته النحل.
وهذا الحديث ورد بصيغة التحريم وورد أنه أقسم أنه لن يعود.
قوله: (فنزلت ((لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي)) [التحريم:1] إلى: ((إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ)) [التحريم:4])].
هذا فيه عتاب لـ عائشة وحفصة: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]، فضمير المثنى المراد به عائشة وحفصة فهما اللتان تواصتا على أن تقولا هذا الكلام.
وفي الحديث الثاني ذكر سودة، فيحتمل أن يكون فيه خطأ أو أن تكون قصة ثانية، فإما هذا وإما هذا.
وقوله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم:3] هو قوله صلى الله عليه وسلم: (بل شربت عسلاً)، هذا هو الحديث الذي أسره.
والإسرار هنا المراد به: أنه حصل كلام بينه وبينها، يعني: خاص بينه وبينها ولكنه بعد ذلك فشا.(420/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي كان يمكث عند زينب جحش فيشرب عندها عسلاً)
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حجاج بن محمد].
حجاج بن محمد الأعور المصيصي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: قال ابن جريج].
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء].
عطاء بن أبي رباح المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنه سمع عبيد بن عمير].
عبيد بن عمير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(420/4)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم (ولن أعود له)
قوله صلى الله عليه وسلم: (ولن أعود له) الذي يبدو أنه للعسل الذي عند زينب وليس للعسل مطلقاً.
والتحريم هنا في قوله: لن أفعل كذا معناه: أنه يمنع نفسه منه ويحرم نفسه منه.(420/5)
الراجح من الروايات في تسمية اللاتي تظاهرن على النبي صلى الله عليه وسلم
نقل صاحب عون المعبود عن القاضي عياض تصحيح الرواية الأولى التي فيها حفصة وعائشة وأنه قال: واعلم أن في هذا الحديث -أي: حديث عائشة من طريق عبيد بن عمير - أن شرب العسل كان عند زينب بنت جحش وفي الحديث الآتي -أي: حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - أن شرب العسل كان عند حفصة وأن عائشة وسودة وصفية هن اللواتي تظاهرن عليه، ثم قال القاضي عياض: والصحيح الأول.
أي: أنه بين حفصة وبين عائشة؛ لأنها قصة واحدة.
قال النسائي: إسناد حديث حجاج بن محمد عن ابن جريج صحيح جيد غاية.
وقال الأصيلي: حديث حجاج أصح، وهو أولى بظاهر كتاب الله تعالى وأكمل فائدة، يريد قوله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم:4] وهما ثنتان لا ثلاث، وهما: عائشة رضي الله عنها وحفصة رضي الله عنها كما ذكره عمر رضي الله عنه في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقد انقلبت الأسماء على الراوي في الرواية الأخرى الذي فيه أن الشرب كان عند حفصة.
قال القاضي: والصواب أن شرب العسل كان عند زينب، وذكره القرطبي والنووي، وقاله الشيخ علاء الدين في لباب التأويل.(420/6)
شرح حديث (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، فذكر بعض هذا الخبر وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن توجد منه الريح، وفي هذا الحديث قالت سودة رضي الله عنها: بل أكلت مغافير، قال: بل شربت عسلاً سقتني حفصة، فقلت: جرست نحله العرفط، نبت من نبت النحل).
قال أبو داود: المغافير: مقلة وهي صمغة، وجرست: رعت، والعرفط: نبت من نبت النحل].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها من طريق أخرى وفيه أن الذي سقته اللبن هي حفصة، وأنها ليست ممن عني بقوله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]؛ لأنها هي الساقية، ولكن على الرواية الأولى الساقية هي زينب بنت جحش، فإذا كانت القصة واحدة فالراجح والمحفوظ هو الطريق الأولى التي هي عن عبيد بن عمير عن عائشة وإن كانت القصة متعددة فمحتمل.
وقوله: (جرست نحله العرفط)].
يعني: أكلت؛ لأن الجرس هو: أكل النحل العرفط الذي هو ثمر نبت من نبت النحل، يعني: من الأشياء أو النباتات التي تأكلها النحل, ومعلوم أن العسل الذي يحصل من النحل جودته وحسنه تابع لمرعاه ولرعيه، وهو يختلف باختلاف المراعي، وإذا كان المرعى الذي رعاه فيه رائحة فإن تلك الرائحة تظهر في العسل؛ لأنه مأخوذ منه والعسل نتيجة الرعي.
[قال أبو داود: المغافير: مقلة وهي صمغة].
يعني: أن المغافير ثمر نبت يقال له: مقلة وهي صمغة، يعني: مثل الصمغ؛ لأنه حلو ولكن له رائحة.(420/7)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا أبو أسامة].
أبو أسامة حماد بن أسامة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام عن أبيه عن عائشة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأبوه عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وعائشة قد مر ذكرها.(420/8)
التعليق على كلام النسفي في نسبته الزلل إلى النبي صلى الله عليه وسلم
جاء في العون عن النسفي أنه قال: وكان هذا زلة من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله.
وهذا كلام غير جيد، والرسول امتنع من هذا الشيء من أجل أنه ذكر له أن فيه رائحة كريهة وهو كان يحب الرائحة الطيبة ويكره الرائحة الكريهة، فعزم على ألا يعود إلى ذلك الشيء الذي شم منه رائحة غير طيبة، وهو عليه الصلاة والسلام كان يحب الطيب ويحب الرائحة الطيبة ويكره الروائح الغير الحسنة.
قال صاحب العون رحمه الله تعالى: وكذلك الحديث الذي يتعلق بـ مارية جاء من طرق صحيحة لكنها ليست في الصحيحين ولكنها ثابتة.
أي: أن ما يتعلق بالنسبة لـ مارية عند النسائي وعند ابن جرير من طريق صحيحة، وفيها أنه حلف أنه لا يقربها وأنه لا يعود إليها.(420/9)
باب في النبيذ إذا غلى(420/10)
شرح حديث أبي هريرة (علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النبيذ إذا غلى.
حدثنا هشام بن عمار قال: حدثنا صدقة بن خالد قال: حدثنا زيد بن واقد عن خالد بن عبد الله بن حسين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم، فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ثم أتيته به فإذا هو ينش، فقال: اضرب بهذا الحائط؛ فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: باب في النبيذ إذا غلى؛ لأنه إذا غلى وقذف بالزبد فمعناه أنه وصل إلى حد الإسكار أو قارب الإسكار، وعلامته أنه يغلي ويقذف بالزبد، وهذا علامة على أنه وصل إلى الحالة السيئة.
وأبو هريرة رضي الله عنه يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان صائماً فتحين أن يأتي له بنبيذ يفطر عليه صلى الله عليه وسلم، ولما أتى به إذا هو ينش، يعني: كأنه يغلي وحصل له علامة التخمر أو ظهر منه التخمر، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: (اضرب بهذا الحائط) يعني: أنه يسكبه في حائط ويتخلص منه، وقال: (إن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر)؛ لأن الخمر محرم لا يجوز شربه، فدل هذا الحديث أن غليانه وقذفه بالزبد علامة الإسكار.
قوله: [(علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء)].
الدباء هو المذكور في حديث وفد عبد القيس الذي فيه النهي عن الدباء والحنتم والمقير والمزفت والنقير، وقد ذكرنا فيما مضى أنه جاء تحريم كما الانتباذ في هذه الأوعية في أول الأمر ثم بعد ذلك نسخ التحريم كما في حديث بريدة بن الحصيب عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (كنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكراً)، فهذا الدباء من الأشياء الغليظة التي قد يحصل تغير ما داخلها ولا يظهر على الغلاف من خارجه، بخلاف السقاء فإنه إذا وجد تغير في الداخل ظهر على الخارج، وتبين تغيره على سطحه من الخارج.
قوله: [(ثم أتيته به فإذا هو ينش)].
يعني: أنه عندما وصل إليه تبين أنه ينش، يعني أن فيه علامة الإسكار فقال: (اضرب به هذا الحائط؛ فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر) يعني: الخمر، وذكر الإيمان بالله واليوم الآخر يأتي كثيراً في القرآن والحديث؛ وذلك أن الإيمان بالله عز وجل هو أصل الأصول؛ لأن أصول الإيمان ستة: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ويأتي في كثير من الأحاديث الجمع بين الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأن الإيمان بالله هو أصل الأصول وكل إيمان بغيره فهو تابع للإيمان به، ومن لا يؤمن به لا يؤمن بالملائكة ولا بالكتب ولا بالرسل، فهو مثل شهادة (أن لا اله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) بالنسبة لأركان الإسلام، فالإيمان بالله هو أصل لأصول الإيمان الأخرى الباقية التي هي: الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره، كما أن الشهادتين أصل لأركان الإسلام الخمسة، فكل عمل لم يكن مبنياً على الشهادتين فإنه لا عبرة به، وكل إيمان لا يكون مبنياً على الإيمان بالله فإنه لا عبرة به، فيأتي الإيمان بالله لأن الإيمان بالله هو الأصل، والإيمان باليوم الآخر يؤتى به لأن فيه التنبيه على يوم الحساب، وأن على الإنسان أن يستعد ويتهيأ لذلك اليوم، فإذا كان المقام مقام ترغيب فهو حث على ذلك العمل، وإن كان المقام مقام ترهيب فهو تحذير من ذلك العمل، وهنا المقام مقام ترهيب؛ لأنه قال: (شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر)، وهذا تحذير وترهيب من هذا النبيذ الذي وصل إلى حد الغليان.
ومثل هذا فيما يتعلق بالتحذير والترهيب قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم)؛ لأن هذا من باب الترهيب من السفر بدون محرم، وفي باب الإثبات قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره) وهذا ترغيب، وقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، وهذا ترغيب، وقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، وها ترهيب، وهكذا.(420/11)