حكم جلسة الاستراحة للمؤتم
السؤال
ما حكم جلسة الاستراحة للمؤتم؟
الجواب
لا بأس بجلسة الاستراحة للمؤتم، وليس فيها مخالفة للإمام؛ لأنها قصيرة جداً لا يترتب عليها التأخر عن الإمام.(355/35)
سبب قول النبي من دخل دار أبي سفيان فهو آمن
السؤال
في تهذيب الكمال وفي تهذيب التهذيب لـ ابن حجر في ترجمة أبي سفيان عن جعفر بن سليمان الضبعي عن ثابت البناني أنه قال: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)؛ لأنه أوذي في الجاهلية فدخل داره، فهل هذا صحيح؟
الجواب
كيف هذا وهو من أشد أعدائه؟! وكيف يدخل داره وهو الذي كان يؤذيه؟! بل قاله بناءً على قول العباس: إنه رجل يحب الفخر.(355/36)
حكم الزواج ببنت متدينة أبوها يعمل في تجارة محرمة
السؤال
ما حكم الزواج بابنة رجل يشتغل بالتجارة المحرمة مثل بيع الدخان وغيره من أنواع المحرمات، علماً أن البنت متدينة وطالبة في مدرسة البنات في آخر المراحل؟
الجواب
لا بأس بالزواج منها، ولا يمنع من ذلك كون أبيها سيئاً وهي صالحة، والله تعالى يقول: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعام:95].(355/37)
وقت غسل الجمعة
السؤال
متى يبدأ وقت غسل يوم الجمعة؟
الجواب
يبدأ من دخول النهار، والنهار يدخل بطلوع الفجر، وقد سبق عند أبي داود في كتاب الجمعة أن الإنسان لو كان عليه جنابة واغتسل بعد طلوع الفجر فإنه يجزئ عن غسل الجمعة؛ لأنه حصل الغسل في النهار.(355/38)
حكم قول العصمة لله ورسوله
السؤال
الشيخ الألباني رحمه الله كان يقول في مصنفاته القديمة: العصمة لله ورسوله، وفي مصنفاته الحديثة صار يقول: المعصوم من عصمه الله، وقد أخبرني الشيخ علي حسن الحلبي أن الشيخ الألباني رجع عن قوله في المصنفات القديمة إلى هذا القول في المصنفات الجديدة، وذلك بعد ما تبين له أن لفظ العصمة لا تطلق على الله عز وجل، فما رأيكم؟
الجواب
نعم، وقد جاء في حديث: (ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كان له بطانتان: بطانة تدله على الخير، وتعينه عليه، وبطانة تدله على الشر، وتعينه عليه، والمعصوم من عصمه الله) رواه البخاري، فالتعبير عن الله بأنه معصوم لا يستقيم، ولفظ العصمة لا يطلق إلا على من يتصور منه صدور الخطأ، لكن إذا قيل: كلام الله تعالى فيه عصمة، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم فيه عصمة، فلا خطأ فيهما، فهذا كلام صحيح.(355/39)
حكم بقاء المدرسة في قرية لمدة سنة بلا محرم
السؤال
امرأة تدرس العلوم الطبية في إحدى المدارس الحكومية، وفي نهاية دراستها أمرت المدرسة هذه الفتاة بالتدريب العملي في إحدى القرى لمدة سنة، فهل يجوز لها أن تبقى في تلك القرية وهي بعيدة عن بيتها بدون محرم، لعدم إمكانية أن يأتي معها محرم، علماً بأن معها مجموعة طالبات؟
الجواب
إذا كانت في مكان مأمون فلا بأس بذلك، ولكن لا يجوز أن تسافر إلى القرية إلا مع محرم.(355/40)
حكم الجمع بين الصلاتين تقديماً لأجل السفر
السؤال
رجل في مطار المدينة أذن عليه المغرب فصلى المغرب والعشاء جمع تقديم، وهو بإذن الله سيصل إلى المدينة التي سيسافر إليها قبل خروج وقت العشاء، فهل عمله صحيح؟
الجواب
المسافر يبدأ بأحكام السفر إذا فارق بيوت القرية، والمطار الذي في المدينة خارج البنيان، فجمعه للصلاتين لا بأس به، لكن لو ترك الجمع لكان أولى؛ لأنه قد لا يسافر ويرجع.(355/41)
حكم من نذر صيام أربعة أشهر متتابعة
السؤال
نذرت لله أني سأصوم أربعة أشهر إذا عدت لبعض المعاصي، وأريد أن أخوف نفسي، ثم عدت إلى تلك المعصية، والآن لا أستطيع أن أصوم أربعة أشهر متتابعة، فماذا أفعل؟
الجواب
هذا الصيام مستطاع، إلا إذا كان مريضاً أو يوجد شيء يمنعه من الصيام، أما مجرد كونه شاقاً فالتكاليف كلها شاقة، فالواجب أن يفي بما نذر.(355/42)
شرح سنن أبي داود [356]
أوصى النبي عليه الصلاة والسلام أمته بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وأخبر أنه لا تكون قبلتان في هذه الجزيرة التي هي منبع الإسلام، وفيها قبلة المسلمين، وقد قام عمر رضي الله عنه بإجلاء يهود خيبر ونجران، وكان في ذلك خير عظيم للأمة.(356/1)
إخراج اليهود من جزيرة العرب(356/2)
شرح حديث: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في إخراج اليهود من جزيرة العرب.
حدثنا سعيد بن منصور حدثنا سفيان بن عيينة عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بثلاثة فقال: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم)، قال ابن عباس: وسكت عن الثالثة أو قال: فأنسيتها، وقال الحميدي عن سفيان قال سليمان: لا أدري أذكر سعيد الثالثة فنسيتها أو سكت عنها؟].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في إخراج اليهود من جزيرة العرب، جزيرة العرب هي الجزيرة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظهر الله عز وجل هذه الرسالة المحمدية منها، وانتشر منها النور والضياء الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنحاء المعمورة، فكان مما خصها الله عز وجل به وميزها أن حرم على الكفار أن يستوطنوها، وإنما يخرجون منها سواء كانوا يهوداً أو نصارى أو غيرهم من أصناف الكفرة، وهنا ترجم المصنف لإخراج اليهود، وليس الأمر خاصاً بهم، ولكنه جاء في بعض النصوص التنصيص عليهم، وقد ذكر أيضاً غيرهم، فهذا الحكم يشملهم ويشمل غيرهم، فالكفار لا يقرون في جزيرة العرب، وإنما يخرجون منها، ولا يبقى فيها إلا دين الإسلام.
أورد أبو داود أحاديث تحت هذه الترجمة، ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بثلاثة فقال: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) وكلمة المشركين تشمل اليهود والنصارى وغيرهم، لأن اليهود مشركون، والنصارى مشركون، وكذلك غيرهم مشركون، فالكل يجب إخراجهم من جزيرة العرب؛ ولهذا جاء في الحديث: (أمرت أن أخرج اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلماً) فهذا يفيد أن جميع أصناف الكفرة يخرجون من جزيرة العرب، وأنه لا يبقى فيها إلا المسلمون، وجاء في مسند الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يترك دينان في أرض العرب) يعني: لا يبقى فيها دينان، بل دين واحد هو دين الإسلام، أما الأديان الأخرى فتكون خارج جزيرة العرب، وأما هذه فلا يكون فيها إلا الدين الإسلامي الذي بعث الله به رسوله الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم.
والجزيرة في الأصل هي ما تحيط بها المياه من جميع الجهات، وقيل لها: جزيرة تغليباً، وإلا فهي شبه جزيرة وليست جزيرة، ولكن لما كانت المياه محيطة بأكثرها قيل لها: جزيرة؛ لأن البحور تحيط بها من جميع الجهات إلا من جهة الشمال.
قوله: [(وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزه)].
الوفد هم الذين يفدون من الرؤساء والملوك، فإنهم يكرمون، وتحصل لهم الضيافة والإحسان، وفي ذلك فوائد تعود إلى من جاءوا منهم؛ لأنهم إذا رأوا المسلمين ومعاملتهم الطيبة لهم ثم رجعوا إلى أقوامهم بتلك الأشياء التي شاهدوها وعاينوها من الإحسان والمعاملة الطيبة؛ فإن ذلك يكون له أثر على من وراءهم ممن جاءوا منهم، ويكون ذلك سبباً لهدايتهم وهداية من يعودون إليهم.
قوله: [قال ابن عباس: وسكت عن الثالثة أو قال: فأنسيتها].
يعني: عنده شك هل هو سكت عنها أو أنه ذكرها ولكن نسيها ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وقد قيل: هي النهي عن اتخاذ قبره عيداً، وقيل: هي تجهيز جيش أسامة.(356/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان بن عيينة].
سفيان بن عيينة المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان الأحول].
سليمان الأحول اسمه سليمان بن أبي مسلم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[وقال الحميدي: عن سفيان].
الحميدي هو عبد الله بن الزبير المكي الحميدي، أحد شيوخ البخاري، وهو أول شيخ روى عنه في صحيحه، فقد روى عنه حديث: [(إنما الأعمال بالنيات)] وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم في المقدمة وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة في التفسير.
وسفيان هو ابن عيينة، وقد تقدم ذكره.(356/4)
شرح حديث: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا أبو عاصم وعبد الرزاق قالا: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: أخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا مسلماً)].
أورد أبو داود حديث عمر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا أترك فيها إلا مسلماً)، فذكر أولاً اليهود والنصارى، ثم أتى بلفظ يشمل غيرهم من أنواع الكفرة بقوله: (حتى لا أترك فيها إلا مسلماً) يعني: لا يبقى فيها إلا مسلم، فهذا دليل على أن الحكم ليس خاصاً باليهود والنصارى، وإنما هو عام لجميع أصناف الكفرة.(356/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا أبو عاصم].
هو الضحاك بن مخلد النبيل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن جريج].
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني أبو الزبير].
هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي ابن صحابي، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[عن عمر بن الخطاب].
هو أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهاديين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكبيرة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(356/6)
شرح حديث: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله حدثنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر عن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعناه، والأول أتم].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى عن جابر عن عمر وقال: بمعناه يعني: بمعنى الطريق السابقة عن عمر، قال: والطريق الأولى أتم يعني: الطريق الأولى أتم من الطريق التي لم يذكر المتن فيها.(356/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله].
محمد بن عبد الله الزبيري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو يخطئ في حديث الثوري، وهذا لا يؤثر في هذا الحديث، فقد تقدم الحديث من طريق آخر.
[حدثنا سفيان].
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير عن جابر عن عمر].
مر ذكرهم.(356/8)
شرح حديث: (لا تكون قبلتان في بلد واحد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود العتكي حدثنا جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تكون قبلتان في بلد واحد)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس: (لا تكون قبلتان في بلد واحد) قيل: معنى ذلك أن المسلم لا يستوطن بلاد الكفار، فهو يصلي إلى قبلة المسلمين، وأولئك الكفار يصلون إلى قبلتهم، فيكون بلد واحد فيه قبلتان، قبلة المسلمين وقبلة الكافرين، وقيل: المقصود من ذلك أن الكفار لا يكونون مع المسلمين في بلد واحد، ولا يقرون بأن يكونوا مع المسلمين.
والحديث غير صحيح، ولكن قضية السكنى مع الكفار جاء حديث يدل على تحريمها، إلا إذا كان هناك أمر يقتضي ذلك لمصلحة ولفائدة، مثل السكن في بلادهم من أجل الدعوة إلى الله عز وجل، ودعوتهم إلى الدخول في الدين الحنيف، ويكون المسلم قائماً بأمور دينه، ولا يحصل منه شيء من التساهل، ولا يحال بينه وبين إظهار شعائر دينه.
وهذا الحديث: (لا تكون قبلتان في بلد واحد) لفظ عام، وقيل: إن المقصود من ذلك جزيرة العرب يعني: لا يكون فيها دينان، ولكن لفظ: (بلد واحد) عام، والحديث ضعيف، فيه قابوس بن أبي ظبيان وفي حديثه لين.(356/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تكون قبلتان في بلد واحد)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود العتكي].
سليمان بن داود العتكي ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قابوس بن أبي ظبيان].
قابوس بن أبي ظبيان في حديثه لين، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبيه].
أبو ظبيان وهو حصين بن جندب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
مر ذكره.(356/10)
أثر سعيد بن عبد العزيز في حد جزيرة العرب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمود بن خالد حدثنا عمر -يعني ابن عبد الواحد - قال سعيد -يعني ابن عبد العزيز -: جزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن إلى تخوم العراق إلى البحر].
ذكر المصنف هذا الأثر عن سعيد بن عبد العزيز الدمشقي في حد جزيرة العرب، وأنه إلى أقصى اليمن وإلى البحر وإلى تخوم العراق وإلى الوادي، قيل: المراد بالوادي وادي القرى، ولكن وادي القرى قريب من المدينة، وهو إلى جهة الشمال، والرسول صلى الله عليه وسلم سلكه في ذهابه إلى تبوك، فهو من جزيرة العرب.(356/11)
تراجم رجال إسناد أثر سعيد بن عبد العزيز في حد جزيرة العرب
قوله: [حدثنا محمود بن خالد].
محمود بن خالد الدمشقي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا عمر يعني ابن عبد الواحد].
عمر بن عبد الواحد الدمشقي وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن سعيد بن عبد العزيز].
وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.(356/12)
أثر عمر في إجلاء يهود نجران
[قال أبو داود: قرئ على الحارث بن مسكين وأنا شاهد: أخبرك أشهب بن عبد العزيز قال: قال مالك: عمر رضي الله عنه أجلى أهل نجران، ولم يجلوا من تيماء؛ لأنها ليست من بلاد العرب، فأما الوادي فإني أرى إنما لم يجل من فيها من اليهود، أنهم لم يروها من أرض العرب].
ذكر المصنف هذا الأثر عن مالك بن أنس قال: عمر أجلى أهل نجران، وعمر مبتدأ، والخبر أجلى أهل نجران.
والراجح أن حد الجزيرة من الشمال حدود الشام والعراق.
وهذا الأثر أضافه مالك إلى عمر، فهو منقطع.(356/13)
تراجم رجال إسناد أثر عمر في إجلاء يهود نجران
قوله: [قرئ على الحارث بن مسكين وأنا شاهد].
الحارث بن مسكين ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرك أشهب بن عبد العزيز].
أشهب بن عبد العزيز ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(356/14)
أثر عمر في إجلاء يهود نجران وفدك
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن السرح حدثنا ابن وهب قال: قال مالك: وقد أجلى عمر رضي الله عنه يهود نجران وفدك].
فدك قريبة من خيبر.(356/15)
تراجم رجال إسناد أثر عمر في إجلاء يهود نجران وفدك
قوله: [حدثنا ابن السرح].
أحمد بن عمرو بن السرح ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب].
عبد الله بن وهب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مالك].
مالك بن أنس مر ذكره.(356/16)
وجود أهل الكتاب في الجزيرة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام
نصارى نجران كانوا موجودين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل الكتاب كانوا موجودين في اليمن وفي خيبر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قال: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلماً).(356/17)
حكم دخول الكفار جزيرة العرب للعمل
لا يجوز دخولهم الجزيرة للعمل الذي لا ضرورة فيه، وأما العمل الذي فيه ضرورة، وهناك أمر يقتضيه، وحاجة تدعو إليه؛ فلا بأس بذلك، ولكن الناس توسعوا في هذا حتى أدخلوا الكفار لأمور تافهة وأمور سهلة يمكن أن يقوم بها المسلمون، فالواجب الإتيان بالمسلمين وعدم الإتيان بالكفار إلا للضرورة.
ولا يجوز بناء الكنائس في جزيرة العرب.(356/18)
إيقاف أرض السواد وأرض العنوة(356/19)
شرح حديث: (منعت العراق قفيزها ودرهمها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في إيقاف أرض السواد وأرض العنوة.
حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا زهير حدثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (منعت العراق قفيزها ودرهمها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، ثم عدتم من حيث بدأتم -قالها زهير ثلاث مرات- شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه)].
أرض السواد المقصود بها سواد العراق؛ لأن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما فتحها المسلمون أوقفها على المسلمين، ولم يقسمها على الغانمين، وإنما أبقاها ليستفيد منها المجاهدون وغير المجاهدين، فكانت تأتي الغلة والثمرة للمسلمين بصفة مستمرة، ولو وزعت على الناس لكان كل من ملك أرضاً يستحق ثمرتها، وإذا مات يرثه أقرباؤه، وبقاؤها على هذا الوجه يضيق على المسلمين، فرأى عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن المصلحة في وقفها، وجعل ثمرتها مستمرة للمسلمين، والإمام له أن يقسم ما يقسم، وله أن يبقي ما يبقي كما حصل في أرض خيبر، فإنها فتحت عنوة، ومنها ما بقي للنبي صلى الله عليه وسلم لحاجاته ونوائبه، ومنها ما قسم، ومن العلماء من قال: إن هذا إنما يكون بالنسبة للأرض التي يمكن أن تستثمر وتستمر بخلاف الأشياء المتحركة والمنقولة فإن هذه تقسم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قسم بعض أرض خيبر وأبقى بعضها؛ فدل على أن هذا سائغ، وإبقاء الأرض كما فعل عمر رضي الله عنه فيه بقاء الفوائد واستمرارها للمسلمين، بخلاف ما لو ما قسمت فإن ثمرتها تكون لكل من أعطي شيئاً منها، وإذا مات صارت لورثته فقط.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه: (منعت العراق قفيزها ودرهمها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، ثم عدتم من حيث بدأتم).
قالها زهير ثلاث مرات: يعني عدتم من حيث بدأتم، عدتم من حيث بدأتم، عدتم من حيث بدأتم.
قوله: شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه، يعني: أنه متحقق من هذا ومستوثق منه، وأنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه متمكن منه غاية التمكن، وحافظ له ومتقن له.
وهذا إخبار عن أمر سيقع، وهو أن المسلمين سيفتحونها، وأنها ستكون في أيديهم ثم بعد ذلك تعود إلى الكفار، ويمنعون الأشياء التي كانت تأتي المسلمين منها، ويكون ذلك من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، حيث أخبر عن أمر في المستقبل ويقع طبقاً لما أخبر به عليه الصلاة والسلام.
وأيضاً يمكن أن يكون المقصود به منعت قبل الفتح ثم حصل الفتح، ثم يعود الأمر كما كان، وأنه لا يصل إلى المسلمين شيئاً من ذلك.
قوله: [(منعت العراق قفيزها ودرهمها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها)].
قفيزها مكيال، والدرهم عملة نقود، ومنعت الشام مديها وهو مكيال شامي، والدينار عملة، ومنعت مصر إردبها وهو مكيال، ودينارها وهو عملة، يعني: منعوا الشيء الذي يكال، ومنعوا الأثمان التي هي الدراهم من الفضة، والدنانير من الذهب، والمقصود من ذلك أنهم يمنعون الخراج ويمنعون أيضاً الجزية التي ضربت عليهم.
قوله: [(ثم عدتم من حيث بدأتم)].
قال في عون المعبود: أي: رجعتم إلى الكفر بعد الإسلام، وقال في مجمع البحار: وحديث: (عدتم من حيث بدأتم) هو في معنى حديث: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ)، وقال الخطابي: معنى الحديث -والله أعلم- أن ذلك كائن، وأن هذه البلاد تفتح للمسلمين، ويوضع عليها الخراج شيئاً مقدراً بالمكاييل والأوزان، وأنها ستمنع في آخر الزمان، وخرج الأمر في ذلك على ما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبيان ذلك ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أرض السواد، ويوجد اختلاف في مقدار ما وضعه عليها، وفيها مستدل لمن ذهب إلى أن وجوب الخراج لا ينفي وجوب العشر.
وأرض العنوة يجوز إيقافها أو تقسيمها على الغانمين أو إيقاف بعضها وتقسيم بعضها.(356/20)
تراجم رجال إسناد حديث: (منعت العراق قفيزها ودرهمها)
قوله: [حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس].
أحمد بن عبد الله بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
هو ابن معاوية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سهيل بن أبي صالح].
سهيل بن أبي صالح صدوق، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة ورواية البخاري عنه تعليقاً ومقروناً.
[عن أبيه].
هو أبو صالح السمان واسمه ذكوان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(356/21)
شرح حديث: (أيما قرية أتيتموها وأقمتم فيها فسهمكم فيها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما قرية أتيتموها وأقمتم فيها فسهمكم فيها، وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله وللرسول ثم هي لكم)].
قوله: [(أيما قرية أتيتموها وأقمتم فيها فسهمكم فيها)].
قيل: هذا إشارة إلى الأرض التي تكون فيئاً، والتي تكون لمصالح المسلمين.
قوله: [(وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله وللرسول ثم هي لكم) أي: ثم ما بقي فهو لكم؛ لأنها تكون غنيمة إذا كان فتحها بقتال، والأول إذا كان فتحها من غير قتال ومن غير إيجاف خيل، فتكون في مصالح المسلمين.(356/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (أيما قرية أتيتموها وأقمتم فيها فسهمكم فيها)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر].
معمر بن راشد الأزدي ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن همام بن منبه].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
هذا الحديث من صحيفة همام بن منبه المشهورة المشتملة على مائة وأربعين حديثاً تقريباً، وكلها في مسند الإمام أحمد في مسند أبي هريرة منه، وهي بإسناد واحد، وبين كل حديث وحديث وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فأول حديث منها فيه إسناد الإمام أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة، وهو حديث: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة) ثم يأتي بعده وقال رسول الله كذا، والصحيفة كلها صحيحة، فهي بإسناد واحد، والبخاري وأبو داود وكثير من الأئمة عندما يروون من الصحيفة حديثاً يأتون بالإسناد الذي في أولها ثم يأتون بالحديث الذي يريدون من الصحيفة بعد نهاية الحديث، وأما الإمام مسلم رحمه الله فله طريقة خاصة، وهي أنه يسوق الإسناد، وإذا وصل إلى قوله: هذا ما حدثنا به أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر هذا ثم يقول: فذكر أحاديث، يعني أبو هريرة ثم قال: وقال رسول الله، ويأتي بالحديث الذي يريد، وهذه اللفظة تشعر بأن هناك أحاديث قبل الحديث الذي أورده.
والبخاري ومسلم رحمة الله عليهما لم يوردا كل حديث صحيح، بل ولم يلتزما ذلك حتى يستدرك عليهما، وأوضح دليل على ذلك هذه الصحيفة؛ لأنها كلها بإسناد واحد، وقد انتقيا منها أحاديث، فاتفقا على أحاديث من الصحيفة، وانفرد مسلم بأحاديث، وانفرد البخاري بأحاديث، وتركا منها أحاديث، فلو كانا التزما إخراج كل حديث صحيح لأوردا كل ما في الصحيفة، لكن كونهما تركا منها أحاديث، مع أنها بإسناد واحد، وأخذ كل منهما ما أراد أن يستدل به؛ فهذا من أوضح الأدلة على أنهما لم يلتزما إيراد كل حديث صحيح.(356/23)
أخذ الجزية(356/24)
شرح حديث بعث خالد إلى أكيدر دومة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في أخذ الجزية.
حدثنا العباس بن عبد العظيم حدثنا سهل بن محمد حدثنا يحيى بن أبي زائدة عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وعن عثمان بن أبي سليمان: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى أكيدر دومة، فأخذ فأتوه به، فحقن له دمه، وصالحه على الجزية)].
أورد أبو داود باب أخذ الجزية، وهي ما يؤخذ من الكفار إذا أقرهم المسلمون على البقاء في أرضهم، على أن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ومن العلماء من قال: إنها تؤخذ من جميع الكفار سواء كانوا من العرب أو غير العرب، وبعض أهل العلم يقول: إنها لا تؤخذ إلا من اليهود والنصارى، وقد جاء في الأحاديث ما يدل على أخذها من عموم الكفار إذا بقوا تحت ولاية المسلمين، فيدفعون الجزية، ويشاهدون أحكام الإسلام وأعمال المسلمين، ويكون ذلك من أسباب دخولهم في الإسلام.
وقد أورد أبو داود عدة أحاديث، منها هذا الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة، فأخذه فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فصالحه على أن يدفع الجزية) يعني: يدفع الجزية ويبقى، وقيل: إنه من العرب، فهذا دليل على أخذ الجزية من العرب، وقد جاء في حديث بريدة بن الحصيب الذي في صحيح مسلم قال: (كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا أمر أميراً على جيش أوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً، وقال: اغزوا باسم الله)، وفي آخره ذكر أنه يخيرهم بين أن يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزيرة عن يد وهم صاغرون.
وقوله هنا: فحقن له دمه يعني: أعطاه الأمان وصالحه على أن يدفع الجزية.(356/25)
تراجم رجال إسناد حديث بعث خالد إلى أكيدر دومة
قوله: [حدثنا العباس بن عبد العظيم].
العباس بن عبد العظيم العنبري ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[حدثنا سهل بن محمد] سهل بن محمد وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن يحيى بن أبي زائدة].
يحيى بن أبي زائدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عاصم بن عمر].
عاصم بن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[وعن عثمان بن أبي سليمان].
وهذا تابعي، فيكون حديثه مرسلاً، فيكون الحديث جاء من طريقين: طريق متصلة، وطريق مرسلة.
وعثمان هذا ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.(356/26)
شرح حديث: (أمر معاذاً أن يأخذ من كل حالم ديناراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي وائل عن معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم -يعني محتلماً- ديناراً أو عدله من المعافري: ثياب تكون باليمن].
أورد أبو داود حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً يعني: جزية، والحالم هو المحتلم الذي بلغ الحلم، ومعنى هذا أن الصغير والمرأة لا يؤخذ منهما شيء، وإنما يؤخذ على الرجال البالغين.
قوله: أو عدله من المعافري، يعني: ما يعادل ذلك من الثياب المعافرية التي تنسب إلى قبيلة في اليمن.
والجزية تقدر على حسب الغنى والفقر، وبعضهم قدرها على الغني بثمان وأربعين درهماً، وعلى المتوسط بأربع وعشرين درهماً، وعلى الفقير باثني عشر درهماً، لكن حديث معاذ رضي الله عنه نص من نصوص الرسول صلى الله عليه وسلم في المقدار.
ومصارف الجزية مثل مصارف الفيء.(356/27)
تراجم رجال إسناد حديث: (أمر معاذاً أن يأخذ من كل حالم ديناراً)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو معاوية].
هو محمد بن خازم الضرير الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش] سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي وائل] هو شقيق بن سلمة وهو ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معاذ].
معاذ بن جبل رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(356/28)
شرح حديث: (أمر معاذاً أن يأخذ من كل حالم ديناراً) من طريق ثانية وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن مسروق عن معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله].
أورد المصنف حديث معاذ من طريق أخرى، وقال في آخره مثله: أي مثل الطريق السابقة، وكلمة مثله إذا جاءت تعني المماثلة بين الذي ذكر والذي لم يذكر، وكلمة نحوه أو بمعناه تعني التقارب في المعنى مع الاختلاف في الألفاظ.
قوله: [حدثنا النفيلي حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن إبراهيم].
إبراهيم هو ابن يزيد بن قيس النخعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسروق].
مسروق بن الأجدع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معاذ].
مر ذكره.(356/29)
شرح أثر علي: (لئن بقيت لنصارى بني تغلب لأقتلن المقاتلة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا العباس بن عبد العظيم حدثنا عبد الرحمن بن هانئ أبو نعيم النخعي أخبرنا شريك عن إبراهيم المهاجر عن زياد بن حدير قال: قال علي رضي الله عنه: (لئن بقيت لنصارى بني تغلب، لأقتلن المقاتلة، ولأسبين الذرية، فإني كتبت الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ألا يُنصَّروا أبناءهم).
قال أبو داود: هذا حديث منكر، بلغني عن أحمد أنه كان ينكر هذا الحديث إنكاراً شديداً.
قال أبو علي: ولم يقرأه أبو داود في العرضة الثانية].
هذا الحديث ظاهر النكارة لقوله فيه: ألا ينصروا أبناءهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) فكونه ينشأ بينهم، ولا يعرف إلا ما يسمع منهم وما يشاهد منهم، فلابد أن يكون مثلهم.
وهذا الحديث أنكره أبو داود وقال: بلغني عن الإمام أحمد أنه كان ينكره إنكاراً شديداً، وقال: أبو علي اللؤلؤي راوي سنن أبي داود: لم يقرأه أبو داود في العرضة الأخيرة، يعني أنه أعرض عنه وتركه لأنه منكر عنده، ولأنه نقل عن الإمام أحمد أنه أنكره إنكاراً شديداً، فهو غير صحيح، وفي إسناده كلام.(356/30)
تراجم رجال إسناد أثر علي: (لئن بقيت لنصارى بني تغلب لأقتلن المقاتلة)
قوله: [حدثنا العباس بن عبد العظيم].
مر ذكره.
[حدثنا عبد الرحمن بن هانئ أبو نعيم النخعي].
عبد الرحمن بن هانئ أبو نعيم النخعي صدوق له أغلاط، وقد نقل عن ابن معين أنه قال عنه: كذاب، وقال الإمام أحمد: ليس بشيء، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[أخبرنا شريك].
شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي صدوق ساء حفظه لما ولي القضاء، ويخطئ كثيراً، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن إبراهيم بن مهاجر].
إبراهيم بن مهاجر وهو صدوق لين الحفظ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن زياد بن حدير].
زياد بن حدير ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن علي].
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، رابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، أبو الحسنين صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(356/31)
شرح حديث: (صالح رسول الله أهل نجران على ألفي حلة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مصرف بن عمرو اليامي حدثنا يونس -يعني ابن بكير - حدثنا أسباط بن نصر الهمداني عن إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفي حلة، النصف في صفر والبقية في رجب، يؤدونها إلى المسلمين، وعارية ثلاثين درعاً، وثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها، والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد أو غدرة، على ألا تهدم لهم بيعة، ولا يخرج لهم قس، ولا يفتنوا عن دينهم ما لم يحدثوا حدثاً أو يأكلوا الربا.
قال إسماعيل: فقد أكلوا الربا.
قال أبو داود: إذا نقضوا بعض ما اشترط عليهم فقد أحدثوا].
هذا الحديث غير صحيح، وفيه أخذ الجزية على أهل نجران مقسمة في أثناء السنة، وليست كلها دفعة واحدة، ومنها عارية يعيرون المسلمين من الأنواع المذكورة، والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم.
قوله: [على ألا تهدم لهم بيعة، ولا يخرج لهم قس، ولا يفتنوا عن دينهم].
يعني: أنهم يبقون ويقرون على ما هم عليه، فلا تهدم لهم بيعة وهي مكان التعبد للنصارى أو لليهود، ولا يخرج لهم قس، وهو عالمهم، ولا يفتنوا عن دينهم، يعني: لا يلزمون بترك دينهم، وإنما يقروا على ما هم عليه مع دفع الجزية.
قوله: [ما لم يحدثوا حدثاً أو يأكلوا الربا].
قال الراوي: فقد أكلوا الربا، وقال أبو داود: إذا تركوا شيئاً مما اشترط عليهم فقد أحدثوا حدثاً.(356/32)
تراجم رجال إسناد حديث: (صالح رسول الله أهل نجران على ألفي حلة)
قوله: [حدثنا مصرف بن عمرو اليامي].
مصرف بن عمرو اليامي ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا يونس بن بكير].
يونس بن بكير صدوق يخطئ، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا أسباط بن نصر الهمداني].
أسباط بن نصر الهمداني وهو صدوق كثير الخطأ يغرب، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي].
إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي وهو السدي، صدوق يهم، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن عباس].
مر ذكره، قيل: إن السدي لم يسمع من ابن عباس فيكون منقطعاً، وأيضاً فيه أسباط وهو صدوق كثير الخطأ يغرب، فالحديث ضعيف، والله أعلم.(356/33)
الأسئلة(356/34)
معنى قول أبي داود (إذا نقضوا بعض ما اشترط عليهم فقد أحدثوا)
السؤال
ما معنى قول أبي داود: (إذا نقضوا بعض ما اشترط عليهم فقد أحدثوا)؟
الجواب
هو أراد أن يفسر الحدث، وأن كونهم ينقضون بعض ما اشترط عليهم فقد أحدثوا.(356/35)
دولة البحرين ليست من جزيرة العرب
السؤال
هل دولة البحرين الحالية من جزيرة العرب رغم أنها منفصلة عن الجزيرة؟
الجواب
ليست من جزيرة العرب؛ لأن جزيرة العرب حدودها البحر، ولكن كونها الآن صار فيها جسر إلى الجزيرة قد يجعلها من جزيرة العرب.(356/36)
معنى حديث: (وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم)
السؤال
ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم)؟
الجواب
الوفد الذين يأتون قادمين على الولاية المسلمة يكرمون ويضيفون ويعاملون معاملة طيبة.(356/37)
أرض السواد
السؤال
ماذا تعني كلمة أرض السواد؟
الجواب
أرض السواد المقصود بها أرض العراق.(356/38)
أخذ الجزية كل سنة
السؤال
هل يؤخذ الدرهم أو الدينار في الجزية كل سنة أو كل شهر؟
الجواب
في السنة.(356/39)
الفرق بين الفيء والغنيمة في القسمة
السؤال
ما الفرق بين تقسيم الفيء والغنيمة؟
الجواب
الفيء يكون كله في مصالح المسلمين على نظر الإمام، وأما الغنيمة فإنها يؤخذ خمسها ويصرف في المصارف التي ذكر الله عز وجل في سورة الأنفال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41]، والباقي وهو الأربعة الأخماس يقسم على الغانمين، للرجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له، وسهمان لفرسه.(356/40)
شرح سنن أبي داود [357]
أمر الله بقتال الكفرة من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزيرة عن يد وهم صاغرون، وكذلك تؤخذ الجزية من المجوس، واختلف أهل العلم في أخذها من مشركي العرب ونحوهم، وللجزية أحكام فصلها أهل العلم رحمهم الله تعالى.(357/1)
أخذ الجزية من المجوس(357/2)
شرح أثر: (كتب إبليس المجوسية لأهل فارس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في أخذ الجزية من المجوس.
حدثنا أحمد بن سنان الواسطي حدثنا محمد بن بلال عن عمران القطان عن أبي جمرة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن أهل فارس لما مات نبيهم كتب لهم إبليس المجوسية].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب أخذ الجزية من المجوس، المجوس هم الذين يعبدون النار، وأورد أبو داود رحمه الله أحاديث تتعلق بأخذ الجزية منهم، وأورد أولاً هذا الأثر عن ابن عباس قال: إن أهل فارس لما مات نبيهم كتب لهم إبليس المجوسية يعني: أنه جعلهم يتركون ما كان عليه نبيهم، وانتقلوا إلى المجوسية التي هي عبادة النار، وهذا أثر موقوف على ابن عباس، ويحتمل أن يكون أخذه من النبي صلى الله عليه وسلم فيكون مرفوعاً، ويحتمل أن يكون مأخوذاً من كتب أهل الكتاب ومن أخبار بني إسرائيل، ومن أهل العلم من قال: المجوس كانوا على دين نبي ثم تحولوا من ذلك الدين إلى المجوسية، ومن أهل العلم من قال: أخذ الجزية من المجوس إنما هو أخذ من الكفار، والجزية تؤخذ من أهل الكتاب ومن غير أهل الكتاب.(357/3)
تراجم رجال إسناد أثر: (كتب إبليس المجوسية لأهل فارس)
قوله: [حدثنا أحمد بن سنان الواسطي].
أحمد بن سنان الواسطي ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في مسند مالك وابن ماجة.
[حدثنا محمد بن بلال].
محمد بن بلال وهو صدوق يغرب، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود وابن ماجة.
[عن عمران القطان].
هو عمران بن داور القطان وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن أبي جمرة].
هو نصر بن عمران الضبعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو جمرة هذا مشهور بكنيته، وهو الذي كان ابن عباس رضي الله عنه اتخذه من أجل أن يبلغ عنه الحديث، وقال: هل أجعل لك شيئاً من مالي على أن تبلغ عني الناس، وقالوا: هذا حجة في اتخاذ المحدث للمستملي الذي يبلغ كلامه للناس.
وفي الرواة الذين يروون عن ابن عباس أبو حمزة القصاب، وهو راوي حديث ابن عباس في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه أن يدعو معاوية، فذهب إليه فوجده يأكل، فتأخر فقال: (لا أشبع الله بطنه) وأبو حمزة القصاب لفظه قريب من لفظ أبي جمرة؛ ولهذا يكون بينهما الاشتباه والالتباس والتصحيف، فـ أبو جمرة هو نصر بن عمران، وهو كثير الرواية عن ابن عباس، وأبو حمزة القصاب هو من الرواة عن ابن عباس.(357/4)
شرح حديث: (أخذ الجزية من مجوس هجر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد بن مسرهد عن سفيان عن عمرو بن دينار أنه سمع بجالة يحدث عمرو بن أوس وأبا الشعثاء قال: كنت كاتباً لـ جزء بن معاوية عم الأحنف بن قيس إذ جاءنا كتاب عمر رضي الله عنه قبل موته بسنة: اقتلوا كل ساحر، وفرقوا بين كل ذي محرم من المجوس، وانهوهم عن الزمزمة، فقتلنا في يوم ثلاثة سواحر، وفرقنا بين كل رجل من المجوس وحريمه في كتاب الله، وصنع طعاماً كثيراً فدعاهم فعرض السيف على فخذه فأكلوا ولم يزمزموا، وألقوا وقر بغل أو بغلين من الورق، ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذها من مجوس هجر)].
أورد أبو داود حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، وهذا هو الشاهد للترجمة من جهة أخذ الجزية من المجوس، وأن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الجزية من مجوس هجر، وهذا يدلنا على مشروعية أخذ الجزية من المجوس، ومن أهل العلم من قال: إنهم ألحقوا بأهل الكتاب لأنه كان لهم دين وكتاب، ومنهم من يقول: إنهم كفار يعبدون النار، والرسول صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية منهم، فدل على أن الجزية تؤخذ من غير أهل الكتاب، فتؤخذ من العرب والعجم، ويدل عليه حديث بريدة بن الحصيب الطويل الذي في صحيح مسلم وفي أوله: (كان إذا أمر أميراً أوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً، وقال: اغزوا باسم الله) إلى آخر الحديث، وفيه: (وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى الإسلام فإن أبوا فاطلب منهم الجزية فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم) وهذا يدل على مشروعية أخذ الجزية من عموم الكفار، وأن الأمر ليس مقصوراً على أهل الكتاب.
قوله: (اقتلوا كل ساحر) هذا فيه بيان أن الساحر حده أن يقتل.
وقوله: (وفرقوا بين كل ذي محرم من المجوس) يعني: إذا كان المجوسي متزوجاً بقريبته كبنته أو أخته أو عمته أو خالته أو ما إلى ذلك مما هو موجود عند المجوس؛ فإنه يفرق بينهم، ولا يقر هذا الزواج.
قوله: (وانهوهم عن الزمزمة) قالوا: إن الزمزمة هي كلام بينهم وبين أنفسهم عندما يجلسون للأكل، فكان المجوسي يكلم نفسه عند الأكل فنهاهم عن ذلك.
قوله: [فقتلنا في يوم ثلاثة سواحر، وفرقنا بين كل رجل من المجوس وحريمه في كتاب الله].
يعني: أنهم نفذوا ما جاء في كتاب عمر، وأنهم في يوم واحد قتلوا ثلاثة من السحرة، وفرقوا بين كل رجل من المجوس وبين حريمه في كتاب الله، يعني: على ما هو محرم في كتاب الله من المحارم، فإذا كان المجوسي تزوج بأخته أو ابنته أو عمته أو خالته أو من هي محرم من محارمه فإنهم فرقوا بين هذا الرجل وبين من هو محرم لها.
قوله: [وصنع طعاماً كثيراً فدعاهم فعرض السيف على فخذه].
يعني: جعل السيف على فخذه مهدداً لهم، حتى لا تحصل منهم الزمزمة، فأكلوا ولم يزمزموا خوفاً من السيف.
قوله: [وألقوا وقر بغل أو بغلين من الورق].
الوقر: هو الحمل الذي يكون على البغل أو الحمار، ويكون طرفاه على جانب الحمار أو البغل.
قال في الشرح: يريد أخلة من الورق يأكلون بها يعني: يستعملونها في الأكل، فإما أن تكون أخلة أو وسيلة يؤكل بها كالملاعق أو ما إلى ذلك، والأخلة جمع خلال، والخلال هو الذي تخلل به الأسنان، ولعلها كانت مصنوعة من الورق.
وقال في النهاية: الوقر بكسر الواو: الحمل، وأكثر ما يستعمل في حمل البغل والحمار يريد حمل بغل أو بغلين أخلة -جمع خلال- ما تخلل به الأسنان من الفضة، كانوا يأكلون بها الطعام فأعطوها ليمكنوا بها من عادتهم في الزمزمة.
وآنية الذهب والفضة لا يجوز استعمالهما في الأكل، لكن لعل المقصود أنه خلال مثل الشوك الذي يغمز به الطعام الذي يراد أكله.
قوله: [ولم يكن عمر رضي الله عنه أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذها من مجوس هجر)].
هذا الحديث فيه أخذ الجزية من المجوس، وأن عمر رضي الله عنه وأرضاه لم يكن يأخذها حتى بلغه هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، وهجر من أعمال البحرين.(357/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (أخذ الجزية من مجوس هجر)
قوله: [حدثنا مسدد بن مسرهد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن سفيان].
سفيان بن عيينة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن دينار].
عمرو بن دينار المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بجالة].
بجالة بن عبدة وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عمر عن عبد الرحمن بن عوف].
فيه الأخذ بالكتابة، وفيه أن عمر أخذ بما جاء عن عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس، وعمر رضي الله عنه هو أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(357/6)
شرح حديث: (جاء رجل من الأسبذيين إلى رسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن مسكين اليمامي حدثنا يحيى بن حسان حدثنا هشيم أخبرنا داود بن أبي هند عن قشير بن عمرو عن بجالة بن عبدة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (جاء رجل من الأسبذيِّين من أهل البحرين -وهم مجوس أهل هجر- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمكث عنده، ثم خرج فسألته ما قضى الله ورسوله فيكم؟ قال: شر، قلت: مه؟ قال: الإسلام أو القتل، قال: وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: قبل منهم الجزية، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فأخذ الناس بقول عبد الرحمن بن عوف وتركوا ما سمعت أنا من الأسبذي)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه: أنه جاء رجل من الأسبذيين -وهم من مجوس البحرين- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمكث عنده، ثم خرج فسألته: ما قضى الله ورسوله فيكم؟ أي: سأل الأسبذي المجوسي، فقال: شر، إما الإسلام وإما القتل، يعني: لا توجد جزية، إما الإسلام أو القتل، وقال عبد الرحمن بن عوف: (قبل منهم الجزية) يعني: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل منهم الجزية، قال: فأخذ الناس بما جاء عن عبد الرحمن وتركوا ما سمعته من الأسبذي، ومعنى هذا أنها تأخذ منهم الجزية، وأن ما جاء عن الأسبذي المجوسي لا يعول عليه، بل المعول على ما أخبر به عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منهم الجزية.
وهذا الحديث فيه رجل ضعيف، وهو قشير، ولكن ما يتعلق بأخذ الجزية عنهم ثابت.(357/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (جاء رجل من الأسبذيين إلى رسول الله)
قوله: [حدثنا محمد بن مسكين اليمامي].
محمد بن مسكين اليمامي هو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا يحيى بن حسان].
يحيى بن حسان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا هشيم].
هشيم بن بشير الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا داود بن أبي هند].
داود بن أبي هند وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن قشير بن عمرو].
قشير بن عمرو وهو مستور، أي: مجهول الحال، أخرج له أبو داود.
[عن بجالة بن عبدة عن ابن عباس].
مر ذكرهما.(357/8)
من تؤخذ منهم الجزية؟
الجزية تؤخذ من جميع الكفار سواء كان عندهم كتاب أو ليس عندهم كتاب، لحديث بريدة بن الحصيب الذي في صحيح مسلم، فإنه عام، ولفظه: (كان إذا أمر أميراً على جيش أوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً وقال: اغزوا باسم الله، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى الإسلام، فإن أبوا فخذ منهم الجزية وإلا فاستعن بالله وقاتلهم)، ولا يفرق بين العربي والعجمي كذلك، وأما قول الخطابي: وبامتناع عمر من أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، دليل على أن رأي الصحابة أنه لا تقبل الجزية من كل مشرك كما ذهب إليه الأوزاعي، وإنما تقبل من أهل الكتاب؛ فنقول: لعل هذا كان في أول الأمر قبل أن يعرفوا الأحاديث الدالة على ذلك.(357/9)
التشديد في جباية الزكاة(357/10)
شرح حديث: (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التشديد في جباية الجزية.
حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنهما وجد رجلاً وهو على حمص يشمس أناساً من القبط في أداء الجزية، فقال: ما هذا؟! سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)].
أورد أبو داود هذه الترجمة باب: التشديد في جباية الجزية، أي: التشديد في أخذها، والإيذاء عند أخذها، هذا هو المقصود من التشديد؛ لأنه كما في الحديث كان يعذبهم من أجل أن يصل إلى الجزية، وقد أورد أبو داود حديث هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه وجد رجلاً بحمص كان يشمس ناساً من القبط في الجزية، فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا) وهذا من تعذيب الناس في الدنيا أي: كونه يوقفهم في الشمس من أجل أن تحرقهم ويوقفهم في رمضاء فيه تعذيب لهم، فروى هشام بن حكيم رضي الله تعالى عنهما هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مستدلاً به على تحريم مثل هذا التعذيب، وأن الله عز وجل يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا، فإن الجزاء من جنس العمل، فكما أنه عذب غيره فإنه يعذب في الآخرة.
وقوله: يشمس ناساً من القبط، القبط هم من النصارى الذين في مصر، والظاهر أن هذا تصحيف، وصوابه: الأنباط، فهم الذين كانوا في الشام، وقد قال النووي: الأنباط هم فلاحوا العجم.(357/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
سليمان بن داود المهري المصري ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا ابن وهب].
عبد الله بن وهب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس بن يزيد].
يونس بن يزيد الأيلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة بن الزبير].
عروة بن الزبير بن العوام وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن حكيم].
هشام بن حكيم رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.(357/12)
تعشير أهل الذمة(357/13)
شرح حديث: (إنما العشور على اليهود والنصارى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا في التجارات.
حدثنا مسدد حدثنا أبو الأحوص حدثنا عطاء بن السائب عن حرب بن عبيد الله عن جده أبي أمه عن أبيه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما العشور على اليهود والنصارى، وليس على المسلمين عشور)].
أورد أبو داود هذه الترجمة باب: تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا في التجارات يعني: إذا جاءوا إلى بلاد المسلمين فإنه تؤخذ منهم عشور أموالهم التي اختلفوا فيها إلى بلاد المسلمين، يعني: عشر بضاعاتهم.
وأورد أبو داود هنا عدة أحاديث كلها ضعيفة، وقد اختلف العلماء في حكم أخذ العشور من الكفار، فمنهم من أجازه، ومنهم من حرمه، لكن إذا أخذوا من تجار المسلمين في بلادهم، فإنهم يقابلون بمثل ما حصل منهم، فإذا كانوا يأخذون من تجار المسلمين إذا مروا ببلادهم، فكذلك المسلمون يأخذون منهم إذا مروا ببلادهم.
قوله: [(إنما العشور على اليهود والنصارى، وليس على المسلمين عشور)].
أي: أنها تؤخذ من اليهود والنصارى، ولا تؤخذ من المسلمين إذا جاءوا بالتجارة.(357/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (إنما العشور على اليهود والنصارى)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا أبو الأحوص].
مسدد مر ذكره، وأبو الأحوص هو سلام بن سليم الحنفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عطاء بن السائب].
عطاء بن السائب وهو صدوق اختلط، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[عن حرب بن عبيد الله].
حرب بن عبيد الله وهو لين الحديث، أخرج حديثه أبو داود.
[عن جده أبي أمه عن أبيه].
هو مجهول، وأبو جد أمه صحابي لم يسم.
والحديث ضعيف، ففي إسناده حرب بن عبيد الله وهو لين الحديث، فهو غير حجة.(357/15)
طريق ثانية لحديث: (إنما العشور على اليهود والنصارى) وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبيد المحاربي حدثنا وكيع عن سفيان عن عطاء بن السائب عن حرب بن عبيد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعناه قال: (خراج) مكان (العشور)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وفيه: (الخراج) بدل (العشور) يعني بدل قوله: (ليس على المسلمين عشور، إنما العشور على اليهود والنصارى) قال: (ليس على المسلمين خراج، إنما الخراج على اليهود والنصارى) والخراج بمعنى العشور.
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد المحاربي].
محمد بن عبيد المحاربي صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا وكيع].
وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن السائب عن حرب بن عبيد الله].
عطاء بن السائب وحرب بن عبيد الله مر ذكرهما.(357/16)
طريق ثالثة لحديث: (إنما العشور على اليهود والنصارى) وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن عطاء عن رجل من بكر بن وائل عن خاله قال: قلت: (يا رسول الله! أعشر قومي؟ قال: إنما العشور على اليهود والنصارى)].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى، وفيه أن رجلاً قال: (أعشر قومي يا رسول الله؟ قال: إنما العشور على اليهود والنصارى) وهو مثلما تقدم.
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
محمد بن بشار الملقب بندار البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرحمن].
عبد الرحمن بن مهدي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان عن عطاء عن رجل من بكر بن وائل عن خاله].
سفيان وعطاء مر ذكرهما، ورجل من بكر بن وائل عن خاله مبهمان.(357/17)
طريق رابعة لحديث (إنما العشور على اليهود والنصارى) وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن إبراهيم البزاز حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد السلام عن عطاء بن السائب عن حرب بن عبيد الله بن عمير الثقفي عن جده رضي الله عنه -رجل من بني تغلب- قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسلمت وعلمني الإسلام، وعلمني كيف آخذ الصدقة من قومي ممن أسلم، ثم رجعت إليه فقلت: يا رسول الله! كل ما علمتني قد حفظته إلا الصدقة أفأعشرهم؟ قال: لا، إنما العشور على النصارى واليهود)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وهو مثلما تقدم.
وقوله: كلما علمتني قد حفظته إلا الصدقة يعني: لم يتقن فهمها.
قوله: [حدثنا محمد بن إبراهيم البزاز].
محمد بن إبراهيم البزاز ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا أبو نعيم].
أبو نعيم الفضل بن دكين الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد السلام].
عبد السلام بن حرب وهو ثقة له مناكير، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن السائب عن حرب بن عبيد الله بن عمير الثقفي].
مر ذكرهما.
[عن جده].
هو عمير الثقفي صحابي، له حديث، أخرج له أبو داود.(357/18)
شرح حديث: (إن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عيسى حدثنا أشعث بن شعبة حدثنا أرطأة بن المنذر قال: سمعت حكيم بن عمير أبا الأحوص يحدث عن العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه أنه قال: (نزلنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيبر ومعه من معه من أصحابه، وكان صاحب خيبر رجلاً مارداً منكراً، فأقبل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد! ألكم أن تذبحوا حمرنا، وتأكلوا ثمرنا، وتضربوا نساءنا؟ فغضب -يعني: النبي صلى الله عليه وآله وسلم- وقال: يا ابن عوف! اركب فرسك ثم ناد ألا إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن، وأن اجتمعوا للصلاة، قال: فاجتمعوا ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قام فقال: أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئاً إلا ما في هذا القرآن؟! ألا وإني والله قد وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر، وإن الله عز وجل لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه قال: [(نزلنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيبر ومعه من معه من أصحابه، وكان صاحب خيبر رجلاً مارداً منكراً، فأقبل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد! ألكم أن تذبحوا حمرنا، وتأكلوا ثمرنا، وتضربوا نساءنا؟)].
معناه: أنه يشتكي أو ينكر على من مع الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يأكلون الحمر، ويضربون النساء، ويأكلون الثمر، فالرسول صلى الله عليه وسلم جمعهم فوعظهم وقال: (أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئاً إلا ما في هذا القرآن؟!) ومعنى ذلك أن السنة مثل القرآن، وأنه قد حرم أن يؤذى أهل الكتاب، وأن يدخلوا بيوتهم إلا بإذنهم، وأن يأخذوا إلا الشيء الواجب عليهم، وأنه لا يجوز ظلمهم، وكل هذا جاء في السنة، والسنة هي مثل القرآن، وهي شقيقة القرآن، ويعمل به كما يعمل بالقرآن، بل إن السنة داخلة في قول الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، فكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من السنة فهو مأمور به في القرآن، لقول الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، ولا يقتصر على القرآن دون السنة، ولا تتضح الأمور التي يتعبد الناس بها إلا بالسنة، فمثلاً الله عز وجل أجمل الزكاة، وأمر بإعطاء الزكاة، لكن تفصيلها ومقاديرها وشروط أخذ الزكاة ومقدارها إنما جاء بيان ذلك في السنة، وكذلك الصلوات أوقاتها وأعداد ركعاتها وما إلى ذلك كل ذلك إنما جاء في السنة، فالذي لا يأخذ إلا بالقرآن هو كافر بالكتاب والسنة، ولا يستغنى عن السنة بالقرآن، بل الواجب الأخذ بهما جميعاً، والعمل بما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث ضعيف، في إسناده رجل فيه ضعف.(357/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
محمد بن عيسى الطباع ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا أشعث بن شعبة].
أشعث بن شعبة وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[حدثنا أرطأة بن المنذر].
أرطأة بن المنذر وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن حكيم بن عمير].
حكيم بن عمير وهو صدوق يهم، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن العرباض بن سارية].
العرباض بن سارية رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب السنن الأربعة.(357/20)
شرح حديث: (لعلكم تقاتلون قوماً فتظهرون عليهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد وسعيد بن منصور قالا: حدثنا أبو عوانة عن منصور عن هلال عن رجل من ثقيف عن رجل من جهينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لعلكم تقاتلون قوماً فتظهرون عليهم فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وأبنائهم) قال سعيد في حديث: (فيصالحونكم على صلح) ثم اتفقا: (فلا تصيبوا منهم شيئاً فوق ذلك فإنه لا يصلح لكم)].
أورد أبو داود حديث رجل مجهول من الصحابة من جهينة، ومعلوم أن الجهالة في الصحابة لا تؤثر، والمجهول فيهم في حكم المعلوم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعلكم تقاتلون قوماً فتظهرون عليهم) أي: تغلبونهم، فالظهور عليهم بمعنى غلبتهم والتفوق عليهم كما قال الله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14] يعني غالبين لهم.
قوله: [(فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وأبنائهم)].
يعني: يدفعون لكم المال ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم.
قوله: [(فيصالحونكم على صلح)].
يعني: يعطونكم شيئاً تتفقون معهم على أخذه.
قوله: [(فلا تصيبوا منهم شيئاً فوق ذلك فإنه لا يصلح لكم)].
أي: الذي اتفقتم معهم عليه.
والحديث فيه رجل مجهول غير الصحابي، وهو رجل من ثقيف.(357/21)
تراجم رجال إسناد حديث: (لعلكم تقاتلون قوماً فتظهرون عليهم)
قوله: [حدثنا مسدد وسعيد بن منصور].
مسدد مر ذكره، وسعيد بن منصور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو عوانة].
هو الوضاح بن عبد الله اليشكري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
منصور بن المعتمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هلال].
هلال بن يساف وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن رجل من ثقيف عن رجل من جهينة].
هما مجهولان.(357/22)
شرح حديث: (ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب حدثني أبو صخر المديني أن صفوان بن سليم أخبره عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن آبائهم دنية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة)].
قوله: [(أو انتقصه)] يعني: انتقص حقه أو تنقصه أو عابه بشيء يسيء إليه ويلحقه بسببه أذى.
وقوله: [(أو كلفه فوق طاقته)].
يعني: كلفه ما لا يطيق من العمل.
قوله: [(أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس)] يعني: ونفسه غير طيبة في الشيء الذي أخذ منه مكرهاً.
قوله: [(كنت حجيجه يوم القيامة)] يعني: خصمه يوم القيامة.(357/23)
تراجم رجال إسناد حديث: (ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب حدثني أبو صخر المديني].
أبو صخر المديني هو حميد بن زياد صدوق يهم، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[عن صفوان بن سليم].
صفوان بن سليم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله].
يحتمل أن يكونوا صحابة أو أن يكونوا تابعين وآباؤهم أيضاً تابعيون.(357/24)
حال حديث: (ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه)
الحديث صححه الألباني، ولا أدري هل تبين له أحداً من هؤلاء الأبناء، ومعناه صحيح، وقد جاءت أحاديث تدل عليه في منع الظلم، وتكليف من يكون تحت ولاية الإنسان ما لا يطيق.
والمناسبة من إيراده في ترجمة باب تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا في التجارات أنه من أخذ منهم شيئاً من العشور أو غيرها فوق ما ينبغي فهو عرضة لهذا الوعيد.
وأحاديث هذا الباب كلها فيها ضعف، ولا تصل إلى درجة الحسن لغيره؛ لأنها كلها ضعفها شديد.(357/25)
الذمي يسلم في بعض السنة(357/26)
شرح حديث: (ليس على المسلم جزية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الذمي يسلم في بعض السنة هل عليه جزية حدثنا عبد الله بن الجراح عن جرير عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس على المسلم جزية)].
أورد أبو داود هذه الترجمة باب: في الذمي يسلم في بعض السنة هل عليه جزية؟ يعني: هل يؤخذ منه القسط الذي كان عليه قبل أن يسلم، وكذلك أيضاً لو أن السنة مضت كلها ثم أسلم هل تؤخذ منه الجزية أو لا تؤخذ؟ الذي يظهر أنه لا يؤخذ منه شيء مادام أنه دخل في الإسلام، وفي ذلك ترغيب له في الإسلام.
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا محمد بن كثير قال: سئل سفيان عن تفسير هذا: فقال: إذا أسلم فلا جزية عليه].
يعني: سواء كان ذلك عن بعض السنة أو كمالها.
قوله: (ليس على مسلم جزية) يعني: الجزية إنما هي على الكافر، ومن كان مسلماً فإنه لا يؤخذ منه جزية سواء كان إسلامه قديماً أو حديثاً، ومن دخل في الإسلام يقال له: مسلم، فلا تؤخذ منه الجزية؛ لأنها إنما تجب على من كان كافراً، فيدفع الجزية من أجل أن يبقى تحت حكم المسلمين، ويكون خاضعاً لهم، ولكنه إذا دخل في الإسلام خرج عن أن يكون من أهل الجزية فلا تؤخذ منه، ومن أهل العلم من قال: تؤخذ منه بقسطها، ولكن الأظهر -والله أعلم- أنها لا تؤخذ منه مطلقاً، ويكون في ذلك ترغيب له في الإسلام.
وهذا الحديث غير صحيح؛ لأن في إسناده قابوس بن أبي ظبيان وهو لين الحديث.(357/27)
تراجم رجال إسناد حديث: (ليس على المسلم جزية)
قوله: [حدثنا عبد الله بن الجراح].
عبد الله بن الجراح صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود والنسائي في مسند مالك وابن ماجة.
[عن جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قابوس].
قابوس بن أبي ظبيان وهو لين الحديث، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبيه].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
مر ذكره.
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سئل سفيان].
هو سفيان بن سعيد الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(357/28)
حكم هدايا المشركين(357/29)
شرح حديث بلال في نفقة رسول الله وقبول هدايا المشركين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الإمام يقبل هدايا المشركين.
حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع حدثنا معاوية -يعني ابن سلام - عن زيد أنه سمع أبا سلام قال: حدثني عبد الله الهوزني قال: لقيت بلالاً رضي الله عنه مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحلب فقلت: يا بلال! حدثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: (ما كان له شيء، كنت أنا الذي ألي ذلك منه منذ بعثه الله إلى أن توفي، وكان إذا أتاه الإنسان مسلماً فرآه عارياً يأمرني فأنطلق فأستقرض فأشتري له البردة فأكسوه وأطعمه حتى اعترضني رجل من المشركين فقال: يا بلال! إن عندي سعة فلا تستقرض من أحد إلا مني ففعلت، فلما أن كان ذات يوم توضأت ثم قمت لأؤذن بالصلاة فإذا المشرك قد أقبل في عصابة من التجار فلما أن رآني قال: يا حبشي! قلت: يا لباه، فتجهمني وقال لي قولاً غليظاً وقال لي: أتدري كم بينك وبين الشهر؟ قال: قلت: قريب قال: إنما بينك وبينه أربع، فآخذك بالذي عليك فأردك ترعى الغنم كما كنت قبل ذلك، فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس حتى إذا صليت العتمة رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهله فاستأذنت عليه فأذن لي فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي إن المشرك الذي كنت أتدين منه قال لي كذا وكذا، وليس عندك ما تقضي عني ولا عندي، وهو فاضحي، فأذن لي أن آبق إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا حتى يرزق الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ما يقضي عني، فخرجت حتى إذا أتيت منزلي فجعلت سيفي وجرابي ونعلي ومجني عند رأسي حتى إذا انشق عمود الصبح الأول أردت أن أنطلق فإذا إنسان يسعى يدعو: يا بلال! أجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فانطلقت حتى أتيته، فإذا أربع ركائب مناخات عليهن أحمالهن فاستأذنت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشر فقد جاءك الله تعالى بقضائك، ثم قال: ألم تر الركائب المناخات الأربع؟ فقلت: بلى، فقال: إن لك رقابهن وما عليهن، فإن عليهن كسوة وطعاماً أهداهن إلي عظيم فدك فاقبضهن واقض دينك ففعلت.
فذكر الحديث ثم انطلقت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعد في المسجد، فسلمت عليه، فقال: ما فعل ما قبلك؟ قلت: قضى الله كل شيء كان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يبق شيء قال: أفضل شيء؟ قلت: نعم، قال: انظر أن تريحني منه فإني لست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منه، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العتمة دعاني فقال: ما فعل الذي قبلك؟ قال: قلت: هو معي لم يأتنا أحد فبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد وقص الحديث: حتى إذا صلى العتمة يعني من الغد دعاني قال: ما فعل الذي قبلك؟ قال: قلت: قد أراحك الله منه يا رسول الله فكبر وحمد الله شفقاً من أن يدركه الموت وعنده ذلك، ثم اتبعته حتى إذا جاء أزواجه فسلم على امرأة امرأة حتى أتى مبيته، فهذا الذي سألتني عنه)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: (باب في قبول الإمام هدايا المشركين) أي: حكم ذلك، والحكم في هذا أنه يجوز إذا كان في قبول الهدية من المشرك مصلحة كترغيبه في الإسلام وتألفه على الإسلام، وإذا لم يكن هناك مصلحة فالأولى عدم قبولها.
وقد أورد أبو داود حديث بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سأله عبد الله الهوزني بحلب في الشام عن نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنه هو الذي كان يتولاها منذ بعثه الله عز وجل إلى أن توفاه الله، وذكر أنه لم يكن عنده شيء مدخر، وقد عرفنا فيما مضى أنه كان يدخر لأهله من خيبر قوت السنة، ولكنه كان ينفد في وقت قريب؛ لكرمه صلى الله عليه وسلم وجوده وإحسانه، وكونه يبذل فينتهي ذلك الذي جعله لأهله في وقت قريب صلوات الله وسلامه وبركاته عليه؛ لأنه كان أجود الناس كما جاء في حديث ابن عباس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس).
وأخبر بلال بأنه كان إذا جاءه أحد من المسلمين عارياً يعني: ليس عليه ثياب كافية، فإنه يأمره أن يستدين ويشتري له لباساً ويطعمه، ثم إن رجلاً من المشركين قال لـ بلال: إن عندي سعة فلا تقترض إلا مني، فكان يقترض منه، وفي يوم من الأيام قبل نهاية الشهر بأربعة أيام قال له: أتدري كم بينك وبين الشهر؟ فقال: قريب، فقال: أربعة أيام، ولقيه ووجهه مكفهر يظهر عليه الغضب، وقال له: إذا جاء الوقت ولم تقضني فستعود على ما كنت عليه، آخذك بالذي عليك فترجع ترعى الغنم كما كنت من قبل ذلك، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره هذا الخبر، وقال: إنك ليس عندك ما أقضي به وليس عندي، فأذن لي أن أذهب إلى بعض الأحياء فأبقى عندهم حتى يأتي شيء يحصل به السداد، وعزم على الذهاب، فهيأ عند نومه نعليه وسيفه وجرابه والأشياء التي سيذهب بها، وكان يريد أن يطلع الفجر الأول الذي هو الكاذب ثم يذهب في جنح الليل وفي الظلام حتى يخفي نفسه عن ذلك المشرك الذي تهدده بهذا التهديد، ثم جاء رجل ينادي: يا بلال! أجب الرسول صلى الله عليه وسلم، فذهب إليه وإذا ركائب أربع من الإبل مناخة وعليها أحمال، فأخبره أن هذه الركائب وأحمالها من كسوة وطعام ليقضي بها الدين، وأخبره أنه أهداها إليه عظيم فدك، وهذا هو محل الشاهد من الترجمة، ففيه قبول الإمام هدايا المشركين.
ثم بعد ذلك قضى ذلك الدين الذي عليه وبقيت بقية، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفق البقية، وأخبره أنه لن يدخل على أهله حتى ينتهي من توزيعه، وبات رسول الله عليه الصلاة والسلام في المسجد ولم يدخل على أهله، وفي الليلة الآتية أتاه وأخبره أنه قد وزع الشيء الذي بحوزته، وأخبر أنه كان يخشى أن يموت وعنده شيء من ذلك المال الذي بقي دون أن يصل إلى من يستحقه من المسلمين صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ثم بعد ذلك دخل إلى نسائه وسلم على كل واحدة منهن حتى وصل إلى التي لها النوبة في المبيت عندها، وبات عندها صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وعندما أكمل بلال رضي الله عنه القصة قال لـ عبد الله الهوزني: فهذا الذي سألتني عنه.
والحاصل: أن الحديث فيه دلالة على قبول الهدية من أهل الكتاب، قال بعض أهل العلم: هذا يدل على قبول الهدايا من أهل الكتاب دون غيرهم، وسيأتي حديث فيه امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قبول هدية رجل مشرك، والراجح أن الأمر يرجع إلى المصلحة والفائدة من وراء قبول الهدية، فإن كان سيترتب على قبولها مصلحة وفائدة من التألف على الإسلام، فإن الهدية ينبغي قبولها، أو كان في قبولها فائدة للمسلمين فإنه لا بأس بذلك، وإذا لم يكن هناك شيء من هذا فإنها لا تقبل الهدية، وعلى هذا يكون التوفيق بين ما جاء من قبول الهدية وما جاء من الامتناع من قبول الهدية، فتقبل في حال ولا تقبل في حال.
قوله: [عن عبد الله الهوزني قال: لقيت بلالاً مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحلب فقلت: يا بلال! حدثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم].
هذا كان بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، وبلال ما ذهب إلى الشام إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(ما كان له شيء، كنت أنا الذي ألي ذلك منه منذ بعثه الله إلى أن توفي)].
يعني: أنه ينبئه عن نفقته عن خبرة ومعرفة بهذا الشيء الذي سأل عنه.
قوله: [(وكان إذا أتاه الإنسان مسلماً فرآه عارياً يأمرني فأنطلق فأستقرض فأشتري له البردة فأكسوه وأطعمه)].
البردة نوع من اللباس.
قوله: [(حتى اعترضني رجل من المشركين فقال: يا بلال! إن عندي سعة فلا تستقرض من أحد إلا مني ففعلت)].
هذا يدل على جواز التعامل مع الكافر والاقتراض منه.
قوله: [(فلما أن كان ذات يوم توضأت ثم قمت لأؤذن بالصلاة فإذا المشرك قد أقبل في عصابة من التجار)].
أي: جماعة من التجار من جنسه.
[(فلما أن رآني قال: يا حبشي قلت: يا لباه)].
يا لباه كلمة يجاب بها مثل: يا لبيك أو يا لباك، وهو جواب حسن يجيب به من دعاه.
قوله: [(فتجهمني وقال لي قولاً غليظاً)].
يعني: ظهر في وجهه الاستياء والشدة والغلظة والقسوة والكراهية.
قوله: [(وقال لي: أتدري كم بينك وبين الشهر؟ قال: قلت: قريب، قال: إنما بينك وبينه أربع فآخذك بالذي عليك فأردك ترعى الغنم كما كنت قبل ذلك)].
هذا تهديد له بأن يجعله عبداً يرعى الغنم كما كان قبل ذلك.
قوله: [(فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس، حتى إذا صليت العتمة رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهله فاستأذنت عليه)].
قوله: حتى صلوا العتمة أي: صلاة العشاء.
قوله: [(فاستأذنت عليه فأذن لي فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي)].
يعني: أنت مفدي بأبي وأمي، وليس هذا قسماً، وإنما هو افتداء.
قوله: [(إن المشرك الذي كنت أتدين منه قال لي كذا وكذا، وليس عندك ما تقضي عني ولا عندي وهو فاضحي، فأذن لي أن آبق إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا حتى يرزق الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ما يقضي عني)].
يعني: يريد أن يختفي من وجه هذا المشرك حتى يأتي شيء يكون به السداد.
قوله: [(فخرجت حتى إذا أتيت منزلي فجعلت سيفي وجرابي ونعلي ومجني عند رأسي)].
الجراب: هو الوعاء من جلد، يكون فيه المتاع، والقراب هو قراب السيف، والمجن هو الترس الذي يتقى به السلاح في الحرب، وهو مأخوذ من الجنة وهي السترة والوقاية.
قوله: [(حتى إذا انشق عمود الصبح الأول أردت أن أنطلق فإ(357/30)
تراجم رجال إسناد حديث بلال في نفقة رسول الله وقبول هدايا المشركين
قوله: [حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع].
أبو توبة الربيع بن نافع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا معاوية بن سلام].
معاوية بن سلام وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد].
زيد بن سلام هو أخو معاوية، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي سلام].
أبو سلام هو جدهما، وهو ممطور الحبشي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني عبد الله الهوزني].
عبد الله الهوزني وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن بلال].
بلال بن رباح صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤذنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(357/31)
طريق أخرى لحديث بلال في نفقة رسول الله وقبول هدايا المشركين وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمود بن خالد حدثنا مروان بن محمد حدثنا معاوية بمعنى إسناد أبي توبة وحديثه قالا عند قوله: (ما يقضي عني، فسكت عني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاغتمزتها)].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى وهو مثل الذي قبله، وفيه زيادة: (فسكت عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتمزتها) يعني: أنني تأثرت لكونه سكت ولم يجبني بشيء.
قوله: [حدثنا محمود بن خالد].
محمود بن خالد الدمشقي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا مروان بن محمد].
وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا معاوية].
هو معاوية بن سلام مر ذكره.
[بمعنى إسناد أبي توبة وحديثه].
أي: بمعنى الحديث الذي تقدم ذكر إسناده ومتنه.(357/32)
شرح حديث: (إني نهيت عن زبد المشركين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا أبو داود حدثنا عمران عن قتادة عن يزيد بن عبد الله بن الشخير عن عياض بن حمار رضي الله عنه أنه قال: (أهديت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ناقة فقال: أسلمت؟ فقلت: لا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إني نهيت عن زبد المشركين)].
أورد أبو داود حديث عياض بن حمار رضي الله عنه: (أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة فقال له: أسلمت؟ قال: لا، قال: إن نهيت عن زبد المشركين)، ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك ليؤثر فيه، ويكون سبباً في إسلامه، ولهذا قال له: (أسلمت؟ قال: لا، فقال: إني نهيت عن زبد المشركين)، فلعل الامتناع بسبب ما يرجوه ويؤمله من إسلامه.(357/33)
تراجم رجال إسناد حديث: (إني نهيت عن زبد المشركين)
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هارون بن عبد الله الحمال البغدادي ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو داود].
هو سليمان بن داود الطيالسي ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عمران].
عمران بن داور القطان، وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن عبد الله بن الشخير].
يزيد بن عبد الله بن الشخير وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أخو مطرف بن عبد الله بن الشخير.
[عن عياض بن حمار].
عياض بن حمار رضي الله عنه، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.(357/34)
تابع شرح حديث: (إني نهيت عن زبد المشركين)
قوله: زبد المشركين يعني: عطاءهم وهديتهم.
والهدية تقبل أو ترد حسب المصلحة حتى من المشركين غير أهل الكتاب، ولا تخصص بأهل الكتاب، وبعض العلماء يخصصها بأهل الكتاب قياساً على أنها تحل ذبائحهم وتحل نساءهم بخلاف المشركين فإنها لا تحل ذبائحهم ولا نساؤهم، ولكن الظاهر أن هناك فرقاً بين هذه وهذه.
وهذا الحديث فيه دليل على جواز تحمل الكافر الحديث وأداؤه له بعد الإسلام؛ لأن الصحابي تحمل هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في حال كفره، وأداه في حال إسلامه، وهذا من جنس ما جاء في قصة أبي سفيان مع هرقل، فإنه تحمل ذلك في حال كفره، وأداه بعد إسلامه، ومثل ذلك حال الصغر، فالصغير قد يتحمل في حال صغره ويؤديه في حال كبره، والكافر قد يتحمل في حال كفره ويؤديه في حال إسلامه، وهذا الحديث من أمثلة التحمل في حال الكفر والأداء في حال الإسلام، أما التحمل في حال الصغر والأداء في حال الكبر فمثل صغار الصحابة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم صغار، وتلقوا بعض الأحاديث في حال صغرهم وأدوها في حال كبرهم، ومن ذلك حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الحلال بين والحرام بين) وهو متفق عليه، والنعمان بن بشير توفي رسول الله عليه السلام وعمره ثمان سنوات، أي: أنه تحمل الحديث وهو صغير وأداه وهو كبير.(357/35)
الأسئلة(357/36)
وصية النبي الثالثة التي نساها الصحابي
السؤال
في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بثلاث وسكت عن الثالثة أو نساها الراوي، جاء في مسند أحمد: (أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أن شرار الناس الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ألا يكون آخر هذا الحديث هو الوصية الثالثة؟
الجواب
سبق أن ذكرت أن بعض العلماء قال: هو يتعلق باتخاذ قبره مسجداً وهذا من جنسه، وقيل: هو إنفاذ جيش أسامة.(357/37)
حكم تخصيص يوم للجلوس في المسجد بعد الفجر إلى طلوع الشمس
السؤال
في مسجد حينا يقوم بعض الشباب بحث المصلين في بداية أول جمعة من كل شهر عربي على الجلوس في المسجد بعد صلاة الفجر لذكر الله وقراءة القرآن وأذكار الصباح حتى تطلع الشمس ثم صلاة ركعتي الضحى لتحصيل أجر حديث: (من جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس) إلخ الحديث، فما رأيكم؟
الجواب
تخصيص ذلك بيوم معين ودعوة الناس إلى أن يقوموا بهذا، لا أصل له، ولا وجه له، ولكنهم يحثون على ذلك في جميع الأوقات، وفي جميع الأيام، ولا يخصص يوم جمعة أو يوم معين.(357/38)
الكفار مخاطبون بأحكام الشريعة
السؤال
( قوله: فرقنا بين كل رجل من المجوس وحريمه في كتاب الله) هل هذا يفيد أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟
الجواب
نعم هم مخاطبون بفروع الشريعة -على القول الصحيح- كما أنهم مخاطبون بأصولها، لكن لا يثابون على الإتيان بالفروع إلا إذا أتوا بالأصول؛ لأنهم لو أتوا بالفروع ولم يأتوا بالأصول فإن أعمالهم مردودة ولا يثابون عليها كما قال الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، وفائدة خطابهم بالفروع تبعاً للأصول أن في ذلك زيادة عذاب لهم إذا تركوا الأصول والفروع، ولهذا فإن الكافر الذي هو شديد الإيذاء للناس أعظم من الكافر الذي لا يؤذي الناس، والكفر دركات كما أن الإيمان درجات، والكفار في النار في دركات كما أن أهل الجنة في درجات؛ ولهذا الله عز وجل يقول: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ} [النحل:88] فالذي يكفر ويصد عن سبيل الله أسوأ وأشد عذاباً من الذي يكفر ولا يصد عن سبيل الله، والفرق بينهم في الدركات في النار، فهؤلاء يعذبون أشد مما يعذب به أولئك، وإن كان خفيف العذاب منهم يتصور أنه لا أحد أشد منه عذاباً والعياذ بالله كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في حق أبي طالب: (هو في ضحضاح من نار عليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه)، فنعلاه في رجليه وهي في أسفل شيء منه، وحرهما يغلي منه دماغه الذي هو أعلى شيء فيه والعياذ بالله!(357/39)
شرح سنن أبي داود [358]
لولي أمر المسلمين أن يقطع أرضاً لبعض المسلمين ليحييها بزراعتها أو البناء عليها أو نحو ذلك، ويشترط أن تكون تلك الأرض ليست ملكاً لأحد، ولا يرتفق بها أهل البلد، وقد أقطع النبي عليه الصلاة والسلام جماعة من الصحابة بعض الأراضي.(358/1)
إقطاع الأرضين(358/2)
شرح حديث: (أقطع وائل بن حجر أرضاً بحضرموت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في إقطاع الأرضين.
حدثنا عمرو بن مرزوق أخبرنا شعبة عن سماك عن علقمة بن وائل عن أبيه رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضاً بحضرموت)].
أورد أبو داود هذه الترجمة (باب في إقطاع الأرضين) يعني: إعطاء الإمام بعض رعيته قطعة من الأرض يقطعها إياه، وهذا يسمى إقطاع الأرض، وهو خاص بالأرضين، ولا يكون في الأشياء المنقولة، وقد جاء في ذلك أحاديث تدل على وقوعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أورد أبو داود حديث وائل بن حجر قال: (أقطعني رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً بحضرموت) أي: أعطاه أرضاً بحضرموت، وهو يدل على ما ترجم له المصنف من ثبوت الإقطاع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه هذه الأرض من أرض اليمن في حضرموت.(358/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أقطع وائل بن حجر أرضاً بحضرموت)
قوله: [حدثنا عمرو بن مرزوق].
عمرو بن مرزوق ثقة له أوهام، أخرج له البخاري وأبو داود.
[أخبرنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سماك].
سماك بن حرب وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن علقمة بن وائل].
علقمة بن وائل بن حجر وهو صدوق، أخرج له البخاري في رفع اليدين ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وائل بن حجر رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
وعلقمة سمع من أبيه بخلاف أخيه عبد الجبار فإنه لم يسمع من أبيه، والحافظ ذكر في التقريب أن علقمة لم يسمع من أبيه، ولكن الصحيح أنه قد سمع منه، فقد روى عنه مسلم في صحيحه حديثاً أو حديثين، ومسلم يشترط الصحة في الأسانيد، وقد صرح البخاري في تاريخه أنه سمع من أبيه، وفي سنن الترمذي تصريحه بالسماع من أبيه.(358/4)
طريق أخرى لحديث إقطاع وائل أرضاً بحضرموت وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر حدثنا جامع بن مطر عن علقمة بن وائل بإسناده مثله].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى، وقال: إسناده مثله يعني: مثل الطريق الأولى.
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا جامع بن مطر].
جامع بن مطر وهو صدوق، أخرج له البخاري في رفع اليدين وأبو داود والنسائي.
[عن علقمة بن وائل بإسناده مثله].
يعني: علقمة بن وائل عن أبيه.
وهذا الإسناد من الرباعيات التي هي عند أبي داود أعلى الأسانيد.(358/5)
شرح حديث: (خط لي رسول الله داراً بالمدينة بقوس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود عن فطر قال: حدثني أبي عن عمرو بن حريث رضي الله عنه أنه قال: (خط لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم داراً بالمدينة بقوس وقال: أزيدك أزيدك)].
أورد أبو داود حديث عمرو بن حريث رضي الله عنه أنه خط له داراً في المدينة بقوس، يعني: قطعة من الأرض خطها له بقوس، والقوس من آلات الخط التي يخط بها، لبيان المقدار الذي أعطاه إياه، والمقصود بالدار قطعة من الأرض، وليست داراً مبنية، وإنما هي قطعة أرض يبني عليها داراً في المدينة.(358/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (خط لي رسول الله داراً بالمدينة بقوس)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الله بن داود].
عبد الله بن داود الخريبي وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن فطر].
فطر بن خليفة وهو صدوق، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو لين الحديث، أخرج له أبو داود.
[عن عمرو بن حريث].
عمرو بن حريث رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث ضعيف، في إسناده رجل لين الحديث.(358/7)
شرح حديث: (أقطع بلال بن الحارث معادن القبلية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن غير واحد: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية) وهي من ناحية الفرع، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم].
أورد أبو داود هذا الحديث المرسل عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن غير واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية، وهذا اسم مكان، وهي من ناحية الفرع بين مكة والمدينة.
قوله: [فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلا اليوم].
إعطاؤه معادن القبلية جاء في عدة أحاديث، وهذا المقدار من الحديث صحيح، ولكن كونه لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم ما جاء إلا من هذا الطريق المرسلة، وعلى هذا فإنها يؤخذ منها الخمس وهو ما يخرج من الزكاة والمعادن، وأما الزكاة فمقدارها ربع العشر.(358/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (أقطع بلال بن الحارث معادن القبلية)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن].
ربيعة بن أبي عبد الرحمن وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن غير واحد].
هؤلاء مجهولون.(358/9)
شرح حديث: (أقطع بلال بن الحارث معادن القبلية) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا العباس بن محمد بن حاتم وغيره -قال العباس:- حدثنا الحسين بن محمد أخبرنا أبو أويس قال حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية جلسيها وغوريها، وقال غيره: جلسها وغورها، وحيث يصلح الزرع من قدس، ولم يعطه حق مسلم، وكتب له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى محمد رسول الله بلال بن الحارث المزني؛ أعطاه معادن القبلية جلسيها وغوريها، وقال غيره: جلسها وغورها، وحيث يصلح الزرع من قدس، ولم يعطه حق مسلم)].
أورد أبو داود حديث عمرو بن عوف المزني: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية جلسها وغورها)، والمراد بالجلس المكان المرتفع، والغور المكان المنخفض، يعني: أقطعه الربى والوهاد يعني: الأماكن المرتفعة والأماكن المنخفضة في ذلك المكان.
قوله: [وحيث يصلح الزرع من قدس].
هو اسم جبل، فالمعنى: المكان الذي يصلح فيه الزراعة على ظهره وأعلاه.
قوله: [ولم يعطه حق مسلم].
يعني: الذي أعطاه شيئاً ليس مملوكاً لمسلم؛ لأن ما كان مملوكاً لمسلم فهو له، ولا يتصرف فيه الإمام ولا غير الإمام.(358/10)
تراجم رجال إسناد الطريق الثانية لحديث: (أقطع بلال بن الحارث معادن القبلية)
قوله: [حدثنا عباس بن محمد بن حاتم].
العباس بن محمد بن حاتم الدوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[وغيره].
لم يسمهم.
[حدثنا الحسين بن محمد].
الحسين بن محمد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا أبو أويس].
هو عبد الله بن عبد الله بن أويس الأصبحي وهو صدوق يهم، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثني كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني].
كثير بن عبد الله بن عمرو ضعيف، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبيه].
عبد الله بن عمرو، وهو مقبول، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن جده].
عمرو بن عوف المزني، وهو صحابي، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي وابن ماجة.(358/11)
طريق ثالثة لحديث: (أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية) وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو أويس: وحدثني ثور بن زيد مولى بني الديل بن بكر بن كنانة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله].
الطريق الأولى فيها كثير وأبوه، كثير: ضعيف، وأبوه: مقبول، وهذه الطريق الأخرى يصح بها الحديث، وهي من حديث ابن عباس.
وقوله: قال: أبو أويس: وحدثني ثور بن زيد يعني: أن أبا أويس رواه من الطريق التي فيها كثير وأبوه، ومن طريق أخرى صالحة ومستقيمة.
وثور بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وعكرمة هو مولى ابن عباس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وابن عباس رضي الله تعالى عنهما هو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(358/12)
طريق رابعة لحديث (أقطع بلال بن الحارث معادن القبلية) وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن النضر قال: سمعت الحنيني قال: قرأته غير مرة -يعني: كتاب قطيعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم- قال أبو داود: وحدثنا غير واحد عن حسين بن محمد قال: أخبرنا أبو أويس قال: حدثني كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية جلسيَّها وغوريَّها، قال ابن النضر: وجرسها، وذات النصب، ثم اتفقا: وحيث يصلح الزرع من قدس، ولم يعط بلال بن الحارث حق مسلم، وكتب له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هذا ما أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلال بن الحارث المزني، أعطاه معادن القبلية جلسها وغورها، وحيث يصلح الزرع من قدس، ولم يعطه حق مسلم)].
قوله: [وجرسها وذات النصب] هذه أسماء لأماكن.
قوله: [حدثنا محمد بن النضر].
هو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[سمعت الحنيني].
هو إسحاق بن إبراهيم ضعيف، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[قال: قرأته غير مرة -يعني: كتاب قطيعة النبي صلى الله عليه وسلم-].
يعني أنه رأى الكتاب، وقرأه غير مرة.
ثم أتى المصنف بالطريقة الثانية التي فيها غير واحد، قال أبو داود: [وحدثنا غير واحد عن حسين بن محمد قال: أخبرنا أبو أويس قال: حدثني كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده].
وقد مر ذكرهم.
[قال أبو أويس: وحدثني ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
زاد ابن النضر: وكتب أبي بن كعب رضي الله عنه].
هذا الطريق فيه زيادة بيان أن الذي تولى الكتابة هو أبي بن كعب.(358/13)
شرح حديث أبيض بن حمال في استقطاعه الملح
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي ومحمد بن المتوكل العسقلاني -المعنى واحد- أن محمد بن يحيى بن قيس المأربي حدثهم قال: أخبرني أبي عن ثمامة بن شراحيل عن سمي بن قيس عن شمير قال ابن المتوكل: ابن عبد المدان عن أبيض بن حمال رضي الله عنه: (أنه وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستقطعه الملح، قال ابن المتوكل: الذي بمأرب، فقطعه له، فلما أن ولى قال رجل من المجلس: أتدري ما قطعت له؟! إنما قطعت له الماء العد، قال: فانتزع منه، قال: وسأله عما يحمى من الأراك، قال: ما لم تنله خفاف.
وقال ابن المتوكل: أخفاف الإبل)].
أورد أبو داود حديث أبيض بن حمال رضي الله تعالى عنه -وكان من أهل مأرب- أنه استقطع النبي عليه الصلاة والسلام ملحاً في ذلك المكان، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، ثم قيل له: إن هذا الذي أعطيته إياه الماء العد، معناه أنه سهل وقريب التناول، وأن الاستفادة منه كالاستفادة من الماء، لا يحتاج إلى تعب ولا مشقة، يعني: ليس هو في جوف الأرض يحتاج إلى تعب، وإنما هو بارز، وكل إنسان يستفيد منه، والشيء الذي يكون لا تعب فيه ولا مشقة، ويكون في متناول الناس؛ لا يقطع، وإنما يترك ليستفيد منه من يستفيد، أما إذا كان يحتاج إلى جهد، ويحتاج إلى عمل، ويحتاج إلى حفر الأرض والاستخراج منها، فيجوز حينئذٍ الإقطاع؛ لأنه إذا لم يوجد من يقوم بإخراجه يبقى في جوف الأرض، وأما إذا كان على ظهرها والناس يستفيدون منه، فإنه لا يقطع، ولهذا لما أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له: إنه الماء العد، يعني: كالماء العد، سهل التناول، ويستفيد منه العامة، فلا يختص به واحد دون آخر؛ أخذه منه، لأن إقطاعه إياه كان على أساس أن فيه تعباً ومشقة، ولما تبين له أنه سهل التناول، وأن الناس يأخذون منه كالماء العد، أخذه منه، فإنه لا يصلح أن يقطع مثل ذلك، بل يبقى لعموم الناس كالماء الذي يستفيد الناس منه ويشربون منه جميعاً، فذلك الملح يبقى يأخذون منه حاجاتهم بدون تعب وبدون مشقة.
قوله: [وسأله عما يحمى من الأراك].
الأراك هو الشجر الذي يتخذ منه السواك، فقال: (ما لم تنله خفاف) أي: أخفاف الإبل، ومعنى ذلك أنه يحمى ما يكون في مكان بعيد، وأما ما يكون قريباً من العمران، والإبل تحتاج إلى أن تذهب إليه وترعى، فإنه لا يحمى ولا يقطع، ولا يختص به أحد، بل يكون للجميع، وإنما الذي يمكن الاختصاص به الأماكن البعيدة، أما الذي تناله أخفاف الإبل إذا سرحت، فإن هذا لا يحمى، ولا تمنع منه أي ماشية، لأن البلد يكون لها حمى حولها، ولا يختص به أحد، بل يكون عاماً لسائر المواشي في ذلك البلد، وهذا معنى قوله: (ما لم تنله أخفاف الإبل).(358/14)
تراجم رجال إسناد حديث أبيض بن حمال في استقطاعه الملح
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي].
قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومحمد بن المتوكل العسقلاني].
محمد بن المتوكل العسقلاني صدوق له أوهام كثيرة، أخرج له أبو داود.
[أن محمد بن يحيى بن قيس المأربي].
محمد بن يحيى بن قيس المأربي وهو لين الحديث، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[أخبرني أبي].
وهو ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن ثمامة بن شراحيل].
ثمامة بن شراحيل وهو مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن سمي بن قيس].
سمي بن قيس وهو مجهول، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن شمير].
وهو مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبيض بن حمال].
أبيض بن حمال رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب السنن الأربعة.(358/15)
أثر في تفسير قوله: (ما لم تنله أخفاف الإبل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله قال: قال محمد بن الحسن المخزومي: ما لم تنله أخفاف الإبل، يعني أن الإبل تأكل منتهى رءوسها، ويحمى ما فوقه].
هذا أثر مقطوع، وهو تفسير لما لم تنله أخفاف الإبل.(358/16)
تراجم رجال إسناد أثر تفسير قوله: (ما لم تنله أخفاف الإبل)
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هارون بن عبد الله الحمال ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[قال محمد بن الحسن المخزومي].
هو ابن زبالة، وقد كذبوه، أخرج له أبو داود.(358/17)
شرح حديث: (لا حمى في الأراك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن أحمد القرشي حدثنا عبد الله بن الزبير حدثنا فرج بن سعيد حدثني عمي ثابت بن سعيد عن أبيه عن جده عن أبيض بن حمال رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حمى الأراك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا حمى في الأراك)، فقال: أراكةً في حظاري؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا حمى في الأراك)، قال فرج: يعني بحظاري: الأرض التي فيها الزرع المحاط عليها].
يعني: أنه لا يحمى الأراك؛ لأنه يحتاج إليه الناس، فلا يختص به أحد دون أحد، فقال: أراكةً في حظاري؟ يعني: هل أحمي شجرة من شجر الأراك الذي في حظاري؟ يعني: في المكان الذي عملت حظيرة عليه، وحائطاً على المكان الذي أعطيته، ولهذا فسره فرج بعد ذلك بقوله: الأرض التي أحيطت مثل الحظيرة، كما قال الله: {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر:31]، فالذي يبنى عليه سور أو بناء من الخشب أو غيره يعتبر حظيرة مثل حظيرة الغنم، والمقصود بالحظار السور والحائط الذي جعله محيطاً بالأرض.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا حمى في الأراك) يعني: وإن كانت موجودة فيها، فإن الأراك لا يحمى.(358/18)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا حمى في الأراك)
قوله: [حدثنا محمد بن أحمد القرشي].
محمد بن أحمد القرشي سبق أن مر أنه يحتمل ثلاثة أشخاص، وكل منهم صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي.
[حدثنا عبد الله بن الزبير].
عبد الله بن الزبير هو الحميدي المكي ثقة، أخرج له البخاري ومسلم في المقدمة وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة في التفسير.
[حدثنا فرج بن سعيد].
فرج بن سعيد وهو صدوق، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثني عمي ثابت بن سعيد].
ثابت بن سعيد وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبيه].
هو سعيد بن أبيض بن حمال مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن جده عن أبيض].
(عن) هذه مقحمة، والصواب: عن جده أبيض، وقد مر ذكره.(358/19)
شرح حديث: (إن القوم إذا أسلموا أحرزوا دماءهم وأموالهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمر بن الخطاب أبو حفص حدثنا الفريابي حدثنا أبان -قال عمر: وهو ابن عبد الله بن أبي حازم - قال: حدثني عثمان بن أبي حازم عن أبيه عن جده صخر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزا ثقيفاً، فلما أن سمع ذلك صخر ركب في خيل يمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فوجد نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قد انصرف ولم يفتح، فجعل صخر يومئذٍ عهد الله وذمته ألا يفارق هذا القصر حتى ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يفارقهم حتى نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكتب إليه صخر أما بعد: فإن ثقيفاً قد نزلت على حكمك يا رسول الله! وأنا مقبل وهم في خيل، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة جامعة، فدعا لأحمس عشر دعوات: اللهم بارك لأحمس في خيلها ورجالها، وأتاه القوم، فتكلم المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فقال: يا نبي الله! إن صخراً أخذ عمتي ودخلت فيما دخلت فيه المسلمون، فدعاه فقال: يا صخر! إن القوم إذا أسلموا أحرزوا دماءهم وأموالهم؛ فادفع إلى المغيرة عمته، فدفعها إليه، وسأل نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ماءً لبني سليم قد هربوا عن الإسلام وتركوا ذلك الماء، فقال: يا نبي الله! أنزلنيه أنا وقومي؟ قال: نعم، فأنزله، وأسلم -يعني السلميين- فأتوا صخراً فسألوه أن يدفع إليهم الماء، فأبى، فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا نبي الله! أسلمنا وأتينا صخراً ليدفع إلينا ماءنا فأبى علينا، فأتاه فقال: يا صخر! إن القوم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم فادفع إلى القوم ماءهم، قال: نعم يا نبي الله! فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتغير عند ذلك حمرة حياءً من أخذه الجارية وأخذه الماء)].
شرحنا عدداً من الأحاديث فيما يتعلق بهذه الترجمة، وهي: إقطاع الأرضين، وبقي بعض الأحاديث، ومنها حديث صخر رضي الله تعالى عنه الطويل، الذي فيه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم غزا ثقيفاً وحاصرهم، ثم رجع دون أن تفتح عليه، وأن صخراً هذا -وهو من الأحمسيين- عاهد الله عز وجل أن يحاصرهم حتى ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب صخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بهذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا لقومه -أي: للأحمسيين- لخيلهم ورجالهم، أي: الفرسان والراجلين.
وجاء المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وهو من ثقيف وقال: إن عمته أخذها صخر، فالنبي صلى الله عليه وسلم طلب منه أن يعيد عمته إليه.
وفيه أن جماعة من بني سليم هربوا عن ماء لهم، فطلب صخر من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليه، فمكنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، ولما أسلمت بنو سليم جاءوا إلى صخر وطلبوا منه أن يسلم لهم ماءهم فأبى، فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام له: (إن القوم إذا أسلموا أحرزوا دماءهم وأموالهم)، وطلب منه أن يعطيهم ذلك الماء، وقال: إنه رأى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير حمرة حياءً من كونه رد هذا الماء إلى أهله، وأخذه من صخر، وكذلك رد الجارية التي هي عمة المغيرة بن شعبة، وأعطاها للمغيرة بن شعبة.
هذا الحديث الطويل حديث ضعيف لم يثبت؛ لأن في سنده من لا يحتج بحديثه، أو لا يعول على حديثه، ومحل الشاهد منه ذكر هذا الماء الذي لبني سليم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه لـ صخر هذا، والأصل أن الكفار إذا هربوا وغنم المسلمون ديارهم وأموالهم، فإنها تكون فيئاً، والفيء لو أسلم صاحبه لا يلزم إرجاعه إليه، ولكنه إن أرجع إليه من أجل ترغيبه في الإسلام، فإنه لا بأس بذلك، ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم فعل هذا مع هؤلاء القوم من بني سليم من أجل ترغيبهم في الإسلام، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم استطاب نفس صخر هذا، وأن نفسه طابت بذلك، كما حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبي هوازن لما قسمهم، فقد جاء وفدهم مسلمين، وطلبوا رد السبي، والنبي صلى الله عليه وسلم أبلغ أصحابه بأنه يريد أن يرد عليهم سبيهم، وأن من طابت نفسه أن يتنازل عن حقه فذاك، ومن لم تطب نفسه فإن النبي صلى الله عليه وسلم سيعوضه من أول شيء يفيئه الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فلو كان هذا الحديث ثابتاً فهو محمول على ذلك، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم استطاب نفس صخر، وأعاد الماء إليهم من أجل ترغيبهم في الإسلام، وكذلك فيما يتعلق برد الجارية إلى المغيرة بن شعبة، فلعله استطاب نفس صخر، وأن يكون هذا من جنس ما حصل في قصة سبي هوازن أو يكون الأمر يرجع إلى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم نزلوا على حكمه كما جاء في الحديث، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن ترد هذه الجارية على من طلبها، وهو المغيرة بن شعبة.
والحاصل أن الحديث الطويل أورد من أجل قصة الماء، وكونه أعطاه لـ صخر، وهذا هو المناسب لباب الإقطاع، ولكن الحديث كما عرفنا في إسناده ضعف.(358/20)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن القوم إذا أسلموا أحرزوا دماءهم وأموالهم)
قوله: [حدثنا عمر بن الخطاب أبو حفص].
عمر بن الخطاب أبو حفص صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا الفريابي].
هو محمد بن يوسف الفريابي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبان قال عمر: هو ابن عبد الله بن أبي حازم].
أبان بن عبد الله بن أبي حازم وهو صدوق في حفظه لين، أخرج له أصحاب السنن.
[حدثني عثمان بن أبي حازم].
عثمان بن أبي حازم وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
هو أبو حازم، وهو مستور، أخرج له أبو داود، ومستور بمعنى: مجهول الحال.
[عن جده صخر].
صخر رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أبو داود.
الحديث ضعيف ففيه مجهول الحال وهو أبو حازم، وأيضاً فيه عثمان بن أبي حازم مقبول.(358/21)
شرح حديث: (نزل في موضع المسجد تحت دومة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب حدثني سبرة بن عبد العزيز بن الربيع الجهني عن أبيه عن جده رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزل في موضع المسجد تحت دومة، فأقام ثلاثاً ثم خرج إلى تبوك، وإن جهينة لحقوه بالرحبة، فقال لهم: من أهل ذي المروة؟ فقالوا: بنو رفاعة من جهينة، فقال: قد أقطعتها لبني رفاعة، فاقتسموها، فمنهم من باع، ومنهم من أمسك فعمل)، ثم سألت أباه عبد العزيز عن هذا الحديث فحدثني ببعضه ولم يحدثني به كله].
راوي هذا الحديث هو الربيع بن سبرة، جد سبرة بن عبد العزيز بن الربيع بن سبرة، فالذي يظهر من الإسناد أن الجد هو الربيع، والربيع تابعي من الطبقة الثالثة، وعلى هذا فيكون الحديث مرسلاً، ولكن الحديث هو عن سبرة بن معبد الذي هو أبو الربيع، والربيع يروي عن أبيه، فيكون الحديث -كما في تحفة الأشراف- عن سبرة بن معبد الجهني، وعلى هذا فإن سبرة بن عبد العزيز بن الربيع بن سبرة يروي عن أبيه عن جده، وجده يروي عن أبيه، أي: جده الربيع يروي عن أبيه سبرة، فهو متصل على هذا، وهو من مسند سبرة بن معبد الجهني.
قوله: [أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزل في موضع المسجد تحت دومة] يعني: نزل تحت شجرة، ولعل المقصود بالمسجد المكان الذي صلوا فيه، وأنه كان تحت شجرة، وليس المراد دومة الجندل، فإنها لم تكن في طريقهم إلى تبوك.
قوله: [فأقام ثلاثاً ثم خرج إلى تبوك، وإن جهينة لحقوه بالرحبة، فقال لهم: من أهل ذي المروة؟] أي: أقام ثلاثاً ثم إنه ذهب إلى تبوك، ولحقه جماعة من جهينة، وهم بنو رفاعة، فكانوا في مكان يقال له: المروة، فقال من أهل ذي المروة؟ فقالوا: رفاعة، فأقطعهم إياها، فمنهم من أمسك، ومنهم من باع، وهذا هو محل الشاهد من الترجمة، وهو كونه أقطعهم تلك القرية التي كانوا فيها، ومنهم من باع، ومنهم من أمسك أي: منهم من باعها، ومنهم من أمسكها وعملها، أي: بناها وسكنها، فهو يدل على ما ترجم به المصنف من الإقطاع، وفي التقريب في ترجمة سبرة بن معبد قال: وكان يسكن في ذي المروة، يعني: في هذا المكان الذي جاء ذكره في هذا الحديث، وهو المكان الذي أقطعهم إياهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [ثم سألت أباه عبد العزيز عن هذا الحديث فحدثني ببعضه ولم يحدثني به].
يعني: أن ابن وهب الذي روى عن سبرة بن عبد العزيز بن الربيع بن سبرة؛ لقي أباه عبد العزيز، فسأله عن الحديث فحدثه ببعضه، فحصل له علو، لأنه حصله نازلاً وكان كاملاً، ثم لقي عبد العزيز والد سبرة، فصار إسناده الثاني عالياً، لأنه سقط منه رجل، وهو سبرة بن عبد العزيز، إلا أن الطريق النازلة أكمل وأتم، والطريق العالية أقل؛ لأن عبد العزيز بن الربيع حدثه ببعض ما حدثه به سبرة بن عبد العزيز.(358/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (نزل في موضع المسجد تحت دومة)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
سليمان بن داود المهري المصري ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا ابن وهب].
عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني سبرة بن عبد العزيز بن الربيع].
سبرة بن عبد العزيز بن الربيع صدوق ليس به بأس، وكلمة ليس به بأس بمعنى صدوق، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
هو عبد العزيز بن الربيع بن سبرة وهو صدوق ربما غلط؛ أخرج له أبو داود.
[عن جده].
جده هو الربيع بن سبرة، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن سبرة بن معبد].
وهو صحابي، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.(358/23)
شرح حديث: (أقطع الزبير نخلاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حسين بن علي حدثنا يحيى -يعني ابن آدم - قال: حدثنا أبو بكر بن عياش عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقطع الزبير رضي الله عنه نخلاً].
أورد أبو داود هذا الحديث عن أسماء بنت أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير نخلاً، قالوا: والنخل من الأشياء الظاهرة التي منفعتها حاصلة، وهو من جنس الملح أو المعادن الظاهرة التي لا تقطع، وإنما تكون منفعتها عامة، قيل: ولعله أعطاه إياه من سهم الخمس.(358/24)
تراجم رجال إسناد حديث: (أقطع الزبير نخلاً)
قوله: [حدثنا حسين بن علي].
حسين بن علي الجعفي العجلي وهو صدوق يخطئ كثيراً، أخرج له أبو داود والترمذي.
[حدثنا يحيى].
يحيى بن آدم الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو بكر بن عياش].
أبو بكر بن عياش وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أسماء].
أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(358/25)
شرح حديث: (اكتب له بالدهناء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر وموسى بن إسماعيل المعنى واحد قالا: حدثنا عبد الله بن حسان العنبري قال: حدثتني جدتاي صفية ودحيبة ابنتا عليبة، وكانتا ربيبتي قيلة بنت مخرمة رضي الله عنها، وكانت جدة أبيهما، أنها أخبرتهما قالت: (قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت: تقدم صاحبي -تعني حريث بن حسان وافد بكر بن وائل- فبايعه على الإسلام عليه وعلى قومه، ثم قال: يا رسول الله! اكتب بيننا وبين بني تميم بالدهناء ألا يجاوزها إلينا منهم أحد إلا مسافر أو مجاور -وفي بعض النسخ: مجاوز، وهي أقرب، يعني عابر سبيل- فقال: اكتب له يا غلام بالدهناء، فلما رأيته قد أمر له بها شخص بي وهي وطني وداري، فقلت: يا رسول الله! إنه لم يسألك السوية من الأرض إذ سألك، إنما هذه الدهناء عندك مقيد الجمل، ومرعى الغنم، ونساء بني تميم وأبناؤها وراء ذلك، فقال: أمسك يا غلام! صدقت المسكينة، المسلم أخو المسلم يسعهم الماء والشجر، ويتعاونان على الفتان)].
أورد أبو داود حديث قيلة بنت مخرمة رضي الله عنها أنها قالت: تقدم صاحبها حريث بن حسان، فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام عليه وعلى قومه ثم قال: يا رسول الله! اكتب بيننا وبين بني تميم بالدهناء ألا يجاوزها إلينا منهم أحد إلا مسافر أو مجاوز فتكلمت قيلة وقالت: إنه ما سألك الأرض السوية، يعني: ما سألك أرضاً عادية تحتاج إلى أن يستفاد منها بالحرث أو بالإحياء، وإنما سألك أرضاً يشترك فيها الناس، وهي مرعى لبني تميم، وهم يستفيدون منها، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر الغلام بالإمساك عن الكتابة؛ لأنها أرض مشتركة بين الناس، ويستفيد منها عموم الناس، وهو سأله أرضاً فأمر أن يكتب له، ولما عرف أنها مشاعة بين الناس من ناحية أن الجمال ترعى فيها، وتكون فيها كأنها مقيدة لا تعدوها ولا تتجاوزها؛ لأنها تأخذ حاجتها منها؛ أمر بالإمساك عن ذلك الإقطاع.
وقول قيلة: فلما رأيته قد أمر له بها شخص بي أي: فزعت وهالني الأمر؛ لأن هذه الأرض مرعى قومها، ويستفيد منها بنو تميم وغير بني تميم، ثم تعطى لشخص واحد من الناس يختص بها! قالت: [(وهي وطني وداري، فقلت: يا رسول الله! إنه لم يسألك السوية من الأرض إذ سألك)] يعني: ما سألك أرضاً تصلح أن تعطى؛ لأنها يمكن أن تحيا وأن يستفاد منها؛ لكونها من الأراضي العادية التي ليست مراعي، وليست محل اشتراك بين الناس.
قالت: [(إنما هذه الدهناء عندك مقيد الجمل)].
يعني: الجمل فيها يكون كأنه مقيد، لا يتحرك منها ولا يتعداها؛ لأن بغيته موجودة فيها، والجمل المقيد لا يعدو ولا يبرح المكان، والمعنى: أن بغيته موجودة فيها، يأكل من المرعى، ولا يحتاج إلى أن يقطع مسافة من أجل أن يحصل رعياً.
قالت: [(ومرعى الغنم ونساء بني تميم وأبناؤها وراء ذلك)] يعني: أنهم يستفيدون منها وينتفعون منها كما ينتفع غيرهم.
قوله: [(فقال: أمسك يا غلام! صدقت المسكينة)] أمسك يا غلام! يعني: عن الكتابة.
قوله: [(المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشجر)].
يعني: الماء والشجر يشترك فيه المسلمون، والشجر هو الرعي.
قوله: [(ويتعاونان على الفتان)].
ويتعاونان على الفتان وهو إما أن يكون الشيطان أو الفتان جمع فاتن ككاهن وكهان، وهم من يحصل منهم ضرر، أي: يتعاونون عليهم.(358/26)
تراجم رجال إسناد حديث: (اكتب له بالدهناء)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[وموسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن حسان العنبري].
عبد الله بن حسان العنبري وهو مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي.
[حدثتني جدتاي صفية ودحيبة].
صفية ودحيبة كل منهما مقبولة، وأخرج لهما البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي.
[عن قيلة].
وهي صحابية، أخرج لها البخاري في الأدب المفرد والبخاري والترمذي.
هذا الحديث غير صحيح؛ ففيه مقبول ومقبولتان.(358/27)
شرح حديث: (من سبق إلى ماء لم يسبقه إليه مسلم فهو له)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار قال: حدثني عبد الحميد بن عبد الواحد قال: حدثتني أم جنوب بنت نميلة عن أمها سويدة بنت جابر عن أمها عقيلة بنت أسمر بنت مظرف عن أبيها أسمر بن مظرف رضي الله عنه أنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبايعته فقال: من سبق إلى ماء لم يسبقه إليه مسلم فهو له) قال: فخرج الناس يتعادون ويتخاطون].
الذي يظهر أن (ما) موصولة وليست ماء، يعني: من سبق إلى شيء لم يسبقه غيره، يعني فتكون موصولة، هذا هو الأظهر من حيث أنهم صاروا يتعادون ويتخاطون الأرض؛ لأنه لو كان ماء فليس فيه خط، فالخط إنما يكون في الأرض، فهم صاروا يتعادون إلى الأرض، يعني: كل يسبق إليها ليحمي له قطعة، فيخط برجله أو بآلة، ويحدد قطعة يحوزها ويتميز بها.
ويمكن أن يكون المقصود بالحديث -كما ذكر في عون المعبود- أنه إذا سبق إلى ماء وحمل منه أو إلى حطب وحمل منه أو إلى نبات وحمل منه؛ فإنه يحوز ذلك الذي أخذه، والباقي يبقى مشاعاً بين الناس.
وهذا الحديث ليس فيه من الثقات إلا الصحابي وشيخ أبي داود محمد بن بشار، والباقون كلهم متكلم فيهم.
وإذا كان المقصود أنه يسبق إلى شيء مباح مثل نبات أو ماء أو حطب فحازه، فإنه يملكه بحوزه إياه؛ لأن الإنسان إذا احتطب حطباً صار ملكاً له، وقبل أن يحتطب فالحطب مشاع، والماء مشاع، وإذا أخذ ماءً بقربته أو بسيارته فإنه يملكه ويتصرف فيه، وكذلك النبات إذا أخذه من الأرض فإنه يملكه، فإذا كان هذا هو المقصود فهو معنى صحيح ومستقيم، وليس فيه إشكال، وأما إذا كان المعنى أن يبسط على الأرض، ويملك الأرض بهذا الخط، وكل إنسان يخط برجله؛ فهذا غير مستقيم؛ لأن التملك لا يحصل بالخط بالرجل، ولا بد من إحيائه كما سيأتي في إحياء الموات.(358/28)
تراجم رجال إسناد حديث: (من سبق إلى ماء لم يسبقه إليه مسلم فهو له)
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
محمد بن بشار هو الملقب بـ بندار البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عبد الحميد بن عبد الواحد].
عبد الحميد بن عبد الواحد مقبول، أخرج له أبو داود.
[حدثتني أم جنوب بنت نميلة].
أم جنوب بنت نميلة لا يعرف حالها، أخرج لها أبو داود.
[عن أمها سويدة بنت جابر].
سويدة بنت جابر لا يعرف حالها، أخرج لها أبو داود.
[عن أمها عقيلة بنت أسمر].
عقيلة بنت أسمر لا يعرف حالها، أخرج لها أبو داود.
[عن أبيها أسمر].
أسمر، وهو صحابي، أخرج له أبو داود.
وكل هؤلاء الرواة أخرج لهم أبو داود ما عدا محمد بن بشار، وكل من بين شيخ أبي داود وبين الصحابي متكلم فيهم.(358/29)
شرح حديث: (أقطع الزبير حضر فرسه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا حماد بن خالد عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقطع الزبير رضي الله عنه حضر فرسه، فأجرى فرسه حتى قام، ثم رمى بسوطه فقال: أعطوه من حيث بلغ السوط)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الزبير حضر فرسه، يعني: المقدار الذي يعدو فيه الفرس حتى يقف، ثم إنه بعدما وقف رمى بالسوط، فقال: (أعطوه من حيث بلغ السوط) يعني: هذه المسافة وزيادة رمية السوط على هذا العدو الذي حصل من الفرس حيث وقف وانتهى، وهذا من باب الإقطاع، ولكن الحديث غير صحيح؛ لأن فيه عبد الله بن عمر بن حفص العمري المكبر، وهو ضعيف.(358/30)
تراجم رجال إسناد حديث: (أقطع الزبير حضر فرسه)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحيث أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد بن خالد].
حماد بن خالد وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عمر].
عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم العمري المكبر، وهو ضعيف، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي جليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(358/31)
جواز طلب أرض من السلطان
يستفاد من أحاديث الباب جواز طلب منح الأراضي من السلطان، لاسيما إذا كان الإنسان صاحب حاجة، وأما إذا كان ليس صاحب حاجة فالأولى له ألا يطلب، وإن أعطي أخذ، وإن لم يعط ترك.(358/32)
شرح سنن أبي داود [359]
جاءت الشريعة بما فيه صلاح العباد والبلاد، ورغبت في إحياء الأرض وعمارتها لتكون وسيلة لعبادة الله التي خلق الخلق من أجلها، ومن أبواب الفقه الإسلامي: إحياء الموات، وهي الأرض الميتة التي ليست مملوكة لأحد، وقد بين العلماء صفة الإحياء وشروطه وأحكامه.(359/1)
إحياء الموات(359/2)
شرح حديث: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في إحياء الموات.
حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب حدثنا أيوب عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق)].
أورد أبو داود (باب إحياء الموات) والموات هي: الأرض الميتة التي ليست مملوكة لأحد، فيحييها إنسان بأن يحفر فيها بئراً أو يزرع زرعاً أو يبني فيها بيتاً أو ما إلى ذلك، فإن هذا يكون به الإحياء ويملكها الإنسان بذلك.
وقد أورد أبو داود حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه -صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد العشرة المبشرين بالجنة- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق)، وهذا فيه إثبات ما ترجم له المصنف من أن الملك يكون بالإحياء، والإحياء يكون بالزرع، أو بالبنيان، أو بحفر بئر، أو غرس الشجر والنخل وما إلى ذلك.
قال: (وليس لعرق ظالم حق) يعني: لو أن إنساناً غرس شيئاً في أرض لا يملكها، فإن ذلك ظلم، وليس له حق، فإما أن يقطع الغرس، ويتخلص منه وتبقى الأرض بيضاء، أو يتفق مع صاحبها على أن تبقى ويعوضه على ما حصل له من تعب، بحسب ما يتفقان عليه.(359/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
محمد بن المثنى العنزي أبو موسى الملقب بـ الزمن وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الوهاب].
عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أيوب].
أيوب بن أبي تميمة السختياني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة عن أبيه].
مر ذكرهما.
[عن سعيد بن زيد].
سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(359/4)
حكم إحياء الأرض بدون إذن السلطان
قال الخطابي: وقال أبو حنيفة: لا يملكها بالإحياء حتى يأذن له السلطان في ذلك، وخالفه صاحباه فقالا بقول عامة العلماء، أي: أن الإنسان إذا حصل منه الإحياء لأرض لا يملكها أحد من الناس، فإنها تكون ملكاً له بذلك، لكن السلطان إذا رأى من المصلحة ألا يمكن الناس من التسابق إلى الأراضي وتملكها والافتتان بها، بسبب حصول المشاكل الكثيرة، وشغل المحاكم فيها، لجشع الناس؛ فله أن يعمل ما فيه المصلحة في ذلك، ولكن إذا تم الإحياء، فإن المحيي يستحق ذلك، ولكن إذا كان السلطان قد منع من الإقدام على الأراضي وتملكها، وحصل الافتتان بين الناس في ذلك؛ فله أن يفعل ما فيه المصلحة للناس.(359/5)
حكم من غرس في أرض غيره بغير إذنه
من غرس في غير أرضه، بغير إذن صاحب الأرض، يؤمر بالقلع أو يتفق مع صاحب الأرض على أن يعوضه، فإذا وافق صاحب الأرض على كونه يعطيه شيئاً مقابل تعبه فلا بأس؛ لأن الإنسان له أن يعطي من حقه ما يشاء، فالمالك إذا أراد أن يعطيه شيئاً مقابل تعبه فلا بأس بهذا، وإذا ما وافق فيجب أن يقلع غرسه ويزال.(359/6)
شرح حديث: (أمر صاحب النخل أن يخرج نخله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري حدثنا عبدة عن محمد -يعني ابن إسحاق - عن يحيى بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) وذكر مثله.
قال: فلقد خبرني الذي حدثني هذا الحديث: (أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غرس أحدهما نخلاً في أرض الآخر، فقضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها، قال: فلقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفئوس، وإنها لنخل عم، حتى أخرجت منها)].
هذا الحديث متصل، والصحابي الذي حدث بهذا الحديث مبهم، وفيه أن رجلين اختصما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه قال: (ليس لعرق ظالم حق)، وأنهم صاروا يقطعون تلك النخل، وإنها لعم، يعني: طويلة.(359/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (أمر صاحب النخل أن يخرج نخله)
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هناد بن السري أبو السري ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبدة].
عبدة بن سليمان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يحيى بن عروة].
يحيى بن عروة وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود.
[عن أبيه].
هو عروة، وقد مر ذكره.(359/8)
شرح حديث: (أمر صاحب النخل أن يخرج نخله) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي حدثنا وهب عن أبيه عن ابن إسحاق بإسناده ومعناه إلا أنه قال عند قوله: مكان الذي حدثني هذا: فقال (رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر ظني أنه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: فأنا رأيت الرجل يضرب في أصول النخل)].
أورد المصنف هنا ما يبين الصحابي الذي حدث بالحديث السابق، قال: وأكثر ظني أنه أبو سعيد الخدري، يعني ذلك الصحابي المبهم، وسواء كان أبا سعيد أو غير أبي سعيد فهو صحابي، والجهالة لا تؤثر فيهم، والمجهول فيهم في حكم المعلوم؛ لأنهم كلهم عدول بتعديل الله لهم وتعديل رسوله صلى الله عليه وسلم.(359/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (أمر صاحب النخل أن يخرج نخله) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي].
أحمد بن سعيد الدارمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا وهب].
وهب بن جرير بن حازم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
جرير بن حازم، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إسحاق بإسناده ومعناه].
وقد تقدم هذا.
[وأكثر ظني أنه أبو سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري هو سعد بن مالك بن سنان رضي الله تعالى عنه، أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(359/10)
شرح حديث: (من أحيا مواتاً فهو أحق به)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن عبدة الآملي حدثنا عبد الله بن عثمان حدثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة عن عروة أنه قال: (أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى أن الأرض أرض الله، والعباد عباد الله، ومن أحيا مواتاً فهو أحق به) جاءنا بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم الذين جاءوا بالصلوات عنه].
أورد أبو داود هذا الحديث عن عروة أنه قال: [(أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الأرض أرض الله، والعباد عباد الله، وأن من أحيا مواتاً فهو أحق به)، ثم قال: جاءنا بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم الذين جاءوا بالصلوات عنه، يعني: الذين حدثونا عن أحكام الصلوات، ونقلوا إلينا أحكام الصلوات وما يتعلق بالصلاة؛ هم الذين نقلوا إلينا المعاملات، وهنا أبهم الصحابة، ولكنه قال: إن الذين حدثونا بهذه الأحاديث المتعلقة بالمعاملات، هم الذين حدثونا عن العبادات، وقال: (أشهد)، فهو يجزم أن هذا الخبر جاء عن الصحابة الذين بلغوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أحكام العبادات والمعاملات.(359/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (من أحيا مواتاً فهو أحق به)
قوله: [حدثنا أحمد بن عبدة الآملي].
أحمد بن عبدة الآملي، صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي.
[حدثنا عبد الله بن عثمان].
عبد الله بن عثمان المروزي، الملقب عبدان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا عبد الله بن المبارك].
عبد الله بن المبارك المروزي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا نافع بن عمر].
نافع بن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي مليكة].
ابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
مر ذكره.(359/12)
شرح حديث: (من أحاط حائطاً على أرض فهي له)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن بشر حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من أحاط حائطاً على أرض فهي له)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحاط حائطاً على أرض فهي له)، وهذا يدل على أن تحجير الأرض وبناء سور عليها يكون به التملك، ولكن الحديث من رواية الحسن عن سمرة، وهو لم يسمع منه إلا حديث العقيقة، وما سوى ذلك فإنه لا يثبت، وهذا منه.
قوله: [(من أحاط حائطاً على أرض فهي له)].
يعني: أنه يملكها بذلك، ولا أدري عن صحة التملك بوجود إحاطة؛ لأن الإحاطة قد تختلف، يمكن للإنسان أن يحجرها بحجارة أو يضع عليها شبك حديد خفيف أو يعمل لها سوراً قصيراً جداً، أما إذا بنى فيها مسكناً؛ فهذا الأمر واضح أن فيه إحياء.(359/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (من أحاط حائطاً على أرض فهي له)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن بشر].
أحمد بن حنبل مر ذكره، ومحمد بن بشر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سعيد عن قتادة].
سعيد بن أبي عروبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
الحسن بن أبي الحسن البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سمرة بن جندب].
هو صحابي رضي الله عنه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(359/14)
شرح أثر تفسير العرق الظالم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك قال: هشام: العرق الظالم أن يغرس الرجل في أرض غيره فيستحقها بذلك، قال مالك: والعرق الظالم كل ما أخذ واحتفر وغرس بغير حق].
أورد المصنف هذين الأثرين في تفسير العرق الظالم الذي جاء في الحديث السابق: (ليس لعرق ظالم حق) فقال هشام: العرق الظالم أن يغرس الرجل في أرض غيره فيستحقها بذلك، يعني: ليستحق الأرض بذلك، فهذا ظلم، والواجب إزالته، إلا إذا اتفق مع صاحب الأرض أن يبقيه.
وقال مالك: العرق الظالم كل ما احتفر وغرس بغير حق، يعني: كونه يغرس في أرض لشخص من الناس غرساً فإن هذا يقال له: عرق ظالم.(359/15)
تراجم رجال إسناد أثر تفسير العرق الظالم
قوله: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح].
ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك].
ابن وهب مر ذكره، ومالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام].
هشام بن عروة مر ذكره.(359/16)
شرح حديث خرص رسول الله لحديقة امرأة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سهل بن بكار حدثنا وهيب بن خالد عن عمرو بن يحيى عن العباس الساعدي -يعني ابن سهل بن سعد - عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أنه قال: (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تبوك، فلما أتى وادي القرى إذ امرأة في حديقة لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: اخرصوا، فخرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشرة أوسق، فقال للمرأة: أحصي ما يخرج منها، فأتينا تبوك، فأهدى ملك أيلة إلى رسول الله صلى عليه وعلى آله وسلم بغلة بيضاء، وكساه بردة، وكتب له -يعني ببحره- قال: فلما أتينا وادي القرى قال للمرأة: كم كان في حديقتك؟ قالت: عشرة أوسق، خرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني متعجل إلى المدينة، فمن أراد منكم أن يتعجل معي فليتعجل)].
أورد المصنف رحمه الله حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، وذكر في هذه الغزوة أنهم مروا بامرأة لها حديقة، وهم ذاهبون إلى تبوك، وذلك في وادي القرى، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (اخرصوا، وخرص عليه الصلاة والسلام عشرة أوسق، وقال عليه الصلاة والسلام لها: أحصي ما يخرج منها، فلما رجعوا من تبوك، سألوها وأخبرت أنها بلغت عشرة أوسق، وهو المقدار الذي خرصه رسول الله صلى الله عليه وسلم).
والترجمة في إحياء الموات، ومطابقة الحديث للترجمة يتعلق بالحديقة، ولعل ذلك لكونها أحيتها، وأن إحيائها يكون بالغرس وبالزرع، فهذا هو مناسبة الحديث للترجمة.
والحديث يدل على أمور: منها: الخرص، وقد سبق أن مر في الزكاة، وأن الإمام يرسل العمال ليخرصوا الزرع والثمر، ثم إذا صار حباً وصار براً وكذلك صار التمر تمراً؛ فإنها تخرج الزكاة منه، وفائدة الخرص هو أن صاحب البستان وصاحب الزرع والثمر يستفيد ويتصرف في ثمرته وفي زرعه، بأن يأكل ويعطي ويمنح ويهب، ويكون مقدار الزكاة معروفاً على حسب الخرص الذي سبق، وبذلك يتمكن أصحاب الأموال من الاستفادة من أموالهم، ومقدار الزكاة يكون في الذمة على حسب الخرص الذي خرص، ففي الحديث دلالة على الخرص، وهو التقدير والحزر، فيقول: هذا الشيء يبلغ كذا وكذا، وهذا الحديث من أوضح الأدلة على جوازه، وعلى أنه سائغ.
والحديث يدل أيضاً على قبول الهدايا من أهل الكتاب؛ لأن صاحب أيلة أهدى للرسول صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء، وأيلة مدينة في جهة الشام على ساحل البحر، فالحديث يدل على قبول الهدايا من الكفار، وسبق أن مر بنا ترجمة في ذلك، وعرفنا أن هذا إنما يكون على حسب المصلحة.
قوله: (وكساه بردة) قيل: إن الذي كسا هو الرسول صلى الله عليه وسلم، ولعل ذلك مقابلة على الهدية.
قوله: (وكتب له ببحره) يعني: أرضه وبلده، بأن يبقى تحت ولايته على ما هو عليه؛ لأنه دفع الجزية، ويقال للبلاد والمدن والقرى: بحار، ويقال للمدينة: بحر، وللقرية: بحر، وقد سبق أن مر بنا الحديث الذي فيه ذكر الأعرابي الذي جاء وقال: إنه مهاجر، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (إن شأن الهجرة عظيم، ولكن اعبد الله من وراء البحار) يعني: من وراء القرى، والمراد بأن يبقى في البادية.
وهذا الحديث أورده البخاري في صحيحه بهذا الإسناد، وفيه زيادة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للناس: (ستهب الليلة ريح شديدة، فلا يقم أحد منكم، ومن كان له بعير فليعقله)، ففعل الناس ذلك إلا رجلاً فحملته الريح وألقته في جبل طي يعني: من تبوك إلى حائل! فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن شيء فوقع طبقاً لما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فهو من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام.
قوله: [(فلما أتينا وادي القرى قال للمرأة: كم كان في حديقتك؟ قالت: عشرة أوسق، خرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)].
معناه أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرص عشرة أوسق، ولما رجعوا من تبوك سألوا المرأة عن المقدار الذي حصل من حديقتها بعد أن تم كيله؛ فكان مطابقاً لخرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق.
قوله: [(فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني متعجل إلى المدينة، فمن أراد منكم أن يتعجل معي فليتعجل)].
أي: أنه سيتقدم، ومن أراد أن يتعجل معه فليفعل، ومن أراد أن يكون على مهله ويتأخر فله ذلك.(359/17)
تراجم رجال إسناد حديث خرص رسول الله لحديقة امرأة
قوله: [حدثنا سهل بن بكار].
سهل بن بكار ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا وهيب بن خالد].
وهيب بن خالد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن يحيى].
عمرو بن يحيى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن العباس الساعدي].
العباس بن سهل الساعدي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي، والعباس هو الذي كان يكنى به سهل بن سعد، ويقال: الصحابة الذين كنوا بأبي العباس اثنان: سهل بن سعد الساعدي وعبد الله بن عباس، هذان اللذان عرفا بكنية أبي العباس.
[عن أبي حميد].
أبو حميد الساعدي هو المنذر صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(359/18)
شرح حديث: (أمر أن تورث دور المهاجرين النساء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الواحد بن غياث حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش عن جامع بن شداد عن كلثوم عن زينب رضي الله عنها: (أنها كانت تفلي رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده امرأة عثمان بن عفان ونساء من المهاجرات، وهن يشتكين منازلهن: أنها تضيق عليهن ويخرجن منها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تورث دور المهاجرين النساء، فمات عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فورثته امرأته داراً بالمدينة)].
أورد أبو داود حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها كانت تفلي رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني تبحث عن القمل في رأسه، فتخرجه، وكان عنده نساء من المهاجرات، ومنهن امرأة عثمان بن عفان، وكن يشتكين أنهن في دور ضيقة، وأنهن يخرجن منها بعد موت أزواجهن، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن تورث دور المهاجرين لنسائهم، وكان لـ ابن مسعود دار فورثتها امرأته، وابن مسعود هو من المهاجرين وهو عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه.
ومناسبة إيراد هذا الحديث في باب إحياء الموات قيل: يحتمل أن يكون المقصود أن المهاجرين أعطوا أراضي، وأنهم بنوها وسكنوا فيها، فصارت ملكاً لهم، وكان إحياؤها ببناء الدور عليها؛ لأنهم منحوا أرضاً بيضاء، فبنوا عليها؛ فصارت ملكاً لهم، وعلى هذا فإن مثل هذا شأنه شأن الميراث، ولا تختص به الزوجات، وإنما يكون لسائر الورثة، وقيل: يحمل ما جاء في هذا الحديث على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن تكون الدور في جملة ميراث النساء، يعني: إذا كان عند الميت دار وأموال أخرى، فعندما يقسم الميراث يكون من نصيب النساء الدور؛ حتى تبقى فيها؛ لضعفها ولحاجتها للسكن، وغيرها من الورثة يعطون من سائر المال، وليس معنى ذلك أن المرأة تستقل بالميراث، والورثة الآخرون لا يصير لهم نصيب؛ لأن الميراث للجميع، سواء كان دوراً أو غير دور، ويحتمل أن هذه الدور كانت مبنية، وأنهم منحوا إياها اختصاصاً أو استفادة من غير أن يكونوا ملكوها، فتكون زوجاتهم تبقى فيها؛ لأنها ليست من جملة الميراث الذي يقسم على الورثة، وإنما شيئاً مكن منه المهاجرون ليستفيدوا منه مع بقاء ملك المانح والمعير له، فتبقى زوجته بعد موته في هذه الدار، وتكون أولى من غيرها.(359/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (أمر أن تورث دور المهاجرين النساء)
قوله: [حدثنا عبد الواحد بن غياث].
عبد الواحد بن غياث صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الواحد بن زياد].
عبد الواحد بن زياد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأعمش].
سليمان بن مهران الكاهلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جامع بن شداد].
جامع بن شداد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن كلثوم].
كلثوم بن علقمة، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن زينب].
زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(359/20)
تابع شرح حديث: (أمر أن تورث دور المهاجرين النساء)
قوله: [(وعنده امرأة عثمان بن عفان)].
هي غير رقية؛ لأنها ماتت في غزوة بدر، وأم كلثوم ماتت أيضاً في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو كانت إحدى بناته لقالت: عنده بنته فلانة، وما قالت: زوجة فلان، والمقصود أن زوجته من المهاجرين، وأنها ممن جاء يشتكي، فهي ليست بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، ورقية ولدت لـ عثمان، وأما أم كلثوم فلم تلد له، وأولاده من غيرهما، فليس له من رقية إلا ولد قيل: اسمه عبد الله، قيل: عمرو، قيل: نقره الديك في عينه فمات بسبب ذلك، وولده أبان بن عثمان عاش مدة طويلة، وهو ليس من بنات النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عثمان يكنى بـ أبي عمرو وبـ أبي عبد الله، وعبد الله هو ابن بنت الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويوجد كتاب مفيد لمعرفة الزوجات وأولاد الزوجات، وهو كتاب الرياض المستطابة فيمن له رواية في الصحيحين من الصحابة للعامري اليمني فإنه يعتني بذكر الأولاد وذكر أمهات الأولاد، وإذا كان رجل عنده عدة زوجات فإنه يذكر أولاده من كل زوجة، فيقول: فلان وفلان من فلانة، وفلان وفلان من فلانة، ومما ذكره من فوائد أن عبد الله بن جعفر تزوج زينب بنت علي، ولما مات علي تزوج عبد الله إحدى نسائه، فجمع بين زينب بنت علي وزوجة أبيها، وهذا جائز.
قوله: [وهن يشتكين منازلهن أنها تضيق عليهن].
يعني: أنهن يخرجن منها بعد وفاة المورث بسبب ضيقها.
قوله: [فمات عبد الله بن مسعود فورثته امرأته داراً بالمدينة].
ابن مسعود رضي الله عنه توفي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بمدة، والمراد حصول التنفيذ لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من جملة الأمثلة لتطبيق الصحابة لما أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن مسعود من المهاجرين، وممن تقدم إسلامه، وهو الذي قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.(359/21)
الأسئلة(359/22)
حكم الصحابي الذي لا يعرف إلا في إسناد ضعيف
السؤال
ما حكم الصحابي الذي ليس له إلا حديث واحد، ولم يصح الإسناد إليه، ولم يذكر في كتب الصحابة؟
الجواب
لا يثبت الحديث عنه إذا ما جاء إلا من طريق ضعيف، ولكن يترضى عنه، فقد يكون صحابياً، والصحبة يترتب عليها الترضي عنهم، والترحم عليهم، والدعاء لهم، واعتقاد أنهم من خير الناس، هذا الذي يترتب عليها، وأما إثبات الصحبة فيحتاج إلى صحة الإسناد.(359/23)
حكم الدراسة عند أهل البدع
السؤال
إني شاب من خارج هذه البلاد، وقد درست العقيدة على أهلها، وتربيت منذ الصغر على العقيدة السلفية ولله الحمد، ومجتمعي يسوده جهل، فهل لي أن آخذ الفقه فقط على رجل اتهم بالبدعة في عقيدته، مع أنني لم أطلع على تلك البدعة، وما رأيتها فيه، والرجل ظاهره الورع وتقوى الله، وله اعتناء بالفقه، ولا يتكلم في أمور العقيدة، وإن صح أنه مبتدع فهو غير داعٍ لبدعته؟
الجواب
إذا أنت ستكون سبباً في هدايته، فهذا شيء طيب، وإذا كان هذا لا يحصل فالأولى لك أن تبحث عمن هو سليم، وتستفيد منه، وتسلم من مجالسة صاحب البدعة.(359/24)
حكم اقتناء كاميرا التصوير
السؤال
أنا شاب اشتريت كاميرا تصوير، وأخفيتها عن والدي، فوجدها وأخذها وقال: الصور حرام، فما رأيكم؟
الجواب
تصوير الآدميين والحيوانات وما له روح لا يجوز، وأما تصوير أشياء لا روح لها كالشجر والبنيان وما إلى ذلك، فهذا لا بأس به، فإذا كان التصوير لشيء محرم فلا يجوز اقتناء الكاميرا، وإذا كان التصوير لشيء مباح تصويره فلا بأس من اقتنائها.(359/25)
شرح سنن أبي داود [360]
أرض الخراج هي الأرض التي اصطلح المسلمون مع الكفار على أن تبقى أراضيهم بأيديهم، ويعطون عليها خراجاً للمسلمين، فلو اشتراها المسلم من الكافر لزمه الخراج كما يلزم الكافر.
ومن الأحكام الشرعية ما يتعلق بزكاة الركاز المستخرج من الأرض، وهو الخمس.(360/1)
الدخول في أرض الخراج(360/2)
شرح أثر معاذ (من عقد الجزية في عنقه فقد برئ مما عليه رسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الدخول في أرض الخراج.
حدثنا هارون بن محمد بن بكار بن بلال أخبرنا محمد بن عيسى -يعني ابن سميع - حدثنا زيد بن واقد قال: حدثني أبو عبد الله عن معاذ رضي الله عنه أنه قال: (من عقد الجزية في عنقه فقد برئ مما عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)].
أورد أبو داود هذه الترجمة (باب ما جاء في الدخول في أرض الخراج) وأرض الخراج هي: الأرض التي اصطلح المسلمون مع الكفار على أن تبقى بأيديهم وفي ملكهم، على أن يعطوا عليها خراجاً للمسلمين، وهي من قبيل الجزية، إلا أنها تكون على الأراضي، والجزية تكون على الرءوس والأشخاص كما مر في الحديث: (عن كل حالم دينار)، أو أن المسلمين يستولون على الأرض ويبقونها بأيديهم كما حصل في أرض خيبر، فكان نصف ثمرها للمسلمين، ونصفه لليهود مقابل عملهم، فهذا النصف الذي حصل للمسلمين يقال له أيضاً: خراج.
والخراج والجزية من قبيل الفيء تصرف في المصالح العامة التي يراها الإمام.
وهناك مؤلفات في الخراج خاصة لثلاثة من العلماء وهي: كتاب الخراج لـ أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وكتاب الخراج لـ يحيى بن آدم الذي يأتي ذكره في الأسانيد، وهو من طبقة شيوخ شيوخ أبي داود، وكتاب الاستخراج في أحكام الخراج لـ ابن رجب الحنبلي، وهذه الثلاثة طبعت في مجلد واحد فصارت كالموسوعة في الخراج؛ لأنها عدة مؤلفات لأشخاص متعددين، وفي أزمانٍ مختلفة، وهناك كتب أخرى تتحدث عن ذلك مثل كتاب الأموال لـ أبي عبيد القاسم بن سلام.
أورد أبو داود هذا الحديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: (من عقد الجزية في عنقه فقد برء مما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قيل: المقصود المسلم، فإنه ليس عليه جزية، ولكن إذا كانت الأرض خراجية، واتفق المسلمون مع صاحبها الكافر على أن يدفع عنها خراجاً كل سنة، ثم اشتراها مسلمٌ منه، فإن الحق يبقى متعلقاً بهذه الأرض، فالمسلم يدفع خراج تلك الأرض، وهو لازمٌ لها أبداً، فإذا اشتراها المسلم فإنه سيدفع هذا الخراج الذي هو مثل الجزية، فيصير كأنه يدفع الجزية، والجزية إنما تكون من الكفار، فهذا الأثر فيه تنبيه أنه لا يشتري المسلم الأرض التي تترتب عليها هذه الآثار، وإذا بيعت الأرض على كافر فهذا لا إشكال فيه؛ لأن كلاً منهما سبيله واحد، ويؤخذ منه الجزية، فإذا أخذ الخراج من هذا أو من هذا فلا إشكال، لكن الإشكال في أخذه من المسلم، فلو اشتراها مسلم للزم ذلك الحق الذي فيها، ويكون قد عرّض نفسه لأن يكون محل الكافر، ويدفع الشيء الذي يدفعه الكافر.
وهذا أثر في حكم المرفوع لأنه قال: برئ مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والألباني ضعف هذا الأثر وقال: ضعيف الإسناد، ولكن ظاهر الإسناد مستقيم، وفيه زيد بن واقد قيل في ترجمته: يقال: إنه لم يسمع من أبي عبد الله الأشعري، وهذا يعني أن روايته مرسلة، لكنه صرح هنا بالتحديث فقال: حدثني أبو عبد الله، وفي كل النسخ المطبوعة من عون المعبود والسنن: حدثني أبو عبد الله، وهذا يفيد الاتصال، وأنه لا إرسال ولا انقطاع، اللهم إلا أن يكون ذِكر (حدثني) هنا خطأ مطبعي، وهذا يتوقف على معرفة النسخ الخطية، فلا أدري علام بنى الشيخ الألباني التضعيف، هل هو من أجل ما ذكر في ترجمة زيد بن واقد أو من أجل شيء آخر، ولكن الإسناد ظاهره مستقيم، ورجاله لا بأس بهم.(360/3)
تراجم رجال إسناد أثر معاذ (من عقد الجزية في عنقه فقد برئ مما عليه رسول الله)
قوله: [حدثنا هارون بن محمد بن بكار بن بلال].
صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا محمد بن عيسى يعني ابن سميع].
صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا زيد بن واقد].
زيد بن واقد وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثني أبو عبد الله الأشعري].
أبو عبد الله الأشعري ثقة، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن معاذ].
معاذ بن جبل رضي الله عنه وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(360/4)
شرح حديث (من أخذ أرضاً بجزيتها فقد استقال هجرته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حيوة بن شريح الحضرمي حدثنا بقية حدثنا عمارة بن أبي الشعثاء حدثني سنان بن قيس حدثني شبيب بن نعيم حدثني يزيد بن خمير حدثني أبو الدرداء رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أخذ أرضاً بجزيتها فقد استقال هجرته، ومن نزع صغار كافر من عنقه فجعله في عنقه فقد ولى الإسلام ظهره).
فسمع مني خالد بن معدان هذا الحديث فقال لي: أشبيب حدثك؟ قلت: نعم، قال: فإذا قدمت فسله فليكتب إليَّ بالحديث، قال: فكتبه له، فلما قدمت سألني خالد بن معدان القرطاس فأعطيته، فلما قرأه ترك ما في يده من الأرضين حين سمع ذلك.
قال أبو داود: هذا يزيد بن خمير اليزني ليس هو صاحب شعبة].
أورد أبو داود هذا الحديث عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ أرضاً بجزيتها فقد استقال هجرته) قال في الشرح: يعني: قرب أن يستقيل هجرته؛ لأنه أخذ شيئاً يلزم الكافر، حيث أخذ الأرض بجزيتها أي: بخراجها، ومعناه: أنه اشترى أرضاً خراجية من كافر فبقي الخراج لازماً له، بالإضافة إلى الزكاة، فيكون كأنه قارب أو قرب أن يستقيل هجرته؛ لأنه اشترى أرضاً يلزم الكفار فيها الخراج.
وقوله: (ومن نزع صغار كافر من عنقه فجعله في عنقه) هذا يوضح المعنى، فإن الجزية تؤخذ من الكافر، ويعطيها عن يدٍ وهو صاغر، وهذا نزع الصغار الذي على هذا الكافر وجعله على عنقه.
وقوله: (فقد ولى الإسلام ظهره) يعني: أنه حصل منه شيء لا يليق إلا بالكفار، ولا يناسب إلا الكفار، وهو دفع الجزية ودفع الخراج.
والحديث ضعيف؛ لأن في إسناده رجلاً مجهولاً.
وفيه: أن خالد بن معدان لما سمع هذا الحديث من سنان بن قيس أراد أن يتحقق منه قال: أحدثك شبيب بهذا الحديث؟ فقال: نعم، فقال: إذا لقيته فليكتب إليَّ بالحديث، فلقيه فكتب له، ولما جاء وأخذ منه الكتاب الذي فيه كتاب شبيب تحقق من ذلك، فترك ما في يده من الأرض التي فيها خراج.
[قال أبو داود: هذا يزيد بن خمير اليزني، وليس صاحب شعبة].
يعني: هذا الذي جاء في الإسناد هو يزيد بن خمير اليزني، وليس صاحب شعبة؛ لأن هذا متقدم، وذاك متأخر، فهناك شخصان بهذا الاسم، والذي جاء في الإسناد هو المتقدم وليس صاحب شعبة المتأخر؛ لأن هذا يروي عن الصحابة مثل أبي الدرداء، وصاحب شعبة متأخر، واسمه أيضاً يزيد بن خمير، وهذا من المتفق والمفترق، وهو نوع من أنواع علوم الحديث، وهو أن تتفق أسماء الرواة وأسماء آبائهم وتختلف أشخاصهم.(360/5)
تراجم رجال إسناد حديث (من أخذ أرضاً بجزيتها فقد استقال هجرته)
قوله: [حدثنا حيوة بن شريح الحضرمي].
حيوة بن شريح الحضرمي ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا بقية].
بقية بن الوليد وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عمارة بن أبي الشعثاء].
عمارة بن أبي الشعثاء وهو مجهول، أخرج له أبو داود.
[حدثني سنان بن قيس].
سنان بن قيس وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[حدثني شبيب بن نعيم].
شبيب بن نعيم وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثني يزيد بن خمير].
يزيد بن خمير وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثني أبو الدرداء].
أبو الدرداء عويمر رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(360/6)
الأرض يحميها الإمام أو الرجل(360/7)
شرح حديث (لا حمى إلا لله ولرسوله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الأرض يحميها الإمام أو الرجل.
حدثنا ابن السرح أخبرني ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا حِمى إلا لله ولرسوله)].
أورد أبو داود باباً في الأرض يحميها الإمام أو الرجل، والمقصود كون الأرض تكون ذات مكان خصب، وفيها عُشب؛ فتحمى بحيث لا يأتي الناس إليها بأغنامهم وإبلهم.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحمي لإبل الصدقة وغيرها من الأشياء العامة، أما سائر الناس فليس لهم أن يحموا شيئاً يعم شأنه، فلا يحمي أحد إلا الإمام أو من يقوم مقام الإمام؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (لا حمى إلا لله ورسوله) والرسول عليه الصلاة والسلام إنما يحمي للمصلحة العامة مثل إبل الصدقة وخيل الجهاد في سبيل الله وغير ذلك.(360/8)
تراجم رجال إسناد حديث (لا حمى إلا لله ولرسوله)
قوله: [حدثنا ابن السرح].
أحمد بن عمرو بن السرح وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أخبرني ابن وهب].
عبد الله بن وهب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس].
يونس بن يزيد الأيلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن عبد الله].
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[عن الصعب بن جثامة].
الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال ابن الشهاب: وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حمى النقيع].
هذا حديث مرسل، وهي أرض يقال لها: النقيع، فيها عشب ومرعى.(360/9)
طريق أخرى لحديث (لا حمى إلا لله ولرسوله) وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عبد الرحمن بن الحارث عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عباس عن الصعب بن جثامة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمى النقيع وقال: (لا حمى إلا لله عز وجل)].
تقدم عن الزهري أنه قال: بلغني أنه حمى النقيع، وهنا ذكر الإسناد الذي يبين اتصاله.
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد العزيز بن محمد].
عبد العزيز بن محمد الدراوردي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن الحارث].
عبد الرحمن بن الحارث وهو صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عباس عن الصعب بن جثامة].
مر ذكرهم.(360/10)
الأسئلة(360/11)
حال حديث (اللهم أجرني من النار سبع مرات)
السؤال
هل ثبت في السنة أن يقال بعد صلاة المغرب: اللهم أجرني من النار سبع مرات؟
الجواب
هو حديث فيه ضعف.(360/12)
حكم بيع البستان قبل بدو صلاح الثمر
السؤال
هل يجوز بيع البستان قبل أن يبدو صلاح الثمر؟
الجواب
إذا كان المقصود بيع الأرض وما فيها، فيجوز، وإذا كان المقصود بيع الثمرة، فالثمرة لا تباع إلا إذا بدا صلاحها.(360/13)
حكم مس الحائض لورق المصحف
السؤال
ما حكم لمس الحائض لورق المصحف؟
الجواب
لا تمس القرآن، ولكن لمس الغلاف وأطراف الورق لا بأس به، والذي لا يجوز للحائض مسه هو القرآن، وهذا الحكم يعم المحدث حدثاً أصغر، فلا يمس القرآن إلا وهو طاهر، ولكن إذا مسه من وراء حائل فلا بأس.(360/14)
وفاة زينب بنت جحش
السؤال
في آخر حديث زينب بنت جحش: أن زوجة عبد الله بن مسعود ورثته داراً بالمدينة، فهل هذا كلام زينب؟
الجواب
ليس من كلام زينب، بل كلام غيرها؛ لأن زينب هي أول نساء النبي صلى الله عليه وسلم وفاةً بعده، وهي التي جاء فيها الحديث الذي فيه: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً) فظنن أن المراد طول اليد الحقيقية، ولما ماتت زينب عرفن أن المقصود من ذلك الإحسان وكثرة العطاء والبذل.(360/15)
حكم أخذ الخراج من الكفار إذا أسلموا
السؤال
إذا أسلم الكفار الذين يؤخذ الخراج من أرضهم، فهل يستمر أخذ الخراج منهم أو يسقط؟
الجواب
يسقط عنهم الخراج، وتبقى عليهم الزكاة فقط، أما المسلم إذا اشتراها من كافر، فعليه أن يجمع بين الزكاة والخراج.(360/16)
حال حديث رد الشمس لعلي رضي الله عنه
السؤال
هل صح أن الشمس ردت لـ علي حتى يصلي العصر؟
الجواب
لم يصح.(360/17)
حكم بيع كتاب (في ظلال القرآن) لسيد قطب
السؤال
صاحب مكتبة عنده كتاب (في ظلال القرآن) لـ سيد قطب وكتب أخرى، هل يجوز له أن يبيع هذا الكتاب؟
الجواب
هذا الكتاب فيه خلط، وفيه خير وفيه شر؛ ولهذا الإنسان الذي يحتاط لنفسه ويحتاط لدينه عليه ألا يبيع مثل هذه الكتب، وإن كان فيه كلام جميل، ولكن فيه خلط، فلا ينبغي للإنسان أن يطلع عليه، ولا أن يشتغل به، ولا يهتم به، والأولى له ألا يبيعه؛ لأن فيه أشياء سيئة في حق بعض الرسل مثل موسى عليه الصلاة والسلام، والإنسان الذي يقرؤه يتعجب منه، ومؤلفه من الكتَّاب وليس من العلماء، والكاتب يكتب وينشئ ويحرك قلمه، ويأتي بكل ما هب ودب.(360/18)
ما جاء في الركاز وما فيه(360/19)
شرح حديث (في الركاز الخمس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الركاز وما فيه.
حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة سمع أنهما سمعا أبا هريرة رضي الله عنه يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في الركاز الخمس)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: (باب في الركاز وما فيه)، الركاز الذي يوجد مدفوناً في الأرض مما ترك في الجاهلية، ويكون فيه الخمس كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يتعب عليه، ولم يتكلف في إخراجه وفي الحصول عليه، وإنما عثر عليه، وكان مدفوناً من وقت الجاهلية، وإذا لم يكن من وقت الجاهلية فإنه يعتبر من اللقطة إذا كان في أرض المسلمين؛ فيعرَّف لمدة سنة ثم بعد ذلك يملكه من وجده، وليس شأنه شأن الركاز.
والركاز هو من دفن الجاهلية، ويكون فيه الخمس؛ لقلة مئونته، ويكون مصرف الخمس مصرف الفيء يعني: يوضع في بيت المال، ويصرف فيما يصرف فيه بيت المال في مصالح المسلمين.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في الركاز الخمس)، وهذا دليل على أن الركاز فيه الخمس، وذلك للحصول عليه بغير تعب وبغير مشقة، فيكون لواجده، ويخرج منه الخمس لبيت المال.(360/20)
تراجم رجال إسناد حديث (في الركاز الخمس)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا سفيان].
سفيان بن عيينة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[وأبي سلمة].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
فالإسناد فيه اثنان من الفقهاء السبعة، أحدهما متفق على عده في الفقهاء السبعة، وهو سعيد بن المسيب، والثاني مختلف في عده، وفيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه أبو سلمة هذا، والثاني: أبو بكر بن عبد الرحمن بن عوف، والثالث: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً رضي الله تعالى عنه وأرضاه.(360/21)
تفسير الحسن للركاز وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن أيوب حدثنا عباد بن العوام عن هشام عن الحسن أنه قال: الركاز الكنز العادي].
أورد المصنف هذا الأثر عن الحسن بن أبي الحسن البصري قال: الركاز هو الكنز العادي، يعني: القديم، وقوله: عادي نسبة إلى عاد، والعادي يعبر به عن الشيء القديم الذي كان في الجاهلية.
قوله: [حدثنا يحيى بن أيوب].
ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأبو داود والنسائي، ولكن ذكر المزي أنه يحيى بن معين كما في تحفة الأشراف، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عباد بن العوام].
عباد بن العوام وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام].
هشام بن حسان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
الحسن بن أبي الحسن البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(360/22)
شرح حديث قصة المقداد مع الجرذ
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا ابن أبي فديك حدثنا الزمعي عن عمته قريبة بنت عبد الله بن وهب عن أمها كريمة بنت المقداد عن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب بن هاشم أنها أخبرتها رضي الله عنها قالت: (ذهب المقداد لحاجته ببقيع الخبخبة، فإذا جرد يخرج من جحر ديناراً، ثم لم يزل يخرج ديناراً ديناراً حتى أخرج سبعة عشر ديناراً، ثم أخرج خرقة حمراء -يعني: فيها دينار- فكانت ثمانية عشر ديناراً، فذهب بها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره وقال له: خذ صدقتها، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هل هويت إلى الجحر؟ قال: لا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بارك الله لك فيها)].
أورد أبو داود حديث ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنها: أن المقداد ذهب إلى بقيع الخبخبة فإذا جُرد وهو فأر كبير خرج من الجحر ومعه دينار، فلم يزل يخرج ديناراً ديناراً حتى بلغت سبعة عشر، ثم أخرج خرقة حمراء وفيها دينار، فصارت ثمانية عشر، فجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (هل أهويت إلى الجحر؟ -يعني: هل استخرجتها منه؟ - فقال: لا، قال: بارك الله لك فيها).
قوله: (هل أهويت؟) قيل: معناه كأنه استخرجه من الأرض فيكون شبيهاً بالركاز، لكن هو في الحقيقة ليس من الركاز في شيء، بل هو من قبيل اللقطة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (بارك الله لك فيها) لا يعني أنه ملكها في الحال، وإنما يعرفها، لا سيما ومعها خرقة حمراء، فهذا يدل على حداثة عهدها وأنها ليست قديمة؛ لأنها لو كانت قديمة لتلفت هذه الخرقة وأكلتها الأرض، فهي من قبيل اللقطة، فعليه أن يعرِّفها، وإذا مضى حول ولم تعرف فإنه يتملكها.
والحديث في إسناده ضعف، فهو غير ثابت، وإذا صح فهو محمول على اللقطة، وليس من قبيل الركاز.(360/23)
تراجم رجال إسناد حديث قصة المقداد مع الجرذ
قوله: [حدثنا جعفر بن مسافر].
جعفر بن مسافر صدوق ربما أخطأ، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن أبي فديك].
هو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الزمعي].
الزمعي هو موسى بن يعقوب صدوق سيئ الحفظ، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عمته قريبة بنت عبد الله بن وهب].
وهي مقبولة، أخرج حديثها أبو داود وابن ماجة.
[عن أمها كريمة بنت المقداد].
وهي ثقة، أخرج لها أبو داود وابن ماجة.
[عن ضباعة بنت الزبير].
وهي صحابية رضي الله عنها، وحديثها أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
والحديث في إسناده صدوق سيئ الحفظ، وفيه أيضاً من هي مقبولة، ولو صح فإنه محمول على اللقطة، ولا علاقة له بالركاز.(360/24)
نبش القبور العادية يكون فيها المال(360/25)
شرح حديث (هذا قبر أبي رغال)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب نبش القبور العادية ليكون فيها المال.
حدثنا يحيى بن معين حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي قال: سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن إسماعيل بن أمية عن بجير بن أبي بجير قال: سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر، فقال رسول الله صلى الله وآله وسلم: (هذا قبر أبي رغال، وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب، إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه، فابتدره الناس فاستخرجوا الغصن)].
أورد أبو داود باب نبش القبور العادية ليكون فيها المال يعني: من أجل استخراج المال الذي فيها.
وقوله: العادية المقصود بذلك: القديمة، التي تنسب إلى عاد، إشارة إلى قدمها، والنبش هو لاستخراج المال الذي فيها.
وهذا الحديث يدل على أن القبر يجوز نبشه إذا كان هناك مصلحة من نبشه، ولكن الحديث ضعيف لا يثبت؛ لأن فيه من هو ضعف، ولكن النبش للمصلحة سائغ، بل قبر المسلم لو سقط فيه مال يجوز نبشه لاستخراج المال الذي سقط فيه؛ لأن إضاعة المال لا تجوز، والاستفادة منه مطلوبة، فلا يترك من أجل أنه ضاع في القبر، بل يجوز نبشه واستخراج هذا المال.(360/26)
تراجم رجال إسناد حديث (هذا قبر أبي رغال)
قوله: [حدثنا يحيى بن معين].
يحيى بن معين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا وهب بن جرير].
وهب بن جرير بن حازم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبي].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن إسماعيل بن أمية].
إسماعيل بن أمية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بجير بن أبي بجير].
وهو مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن عبد الله بن عمرو].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
هذا الحديث فيه هذا الرجل المجهول الذي هو بجير بن أبي بجير، فهو سبب ضعف الحديث.(360/27)
زكاة المعدن
سبق أن قلت في درس مضى: إن المعدن مثل الركاز، والذي يظهر أنه ليس مثله، لأن الركاز ليس فيه تعب ولا مشقة، وأما المعادن ففيها تعب ومشقة، فلا يخرج منها الخمس كما يخرج من الركاز، وإنما يكون حكمها حكم الزرع، فالذي لا يتعب عليه يخرج منه العشر، والذي يتعب عليه يخرج منه نصف العشر، لكن زكاة الذهب والفضة ربع العشر، وليست نصف العشر ولا العشر، فتكون زكاة المعدن مثل زكاة النقدين ربع العشر.(360/28)
شرح سنن أبي داود [361]
لقد حثنا ديننا على الألفة والمحبة والاجتماع، فإذا مرض المسلم استحب للمسلمين أن يزوروه، وأن يتفقدوه، وأن يدعوا له بالشفاء والصحة، وإذا قدِّر عليه الموت ندب للمسلمين أن يغسلوه، وأن يكفنوه، وأن يتبعوا جنازته، وأن يصلوا عليه، وأن يدعوا له بالمغفرة والرحمة والرضوان.
فما أعظمه من دين! يحث على التعاون والمحبة حتى بعد موت المسلم.(361/1)
الأمراض المكفرة للذنوب(361/2)
شرح حديث: (إن المؤمن إذا أصابه السقم ثم أعفاه الله منه كان كفارة لما مضى من ذنوبه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الجنائز: باب الأمراض المكفرة للذنوب.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق حدثني رجل من أهل الشام يقال له: أبو منظور، عن عمه أنه قال: حدثني عمي عن عامر الرامي أخي الخضر، رضي الله عنه -قال أبو داود: قال النفيلي: هو الخضر ولكن كذا قال- قال: (إني لببلادنا إذ رُفعت لنا رايات وألوية، فقلت: ما هذا؟ قالوا: هذا لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتيته وهو تحت شجرة قد بُسط له كساء وهو جالس عليه، وقد اجتمع إليه أصحابه، فجلست إليهم، فذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأسقام فقال: إن المؤمن إذا أصابه السقم ثم أعفاه الله منه كان كفارة لما مضى من ذنوبه، وموعظة له فيما يستقبل، وإن المنافق إذا مرض ثم أعفي كان كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه، فلم يدر لم عقلوه ولم يدر لم أرسلوه، فقال رجل ممن حوله: يا رسول الله! وما الأسقام؟ والله! ما مرضت قط! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قم عنا فلست منا، فبينا نحن عنده إذ أقبل رجل عليه كساء، وفي يده شيء قد التفّ عليه، فقال: يا رسول الله! إني لما رأيتك أقبلتُ إليك، فمررت بغيضة شجر فسمعت فيها أصوات فراخ طائر، فأخذتهن فوضعتهن في كسائي، فجاءت أمهن فاستدارت على رأسي، فكشفت لها عنهن فوقعت عليهن معهن، فلففتهن بكسائي، فهن أولاء معي، قال: ضعهن عنك، فوضعتهن وأبت أمهن إلا لزومهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: أتعجبون لِرُحم أم الأفراخ فراخها؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: فوالذي بعثني بالحق! لله أرحم بعباده من أم الأفراخ بفراخها، ارجع بهن حتى تضعهن من حيث أخذتهن وأمهن معهن، فرجع بهن)].
ثم ذكر أبو داود كتاب الجنائز، والمشهور عند العلماء أنهم يضعونه في آخر كتاب الصلاة؛ لاشتماله على صلاة الجنازة، فغلبوا جانب الصلاة على الأمور الأخرى في الجنائز من التكفين والدفن والتغسيل، فيضعون كتاب الجنائز بجميع أحكامه من صلاة وغيرها في آخر كتاب الصلاة، وأما أبو داود رحمه الله فقد وضعه هنا بعد كتب كثيرة من كتب المعاملات، فلا أدري وجه تأخيره ووضعه في هذا المكان، وهو خلاف المشهور عند العلماء.
والجنائز: جمع جنازة، والمقصود به الميت، سواءً كان ذكراً أو أنثى.
ثم أورد أبو داود باب: الأمراض المكفرة للذنوب، ومعلومٌ أن الأمراض والأسقام والبلاء التي تصيب الإنسان إذا صبر عليها واحتسب فإنها من أسباب تكفير الذنوب كما جاء في أحاديث كثيرة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن إصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن)، وهناك أحاديث كثيرة وردت في هذا تدل على أن الأمراض والأسقام يكفر الله تعالى بها الذنوب والخطايا، ولكن لا يكون هذا إلا مع الصبر والاحتساب.
ثم أورد أبو داود هنا حديثاً ضعيفاً عن عامر الرامي رضي الله تعالى عنه ذكر فيه قصة وهي: أنه كان ببلده فرأى ألوية ورايات، فسأل عنها فأخبر بأنها رايات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخبر أن رجلاً مر بغيضة وفيها أفراخ طائر فحمل هذه الأفراخ، وأن أم هذه الأفراخ لحقته فكشف لها عن أولادها فنزلت معهن، ثم حدث بالحديث الذي فيه ذكر الأمراض.
قوله: (إذ رفعت لنا رايات وألوية) الرايات والألوية قيل: هما بمعنى واحد، وقيل: إن أحدهما أظهر وأعم من الآخر.
قوله: (إن المؤمن إذا أصابه السقم ثم أعفاه الله) يعني: شفاه الله منه، (كان كفارة لما مضى من ذنوبه، وموعظة له فيما يستقبل) أي: من الزمان، ومعنى ذلك أنه يستفيد من ذلك في المستقبل، ويستفيد من ذلك في الماضي، فيستفيد في الماضي بأنه يكفر ما مضى من ذنوبه، ويستفيد مستقبلاً بأن يعتبر ويتعظ، ويكون ذلك حافزاً له إلى أن يعمل صالحاً، وأن يبتعد عن المحرمات.
[(وإن المنافق إذا مرض ثم أعفي كان كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه، فلم يدر لم عقلوه، ولم يدر لم أرسلوه)].
أي: أن المنافق على خلاف المؤمن، فإذا أصابه المرض ثم شفي منه فإنه لا يحرك فيه ساكناً، ولا يلتفت إليه، ولا يعتبر ولا يتعظ به، ويكون كالبعير الذي عقله أهله ثم أطلقوه، فلا يدر لماذا عقلوه، ولا لماذا أطلقوه، أي: أنه لا يستفيد من ذلك في تكفير الذنوب، ولا يتعظ ويعتبر في المستقبل، فهو باقٍ في غيه وضلاله ونفاقه.
قوله: [فقال رجل ممن حوله: يا رسول الله! وما الأسقام والله ما مرضت قط؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قم عنا فلست منا) أي: لست من أهل طريقتنا الذين تحصل لهم تلك الأسقام، فإن فيها التكفير والعبرة والموعظة.
والحديث -كما عرفنا- غير صحيح.
قوله: [فبينما نحن عنده إذا أقبل رجل عليه كساء، وفي يده شيء قد التفَّ عليه، فقال: يا رسول الله! إني لما رأيتك أقبلت عليك، فمررت بغيضة شجر]، الغيضة: هي الشجر الملتف.(361/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن المؤمن إذا أصابه السقم ثم أعفاه الله منه كان كفارة لما مضى من ذنوبه)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن سلمة].
هو محمد بن سلمة الباهلي الحراني، وهو ثقة أخرج له البخاري في (جزء القراءة) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق حدثني رجل من أهل الشام يقال له: أبو منظور].
محمد بن إسحاق مر ذكره، والرجل من الشام الذي يقال له: أبو منظور مجهول، أخرج له أبو داود.
[حدثني عمي].
إذن ففي الحديث واسطتان مبهمتان فهو غير صحيح.
[عن عامر الرام].
وهو صحابي أخرج له أبو داود، وليس له إلا هذا الحديث.
وبعض فقرات هذا الحديث لها شواهد تشهد لها، فمسألة أن الأمراض والأسقام تكفر الذنوب لها شواهد كثيرة، منها: حديث صهيب: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن إصابته ضراء صبر فكان خيراً له) أي: الأسقام وغيرها من الضرر.
وقوله في آخره: (لله أرحم) ثابت، فكون الله أرحم بعباده من المخلوق هذا شيء ثابت في الحديث الصحيح في قصة المرأة التي أخذت طفلها فألصقته بصدرها ترضعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟! قالوا: لا، قال: لله أشد رحمة من هذه بولدها).(361/4)
شرح حديث: (إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي وإبراهيم بن مهدي المصيصي المعنى، قالا: حدثنا أبو المليح عن محمد بن خالد، قال أبو داود: قال إبراهيم بن مهدي: السلمي عن أبيه عن جده، وكانت له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده)، قال أبو داود: زاد ابن نفيل: (ثم صبّره على ذلك) ثم اتفقا: (حتى يبلغه المنزلة التي سبقت من الله تعالى)].
ثم أورد أبو داود حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له اللجلاج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا كانت له منزلة عند الله عز وجل لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده، ثم صبّره على ذلك حتى يبلغ هذه المنزلة) يعني: أن من أسباب رفعة درجته، وعلو منزلته: أن يُبتلى فيصبر، وهذا من علامات السعادة: أن يشكر عند السراء، وأن يصبر عند الضراء، وهو مثل الذي تقدم في كونه يبتلى فيصبر، وهناك أحاديث كثيرة في كون الإنسان ترفع درجته بسبب الأمراض والأسقام وتكفر ذنوبه إذا صبر على ذلك فيرفعه الله تعالى بذلك درجات، ويحط عنه الخطايا والسيئات.
وهذا الحديث صححه الألباني، وفيه بعض المجاهيل كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر فلعل له شواهد.(361/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي وإبراهيم بن مهدي المصيصي].
إبراهيم بن مهدي المصيصي مقبول أخرج له أبو داود.
[حدثنا أبي المليح].
هو أبو المليح الحسن بن عمر الرقي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن محمد بن خالد].
محمد بن خالد مجهول، أخرج له أبو داود.
[قال أبو داود: قال إبراهيم المهدي: السلمي عن أبيه].
يعني أبو داود: أن إبراهيم المهدي -وهو الشيخ الثاني لـ أبي داود - نسب محمد بن خالد، فقال: السلمي، وأما الشيخ الأول وهو عبد الله النفيلي فإنه قال: محمد بن خالد فقط، ولم يقل: السلمي.
[عن أبيه].
أبوه مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن جده].
جده لم يسم، ويقال: إنه اللجلاج، وهو صحابي أخرج له أبو داود.
ولعل وجه إيراد هذا الباب في أول كتاب الجنائز: أن الأمراض هي مقدمة الموت، فهي سبب من أسبابه، وتكون سابقة عليه.(361/6)
إذا كان الرجل يعمل عملاً صالحاً فشغله عنه مرض أو سفر(361/7)
شرح حديث: (إذا كان العبد يعمل عملاً صالحاً فشغله عنه مرض أو سفر كتب له)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب إذا كان الرجل يعمل عملاً صالحاً فشغله عنه مرض أو سفر.
حدثنا محمد بن عيسى ومسدد المعنى، قالا: حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب عن إبراهيم بن عبد الرحمن السكسكي عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير مرة ولا مرتين يقول: (إذا كان العبد يعمل عملاً صالحاً فشغله عنه مرض أو سفر كُتب له كصالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم)].
ثم أورد أبو داود هذه الترجمة: إذا كان الرجل يعمل عملاً صالحاً فشغله عنه مرض أو سفر، أي: أنه يؤجر على ذلك العمل؛ لأنه إنما تركه من أجل السفر أو المرض، فيكتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم.
وأورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير مره ولا مرتين، أي: أنه سمعه منه مراراً.
وهذا الحديث أورده البخاري في كتاب الجهاد، في باب: إذا مرض العبد أو سافر كُتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم، وهذا من فضل الله عز وجل وكرمه وإحسانه، فالإنسان إذا كان ملازماً للعبادة، ثم حال بينه وبينها مرض فلم يأت بها، فإن الله تعالى يثيبه في حال مرضه مثلما كان يثيبه في حال صحته، وكذلك إذا انشغل عنها بسفر فإن الله تعالى يثيبه في حال سفره مثلما كان يثيبه في حال إقامته.
وقد جاء في سياق البخاري: أن أبا بردة حدث به بسببٍ، فقال أبو بردة: اصطحبت أنا ويزيد بن أبي كبشة، فكان يزيد يصوم في السفر، فقلت له: أفطر، فإني سمعت أبا موسى يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم).(361/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا كان العبد يعمل عملاً صالحاً فشغله عنه مرض أو سفر كتب له)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
هو محمد بن عيسى الطباع وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في (الشمائل) والنسائي وابن ماجة.
[ومسدد حدثنا هشيم].
مسدد مر ذكره، وهشيم هو ابن بشير الواسطي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن العوام بن حوشب].
العوام بن حوشب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم بن عبد الرحمن السكسكي].
وهو صدوق ضعيف الحفظ، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[عن أبي بردة].
هو أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
وهو أبو موسى: عبد الله بن قيس الأشعري، صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(361/9)
عيادة النساء(361/10)
شرح حديث: (إن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب عيادة النساء.
حدثنا سهل بن بكار عن أبي عوانة عن عبد الملك بن عمير عن أم العلاء رضي الله عنها أنها قالت: (عادني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا مريضة، فقال: أبشري يا أم العلاء! فإن مرض المسلم يُذهب الله به خطاياه كما تُذهب النار خبَث الذهب والفضة)].
ثم أود أبو داود باب: عيادة النساء، أي: أن هذا من عيادة المريض، وعيادة المريض مستحبة ومشروعة سواء كان المريض من الرجال أو من النساء، فالنساء تزور النساء والرجال يزورون الرجال، وإذا كان هناك محرمية فلا بأس أن تزور النساءُ الرجالَ، وأن يعود الرجال المريضات من النساء ويدعون لهن إذا كان هناك، وإنما المحذور إذا ترتب عليه فتنة وكان هناك خلوة.
وأخرج أبو داود حديث أم العلاء قالت: (عادني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا مريضة، فقال: أبشري يا أم العلاء! فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة)، وهذا فيه أن الأمراض مكفرات للذنوب وذلك مع الصبر والاحتساب، وأما إذا لم يكن هناك صبر ولا احتساب، بل ربما وجد التسخط والتلوم وغير ذلك فإن هذا فيه زيادة الضرر والبلاء والشر على الإنسان، والعياذ بالله.(361/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن قرض المسلم يُذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة)
قوله: [حدثنا سهل بن بكار].
سهل بن بكار ثقة ربما وهم، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[عن أبي عوانة].
هو أبو عوانة وضاح بن عبد الله اليشكري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الملك بن عمير].
عبد الملك بن عمير ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أم العلاء].
أم العلاء صحابية أخرج لها أبو داود.(361/12)
شرح حديث: (أما علمتي يا عائشة! أن المؤمن تصيبه النكبة أو الشوكة فيكفأ بأسوأ عمله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى ح وحدثنا محمد بن بشار حدثنا عثمان بن عمر -قال أبو داود: وهذا لفظ ابن بشار - عن أبي عامر الخزاز عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (قلت: يا رسول الله! إني لأعلم أشد آية في القرآن، قال: أية آية يا عائشة؟! قالت قول الله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123]، قال: أما علمتي يا عائشة أن المؤمن تصيبه النكبة أو الشوكة فيكفأ بأسوأ عمله، ومن حوسب عُذب، قالت: أليس الله يقول: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8]؟ قال: ذاكم العرض يا عائشة! من نوقش الحساب عُذب).
قال أبو داود: وهذا لفظ ابن بشار قال: حدثنا ابن أبي مليكة].
ثم أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (قلت: يا رسول الله! إني لأعلم أشد أية في القرآن؟ قال: أية آية يا عائشة؟ قالت: قول الله تعالى {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123]) أي: أن هذه شديدة، وأن الإنسان إذا عمل سوءاً فإنه يؤاخذ به ويعاقب عليه.
قوله: (فقال: أما علمتي يا عائشة! أن المؤمن تصيبه النكبة أو الشوكة فيكفأ بأسوأ عمله) أي: أن ذلك يكون كفاءً وكفارة عن أسوء عمله، والمراد: أن النكبات والأسقام والمصائب والأمراض يكفر الله تعالى بها السيئات.
قوله: (إنما ذلكم العرض) يعني: العرض على الله عز وجل، وأما العذاب فإنما يكون عند المناقشة، فإذا نوقش الإنسان على كل شيء ولم يتجاوز له عن شيء فإنه يستحق العذاب ولابد إلا أن يعفو الله عز وجل عنه ويصفح، فحينئذٍ يسلم من العذاب بفضل الله عز وجل ومغفرته.
وآخر هذا الحديث قوله: (إنما ذلك العرض، ومن نوقش الحساب عذب) متفق عليه.
ولا أدري ما وجه إدخال حديث عائشة هذا في باب عيادة المريض.(361/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (أما علمتي يا عائشة! أن المؤمن تصيبه النكبة أو الشوكة فيكفأ بأسوأ عمله)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى].
مسدد ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي، ويحيى هو ابن سعيد القطان ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا محمد بن بشار].
محمد بن بشار ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عثمان بن عمر].
عثمان بن عمر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: وهذا لفظ ابن بشار].
قوله: وهذا لفظ ابن بشار، يعني: الشيخ الثاني.
[عن أبي عامر الخزاز].
هو أبو عامر الخزاز صالح بن رستم، وهو صدوق كثير الخطأ، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن أبي مليكة].
هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عائشة].
عائشة هي أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود وهذا لفظ ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي مليكة].
يعني: أنه ساقه على لفظ مسدد، وفيه: عن ابن أبي مليكة، وأما لفظ ابن بشار ففيه قال: حدثنا ابن أبي مليكة.(361/14)
ما جاء في العيادة(361/15)
شرح حديث زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أُبي بن سلول قبل موته
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في العيادة.
حدثنا عبد العزيز بن يحيى حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعود عبد الله بن أُبي في مرضه الذي مات فيه، فلما دخل عليه عرف فيه الموت، قال: قد كنت أنهاك عن حب يهود، قال: فقد أبغضهم سعد بن زرارة فمه؟ فلما مات أتاه ابنه فقال: يا رسول الله! إن عبد الله بن أبي قد مات فأعطني قميصك أكفنه فيه، فنزع رسول صلى الله صلى الله عليه وآله وسلم قميصه فأعطاه إياه)].
أورد أبو داود باب: العيادة، أي: عيادة المريض، وأورد حديث أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعود عبد الله بن أُبي في مرضه الذي مات فيه)، وعبد الله بن أبي هو رأس المنافقين، وكان ابنه من خيار المسلمين.
قوله: (فلما دخل عليه -أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم- عرف فيه الموت، فقال: قد كنت أنهاك عن حب يهود) أي: عن حب اليهود.
قوله: (فقال: قد أبغضهم سعد بن زرارة فمه؟) يعني: فماذا؟ وهذا زيادة في الخبث.
قوله: (فلما مات أتاه ابنه، فقال: يا رسول الله! إن عبد الله بن أُبي قد مات فأعطني قميصك أكفنه فيه)، وكان هذا قبل أن ينزل النهي عن الصلاة على المنافقين، وشهود جنائزهم، والوقوف على قبورهم.(361/16)
تراجم رجال إسناد حديث زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أُبي بن سلول قبل موته
قوله: [حدثنا عبد العزيز بن يحيى].
عبد العزيز بن يحيى صدوق ربما وهم، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن الزهري].
محمد بن سلمة وابن إسحاق مر ذكرهما، والزهري هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
هو عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أسامة بن زيد].
أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما صحابي بن صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(361/17)
عيادة الذمي(361/18)
شرح حديث زيارة النبي صلى الله عليه وسلم للغلام اليهودي في مرض موته
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في عيادة الذمي.
حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد -يعني: ابن زيد - عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أن غلاماً من اليهود كان مرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعوده فقعد عند رأسه، فقال له: (أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم، فأسلم، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)].
أورد أبو داود باب عيادة الذمي، أي: الكافر الذي له ذمة وعهد، وعيادة الذمي أو الكافر إذا كانت فيها مصلحة وفائدة كأن يدعى إلى الإسلام ويرغَّب فيه، فإن ذلك أمرٌ مطلوب، وأما إذا لم يترتب عليها مصلحة، ولا يكون من ورائها فائدة؛ فلا يعاد.
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه (أن غلاماً من اليهود مرض، فأتاه الرسول صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رأسه وقال له: أسلم) يعني: دعاه إلى الإسلام، وهذا يدل على أن الزيارة إذا كانت من أجل دعوته إلى الإسلام، وأنه يرجى من ورائها المصلحة والفائدة، فإن ذلك سائغ، ويشبه هذا مجيئه صلى الله عليه وسلم إلى عمه أبي طالب في مرض موته، فقال له: (يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)، وكان عنده رجلان على ملة عبد المطلب، فذكّراه بدين عبد المطلب، وأن يبقى على ما كان عليه آباؤه، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، ولم يقل: لا إله إلا الله كما طلب منه ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالحاصل أن زيارة الكافر إذا كانت من أجل دعوته إلى الإسلام، ورُجيَ في ذلك المصلحة فلا بأس بها، وأما إذا كانت لغير ذلك، أو لم يظنّ من ورائها مصلحة فلا يُزار.
وقوله: (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار) يعني: أن الله تعالى أنقذه من دخول النار والخلود بسبب إسلامه.
وهذا الحديث يدل على أن الإسلام يعرض على الصغير، فقد يسلم ويحسن إسلامه ولو كان صغيراً، وأن ذلك ليس مقصوراً على الكبار.(361/19)
تراجم رجال إسناد حديث زيارة النبي صلى الله عليه وسلم للغلام اليهودي في مرض موته
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد من الرباعيات، وهي أعلى الأسانيد عند أبي داود، والله تعالى أعلم.(361/20)
الأسئلة(361/21)
شراء الأثاث والبضائع من الجمارك
السؤال
هل يجوز شراء الأثاث والبضائع من الجمارك وبيعها في المحلات، علماً أن هذه البضاعة ليست ملكهم، وإنما هي لبعض التجار الذين لم يدفعوا للجمارك المبلغ المقرر عليهم، فيُعْطَون مدة زمنية مقدارها خمسة عشر يوماً حتى يسددوا فيها، فإن لم يأتوا بالمبلغ في هذه الفترة فإن هذه الأشياء تباع لغيرهم؟
الجواب
ينبغي للإنسان ألا يدخل في مثل هذا، وأن ينزه نفسه عن مثل ذلك؛ لأن فيها شبهة.(361/22)
حكم المال الملقوط الذي لا يدرى هل هو من أموال الجاهلية أو من أموال الإسلام
السؤال
إذا وجد إنسان مالاً في الأرض ولم يعلم هل هو من أموال الجاهلية أو من أموال المسلمين التي تعتبر لقطة، فما العمل؟
الجواب
إذا كان على هذا المال علامة إسلامية فهو من أموال المسلمين، وإذا كان هذا المال قديماً جداً فهو ركاز، وإذا كان في بلاد المسلمين وليس فيه شيء يدل على قدمه فإنه يعتبر من قبيل اللقطة.(361/23)
حراسة الجن للركاز
السؤال
هل صحيح أن الركاز يكون محروساً من الجن كما يزعم بعض الناس، فمن أراد أن يقرب منه ربما يؤذى إلا إذا قرأ القرآن؟
الجواب
لا نعلم لهذا أصلاً.(361/24)
حكم نبش قبور اليهود والنصارى لاستخراج الأموال منها
السؤال
في بلادنا كثير من قبور اليهود والنصارى، وهذه القبور فيها الكثير من الذهب، فهل يجوز أن ننبشها ونأخذ ما فيها من الذهب؟
الجواب
ما الذي يدريك أن فيها كثيراً من الذهب؟ وإذا تؤكد أن فيها ذهباً وأمكن نبشها والحصول عليه فلا بأس بذلك، لكن من الخطأ أن يذهب الإنسان وينبش القبور كلها بحثاً عن الذهب ظناً وتوهماً.
وأما الأموال الآن فقد صارت أوراقاً، وإذا دفنت هذه الأوراق فإن الأرض ستأكلها.(361/25)
حكم نبش القبور لغير مصلحة كطلب رؤية النعيم والعذاب
السؤال
هل يجوز نبش القبور لغير مصلحة دينية كنبشها ليُرى العذاب أو النعيم؟
الجواب
لا، لا تنبش القبور لغير مصلحة، وأما نبشها لرؤية العذاب فهذا غير صحيح، فإنه وإن فعل ذلك فلن يجد عذاباً كما هو مألوف ومعروف في هذه الحياة الدنيا، وربما إن لم يجد ذلك أدى به الأمر إلى إنكار عذاب القبر، ومع أنه وإن لم يره فالمعذب معذب والمنعم منعم وإن لم تر نعيماً ولا عذاباً، لأن أمور البرزخ أمور غيبية وليست كأمور الدنيا وأحوالها، فعلى الإنسان أن يؤمن ويصدق بالغيب، وليعلم أن كل من يستحق العذاب فهو معذب، وأن كل من يستحق النعيم فهو منعم.(361/26)
الصلاة على قبر الميت بعد حين
السؤال
مات أبي قبل ثلاثة أسابيع، وبعد شهر ونصف سأرجع إلى بلدي إن شاء الله، فهل يجوز لي أن أصلي على قبره؟
الجواب
إذا تطاول العهد فلا تصل عليه، ولكن ادعوا له ويكفي.(361/27)
وصف المرض بالخبث
السؤال
هل يجوز أن يقال للمرض: هذا المرض الخبيث؟
الجواب
لا ينبغي أن يوصف بهذا الوصف.(361/28)
كتابة عمل المرأة الحائض حال حيضها
السؤال
هل يكتب للمرأة ما كانت تعمله من الأعمال الصالحة إذا حاضت؟
الجواب
الذي يبدوا أنه ليس لها ذلك؛ لأنه جاء في الحديث أنها: (ناقصة عقل ودين، وأن من نقصان دينها أنها لا تصلي)،فهذا يدل على أن النقص حاصل لها، ولم يأتِ شيء يدل على أنه يكتب لها أجر عملها في حال حيضها، فهذا نقص يحصل لها دون الرجال.(361/29)
تعارض مصلحة العلم مع طاعة الوالد
السؤال
أنا شاب في الثانوية وعلى وشك التخرج منها إن شاء الله، وأرغب في الدراسة في الجامعة الإسلامية، ولكن والدي يقول: لابد أن تسجل في كلية عسكرية، وأنا لا أرغب في ذلك، فهل أدرس في الشريعة أم أنه يجب عليّ أن أطيع أبي؟
الجواب
ينبغي أن تحرص على الدراسة في الشريعة، وأن تسعى لإقناع أبيك وإرضائه، وتجمع بين مصلحتيك.(361/30)
كتاب الشيخ الألباني رحمه الله تعالى (الرد المفحم)
السؤال
ما رأيكم في كتاب (الرد المفحم على الذين أوجبوا تغطية الوجه والكفين للمرأة) وهو للشيخ الألباني رحمه الله؟
الجواب
لم أطلع عليه، ولكني أعرف أن رأي الألباني رحمه الله تعالى هو القول بكشف الوجه والكفين، وهو مخطئ في ذلك، والله يغفر له ويتجاوز عنا وعنه، والحق هو وجوب تغطية المرأة وجهها وكفيها، ومعلوم أن الوجه هو محل زينة المرأة، والشريعة جاءت بإرخاء الثياب حتى تُغطي القدمين، بل وتجر مقدار شبر على الأرض فمن باب أولى أن تأمر بتغطية الوجه؛ لأنه محل الفتنة، ففيه المحاسن والجمال، فالشيخ الألباني رحمة الله عليه نعتقد أنه قد أخطأ في هذا، وأن الصواب مع غيره، وكنت أقول: إن هذا الذي كان الشيخ الألباني رحمه الله يعتني به ويحرص عليه لو كان حقاً فإنه يكون من الحق الذي ينبغي إخفائه، ولو كان يرى أن تغطية الوجه والكقين ليست بواجبة فإنه ينبغي له أن يسكت، ويترك الناس على ما هم عليه من الحرص على السلامة، والبعد عن التكشف، والوقوع في أمور لا تنبعي، فنسأل الله تعالى يغفر له، وأن يتجاوز عنا وعنه.(361/31)
المشي في العيادة(361/32)
شرح حديث جابر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعودني ليس براكب بغلة ولا برذون)
قال المصنف يرحمه الله تعالى: [باب المشي في العيادة.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعودني ليس براكب بغل ولا بِرْذَوْن).
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في المشي في العيادة، أي: أن يعود المريض ماشياً، والعيادة جاءت السنة بها مشياً وركوباً، وهذا الحديث الذي أورده أبو داود رحمه الله عن جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوده ليس براكب بغلاً ولا برذون) يدل على العيادة مشياً، وجاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد سعد بن عبادة راكباً على حمار، فدل هذا على أن عيادة المريض تكون بالذهاب ركوباً أو مشياً، وكل ذلك جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (ليس براكب بغلاً ولا برذون) البغل: هو الحيوان الذي يتولد بين الحمار والفرس، وأما البرذون فهو نوع من أنواع الخيل، وليس من الخيل العربي الأصيل، وإنما هو من غير ذلك، فيقال: إنه من خيل التُرك، أي: أنه ليس من خيل العرب، وهو أقل جودة من الخيل العربي.
وقوله: (كان يعودني) تدل (كان) في الأصل على التكرار، ومعنى ذلك أنها تكررت عيادته، وقد تأتي (كان) لغير التكرار، كما في قول عائشة رضي الله عنها: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت)، فإن قولها: (ولحله قبل أن يطوف بالبيت) لم يحصل إلا مرة واحدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا مرة واحدة، ومع ذلك جاء التعبير (بكان)، إذاً فهي في الغالب تدل على التكرار، وقد تأتي لغير التكرار.(361/33)
تراجم رجال إسناد حديث جابر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعودني ليس براكب بغلة ولا برذون)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرحمن بن مهدي].
عبد الرحمن بن مهدي البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة فقيه وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن المنكدر].
محمد بن المنكدر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، وهو صحابي ابن صحابي، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(361/34)
فضل العيادة على وضوء(361/35)
شرح حديث: (من توضأ فأحسن الوضوء وعاد أخاه المسلم محتسباً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في فضل العيادة على وضوء.
حدثنا محمد بن عوف الطائي حدثنا الربيع بن روح بن خليد حدثنا محمد بن خالد حدثنا الفضل بن دلهم الواسطي عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من توضأ فأحسن الوضوء، وعاد أخاه المسلم محتسباً بُوعِد من جهنم مسيرة سبعين خريفاً)، قلت: يا أبا حمزة! وما الخريف؟ قال: العام.
قال أبو داود: والذي تفرد به البصريون منه: العيادة وهو متوضئ].
ثم أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: باب في فضل العيادة على وضوء، أي: أن الإنسان يعود المريض وهو متوضئ، ولعل ذلك أن الزائر إذا دعا للمريض فإنه يدعو له على طهارة، فيكون ذلك أكمل، وقيل: لأن العيادة قربة وعبادة، فإذا فُعلت على طهارة فإنها تكون أكمل وأتم.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسن الوضوء، وعاد أخاه المسلم محتسباً بُوْعِد من جهنم مسيرة سبعين خريفاً).
قوله: (من توضأ فأحسن الوضوء، وزار أخاه محتسباً) أي: محتسباً الأجر من الله عز وجل، (بوعد بينه وبين جهنم سبعين خريفاً، قيل: وما الخريف؟ قال: العام) أي: سبعين سنة، وهذه مسافة طويلة.
وهذا الحديث يدل على فضل العيادة على وضوء إذا كان ذلك احتساباً للأجر من الله تعالى، فعلى الزائر أن يكون محتسباً يرجو الثواب من الله عز وجل، وليس المقصود من ذلك المجاملة أو رد جميل سابق بدون أن تكون هناك نية، فإن الأعمال لابد فيها من النيات، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمرٍ ما نوى).
وحديث أنس بن مالك هذا في إسناده رجل لين الحديث، فهو إذن ضعيف، إلا أن فضل العيادة والزيارة ثابت في أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما، وأما ذكر الوضوء في العيادة فلا يثبت، فإنه لم يأت إلا في هذا الحديث، وقد ذكرنا أن هذا الحديث ضعيف؛ لأن في سنده الفضل بن دلهم، وهو لين الحديث.(361/36)
تراجم رجال إسناد حديث: (من توضأ فأحسن الوضوء وعاد أخاه المسلم محتسباً)
قوله: [حدثنا محمد بن عوف الطائي].
محمد بن عوف الطائي ثقة أخرج له أبو داود والنسائي في (مسند علي).
[حدثنا الربيع بن الروح بن خليد].
الربيع بن الروح بن خليد ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا محمد بن خالد].
محمد بن خالد الوهبي وهو صدوق أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الفضل بن دلهم الواسطي].
الفضل بن دلهم الواسطي البصري لين الحديث، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن ثابت البناني].
هو ثابت بن أسلم البناني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود: والذي تفرد به البصريون منه: العيادة وهو متوضأ] أي: أن يعود مريضاً وهو على وضوء، فهذا تفرد به البصريون، والبصريون هم أنس وثابت والفضل بن دلهم، ومعلوم أن ثابت بن أسلم البناني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو حجة، ولكن الآفة فيه من الفضل بن دلهم الواسطي البصري، فهو علّة هذا الحديث.(361/37)
شرح حديث: (ما من رجل يعود مريضاً ممسياً إلا خرج معه سبعون ألف ملك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا شعبة عن الحكم عن عبد الله بن نافع عن علي رضي الله عنه أنه قال: (ما من رجل يعود مريضاً ممسياً إلا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة، ومن أتاه مصبحاً خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يمسي، وكان له خريفٌ في الجنة)].
وقال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعناه، لم يذكر الخريف.
قال أبو داود: رواه منصور عن الحكم كما رواه شعبة].
ثم أورد أبو داود حديثين عن علي رضي الله عنه، أحدهما موقوف والآخر مرفوع وكل منهما صحيح، والموقوف له حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال من قبل الرأي، فيكون حكمه حكم الرفع، إذن فقد جاء مرفوعاً صراحة ومرفوعاً حكماً.
قوله: (ما من رجل يعود مريضاً ممسياً إلا وخرج مع سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح) يعني: أن هؤلاء يستغفرون له بالليل كله حتى يصبح، وذلك من حين يخرج ممسياً إلى أن يصبح؛ لقيامه بهذا العمل العظيم، وهو: عيادة المريض، وهذا يدل على فضل عيادة المريض، وعلى الترغيب فيها.
قوله: (وكان له خريفٌ في الجنة) الخريف: هو البستان، أي: يكون له بستان في الجنة.
قوله: (ومن عاد مريضاً مصبحاً خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يمسي، وكان له خريفٌ في الجنة) أي: أنه إن عاده في الليل خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى الصباح، وله خريف في الجنة، وإن عاده في الصباح فإنه يخرج معه سبعون ألفاً من الملائكة يستغفرون له حتى يمسي، وكان له خريفٌ في الجنة.(361/38)
تراجم رجال إسناد حديث: (ما من رجل يعود مريضاً ممسياً إلا خرج معه سبعون ألف ملك)
[حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحكم].
هو الحكم بن عتيبة الكندي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن نافع].
عبد الله بن نافع صدوق أخرج له أبو داود والنسائي في (مسند علي).
[عن علي].
علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، رضي الله تعالى وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
وقوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة، ثقة أخرج له أصحاب الكتب إلا الترمذي والنسائي، فإنما أخرج له في (عمل اليوم والليلة).
[حدثنا أبو معاوية].
هو أبو معاوية محمد بن الخازم الضرير وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى].
الحكم مر ذكره.
وعبد الرحمن بن أبي ليلى ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه].
أي: بمعنى الحديث المتقدم.
[لم يذكر الخريف].
أي: أنّ الخريف إنما جاء في الموقوف، ولم يأت في المرفوع.
[قال أبو داود: رواه منصور عن الحكم كما رواه شعبة] أي: موقوفاً، وعلى كلٍ فالحديث -كما عرفنا- ليس للرأي فيه مجال، فهو في حكم المرفوع.(361/39)
شرح أثر عيادة أبي موسى للحسن بن علي
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن الحكم عن أبي جعفر عبد الله بن نافع أنه قال: وكان نافع غلام الحسن بن علي، قال جاء أبو موسى إلى الحسن بن علي يعوده.
قال أبو داود: وساق معنى حديث شعبة].
ثم ذكر الحديث من طريق أخرى، وفيها: أن أبا موسى جاء الحسن بن علي بن أبي طالب يعوده، ثم ذكر بمعنى حديث شعبة الأول الذي جاء موقوفاً عن علي.(361/40)
تراجم رجال إسناد أثر عيادة أبي موسى الأشعري للحسن بن علي
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة مر ذكره.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن معتمر الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحكم عن أبي جعفر عبد الله بن نافع].
الحكم وأبو جعفر عبد الله بن نافع مر ذكرهما.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واسمه عبد الله بن قيس، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: وساق معنى حديث شعبة] أي: الطريق الأولى التي جاءت عن علي.
[قال أبو داود: أُسند هذا عن علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير وجه صحيح] يعني: من وجوه أخرى متعددة وكلها صحيحة، وقد ذكر هنا واحداً منها، وهي طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر هنا أنه جاء من طرق أخرى مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مع تعددها صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث ليس فيه شيء يدل على مطابقة الترجمة فيما يتعلق بفضل الوضوء، فالتنصيص على ذكر الوضوء لم يأتِ إلا في حديث أنس الذي سبق، وهو لا يصح، وبقاء الإنسان دائماً على طهارة شيء طيب.
وهذا الحديث من مسند الحسن بن علي كما هو المتبادر؛ لأن المزور هو الذي يذكر فضل الزيارة وليس الزائر.
وقد ذكر هذا الحديث من مسند الحسن بن علي الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في (الصحيحة) برقم (1367).(361/41)
العيادة مراراً(361/42)
شرح حديث ضرْب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد لسعد بن معاذ كي يعوده من قريب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في العيادة مراراً.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما أصيب سعد بن معاذ رضي الله عنه يوم الخندق رماه رجل في الأكحل، فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيمة في المسجد؛ ليعوده من قريب].
ثم أورد أبو داود باباً في العيادة مراراً، أي: أن العيادة تتكرر، وأورد فيه حديث عائشة: (أن سعد بن معاذ -وهو سيد الأوس رضي الله عنه- لما أصيب عام الخندق في أكحله -وهو عرق في الذراع- ضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمةً في المسجد؛ ليبقى فيها حتى يزوره) أي: أن يكون قريباً منه حتى تكرر زيارته، وسبق أن مر بنا حديث يشير إلى تكرار الزيارة، وهو حديث جابر: (كان يعودني ماشياً)، وقلنا هناك: إنّ (كان) تفيد في الأصل التكرار، إذن فهو يدل على تكرار الزيارة، وهذا الحديث أيضاً يدل على تكررها، وقد عقد أبو داود الترجمة لهذا.
وهذا الحديث يدلنا أيضاً على أنه يجوز اتخاذ المسجد سكناً للحاجة في فترة من الزمان كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سعد بن معاذ رضي الله عنه.
قوله: [لما أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق رما رجل في الأكحل]، يوم الخندق هو يوم الأحزاب، وقد كان ذلك في السنة الخامسة، والأكحل: هو عرق في الذراع.(361/43)
تراجم رجال إسناد حديث ضرْب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد لسعد بن معاذ كي يعوده من قريب
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن النمير].
عبد الله بن النمير ثقة أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو عروة بن الزبير ثقة فقيه، وهو من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة هي أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(361/44)
العيادة من الرمد(361/45)
شرح حديث: (عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في العيادة من الرمد.
حدثنا عبد الله بن محمد بن النفيلي حدثنا حجاج بن محمد عن يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، قال: (عادني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من وجع كان بعيني)].
ثم أورد أبو داود هذه الترجمة: باب العيادة من الرمد، وهو: وجع العين، وهذا يدل على أن العيادة تكون من أي مرض وليس بلازم أن يكون مخوفاً، أو أن يكون مرضاً خطيراً، فالإنسان قد يبقى في بيته مع أن المرض ليس مخوفاً، فتشرع عيادته وزيارته، فليس الأمر خاصاً بالمرض الشديد، أو بالمرض الخطير، أو بالمرض المخوف، وإنما يكون ذلك في مختلف الأمراض ولو كانت سهلة، وهذا هو الذي ترجم له المصنف، وأورد الحديث فيه.
وأورد أبو داود حديث زيد بن أرقم قال: (عادني رسول الله عليه وسلم من وجع كان بعيني)، وهو دال على ما ترجم له، ودال على أن مختلف الأمراض يعاد المريض فيها، وقال بعض أهل العلم: إن عيادة العيادة من الرمد ليست كغيرها، وعللوا ذلك: بأن الرجل الذي فيه رمد إذا زاره الناس فإنهم ينظرون في بيته وهو لا يراهم.
قال ابن القيم رحمه الله: وهذا غير صحيح؛ لأن الأعمى يزار إذا مرض مع أنه لا يرى، وكذلك زار الرسول صلى الله عليه وسلم جابراً وهو مغمىً عليه وليس له شعور ولا إحساس، فالحديث والسنة ثبتت في ذلك، فلا يصار إلى هذه التعاليل والاحتمالات بعد ثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(361/46)
تراجم رجال إسناد حديث (عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا حجاج بن محمد].
هو عن حجاج بن محمد المصيصي الأعور، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يونس بن أبي إسحاق].
يونس بن أبي إسحاق صدوق يهم قليلاً، أخرج له البخاري في (جزء القراءة) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي إسحاق].
هو أبو إسحاق السبيعي عمرو بن عبد الله الهمداني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن أرقم].
زيد بن أرقم رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرج له أصحاب الكتب الستة.(361/47)
شرح سنن أبي داود [362]
لقد نهى الشرع عن الورود على البلاد التي أصابها داء الطاعون، كما نهى من كان فيها أن يخرج منها حال الوباء، وهذا النهي فيه من الفوائد والحكم الشيء الكثير من الناحية العقدية والطبية.
كما نهى الشرع العبد المسلم أن يتمنى الموت أو يدعو به؛ لأنه لا يدري على ماذا سيقدم عليه إن مات، فربما يفر من مصائب الدنيا إلى ما هو أشد وأعظم من ذلك من عذاب القبر وفتنته، فعلى المسلم أن يصلح عمله وأن يتوب إلى الله، فالحسنات يذهبن السيئات.(362/1)
الخروج من الطاعون(362/2)
شرح حديث (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الخروج من الطاعون.
حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إذا سمعتم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، يعني: الطاعون)].
ثم أورد أبو داود باب: الخروج من الطاعون، يعني: بسبب الطاعون، وهو وباء يكون مثل الموت العام، فيخرج من بلده فرراً من الطاعون، فهذا هو المقصود من الترجمة، والخروج من أجل الطاعون غير سائغ؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا وقع الطاعون في بلد فمن كان خارج البلد فلا يقدم عليه، ومن كان في داخل البلد فلا يخرج فراراً منه).
والمقصود: أنه لا يخرج فراراً من الطاعون، وأما إذا جاء لمهمة وانتهت مهمته ويريد أن يخرج إلى بلده وليس قصده الفرار، فلا بأس بذلك، ولا يلزمه أن يبقى؛ لأن المنع إنما هو من أجل الفرار منه، وأما الخروج من بلد الطاعون لانتهاء المهمة مثلاً فلا بأس به، فالتقييد بقوله: (فراراً منه) يدل على أنه ليس كل خروج يكون ممنوعاً منه، وإنما الخروج الممنوع هو ما كان على وجه الفرار.
فإذا كان الإنسان خارج البلد فلا يقدم عليه؛ لئلا يعرض نفسه للخطر، وعليه أن يأخذ بأسباب النجاة، ويتوقى أسباب الهلاك والضرر، وإذا كان في ذلك البلد فإنه لا يخرج منه، وإنما يتوكل على الله عز وجل ويبقى، ثم قد يترتب على خروجه إذا كان مصاباً بذلك المرض أن ينشره إلى الآخرين الذين لم يكونوا في بلد الطاعون.
وهذا الحديث جاء عن عبد الرحمن بن عوف، وجاء عن غيره الصحابة.
ولتحديث عبد الرحمن بن عوف بهذا قصة، وهي: أن عمر رضي الله عنه لما وقع الطاعون في الشام كان في طريقه إلى الشام، وفي أثناء الطريق لقيه أبو عبيدة وأمراء الأجناد، فكان منهم من يطلب منه أن يقدم على الشام وأن يواصل السير إليها؛ حتى ينتهي من مهمته، وبعضهم يرى أنه لا يدخلها؛ لئلا يعرض نفسه ومن معه من الصحابة للهلاك، فما كان من عمر إلا أن استشار المهاجرين الذين كانوا متواجدين معه، فانقسموا قسمين: فمنهم من يقول: ارجع، ومنهم من يقول: ادخل، ثم استشار الأنصار، فانقسموا قسمين: فمنهم من يقول: ادخل، ومنهم من يقول: ارجع، ثم استشار مُسلمة الفتح، فكان رأيهم أن يرجع، فكان الرأي الذي استقر عليه هو أن يرجع، فقال رضي الله عنه: (إني مصبح على ظهر) أي: إني في الصباح سأركب بعيري وأرجع إلى المدينة، وكان أبو عبيدة رضي الله عنه ممن يرى الدخول وعدم الرجوع، فقال لـ عمر: أتفر من قدر الله يا أمير المؤمنين؟! فقال عمر رضي الله عنه: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نفر من قدر الله إلى قدر الله، وكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه موجوداً، ولكنه لم يكن موجوداً حال المحاورة، ولعله ذهب في مهمة، فلما جاء وعلم بالمحاورة التي حصلت قال رضي الله عنه: عندي فيها علمٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الحديث، فبلغ ذلك عمر فَسُر وفرِح بذلك؛ لأن اجتهاده وقع مطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا يعتبر من موافقة عمر للحق، فقد كان يقول القول في أمر ما فيكون مطابقاً للسنة، وكان ذلك في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، فقد أشار في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بأمور متعددة فنزل الوحي مطابقاً لمشورته، وحصل أيضاً بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث، لكن هذا لا يعني أن يكون الحق معه دائماً، وأن كل قول يقوله ويخالف غيره فإن الحق معه، ففي بعض المسائل قد يكون الحق مع غيره، ومن ذلك: مسألة ميراث الجد مع الإخوة، فإن أبا بكر وبعض الصحابة رضي الله عنهم يرون أنه أب، لذلك فإنه يحجب الإخوة فلا يرثون معه، وكان عمر رضي الله عنه يرى أنهم يشتركون مع الجد في الميراث، والدليل مع أبي بكر رضي الله عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)، والجد أولى من الإخوة.
أن كل مرض يكون فيه موت عام فحكمه حكم الطاعون، والنهي في الحديث للتحريم.
إذا منع ولي الأمر من الخروج من هذا البلد الذي وقع فيه هذا الوباء فيستجاب قوله، ولو كان للشخص عمل في تلك البلد ثم انتهى عمله وأراد الخروج منها لا فراراً منه، فإنه يستجيب لكلام ولي الأمر ويبقى.
والمنع من الخروج من بلد الوباء مقيد بالفرار من الوباء، ولا يقال: إنه خرج مخرج الغالب، بل هو تعليل لا يهمل، ولا يقال أيضاً: إن النهي هو لتفادي العدوى، فإذا كان الرجل في بلد الطاعون وليس فيه عدوى فإنه يجوز له أن يفر من تلك البلد، لأنا نقول: إن العدوى -كما هو معلوم- بالنسبة للبلد الذي فيه الوباء أمرها واضح؛ لأن المرض موجود، ولكن ليس موجوداً في كل أحد، فقد يكون شخص منهم سلم من الطاعون، وليس كل من في البلد قد أصابهم الطاعون، فلا يخرج منه أحد فراراً بحجة أنه لم يصب بالعدوى، فقد يكون مصاباً وهو لا يدري، وعلى كل فالتعليل الشرعي قد منع الخروج فراراً منه، وإلا فإنه لا يلزم أن يكون كل الذين في البلد قد أصابهم الطاعون، وإذا خرج قد لا يكون فيه عدوى، ولكن يحتمل أن يكون فيه هذا المرض.
وقد مات أبي عبيدة رضي الله عنه في طاعون عامواس، وقد كان من أمراء الأجناد الذين كانوا في الشام، وقد جاءوا لاستقبال عمر ومرافقته، فلا أدري هل رجع أو لا، فكونه توفي في طاعون عمواس هذا معروف، ولكن هل هو طاعون عمواس الذي كان في خلافة عمر في سنة ثمانِ عشرة؟ لا أدري.(362/3)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه)
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو القعنبي عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ثقة أخرج له أصحاب الكتب إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب].
عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل].
عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل ثقة أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن عبد الله بن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[عن عبد الرحمن بن عوف].
عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه صحابي، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(362/4)
الدعاء للمريض بالشفاء عند العيادة(362/5)
شرح حديث (اللهم اشف سعداً وأسلم له هجرته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: الدعاء للمريض بالشفاء عند العيادة.
حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا الجعيد عن عائشة بنت سعد أن أباها رضي الله عنه قال: اشتكيت بمكة فجاءني النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعودني، ووضع يده على جبهتي، ثم مسح صدري وبطني، ثم قال: (اللهم! اشفِ سعداً وأسلم له هجرته)].
ثم أورد أبو داود باب: الدعاء للمريض بالشفاء عند العيادة، أي: أنه يدعو له عندما يعوده.
وعيادة المريض تشتمل على فوائد منها: أن يدعو له، وأنه يؤنسه ويدخل السرور عليه.
وأورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه أنه قال: (اشتكيت بمكة فجاءني النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعودني، ووضع يده على جبهتي، ثم مسح صدري وبطني وقال: اللهم اشفِ سعداً!)، وهذا هو محل الشاهد منه، فإنه دعا له بالشفاء.
وقوله: (وأتم هجرته) أي أنه دعا له بألا يموت في البلد الذي هاجر منه، وقد كانوا يحرصون على ألا يموتوا في دار هجرتهم التي تركوها من أجل الله، ولهذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المهاجرين في الحج أن يغادروا مكة، وألا يبقوا فيها بعد الحج.(362/6)
تراجم رجال إسناد حديث (اللهم اشف سعداً وأسلم له هجرته)
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هو هارون بن عبد الله الحمال البغدادي ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا مكي بن إبراهيم].
مكي بن إبراهيم ثقة من كبار شيوخ البخاري، ومن الذين أخرج عنهم الثلاثيات، وعدد ثلاثيات البخاري في الصحيح اثنان وعشرون حديثاً، وقد رواها عن عدد قليل من شيوخه، منهم: مكي بن إبراهيم هذا، ومنهم أبو عاصم النبيل، فشيوخه في الثلاثيات قليلون جداً.
[عن الجعيد].
الجعيد، ويقال له: الجعد بن عبد الرحمن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن عائشة بنت سعد].
هي عائشة بنت سعد بنت بن أبي وقاص، وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن أبيها].
وهو سعد بن أبي وقاص رضي تعالى الله عنه، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
قوله: [ووضع يده على جبهتي، ثم مسح صدري وبطني] فيه دليل على أن الإنسان إذا زار مريضاً فإنه يُشرع له أن يلمس جسده وأن يمسح عليه؛ لأن هذا فيه إيناس له، وليس هذا خاصاً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم للبركة التي فيه، بل يجوز لكل أحد أن يلمس جسد المريض، وأن يلمس جبهته لينظر هل هناك حرارة أو لا؛ حتى يطمئن ويرتاح.
وأما بالنسبة للبركة والتبرك فهذا لا يكون إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يمسح من أجل تحصيل البركة، وأما إذا كان من أجل الاطمئنان على المريض وسلامته فلا بأس بذلك لكل أحد.(362/7)
شرح حديث (أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن كثير، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أبي وائل، عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني).
قال سفيان: والعاني: الأسير].
ثم أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أطعموا الجائع) أي: الجائع المحتاج إلى الطعام، فهذا مأمورٌ بإطعامه.
وقوله: (وعودوا المريض) وهذا أمر بالعيادة، لذلك من أهل العلم من قال: إنها واجبة على الكفاية بناء على هذا الحديث، ومنهم من قال: إنها مستحبة، وقوله: (وفكوا العاني) العاني: هو الأسير، فالأسير يفك إذا أسَره الكفار، وذلك إما بدفع مقابل لتخليصه منهم، أو بمقابلته بمأسور من الكفار، أي: على سبيل المبادلة.
وليس في الحديث شيء يدل على الترجمة السابقة، وهي: الدعاء بالشفاء عند عيادة المريض.
[قال سفيان: والعاني: الأسير].
وقد ذكرنا هذا.
والأوامر في قوله: (أطعموا الجائع، وعودوا المريض) للوجوب، ولكنه على الكفاية، فإذا وجد من يقوم بذلك حصل المقصود.
وأما عيادة المريض فكما قلت إن العلماء قد اختلفوا في ذلك: فمنهم من قال: إنها مستحبة، ومنهم من قال: إنها فرض كفاية كإطعام الجائع، وفك العاني.(362/8)
تراجم رجال إسناد حديث (أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني)
قوله: [حدثنا ابن كثير].
هو: محمد بن كثير، وقد مر ذكره.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد الثوري، وقد مر ذكره.
[عن منصور عن أبي وائل].
منصور مر ذكره، وأبو وائل هو: شقيق بن سلمة ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي موسى الأشعري].
أبو موسى الأشعري مر ذكره.(362/9)
الدعاء للمريض عند العيادة(362/10)
شرح حديث (من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: الدعاء للمريض عند العيادة.
حدثنا الربيع بن يحيى حدثنا شعبة حدثنا يزيد أبو خالد عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرار: أسال الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: باب الدعاء للمريض عند عيادته، والدعاء ههنا مطلق، وأما في الترجمة السابقة فهو مقيد بالشفاء، والأحاديث التي أوردها أبو داود في هذه الترجمة هي في الدعاء بالشفاء، فهي صالحة في الترجمة السابقة، والترجمة هنا ذكرها مطلقة، والأولى أن يأتي بها مقيدة، أو أن يأتي بأحاديث تدل على الترجمة، حتى تناسب المقام والترجمة.
قوله: (من عاد مريضاً لم يحضر أجله) أي: أن المريض إذا حضر أجله فلا ينفع فيه أي سبب من الأسباب.
وقوله: (إلا شفاه الله) هذا إذا كان المريض لم يحضر أجله، وأما إذا كان المريض قد حضر أجله فلا ينفع فيه ذلك، ولا يحصل له الشفاء من ذلك المرض، بل يحصل له الموت الذي قدر الله تعالى أن يكون له، فلا يستأخر عن وقته ولا يتقدم.
ويجوز أن يقول هذا الدعاء سراً وجهراً، فكل ذلك سائغ، ولكن إذا أسمع المريض فهو الأولى والأفضل؛ لأن فيه إدخال السرور عليه، وليس هناك دليل يدل على أن المريض يدعو بهذا الدعاء لنفسه، لكن له أن يسأل الله الشفاء.(362/11)
تراجم رجال إسناد حديث (من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات)
قوله: [حدثنا الربيع بن يحيى].
الربيع بن يحيى صدوق له أوهام، أخرج له البخاري وأبو داود.
[حدثنا شعبة حدثنا يزيد أبو خالد].
هو يزيد أبو خالد الدهلاني صدوق يخطئ كثيراً، أخرج له أصحاب السنن.
[عن المنهال بن عمرو].
المنهال بن عمرو صدوق ربما وهم، أخرج له البخاري، وأصحاب السنن.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.(362/12)
شرح حديث (إذا جاء الرجل يعود مريضاً فليقل: اللهم اشف عبدك!)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يزيد بن خالد الرملي حدثنا ابن وهب عن حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحُبلي عن ابن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا جاء الرجل يعود مريضاً فليقل: اللهم اشف عبدك؛ ينكأ لك عدواً، أو يمشي لك إلى جنازة).
قال أبو داود: وقال ابن السرح: إلى صلاة].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (إذا جاء الرجل يعود مريضاً فليقل: اللهم! اشف عبدك؛ ينكأ لك عدواً، ويمشي لك إلى جنازة)، وفي رواية: (إلى صلاة) أي: أنه يمشي إلى الصلاة على جنازة، وهذا الحديث يدل على الدعاء للمريض بالشفاء.
قوله: (ينكأ لك) أي: يحدث منه نكاية في العدو، وذلك إذا شفاه الله ثم حصل منه جهاد أو غير ذلك، فإنه يفيد في النكاية في العدو.(362/13)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا جاء الرجل يعود مريضاً فليقل: اللهم اشف عبدك!)
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد الرملي].
يزيد بن خالد الرملي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حيي بن عبد الله].
حيي بن عبد الله صدوق يهم، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبي عبد الرحمن الحُبلي].
هو: عبد الله بن يزيد، وهو ثقة، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأصحاب السنن والحُبلي هذا سبق أن مر ذكره، وقد كنا نبحث عن ضبطه: هل هو الحُبُلِّي أو الحُبُلِي، ولم نهتدِ إلى شيء.
[عن ابن عمرو].
هو: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: وقال: ابن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.(362/14)
الأسئلة(362/15)
تدريس ووعظ النساء من وراء حجاب
السؤال
خطيب مسجد طُلب منه تدريس ووعظ النساء في مكان خاص بالمسجد، وهو يستنصح الشيخ في طريقة تدريسهن: هل يدرسهن من وراء حجاب أم كفاحاً، مع العلم أن معظم الحاضرات كاشفات الوجه، لاقتناعهن بجواز ذلك، وهل التدريس من وراء حجاب كان من هدي السلف؟
الجواب
النظر إلى النساء غير سائغ، ونظر النساء إلى الرجال غير سائغ أيضاً، وقد جاء في الحديث: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)، والتدريس من وراء حجاب هو الذي يحصل به المقصود، ويندفع به المحذور، وأما الشيء الذي كان عليه السلف فما أذكر شيئاً الآن، ولكن الذي نعلم أن السلف كانوا على أحسن حال، وعلى أتم احتياط، وكانوا أحرص الناس على كل خير، ولا شك أن كل شيءٍ فيه بُعد عن المحذور فهم أولى الناس به، وأحق الناس باتباعه، فعلى هذا الأخ أن يدرس النساء من وراء حجاب.(362/16)
الأطفال ودخول الجنة
السؤال
إذا مات الطفل قبل سن البلوغ فهل يجوز لنا أن نقول بأنه من أهل الجنة، وإذا جاز فهل هو خاص بأولاد المسلمين أم أنه يشمل أولاد المسلمين وأولاد الكفار؟
الجواب
بالنسبة لأولاد المسلمين هم تبع لآبائهم، لكن لا يجزم لهم بذلك؛ لأنه جاء في بعض الأحاديث ما يدل على المنع من ذلك، فقد قالت عائشة رضي الله عنها عن طفل مات: عصفور من عصافير الجنة، فمنع الرسول من ذلك.
وأما بالنسبة لأولاد الكفار، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما سئل عن أولاد الكفار قال: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، وهذا يفيد بأنهم يُمتحَنون يوم القيامة، وإلا فإنهم تابعون لآبائهم في الحكم من ناحية الوراثة وغيرها، وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) يعني: فآباؤهم يصرفونهم عن الفطرة، ويكونون على ما كان عليه آبائهم إلا أنهم غير مكلفين، فيحصل لهم إذاً امتحان يوم القيامة، وعلى ضوء نتيجة ذلك الامتحان يكون مآلهم: إما إلى جنة، وإما إلى نار، ومثلهم في ذلك الذين لم تبلغهم الدعوة، فإنهم يمتحنون يوم القيامة، وقد ذكر العلماء ذلك عند قوله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].(362/17)
حكم عيادة المبتدع
السؤال
هل تجوز عيادة المبتدع والكافر؟
الجواب
سبق أن مر بنا عيادة الذمي في الدرس الماضي، وأنه إذا كان من وراءها مصلحة كأن يُدعى إلى الإسلام فإنها سائغة، وإذا لم يكن من ورائها مصلحة فإنه لا يزار، هذا بالنسبة للكافر، وأما بالنسبة للمبتدع فإذا جلس معه وبين له منهج أهل السنة والجماعة، وأنه يجب عليه أن يترك ما هو عليه من بدعة؛ ليختم له بخير، فلا شك أن هذا أمرٌ مناسب ومرغوب فيه.(362/18)
طهور إن شاء الله: دعاء أم إخبار؟
السؤال
قوله صلى الله عليه وسلم للمريض: (لا بأس طهور إن شاء الله)، هل هو من قبيل الدعاء أو أنه إخبار؟
الجواب
يبدو أنه إخبار، وأن التطهير يحصل إن شاء الله.(362/19)
العمرة عن الأب الحي
السؤال
هل يجوز للولد أن يعتمر عن أبيه الحي الذي لا يستطيع ذلك؛ لعدم توفر المال، مع العلم أن الولد يسكن في المملكة؟
الجواب
لا يُعتمر ولا يُحج عن أحدٍ حي إلا في حالتين اثنتين: إحداهما: أن يكون هرماً كبيراً لا يستطيع السفر ولا الركوب.
والثانية: أن يكون مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه.
فإذا كان من هذين الصنفين فإنه يعتمر عنه ويحج، وإذا لم يكن كذلك فإنه لا يحج عنه ولا يعتمر وهو حي، وإنما إذا تمكن الابن من أن يدفع المال لأبيه وأمكنه أن يحج بنفسه فعل، وإلا فإنه لا يجب عليه الحج، ولا يحج عنه وهو حي إلا في الحالتين اللتين أشرت إليهما.(362/20)
إعطاء المدرس للطلاب درجات زائدة عن حقوقهم
السؤال
هل يجوز للمدرس أن يعطي طلابه درجات زائدة عن حقهم؛ وذلك لمساعدتهم على النجاح أو التفوق؟
الجواب
على المدرس أن يعطي كل ذي حقٍ حقه، ولا يعطي أحداً شيئاً لا يستحقه.(362/21)
مصافحة المرأة لخالها وتقبيله إياها
السؤال
خال زوجتي عندما يزورنا يقبل زوجتي مع المصافحة، وأنا أتضايق من ذلك؛ لكونه شاباً وزوجتي شابه؟
الجواب
خال زوجتك محرم من محارمها، لكن إذا خيف من ذلك فتنة فلا يصلح أن يكون هناك تقبيل، ولكن يُكتفى بالمصافحة، وينبغي أن تقول لها ألا تمكنه من ذلك، وإنما تمد يدها إليه من بعد، ولا تقرب وجهها إليه ليقبلها أو تقبله.(362/22)
كراهية تمني الموت(362/23)
شرح حديث (لا يدعونّ أحدكم بالموت لضر نزل به)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [بابٌ: في كراهية تمني الموت.
حدثنا بشر بن هلال، حدثنا عبد الوارث عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يدعُونّ أحدكم بالموت لضرٍ نزل به، ولكن ليقل: اللهم! أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في كراهية تمني الموت، أي: أن الإنسان لا يتمنى الموت من أجل أمرٍ حصل له؛ لأنه لا يدري ماذا يحصل له بعد الموت، فقد يحصل له بعد الموت أمر أخطر وأعظم من الضر الذي قد حصل له، فينتقل من شديد إلى أشد، ومن خطير إلى أخطر، فلا يتمنين أحد الموت في أمرٍ يصيبه، ولكن إذا حصل له ضرّ فإن له أن يسأل الله عز وجل الحياة على خير، أو الموت على خير، كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه في هذا الباب: (لا يدعون أحدكم بالموت لضرٍ نزل به، ولكن ليقل: اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي) أي: أنه يسأل الله تعالى الخير في الحياة أو في الممات، فإن كانت الحياة خيراً له فإنه يحييه، وإن كان الوفاة خيراً له فإنه يميته، أي: إن كانت الحياة خيراً له فإنه يبقى ليكتسب عملاً صالحاً، وإن كانت الوفاة خيراً له فإنه ينتقل إلى ذلك الذي هو خير له.
وهذا الدعاء عظيم في كون الإنسان يسأل الله عز وجل ما هو الخير له في الدنيا والآخرة، وهذا من كمال بيانه ونصحه صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الدعاء فيه تحصيل الخير إما في الدنيا وإما في الآخرة، وكذلك في زمن وجود الفتن والبلاء فإنه ينبغي له أن يسأل بهذه الطريقة؛ لأن الإنسان لا يدرِ ما هو الخير له، فلا يدري هل الحياة خيراً له أو أن الوفاة خير له، ولكنه يسأل الله عز وجل ما فيه الخير له في الدنيا والآخرة.(362/24)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يدعونّ أحدكم بالموت لضر نزل به)
قوله: [حدثنا بشر بن هلال].
بشر بن هلال ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الوارث].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد العزيز].
هو عبد العزيز بن صهيب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث رباعي، وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود، ففيه بين أبي داود وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أشخاص.(362/25)
شرح حديث (لا يدعون أحدكم بالموت لضر نزل به) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو داود -يعني: الطيالسي - حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يتمنين أحدكم الموت)، فذكر مثله].
ثم أورد أبو داود رحمه الله الحديث من طريق أخرى، وفيه: (لا يتمنين أحدكم الموت)، فهنا تمني وفي الأول دعاء، ومن المعلوم أن التمني قد يكون بدون دعاء، وقد يكون مع الدعاء، فقد يتمنى شيئاً ويطلبه، وقد يتمنى الشيء في نفسه ويحبه ويوده ولا يطلبه، فالإنسان لا يتمنى الموت ولكنه يسأل الله عز وجل الخير له: فإن كان في الحياة فيحييه، وإن كان في الممات فيميته.(362/26)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يدعون أحدكم بالموت لضر نزل به) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
محمد بن بشار هو الملقب بندار البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو داود الطيالسي].
هو سليمان بن داود ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس رضي الله عنه صحابي، وقد مره ذكره في الحديث الذي قبل هذا.
وقد يتمنى بعض الناس المرض لما في المرض من تكفير الذنوب، ولا ينبغي له ذلك، ولكن يسأل الله العافية، ويعمل الأعمال الصالحة، فالحسنات يذهبن السيئات.(362/27)
موت الفجأة(362/28)
شرح حديث (موت الفجأة أخذة أسف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في موت الفجأة.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة عن منصور عن تميم بن سلمة أو سعد بن عبيدة عن عبيد بن خالد السلمي رضي الله عنه -رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم- قال مرةً: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال مرةً: عن عبيد أنه قال: (موت الفجأة أخذت أسف)].
ثم أورد أبو داود هذه الترجمة: باب موت الفجأة، والفجأة هي البغتة، ومعنى ذلك أن الإنسان يموت بغتة، أي: أن الموت يداهمه فيموت إما بسكتة قلبية، أو أنه يقتل ويرمى، أو أنه يحصل له حادث فيموت في الحال، فهذا كله يقال له: موت فجأة، فالإنسان لم يحصل له مرض بحيث يوصي إذا كان يحتاج إلى أن يوصي، ولهذا جاء في الحديث الذي مر بنا في الوصية أن الإنسان يبادر بها ولا يؤخرها؛ لأنه قد يحصل له موت فجأة، فعليه أن يوصي ويبين ما له وما عليه؛ حتى لا يأتيه الموت فجأة، فلا يُعرف ما له وما عليه، والمهم في الأمر أن يُعرف ما عليه، فموت الفجأة هو موت البغتة، ويترتب عليه أن الإنسان ما يكون عنده مجال حتى يستعد ويتهيأ، وأما إذا أصابه مرض فلعله أن يرجع إلى الله عز وجل ويستفيد من ذلك، وأما إذا كان صحيحاً ساهياً لاهياً غافلاً معرضاً فقد يأتيه الموت فجأة فلا يمكنه أن يتدارك، وقد يموت الإنسان فجأة وهو على عملٍ صالح، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل)، وذلك أن العمل القليل إذا داوم عليه الإنسان فإنه إذا مات في أي وقت فإنه يموت وهو على حالة طيبة حسنة، وكم من الناس من أهل الفضل والصلاح من يحصل له ذلك، وممن مات فجأة عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما، فإنه مات فجأة ما بين مكة والمدينة، فالموت يحصل للمقبل وللاهي، ولكن إذا حصل للإنسان مرض فإنه يذكر الله عز وجل ويستغفره، ويرجع ويتوب إليه، فإن ذلك فيه خير له، وإذا حصل له الموت فجأة فقد يموت وهو على حالة سيئة والعياذ بالله، ولا يمكنه أن يتدارك، ولا أن يذكر الله عز وجل.
وأورد أبو داود حديث عبيد بن خالد السلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (موت الفجأة أخذت أسفٍ)، وسواء كان أسف أو آسف، فالآسِف هو الغضبان، والأسَف هو الغضَب كما قال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:55] أي: أغضبونا، وليس كل من مات فجأة فهو مغضوب عليه، فقد يموت الإنسان فجأة وهو على خير، لكن الفاجر والفاسق والكافر فهؤلاء هم الذين ينطبق في حقهم هذا، فهؤلاء يموتون ولا يمكنهم أن يتداركوا، وأما من مات وهو على استقامة وحالة طيبة فلا يقال: إنه مغضوب عليه، كما عرفنا أن من أهل الصلاح والتقى من يموت فجأة كما حصل لـ عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما.
وقد جاء حديث وفيه كلام: (أن موت الفجأة رحمة للمسلم أو راحة للمسلم، وأخذت أسفٍ للفاجر)، ولكن فيه كلاماً.(362/29)
تراجم رجال إسناد حديث (موت الفجأة أخذة أسف)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
هو شعبة بن الحجاج، وقد مر ذكره.
[عن منصور].
هو منصور بن المعتمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[تميم بن سلمة].
تميم بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أو سعد بن عبيدة].
سعد بن عبيدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد بن خالد السلمي].
عبيد بن خالد السلمي رضي الله عنه صحابي، أخرج له أبو داود والنسائي.
وقد قال مرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال مرةً أخرى: عن عبيد، وهذا يعني أنه جاء عنه مرفوعاً، وجاء عنه موقوفاً.(362/30)
فضل من مات في الطاعون(362/31)
شرح حديث (الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في فضل من مات في الطاعون.
حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك عن عتيك بن الحارث بن عتيك -وهو جد عبد الله بن عبد الله أبو أمه- أنه أخبره أن عمه جابر بن عتيك أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غُلب، فصاح به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يجبه، فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (غُلبنا عليك يا أبا الربيع!)، فصاح النسوة وبكين، فجعل ابن عتيك يسكتهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دعهن، فإذا وجب فلا تبكين باكية، قالوا: وما الوجوب يا رسول الله؟! قال: الموت، قالت ابنته: والله! إن كنت لأرجو أن تكون شهيداً، فإنك كنت قد قضيت جهازك، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عز وجل قد أوقع أجره على قدر نيته، وما تعدون الشهادة؟ قالوا: القتل في سبيل الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الشهادة سبعٌ سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمْعٍ شهيدة)].
ثم أورد أبو داود باب: فضل من مات في الطاعون، أي: أن ذلك يعتبر شهادة، وهو من قبيل الشهادة من حيث الحُكم، فحكمه حكم الشهيد، وقد بوب النووي رحمه الله في (رياض الصالحين) باباً، فقال: باب ذكر جماعة من الشهداء في ثواب الآخرة، ويغسلون ويصلى عليهم، ويعني: أنهم شهداء من حيث ثواب الآخرة وليسوا شهداء من ناحية أنهم قتلوا في سبيل الله، وأنهم يأتون يوم القيامة اللون لون الدم، والريح ريح المسك، فهذا هو شهيد المعركة الذي قتل في سبيل الله، وهو الأصل والمعروف في الشهادة، وهناك أناس جُعل حكمهم حكم الشهداء من حيث أنهم يثابون ثواباً عظيماً في الآخرة، كما أن للشهداء أجراً عظيماً، وإن لم تكن أحكامهم كأحكام الشهداء الذين لا يغسلون، ويدفنون في ثيابهم، ويدفنون في دمائهم؛ ليكون ذلك علامة لهم يوم القيامة، كما جاء في الحديث: (اللون لون الدم، والريحة ريح المسك).
ذكر أبو داود رحمه الله حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غلب، فصاح به)، هذا يدل على مشروعية عيادة المريض.
قوله: (فوجده قد غلب) يعني: أنه على وشك الموت، أو أنه قد فارق الحياة، (فصاح به) أي: كلمه ليعرف هل ما زال على قيد الحياة (وقال: غُلِبْنَا عليك يا أبا الربيع!) يعني: أنك قد فتَّ، وخرجت روحكَ قبل أن ندرككَ حياً.
قوله: (فصاح النسوة وبكين) أي: لما سمعن صوت الرسول يخاطبه ويناديه صِحن وبكين.
قوله: (فجعل ابن عتيك) وهو الراوي، (يُسكتهن).
قوله: (دعهن، فإذا وجب فلا تبكين باكية) أي: إذا حصل الموت فلا تبكين باكية، أي: لا تنح نائحة، فالمقصود بالبكاء هنا النياحة، وأما البكاء الذي هو دمع العين وحزن القلب فهذا لا بأس به، وقد حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام لما مات ابنه إبراهيم: (إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم! لمحزونون)، فالبكاء الذي هو دمع العين، وحزن القلب إنما هو رحمة من الله عز وجل، ولا يملكه الإنسان، وأما أن يرفع صوته فهذا هو الأمر محرم، وقد تبرأ الرسول صلى الله عليه وسلم من الصالقة والحالقة والشاقة، والصالقة هي التي ترفع صوتها عند المصيبة، وهذا شيءٍ يستطيع الإنسان أن يتركه، وأما مجرد البكاء ودمع العين وحزن القلب فهذا لا يملكه الإنسان، وإنما يأتي من غير اختيار، وهو معذور في ذلك.
قوله: (وما الوجوب يا رسول الله! قال: الموت)، أي: إذا حصل موت.
قوله: (قالت ابنته: والله! إن كنت لأرجو أن تكون شهيداً، فإنك كنت قد قضيت جهازك) أي: أنها تثني عليه، وقولها: (إني أرجو أن تكون شهيداً) تعني: شهيد المعركة، (لأنك قد قضيت جهازك) تعني: أنه قد استعد وتجهز للقتال، فمات قبل أن يخرج، وقولها هذا فيه دليل على عدم الجزم بالشهادة.
قوله: (إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته)، فقد نوى الخروج في سبيل الله، فتجهز وتهيأ وأعد لذلك العدة، فأوقع الله أجره على قدر نيته، وهذا يدلنا على أن النية لها أثر عظيم، فهو يموت دون أن يفعله ومع ذلك، فإنه يحصل الأجر على ذلك، وقد جاء في الحديث الذي في غزوة تبوك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في الطريق قال: (إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر) أي: أنهم بنياتهم مع المجاهدين في سبيل الله، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله في فقه غزوة تبوك: إن الجهاد يكون بالنية، ويكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بالمال وبالنفس، فالإنسان يجاهد بنفسه وبماله وبنيته وبلسانه، فكل هذه يقع بها الجهاد، وهذا الحديث يدل على ذلك، فقد أوقع الله أجره على قدر نيته، والحديث الذي ذكرناه آنفاً في غزوة تبوك يدل على أنهم مجاهدون بنياتههم وبقلوبهم المتعلقة والحريصة على الخروج في سبيل الله، ولكنهم لم يستطيعوا ذلك، ولم يقدر النبي على تمكينهم منه؛ لكونه لم يجد الظهر الذي يحقق به رغبتهم في ذلك، ولهذا قال الله فيهم: {إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92].
قوله: (وما تعدون الشهادة فيكم؟ قالوا: القتل في سبيل الله) فهذا هو الذي يعرفونه أن الشهادة هي القتل في سبيل الله، فإذا قتل الإنسان في سبيل الله، أو مات في سبيل الله وكان غازياً وخارجاً لقتال الكفار فهذا هو الذي يكون في سبيل الله.
قوله: (الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله)، ثم ذكر هذه السبع، (المطعون شهيد) وهذا هو محل الشاهد، فالمطعون هو الذي أصابه الطاعون ومات به.
قوله: (والغريق شهيد) وهو الذي مات بالغرق.
قوله: (وصاحب ذات الجنب شهيد)، وذات الجنب مرضٌ يكون في الجنب، ويموت بسببه الإنسان.
قوله: (والمبطون شهيد) وهو الذي أصابه المرض في بطنه، كأن يكون فيه إسهال ومات بسبب ذلك، فإنه يكون شهيداً، لأنه مات من وجع البطن.
قوله: (وصاحب الحريق شهيد) يعني: الذي مات في الحريق.
قوله: (والذي يموت تحت الهدم شهيد) يعني: هو الذي يسقط عليه بنيان أو جدار فيموت بسبب ذلك.
قوله: (والمرأة تموت بجمعٍ شهيدة) يعني: في الولادة، أي: أنها تموت وفي بطنها ولد، أو تموت في نفاسها، فإنها تكون شهيدة.(362/32)
تراجم رجال إسناد حديث (الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد)
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك].
عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عتيك بن الحارث بن عتيك].
عتيك بن الحارث بن عتيك مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن عمه جابر بن عتيك].
عمه جابر بن عتيك رضي الله عنه صحابي، أخرج له أبو داود والنسائي.(362/33)
الأسئلة(362/34)
حكم تسمية من مات بحادث سيارة شهيداً
السؤال
من مات في حادث سيارة هل يعد من الشهداء؟
الجواب
من حيث إنه يموت بغتة أو قريباً من البغتة فهو من جنس ذلك، لكن قد يحصل ذلك للإنسان بسبب خطأه، فالإنسان قد يسوق سيارة فيسرع سرعة شديدة فيقتل نفسه بذلك، فمثل ذلك كيف يقال: إنه شهيد؟! وعلى كلٍ فالله تعالى أعلم، لكنه إذا كان متسبباً في ذلك، أو عمل عملاً وتصرف تصرفاً ترتب عليه موته فهذا -والعياذ بالله- أمره ليس بهين.(362/35)
السرطان ودخوله في داء البطن
السؤال
هل يدخل من يموت بالسرطان في المبطون؟
الجواب
لا؛ لأن السرطان لا يكون دائماً في البطن، فقد يكون في غير البطن.(362/36)
حكم العمليات الاستشهادية
السؤال
من يموت في العمليات الاستشهادية هل يقال عنه شهيد؟
الجواب
ليس هناك عمليات استشهادية!! وهذه العمليات الموجودة إنما هي عمليات انتحارية، وهي قتل للنفس.(362/37)
أخذ المريض من أظفاره وعانته(362/38)
شرح أثر خبيب في استعارته الموسى كي يستحد بها عندما أجمع المشركون على قتله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [بابٌ: المريض يؤخذ من أظفاره وعانته، أو يأخذ من أظفاره وعانته.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن سعد أخبرنا ابن شهاب أخبرني عمر بن جارية الثقفي حليف بني زهرة، وكان من أصحاب أبي هريرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيباً رضي الله عنه، وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيراً حتى أجمعوا لقتله، فاستعار من ابنة الحارث موسىً يستحد بها فأعارته، فدرج بُنيٌّ لها وهي غافلة، حتى أتته فوجدته مُخْلياً وهو على فخذه والموسى بيده، ففزعت فزعة عرفها فيها، فقال: أتخشين أن أقتله؟! ما كنت لأفعل ذلك.
قال أبو داود: روى هذه القصة شعيب بن أبي حمزة عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عياض أن ابنة الحارث أخبرته أنهم حين اجتمعوا -يعني: لقتله- استعار منها موسىً يستحد بها فأعارته].
أورد أبو داود هذه الترجمة: بابٌ: في المريض يؤخذ من أظفاره وعانته، ولفظه: (يؤخذ) هنا مبينة للمجهول، أي: يأخذ غيره، وهذا -كما هو معلوم- إذا تولى ذلك غيره ممن يجوز له الإطلاع على عورته، ومعلومٌ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك).
وليس في هذه الترجمة ولا في الحديث ما يدل على أن هناك مريضاً، ولكن لما كان خبيب رضي الله تعالى عنه وأرضاه قد أُجمع على قتله طلب موسىً ليستحد به، فهو مثل المريض؛ لأنه على وشك الموت، فإنهم يستعدون لقتله، والمريض أيضاً يُخشى عليه أن يموت، فمن أجل ذلك أورد هذه الترجمة وأتى بهذا الحديث.
قوله: (ابتاع بنو الحارث بن نوفل خبيباً) أي: اشتروه، فقد كان في سرية فجاء جماعة من بني لحيان فأخذوهم وباعوا خبيباً، وكان أولئك حريصين عليه؛ لأنه قتل أباهم يوم بدر، فهم يريدون أن يقتلوه وأن ينتقموا منه، فحبسوه وأجمعوا وعزموا على قتله، فطلب منهم موسى ليستحد به فأعطوه، وكان هناك طفل صغير درج وذهب من أهله، أي: أنه كان يحبوا، أو كان يمشي كمشي الطفل الصغير، حتى وصل إلى خبيب، فأخذه وجعله على فخذه؛ ليداعبه أو ليؤانسه، وكانت الموسى بيده، فنظرت ابنة الحارث فوجدت الطفل على فخذه والموسى بيده ففزعت فزعاً شديداً عُرف في وجهها، فقال لها خبيب: أتخافين أن أقتله؟ لست بفاعل، فقد ظنت عندما رأت الموس بيده والطفل على رجله أنه يريد أن يقتله، وإنما طلب خبيب الموسى ليستحد به.
وإنما ألحقه أبو داود رحمه الله بالمريض لأنه في معناه، فهذا على وشك الموت، ولعله أراد من الاستحداد أن يكون نظيفاً، وأن تكون تلك الأشياء التي يطلب إزالتها قد أزيلت منه قبل أن يموت، ولهذا ذكر بعض أهل العلم أن الإنسان إذا مات وله أظفار، أو كان شاربه طويلاً، وكذلك له عانة تحتاج إلى نظافة فإنه يقص شاربه، وتقلم أظفاره، ومن أهل العلم من لم ير ذلك.
ولعل قائلاً أن يقول: لو كانت الترجمة مبنية للمعلوم لكان أحسن، فأقول: قد يكون المريض لا يستطيع أن يفعل ذلك، فإذا أخذه من له حق جواز النظر إليه فلا بأس بذلك.(362/39)
تراجم رجال إسناد أثر خبيب في استعارته الموسى كي يستحد بها عندما أجمع المشركون على قتله
[حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إبراهيم بن سعد].
إبراهيم بن سعد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن شهاب].
هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر بن الجارية الثقفي].
هو عمر بن أبي سفيان بن الجارية الثقفي، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، وهو أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً.
[قال أبو داود: روى هذه القصة شعيب بن أبي حمزة عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عياض أن أبنة الحارث أخبرته أنهم حين اجتمعوا -يعني: لقتله- استعار منها موسى يستحد بها فأعارته] وهذه طريق أخرى، وقد رواها شعيب بن أبي حمزة وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، عن الزهري وقد مر ذكره، أخبرني عبيد الله بن عياض وهو ثقة، أخرج له البخاري في (خلق العباد) ولم يُذكر أبو داود في المخرجين له؛ لأن هذه الرواية معلقة، وقد جرت العادة أنه إذا روى عن الراوي تعليقاً فإنه لا يذكر أن أبا داود أخرج لها، وإنما يقال: إن أبا داود أخرج إذا أخرج له متصلاً.
[أن ابنة الحارث أخبرته].
ابنة الحارث صحابية، أخرج لها البخاري.(362/40)
استشكال وجوابه
ولعل قائلاً أن يقول: أما كان خبيب رضي الله عنه يستطيع أن يفادي نفسه بهذا الطفل؟ فأقول: هو لم يرد هذا، ثم كيف يفادي نفسه بهذا الطفل البريء؟ فهذا لا يفعله صحابي، بل ولا يفعله من عنده إيمان.
تنبيه: قال بعض أهل العلم ببدعية حلق عانة الميت، وتقليم أظافره، وحفّ شاربه، وأما أنا فلا أعلم شيئاً يدل على أن هذا من البدع، وهو محتمل للجواز؛ لأن هذه الأشياء مستكرهة في الحياة فكونها تزال عنه بعد الممات فإنه من كمال تطهيره وتنظيفه، فقد يكون له وجه، والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم، فالحنابلة والشافعية يقولون بالجواز، والمالكية والحنفية يقولون بالمنع.(362/41)
شرح سنن أبي داود [363]
لقد حثنا الشرع أن نحسن الظن بالله عند الموت؛ فنرجو رحمة الله وعفوه وكرمه، فهو العفو الغفور الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، وشرع لنا أن نغمض عيني الإنسان إذا مات، وفيه تجميل لصورته التي قد تغيرت بعد خروج الروح، وشرع للمسلم أن يسترجع عند المصيبة، فكل شيء من الله، وكل شيء لله، وكل شيء راجع إلى الله، ثم بعد الموت يشرع تغطية الميت وتسجيته.(363/1)
استحباب حسن الظن بالله عند الموت(363/2)
شرح حديث (لا يموت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يستحب من حسن الظن بالله عند الموت.
حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول قبل موته بثلاث، قال: (لا يموت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة: باب ما يستحب من حسن الظن بالله عند الموت، وهذه الترجمة يرادُ بها أن الإنسان عند موته يُحسن الظن بالله، فيظن أنه تعالى يرحمه ويتجاوز عنه، فيرجو رحمته ويأمُل مغفرته، فلا ييئس ولا يقنط من رحمة الله، بل عليه أن يحسن الظن بالله، وقد جاء في الحديث: (إن الله عند ظن عبده به)، فليؤمل وليرج منه خيراً، فهذا هو المقصود من الترجمة.
ومن أهل العلم من قال: على الإنسان أن يكون خائفاً وراجياً دائماً وأبداً، ولكنه عند الموت يغلب جانب الرجاء، وقبل ذلك يغلب جانب الخوف؛ لأنه إذا غلب جانب الخوف عمل، ولكنه عند الموت لا يغلب جانب الخوف؛ حتى لا ييئس ويقنط من رحمة الله، وإنما يغلب جانب الرجاء، قالوا: والخوف والرجاء للإنسان كالجناحين للطائر، فلا يستقيم طيران الطائر إلا بسلامتهما، وإذا اختل أحد الجناحين اختل الطيران، فشأن المسلم مع الخوف والرجاء كشأن الطائر الذي له جناحان، إلا أنه عند الموت يغلِّب جانب الرجاء؛ حتى لا ييئس من رحمة الله، ويُحسن الظن بالله عز وجل، فإن الله تعالى عند ظن عبده به، كما جاء ذلك في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث قال).
أي: أنه قال هذا في مرض موته، (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)، وهذا فيه دلالة على أن الإنسان يحسن الظن بالله تعالى عند موته، فيرجو رحمة الله، ويرجو أن الله تعالى يتجاوز عنه، وأنه يغفر له، ففضله واسع، ورحمته وسعت كل شيءٍ، ولا يغلّب جانب الخوف؛ حتى لا يؤدي به ذلك إلى القنوط واليأس من رحمة الله.
وقال الخطابي: إن المقصود بذلك أنه يُحسن العمل الذي يكون سبباً في هذا الذي يرجوه ويؤمله، وقد ذكر النووي أن الخطابي شذّ وانفرد بذلك، وأن القول الصحيح هو أن على الإنسان عند موته أن يرجو رحمة الله، وأنه يُحسن الظن به، وليس المقصود من ذلك أن الإنسان يعمل في حال الصحة والسعة من أجل أن يكون ذلك سبباً لرجاء الله وحسن الظن به.
نعم هو مطلوب من الإنسان أن يكون دائماً وأبداً عاملاً للأعمال الصالحة، لكن الحديث جاء في أن الإنسان يُحسن الظن بالله عز وجل.
فالحاصل: أن النووي قال عن هذا القول: إنه شذوذ، أو إن الخطابي شذ فقال هذه المقالة، مع أن هذا الذي قاله مطلوب، لكن ليس هو المقصود من الحديث.(363/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يموت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس].
عيسى بن يونس بن أبي إسحاق ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سفيان].
هو طلحة بن نافع صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(363/4)
تطهير ثياب الميت عند الموت(363/5)
شرح حديث (إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما يستحب من تطهير ثياب الميت عند الموت.
حدثنا الحسن بن علي حدثنا ابن أبي مريم أخبرنا يحيى بن أيوب عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنه لما حضره الموت دعا بثياب جُدُد فلبسها، ثم قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها)].
ثم أورد أبو داود باب ما يستحب من تطهير ثياب الميت عند الموت، يعني: أن ثيابه تكون طاهرة، فمن أهل العلم من قال: إن هذا الذي أخذ به أبو سعيد على ظاهره، وأن المقصود من ذلك الثياب الحقيقية.
ومنهم من قال: إن المقصود بطهارة الثياب هنا: أن تكون أعمال الإنسان طيبة، كما قال الله عز وجل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]، فقد فسرها كثير من المفسرين بتطهير الأعمال، أي: وأعمالك فطهر، فإن العمل الطاهر هو الذي يقربك من الله عز وجل، وهو الذي يرفع من شأنك.
وقالوا: إن هذا لا يراد به حُسن الكفن؛ لأن هذه الثياب التي يلبسها في مرض موته ستخلع منه إذا مات ولا يكفن فيها، وإنما يكفن في ثياب بيض ونظيفة.
ثم إن الناس يحشرون حفاةً عراة غرلاً، فهذه الثياب لا يبقى لها وجود.
ومن أهل العلم من قال: يمكن أن يبعثوا وعليهم الثياب، ثم يحصل العري بعد ذلك عند الحشر.
وكون الإنسان يكون في ثياب نظيفة وطاهرة ليس فيها قذر ويموت وهو على حالة طيبة فهذا أمر طيب.
وقوله: (يبعث في ثيابه التي مات فيها) لا ينافي أنهم يحشرون حفاةً عراة غرلاً، فهو يبعث بالشيء الذي مات فيه، ويحصل العُري بعد ذلك، كما جاء في حديث عائشة: (يحشر الناس حفاةً عراة غرلا).(363/6)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الميت يبعث في ثيابه التي مات فيها)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا ابن أبي مريم].
هو سعيد بن أبي مريم، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا يحيى بن أيوب].
يحيى بن أيوب صدوق ربما أخطأ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن الهاد].
هو: يزيد بن عبد الله بن الهاد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إبراهيم].
محمد بن إبراهيم التيمي ثقة أخرج أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد الخدري].
هو سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(363/7)
ما يستحب قوله عند الميت من كلام(363/8)
شرح حديث (إذا حضرتم الميت فقولوا خيراً فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما يستحب أن يقال عند الميت من الكلام.
[حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا حضرتم الميّت فقولوا خيراً؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون)، فلما مات أبو سلمة رضي الله عنه قلت: يا رسول الله! ما أقول؟ قال: (قولي: اللهم! اغفر له، وأعقبنا عقبى صالحة)، قالت: فأعقبني تعالى به محمداً صلى الله عليه وآله وسلم].
ثم أورد أبو داود باب: ما يستحب من الكلام عند الميت، أي: أن يتكلم بخير ولا يتكلم بشر، فلا يدعى بالويل والثبور مثلاً؛ لأن الملائكة يؤمنون على ما يقولون، فإن قالوا خيراً أمنوا عليه، وإن قالوا شراً أمنوا عليه، فلا يقال عند الميت إلا ما فيه خير، لأن ذلك يعود بالمضرة على صاحبه، فالملائكة تؤمن على ما يقول الإنسان من خير أو شر.
وأورد أبو داود حديث أم سلمة رضي الله عنها، قالت: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إذا حضرتم الميت فقولوا خيراً؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) يعني: ولا تقولوا شراً؛ لأنهم أيضاً يؤمنون على ما تقولون.
قوله: (فلما مات أبو سلمة قالت: ماذا أقول يا رسول الله؟!) أي: لما مات أبو سلمة والرسول قد قال: (لا تقولوا إلا خيراً) أي: أنها أرادت أن تعرف ما هو الخير الذي تقوله؟ وما هو الدعاء الذي تدعو به؟ فأرشدها صلى الله عليه وسلم فقال لها: (قولي: اللهم! اغفر له، وأعقبنا عقبى صالحة)، وهذه دعوة للميت وللحي، أي: أنها مشتملة على دعاء للميت بأن يغفر له، وللحي بأن يحصِّل عقبى صالحة.
قولها: (فأعقبني الله تعالى به محمداً صلى الله عليه وسلم) أي: أعقبها عقبى صالحة، وهذه هي الفائدة التي حصلت للحي بهذا الدعاء الذي أرشدها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.(363/9)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا حضرتم الميت فقولوا خيراً فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
هو الثوري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
الأعمش مر ذكره.
[عن أبي وائل].
هو شقيق بن سلمة وهو ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أم سلمة].
وهي هند بنت أبي أمية رضي الله عنها أم المؤمنين، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والله أعلم.(363/10)
الأسئلة(363/11)
ضوابط الاختلاف الذي لا يخرج صاحبه من دائرة السنة والجماعة
السؤال
ما هي ضوابط الاختلاف الذي لا يخرج صاحبه من دائرة أهل السنة والجماعة؟
الجواب
هو الاختلاف في الفروع، وهي المسائل التي فيها مجال للاجتهاد، فهذا هو المجال الذي يكون الاختلاف فيه سائغاً، ومع اختلاف أهل السنة والجماعة فيما بينهم، فإنه لا تنافر بينهم، وإنما يكون بينهم التواد والتراحم، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلفون في بعض مسائل ومع ذلك لم يكن فيما بينهم شيء من التنافر بسبب هذا الاختلاف، فكلٌ انتهى إلى ما وصل إليه اجتهاده، وهم يعلمون أن المصيب فيهم له أجران، وأن المخطئ له أجرٌ واحد كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد).(363/12)
حكم الدعاء بعد الصلاة المكتوبة
السؤال
هل يستحب الدعاء بعد الصلاة عملاً بحديث أبي أمامة أنه قال: (يا رسول الله! أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل، ودبر الصلوات المكتوبة)؟
الجواب
دبر الصلوات المكتوبة يحتمل معنيين: الأول أن يكون قبل السلام؛ لأن ذلك يقال له: دُبر، والثاني: أن يكون بعد الصلاة، فإن ذلك يقال له: دُبر، وقد جاء ذكر الدُبر مراداً به هذا وهذا، فالدبر آخر الشيء، أو ما يلي آخر الشيء، فما قبل الصلاة يقال له: في دبرها؛ لأنه في آخرها، وما بعدها يقال له: دبرها، لأنه يلي آخرها، فالإنسان له أن يدعو قبل السلام، وله أن يدعو بعد صلاته.(363/13)
حكم قولهم اللهم ارحمني بالقرآن
السؤال
هل هذه المقولة صحيحة: اللهم! ارحمني بالقرآن؟
الجواب
إذا كان المقصود بذلك التوسل بالقرآن فالقرآن من كلام الله عز وجل، والتوسل إلى الله عز وجل بكلامه سائغ؛ لأن التوسل بصفة الله سائغ.(363/14)
حكم هذه المقولة رب لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه
السؤال
ما حكم هذه المقولة: ربي لا أسالك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه؟
الجواب
على الإنسان أن يسأل الله عز وجل اللطف ولا يسأله رد القضاء، فيسأل الله عز وجل ما يريد دون أن يذكر شيئاً قبل ذلك كقوله هنا: لا أسالك كذا وإنما أسألك كذا، فيسأل حاجته وما يريده دون هذا التقديم والتمهيد.(363/15)
حكم عيادة من اشتد به المرض حتى صار لا يعرف أحداً
السؤال
إذا اشتد المرض على المريض حتى صار لا يعرف من يدخل عليه ولا من يخرج من عنده فهل يشرع حينئذٍ عيادته؟
الجواب
لا بأس بذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم زار جابر بن عبد الله وهو مغمى عليه، فكونه يزوره ويدعو له فهذه فائدة تحصل له ولو ما يحصل مخاطبته وإيناسه، لأنه لا يعقل ولا يدرك، فإذا حصل من الزائر الدعاء ففيه مصلحة للمزور، ويحصل للزائر أجر الزيارة والعيادة، فالزائر يستفيد، والمزور يستفيد.(363/16)
الاستئذان عند الأخذ من حقوق الناس
السؤال
هناك شجرة سدر في أرض قريبة من المسجد، وهذه الشجرة تشرب من الماء الذي يطفح من الخزان التابع للمسجد، وصاحب الأرض لا يفكر فيها، ونريد أن نأخذ منها أعواداً نغرسها في المزرعة، وهذا العمل لا يضر تلك الشجرة، فهل يجوز لنا ذلك؟
الجواب
عليكم أن تستأذنوا من صاحبها، فما دامت في أرضه فهو صاحبها وهي ملكة.(363/17)
أذكار النوم ومحلها
السؤال
هل تقال أذكار النوم في نوم الليل فقط أو أنها تعم كل نوم؟
الجواب
تقال في نوم الليل فقط.(363/18)
تلقين الميت(363/19)
شرح حديث (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التلقين.
حدثنا مالك بن عبد الواحد المسمعي حدثنا الضحاك بن مخلد حدثنا عبد الحميد بن جعفر حدثني صالح بن أبي عريب عن كثير بن مرة عن معاذ بن جبل رضي الله عنها أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة).
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب: في التلقين، أي تلقين المحتضر الذي حضره الموت، فإنه يلقن الشهادة، وليس المقصود التلقين بعد الموت، فإن ذلك لم يصح فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا التلقين في القبر، وإنما هو التلقين عند الموت، فما دام أن الإنسان في نهاية الحياة الدنيا فإنه يلقَّن الشهادة، ليكون آخر كلامه من الدنيا النطق بالشهادة.
ثم أورد أبو داود حديث معاذ رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)، وهذا يدلنا على فضل ختام هذه الحياة الدنيا بكلمة الشهادة، وذلك بأن يشهد: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشهادة كما أنها هي الختام فهي المبتدأ، ولهذا فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام أول ما بعثه الله يطوف في القبائل ويقول: (يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)، والدخول في الإسلام لا يكون إلا بالشهادتين، فهي إذن المبتدأ والمنتهى، وهذا يدلنا على أن الشهادة تكون آخر شيءٍ يتكلم به الإنسان، وإذا حصل كلامٌ آخر بعد الشهادة فإنه يذكر ويلقن مرة أخرى؛ حتى تكون الشهادة هي آخر ما يتكلم به.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله)، والتلقين يكون بذكر الشهادة عنده فيتشهد الملقن عنده، فإن تشهد وإلا قال له: قل: لا إله إلا الله، فالمقصود من التلقين هو أنه يقول: لا إله إلا الله، فإذا حصل ذلك بذكر الله عنده فهو المطلوب، وإلا فإنه يقال له: قل: لا إله إلا الله، حتى يكون آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله، فإن تكلم بعد ذلك أُعيد عليه التلقين.
وقوله: (لقنوا موتاكم) يدلنا على أن الاسم يعطى لما يقاربه، فالإنسان الملقن لم يمت بعد ولكنه على وشك الموت ومع ذلك قيل له: ميت؛ لأنه قارب الموت، فيعطى الشيء اسم ما يقاربه، ومثل هذا الحديث الذي فيه: (أن صلاة المغرب وتر النهار)، مع أنها ليست في النهار، وإنما هي في أول الليل، ولكونها قريبة من النهار أضيفت إلى النهار، وكذلك الحديث الذي فيه: (شهرا عيد لا ينقصان: عيد الفطر وعيد الأضحى)، ومعلوم أن عيد الفطر ليس في رمضان، وإنما هو في أول يوم من شوال، فأُضيف العيد إلى رمضان لاتصاله به، ولأنه إنما شُرع من أجله، وكذلك هنا، فالموتى هم الذين قاربوا الموت، وليس معنى ذلك أنهم يلقنون بعد الموت، فإنه لم يثبت في التلقين بعد الموت شيء.(363/20)
تراجم رجال إسناد حديث (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)
قوله: [حدثنا مالك بن عبد الواحد المسمعي].
مالك بن عبد الواحد المسمعي ثقة أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا الضحاك بن مخلد].
هو أبو عاصم النبيل، فيذكر أحياناً بكنيته فيقال: أبو عاصم، ويذكر أحياناً باسمه فيقال: الضحاك بن مخلد، وهذا من أنواع علوم الحديث، وهو أن تعرف كنى أصحاب الأسناد، وفائدة معرفتها ألا يظن الشخص الواحد شخصين؛ فإذا ذُكر أبو عاصم في موضع، وذُكر الضحاك بن مخلد في موضع آخر فالذي لا يعرف أن أبا عاصم كنية للضحاك بن مخلد يظن أن أبا عاصم شخص، وأن الضحاك بن مخلد شخص آخر، فهذا من أنواع علوم الحديث التي يُحتاج إلى معرفتها.
[حدثنا عبد الحميد بن جعفر].
عبد الحميد بن جعفر صدوق ربما وهم، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن صالح بن أبي عريب].
وهو مقبول أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن كثير بن مرة].
كثير بن مرة ثقة أخرج له البخاري في (جزء القراءة) وأصحاب السنن.
[عن معاذ بن جبل].
معاذ بن جبل رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(363/21)
شرح حديث (لقنوا موتاكم قول لا إله إلا الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا بشر حدثنا عمارة بن غزية حدثنا يحيى بن عمارة قال سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لقنوا موتاكم قول: لا إله إلا الله).
قوله: (لقنوا موتاكم قول لا إله إلا الله) أي: أنه يذكر عنده الشهادة فإذا تشهد فقد حصل المقصود، وإن لم يتشهد، فإنه يقال له: قل: لا إله إلا الله، قل: لا إله إلا الله.(363/22)
تراجم رجال إسناد حديث (لقنوا موتاكم قول لا إله إلا الله)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا بشر].
بشر بن المفضل ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عمارة بن غزية].
عمارة بن غزية لا بأس به، وهي بمعنى: صدوق، أخرج له البخاري في التعليق ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا يحيى بن عمارة].
يحيى بن عمارة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري هو: سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو مشهور بكنيته ونسبته، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما ما ورد في السيرة من أن آخر ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (الرفيق الأعلى)، فليس فيه تعارض مع الحديث، فالرسول قال هكذا، وجاء عنه أنه قال: (اللهم! الرفيق الأعلى)، فقد خُيّر، فما من نبي إلا ويخير قبل موته بين الدنيا وبين ما عند الله، فـ عائشة رضي الله عنها فهمت أنه لما قال ذلك أنه لا يختارنا، وإنما يختار أن يكون في الرفيق الأعلى.
وبعضهم يقول: ورد عن الإمام أحمد، وعن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليهما أنه يستحب تلقين الميت وهو في قبره، وذلك بأن يقال له: يا فلان! قل: لا إله إلا الله.
فأقول: لا أعلم صحة هذا عنهما، وقد وردت في ذلك أحاديث غير صحيحة وغير ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من الأمور المحدثة.
وهنا تنبيه، وهو: أن بعض العلماء يقول لا يقال للمحتضر: قل: لا إله إلا الله، فربما يرد ذلك إذا جاء بصيغة الأمر؟ فأقول: قد ذكرت سابقاً أنه إذا أمكن ذلك بدون أن يؤمر فإنه يكفي، وإن لم يحصل منه ذلك طلب منه أن يقول: لا إله إلا الله؛ ليحصل هذا الأجر والثواب.(363/23)
تغميض الميت(363/24)
شرح حديث (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب تغميض الميت.
حدثنا عبد الملك بن حبيب أبو مروان حدثنا أبو إسحاق يعني الفزاري عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن قبيص بن ذؤيب عن أم سلمة رضي الله عنهما أنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أبي سلمة رضي الله عنه وقد شق بصره فأغمضه، فصيّح ناس من أهله، فقال: (لا تدعو على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، ثم قال: اللهم! اغفر لـ أبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله رب العالمين! اللهم! افسح له في قبره ونور له فيه).
ثم أورد أبو داود هذه الترجمة: باب تغميض الميت، أي: تغميض عينيه، فإذا خرجت الروح تبعها البصر، فتنفتح العينان؛ لأنها تتبع الروح، فشُرع تغميض العينين؛ لأن ذلك أجمل، وأما بقاؤه مفتوح العينين فإن ذلك منظر يُستقبح.
وهذه الترجمة أول التراجم المتعلقة بالموت وما يحصل بعد الموت، وأما التراجم التي مضت -ومقدارها عشرون ترجمة- فكلها أمور تقع قبل الموت من عيادة، ومرض، وصبر، وتلقين، وغيرها من الأحكام التي تجري قبل الموت، وهذه أول ترجمةٍ تتعلق بما يكون بعد الموت.
ثم أورد أبو داود حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي سلمة لما مات، فوجده قد شق بصرة) أي: أنه انفتح بصره وصار شاخصاً، (فأغمض عينيه) وهذا فيه دليل على أنه يُسن تغميض عيني الميت بعد موته، إذا مات وشق بصره.
قوله: (فصيّح ناس من أهله).
أي: ارتفعت أصوات بعض أهله، فقال: (لا تدعو إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) أي: أنه ينبغي لهم أن يدعو بكلام حسن جميل، وأن يدعو للميت ولأنفسهم، وألا يدعو على أنفسهم بالويل والثبور والتحسر على موت الميت.
قوله: (فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) أي: إن قالوا خيراً أمنت الملائكة على ذلك، وإن قالوا شراً أمنت الملائكة على ذلك، إذاً: فلا ينبغي أن يقولوا إلا خيراً؛ حتى تؤمن الملائكة على ذلك الدعاء بالخير.
ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء العظيم لـ أبي سلمة: (اللهم! اغفر لـ أبي سلمة)، وهذا دعاء له بمغفرة الذنوب، (وارفع درجته في المهديين)، وهذا دعاء برفعة الدرجات، فالأول فيه التجاوز عن الذنوب، والثاني فيه رفعة الدرجات في المهديين، وهم الذين هداهم الله عز وجل وصارت لهم الدرجات العالية في الجنة، فدرجته رضي الله عنه في جملة المهديين، (واخلفه في عَقِبه في الغابرين)، وعَقِبه هم أهله الذين من ورائه.
قوله: (في الغابرين) أي: في الباقين، والمقصود بالغابر هنا الباقي، وقد يأتي بمعنى الماضي، وبمعنى الهالك، فهي من الأضداد، وهي هنا بمعنى الباقين، أي: الذين بقوا بعده، ومن إتيانها بمعنى الهالك: ما جاء في امرأة لوط: {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء:171] أي: الهالكين؛ إذ إنها ليست من الناجين، ولا من الباقين، وإنما هي من الهالكين.
وللإمام الذهبي رحمه الله كتاب اسمه (العبر في خبر من غبر)، أي: من مضى.
قوله: (واخلفه في عَقِبه في الغابرين، واغفر لنا وله رب العالمين!) وهذا دعاءٌ للحي والميت، فبعد أن دعا له في الأول بالمغفرة، وأن ترفع درجته، وأن يُخلف في عَقِبه؛ أتى بدعاءٍ بالمغفرة يشمل الحي والميت، فقال: (واغفر لنا وله رب العالمين!) أي: يا رب العالمين! ثم دعا له بدعاءٍ يخصه، فقال: (اللهم! افسح له في قبره) أي: وسع له في قبره، (ونور له فيه) أي: فيكون فسيحاً ومضيئاً.(363/25)
تراجم رجال إسناد حديث (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه)
قوله: [حدثنا عبد الملك بن حبيب أبو مروان].
عبد الملك بن حبيب أبو مروان مقبول، أخرج له أبو داود.
[حدثنا أبو إسحاق، يعني: الفزاري].
أبو إسحاق الفزاري هو إبراهيم بن محمد بن خالد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد الحذاء].
خالد بن مهران الحذاء، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، والحذاء لقب، ومعرفة ألقاب المحدثين من الأمور المهمة في معرفة علوم الحديث؛ وفائدتها ألّا يُظَن الشخص الواحد شخصين، فإذا ذكر بلقبه في موضع وذكر باسمه في موضع آخر فقد يظن أنهما اثنان، وكذلك الأسماء والألقاب.
والحذاء قيل: إنه لم يكن منسوباً إلى بيع الأحذية ولا إلى صناعتها كما قد يتبادر إلى الذهن، وإنما لقب بذلك لأنه كان يجالس الحذاءين، فقيل له: الحذاء، فهي نسبة لأدنى مناسبة، وليس لكونه بائعاً ولا صانعاً للأحذية.
وقيل: إنه كان يأمر الحذاء أن يرسم له شيئاً ثم يقول له: احذوا على كذا، أي: قص على هذا الرسم وهذا المقدار، فقيل له: الحذاء لذلك، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قلابة].
هو: عبد الله بن زيد الجرمي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قبيصة بن ذؤيب [.
قبيصة بن ذؤيب له رؤية، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أم سلمة].
أم سلمة هند بنت أمية رضي الله عنها أم المؤمنين، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: وتغميض الميت بعد خروج الروح سمعت محمد بن محمد بن النعمان المقري سمعت أبا ميسرة -رجلاً عابداً- يقول: غمضت جعفراً المعلم -وكان رجلاً عابداً- في حالة الموت فرأيته في منامي ليلة مات يقول: أعظم ما كان عليّ تغميضك لي قبل أن أموت].
ثم ذكر أبو داود أن التغميض يكون بعد الموت؛ لأن الحديث فيه: (وقد شق بصره)، وفي الحديث: (أن الروح إذا قُبِضَ تبعه البصر) فيغمض البصر.
وقال أبو داود مفسراً: إن التغميض إنما يكون بعد الموت، أي: أنه لا يكون قبله، وإنما يكون بعد خروج الروح، ثم ذكر هذا الأثر وهو: أن رجلاً غمض صاحبه قبل الموت فرآه في المنام، وقال: إن أشد شيئاً عليّ هو تغميضك لي، وهذا الأثر لا يصح؛ لأن في إسناده مقبولاً ومجهولاً.
قوله: [سمعت محمد بن محمد بن النعمان المقري].
وهو مقبول، أخرج له أبو داود وحده.
[عن أبي ميسرة].
أبو ميسرة مجهول الحال، أخرج له أبو داود وحده.
[جعفر المعلم].
جعفر المعلم لم أقف على ترجمته.(363/26)
الاسترجاع(363/27)
شرح حديث (إذا أصابت أحدكم مصيبة فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في الاسترجاع.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا ثابت عن ابن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أصابت أحدكم مصيبة فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم! عندك أحتسب مصيبتي فآجرني فيها، وأبدل لي بها خيراً منها)].
ثم أورد أبو داود بابٌ: في الاسترجاع، والاسترجاع هو قول: إنا لله وإنا إليه راجعون، واسترجع الإنسان أي: أنه يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فالاسترجاع من الألفاظ التي تدل على جملة، أي: أنه لفظ واحد يدل على جملة، واللفظ يشعر بها، وهو من جنس الحوقلة والحيعله، فالحيعلة هي قول: حي على الصلاة، والحوقلة هي قول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد جاء الاسترجاع في القرآن والسنة، فأما في القرآن فقوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]، وفي هذا الحديث: (إذا أصابت أحدكم مصيبة فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون) أي: أننا مِلْكٌ لله، والله تعالى هو الذي يتصرف فينا، فهو الذي أوجدنا، وهو الذي يميتنا وإليه نرجع، ففيه تعظيم لله عز وجل بأن كل شيء ملكه، وأن كل شيءٍ له، وأن كل شيء منه، وأن كل شيءٍ إليه راجع، {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:25 - 26].
قوله: (اللهم! عندك أحتسب مصيبتي) أي: أرجو الثواب منك، فالاحتساب هو أن الإنسان يصبر فلا يتسخط ولا يتضجر، بل يرضى ويسلم ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويحتسب ذلك عند الله تعالى.
قوله: (فأجرني فيها) أي: أعطني الأجر على هذه المصيبة التي حلت بي، وعلى صبري على هذه المصيبة التي احتسبتها عندك.
قوله: (وأبدلني بها خيراً منها) أي: وأبدلني بهذه المصيبة خيراً منها، أي: أن الله يعوضه خيراً مما فقد، وخيراً مما ذهب، ولهذا لما دعت أم سلمة رضي الله عنها بهذا الدعاء الذي أرشدها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوضها الله تعالى من هو خير، وهو: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد مر في الحديث أن قالت: (فأعقبني الله محمداً صلى الله عليه وسلم) أي: وهو خير البشر، وقد كان أبو سلمة عزيزاً عندها، فقالت: (من مثل أبي سلمة) أي: أنها ما تعرف أحداً مثل أبي سلمة، ولم يكن في بالها أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي سيكون بعد أبي سلمة، وهو خير البشر صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(363/28)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا أصابت أحدكم مصيبة فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو ابن سلمة، وقد ذكرنا مراراً وتكراراً أنه إذا جاء حماد غير منسوب والراوي عنه موسى بن إسماعيل فالمراد به: حماد بن سلمة بن درهم، وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا ثابت].
ثابت بن أسلم البناني البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر بن أبي سلمة].
ابن عمر بن أبي سلمة قيل: اسمه محمد، وهو مقبول أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبيه].
أبوه هو عمر بن أبي سلمة، وهو ربيب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أم سلمة].
أمه هي أم سلمة رضي الله تعالى عنها، وقد مر ذكرها.
وبعض الناس يلتزم قول: إنا لله وإنا إليه راجعون كلما سمع المؤذن ينادي لصلاة الجنازة، كما هو حاصل في المسجد النبوي والمسجد الحرام، ولا نعلم شيئاً يدل على هذا.(363/29)
تسجية الميت(363/30)
شرح حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجي في ثوب حبرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [بابٌ: في الميت يسجى.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سُجِّي في ثوب حِبَرة)].
ثم أورد أبو داود باب: في الميت يُسَجى، أي: يغطى، فيوضع عليه شيء يغطيه؛ وذلك لستره حتى لا يبقى مكشوفاً.
وقد أورد أبو داود حديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سُجّي بثوب حبرة)، وهو نوع من الثياب، وحبرة على وزن عِنَبة، وهذا الحديث يدل على تغطية الميت بعد موته وقبل أن يُشتغل بتجهيزه.
وقد اشتُهر وضع قطعة خضراء على الميت مكتوب فيها آية الكرسي أو نحو ذلك، وهذا لا ينبغي وليس له أساس، فالمهم أنه يغطى، وأما أن يكون بشيءٍ مخصوص، أو بشيء مكتوب عليه بعض الآيات فهذا لا نعلم له أساساً.(363/31)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجي في ثوب حبرة)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواة هذا الحديث كلهم من رجال الكتب الستة.(363/32)
القراءة عند الميت(363/33)
شرح حديث (اقرءوا يس على موتاكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب القراءة عند الميت.
حدثنا محمد بن العلاء ومحمد بن مكي المروزي المعنى، قالا: حدثنا ابن المبارك عن سليمان التيمي عن أبي عثمان وليس بـ النهدي عن أبيه عن معقل بن يسار رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اقرءوا (يس) على موتاكم)، وهذا لفظ ابن العلاء].
أورد أبو داود باب: القراءة عند الميت، يعني: إذا كان محتضراً، وأما القراءة على الأموات في المقابر فلم يأت شيء يدل عليها، وهذا الحديث غير صحيح، ولهذا فلا يقرأ عند الميت شيء، والذي جاءت به السنة هو تلقين المحتضر الشهادتين كما سبق في الحديث الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما القراءة عند الأموات فلا تفعل لا بـ (يس) ولا غيرها؛ لأنه لم يثبت في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث الذي ورد هنا لم يصح؛ لأن فيه من هو متكلمٌ فيه، وفيه أيضاً اضطراب، فمرة يروى عن أبي عثمان عن معقل بن يسار، وتارة عن أبيه كما في هذه الطريق، فالحديث غير صحيح.
وعلى فرض صحته: فإنه يكون عند الاحتضار، وليس بعد الموت، فقوله: (موتاكم) أي: الذين قاربوا الموت، وهذا مثل قوله في الحديث السابق: (لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله).(363/34)
تراجم رجال إسناد حديث (اقرءوا يس على موتاكم)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومحمد بن مكي المروزي].
محمد بن مكي المروزي مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا ابن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك المروزي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان التيمي].
سليمان بن طرخان التيمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عثمان وليس بـ النهدي].
قوله: وليس بـ النهدي بيان أنه غير أبي عثمان النهدي المشهور، فهو مشهور بكنية أبي عثمان، وكثيراً ما يأتي أبو عثمان هكذا غير منسوب ويكون المقصود به النهدي، فأراد هنا أن يبين أنه شخص آخر غير أبي عثمان النهدي الثقة المشهور، قيل: اسمه سعد، وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبيه].
وهو مجهول كابنه، وقال المنذري: وفيه أبو عثمان وأبوه، غير مشهورين.
[عن معقل بن يسار].
معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
ولم يثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل (يس)، ومن ذلك حديث: (يس قلب القرآن)، فإنه غير صحيح.
فائدة: وهنا يذكر بعض الإخوان أن الشيخ الألباني رحمه الله تعالى ذكر في الإرواء: أنه ثبت عن أحد الصحابة أنه لما احتضر طلب من أحد الجالسين أن يقرأ عليه (يس)، فأقول: إذا كان الميت هو الذي طلب أن يقرأ عليه شيء من القرآن فإن رغبته تحقق، سواءً طلب قراءة (يس) أو غيرها.(363/35)
شرح سنن أبي داود [364]
الموت باب كل الناس داخلوه، وكأس كلهم شاربوه، فمن مات له قريب أو حبيب فعليه الصبر وعدم الجزع، وليتجنب ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من النياحة ولطم الخدود وشق الجيوب، ونحو ذلك، ويسن تعزية المصاب والدعاء له ولمن مات من أقربائه.(364/1)
الجلوس عند المصيبة(364/2)
شرح قصة مقتل زيد بن حارثة وجعفر وعبد الله بن رواحة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الجلوس عند المصيبة.
حدثنا محمد بن كثير حدثنا سليمان بن كثير عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (لما قُتِل زيد بن حارثة وجعفر وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم جلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد يُعرف في وجهه الحزن)، وذكر القصة].
أورد أبو داود [باب الجلوس عند المصيبة]، أي: أن الإنسان يحصل له التأثر، وبدلاً من أن يكون منشرح الصدر ويذهب ويدخل ويخرج، يحصل له حُزن، فإنه يجلس لما أصابه من الهم والحزن.
وقد أورد أبو داود حديث عائشة: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بلغه موت الأمراء الذين كانوا في غزوة مؤتة وهم: عبد الله بن رواحة وجعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، جلس في المسجد يُعرف في وجهه الحُزن) أي: أنه ظهر في وجهه التأثر لفقدهم ولموتهم، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وليس في هذا الحديث دليل على الجلوس لاستقبال المعزين والزوار، وإنما فيه أنه جلس في المسجد متأثراً وحزيناً صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ولعله جلس لأن الجلوس فيه راحة للإنسان، وهو أفضل لجسم الإنسان من أن يبقى قائماً.(364/3)
تراجم رجال إسناد قصة مقتل زيد بن حارثة وجعفر وعبد الله بن رواحة
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سليمان بن كثير].
سليمان بن كثير لا بأس به أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد الأنصاري، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرة].
هي عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية رحمة الله عليها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة مر ذكرها.(364/4)
التعزية(364/5)
شرح حديث ذهاب فاطمة رضي الله عنها إلى أحد البيوت للتعزية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [بابٌ في التعزية.
حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني حدثنا المفضل عن ربيعة بن سيف المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: (قبرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -يعني: ميتاً- فلما فرغنا انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانصرفنا معه، فلما حاذى بابه وقف فإذا نحن بامرأة مقبلة، قال: أظنه عرفها، فلما ذهبت إذا هي فاطمة رضي الله عنها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أخرجكِ يا فاطمة! من بيتكِ؟ فقالت: أتيت يا رسول الله! أهل هذا البيت فرحمت إليهم ميتهم، أو عزيتهم به، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فلعلك بلغت معهم الكدى، قالت: معاذ الله! وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر، قال: لو بلغت معهم الكدى فذكر تشديداً في ذلك)، فسألت ربيعة عن الكدى، فقال: القبور، فيما أحسب].
أورد أبو داود رحمه الله باباً في التعزية، ومعنى ذلك: تعزية المصاب بالميت، وذلك بأن يدعى له وللميت، فيدعى للميت بالمغفرة، ويدعى له بعِظَم الأجر، وبحصول الصبر والاحتساب، فيذكر له الشيء الذي يخفف عنه الحُزن والمصيبة التي حلت به، ومن أحسن ما يذكّر به أن يقال له الدعاء المعروف: (إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجل مسمى) فهذا أحسن ما يقال في تسلية المصاب.
ولا يكون الدعاء للحي فقط، ويغفل عن الميت، وإنما يجمع بين هذا وهذا، فيدعى للميت ويدعى للحي.
ويطلب من الحي الصبر والاحتساب، وقد وعد الله بالأجر الجزيل والثواب العظيم من يصبر عند المصيبة.
ثم أورد رحمه الله حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وفيه: أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في البقيع يقبرون ميتاً، فلما رجعوا وكانوا عند منزله رأى امرأة فعرفها، وإذا هي فاطمة رضي الله عنها، فقال لها: (من أين جئتِ؟ فقالت: إني ذهبت إلى أهل هذا البيت فرحمت إليهم ميتهم، أو عزيتهم به)، أي: أنها دعت له بالرحمة، أو عزتهم به، أي: أنها قالت هذا أو هذا.
فقال -وهذا محل الشاهد من إيراد الحديث تحت هذه الترجمة وهي التعزية- قال: (لعلكِ بلغتِ معهم الكدى؟ قالت: لا، وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر) قيل: إن الكدى هي القبور، وقيل لها: كدى لأنها تكون في مكان صلب، بحيث إذا حفر القبر لا ينهال التراب، بل يبقى على صلابته، فهذا هو المقصود بالكدى، وقولها: (وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر) أي: من التشديد في النهي عن ذهاب المرأة إلى المقابر، وأنها لا تتبع الجنائز.
قوله: (قال: لو بلغت معهم الكدى، فذكر تشديداً في ذلك) أي: أنه كنى عن الشيء الذي ذكره، وجاء في بعض الروايات: (لو بلغتها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك)، وهو عبد المطلب الذي مات كافراً، وهذا من جنس قوله تعالى: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40].
وهذا الحديث غير صحيح، وغير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(364/6)
تراجم رجال إسناد حديث ذهاب فاطمة رضي الله عنها إلى أحد البيوت للتعزية
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني].
يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني ثقة أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن المفضل].
المفضل هو ابن فضالة، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ربيعة بن سيف المعافري].
ربيعة بن سيف المعافري له مناكير، وهو آفة هذا الحديث، فقد تفرد به، وقد أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبي عبد الرحمن الحبلي].
أبو عبد الرحمن الحبلي هو عبد الله بن يزيد وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عمرو بن العاص].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(364/7)
الأسئلة(364/8)
حكم قول عظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك
السؤال
ما حكم قولهم في التعزية: عظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك؟
الجواب
لا بأس بذلك، فالمهم هو أنه يُدعى للحي وللميت.(364/9)
عدم جواز زيارة النساء للمقابر
السؤال
أليس الحديث السابق يدل على عدم جواز زيارة النساء للمقابر؟
الجواب
لا؛ لأنه يتكلم على مسألة اتباع الجنائز، ثم هو حديث ضعيف لا يصح.(364/10)
حكم التعزية في السرادقات وقراءة القرآن فيها وتوزيع الدخان على المعزين
السؤال
ما حكم التعزية في السرادقات التي يقرأ فيها القرآن، ويوزع فيها الدخان على المعزين؟ هل تترك أم أنها تفعل من باب تأليف قلوب أهل المصاب خصوصاً من طلاب العلم؟
الجواب
هذه من البدع المحدثة في الدين، فمن التكلف أن يصنع الطعام، ويجتمع الناس لأكله، وكأنهم في مناسبة فرح! وبعض الناس الذين هم بحاجة إلى الأكل قد يفرحون بمثل هذه المناسبات؛ من أجل أن يجدوا شيئاً يأكلونه! والحاصل أن هذا من الأمور المحدثة، فلا تُعمل سرادقات ولا تُعمل أنوار، وكل هذه الأشياء من الأمور المحدثة.(364/11)
الصبر عند الصدمة(364/12)
شرح حديث (إن الصبر عند الصدمة الأولى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الصبر عند الصدمة.
حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عثمان بن عمر حدثنا شعبة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (أتى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم على امرأة تبكي على صبيٍ لها، فقال لها: اتقى الله واصبري، فقالت: وما تبالي أنت بمصيبتي؟! فقيل لها: هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأتته فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله! لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى، أو عند أول صدمة)].
الصدمة: هي الخبر الذي يحصل للإنسان لأول وهلة، أي: عندما يعلم بالمصاب ويعلم بالمصيبة، هذه أعظم حالة تكون عند الإنسان، أي: حال بلوغ الخبر أول مرةٍ إليه، وهذا هو الذي يكون فيه الصبر والاحتساب؛ لأن الذي لا يصبر ينطلق بالصياح، ولن يستمر على ذلك، بل لابد أن تأتي الأيام ويسلو كما تسلو البهائم، ولكن شدة وقع المصيبة هو فجأة حصول المصيبة عند الإنسان لأول مرة، هذه أعظم حالة تكون عند الإنسان، فعند ذلك يكون الصبر فيها، أما بعد ذلك فإنه لابد من السلوان، وإذا صبر الإنسان عند الصدمة الأولى فمن باب أولى أن يصبر فيما وراء ذلك.
وقد أورد المصنف حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء على امرأة تبكي على صبيٍ لها، فقال لها: (اتقي الله واصبري، فقالت: وما تبالي أنت بمصيبتي؟!)، أي: أنت ما أصبت بمثل مصيبتي، فقد حصل لي شيء ما حصل لك، وهي لا تعرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فمضى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنها أُخبرت بأن هذا الذي خاطبها وخاطبته هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبت إليه لتعتذر منه وقالت: إني ما عرفتك، ولم تجد عنده بوابين وحجبه، وهذا من تواضعه وكمال أخلاقه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فقال لها: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) أي: إن الصبر عند أول صدمة، فإذا وجد عند أول صدمة فهو موجود فيما بعدها من باب أولى، وهذا فيه إرشاد إلى أن الإنسان إذا حصلت له مصيبة، أو أخبر بها فإنه يصبر ويحتسب.(364/13)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الصبر عند الصدمة الأولى)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
هو محمد بن المثنى أبو موسى العنزي الملقب بـ الزمن، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عثمان بن عمر].
عثمان بن عمر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام وخادمه، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء في بعض الروايات: أنها كانت تبكي على قبر صبي لها، وليس في هذا متمسك لمن قال بجواز زيارة النساء للمقابر؛ لأنه ربما كان قبل تحريم الزيارة للنساء.(364/14)
حكم اتخاذ البوابين والحجبة على الأبواب
قوله: (فلم تجد على بابه بوابين)، استدل به بعض الفقهاء على عدم جواز وضع الحجاب على الأبواب، وقد سبق أن مر بنا الحديث الذي فيه: أن رجلاً جاء إلى معاوية وقال له ما قال، ثم إنه وضع شخصاً يكون على حوائج الناس، فالمذموم أن يتخذ الحاجب لأجل منع الناس، وأما إذا كان من أجل تنظيم دخول الناس فهذا لا بأس به، فبدلاً من أن يدخل الناس دفعة واحدة ولا تقضى حوائجهم، فإنه يتخذ الحاجب ليدخلهم أرسالاً، فيتحدث معه كل أحد على حدة من غير حضور الناس، فإذا كان ذلك من أجل المصلحة فلا بأس بذلك، وإذا كان من غير حاجة، فإن ذلك لا يفعل.(364/15)
البكاء على الميت(364/16)
شرح حديث ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى إحدى بناته وبكاؤه عند وفاة ابنها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [بابٌ في البكاء على الميت.
حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن عاصم الأحول سمعت أبا عثمان عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: (أن ابنة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرسلت إليه وأنا معه وسعد وأحسب أبياً رضي الله عنهم: أن ابني أو ابنتي قد حُضِر فأشهدنا، فأرسل يُقْرئ السلام فقال قل: لله ما أخذ، وما أعطى، وكل شيءٍ عنده إلى أجل، فأرسلت تقسم عليه، فأتاها فوضع الصبيُّ في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونفسه تقعقع، ففاضت عينا رسول الله صلى الله وآله وسلم، فقال له سعد: ما هذا؟ قال: إنها رحمة وضعها الله في قلوب من يشاء، وإنما يرحم الله من عبادة الرحماء)].
ثم أورد أبو داود باباً: في البكاء على الميت، والبكاء غير النوح، فالبكاء سائغ، والنياحة محرمة، والبكاء هو دمع العين، وحزن القلب، وهذا شيء لا يملكه الإنسان، فيخرج من غير اختياره، ولكن أن يصيح ويرفع صوته ويشق ثوبه، ويلطم وجهه، وما إلى ذلك، فهذه أمور منكرة محرمة لا تسوغ، وأما حزن القلب، ودمع العين، فهذا شيء يحصل للإنسان من غير اختياره، وهي رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده، وقد حصلت من سيد الخلق عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وأورد أبو داود حديث أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما: (أن ابنةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم -وهي: زينب - أرسلت إليه، وعنده جماعة من أصحابه منهم: سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وأبي بن كعب، فقالت: إن ابنها أو ابنتها قد احتضر، فترغب وتطلب مجيئه، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: اقرئها السلام، وقل لها: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مسمى، فأرسلت إليه مرة أخرى تقسم عليه أن يأتي؛ لحرصها الشديد على حضوره صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فجاء ومعه هؤلاء الصحابة، فوضع الصبي على فخذه، وروحه تقعقع) أي: أنه في نهاية أمره، وعند خروج روحه، (ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) أي: بالبكاء، (فقال له سعد: ما هذا؟) أي: ما هذا البكاء؟ فقد جاء عنه النهي عن النياحة، فقال: (إنها رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرُحماء) أي: إن هذا شيءٌ لا بأس به، ولا مانع منه؛ لأنه يحصل للإنسان من غير اختياره، فلا بأس به، وإنما المحذور ما وراء ذلك، من رفع الصوت، ولطم الوجه، وشق الجيب، وحلق الرأس، وما إلى ذلك من الأمور المحرمة المنكرة.(364/17)
تراجم رجال إسناد حديث ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى إحدى بناته وبكاؤه عند وفاة ابنها
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
هو هشام بن عبد الملك ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة مر ذكره.
[عن عاصم الأحول].
هو عاصم بن سلميان الأحول، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت أبا عثمان].
هو النهدي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أسامة بن زيد].
أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(364/18)
شرح حديث بكاء النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم فذكر الحديث، قال أنس: لقد رأيته يكيد بنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، إنا بك يا إبراهيم لمحزونون)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم)، وهذا يدل على أنه يجوز التسمية في أول يوم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم)، وفيه أيضاً: التسمية بأسماء الأنبياء؛ لأنه قال: (باسم أبي إبراهيم)، وفيه أيضاً: أن الجد وإن علا يقال له أب، فقد قال هنا: (سميته باسم أبي إبراهيم)، وإبراهيم هو أبٌ عالٍ، ومثله ابن الابن، فإنه يقال له: ابن وإن نزل، فأبو الأب أبٌ وإن علا، فهذا فيه إطلاق الأب على الجد وإن كان عالياً.
قوله: (لقد رأيته يكيد بنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا عند موته، فقد ذكر الولادة أولاً، ثم ذكر الحديث حتى وصل إلى ما يتعلق بموته، وأنه كان يكيد بنفسه، أي: أن روحه تُنزع.
قوله: (فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذه رحمة من الله عز وجل جعلها في قلبه صلى الله عليه وسلم، وكذلك يجعلها في قلوب من يشاء من عباده.
وقال: (تدمع العين، ويحزن القلب)، أي: أن هذا شيءٌ لا محذور ولا مانع فيه، (ولا نقول إلا ما يرضي ربنا)، أي: لا نتكلم بكلام إلا وهو يرضي الله عز وجل، وهذا يدل على أنه لا يتكلم بكلامٍ يسخط الله، أو بكلامٍ فيه دعاء على الإنسان نفسه، كالدعاء بالويل والثبور عند المصيبة، فكل ذلك لا يجوز.
قوله: (إنا بك يا إبراهيم لمحزونون)، يعني: بفراقك أصابنا الحُزن.(364/19)
تراجم رجال إسناد حديث بكاء النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم
قوله: [حدثنا شيبان بن فروخ].
شيبان بن فروخ صدوق يهم، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا سليمان بن المغيرة].
سليمان بن المغيرة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثابت البناني عن أنس].
ثابت البناني وأنس مر ذكرهما.
وهذا الإسناد من الرباعيات، وهي أعلى الأسانيد عند أبي داود، فبينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام فيها أربعة أشخاص فقط.(364/20)
الأسئلة(364/21)
صوم يوم عرفة في البلدان التي تتقدم على المملكة بثمان ساعات
السؤال
رجل سافر إلى أستراليا للعمل، ووافق هناك يوم عرفة، فأراد أن يصوم، مع العلم أنهم يتقدمون علينا بثمان ساعات، فكيف يصوم قبل عرفة بثمان ساعات؟
الجواب
يصوم نفس اليوم سواءً تقدم أو تأخر.(364/22)
ليس المرض دليلاً على محبة الله دائماً
السؤال
هل عدم مرض الإنسان دليل على أن الله لا يحبه؛ لأن الله إذا أحب العبد ابتلاه؟
الجواب
لا يقال هذا، فالمهم هي الأعمال الصالحة، فإذا كان الإنسان في صحة وعافية، وعلى أعمال صالحة فهذا هو مناط المحبة، فإن مناط المحبة هو العمل الصالح: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].(364/23)
النّوح(364/24)
شرح حديث نهيه صلى الله عليه وسلم عن النياحة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النوح.
حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن أيوب عن حفصة عن أم عطية رضي الله عنها أنها قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهانا عن النياحة)].
لما ذكر الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى الباب المتعلق بالبكاء، وأورد فيه بعض الأحاديث الدالة على أن ذلك لا محذور فيه، وأن هذه رحمة يجعلها الله في قلوب عباده، أورد بعد ذلك هذا الباب فقال: [بابٌ في النوح]، وهو رفع الصوت عند المصيبة بالصياح والبكاء، وهذا هو الذي لا يسوغ ولا يجوز.
وأورد فيه حديث أم عطية رضي الله تعالى عنها، وفيه: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ علينا عند البيعة ألا ننوح)؛ لأنه عندما كان يبايع النساء كان من جملة ما يأخذ عليهن ألا ينحن، وإنما أخذ ذلك عليهن لأن الغالب أنه يحصل منهن لشدة جزعهن، وأنهن لا يملكن أنفسهن كما يملكها الرجال، ولهذا منع النساء من اتباع الجنائز، وكذلك من زيارة القبور؛ لأن ذلك قد يكون سبباً في نياحتهن، فقد أخذ في المبايعة على النساء ألا ينحن لأنهن مظنة ذلك، ولهذا جاءت الأحاديث التي فيها لعن الصالقة والحالقة والشاقة، بذكر المرأة، وبذكر الضمير، وهو تاء التأنيث، فقد جاء في الحديث: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصالقة والحالقة والشاقة)، ومثلها من حصل منه ذلك من الرجال، فالرجال إذا حصل من أحدٍ منهم شيء من ذلك فله ذلك الحكم، ولكنه أُتي بذلك في حق النساء، لأنه يقع منهن أكثر من الرجال، والصالقة: هي التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة: التي تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة: التي تشق ثوبها عند المصيبة، فقد أُتي بهذه الأوصاف مضافة إلى النساء؛ لأنهن مظنة لذلك، ولضعفهن وجزعهن.(364/25)
تراجم رجال إسناد حديث نهيه صلى الله عليه وسلم عن النياحة
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الوارث].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حفصة].
هي حفصة بنت سيرين، وهي ثقة أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن أم عطية].
أم عطية رضي الله تعالى عنها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(364/26)
شرح حديث (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا محمد بن ربيعة عن محمد بن الحسن بن عطية عن أبيه عن جده عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النائحة والمستمعة)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة)، والنائحة: هي التي تنوح وتظهر صوتها عند المصيبة، والمستمعة: هي التي تستمع لها وتوافقها على ذلك، وتكون معها على ذلك من غير كراهية ولا إنكار، وجاء هنا ذكر المستمعة لأنها هي التي تصغي وتتجه إلى ذلك، بخلاف السامعة أو السامع، وبهذا يفرق بين المستمع والسامع، فالمستمع هو الذي ينصت ويكون قلبه وذهنه مشدوداً مع من يتكلم، وأما السامع فهو الذي يسمع الصوت ولا يتابع ولا يتأمل، ولهذا يقول الفقهاء: إذا كان هناك قارئ يقرأ القرآن فقرأ آية سجدة فعلى الذي يستمع أن يسجد معه، وأما السامع فلا يلزمه السجود؛ لأنه لم يكن متابعاً.
فالمستمعة هي التي تنصت، وتتابع النائحة وترضى بذلك، ويعجبها ذلك، ولا تنكره ولا تكرهه، فجعل اللعن لهما جميعاً، وبالنسبة للنائحة قد جاءت فيها أحاديث أخرى مثل الحديث الذي أشرنا إليه.
والحديث ضعيف؛ لأن في إسناده ثلاثة رجال متكلماً فيهم، وفيهم ضعف، وفيهم من هو مجهول أو ضعيف.(364/27)
تراجم رجال إسناد حديث (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى].
هو إبراهيم بن موسى الرازي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا محمد بن ربيعة].
محمد بن ربيعة صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن محمد بن الحسن بن عطية].
محمد بن الحسن بن عطية صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
أبوه ضعيف أخرج له أبو داود.
[عن جده].
جده هو عطية بن سعد العوفي، وهو صدوق يخطئ كثيراً، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبي سعيد الخدري].
هو أبو سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله تعالى عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث ضعيف؛ ففي سنده محمد بن الحسن بن عطية وهو متكلم فيه، وكذلك أبوه وجده.(364/28)
شرح حديث (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري عن عبدة وأبي معاوية المعنى، عن هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الميت ليُعذب ببكاء أهله عليه)، فذُكر ذلك لـ عائشة فقالت: وَهِلَ -تعني ابن عمر - إنما مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قبر فقال: (إن صاحب هذا ليعذب وأهله يبكون عليه)، ثم قرأت: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، قال عن أبي معاوية: على قبر يهودي].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)، ولما بلغ ذلك عائشة رضي الله عنها قالت: وَهِلَ، أي: أنه حصل له ذهول وعدم ضبط للأمر، وحقيقة الأمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر بقبرٍ وقال: (إنه يعذب وأهله يبكون عليه)، وفي بعض الروايات: أن الميت كان يهودياً، ومعنى ذلك: أنه في الوقت الذي يبكي فيه أهله عليه فهو يعذب، ولكن جاء في حديث ابن عمر: (يعذبُ الميت بما نِيْحَ عليه) يعني: بسبب النياحة عليه، وعائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها قالت: وهِل، وأشارت إلى ذلك الذي ذَكرته في قصة الرجل الذي مر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُعذب وأهله يبكون عليه، ولم يقل: إنه ببكاء أهله عليه، وفي بعضها: أنه يهودي، ولما بلغها ذلك أنكرت، وقالت ما قالت، ثم استدلت بقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164].
والحديث ثابت عن عبد الله بن عمر، وفيه: أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، وقد ذكر العلماء أجوبة عن كون الميت يُعذب ببكاء أهله عليه، والله عز وجل قد قال: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وأن الإنسان لا يعذب بجريرة غيره، وبذنب غيره، وإنما يُعذب بعمله، فمن الأجوبة التي أجاب بها العلماء: أنه إذا أوصى بأن يُناح عليه فإنه يُعذب بسبب ذلك، ويكون هذا من عمله، وأنه يُعذب بشيءٍ من سببه، وأنه ما نهى عن ذلك، وإنما أمر بذلك وأوصى به، وهذا معلوم أنه لو أوصى فإنه يُعذب، أو أنه يستحق العذاب على ذلك، ولو لم ينح عليه؛ لأنه فعل أمراً منكراً، وهو الوصية بالأمر المحرم.
ومن العلماء من قال: إذا كان معروفاً من عادة الناس ومن طريقهم أنهم ينوحون ولم يحذر من ذلك، ولم ينه عن ذلك، فإنه يعذب بسبب ذلك، ومنهم من قال: إن المقصود أنه يعذب مثلما جاء عن عائشة أنه إنما يُعذب في الوقت الذي كان أهله ينوحون عليه، ولكن هذا ليس فيه ذكر أن العذاب بسبب النياحة.
والوجه الرابع من الوجوه التي أجاب بها العلماء: أنه ليس المقصود بكونه يُعذب في قبره أنه يُعاقب على فعلٍ فعله غيره، وهو النياحة، وليس هذا العذاب عقوبة على فعلهم ذلك الذي هو النياحة، وإنما المقصود: إخبار عن شيءٍ يحصل له وهو التألم والتأثر من فعلهم ذلك، وقد رجح هذا ابن القيم في تهذيب السنن، وقال: إنه قد جاء في الحديث الصحيح أنه يقال له بعد نوحهم عليه بقولهم: واجبلاه! واكذا! واكذا! فيقال: أنت كذلك؟ أنت كذا؟ أنت كذا؟ فيتألم بذلك الشيء وإن لم يكن عقوبة له على فعلٍ حصل منه، وقال: هذا من جنس قوله صلى الله عليه وسلم: (السفر قطعة من العذاب)، وليس معنى ذلك أن الإنسان يُعذب على ما يحصل له في سفره من تعبٍ ونصب، وإنما هذا إخبار عن شيءٍ قد حصل له، فيكون هذا من جنسه، وهذا هو الذي رجحه ابن القيم في تهذيب السنن.(364/29)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هو هناد بن السري أبو السري، وهو ثقة أخرج له البخاري في (خلق أفعال العباد) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبدة].
عبدة بن سليمان ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأبي معاوية].
هو محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو عروة بن الزبير، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(364/30)
قول ابن القيم في المراد بتعذيب الميت ببكاء أهله عليه
قال ابن القيم رحمه الله: المسلك الرابع: أن المراد بالحديث: ما يتألم به الميت ويتعذب به من بكاء الحي عليه، وليس المراد أن الله يعاقبه ببكاء الحي عليه، فإن التعذيب هو من جنس الألم الذي يناله بمن يجاوره مما يتأذى به ونحوه، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (السفر قطعة من العذاب)، وليس هذا عقاباً على ذنب وإنما هو تعذيب وتألم، فإذا وبِّخ الميت على ما يُناح به عليه لحقه من ذلك تألم وتعذيب، ويدل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أنه قال: أُغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكي: واجبلاه! واكذا! واكذا! تَعُد عليه، فقال حين أفاق: ما قلتِ شيئاً إلا قيل لي: أأنت كذلك؟! وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث عبد الله بن ثابت: (فإذا وجب فلا تبكين باكية)، وهذا أصح ما قيل في الحديث.
قوله: إذا وجب، أي: أنه بعد حصول الموت، وهذا أصح ما قيل في الحديث، وهو الذي اختاره ابن القيم من المسالك الأربعة.
ويقول: ابن القيم: ولا ريب أن الميت يسمع بكاء الحي ويسمع قرع نعالهم، وتعرض عليه أعمال أقاربه الأحياء، فإذا رأى ما يسوءه تألم له، وهذا ونحوه مما يتعذب به الميت ويتألم، ولا تعارض بين ذلك وبين قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164].
انتهى.
هذا الكلام غير واضح، أي: كون الميت يسمع بكاء أهله وغير ذلك، فهذا الكلام غير واضح؛ لأن هذه من أمور الغيب التي لا يقال فيها إلا بدليل، وأما ما يتعلق بقرع النعال فقد جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه يسمع قرع نعالهم، فأمور الغيب يقتصر فيها على ما ورد، وما لم يرد يُسْكت عنه، ومما يدل على أن الميت لا يعلم ما يجري بعده، ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يذاد أناس عن الحوض فيقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك فلا حاجة لأن يقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إذا كان يدري، فقولهم له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، يدل على أن أمور الغيب لا يثبت منها شيء إلا بدليل.(364/31)
شرح حديث (ليس منا من حلق ومن سلق ومن خرق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن يزيد بن أوس قال: دخلت على أبي موسى رضي الله عنه وهو ثقيل -أي مريض- فذهبتْ امرأته لتبكي أو تهُمَّ به، فقال لها أبو موسى: أما سمعت ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قالت: بلى، قال: فسكتت، فلما مات أبو موسى قال يزيد: لقيت المرأة فقلت لها: ما قول أبي موسى لكِ: أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم سكت؟ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس منا من حلق، ومن سلق، ومن خرق)].
أورد أبو داود حديث امرأة أبي موسى، وكذلك أبي موسى، إلا أن حديث أبي موسى مجمل، ولكن زوجته هي التي روت وفصلت الحديث، ويقال لها أم عبد الله، وفي هذا الحديث: أن يزيد بن أوس قال: دخلت على أبي موسى وهو ثقيل، أي: أنه مريض مرضاً شديداً، فذهبت امرأته لتبكي أو لِتُهمَ بالبكاء، فقال لها: أما سمعت ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فسكتت، ثم لما تُوفي أبو موسى الأشعري لقيها يزيد وقال لها: ما الذي يعنيه أبو موسى عندما قال لك: أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سكت؟ فقالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من حلق، ومن سلق، ومن خرق) أي: ليس من أهل طريقتنا وسنتنا ومنهجنا، وهذا وعيدٌ شديد في حق من حصل منه ذلك، والمقصود بقوله: (ليس منا من سلق) أي: من رفع صوته بالمصيبة، (وحلق) أي: حلق الرأس بسبب المصيبة، (وخرق) أي: خرق الثوب وشقه بسبب المصيبة، وهو مثلما جاء في الحديث الآخر: (لعن الله الصالقة والحالقة والشاقة).(364/32)
تراجم رجال إسناد حديث (ليس منا من حلق ومن سلق ومن خرق)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي، فقد أخرج له في (عمل اليوم والليلة).
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن المعتمر الكوفي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم].
إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن أوس].
يزيد بن أوس مقبول أخرج له أبو داود والنسائي.
[قال: دخلت على أبي موسى].
هو أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وامرأته هي أم عبد الله بنت أبي دومة، وهي صحابية أخرج لها مسلم وأبو داود والنسائي.(364/33)
شرح حديث (كان فيما أخذ علينا رسول الله ألا نخمش وجهاً ولا ندعو ويلاً ولا نشق جيباً)
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا مسدد حدثنا حميد بن الأسود حدثنا الحجاج -عامل لـ عمر بن عبد العزيز على الربذة- حدثني أسيد بن أبي أسيد عن امرأة من المبايعات قالت: (كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المعروف الذي أخذ علينا ألا نعصيه فيه: ألا نخمش وجهاً، ولا ندعو ويلاً، ولا نشق جيباً، وألا ننشر شعراً)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث امرأة من الصحابيات المبايعات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: (كان فيما أخذ علينا الرسول عليه الصلاة والسلام في المعروف الذي أخذ علينا ألا نعصيه فيه -أي: عن البيعة- ألا نخمش وجهاً) أي: ألا تخمش المرأة وجهها، أو تضرب وجهها، أو تضرب خدها.
(ولا ندعو ويلاً) وهذا هو محل الشاهد، ومنع ذلك لأنه من النياحة، وهو رفع الصوت بالويل والثبور وغير ذلك.
(ولا نشق جيباً) وهذا أيضاً عند المصيبة.
(وألا ننشر شعراً) أي: أن ينفش الشعر من أجل المصيبة.(364/34)
تراجم رجال إسناد حديث (كان فيما أخذ علينا رسول الله ألا نخمش وجهاً ولا ندعو ويلاً ولا نشق جيباً)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد مر ذكره.
[حدثنا حميد بن الأسود].
حميد بن الأسود صدوق يهمُ قليلاً، أخرج به البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا الحجاج، عامل لـ عمر بن عبد العزيز].
قيل: هو ابن صفوان، وهو عامل لـ عمر بن عبد العزيز، وهو صدوق له أخرج أبو داود.
[عن أسيد بن أبي أسيد].
أسيد بن أبي أسيد صدوق، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) وأصحاب السنن.
[عن امرأة من المبايعات].
قال ابن حجر: لا يعرف اسمها، ومعلومٌ أن الجهالة في الصحابة لا تؤثر، فالمجهول فيهم في حكم المعلوم كما عرفنا ذلك مراراً وتكراراً.(364/35)
صنعة الطعام لأهل الميت(364/36)
شرح حديث (اصنعوا لآل جعفر طعاماً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب صنعة الطعام لأهل الميت.
حدثنا مسدد حدثنا سفيان حدثني جعفر بن خالد عن أبيه عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد أتاهم أمرٌ شغلهم).
ثم أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب صنعة الطعام لأهل الميت]، أي: أن أهل الميت قد حصل لهم ما يحزنهم وصارت نفوسهم متأثرة، فليس عندهم انشراح ولا استعداد للطبخ وصنع الطعام، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم الناس أن يصنعوا لهم الطعام، وأن يرسلوه إليهم؛ لأنه قد جاءهم ما يشغلهم عن صنع الطعام، فهذا يدل أن على أقارب الميت سواء كانوا القريبين جداً أو غير ذلك أن يصنعوا لهم طعاماً، وأن يرسلوه إليهم، ويكون ذلك الطعام لهم، وليس المقصود من ذلك أن تكون هناك ضيافة، وأن يجتمع الناس بمناسبة الموت، فيأتي لهم أهل الميت بالطعام أو غيرهم، ويُدعى الناس إليه، ويتجمعون عند أهل الميت من أجل الأكل، كما يُفعل ذلك في هذا الزمان في بعض البلاد من بناء السرادقات، ووضع الأنوار، وجلب أناس يقرءون، ثم يتجمع الفقراء ويُصنع لهم طعام لعدة أيام، فيأكل الناس منه، فيصير الأمر وكأنه مناسبة فرح وسرور، وليس مناسبة حُزن وألم وتأثر بسبب الميت الذي فقدوه، ولهذا فإن مثل ذلك من الأمور المحدثة المبتدعة التي أحدثها الناس، وأما الذي جاءت به السنة فهو أن بعض أقارب أهل الميت يصنعون لهم طعاماً على قدرهم.
وأورد أبو داود حديث عبد الله بن جعفر، وفيه: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً؛ فإنه قد جاءهم ما يشغلهم)، وجعفر هو ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وقد استشهد في غزوة مؤتة، وهو أحد الأمراء الثلاثة الذين قُتلوا في سبيل الله، وهو الذي قُطعت يداه، وأصابته سِهام كثيرة حتى أثرت في جسده، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ عبد الله بن جعفر: (هنيئاً لأبيك رأيته يطير مع الملائكة)، ويقال له: ذو الجناحين، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه كما جاء في صحيح البخاري إذا لقي عبد الله بن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين! والمقصود أنه عوّض بجناحين بدلاً من يديه اللتين قطعتا في سبيل الله، فكان يطير مع الملائكة كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(364/37)
تراجم رجال إسناد حديث (اصنعوا لآل جعفر طعاماً)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا سفيان].
مسدد مر ذكره، وسفيان هو ابن عيينة المكي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني جعفر بن خالد].
جعفر بن خالد ثقة أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه هو خالد بن سارة، وهو صدوق أخرج له أصحاب السنن.
[عن عبد الله بن جعفر].
هو عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(364/38)
شرح سنن أبي داود [365]
غسل الميت واجب على الأحياء، وهو فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وقد جاءت صفته في الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما الشهيد فلا يغسل ولا يكفن، بل يدفن في ثيابه التي استشهد فيها.(365/1)
تغسيل الشهيد(365/2)
شرح حديث: (رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما هو)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الشهيد يُغسل.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا معن بن عيسى (ح) وحدثنا عبيد الله بن عمر الجشمي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أنه قال: (رمي رجل بسهمٍ في صدره أو في حلقه فمات، فأدرج في ثيابه كما هو، قال: ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في الشهيد يُغسل]، أي: ما حكم ذلك؟ هل يغسل أو لا يغسل؟
و
الجواب
أنه لا يغسل، فالمقصود بالترجمة: بيان حكم تغسيله وأنه لا يغسل، فقد جاءت السنة بعدم تغسيله، وجاء في بعض الروايات: أنه يأتي يوم القيامة وذلك علامة عليه، وأنه يأتي ودمه يسيل، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، ومعنى ذلك: أن أثر الاستشهاد والقتل في سبيل الله يبقى عليه، إذاً فلا يُغسل؛ لأن الغسل يزيله ويُذهِب أثره، والمقصود بقاء ذلك الأثر؛ لأنه علامة على كونه استشهد وقتل في سبيل الله، وهذا من جنس قصة ذلك الرجل الذي وقصته ناقته في الحج في عرفة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه طيباً؛ فإنه يُبعث يوم القيامة ملبياً) أي: أن ذلك يكون علامة على حجه وتلبسه بتلك العبادة التي مات وهو متلبس بها، فهنا لا يُغسل الشهيد؛ ليكون ذلك علامة له يوم القيامة يُعرف بها.
وقد أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما قال: (رمي رجلٌ بسهم في صدره أو في حلقه فمات، فأدرج في ثيابه كما هو)، ومحل الشاهد قوله: (كما هو) أي: أنه لم يغسل، وإنما دفن على هيئته التي هو عليها، فالشهيد إذن لا يُغسّل.
قوله: (ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) يعني: أنه في غزاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.(365/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (رُمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما هو)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معن بن عيسى].
هو معن بن عيسى صاحب الإمام مالك، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[(ح) وحدثنا عبيد الله بن عمر الجشمي].
هو القواريري، وهو ثقة أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الرحمن بن مهدي].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم بن طهمان].
إبراهيم بن طهمان ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
هو أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(365/4)
حكم تغسيل الشهيد المقتول في غير معركة
قد يقال: لماذا غُسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟
و
الجواب
أن عمر رضي الله عنه لم يكن شهيد معركة، فالذين لا يغسلون هم الذين قُتلوا في المعركة، وأما غيرهم ممن وصفوا بأنهم شهداء فهؤلاء يغسلون، وقد مر بنا في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما تعدون الشهادة فيكم؟ قالوا: من قتل في سبيل الله، فقال: الشهداء سبعة) وذكر أصنافاً من الشهداء ليسوا شهداء معركة في سبيل الله، لكنهم يوصفون بأنهم شهداء، ويغسلون.(365/5)
شرح حديث: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم)
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا زياد بن أيوب وعيسى بن يونس قالا: حدثنا علي بن عاصم عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتلى أُحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أُحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود) والمقصود بالحديد هنا السلاح، وهي الدروع، والجلود هي ما يُلبس من الجلود كالفراء.
قوله: (وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم) أي: ولا يغسلون.(365/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم)
قوله: [حدثنا زياد بن أيوب].
زياد بن أيوب ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[وعيسى بن يونس].
هو عيسى بن يونس الطرسوسي، وهو صدوق أخرج له أبو داود.
[حدثنا علي بن عاصم].
علي بن عاصم صدوق يخطئ ويصر، أي: على الخطأ، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن عطاء بن السائب].
عطاء بن السائب صدوق اختلط، وحديثه أخرجه البخاري وأصحاب السنن.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس] هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث إسناده ضعيف، إلا أن عدم تغسيل الشهداء أمر ثابت في كثير من الأحاديث، والضعف الذي في الإسناد هو بسبب عطاء بن السائب؛ لأنه صدوق اختلط، وعلي بن عاصم ممن روى عنه بعد الاختلاط، ثم أيضاً علي بن عاصم صدوق يخطئ ويصر على الخطأ، إذن ففي هذا الحديث علتان.
وتسمية حنظلة بغسيل الملائكة مع أنه شهيد رضي الله عنه لا يدل على أن الشهداء يغسلون؛ لأن الملائكة غسلته من أجل الجنابة، فقد خرج إلى القتال وهو جنب.
ولا يلزم من ذلك أن الرجل إذا مات وعليه جنابة أن يغسل مرتين: غسل جنابة وغسل ميت؛ بل يكفيه غسل واحد، وهذا كغسل الجمعة وغسل الجنابة، فقد سبق أن مر بنا في سنن أبي داود أنه قال: إذا كان الرجل عليه جنابة واغتسل بعد طلوع الفجر فإنه يجزئ عن الجمعة، أي: أنه ينوي هذا وهذا.(365/7)
شرح حديث: (أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصلّ عليهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب (ح) وحدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب وهذا لفظه أخبرني أسامة بن زيد الليثي أن ابن شهاب أخبره أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثهم: (أن شهداء أُحدٍ لم يُغسلوا، ودفنوا بدمائهم، ولم يصل عليهم)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: [(إن شهداء أحد لم يُغسلوا، ودفنوا بدمائهم، ولم يصل عليهم)]، ومعنى ذلك أنهم لم يُغسلوا، بل دفنوا بدمائهم، ولم يصل عليهم، وهذا يدل على أن الشهداء لا يُغسلون؛ ليبقى ذلك الأثر علامة على الشهادة في سبيل الله عز وجل.
قوله: [(ولم يصل عليهم)] وقد جاء في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمزة، وفي بعضها أنه صلى عليهم كلهم، ولهذا اختلف العلماء في الصلاة على الشهيد، هل يُصلى عليه أم لا يُصلى عليه؟ ووفق بينها الإمام ابن القيم رحمه الله فقال: إن المسلم مخير بين أن يُصلي عليهم أو أن يترك ذلك، فإن صلى عليهم فقد جاء ما يدل على ذلك، وإن لم يصل عليهم فقد جاء ما يدل على ذلك، فيكون الأمر على التخيير، ولكن الصلاة عليهم أولى إذا أمكن، فهي زيادة خير؛ لما فيها من الدعاء.
وأما بالنسبة للتغسيل فإنهم -كما عرفنا- لا يُغسلون؛ ليبقى ذلك الدم علامة يعرفون بها يوم القيامة.
وعلى هذا: فتكون الصلاة عليهم ليست بواجبة كغيرهم، فغيرهم تجب الصلاة عليه على الكفاية، فإن الصلاة على الميت من فروض الكفايات، وأما بالنسبة للشهداء فتجوز الصلاة عليهم، ويجوز تركها، والصلاة عليهم أولى.(365/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[(ح) وحدثنا سليمان بن داود المهري].
هو سليمان بن داود المهري المصري، وهو ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا ابن وهب، وهذا لفظه].
أي: لفظ سليمان؛ لأن ابن وهب يروي عنه في الطريقين.
[أخبرني أسامة بن زيد الليثي].
أسامه بن زيد الليثي صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أن ابن شهاب أخبره].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن أنس بن مالك حدثهم].
أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(365/9)
شرح حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على حمزة وقد مثل به)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا زيد -يعني: ابن الحباب - (ح) وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو صفوان -يعني المرواني -عن أسامة عن الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه المعنى، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر على حمزة رضي الله عنه وقد مُثِلّ به فقال: (لولا أن تجد صفية رضي الله عنها في نفسها لتركته حتى تأكله العافية، حتى يُحشر من بطونها، وقلت الثياب، وكثرت القتلى، فكان الرجل والرجلان والثلاثة يكفنون بالثوب الواحد).
زاد قتيبة: (ثم يدفنون في قبرٍ واحد، فكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يسأل: أيهم أكثر قرآناً؟ فيقدمه إلى القبلة).
أورد أبو داود حديث أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما رأى حمزة وقد مثل به: (لولا أن تجد صفية)، وهي عمة رسول الله وأخت حمزة.
قوله: (لولا أن تجد صفية في نفسها لتركته حتى تأكله العافية)، العافية هي الطيور، أي: يتركه حتى يحشر من بطونها، وهذا هو سبب إيراده في هذا الباب، أي: أن الشهيد لا يُغسل؛ لأن قوله: (تركته) معناه لم يغسله.
ولا أدري ما وجه قوله: (حتى تأكله العافية، وحتى يحشر من بطونها)، فكما هو معلوم أن الأموات من الشهداء وغير الشهداء كلهم يدفنون في الأرض، فكون الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حق حمزة: (لولا أن تجد صفية في نفسها لتركته حتى تأكله العافية، وحتى يُحشر من بطونها) لا أدري ما وجه ذلك.
قوله: (وقلّت الثياب وكثرت القتلى) أي: أنهم ليس عندهم أكفان تكفيهم جميعاً، فكان الجماعة يكفَنون بالثوب الواحد، ومعنى كونهم يكفنون بالثوب الواحد: أن الثوب الذي يكفي الواحد كان يُقسم على اثنين أو ثلاثة، وليس معنى ذلك أنهم يلفون في ثوب واحد، فيستر رأس الميت، أي: أنه يُبدأ من جهة رأسه، وإذا بقي شيءٌ من جهة رجليه فإنه يستر بورق الشجر أو غيره، كما جاء في بعض الأحاديث في قصة مصعب بن عمير، فإنهم لم يجدوا له شيئاً يكفنونه به إلا قطعة صغيرة، فكانوا إن جعلوها على رأسه بدت رجلاه وإن جعلوها على رجليه بدا رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها على رأسه، واجعلوا على رجليه إذخراً).
وفي الحديث أيضاً جواز دفن الجماعة في قبر واحد، وذلك جائز عند الحاجة، كأن يكثر الموتى، فإنه يشق حفر القبور للجميع في وقت واحد، وهذا الأمر جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في هذا الحديث.
قوله: (ثم يدفنون في قبر واحد، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأل: أيهم أكثر قرآناً؟ فيقدمه إلى القبلة) وهذا يدل على فضل حامل القرآن.
وقد اشتهر عند الناس دفن الأطفال بجانب الأموات لعل الميت يُرحم بمجاورتهم!! وهذا لا يشرع، ولا بأس به عند الحاجة، وأما عند عدم الحاجة فلا وجه له، وهذا يفعله بعض الناس، وتجدهم يحرصون إذا مات رجل وطفل على أن يدفن الطفل مع الرجل؛ ليؤنسه!! فمن أين للناس هذه الاعتقادات؟! فإن الإنسان لا يؤنسه في قبره إلا العمل الصالح، وأما غيره فلم يأت شيء يدل عليه، بل كما هو معلوم أن المنعّم منعَّم، وأن المعذب معذب، ولو كانوا في قبرٍ واحد، فهذا لا يدري عن عذاب هذا، وهذا لا يدري عن نعيم هذا، وأمور القبر هي من أمور البرزخ التي لا تُعلم كيفيتها، ولا يبحث عن كيفيتها، بل يجب أن يصدق بكل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم نقف على الكنه والكيفية.(365/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على حمزة وقد مثل به)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة مر ذكره.
[حدثنا زيد -يعني: ابن الحباب -].
زيد بن الحباب صدوق أخرج له البخاري في (جزء القراءة) ومسلم وأصحاب السنن.
[(ح) وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو صفوان -يعني المرواني -].
هو عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان، يقال له: المرواني، ويقال له: الأموي، نسبة إلى مروان، ونسبة إلى بني أمية، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن أسامة عن الزهري عن أنس بن مالك].
قد مر ذكرهم.(365/11)
شرح حديث الصلاة على حمزة بعد قتله وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عباس العنبري حدثنا عثمان بن عمر حدثنا أسامة عن الزهري عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بـ حمزة وقد مُثِّل به، ولم يصل على أحدٍ من الشهداء غيره)].
أورد أبو داود حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بـ حمزة رضي الله عنه وقد مثل به، ولم يصل على أحدٍ من الشهداء غيره)، والمقصود من هذا أنه لم يصل على أحد غيره استقلالاً، وإلا فقد جاء ما يدل على أنه صلى على غيره معه، وأنها تكررت الصلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة.
قوله: [حدثنا عباس العنبري].
هو عباس بن عبد العظيم العنبري، وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عثمان بن عمر].
عثمان بن عمر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أسامة عن الزهري عن أنس].
قد مر ذكرهم.(365/12)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفن قتلى أحد بدمائهم ولم يغسلوا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد ويزيد بن خالد بن موهب أن الليث حدثهم عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أخبره: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ويقول: أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أُشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يُغسلوا)].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله، وهو مثل الذي قبله في عدم تغسيل الشهيد، فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بدفنهم بدمائهم ولم يغسلوا، وفيه كان يجمع بين الرجلين في القبر الواحد، ويسأل عن أكثرهما أخذاً للقرآن فيقدمه.(365/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفن قتلى أحد بدمائهم ولم يغسلوا)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد ويزيد بن خالد بن موهب].
يزيد بن خالد بن موهب ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أن الليث حدثهم].
هو الليث بن سعد المصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك].
عبد الرحمن بن كعب بن مالك ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله، وقد مر ذكره.(365/14)
شرح حديث دفن قتلى أحد بدمائهم والجمع بين الرجلين منهم في ثوب وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود المهري حدثنا ابن وهب عن الليث بهذا الحديث بمعناه، قال: (يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوبٍ واحد)].
أورد المصنف الحديث من طريقٍ آخر، وفيه: (أنه جمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد) في حال التكفين، ولكن كأن المقصود: في قبر واحد، وأما الثوب الواحد فإنه يقسم على اثنين كما مر في الحديث السابق.
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب عن الليث بهذا الحديث بمعناه].
قد مر ذكرهم جميعاً.(365/15)
ستر الميت عند غسله(365/16)
شرح حديث: (لا تبرز فخذك ولا تنظرن إلى فخذ حي ولا ميت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ستر الميت عند غسله.
حدثنا علي بن سهل الرملي حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرت عن حبيب بن أبي ثابت عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تبرز فخذك، ولا تنظرنّ إلى فخذ حي ولا ميت)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى باباً في ستر الميت عند غسله، أي: أن عورته تستر عند غسله، والعورة هي من السرة إلى الركبة، ويكون الغسل من تحت السترة التي تكون على العورة، وأما غير العورة فلا بأس أن يكون مكشوفاً، كساقيه، وما فوق سُرته.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث علي رضي الله عنه مرفوعاً: (لا تبرز فخذك، ولا تنظرنّ إلى فخذ حي ولا ميت)، ومحل الشاهد من هذا الحديث هو قوله: (ولا ميت)، والحديث ضعيف؛ لأن فيه انقطاعاً بين ابن جريج وحبيب بن أبي ثابت، وقيل أيضاً: إن فيه انقطاعاً بين حبيب بن أبي ثابت وعلي، فـ حبيب بن أبي ثابت يرسل ويُدلس، والانقطاع بين ابن جريج وحبيب بن أبي ثابت واضح وبيّن، فقد قال ابن جريج: أُخبرتُ عن حبيب بن أبي ثابت، فالمُخبِر غير مذكور، إذاً: فهناك واسطةٌ محذوفة، فالحديث ضعيف.
ولكن ذكْر الفخذ والعورة جاء في أحاديث متعددة، قال الشيخ الألباني رحمه الله: إنها تصل إلى حد الاحتجاج بمجموعها، فقد جاء في بعض الأحاديث بدو فخذ النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعضها تذكر شيئاً حول شكل فخذه وساقيه، وجاء عن أنس: (أنه انحسر عن فخذه صلى الله عليه وسلم وكان راكباً على دابته، وهو في زقاق من أزقة خيبر، وذلك يوم فتح خيبر)، وقد قال بعض أهل العلم: إن هذا الانحسار هو بسبب شدة جري الفرس الذي كان راكباً عليه صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الاحتياط في الدين، وأن الأخذ بما جاء في ستر العورة، والاحتراز فيها، وعدم النظر إليها، وعدم إبدائها، هو الذي ينبغي أن يحرص عليه.
وقال بعض أهل العلم: إن العورة عورتان: عورة مغلظة، وعورة مخففة، فالعورة المغلظة هي السوءة، والعورة المخففة هي الفخذان، فعلى الإنسان أن يحرص على ألا يبدي شيئاً من عورته مطلقاً، سواء كانت المغلظة أو المخففة، وإن كان بعضها أشد من بعض، إلا أن هذا مثل الحِمى، ومن تساهل في الحِمى يمكن أن يتساهل حتى يصل إلى ما هو مغلظ.(365/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تبرز فخذك ولا تنظرن إلى فخذ حي ولا ميت)
قوله: [حدثنا علي بن سهل الرملي].
علي بن سهل الرملي صدوق أخرج له أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة.
[عن حجاج].
هو حجاج بن محمد المصيصي الأعور، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرت عن حبيب بن أبي ثابت].
وهذا فيه واسطة محذوفة كما هو ظاهر، وحبيب بن أبي ثابت ثقة يُرسل ويُدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عاصم بن ضمرة].
عاصم بن ضمرة صدوق أخرج له أصحاب السنن.
[عن علي].
هو أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(365/18)
شرح حديث غسل الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق حدثني يحيى بن عباد عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير أنه قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: (لما أرادوا غسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا، أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلِّم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن اغسلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص دون أيديهم، وكانت عائشة تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه).
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي تكلم أصحابه كيف يغسلونه؟ هل يجردونه كما يجردون الموتى؟ وهذا يدلنا على أنهم يجردون الموتى عند التغسيل، ولكنهم لما توفي صلى الله عليه وسلم اختلفوا في ذلك؛ هل يعمل به كما يعمل بغيره أو لا؟ فألقى الله عليهم النوم حتى صار كل واحد منهم ذقنه على صدره، فسمعوا صوتاً من ناحية البيت يقول: اغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه، فقاموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يغسلونه وعليه ثيابه، فكانوا يصبون الماء ويغسلونه من وراء الثياب، أي: أن أيديهم لم تمس بشرته صلى الله عليه وسلم.
ومحل الشاهد من إيراد الحديث تحت الترجمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مستوراً عند تغسيله، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فغيره كان يجرد من الثياب مع ستر العورة، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد غسل وعليه قميصه صلى الله عليه وسلم، فلم يجرد منه، وأما غيره فإنه يجرد ولكن تغطى سوأته وتُغسل السوأة من تحت الستار، ويكون ذلك بشيءٍ يغسل به كالقماش ونحوه، وهذا فيما إذا كان الذي يغسل غير الزوجة أو الزوج، وأما الزوجة والزوج فلكل منهما أن يغسل الآخر، وأن ينظر إلى عورة صاحبه، وقد جاء في الحديث: (احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك)، فتغسيل أحد الزوجين للآخر ونظره إلى سائر جسده هذا أمر لا إشكال فيه، وإنما الشأن في غيرهما، فلا ينظر إلى العورة، ولذا جاء عن عائشة أنها قالت: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلا أزواجه) أي: كأنه بدا لها في آخر الأمر أنه لو كان كل شيءٍ أمامها ولم يمض ولم يفت ما فات؛ لكان أزواجه هن اللاتي يغسلنه، ومعلومٌ أن الزوجة إذا غسلت زوجها فإنها سترى منه كل شيء، كما أن الرجل له أن يغسل زوجته، وأن يرى منها كل شيء، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ عائشة: (لو مت قبلي غسلتك ودعوت لك)، فالرجل يغسل زوجته، والزوجة تُغسل زوجها.
إذاً: ستره صلى الله عليه وسلم كله عند غسله هو من خصائصه عليه الصلاة والسلام، وأما غيره فكانوا يجردونهم من ثيابهم، ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أيضاً أن الناس صلوا عليه وحداناً، فكان كل واحد يصلي عليه لوحده، ولهذا تأخر بقاؤه ودفنه يومين؛ ليتمكن الجميع من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وقد أمنوا عليه من التغير، وكانوا يصلون عليه وحداناً؛ ليكون إمامهم حياً وميتاً صلى الله عليه وسلم، وجاء أيضاً أن من خصائصه أنه يدفن في بيته، فقد دفن صلى الله عليه وسلم في بيته، وأما غيره فلا يجوز دفنه في بيته، ومن خصائصه أيضاً: أنه جعل تحته في لحده قطيفة حمراء، وقد ذكر الحافظ الذهبي رحمه الله في ترجمة عبد الله بن لهيعة هذه الخصائص الأربع، ومنها: أنه دفن في بيته، فلا يجوز لغيره أن يحتج بذلك، أو أن يدفن في البنيان اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا من خصائصه.(365/19)
تراجم رجال إسناد حديث غسل الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه
قوله: [حدثنا النفيلي].
هو عبد الله بن محمد النفيلي وهو ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن سلمة].
هو محمد بن سلمة الباهلي الحراني، وهو ثقة أخرج له البخاري في (جزء القراءة) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني يحيى بن عباد].
هو يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، وهو ثقة أخرج له البخاري في (جزء القراءة) وأصحاب السنن.
[عن أبيه عباد بن عبد الله].
أبوه عباد بن عبد الله ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(365/20)
الأسئلة(365/21)
حكم غسل الزوج لزوجته والزوجة لزوجها بعد الموت
السؤال
بعض الفقهاء يقول: إن الزوج لا يُغسل زوجته وكذلك الزوجة لا تُغسله لأن عقد الزوجية انتهى، فهل هذا صحيح؟
الجواب
معلوم أنها تحدّ عليه أربعة أشهر وعشراً، أو مدة حملها إن كانت حاملاً، وكل ذلك من أجله، لأنها محبوسة عليه هذه المدة وإن حصل الموت، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة: (لو متِّ قبلي غسلتكِ)، وعائشة تقول كما في هذا الحديث: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أهله)، ولذلك لا يقال: إن الزوجية انتهت، وأنه ليس هناك أي ارتباط؛ فيحرم عليه أن ينظر إليها وأن تنظر إليه، فإن كلاً من الزوجين يجوز له أن ينظر إلى عورة الآخر، وقد جاء أيضاً في بعض الأحاديث أن المرأة إذا كان لها عدة أزواج فإنها تكون في الجنة للآخر منهم، وهذا الآخر هو الذي ماتت وهي عنده، فدل ذلك على أنه لم ينفصل ما بينهما.(365/22)
حكم تغسيل المحارم للمرأة
السؤال
هل يجوز أن يغسل المرأة محارمها؟
الجواب
لا يغسل الرجالُ النساءَ إلا الزوج للزوجة، ولا تُغسل النساءُ الرجالَ إلا الزوجة لزوجها، فالمحارم لا يغسلون محارمهم، فلا يغسل الرجل أمه، ولا أخته، والبنت لا تغسل أباها، وإنما تغسل النساء النساء، والرجال يغسلون الرجال، والمرأة تغسل زوجها، والرجل يغسل زوجته.(365/23)
كيف سمع الصحابة الصوت الذي ناداهم مع أنه ألقي عليهم النوم؟
السؤال
قوله في الحديث: فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مُكِّلمٌ من ناحية البيت لا يدرون من هو، فكيف سمعوا الصوت وهم نيام؟
الجواب
معلوم أنهم أصابهم نُعاس، والنعسان يسمع الصوت كما هو معروف، وكذلك النائم يسمع الصوت فيستيقظ.(365/24)
كيفية غسل الميت(365/25)
شرح حديث أم عطية في غسل زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كيف غسل الميت.
حدثنا القعنبي عن مالك (ح) وحدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد المعنى، عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أم عطية رضي الله عنها، أنها قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين توفيت ابنته، فقال: (اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك، بماءٍ وسدر، واجعلن في الآخر كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتنّ فآذنني، فلما فرغنا آذنّاه، فأعطانا حقوه، فقال: أشعرنها إياه)، قال عن مالك: يعني: إزاره، ولم يقل مسدد: (دخل علينا)].
أورد أبو داود هذه الترجمة [باب كيف غسل الميت]، وهذه الترجمة عقدها أبو داود رحمه الله لبيان كيفية تغسيل الميت، وتغسيل الميت يكون وتراً، وكل غسلة منها تستوعب الجسد كله، والواجب هو غسلة واحدة كافية، وإن احتيج إلى أكثر من ذلك فإنه يُغسل وتراً، وهذا يرجع إلى نظر الغاسل، فإذا رأى الغاسل أن التنقية قد حصلت بواحدة فلا بأس، وإن حصلت بثلاث غسلات فبها، وإن حصلت بخمس فكذلك وهكذا، وقد جاء في بعض الروايات أن البدء يكون بالميامن ومواضع الوضوء، ومعنى ذلك أن الغسلة الأولى يكون فيها وضوء، ثم يكمل الغسل، وأما الغسلات الأخرى فإنها تكون مستوعبة لجميع الجسد، ولكن يبدأ بالميامن، وهذا سيأتي في حديث أم عطية: (ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها).
والحاصل: أن الميت يُغسل سائر جسده، وأن ذلك يكون وتراً، والمقصود هو الإنقاء والنظافة، فإذا تمت بدون عددٍ كبير اكتفي بها، وإن احتيج إلى إكثار الغسلات فلا بأس في ذلك.
ثم ذكر أبو داود حديث أم عطية قالت: (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين توفيت ابنته)، قيل: هي زينب، وهي كبرى بناته رضي الله تعالى عنها، وهي زوجة أبي العاص بن الربيع، وأم أمامة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحملها في الصلاة، فكان إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها، وجاء في بعض الأحاديث -كما سيأتي- أنها أم كلثوم، وأم كلثوم كانت متأخرة الوفاة، فقد توفيت سنة تسع، وقيل: إن أم عطية غسلت هذه وهذه، ولكن المعروف أنها زينب.
قوله: (أكثر من ذلك) أي: أكثر من خمس، (إن رأيتن ذلك) أي: إن رأيتن حاجة إلى الزيادة، ولكن ليكن الختم بوتر، وقد جاء أيضاً ذكر السبْع والأكثر من ذلك، ومعنى هذا أن الأمر في غسل الميت مفوَّض إلى الغاسل إذا كان يرى حاجة إلى زيادة الغسلات.
قوله: (بماءٍ وسدر)؛ لأنه يكون أكمل في التنقية والتنظيف.
قوله: (واجعلن في الآخرة كافوراً) أي: في الغسلة الأخيرة التي يكون بعدها التكفين، وهذا فيه تصليب للجسد ومناعة.
قوله: (أو شيئاً من كافور) هذا شك: هل قال: كافوراً أو شيئاً من كافور؟ قوله: (فإذا فرغتن فآذنني) أي: إذا لم يبق إلا التكفين وفرغتن من الغسل فآذنني، أي: أخبرنني بأنكن انتهيتن.
قولها (فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوه)، المقصود بالحقو هنا الإزار، والحقو هو معقل الإزار، وقيل له حقوة؛ لأنه هو الذي يلامسه، وفي بعض الألفاظ: (أنه أعطاهن إزاره).
قوله: (أشعرنها إياه) أي: اجعلنه يلي جسدها؛ لأنه كان يلي جسده صلى الله عليه وسلم، فهو حقوه الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يكون على ابنته ويلي جسدها، وفي ذلك بركة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يتبرك به وبما لامس جسده صلى الله عليه وسلم، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتبركون بذلك، وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، فكانوا يتبركون بشعره إذا حلقه، وكذلك كانوا يتبركون بفضل وضوئه، ويتبركون بعرقه وما مسته يده صلى الله عليه وسلم، وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، ولا يقاس غيره عليه؛ ولهذا لم يكن الصحابة يفعلون ذلك مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم خير الناس، وقد ظفر به أصحابه الكرام الذين أكرمهم الله بصحبته، وجعل وجودهم في زمانه، وجعلهم المجاهدين معه، والمتحملين للشريعة، والمبلّغين لها إلى الناس، فكانوا بذلك الواسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والشعار: هو الذي يلي الجسد، والذي فوقه يسمى الدثار، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين لما وجدوا ما وجدوا في أنفسهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنائم وأعطاها المؤلفة قلوبهم، والذين أسلموا عام الفتح؛ ليتألفهم، فوجدوا في أنفسهم وتكلم بعضهم، فقالوا: إن سيوفنا تقطر من دمائهم ثم يُعطيهم العطاء ولم يُعطنا! فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمعهم في مكان، وتحدث معهم، وبيّن فضلهم، وتكلم بالكلام الذي صار خيراً لهم من إعطاء الإبل والذهب والفضة، فكان مما قاله: (ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ ثم قال: الأنصار شعار والناس دثار) أي: أن الأنصار كالشعار الذي يلي جسدي، وغيرهم كالدثار الذي يكون وراء ذلك.
قوله: [قال عن مالك: يعني: إزاره] هذا تفسير للحقو.
قوله: [ولم يقل مسدد دخل علينا]، هو أحد شيخي أبي داود هنا.(365/26)
تراجم رجال إسناد حديث أم عطية في غسل زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[(ح) وحدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا حماد بن زيد].
حماد بن زيد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[المعنى عن أيوب].
قوله: المعنى، أي: أن الطريقين ليستا متفقتين في الألفاظ، وإنما اتفقتا في المعنى، وأيوب هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن سيرين].
محمد بن سيرين ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أم عطية].
هي نسيبة الأنصارية رضي الله عنها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(365/27)
تنبيهات في غسل الميت
تنبيهات: الأول: أن الصابون يقوم مقام السدر، فالمقصود هو التنظيف، وذلك بأي شيء يكون به التنظيف.
الثاني: لا معنى لطرح ورق السدر في الماء كما يفعله العامة، قاله العيني، وقال زين بن المنير: ظاهره أن السدر يخلط في كل مرة من مرات الغسل؛ لأن قوله: (بماءٍ وسدر) يتعلق بقوله: (اغسلنها)، قال: وهو مشعر بأن غسل الميت للتنظيف لا للتطهير؛ لأن الماء المضاف لا يُتَطهر به، وتعقبه الحافظ بمنع لزوم مصير الماء مضافاً بذلك؛ لاحتمال ألا يغير السدر وصف الماء بأن يمعك بالسدر ثم يُغسل بالماء في كل مرة.
الثالث: أن غسل الميت مثل الغسل من الجنابة، والمقصود هو استيعابه، فتغسل المغابن والأماكن التي يكون فيها الوسخ، كما بين الفخذين، وكذلك تحت الركب، وكذلك بين الأصابع، والمهم هو أن يُغسل كله.(365/28)
شرح حديث أم عطية في غسل زينب من طريق ثانية وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن عبدة وأبو كامل بمعنى الإسناد، أن يزيد بن زريع حدثهم قال: حدثنا أيوب عن محمد بن سيرين عن حفصة أخته عن أم عطية رضي الله عنها أنها قالت: (مشطناها ثلاثة قرون)].
أورد أبو داود طريقاً أخرى وفيها ما يتعلق بالرأس، وأنهم مشطوها، والمَشْط هو استعمال المُشْط في تسريح الشعر؛ ليظهر ما فيه من وسخ، وجعلوها ثلاثة قرون، أي: ثلاث ضفائر من الجانبين والناصية، وكلها توضع وراءها بعد جعلها ثلاث ضفائر، كما سيأتي في رواية أخرى، وقد أخذ بعض أهل بعض العلم من هذا أن الميت تخلل لحيته بالمشط أي: تسرّح بالمشط؛ من أجل تنظيفها.
قوله: [حدثنا أحمد بن عبدة].
أحمد بن عبدة ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[وأبو كامل].
هو أبو كامل الجحدري واسمه فضيل بن حسين، وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي.
[أن يزيد بن زريع حدثهم].
يزيد بن زريع ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أيوب عن محمد بن سيرين عن حفصة].
حفصة هي بنت سيرين، وهي ثقة أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
وقد رواه محمد بن سيرين في الطريق الأولى عن أم عطية رضي الله عنها، وهنا يرويه عن أخته حفصة عن أم عطية، فلعله سمعه أولاً بواسطة ثم سمعه بعد ذلك مباشرة.
[عن أم عطية].
أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قد مر ذكرها.(365/29)
شرح حديث أم عطية في غسل زينب من طريق ثالثة وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الأعلى حدثنا هشام عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية رضي الله عنها أنها قالت: (وضفرنا رأسها ثلاثة قرون، ثم ألقيناها خلفها: مقدم رأسها وقرنيها)].
أورد أبو داود حديث أم عطية من طريق أخرى، وفيه تفصيل ما يتعلق بالرأس، ففي الرواية السابقة ذكرت أنهن مشطنه وجعلنه ثلاثة قرون، وهنا ذكرت أنهن جعلنه ثلاث ضفائر: القرنين وهما الجانبان، ومقدم الرأس وهو الناصية، ثم جعلنه كله من ورائها.
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
محمد بن المثنى هو أبو موسى العنزي الملقب بـ الزمن، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الأعلى].
هو عبد الأعلى بن عبد الأعلى، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام].
هو هشام بن حسان وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حفصة عن أم عطية].
حفصة وأم عطية مر ذكرهما.(365/30)
شرح حديث أم عطية في غسل زينب من طريق رابعة وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو كامل حدثنا إسماعيل حدثنا خالد عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لهن في غسل ابنته: (ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها)].
أورد أبو داود حديث أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها)، أي: أنها توضأ أولاً، ثم تُكمل الغسلة الأولى، ثم بعد ذلك الغسلات الأخرى التي تليها، ويكون الغسل لجميع الجسد، ولكن يبدأ بالميامن، وقوله: (ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها)، أي: أنه في الغسلة الأولى يُبدأ بمواضع الوضوء، ثم تكمل الغسلة الأولى على التمام، ثم يؤتى بالغسلة الثانية والثالثة أو الرابعة والخامسة وما فوق ذلك مع الختم على وتر، ويبدأ مع كل غسلة بالميامن.
قوله: [حدثنا أبو كامل حدثنا إسماعيل].
هو إسماعيل بن علية، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا خالد بن مهران].
هو خالد بن مهران الكاهلي الحذاء، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حفصة عن أم عطية].
حفصة وأم عطية مر ذكرهما.(365/31)
شرح حديث أم عطية من طريق خامسة وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد عن أيوب عن محمد عن أم عطية رضي الله عنها بمعنى حديث مالك، زاد في حديث حفصة عن أم عطية بنحو هذا، وزادت فيه: (أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتنَّه)].
جاء في الروايات السابقة ذكر الخمس في نهاية الغسلات، وهنا ذكر السبع، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، أو أكثر من ذلك إن رأيتنه) أي: إن رأيتن أكثر من سبع عند الحاجة إلى ذلك، لكن مع الختم على وتر.
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد].
هو محمد بن عبيد بن حساب، وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد عن أيوب].
حماد هو ابن زيد، وأيوب مر ذكره.
[عن محمد عن أم عطية].
محمد هو ابن سيرين، وهو وأم عطية قد مر ذكرهماً.
[بمعنى حديث مالك، زاد في حديث حفصة: عن أم عطية بنحو ذلك].
أي: بمعنى حديث مالك المتقدم.(365/32)
شرح أثر محمد بن سيرين أنه كان يأخذ الغسل عن أم عطية وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هدبة بن خالد حدثنا همام حدثنا قتادة عن محمد بن سيرين أنه كان يأخذ الغُسل عن أم عطية، يغسل بالسدر مرتين والثالثة بالماء والكافور].
أي: معناه أن الغسلة الأخيرة يكون فيها الماء والكافور، وأما السدر فيكون قبل ذلك.
قوله: [حدثنا هدبة بن خالد].
هدبة بن خالد يقال له: هداب بن خالد، وهو من شيوخ البخاري ومسلم، والبخاري لا يذكره إلا بلفظ: هدبة، وأما مسلم فيذكره بلفظ: هدبة وهداب، وقيل: إن هدبة اسم، وهداب لقب، فيكون هذا من قبيل الألقاب المأخوذة من الأسماء؛ لأنها من مشتقاتها، وهذا يقع كثيراً في الألقاب، ومثل ذلك أيضاً قولهم لعبد الله: عبدان، ومثل عبد الرحمن بن إبراهيم فإنه يقال له: دحيم، وهدبة ثقة أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود.
[حدثنا همام].
هو همام بن يحيى العوذي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن سيرين].
محمد بن سيرين مر ذكره.(365/33)
شرح سنن أبي داود [366]
بعد غسل الميت لابد من تكفينه، وينبغي الإحسان في تكفين الميت، بأن يكون الكفن ساتراً جميع بدنه، من دون مغالاة أو مباهاة، وقد جاءت صفة الكفن للرجل والمرأة في الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.(366/1)
صفة الكفن(366/2)
شرح حديث: (إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الكفن.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحدث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه خطب يوماً فذكر رجلاً من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل، وقُبر ليلاً، فزجَر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقبر الرجل بالليل حتى يُصلى عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كفن أحدكم أخاه فليُحسن كفنه).
قوله: [باب في الكفن]، أي: كفن الميت، فإن الميت يكفن بأثواب نظيفة، ولا يكون فيه مغالاة ولا تقصير، وإنما يتوسط فيه ويعتدل، ويكون ذلك وفقاً لما هو مشروع، ففي حال اليسار والإمكان يكون الكفن ثلاث لفائف بيض يلف بها، وإذا لم يتيسر إلا واحدة فإنه يكتفى بواحدة، وإذا لم يمكن إلا أقل من واحدة فإنها تجعل على مقدم رأسه، وما سوى ذلك يجعل عليه ورق من الشجر ونحوه؛ حتى يواري جسده إذا وضع في لحده، والمقصود هو الاعتدال والتوسط.
وأورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: (أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفي وكفن بكفن غير طائل) أي: غير كاف (ودفن ليلاً، فزجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك إلا أن يضطر إليه)، أي: الدفن ليلاً، وقال: (إذا كفن أحدكم أخاه فليُحسن كفنه)؛ لأنهم كفنوه بكفن غير طائل، فأرشد هنا إلى إحسان الكفن، فلا يكون فيه إسراف ومغالاة، ولا تقصير وتقتير، وإنما يكون على الوجه الذي فيه كفاية، وذلك من غير إفراط أو تفريط، ومن غير غلوٍ أو تقصير، والرسول صلى الله عليه وسلم خطب وأعلمهم بأن هذا الذي قد حصل ما كان ينبغي أن يحصل.
والدفن في الليل يترتب عليه شيئان، أولاً: أن الكفن قد يكون غير كاف، والأمر الثاني: أنه يفوت وجود جماعة كثيرة حتى تصلي على الميت، فالدفن في النهار هو الأولى، وهو الذي ينبغي، إلا إذا دعت الحاجة إلى الدفن ليلاً فلا بأس بذلك، لاسيما إذا كان العدد سيصلّون عليه مثل الذين سيصلون عليه في النهار، وذلك كأن يصلي الناس صلاة العشاء ثم يصلون عليه ويدفنونه، فإن العدد الذي يمكن أن يصلي عليه في النهار يمكن أن يصلي عليه مثله في الليل، وأما إذا كان الدفن بعد منتصف الليل مثلاً، فإنه قد يصلي عليه عدد قليل، وقد يكون الكفن غير كافٍ؛ لأن الناس نائمون، فليس هناك مجال للذهاب إلى السوق والإتيان بكفن كاف، فهذه من الأمور التي تحصل في الدفن ليلاً، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إذا كفن أحدكم أخاه فليُحسن كفنه) أي: يكون الكفن نظيفاً أبيض كما جاء في بعض الروايات، وأن يكون كافياً.(366/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، الإمام الفقيه المحدث أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
هو أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنه سمع جابر].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(366/4)
شرح حديث: (أدرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب حبرة ثم أخر عنه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثنا الزهري عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (أُدرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ثوب حبرة، ثم أُخر عنه).
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُدرج في ثوب حبرة، ثم أُخر عنه) والثوب الحبرة هي ثياب تصنع في اليمن، وفيها خطوط، فأخر عنه وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية.(366/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (أدرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب حبرة ثم أخر عنه)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن حنبل مر ذكره.
[حدثنا الوليد بن مسلم].
هو الوليد بن مسلم الدمشقي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن القاسم بن محمد].
هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عن أبي بكر وعن الصحابة أجمعين، والقاسم بن محمد أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة رضي الله تعالى عنها، وهي عمة القاسم، وهي الصديقة بنت الصديق، وقد مر ذكرها.(366/6)
شرح حديث: (إذا توفي أحدكم فوجد شيئاً فليكفن في ثوب حبرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن الصباح البزار حدثنا إسماعيل -يعني: ابن عبد الكريم - حدثني إبراهيم بن عقيل بن معقل عن أبيه عن وهب -يعني: ابن منبه - عن جابر رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إذا تُوفي أحدكم فوجد شيئاً فليكفّن في ثوب حبرة).
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توفي أحدكم فوجد شيئاً) يعني: سعة (فليكفن في ثوب حبرة)، وقد جاء في الحديث الآخر: (إن خير ثيابكم البياض، فالبسوها، وكفنوا فيها موتاكم) فيجمع بينه وبين ذاك بأنه أبيض مع وجود خطوط خفيفة فيه، فلا يخرجه ذلك عن كونه أبيض.(366/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا توفي أحدكم فوجد شيئاً فليكفن في ثوب حبرة)
قوله: [حدثنا الحسن بن الصباح البزار].
الحسن بن الصباح البزار صدوق يهم، أخرج له أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا إسماعيل يعني: ابن عبد الكريم].
إسماعيل بن عبد الكريم صدوق، أخرج له أبو داود وابن ماجة في التفسير.
[حدثني إبراهيم بن عقيل بن معقل].
إبراهيم بن عقيل بن معقل صدوق، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
أبوه صدوق أخرج له أبو داود.
[عن وهب بن منبه].
وهب بن منبه ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة، فقد أخرج له في (التفسير).
[عن جابر].
جابر مر ذكره.(366/8)
شرح حديث: (كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب يمانية بيض)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن هشام أخبرني أبي أخبرتني عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كُفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثة أثواب يمانية بيض، ليس فيها قميص ولا عمامة)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كُفِّن في ثلاثة أثواب يمانية بيض، ليس فيها قميص ولا عمامة)، أي: ليس في هذه الثلاثة قميص ولا عمامة، والمقصود من ذلك هو نفي وجود العمامة في التكفين، لا أن الثلاثة زائدة على القميص والعمامة، وأن هناك قميصاً وعمامة وثلاثة أثواب.(366/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب يمانية بيض)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام].
هو هشام بن عروة، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو عروة بن الزبير، وهو ثقة أحد فقهاء المدينة السبعة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
قد مر ذكرها.(366/10)
شرح حديث: (كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب يمانية) من طريق ثانية وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حفص عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها مثله زاد: (من كُرسف)، قال: فذكر لـ عائشة قولهم: (في ثوبين وبردٍ وبردِ حِبرة، فقالت: قد أُتي بالبُرد ولكنهم ردوه ولم يكفنوه فيه)].
أورد أبو داود حديث عائشة من طريق أخرى، وأنه صلى الله عليه وسلم كُفن في ثوبين من كرسف، وهذا بيان لنوع القماش، فذُكر لـ عائشة قولهم: في ثوبين وبُرد حِبرة، أي: أنه في ثوبين، والثالث من الحبرة، فقالت: قد أُتي بالبُرد ولكنهم ردوه ولم يكفنوه فيه.
ولعل ذلك هو الذي سبق أن مر ذكره في الحديث الذي فيه: أنه أدرج في ثوب حبره ثم أُخر عنه.
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حفص].
هو حفص بن غياث، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة].
قد مر ذكرهم.(366/11)
شرح حديث: (كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب نجرانية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل وعثمان بن أبي شيبة قالا: حدثنا ابن إدريس عن يزيد يعني ابن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كُفّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثة أثواب نجرانية: الحلة ثوبان، وقميصه الذي مات فيه)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب نجرانية) أي: منسوبة إلى نجران، (الحلةُ ثوبان)، الحلة: هي ما كانت مكونة من إزار ورداء، فإذا كان إزاراً بدون رداء، أو رداء بدون إزار فإنه لا يقال له: حُلة، أي: أنه كفن في إزار ورداء وقميص، وإنما هي اسم لمجموع الشيئين.
وهذا الحديث غير صحيح؛ لأن في إسناده يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، ثم هذا الحديث أيضاً يخالف الأحاديث الصحيحة التي فيها: (أنه صلى الله عليه وسلم كُفن بثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة)، وهذا فيه ذكر القميص.
[قال أبو داود: قال عثمان: في ثلاثة أثواب: حُلة حمراء، وقميصه الذي مات فيه].
وفيه أن الحُلة كانت حمراء.(366/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب نجرانية)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل وعثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فقد أخرج له في (عمل اليوم والليلة).
[حدثنا ابن إدريس].
هو عبد الله بن إدريس، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد يعني: ابن أبي زياد].
يزيد بن أبي زياد ضعيف، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن مقسم].
مقسم صدوق أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(366/13)
كراهية المغالاة في الكفن(366/14)
شرح حديث: (لا تغلوا في الكفن فإنه يسلب سلباً سريعاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كراهية المغالاة في الكفن.
حدثنا محمد بن عبيد المحاربي حدثنا عمرو بن هاشم أبو مالك الجنبي عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لا يغال لي في كفن، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا تَغَالوا في الكفن؛ فإنه يُسلب سلباً سريعاً)].
أورد أبو داود [باب كراهية المغالاة في الكفن]، وقد ذكر صاحب (عون المعبود) أن هذه الترجمة توجد في بعض النسخ، وأما أكثر النسخ فلا وجود لهذه الترجمة فيها، ومعنى ذلك: أن الأحاديث التي فيها هي تابعة للباب الذي سبق، ومما يوضح أن حذف هذه الترجمة: أنه ذكر فيها أشياء ليس فيها مغالاة، ففيها قصة مصعب بن عمير عندما لم يجدوا له إلا نمرة لا تستر جسده كله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها على رأسه، ثم اجعلوا على باقي جسده شيئاً من الإذخر)، فهذا ليس فيه مغالاة، وأما الحديث الأول ففيه مغالاة، وأما الأحاديث الأخرى فليست كذلك، فالأولى أن تكون هذه الترجمة غير موجودة، وأن تبقى كلها تحت باب الكفن، فتكون فيه أحاديث في المغالاة وغير المغالاة، وهذا هو المناسب والأولى.
قال علي رضي الله عنه: (لا تغال لي في كفن) أي: عندما أموت، (فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا تَغَالوا في الكفن فإنه يُسلب سلباً سريعاً)، أي: يذهب، والحي أولى به من الميت، فالأرض ستأكله وسينتهي بسرعة.(366/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تغلوا في الكفن فإنه يسلب سلباً سريعاً)
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد المحاربي].
محمد بن عبيد المحاربي صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عمرو بن هاشم أبو مالك الجنبي].
عمرو بن هاشم أبو مالك الجنبي لين الحديث، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن إسماعيل بن أبي خالد].
إسماعيل بن أبي خالد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عامر].
هو عامر بن شراحيل الشعبي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي رضي الله عنه].
وقد مر ذكره.
والحديث في إسناده رجل لين الحديث، فهو غير صحيح، إلا أن المغالاة في الكفن -كما هو معلوم- غير مطلوبة، كما أنه لا يُقصر في الكفن، وإنما المطلوب هو التوسط والاعتدال.(366/16)
شرح حديث: (غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه شيئاً من الإذخر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن خباب رضي الله عنه أنه قال: (إن مصعب بن عمير رضي الله عنه قُتل يوم أُحد ولم يكن له إلا نَمِرة، كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا رجليه خرج رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: غطّوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه شيئاً من الإذخر).
أورد أبو داود حديث خباب رضي الله عنه: أن مصعب بن عمير رضي الله عنه استشهد يوم أحد، وأنهم لم يجدوا له إلا نمرة، فكانوا إذا غطوا بها رجليه بدا رأسه، وإذا غطوا رأسه بدت رجلاه، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه شيئاً من الإذخر)، وهو شجر طيب الرائحة، فهذا يدل على أن الترجمة التي مرت وهي: كراهية المغالاة، أن عدم وجودها أولى من وجودها، فهذا الحديث ليس فيه مغالاة في الكفن، بل إن هذا فيه ضرورة وحاجة شديدة، وقد سبق أنه كثر القتلى وقلت الثياب، فكان يُجمع بين الاثنين والثلاثة في ثوب واحد، أي: أن الذي يكفي الواحد يُقسم على ثلاثة؛ وذلك لقلة الثياب، وحال مصعب مثال من أمثلة ذلك، فإنهم لم يجدوا له إلا نمرة، فأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها على رأسه، وأن يُجعل على رجليه شيء من الإذخر، وهذا الحديث يدل أيضاً على أن حاجة الميت من التكفين وغيره مقدمة على الميراث والوصية وسداد الدين، أي: ما يكون به التكفين وما يلزم لذلك فإنه مقدم على غيره.(366/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه شيئاً من الإذخر)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان الثوري].
سفيان الثوري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي وائل].
هو شقيق بن سلمة، وهو ثقة مخضرم أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خباب].
هو خباب بن الأرت رضي الله عنه أخرج له أصحاب الكتب الستة.(366/18)
شرح حديث: (خير الكفن الحلة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب حدثني هشام بن سعد عن حاتم بن أبي نصر عن عبادة بن نسي عن أبيه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (خير الكفن الحلة، وخير الأضحية الكبش الأقرن)].
أورد أبو داود حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الكفن الحلة، وخير الأضحية الكبش الأقرن)، والحُلة -كما عرفنا- مكونة من إزار ورداء، وهذا الحديث ضعيف، وقد مر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كُفن في ثلاثة أثواب.(366/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (خير الكفن الحلة)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثني ابن وهب].
ابن وهب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني هشام بن سعد].
هشام بن سعد صدوق له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن حاتم بن أبي نصر].
حاتم بن أبي نصر مجهول أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن عباده بن نسي].
عبادة بن نسي ثقة أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه مجهول أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن عبادة بن الصامت].
عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
إذاً فالحديث ضعيف؛ لأن فيه مجهولين.(366/20)
الأسئلة(366/21)
حكم قصر الصلاة لمن سافر فترة طويلة في طلب العلم
السؤال
هل حكم من سافر لطلب العلم لمدة طويلة كطلاب الجامعة كحكم المسافر في القصر؟
الجواب
ليس حكمهم كحكم المسافر في القصر؛ لأنهم مستقرون ومطمئنون، ولا فرق بينهم وبين المقيمين، فكأنهم مستقرون في بلادهم وإن كانوا متغيبين، لأنه ليس هناك عناء ولا مشقة، فالسفر مظنة للمشقة، ومثل هذا لا يوجد فيمن هو مستقرٌ ومقيم مدة طويلة، وأكثر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بقي في المكان الذي جلس فيه ولم يكن هناك ما يدل على عزمه على البقاء مدة أطول: أربعة أيام، وهي التي حصلت في حجة الوداع لما دخل مكة في رابع ذي الحجة، وخرج منها إلى منى في ثامن ذي الحجة، فكان بقاؤه أربعة أيام، فأخذ جمهور العلماء من هذا أن المسافر إذا عزم على أن يجلس في بلدٍ أقل من أربعة أيام فإنه يقصر في هذه المدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان نازلاً بالأبطح وهو يقصر، وإذا كان سيبقى أكثر من هذه المدة فإن حكمه حكم المقيمين، أي: يتم ولا يقصر.(366/22)
حكم النظر إلى اللاعبين وهم كاشفوا أفخاذهم
السؤال
ما رأيكم في النظر إلى اللاعبين وهم كاشفوا أفخاذهم؟
الجواب
لا ينبغي النظر إلى المباريات ولو لم يكن فيها كشف للأفخاذ، فعلى الإنسان ألا يشغل نفسه بذلك، فإذا كان معها كشف للأفخاذ فهو من باب أولى.(366/23)
كفن المرأة(366/24)
شرح حديث تكفين أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [بابٌ في كفن المرأة.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي عن ابن إسحاق قال حدثني نوح بن حكيم الثقفي، وكان قارئاً للقرآن عن رجلٍ من بني عروة بن مسعود يقال له: داود قد ولَّدته أم حبيبه بنت أبي سفيان رضي الله عنهما زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن ليلى بنت قانف الثقفية رضي الله عنها قالت: (كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحقاء، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعدُ في الثوب الآخر، قالت: ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس عند الباب معه كفنها يناولناها ثوباً ثوباً)].
قوله: [بابٌ في كفن المرأة] أي: كيف تكفن؟ وقد مر في الباب السابق ذكر الكفن، وكله يتعلق بالرجال، وهنا ذكر كفن المرأة.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث ليلى بنت قانف الثقفية رضي الله تعالى عنها، أنها كانت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الأكفان كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان يناولهن إياها واحداً واحداً، فأعطاهن الحقاء، وهو حقوه، أي: الإزار، ثم أعطاهن الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، والملحفة: هي ما يلتحف ويلتف به، ثم أدرجت في الثوب الآخر، أي: آخر شيء يكون فوق هذه الأشياء، وهو يكون محيطاً بهذه الأشياء التي ذكرت، والدرع: هو القميص، ثم الخمار الذي يكون على الرأس، فيكون مجموع ذلك خمسة أشياء، وقد سبق أن ذكرنا أن الرجل يُكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة.
وهذا الحديث الذي أورده أبو داود ضعيف؛ لأن فيه نوح بن حكيم، وهو مجهول كما قال الحافظ ابن حجر، وقال فيه الذهبي: إنه لا يُعرف، وقد ذكره ابن حبان في (الثقات)، وذكر محمد بن إسحاق أنه كان قارئاً للقرآن كما في (تهذيب التهذيب)، ولهذا حكم الذهبي عليه بأنه غير معروف، ولم يرو عنه إلا محمد بن إسحاق، ولم يرو هو إلا عن داود الذي ولّدته أم حبيبة رضي الله تعالى عنها، ولم يأت شيء في بيان عدد أكفان النساء إلا هذا الحديث، وعلى هذا فيكون الحكم في حق الرجال والنساء واحد، أي: أنهم يلفون في ثلاث لفائف بيض كما جاء في حق الرجال، فالأصل هو التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام، إلا أن يأتي شيء ثابت تتميز به النساء عن الرجال، وهذا الحديث غير ثابت كما سبق بيانه.(366/25)
تراجم رجال إسناد حديث تكفين أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يعقوب بن إبراهيم].
هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبي].
أبوه ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن، وهو مدلس، وقد صرح بالتحديث هنا، فليس في روايته إشكال، وإنما الإشكال في شيخه وهو نوح بن حكيم، وهو مجهول أخرج له أبو داود.
وقول ابن إسحاق: وكان قارئاً للقرآن، لا يعتبر توثيقاً؛ لأن الشخص قد يكون قارئاً للقرآن وليس ثقة.
[عن رجل من بني عروة بن مسعود يقال له داود].
داود ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والنسائي.
[قد ولدته أم حبيبة].
فسِّر ذلك بتفسيرين، الأول: ربته.
والثاني: كانت قابلة عند ولادته.
[عن ليلى بنت قانف الثقفية].
ليلى بنت قانف الثقفية صحابية أخرج لها أبو داود.(366/26)
المسك للميت(366/27)
شرح حديث: (أطيب طيبكم المسك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [بابٌ في المسك للميت.
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا المستمر بن الريان عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أطيب طيبكم المسك).
قوله: [باب في المسك للميت] أي: استعماله للميت، فيتطيب به، وقد أورد المصنف حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أطيب طيبكم المسك)، وهذا مطلق، فيكون للأحياء والأموات.(366/28)
تراجم رجال إسناد حديث: (أطيب طيبكم المسك)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا المستمر بن الريان].
المستمر بن الريان ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبي نضرة].
هو المنذر بن مالك بن قطعة، وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي سعيد].
هو سعد بن مالك بن سنان أبوسعيد الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور بكنيته ونسبته، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(366/29)
التعجيل بالجنازة وكراهية حبسها(366/30)
شرح حديث: (فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب التعجيل بالجنازة وكراهية حبسها.
حدثنا عبد الرحيم بن مطرف الرؤاسي أبو سفيان وأحمد بن جناب قالا: حدثنا عيسى -قال أبو داود هو: ابن يونس - عن سعيد بن عثمان البلوي عن عروة، وقال عبد الرحيم: عروة بن سعيد الأنصاري عن أبيه عن الحصين بن وحوح رضي الله عنه أن طلحة بن البراء رضي الله عنه مَرِض فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعوده فقال: (إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت، فآذنوني به وعجلوا؛ فإنه لا ينبغي لجيفة مسلمٍ أن تُحبس بين ظهراني أهله).
قوله: [بابٌ في تعجيل الجنازة] أي: في تعجيل تجهيزها وإيصالها إلى قبرها ودفنها، فإنه يكره حبسها وتركها مدة دون أن تجهز.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث الحصين بن وحوح رضي الله تعالى عنه: أن طلحة بن البراء رضي الله عنه مَرِض -وهو من الأنصار- فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعوده فقال: (إني لا أُرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت) أي: أنه رأى عليه علامات الموت (فأذنوني به)، أي: أخبروني به، (وعجلوا) أي: في تجهيزه والصلاة عليه ودفنه، (فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تُحبس بين ظهراني أهله)، وإنما يُبادر بتجهيزها، فتغسل وتكفن ويصلى عليها.
قوله: (فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم)، أي: لجسده (أن تحبس بين ظهراني أهله)، أي: بين أهله، فلا يبقى بينهم، وإنما يُبادر به حتى يدفن.(366/31)
تراجم رجال إسناد حديث: (فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله)
قوله: [حدثنا عبد الرحيم بن مطرف الرؤاسي].
عبد الرحيم بن مطرف الرؤاسي ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[وأحمد بن جناب].
أحمد بن جناب صدوق أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عيسى قال أبو داود: هو ابن يونس].
عيسى بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن عثمان البلوي].
سعيد بن عثمان البلوي مقبول أخرج له أبو داود.
[عن عروة وقال عبد الرحيم: عروة بن سعيد الأنصاري].
وهو مجهول أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
أبوه أيضاً مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن الحصين بن وحوح].
الحصين بن وحوح رضي الله عنه صحابي، أخرج له أبو داود.
والحديث في إسناده مجهولان ومقبول، لكن كونه يسرع بالجنازة ويبادر بها جاء في ذلك أحاديث ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعضها فيه الإسراع بها عند حملها، وبعضها يدل على ما دل عليه هذا الحديث من أنه يبادر بها ولا تحبس، فالمبادرة بالجنازة أمرٌ مطلوب، ولا تؤخر إلا إذا كان هناك أمرٌ يقتضي ذلك.(366/32)
الغسل من غسل الميت(366/33)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من أربع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الغُسل من غسل الميت.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا محمد بن بشر حدثنا زكريا حدثنا مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب العنزي عن عبد الله بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها حدثته: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، وغسل الميت)].
قوله: [باب في الغُسل من غسل الميت] أي: أنه إذا غسل ميتاً فإنه يغتسل.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، فمنهم من قال: إنه يغتسل إذا غسله، ومنهم من قال: يكفي الوضوء من ذلك، ومنهم من قال: إنه لا يلزمه لا الغسل ولا الوضوء، وتكلموا في هذين الحديثين اللذين وردا في ذلك، وأحد هذين الحديثين ضعيف، وأما الثاني فقد صححه بعض أهل العلم، وحملوا ما جاء من الأمر بالغسل والوضوء على الاستحباب.
ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من أربعة أشياء: من الجنابة، والجمعة، ومن الحجامة، ومن غُسل الميت) ومحل الشاهد قولها: (ومن غسل الميت)، ولكن الحديث في إسناده من هو متكلمٌ فيه.(366/34)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من أربع)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي، وإنما أخرج له في (عمل اليوم والليلة).
[حدثنا محمد بن بشر].
محمد بن بشر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زكريا].
هو زكريا بن أبي زائدة وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا مصعب بن شيبة].
مصعب بن شيبة لين الحديث أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن طلق بن حبيب العنزي].
طلق بن حبيب العنزي صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن الزبير].
عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه، وهو الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
وهي خالته عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها وهي الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(366/35)
شرح حديث: (من غسل الميت فليغتسل ومن حمله فليتوضأ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبي فديك حدثني ابن أبي ذئب عن القاسم بن عباس عن عمرو بن عمير عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من غسل الميت فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ).
حدثنا حامد بن يحيى عن سفيان عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن إسحاق مولى زائدة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه.
قال أبو داود: هذا منسوخ، وسمعت أحمد بن حنبل وسئل عن الغسل من غسل الميت فقال: يجزيه الوضوء.
قال أبو داود: أدخل أبو صالح بينه وبين أبي هريرة في هذا الحديث، يعني: إسحاق مولى زائدة، قال: وحديث مصعب ضعيف، فيه خصال ليس العمل عليه].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة من طريقين مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من غسل الميت فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ).
ثم قال أبو داود: إنه منسوخ، وذكر الكلام على الحديث الأول، وقال: إنه مشتمل على أشياء ليس العمل عليها، يعني: الحجامة، والغسل من تغسيل الميت، وقيل: إن الناسخ لهذا ما جاء في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الميت: (إنه ليس بنجس) أي: أنه طاهر، وكذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما: (كنا نحمل الميت فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل) وجاء في الحديث الذي صححه الشيخ الألباني كما في صحيح الجامع: (إن الميت ليس بنجس، ولكن اغسلوا أيديكم منه)، فيكفي الإنسان أن يغسل يديه، فهذه هي الأحاديث التي قال بعض أهل العلم: إنها ناسخة لحديث أبي هريرة.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، فمنهم من قال: يستحب للغاسل أن يغتسل، وللحامل أن يتوضأ، ومنهم من قال: يكفيه الوضوء، وليس عليه غسل، ومنهم من قال: ليس عليه غسل ولا وضوء، وإنما يغسل يديه؛ لأنه لامس بها جسد الميت، فهي التي تغسل.
وهذه المسألة مشكلة من ناحية الحكم، فقد صحح جماعة من العلماء هذا الحديث وأثبتوه، ومعناه غير واضح من حيث التعليل، فقد ذكروا له تعليلاً وهو: أنه يمكن أن يصيب الإنسان رشاش من تغسيل الميت، وربما يكون عليه نجاسة، فتكون النجاسة قد أصابت المغسِّل، لكن هذا غير واضح؛ لأن المغسل عليه ثيابه والرشاش إذا تطاير فإنه يقع على الثياب، ولا يقع على الجسد؛ لأن الجسد مستور بالثياب.
فالاغتسال من ناحية المعنى غير واضح، وكذلك الوضوء أيضاً غير واضح، اللهم إلا أن يقال: إن هذا الحكم غير معقول، وأنه للتعبد.
وهذا الحديث صححه أو حسنه بعض أهل العلم كـ ابن القيم والألباني وجماعة، وقد اختلفوا فيه، فمنهم من قال: إنه منسوخ كـ أبي داود، ومنهم من قال بعدم نسخه، وذهب بعض أهل العلم كـ أحمد وعلي بن المديني إلى أنه لم يصح في ذلك شيء.(366/36)
تراجم رجال إسناد حديث: (من غسل الميت فليغتسل ومن حمله فليتوضأ)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن أبي فديك].
هو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك، وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني ابن أبي ذئب].
هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن القاسم بن عباس].
هو القاسم بن عباس بن محمد بن معتب بن أبي لهب الهاشمي، وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي في (عمل اليوم والليلة) وابن ماجة.
[عن عمرو بن عمير].
عمرو بن عمير مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً.
وقوله: [حدثنا حامد بن يحيى].
حامد بن يحيى ثقة أخرج له أبو داود.
[عن سفيان].
هو ابن عيينة، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهيل بن أبي صالح].
سهيل بن أبي صالح صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو أبو صالح السمان، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسحاق مولى زائدة].
إسحاق مولى زائدة ثقة أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبي هريرة].
مر ذكره.
[قال أبو داود: هذا منسوخ، وسمعت أحمد بن حنبل وسئل عن الغسل من غسل الميت، فقال: يجزيه الوضوء.
قال أبو داود: أدخل أبو صالح بينه وبين أبي هريرة في هذا الحديث، يعني إسحاق مولى زائدة، قال: وحديث مصعب ضعيف، فيه خصال ليس العمل عليه].
مصعب بن شيبة الذي هو لين الحديث.
وقوله: [فيه خصال ليس العمل عليه] هي هاتان الثنتان الأخيرتان وهما: الحجامة وتغسيل الميت، وأما الجنابة والجمعة فأمرها معروف.
قال في (عون المعبود) في تعليل الوضوء من الحمل: أي: ليكون على وضوء؛ ليتهيأ له الصلاة على الميت.
أقول: قوله: (ومن حمله فليتوضأ) يشمل أيضاً حمْلَه من المسجد إلى المقبرة، فهو لفظ مطلق، فهذا التعليل الذي ذكره في (العون) يمكن أن يكون في حمله من البيت إلى المسجد، وأما حمْله من المسجد إلى المقبرة فهذا ليس فيه صلاة، فقد صُلي على الميت قبل ذلك.
ولا أدري الآن مَن مِن العلماء ذكر أن الوضوء يكفي من حمْله مفضياً إليه، أي: لعل ذلك مِن مسّ جسده، وعلى كل فالمسألة مشكلة.
وأما قول بعضهم: إن هذا الحديث من الأحاديث التي لم يجر العمل عليها، فغير صحيح؛ لأن بعض أهل العلم قال باستحباب ذلك، ومعنى ذلك أنهم عملوا به.(366/37)
تقبيل الميت(366/38)
شرح حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبّل عثمان بن مظعون بعد موته
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في تقبيل الميت.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن عاصم بن عبيد الله عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبِّل عثمان بن مظعون وهو ميت حتى رأيت الدموع تسيل)].
قوله: [باب في تقبيل الميت]، أي: أنه سائغ، وأورد فيه حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل عثمان بن مظعون وهو ميت حتى رأيت الدموع تسيل) أي: دموعه صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن تقبيل الميت سائغ، وقد جاء فيه حديث جابر رضي الله عنه: (أنه كان يقبل أباه والناس ينهونه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقره وينهاهم، ويقول: دعوه) وهو صحيح، وكذلك قبّل أبو بكر رضي الله عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما جاء من السنح وقد مات عليه الصلاة والسلام، فكشف عن وجهه وقبله، فتقبيل الميت سائغ، وحديث الباب يدل على ذلك، إلا أن فيه ضعفاً، ولكن له شاهد يشهد له، وهو في نفس قصة عثمان بن مظعون، وما ذكرناه عن جابر في تقبيله أباه، وكذلك تقبيل أبي بكر للرسول صلى الله عليه وسلم، كل ذلك يدل على أن هذا سائغ.(366/39)
تراجم رجال إسناد حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبّل عثمان بن مظعون بعد موته
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عاصم بن عبيد الله].
عاصم بن عبيد الله ضعيف، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد وأصحاب السنن.
[عن القاسم].
هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وهو ثقة فقيه أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة رضي الله عنها قد مر ذكرها.(366/40)
شرح سنن أبي داود [367]
للصلاة على الجنازة واتباعها فضل عظيم وأجر كبير، وذلك الأجر يشمل المصلي والمتبع والميت أيضاً، وقد جاءت صفة الصلاة على الجنازة واتباعها في الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء النهي عن أمور لا يجوز فعلها في اتباع الجنائز ودفنها.(367/1)
الدفن بالليل(367/2)
شرح حديث دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر ليلاً
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الدفن بالليل.
حدثنا محمد بن حاتم بن بزيع حدثنا أبو نعيم عن محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار أخبرني جابر بن عبد الله أو سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (رأى ناس ناراً في المقبرة فأتوها فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القبر، وإذا هو يقول: ناولوني صاحبكم، فإذا هو الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة وهي: [باب في الدفن بالليل]، أي: في حكمه، وقد سبق أن مر حديث وفيه: (أنهم دفنوا رجلاً ليلاً فزجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك)، وذلك في باب الكفن، أي: أنهم كفنوه بكفن غير طائل، فزجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهنا أورد هذه الترجمة وهي الدفن في الليل: ما حكمه؟ وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز إلا للضرورة، وقال بعضهم: إنه يسوغ إذا حصلت المصالح التي تحصل بالنهار للميت، وذلك أن يكفَّن بكفن مناسب، وأن يكثر المصلون عليه، فإذا حصل للميت في الليل مثلما يحصل له بالنهار فلا بأس بذلك، وأما إذا كان الدفن ليلاً يترتب عليه تقصير في حق الميت؛ وذلك بأن يكون الكفن غير كافٍ، أو يقل المصلون فإنه لا يصلى عليه ليلاً، بل يترك إلى النهار، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم دُفن في الليل، وكذلك أبو بكر وفاطمة وعثمان وعدد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
قوله: (رأى ناس ناراً في المقبرة)، قال العلماء: هذا يدل على أنه لا بأس بوجود الإضاءة في الليل؛ من أجل رؤية المكان، ومن أجل التمكن من الدفن، (فجاءوا وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر، وكان يقول: ناولوني صاحبكم، فإذا هو الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر) أي: أن هذا الشخص كان مشهوراً برفع صوته بالذكر.(367/3)
تراجم رجال إسناد حديث دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر ليلاً
قوله: [حدثنا محمد بن حاتم بن بزيع].
محمد بن حاتم بن بزيع ثقة أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبو نعيم].
هو الفضل بن دكين الكوفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن مسلم].
هو محمد بن مسلم الطائفي، وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن دينار].
هو عمرو بن دينار المكي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي جليل، أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث ضعفه الألباني، وسبب ضعفه محمد بن مسلم الطائفي، فهو صدوق يخطئ، ولكن للحديث شواهد تدل عليه.
قوله: [أخبرني جابر بن عبد الله أو سمعت جابر بن عبد الله].
هذا يدل على عناية المحدثين بكتابة الألفاظ والصيغ، ومعلوم أن المؤدى واحد والنتيجة واحدة، ولكن هذا من باب العناية والدقة.
وكلا العبارتين فيها اتصال وتصريح بالسماع.(367/4)
كراهة حمل الميت من أرض إلى أرض(367/5)
شرح حديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفن قتلى أحد في مضاجعهم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الميت يحمل من أرض إلى أرض وكراهة ذلك.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الأسود بن قيس عن نبيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: (كنا حملنا القتلى يوم أحد لندفنهم، فجاء منادي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمركم أن تدفنوا القتلى في مضاجعهم، فرددناهم)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في الميت يحمل من أرض إلى أرضَ وكراهة] ذلك]، والمقصود من ذلك: كراهة نقل الميت من المكان الذي مات فيه إلى مكان آخر، والأصل أن كل ميت يدفن في المكان الذي مات فيه، وإذا كانت هناك مصلحة في النقل كأن يكون في مكان يخشى عليه فيه، أو يكون في بلد كفار فينقل عنهم ويقبر مع المسلمين، فإنه لا بأس بذلك، وإلا فإن الأصل أن كل ميت يدفن في البلد الذي مات فيه.
وقد أورد حديث جابر رضي الله عنه: (أنهم أرادوا نقل وحمل القتلى يوم أحد، فأخبرهم منادي النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم أن يدفنوهم في مضاجعهم) أي: في الأماكن التي قُتلوا فيها، وقال بعض أهل العلم: إن هذا خاص بالشهداء، وأما غيرهم فيجوز نقلُه، ولكن الأصل هو عدم النقل، بل يدفن في المكان الذي مات فيه، ولا ينقل إلا لأمر يقتضي ذلك.
ويستدل القائلون بالجواز بأن سعد بن أبي وقاص نُقل من قصره في العقيق إلى المدينة، والحق أن مثل هذا لا يقال: إنه نقل من بلد إلى بلد؛ لأن الكل في المدينة، فالعقيق هو في أطراف المدينة، فنقله من أطراف المدينة إلى المدينة لا يقال: إنه نقل من بلد إلى بلد، فمثل هذا لا يصلح دليلاً على الجواز.(367/6)
تراجم رجال إسناد حديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفن قتلى أحد في مضاجعهم
قوله: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الأسود بن قيس].
الأسود بن قيس ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نبيح].
هو نبيح العنزي، وهو مقبول أخرج له أصحاب السنن.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، وقد مر ذكره.
وهذا الحديث إسناده ضعيف، لكن كون الأموات يدفنون في مضاجعهم هذا ثابت، فقد دُفن قتلى أحد في مضاجعهم ولم ينقلوا إلى البقيع.
وكذلك نقْل الميت المسلم من بلاد مسلمة إلى بلاد مسلمة أخرى فيها أقاربه وأهله ليس بجيّد، بل ينبغي أنه يدفن كل واحد في المكان الذي مات فيه.(367/7)
الصفوف على الجنازة(367/8)
شرح حديث: (ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الصفوف على الجنازة.
حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد اليزني عن مالك بن هبيرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب)، قال: فكان مالك إذا استقل أهل الجنازة جزأهم ثلاثة صفوف للحديث].
أورد أبو داود [باباً في الصوف على الجنازة]، أي: أنهم يجعلون ثلاثة صفوف، وليس بلازم أن يكونوا ثلاثة، ولكن هذا هو الحد الأدنى، وإذا كثروا وزادوا على ذلك فهو خير.
وقد أورد أبو داود حديث مالك بن هبيرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب) أي: إلا وجبت له الجنة بشفاعتهم وبدعائهم له، وهذا فيه دلالة على الترجمة من جهة أنهم يصفون ثلاثة صفوف.
وهذا الحديث ضعفه الألباني، ولكنه ذكره في (أحكام الجنائز) وجعله ثابتاً بشواهده، فذكر حديثاً فيه ابن لهيعة، وفي هذا الحديث: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على ميت، وكان المصلون سبعة، فجعل ثلاثة في صف، واثنين في صف، واثنين في صف) ثم قال: إنه شاهد للحديث الذي بعده، والذي بعده شاهد له، يعني: هذا الحديث الذي معنا، وعلى هذا فيكون تقسيمهم ثلاثة صفوف ثابتاً بشواهده.
قوله: [وكان مالك إذا استقل أهل الجنازة جعلهم ثلاثة صفوف للحديث] أي: عملاً بالحديث، وإذا كانوا قليلين لا يكملون ثلاثة صفوف كاملة على مقدار الصفوف فإنه يجزئهم بحيث يكونون ثلاثة صفوف.(367/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب)
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد].
هو محمد بن عبيد بن حساب، وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد بن أبي حبيب].
يزيد بن أبي حبيب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مرثد اليزني].
هو أبو الخير، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مالك بن هبيرة].
مالك بن هبيرة صحابي أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
وهذا الحديث فيه عنعنة ابن إسحاق، فإنه مدلس وقد روى بالعنعنة، ولكن الحديث الآخر الذي ذكره الألباني يشهد له.(367/10)
اتباع النساء للجنائز(367/11)
شرح حديث أم عطية: (نُهينا أن نتبع الجنائز ولم يُعزم علينا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب اتباع النساء الجنازة.
حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن أيوب عن حفصة عن أم عطية رضي الله عنها أنها قالت: (نهينا أن نتبع الجنائز ولم يعزم علينا)].
أورد أبو داود [باباً اتباع النساء الجنائز]، أي: أن النساء يتبعن الجنائز ويذهبن معها إلى المقبرة.
وأورد فيه حديث أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: (نهينا أن نتبع الجنائز ولم يعزم علينا)، وهذا فيه دلالة على أن نهي الرسول صلى الله عليه وسلم كان على درجات وليس على درجة واحدة، والمراد من قولها: (ولم يعزم علينا) أي: كالعزم في بعض الأمور الأخرى التي نُهي عنها نهياً جازماً، فهذا يفيد أن النهي هنا دون النهي عن كثير من الأمور التي عُزم في النهي عنها، لذا فقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن ذلك مكروه كراهة تنزيه لا تحريم؛ لقول أم عطية: (ولم يعزم علينا) وقال بعض أهل العلم: إنه للتحريم، وقالوا: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن زيارة القبور للنساء)، قالوا: وذلك لضعفهن وعدم صبرهن، ولما يحصل منهن من الجزع والخوف والنياحة، ومعلوم أن اتباع الجنائز أشد من زيارة القبور؛ لأن ذلك يكون في وقت المصيبة، ووقت المصيبة أشد وأعظم من مجرد الزيارة، فعند الزيارة يكون قد حصل السلوان، وأما وقت المصيبة فهو الوقت الذي تكون فيه شدة وقع المصيبة على النفوس، فمن هنا قالوا: إن الحكم للتحريم.(367/12)
تراجم رجال إسناد حديث أم عطية: (نُهينا أن نتبع الجنائز ولم يعزم علينا)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حفصة].
هي حفصة بنت سيرين، وهي ثقة أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن أم عطية].
أم عطية رضي الله عنها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(367/13)
فضل الصلاة على الجنائز وتشييعها(367/14)
شرح حديث: (من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط)
قال المصنف يرحمه الله تعالى: [باب فضل الصلاة على الجنائز وتشييعها.
حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه يرويه قال: (من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، ومن تبعها حتى يفرغ منها فله قيراطان أصغرهما مثل أحد، أو أحدهما مثل أحد)].
أورد أبو داود [باباً في فضل الصلاة على الجنائز وتشييعها]، أي: الذهاب معها بعد الصلاة عليها، فإذا صلى عليها فله قيراط، وإذا تبعها حتى تدفن ويفرغ منها فله قيراطان: قيراط لا تباع الجنازة، وقيراط للصلاة عليها، وقد جاء بيان حجم القيراط بأنه مثل جبل أحد، وهذا شيء عظيم، قالوا: ومعنى هذا: أن الأعمال تجعل أجساماً وتوضع في الميزان، ولهذا قال: مثل جبل أحد، أي: في العِظَم والضخامة.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه يرويه قال: (من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط) أي: أنه اكتفى بالصلاة عليها.
قوله: (ومن تبعها حتى يفرغ منها فله قيراطان) أي: قيراط آخر مع القيراط الأول، وليس معنى ذلك أن الاتباع له قيراطان والصلاة عليها لها قيراط، فتكون ثلاثة قراريط، وإنما هي قيراطان للاثنين، وهذا من جنس قوله صلى الله عليه وسلم: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله)، فليس معناه أن من صلى هاتين الصلاتين في جماعة فكأنه قام الليل مرة ونصف المرة، وإنما المراد هذا مع هذا.
وظاهر لفظ الحديث أن من تبعها من بيتها حتى صلى عليها فله قيراط، وأما من صلى عليها فقط فلا يشمله هذا الأجر، لكن لاشك أن الإنسان إذا صلى على الجنازة فله خير عظيم.
قوله: (حتى يفرغ منها) حدّ الفراغ منها أن يُهال عليها التراب وتُدفن.
قوله: (أصغرهما مثل أحد، أو أحدهما مثل أحد) شك هل قال: أحدهما، أو قال: أصغرهما.
وإذا صلى المصلي على أكثر من جنازة فالذي يبدو أنه يكون له في كل جنازة قيراط.(367/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا سفيان].
هو ابن عيينة، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سمي].
سمي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
هو أبو صالح السمان، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.
[يرويه].
أي: يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكلمة: يرويه، أو ينميه، أو يرفعه، أو رواية، كلها بمعنى يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.(367/16)
شرح حديث: (من تبع جنازة فصلى عليها) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله وعبد الرحمن بن حسين الهروي قالا: حدثنا المقرئ حدثنا حيوة حدثني أبو صخر وهو حميد بن زياد أن يزيد بن عبد الله بن قسيط حدثه أن داود بن عامر بن سعد بن أبي وقاص حدثه عن أبيه أنه كان عند ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما إذ طلع خباب صاحب المقصورة، فقال: يا عبد الله بن عمر! ألا تسمع ما يقول أبو هريرة؟ إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها)، فذكر معنى حديث سفيان، فأرسل ابن عمر إلى عائشة رضي الله عنها فقالت صدق أبو هريرة].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة وعائشة رضي الله تعالى عنهما، وهو مثل الذي قبله، وفيه: (من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها فله قيراط)، فهذا يوضح الحديث السابق، وأن اتباع الجنازة يكون من بيتها، وجاء عن ابن عمر رضي الله عنه كما في صحيح البخاري أنه قال بعدما بلغه هذا الحديث: لقد فرطنا في قراريط كثيرة، وهذا ندم على ما فات من الأجر العظيم الذي يحصل في الملازمة والحرص على هذه الأعمال العظيمة.(367/17)
تراجم رجال إسناد حديث (من تبع جنازة فصلى عليها) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هو هارون بن عبد الله الحمال البغدادي، وهو ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[وعبد الرحمن بن حسين الهروي].
عبد الرحمن بن حسين الهروي مقبول أخرج له أبو داود.
[حدثنا المقرئ].
هو عبد الله بن يزيد المقرئ المكي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حيوة].
حيوة بن شريح الحمصي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وهناك شخصان كل منهما يقال له: حيوة بن شريح، أحدهما مصري، وهو في طبقة متقدمة، والثاني شامي، وهو في طبقة متأخرة، وهو من شيوخ أبي داود، فإذا جاء حيوة بن شريح من شيوخ أبي داود فالمراد به الشامي، وإذا جاء حيوة بن شريح في طبقة متقدمة فهو المصري.
[حدثني أبو صخر].
هو حميد بن زياد، وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[أن يزيد بن عبد الله بن قسيط حدثه].
يزيد بن عبد الله بن قسيط ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن داود بن عامر بن سعد حدثه].
داود بن عامر بن سعد ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي.
[عن أبيه].
أبوه هو عامر بن سعد، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خباب صاحب المقصورة].
خباب صاحب المقصورة قيل: له صحبة، وقيل: مخضرم، أخرج له مسلم وأبو داود.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.
[وعائشة].
عائشة مر ذكرها.(367/18)
شرح حديث: (ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الوليد بن شجاع السكوني حدثنا ابن وهب أخبرني أبو صخر عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شُفِّعوا فيه)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئا إلا شفِّعوا فيه)، وهذا يدل على فضل كثرة عدد المصلين على الجنازة، وأن العدد كلما كثر كان أعظم وأفضل؛ لأنهم كلهم يدعون ويشفعون للميت، وقد مر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصفّهم ثلاثة صفوف، وذكر أن من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب، وذلك يدل على سعة فضل الله عز وجل، وعلى عظم الأجر والثواب، وسواء بلغ العدد الأربعين أو المائة أو أقل من ذلك، ولكن لاشك أنه كلما كان العدد أكبر فإنه يكون أولى وأفضل.(367/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون)
قوله: [حدثنا الوليد بن الشجاع السكوني].
الوليد بن الشجاع السكوني ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب].
ابن وهب مر ذكره.
[أخبرني أبو صخر].
أبو صخر مر ذكره.
[عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر].
شريك بن عبد الله بن أبي نمر صدوق يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، فقد أخرج له في الشمائل.
[عن كريب].
هو كريب مولى ابن عباس، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(367/20)
الأسئلة(367/21)
معنى حديث: (ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً)
السؤال
حديث: (ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً) هل يدخل هنا الشرك الأصغر؟
الجواب
هذا يدل على أن المصلين يكونون مؤمنين موحدين وليسوا بمشركين، واللفظ هذا عام فيدخل فيه الشرك الأصغر.(367/22)
رواية: (ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته مائة)
السؤال
جاء في حديث أخرجه مسلم أنه يصلي عليه مائة؟
الجواب
معلوم أنه كلما زاد العدد فهو أفضل، فإذا كانوا مائتين أو ألفاً فلاشك أن هذا أكمل وأفضل.(367/23)
مضاعفة الأجر على صلاة الجنازة في المسجد النبوي
السؤال
هل يكون الأجر في الصلاة على الجنازة في المسجد النبوي مضاعفاً بألف درجة؟
الجواب
قوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا) يشمل كل صلاة، لكن مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مسجده هذا فقد كان في غالب أحواله يصلي على الجنائز خارج مسجده.(367/24)
حكم الدعاء للميت في صلاة الجنازة بغير اللغة العربية
السؤال
هل يجوز الدعاء للميت في صلاة الجنازة بغير العربية؟
الجواب
الأصل أن الإنسان يتعلم الأدعية الشرعية باللغة العربية، وإذا لم يتمكن من ذلك فإنه يدعو بأي لغة.(367/25)
الحكمة من دفن أبي بكر وعمر إلى جوار رسول الله
السؤال
ذكرتم البارحة أن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أنه يدفن في البناء، لكن قد دفن معه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فما الجواب؟
الجواب
أنهم إنما دفنوا تبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لينالوا بركة مجاورته والقرب منه، ولم يدفنوا استقلالاً.(367/26)
حثو ثلاث حثيات عند دفن الميت
السؤال
بعض الناس يأخذ حفنة من تراب ويرميها في القبر، فهل يعتبر مشاركاً في الدفن؟
الجواب
الذي ورد أنه يحثو ثلاث حثيات.(367/27)
تكفين المرأة بالأبيض
السؤال
هل يستحب تكفين المرأة بالأبيض أو أنه خاص بالرجال؟
الجواب
يُكفن الرجال والنساء بالأبيض، كما جاء في الحديث: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم)، فهو عام للرجال والنساء.(367/28)
فضل عيادة المريض في أول النهار وأول الليل
السؤال
جاء في الحديث: (من عاد مريضاً ممسياً أو مصبحاً خرج معه سبعون ألف ملك)، فهل يستحب زيارة وعيادة المريض في أول النهار أو أول الليل لكي يحصل كثرة استغفار الملائكة؟
الجواب
لاشك أن كثرة الاستغفار تحصل إذا كانت العيادة في أول النهار، أو في أول المساء؛ لأنهم مستمرون من النهار إلى المساء، ومن المساء إلى النهار، فلو زاره في أول النهار فإن الملائكة تستغفر له إلى المساء، والعكس، ولو زاره في نصف النهار فإن الملائكة تستغفر له من ذلك الوقت إلى المساء، فالعيادة في أول المساء وأول النهار تكون أكثر استغفاراً من الملائكة.(367/29)
الإمساك عن الصلاة في وقت النهي
السؤال
رأيت حاجب الشمس قد بدأ في الطلوع، وقد فاتتني صلاة الفجر، فأفتيت نفسي أن أقف؛ لأني إذا صليت وقعت في النهي، ولأني أيضاً لا أُعتبر مدركاً للوقت، فما رأيكم؟
الجواب
هذا الفعل صحيح، فالإنسان إذا بدأت الشمس في الظهور ينتظر حتى تطلع مقدار رمح، وأما إذا كانت لم تطلع بعدُ فإنه يدخل في الصلاة.(367/30)
حكم تأخير الميت حتى يحضر أقاربه من أماكن بعيدة
السؤال
ما حكم تأخير الميت في الصلاة عليه حتى يحضر أقاربه من أماكن بعيدة؟
الجواب
إذا لم يكن التأخير كثيراً فلا بأس به، وفي زماننا هذا صار الوصول سهلاً بواسطة الطائرات والسيارات.(367/31)
اتباع الميت بالنار(367/32)
شرح حديث: (لا تُتبع الجنازة بصوت ولا نار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النار يُتبع بها الميت.
حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا عبد الصمد (ح) وحدثنا ابن المثنى حدثنا أبو داود قالا: حدثنا حرب يعني: ابن شداد، حدثنا يحيى حدثني باب بن عمير حدثني رجل من أهل المدينة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تُتبع الجنازة بصوت ولا نار)، قال أبو داود: زاد هارون (ولا يمشى بين يديها)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في النار يُتبع بها الميت]، ومعنى ذلك: أنها لا تصحبها ولا تتبعها نار، وأما إذا كان معها إضاءة فلا بأس بها إذا دعت الحاجة إليها، كأن يحتاج إلى الإضاءة من أجل تسهيل الوصول إلى المقصود، وأما أن تُتبع بنار أو جمر فإن ذلك لا يجوز.
وقد أورد أبو داود في ذلك حديث أبي هريرة، وهو حديث لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن معناه صحيح، ولا يقال: إنه ضعيف فلا يثبت معناه، بل الأصل هو عدم ذلك، ووجود ذلك من البدع المحرمة، وأما ما يتعلق بالصوت وهو النياحة فقد ثبت تحريمها، وجاء منعها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، وحديث أبي هريرة هذا فيه: (أنها لا تتبع بنار ولا بصوت) والمقصود بالصوت هنا: النياحة.
وقوله في زيادة هارون: (ولا يمشى بين يديها) قد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (أن الماشي يكون بين يديها، وعن يمينها، ومن خلفها، ومن ورائها) ولكن الأولى أن يكون أمامها، فما جاء في هذا الحديث من أنه لا يمشى بين يديها غير صحيح؛ لمخالفته للأحاديث الثاتبة، ثم هو حديث لا يثبت.(367/33)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار)
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هو هارون بن عبد الله الحمال البغدادي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الصمد].
هو عبد الصمد بن عبد الوارث العنبري وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[(ح) وحدثنا ابن المثنى].
هو محمد بن المثنى العنزي الملقب بـ الزمن، وكنيته أبو موسى وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو داود].
هو سليمان بن داود الطيالسي، وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن حرب].
هو حرب بن شداد، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن أبي كثير اليمامي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني باب بن عمير].
باب بن عمير مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
وهو مجهول.
[عن رجل من أهل المدينة].
أي: أنه مبهم.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
إذاً: فالحديث فيه مجهولان ومقبول، فلا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.(367/34)
القيام للجنازة(367/35)
شرح حديث: (إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو توضع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب القيام للجنازة.
حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه عن عامر بن ربيعة رضي الله عنهما يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو توضع)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: [باب القيام للجنازة]، أي: عند مرورها، فمن كان قاعداً ومرت به جنازة فإنه يقوم، وقد جاءت في القيام للجنازة عدة أحاديث، وجاءت أحاديث أخرى تدل على عدم القيام، فمن أهل العلم من قال: إن أحاديث القيام منسوخة؛ لأنه جاء ما يدل على أنه قام ثم قعد بعد ذلك، فعلى هذا فإنه لا يقام للجنازة، ومن أهل العلم من قال: إن القيام باق، وهو مستحب وليس بواجب.
وقد أورد أبو داود حديث عامر بن ربيعة رضي الله تعالى عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، وكلمة: (يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم) مثل كلمة: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام، أو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك متصل، وهذه الصيغة تدل على رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها)، أي: قوموا من أجلها، (حتى تخلفكم أو توضع) أي: حتى تتجاوزكم، فإذا جاوزتكم فاجلسوا، وهذا يدل على ما كان عليه الأمر في أول الأمر من مشروعية القيام للجنازة.
وقيل: إن الحكمة من القيام للجنازة هي الفزع من الموت.(367/36)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو توضع)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا سفيان].
هو ابن عيينة المكي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم].
هو سالم بن عبد الله بن عمر، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[عن عامر بن ربيعة].
عامر بن ربيعة رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(367/37)
شرح حديث: (إذا تبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا سهيل بن أبي صالح عن ابن أبي سعيد الخدري عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري قال: (إذا تبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع) أي: حتى توضع على الأرض، وهذا إذا تبعوها، وهو غير مسألة المرور، فإذا تبع الإنسان الجنازة فإنه يمشي معها حتى توضع على الأرض.(367/38)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا تبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سهيل بن أبي صالح].
سهيل بن أبي صالح صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة، ورواية البخاري له مقرونة مع غيره، وتعليقاً.
[عن ابن أبي سعيد الخدري].
هو عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه هو أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، وهو سعد بن مالك بن سنان صحابي مشهور، أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(367/39)
روايات أخرى لحديث: (إذا تبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع) وترجمة رجال الأسانيد
[قال أبو داود: روى هذا الحديث الثوري عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال فيه: (حتى توضع بالأرض) ورواه أبو معاوية عن سهيل قال: (حتى توضع في اللحد)، قال أبو داود: وسفيان أحفظ من أبي معاوية].
جاء في بعض الروايات من طريق سفيان الثوري تفسير الوضع بأنه حتى توضع بالأرض، أي: أنه قبل الدفن، وجاء في الرواية الثانية عن أبي معاوية أنه حتى توضع في اللحد، ثم قال أبو داود: وسفيان أحفظ من أبي معاوية، فتكون روايته هي المحفوظة، وأما تلك فتكون شاذة.
[قال أبو داود: روى هذا الحديث الثوري].
الثوري مر ذكره.
[عن سهيل عن أبيه].
أبوه هو أبو صالح ذكوان السمان، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ورواه أبو معاوية].
هو محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وقد وُصف سفيان بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وكذلك شعبة وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وقد ذكروا أن سفيان إذا اختلف مع شعبة فإنه يقدم على شعبة؛ لأنهم حصروا الأغلاط التي أخذت على سفيان والتي أخذت على شعبة فكانت التي أخذت على سفيان أقل، وهذه الطريقة يميزون بها بين الأشخاص في تقدمهم وتفوقهم، وذلك يكون بقلة الخطأ وقلة ما يؤخذ على الشخص، فـ سفيان متقدم في الحفظ والضبط والإتقان على شعبة، وقوله: [إنه أوثق من أبي معاوية] واضح.
وقد ذكر هذه المقارنة بين سفيان وشعبة الإمام الحازمي في (شروط الأئمة الخمسة).(367/40)
شرح حديث: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ مرت بنا جنازة فقام لها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني حدثنا الوليد حدثنا أبو عمرو عن يحيى بن أبي كثير عن عبيد الله بن مقسم حدثني جابر قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ مرت بنا جنازة فقام لها، فلما ذهبنا لنحمل إذا هي جنازة يهودي، فقلنا: يا رسول الله! إنما هي جنازة يهودي، فقال: إن الموت فزع، فإذا رأيتم جنازة فقوموا)].
أورد حديث جابر رضي الله عنه: (أنهم كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم فمرت جنازة فقام، فلما ذهبوا ليحملوها فإذا هي جنازة يهودي، فقالوا: يا رسول الله! إنها جنازة يهودي، فقال: إن الموت فزع) أي: إن هذا القيام إنما هو من أجل الفزع، وليس من أجل الجنازة.(367/41)
تراجم رجال إسناد حديث: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ مرت بنا جنازة فقام لها)
قوله: [حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني].
مؤمل بن الفضل الحراني صدوق أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا الوليد].
هو الوليد بن مسلم الدمشقي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو عمرو].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، فكنيته وافقت اسم أبيه، وهذا نوع من أنواع علوم الحديث، وهو معرفة من وافقت كنيته اسم أبيه، وفائدة معرفة هذا النوع ألا يظن التصحيف، فإذا جاء مثل: (عن عبد الرحمن أبي عمرو) فمن لا يعرف أن كنيته أبو عمرو قد يظن أن ابن صحفت إلى أبي، وأما من يعرف أن كنيته أبو عمرو فسواء جاء (عبد الرحمن أبي عمرو) أو جاء (عبد الرحمن بن عمرو) فإنه يعرف أن كل ذلك صحيح، فهنا ذُكر بكنيته فقط، وكثيراً ما يذكر بالنسبة فيقال: الأوزاعي.
[عن يحيى بن أبي كثير].
مر ذكره.
[عن عبيد الله بن مقسم].
عبيد الله بن مقسم ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(367/42)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الجنائز ثم قعد بعدُ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ الأنصاري عن نافع بن جبير بن مطعم عن مسعود بن الحكم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الجنائز ثم قعدَ بْعدُ)].
أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الجنائز ثم قعد بعد)، وهذا يدل على النسخ، فقد كان القيام في أول الأمر، ثم قعد بعد ذلك، وهذا يدل على أن الحكم الأول منسوخ، فإن العبرة للآخر من أحواله صلى الله عليه وسلم.(367/43)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الجنائز ثم قعد بعد)
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد الأنصاري المدني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ الأنصاري].
واقد بن عمرو بن سعد الأنصاري ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن نافع بن جبير بن مطعم].
نافع بن جبير بن مطعم ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسعود بن الحكم].
مسعود بن الحكم له رؤية، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن علي بن أبي طالب].
علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(367/44)
شرح حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هشام بن بهرام المدائني أخبرنا حاتم بن إسماعيل حدثنا أبو الأسباط الحارثي عن عبد الله بن سليمان بن جنادة بن أبي أمية عن أبيه عن جده عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد، فمر به حبر من اليهود فقال: هكذا نفعل، فجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: اجلسوا، خالفوهم)].
أورد أبو داود حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد) أي: وليس حتى توضع في الأرض، ومعنى ذلك: أن من تبعها يبقى قائماً حتى توضع في اللحد.
وهذه الرواية مثل الرواية السابقة عن أبي معاوية والتي قال فيها أبو داود: إن المحفوظ رواية سفيان، وهو مقدم، الذي قال: إنها توضع في الأرض.
قوله: (فمر به حبر من اليهود فقال: هكذا نفعل) أي: أنهم يقومون حتى توضع في اللحد.
قوله: (فقال: اجلسوا خالفوهم) أي: أنهم جلسا بعد ذلك، وقد مر في الحديث الصحيح: (حتى توضع في الأرض) وليس في اللحد، وجاء أيضاً في حديث البراء بن عازب: (أنه كان في جنازة وكان يُلحد لها فجلس وجلسوا معه)، وذكر الحديث الطويل في قصة السؤال في القبر، فالحاصل: أنه قد جاءت أحاديث في جواز الجلوس قبل أن يحصل الدفن، وأن الأمر لا يتقيد بوضعها في اللحد، بل يجوز بوضعها في الأرض.(367/45)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد)
قوله: [حدثنا هشام بن بهرام المدائني].
هشام بن بهرام المدائني ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا حاتم بن إسماعيل].
حاتم بن إسماعيل صدوق يهم أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو الأسباط الحارثي].
هو بشر بن رافع، وهو ضعيف الحديث، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن عبد الله بن سليمان بن جنادة بن أبي أمية].
عبد الله بن سليمان بن جنادة ضعيف أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبيه].
أبوه منكر الحديث، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن جده].
جده ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبادة بن الصامت].
عبادة بن الصامت رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(367/46)
الركوب في الجنازة(367/47)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بدابة وهو مع الجنازة فأبى أن يركبها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الركوب في الجنازة.
حدثنا يحيى بن موسى البلخي أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن ثوبان رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أُتي بدابة وهو مع الجنازة فأبى أن يركبها، فلما انصرف أُتي بدابة فركب، فقيل له، فقال: إن الملائكة كانت تمشي فلم أكن لأركب وهم يمشون، فلما ذهبوا ركبت)].
أورد أبو داود [باباً الركوب في الجنازة] أي: في حال الذهاب إلى الجنازة والرجوع منها، وقد جاء ما يدل عليه في الرجوع من الجنازة، وجاء ما يدل على عدمه فيما يتعلق بالذهاب إليها، وجاء ما يدل على أن الماشي يكون أمامها، أو عن يمينها، أو عن يسارها، أو من خلفها، وأما الراكب فإنه يكون وراءها، وهذا لا يكون إلا في حال الذهاب إليها؛ لأنه في حال الرجوع منها ليس هناك جنازة.
وقد أورد أبو داود حديث ثوبان رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بدابة وهو مع الجنازة فأبى أن يركبها).
قوله: (فلما ذهبوا ركبت) أي: في حال الرجوع.
وهذا الحديث يدل هذا على أن الملائكة تشيع الجنائز.
ويدل أيضاً على أدب الرسول صلى الله عليه وسلم مع الملائكة.
ويدل أيضاً على جواز الركوب، فإذا كان المكان قريباً فلاشك أن عدم الركوب هو الأولى، وأما إذا كان المكان بعيداً فالركوب يتطلبه بعد المسافة، فلا يتيسر للناس أن يمشوا مسافات طويلة، ولا يتمكنون حينئذ من التشييع.(367/48)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بدابة وهو مع الجنازة فأبى أن يركبها)
قوله: [حدثنا يحيى بن موسى البلخي].
يحيى بن موسى البلخي ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[أخبرنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن].
يحيى بن أبي كثير مر ذكره، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف المدني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثوبان].
هو ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
وهذا السند فيه يحيى بن أبي كثير وهو مدلس وقد عنعن، والشيخ الألباني يصححه أو يحسنه، فلا أدري هل له شواهد أو نحو ذلك أم لا؟(367/49)
شرح حديث: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم على ابن الدحداح ونحن شهود ثم أُتي بفرس فعقل حتى ركبه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن سماك سمع جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ابن الدحداح ونحن شهود، ثم أُتي بفرس فعُقل حتى ركبه، فجعل يتوقص به، ونحن نسعى حوله)].
أورد أبو داود حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ابن الدحداح ونحن شهود)، أي: ونحن معه حاضرون.
قوله: (ثم أتي بفرس فعُقل حتى ركب فجعل يتوقص) أي: يتحرك حركة خفيفة.
قوله: (ونحن نسعى حوله) أي: نمشي حوله.(367/50)
تراجم رجال إسناد حديث: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم على ابن الدحداح ونحن شهود ثم أُتي بفرس فعقل حتى ركبه)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن معاذ].
عبيد الله بن معاذ ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
أبوه هو معاذ بن معاذ العنبري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سماك].
هو سماك بن حرب، وهو صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن جابر بن سمرة].
جابر بن سمرة رضي الله عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(367/51)
المشي أمام الجنازة(367/52)
شرح حديث: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب المشي أمام الجنازة.
حدثنا القعنبي حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما يمشون أمام الجنازة)].
أورد أبو داود [باب المشي أمام الجنازة]، والجنازة يمشى أمامها، وعن يمينها، ومن خلفها، ومن روائها، فأما المشي أمامها فقد جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء عن أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما يمشون أمام الجنازة).(367/53)
تراجم رجال إسناد حديث (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة)
قوله: [حدثنا القعنبي عن سفيان بن عيينة].
سفيان بن عيينة المكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري مر ذكره.
[عن سالم عن أبيه].
سالم وأبوه مر ذكرهما.(367/54)
شرح حديث: (الراكب يسير خلف الجنازة والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن يونس عن زياد بن جبير عن أبيه عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: وأحسب أن أهل زياد أخبروني أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها، وعن يمينها وعن يسارها قريباً منها، والسِّقْط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة)].
أورد أبو داود حديث المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن شمالها)، والمشي خلفها يكون قريباً منها، وكذلك أمامها؛ لأنه إذا احتيج إليه لحمل أو غير ذلك فإنه يكون قريباً، بخلاف ما إذا كان بعيداً منها، فالحاصل أنهم يكونون حولها قريبين منها، سواء كانوا أمامها أو يمينها أو شمالها أو خلفها، وأما الراكب فإنه يكون خلفها.
قوله: (والسقط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالرحمة) السقط: هو الذي يسقط من بطن أمه ميتاً قبل أن يتم، فإنه يصلى عليه مادام أنه إنسان مكتمل ولو لم يستهل صارخاً، وأما الذي يتعلق بالاستهلال فهو الميراث.(367/55)
تراجم رجال إسناد حديث (الراكب يسير خلف الجنازة والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها)
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
هو وهب بن بقية الواسطي، وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن خالد].
هو خالد بن عبد الله الواسطي الطحان، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يونس].
هو يونس بن عبيد وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زياد بن جبير].
زياد بن جبير ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو جبير بن حية الثقفي ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن المغيرة بن شعبة].
المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال: وأحسب أن أهل زياد أخبروني بأنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم].
قائل ذلك هو يونس بن عبيد.(367/56)
الأسئلة(367/57)
الطفل كالسقط في الدعاء لوالديه بالمغفرة والرحمة
السؤال
هل يأخذ الطفل حكم السقط في الدعاء لوالديه بالمغفرة والرحمة؟
الجواب
الذي يبدو أنه كذلك؛ لأنهما بمعنى واحد.(367/58)
حكم الصلاة على السقط دون الأربعة الأشهر
السؤال
إذا كان سن السقط أقل من أربعة أشهر فهل يصلى عليه؟
الجواب
لا يصلى عليه، فهو ليس بلحم وإنما هو قطع دم تذهب كما تذهب الدماء والأوساخ.(367/59)
الحكمة من الدعاء لوالدي السقط
السؤال
لماذا يدعى لوالدي السقط؟
الجواب
الحكمة من الدعاء لوالديه أنهما سبب وجوده، وأنهما أيضاً فقداه وهما يتطلعان إليه، وكانا حريصين عليه.(367/60)
الإسراع بالجنازة(367/61)
شرح حديث: (أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الإسراع بالجنازة.
حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم)].
أورد أبو داود [باب الإسراع بالجنازة]، والمقصود من ذلك الإسراع بها عند حملها، وقد مر بنا باب في المبادرة بتجهيزها، وأما هذا فيتعلق بالإسراع بها في حال حملها إلى المقبرة بعد الصلاة عليها، فيسرع بها إلى المقبرة بحيث لا تكون هناك مضرة في ذلك على الحاملين لها ولا عليها هي، كأن تسقط مثلاً إذا تعثر أحد منهم بسبب السرعة، فتسقط الجنازة تبعاً لسقوطه، وإنما تكون السرعة مناسبة، فلا يكون هناك تباطؤ في المشي، ولا يكون هناك إسراع شديد تترتب عليه مضرة على الجنازة أو على الحاملين لها.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة؛ فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه) أي: إن كانت صالحة فإن أمامها خيراً، فيسرع بها إلى تحصيل ذلك الخير لها، (وإن تك غير ذلل)، أي: غير صالحة، (فشر تضعونه عن رقابكم) أي: إن أمامها شراً، وتتخلصون من هذا الشر الذي تحملونه فوق رقابكم.(367/62)
تراجم رجال إسناد حديث: (أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة من ثقات التابعين، وأحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.
[يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم].
أي: يرفعه إلى النبي الله صلى الله عليه وسلم.(367/63)
شرح حديث: (لقد رأيتنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نرمل رملاً، أي بالجنازة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه: (أنه كان في جنازة عثمان بن أبي العاص وكنا نمشي مشياً خفيفاً، فلحقنا أبو بكرة فرفع سوطه فقال لقد رأيتنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نرمل رملاً)].
أورد أبو داود حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه أنهم كانوا في جنازة عثمان بن أبي العاص، وقد جاء في الرواية الأخرى التي بعدها أنها جنازة عبد الرحمن بن سمرة، وقد قال الألباني: إن هذا هو المحفوظ، وأما ذكر عثمان بن أبي العاص فهو شاذ، فتكون القصة واحدة والمراد بها عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه، قال: كنا في جنازة عثمان بن أبي العاص، وكنا نمشي مشياً خفيفاً، أي: مشياً بطيئاً.
قوله: (فرفع سوطاً كان معه سوط وقال: كنا نرمل رملاً)، ومعناه: أنا كنا نسرع، والمقصود الإسراع الذي لا يترتب عليه مضرة، والوسط هو المطلوب، فلا يتأخر بها، ولا يسرع بها إسراعاً شديداً يحصل من ورائه مضرة.(367/64)
تراجم رجال إسناد حديث: (لقد رأيتنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نرمل رملاً، أي بالجنازة)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة مر ذكره.
[عن عيينة بن عبد الرحمن].
هو عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن، وهو صدوق أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه هو عبد الرحمن بن جوشن، وهو ثقة أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) وأصحاب السنن.
[عن أبي بكرة].
هو نفيع بن الحارث رضي الله تعالى عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(367/65)
شرح حديث: (لقد رأيتنا ونحن مع رسول الله نرمل رملاً) من طريق ثانية وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حميد بن مسعدة حدثنا خالد بن الحارث (ح) وحدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا عيسى يعني: ابن يونس عن عيينة بهذا الحديث، قالا: في جنازة عبد الرحمن بن سمرة، وقال: فحمل عليهم بغلته وأهوى بالسوط].
ثم أورد الحديث من طريق أخرى، وفيه أنها جنازة عبد الرحمن بن سمرة، وأن أبا بكرة حمل عليهم بغلته، أي: كأنه آثرهم بالركوب، وأومى بالسوط، أي: أنه أراد منهم أن يسرعوا، وذكر أن ذلك هو السنة.
قوله: [حدثنا حميد بن مسعدة].
حميد بن مسعدة صدوق أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا خالد بن الحارث].
هو خالد بن الحارث الهجيمي، وهو ثقة ثبت أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[(ح) وحدثنا إبراهيم بن موسى].
هو إبراهيم بن موسى الرازي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عيسى بن يونس].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عيينة بهذا الحديث].
عيينة هو الذي في الإسناد السابق، [بهذا الحديث]، أي: إلا أن فيه ذكر حمله عليهم ببغلته.(367/66)
شرح حديث: (سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المشي مع الجنازة فقال: ما دون الخبب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن يحيى المجبر، قال أبو داود: هو يحيى بن عبد الله التيمي عن أبي ماجدة عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (سألنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم عن المشي مع الجنازة، فقال: ما دون الخبب، إن يكن خيراً تعجل إليه، وإن يكن غير ذلك فبعداً لأهل النار، والجنازة متبوعة ولا تتبع ليس معها من تقدمها).
قال أبو داود: وهو ضعيف، هو يحيى بن عبد الله وهو يحيى الجابر.
قال أبو داود: وهذا كوفي، وأبو ماجدة بصري.
قال أبو داود: أبو ماجدة هذا لا يعرف].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي مع الجنازة فقال: ما دون الخبب) وهو الإسراع، قوله: (إن يكن خيراً) أي: إذا حصل الإسراع بها دون الخبب فإن يكن خيراً (تعجل إليه، وإن يكن غير ذلك فبعداً لأهل النار).
قوله: (والجنازة متبوعة ولا تتبع) أي: أن الناس يمشون وراءها ولا يمشون أمامها.
وهذا الحديث ضعيف ومخالف للأحاديث الصحيحة التي فيها أن المشاة يكونون أمامها، وعن يمينها، وعن شمالها، ومن ورائها، وأن الركاب يكونون وراءها.
قوله: (وليس معها من تقدمها) أي: أنه لم يفعل أمراً سائغاً ومشروعاً؛ لأن محله أن يكون وراءها لا أن يكون أمامها.
[قال أبو داود: هو ضعيف، هو يحيى بن عبد الله، وهو يحيى الجابر].
أي: أن في الإسناد رجلاً ضعيفاً، ويحيى بن عبد الله هو يحيى الجابر والمجبر، وهو ضعيف.
[قال أبو داود: وهذا كوفي وأبو ماجدة بصري].
أي: أن أحدهما كوفي والثاني بصري، فالتلميذ كوفي، والشيخ بصري.
[قال أبو داود: أبو ماجدة هذا لا يعرف] أي: أنه مجهول.(367/67)
تراجم رجال إسناد حديث: (سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المشي مع الجنازة فقال: ما دون الخبب)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة].
مسدد مر ذكره، وأبو عوانة هو الوضاح بن عبد الله اليشكري وهو ثقة مشهور بكنيته أبي عوانة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى المجبر].
يحيى المجبر لين الحديث أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[قال أبو داود: وهو يحيى بن عبد الله التيمي].
هذا بيان لنسبه.
[عن أبي ماجدة].
أبو ماجدة قيل: إن اسمه عائذ بن نضلة، وهو مجهول، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن ابن مسعود].
هو عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(367/68)
شرح سنن أبي داود [368]
للصلاة على الجنازة أحكام طارئة تختلف بحسب حال الميت نفسه، منها: حكم الصلاة على قاتل نفسه، وحكم الصلاة على من قتلته الحدود، وحكم الصلاة على الطفل، وهناك أحكام أخر كالأوقات التي تكره فيها الصلاة على الجنازة وكل هذه الأحكام بينتها أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.(368/1)
عدم صلاة الإمام على قاتل نفسه(368/2)
شرح حديث امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على الذي نحر نفسه بمشاقص
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الإمام لا يصلي على من قتل نفسه.
حدثنا ابن نفيل حدثنا زهير حدثنا سماك حدثني جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه قال: (مرض رجل فصيح عليه، فجاء جاره إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: إنه قد مات، قال: وما يدريك؟ قال أنا رأيته، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنه لم يمت، قال: فرجع فصيح عليه، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد مات، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنه لم يمت، فرجع فصيح عليه، فقالت امرأته انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال الرجل: اللهم العنه، قال: ثم انطلق الرجل فرآه قد نحر نفسه بمشقص معه، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره أنه قد مات، فقال: وما يدريك؟ قال: رأيته ينحر نفسه بمشاقص معه، قال: أنت رأيته؟ قال: نعم، قال: إذاً لا أصلي عليه)].
ثم أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب الإمام لا يصلي على من قتل نفسه] المقصود من عدم صلاة الإمام عليه أو من له منزلة ومكانة هو التحذير من مثل هذا العمل، والتنفير من الوقوع فيه، فهذا من أسباب تخلف من يرجى دعاؤه وشفاعته، وهذا لا يعني عدم الصلاة عليه مطلقاً؛ لأنه مسلم، والمسلم يصلى عليه، ولكن ليس كل الناس يصلي عليه، وقد يتخلف عن ذلك من يكون له منزلة، حتى يعرف الناس خطورة هذا الأمر، فيحسبون لذلك حساباً، وقد جاء مثل ذلك في قصة الدَّين، فقد مات رجل عليه ديناران، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا على صاحبكم) وأراد ألا يصلي عليه؛ للتحذير من أن يتحمل الإنسان الدين ولا يسددها، فقال أبو قتادة: (عليّ الديناران)، فتقدَّم وصلى عليه.
وقد أورد أبو داود حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (مرض رجل فصُيِّح عليه) أي: صُيِّح على أنه قد مات، (فجاء جاره إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: إنه قد مات، قال: وما يدريك؟ قال: رأيته)، أي: أنه سمع أهل المريض يصيحون حوله ففهم من ذلك أنه قد مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لم يمت، فرجع فَصُيِّح عليه، فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد مات) أي: صارت المسألة مثل الأولى، (فقال: إنه لم يمت) وفي المرة الثالثة لم يرد أن يذهب إليه، فقالت امرأته: لو ذهبت إليه وأخبرته فقال: اللهم العنه! قال: ثم انطلق الرجل فرآه قد نحر نفسه بمشقص معه، ومعلوم أن لعن المعين لا يسوغ، وهذا الذي حصل من الصحابي ليس هناك ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع عليه، بل حصل بينه وبين زوجته، ولعل سبب ذلك أنه كل مرة يقولون له: قد مات، فيذهب إلى الرسول فيخبره بأنه لم يمت، فيرجع فيجده لم يمت، فتكرر ذلك حتى سبه.
فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنه قد مات، قال: وما يدريك؟ قال: (رأيته ينحر نفسه بمشاقص معه، قال: أنت رأيته؟ قال: نعم، قال: إذاً لا أصلي عليه)، وهذا فيه التثبت في الأخبار، فالرسول صلى الله عليه وسلم سأله: (وما يدريك؟ قال: رأيته ينحر نفسه، فقال: إذاً لا أصلي عليه)، وهذا هو محل الشاهد، وهو أن الإمام لا يصلي على قاتل نفسه؛ وذلك من أجل زجر الناس عن الوقوع في مثل هذا الذنب العظيم.
ويلحق بالإمام من له منزلة عند الناس، فإذا تخلف عن الصلاة على فاعل ذلك تأثر الناس من تخلفه، كالعلماء مثلاً.(368/3)
تراجم رجال إسناد حديث امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على الذي نحر نفسه بمشاقص
قوله: [حدثنا ابن نفيل].
هو عبد الله بن محمد بن نفيل النفيلي، وهو ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا زهير حدثنا سماك حدثني جابر بن سمرة].
وقد مر ذكرهم، وجابر بن سمرة صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث من الأحاديث الرباعية عند أبي داود.(368/4)
الأسئلة(368/5)
حكم دعاء المرأة بالدعاء الوارد عند زيارة المقابر
السؤال
إذا مرت المرأة بجانب البقيع فهل يشرع لها أن تدعو بالدعاء المأثور؟
الجواب
قد يكون مثل هذا سبباً لتعمد المرأة ذلك، فتكون زائرة للمقابر، فتتعرض للعنة، فالذي يبدو أن المرأة لا تفعل ذلك.(368/6)
حكم الجلوس عند القبر عند دفن الميت
السؤال
هل يستحب الجلوس عند القبر وقت دفن الميت؟
الجواب
لا بأس بذلك.(368/7)
معنى حديث علي: (قام في الجنائز ثم قعد بعد)
السؤال
ألا يكون معنى حديث علي رضي الله عنه: (قام في الجنائز ثم قعد بعد) أي: أنه قام للجنائز عندما مرت به، ثم قعد بعد مرورها؟
الجواب
هذا التفسير محتمل، لكن ذاك أولى من ناحية أنه قال: (قام في الجنائز، ثم قعد بعد) فمعناه: أنه كان يقوم في الجنائز، ولم يقل في الجنازة، بل هو يتكلم على جنس الجنائز، فمعنى ذلك أنه كان من عادته أنه يقوم للجنائز، ثم قعد بعد ذلك، أي: أنه نسخ.(368/8)
ترجيح ابن القيم أن أحاديث القيام للجنازة ليست منسوخة
السؤال
يقول ابن القيم رحمه الله: إن القيام للجنازة فيه أربعة أقوال: أحدها: أن ذلك كله منسوخ، وهذا المذهب ضعيف؛ لأن أحاديث القيام كثيرة صحيحة صريحة، ومنها حديث عامر بن ربيعة، فما التوجيه؟
الجواب
القول بأن القيام ثابت لا شك فيه، لكن الكلام على النسخ، فما الذي أضعف مذهب النسخ؟ فالذي يظهر أن قوله: (ثم قعد بعد) يدل على أنه منسوخ، وأن ذلك الحكم قد انتهى.(368/9)
حكم تشييع جنازة الكافر إذا كان من الجيران
السؤال
هل يجوز تشييع جنازة الكافر إذا كان من الجيران؟
الجواب
الذي يبدو أنه لا يشيع ولا يذهب معه.(368/10)
حكم رفع اليدين عند الدعاء للميت بعد الانتهاء من دفنه
السؤال
هل يشرع رفع اليدين عند الدعاء للميت بعد الانتهاء من دفنه؟
الجواب
الذي يبدو أن الأمر في ذلك واسع، فما أعلم شيئاً ينفي ذلك، ولا أعلم شيئاً يثبته، فمن رفع فلا ينكر عليه، ومن لم يرفع فلا ينكر عليه أيضاً.(368/11)
حكم تخصيص مسجد معين للصلاة فيه على الجنازة
السؤال
هل تخصيص مسجد معين للصلاة على الجنازة يعد بدعة؟
الجواب
ليس هذا بدعة، فإذا جُعل مسجد كبير يصلي فيه الناس، ويقصدون ذلك المكان من أجل أن يصلوا فيه على الجنازة فلا بأس بذلك؛ لأن هذا من أسباب كثرة المصلين، ففيه مصلحة وفائدة.(368/12)
حكم إعلام الناس بصلاة الجنازة
السؤال
هل يستحب للإمام إعلام الناس بأن هناك جنازة في المسجد الفلاني سيصلى عليها؟
الجواب
الذي يبدو أنه لا بأس بذلك.(368/13)
التفصيل بين حمل الجنازة مشياً إلى المقبرة وبين أخذها في السيارة
السؤال
هل أخذ الجنازة إلى المقبرة في السيارة أفضل أم المشي بها؟
الجواب
إذا كانت المقبرة قريبة فالمشي إليها هو الأفضل، وإذا كانت بعيدة يشق على الناس المشيء إليها فلا بأس أن يُذهب بها بالسيارة.(368/14)
حمل جنائز أهل الشر
السؤال
يقول عليه الصلاة والسلام (أسرعوا بالجنازة؛ فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه) الحديث، هل يؤخذ منه أن الجنازة التي لا أعلم حال صاحبها هل هو صالح أم طالح أن الأفضل ألا أحملها؛ لأنها قد تكون جنازة شر؟
الجواب
ليس معنى ذلك أن الشر يصيبك، وإنما المقصود أنه هو نفسه سينتهي إلى شر، وأن أمامه شراً ينتظره، فأنت ستؤجر على حملك، ولا يعلم الغيب إلا الله عز وجل، فقد يظهر للناس أنها صالحة وتكون بخلاف ذلك، وربما يظهر للناس أنها ناقصة وهي عنده على خير، فالحاصل: أن هذه من الأمور الغيبية، والميت مادام مسلماً فإن جنازته تتبع ويصلى عليها وتحمل، وأما أنه قد يكون صاحب شر فهذا لا يضر الحامل، وإنما الضرر على المحمول.(368/15)
حكم الجلوس بعد وضع الجنازة على الأرض
السؤال
من تبع الجنازة حتى وضعت على الأرض فهل يجب عليه الجلوس؟
الجواب
الذي يبدو أن الأمر في ذلك واسع، فإن جلس فله ذلك، وإن لم يجلس فله ذلك.(368/16)
حكم الصلاة على من نحر نفسه لمرض نفسي فيه
السؤال
إذا كان الرجل به مرض نفسي ثم انتحر فهل يصلى عليه؟
الجواب
أما الصلاة فإنه يصلى على كل مسلم، ولكن إذا تخلف عنه بعض الناس الذين لهم منزلة ومكانة من أجل أن ينزجر الناس عن مثل ذلك فلا بأس، وقد مر هذا في شرح حديث قاتل نفسه.(368/17)
قاتل نفسه لا يخلد في النار
السؤال
كيف يصلى على قاتل نفسه مع أنه قد ورد: (أنه من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في النار خالداً مخلداً فيها أبداً)؟
الجواب
معلوم أن هذا التخليد ليس كتخليد الكفار، وإنما هو تخليد نسبي؛ لأن كل من مات وهو غير مشرك بالله عز وجل فأمره إلى الله عز وجل، وإذا عذب فإنه لا يخلد في النار أبد الآبدين.(368/18)
حكم ربط لحيي الميت وتوجيه رأسه إلى القبلة
السؤال
هل ربط لحيي الميت بعد موته من السنة، وكذلك توجيه رأسه جهة القبلة؟
الجواب
أما ربط اللحيين فلا أعلم شيئاً يدل عليه، ولكن إذا كان إطباق فمه من أجل أن يلتقي فكاه ولا يبقى منفتحاً فلا بأس.
وأما توجيه رأس الميت إلى القبلة فلا أعلم فيه نصاً، وإذا استقبل به القبلة احتجاجاً بالحديث الذي فيه: (خير المجالس ما استقبلت فيه القبلة) فلا بأس بذلك، وأما أن ذلك يجب ويلزم فلا أعلم فيه شيئاً خاصاً.(368/19)
حكم التشريك في أجر تشييع الجنازة
السؤال
هل يجوز لي وأنا أشيع الجنازة أن أقول: اللهم اؤجرني واؤجر والديَّ وإخوتي بهذا الأجر؟ وهل يؤجرون مثل أجري؟
الجواب
لا يقال هذا، فإذا عمل الإنسان عملاً صالحاً فهو له، فيدعو الله أن يأجره عليه، ولا يكون ذلك له ولغيره.(368/20)
وزن العامل والعمل والصحف يوم القيامة
السؤال
ما هو الذي يوزن في الميزان يوم القيامة: هل هي الأعمال أو العامل؟
الجواب
توزن الأعمال، وكذلك توزن الصحائف كما جاء في حديث البطاقة والسجلات، وجاء في وصف ساقي ابن مسعود رضي الله عنه: (أنهما أثقل في الميزان من جبل أحد)، فقيل: معناه: أن شأنهما ومنزلتهما عند الله عز وجل عظيمة.
ومن أهل العلم من قال: يوزن العامل وعمله وصحفه، فالصحف جاء فيها حديث البطاقة والسجلات، وحديث الأعمال واضح في أن الأعمال توزن، وأنها تحول إلى أعيان، فقد جاء في الحديث: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان)، فهذا يعني أن القول يجعل يوم القيامة جسماً وجرماً فيوضع في الميزان، وقد سبق أن مر بنا حديث: (من صلى على جنازة فله قيراط، من تبعها حتى تدفن فله قيراطان، قال: والقيراط مثل جبل أحد)، فمعناه أن الأعراض والأعمال تقلب أعياناً يوم القيامة، ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله وبحمده تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض).(368/21)
حكم الصيد بالكلب الأسود البهيم
السؤال
هل يجوز الصيد بالكلب الأسود البهيم؟
الجواب
ورد ما يدل على أن الكلب الأسود البهيم شيطان، فلا يصلح أن يتخذ للصيد، ومعلوم أن كلاب الصيد كلاب خاصة، فليس كل كلب يصلح أن يكون للصيد.(368/22)
حكم هدايا الطلاب للمعلمين
السؤال
هل تدخل هدايا الطلاب للمعلمين في هدايا العمال، وذلك بأن يشترك كل الطلاب فيشترون هدية ثمينة، فيقدمونها للمعلم من باب التودد والمحبة لا غير؟ وما حكم أن يعملوا وليمة في آخر العام الدراسي ويدعوا إليها المدرسين فقط؟
الجواب
إعطاؤهم ذلك للموظف في وظيفة لاشك أنه محذور، سواء كان واحداً أو أقل أو أكثر؛ لأنه من العمال، وهدايا العمال غلول، ويمكن أنهم يتفقون أن يراعيهم جميعاً من ناحية الدرجات.
وأما تخصيص الوليمة للمدرسين فلا يصلح.(368/23)
حكم مقولة: اللهم إني لا أسألك رد القضاء
السؤال
هل يجوز لإنسان أن يقول: اللهم إني أسألك رد القضاء؟
الجواب
لا أعلم شيئاً يدل على هذا، وإنما يسأل الإنسان ما يريد من خيري الدنيا والآخرة.
ثم إن القضاء الذي قدره الله وكتبه في اللوح المحفوظ لا يرد: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن)، فكل شيء كُتب في اللوح المحفوظ لابد وأن يوجد، وأما الحديث الذي فيه: (لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)، فهذا من قبيل الأسباب والمسببات، فالله عز وجل قدر أن يكون هناك شيء يندفع بسبب شيء آخر، فقدر المسبب وقدر مسببه، وقدر أن هذا لا يكون وقدر سبباً لعدم كونه، كما أن العمر محدد ومؤقت ولا يزيد ولا ينقص، وقد قال: (ولا يزيد في العمر إلا البر) ومعنى ذلك: أن الله تعالى قدر أن هذا يكون عمره طويلاً، وقدر من أسباب ذلك أن يكون هذا الشخص باراً، وليس المقصود أنه كان له عمر محدد ثم حصل منه البر فتغير ما في اللوح المحفوظ، فتحول عمره من خمسين سنة إلى سبعين سنة؛ فالأمر ليس كذلك، وإنما هو من باب حصول السبب والمسبب، ولهذا فعند أهل السنة والجماعة أن المقتول مقتول بأجله، بخلاف المعتزلة، فإنهم يقولون: إنه قُطع عليه أجله، ولو لم يقتل لعاش، وأما أهل السنة فعندهم أنه مات بأجله، فقد قدر أنه يموت في الوقت الفلاني، وقدر أن يكون سبب موته القتل ونحو ذلك.(368/24)
حكم الصلاة على قبر السقط الذي دفن ولم يصل عليه جهلاً
السؤال
إذا سقط الطفل من بطن أمه بعد أربعة أشهر ودفن ولم يصل عليه جهلاً فهل يصلى على قبره؟
الجواب
إذا كان قد نُفخ فيه الروح وصار إنساناً وطفلاً فإنه يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (والسقط يصلى عليه)، فيصلى على قبره.(368/25)
الصلاة على من قتلته الحدود(368/26)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على ماعز بن مالك ولم ينه عن الصلاة عليه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الصلاة على من قتلته الحدود.
حدثنا أبو كامل حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر حدثني نفر من أهل البصرة عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل على ماعز بن مالك رضي الله عنه ولم ينه عن الصلاة عليه)].
قوله: [باب الصلاة على من قتلته الحدود]، أي: من قتل في حد؛ لأنه لما ذكر في الترجمة السابقة الصلاة على قاتل نفسه، وأن الإمام لا يصلي عليه؛ من أجل التأديب والزجر للناس حتى لا يقعوا في الأمور المحرمة، أورد بعد ذلك الصلاة على من قُتل حداً، كمن قتل بحد الزنا، أو حد القصاص، وغير ذلك من القتل بالحق، فهل يصلى عليه أو لا يصلى عليه؟ أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه: (أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يصل على ماعز) وقد زنى ورجم، (ولم ينه عن الصلاة عليه)، أي: أنه لم يصل عليه هو، وأما غيره فقد صلى عليه، وهذا يدل على أن كل مسلم يُصلى عليه، وأنه لا تُترك الصلاة عليه نهائياً بحيث يدفن دون أن يصلى عليه، فلابد من الصلاة على المسلم، ولكن قد يترك الإمام أو من له شأن عند الناس الصلاة على من قام ببعض الأعمال كقتل النفس، أو من ارتكب أمراً محرماً وأقيم عليه الحد، فالرسول صلى الله عليه وسلم تخلف عن الصلاة عليه هنا من أجل الزجر.
ولكن الحديث الذي أورده أبو داود هنا وأنه لم يصل عليه، قد رواه جماعة هكذا، وجاء عن أحد الثقات وهو محمود بن غيلان أنه صلى عليه، فمن أهل العلم من قال: إن رواية محمود بن غيلان شاذة، ورواية غيره من الحفاظ التي فيها: أنه لم يصل عليه، هي المحفوظة، ومن أهل العلم من قال: إن رواية محمود بن غيلان مقبولة؛ لأنها جاءت من طريق ثقة، وزيادة الثقة مقبولة، وتكون مثلما ثبت في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على الغامدية وقد رجمت على الزنا).
وعلى كل فإن كانت رواية محمود بن غيلان ثابتة فهي مطابقة لما جاء في الصحيح من الصلاة على الغامدية التي رجمت بسبب الزنا مثل ماعز، وإن كانت غير ثابتة ولم يصل عليه فيحتمل أن ذلك زجراً عن الوقوع في مثل هذه المعاصي، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى في بعض الأحوال، وتخلف عن الصلاة في بعضها.
والحاصل: أنه يصلى على الذي أقيم عليه الحد، كما صلى الرسول صلى الله عليه وسلم على الغامدية، وإن تركت الصلاة عليه من بعض الناس من أجل أن يكون في ذلك زجر وردع فلا بأس بذلك.(368/27)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على ماعز بن مالك ولم ينه عن الصلاة عليه)
قوله: [حدثنا أبو كامل].
هو أبو كامل الفضيل بن حسين الجحدري وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبو عوانة].
هو أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بشر].
هو جعفر بن إياس بن أبي وحشية، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني نفر من أهل البصرة].
هم هنا عدد من التابعين، ولم يسموا، والألباني يصحح هذا الحديث، ولا أدري هل وقف على تسمية هؤلاء أو بعضهم، أو أنه مشى على عادته أنه إذا كان المجهولون أو المبهمون جمعاً فإنه يعول عليهم، ويصحح حديثهم؛ لأنهم عدد.
[عن أبي برزة الأسلمي].
هو نضلة بن عبيد، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(368/28)
الصلاة على الطفل(368/29)
شرح حديث عدم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الصلاة على الطفل.
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن ثمانية عشر شهراً، فلم يصل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)].
قوله: [باب في الصلاة على الطفل]، الطفل يصلى عليه، وقد مر بنا الحديث الذي فيه: (والسقطُ يصلى عليه) وفي بعض ألفاظه: (والطفل يصلى عليه)، وقد جاء في الأدعية: (اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا)، فالصلاة على الأطفال قد جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة في أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل على ابنه إبراهيم فقد توفي وعمره ثمانية عشر شهراً ومع ذلك لم يصل عليه، فأخذ بعض أهل العلم من هذا أن الصلاة على الأطفال لا تجب، وقد جاء أنه يصلى على الأطفال، فالمعروف والمشهور عند العلماء أن الطفل يصلى عليه، وهل يستدل بترك الصلاة على أن الصلاة على الأطفال مستحبة، وأنه يمكن أن تترك على بعض الأطفال، أم يقال: إن هذا حصل لأن إبراهيم من أهل الجنة، وله ظئر ترضعه في الجنة؟ هذا ليس بواضح، وقد جاء فيما يتعلق بالصلاة على إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم بعض الآثار المرسلة، وأما هذا الحديث الذي معنا فهو متصل ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدل على أنه لم يصل على إبراهيم، ولكن الإشكال في كونه يتخذ دليلاً على أن الصلاة على الأطفال مستحبة وليست بواجبة، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على ابنه إبراهيم كما لم يصل على الشهداء؛ لأنه حصل لهم ما حصل من الكرامة والمنزلة، فيكون ابنه إبراهيم كذلك، فالذي يظهر أن التعويل يكون على أن الصلاة على الأطفال ليست بواجبة وإنما هي مستحبة فقط، وقد استدل الشيخ الألباني رحمه الله بعدم الصلاة على إبراهيم على استحباب الصلاة على الأطفال، وأنها غير واجبة.
وأما قول بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم انشغل بصلاة الخسوف عن الصلاة على ابنه إبراهيم فقول غير واضح؛ لأنه ليس هناك مشقة في أن يصلي عليه بعد صلاة الكسوف، وليس هناك ما يشغل عنها.(368/30)
تراجم رجال إسناد حديث عدم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، وهو ثقة أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد].
يعقوب بن إبراهيم بن سعد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني عبد الله بن أبي بكر].
هو عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرة بنت عبد الرحمن].
هي عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، وهي ثقة مكثرة من الرواية عن عائشة وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(368/31)
شرح حديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري حدثنا محمد بن عبيد عن وائل بن داود سمعت البهي قال: (لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المقاعد).
قال أبو داود: قرأت على سعيد بن يعقوب الطالقاني قيل له: حدثكم ابن المبارك عن يعقوب بن القعقاع عن عطاء: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على ابنه إبراهيم وهو ابن سبعين ليلة)].
أورد أبو داود هذين الحديثين المرسلين، وفيهما أنه صلى الله عليه وسلم صلى على ابنه إبراهيم، وهما مرسلان؛ لأن الذي يرفعهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم من التابعين، وهما البهي، وعطاء بن أبي رباح، ومعلوم أن المرسل: هو ما يضيفه التابعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ليس حجة عند المحدثين؛ لاحتمال أن يكون الساقط تابعياً، وذلك التابعي قد يكون ثقة وقد يكون ضعيفاً، فضعف المرسل لهذا الاحتمال.
وأورد أبو داود مرسلاً من طريق البهي وهو: (لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقاعد).
والمقاعد مكان قريب من المسجد، وفي الأثر الذي بعده: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى عليه وهو ابن سبعين ليلة)، وهذا فيه مخالفة لما تقدم من أنه مات وهو ابن ثمانية عشر شهراً، فقال بعض أهل العلم: إن التعويل يكون على هذه المراسيل، ولكن المراسيل -كما عرفنا- غير حجة، والحديث المتصل ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والقول بأنه يستدل بالحديث المتصل السابق على أن الصلاة على الأطفال مستحبة وليست بواجبة فيه نظر؛ لاحتمال أن يكون ترك الصلاة عليه كما ترك الصلاة على بعض الشهداء، فابنه إبراهيم له منزلة، وكذلك الشهداء لهم منزلة، فلا يتخذ ذلك دليلاً على أن الأطفال أو بعضهم لا يصلى عليهم، أو أنها تكون مستحبة؛ لاحتمال أن يكون هذا الذي حصل له مثل الذي حصل للشهداء؛ لعلو منزلتهم ومكانتهم، ولعظيم ما أعده الله لهم من النعيم، ولا شك أن الصلاة فيها شفاعة وزيادة خير، فلعل العلة في ترْك الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة على الشهداء وعلى ابنه إبراهيم واحدة.(368/32)
تراجم رجال إسناد حديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هو هناد بن السري أبو السري، وهو ثقة أخرج له البخاري في (خلق أفعال العباد) ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن عبيد].
هو محمد بن عبيد الطنافسي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
فائدة: إذا جاء محمد بن عبيد في طبقة شيوخ شيوخ أبي داود فهو الطنافسي، المتوفى سنة مائتين وأربع، وأما إذا جاء محمد بن عبيد في شيوخ أبي داود فيحتمل أنه محمد بن عبيد بن حساب، ويحتمل أنه محمد بن عبيد المحاربي، فالاثنان من شيوخه.
[عن وائل بن داود].
وائل بن داود ثقة أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) وأصحاب السنن.
[عن البهي].
هو عبد الله بن يسار، وهو صدوق يخطئ أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأصحاب السنن.
[قال أبو داود: قرأت على سعيد بن يعقوب الطالقاني].
سعيد بن يعقوب الطالقاني ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[قيل له: حدثكم ابن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك المروزي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يعقوب بن القعقاع].
يعقوب بن القعقاع ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن عطاء].
هو عطاء بن أبي رباح، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وذكر في (عون المعبود) أن الزركشي قال: ذكروا في ذلك وجوهاً منها: أنه لا يصلي نبي على نبي، وقد جاء أنه لو عاش لكان نبياً.
أقول: ليس هذا التعليل بظاهر، ثم ما هو الدليل على أنه لا يصلي نبي على نبي؟! فالأنبياء السابقون لا نعرف ما الذي حصل في زمنهم، فلا يُثبت ولا يُنفى إلا بدليل، والرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد البشر صلى عليه أصحابه فرادى، فكان كل واحد منهم يصلي عليه على حدة، فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم موجودة، فهذا التعليل ليس بالمستقيم.(368/33)
الصلاة على الجنازة في المسجد(368/34)
شرح حديث: (والله ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الصلاة على الجنازة في المسجد.
حدثنا سعيد بن منصور حدثنا فليح بن سليمان عن صالح بن عجلان ومحمد بن عبد الله بن عباد عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (والله ما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد)].
قوله: [باب الصلاة على الجنازة في المسجد] الأصل أن الصلاة على الجنازة تكون في خارج المسجد، وهكذا كان الأمر في زمنه صلى الله عليه وسلم والغالب على فعله، وقد جاء ما يدل على أنه صلى على بعض الجنائز في المسجد، فدل ذلك على أنه سائغ، ولكن كون الأكثر من فعله صلى الله عليه وسلم أنه يصلي عليها في غير المسجد يدل على أنه هو الأولى، وقد يكون في الصلاة في المسجد مصلحة للميت، وذلك لأن المسجد يكثر فيه المصلون، فيحصل الدعاء والشفاعة من عدد كبير من الناس.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (والله ما صلى الرسول صلى الله عليه وسلم على ابن البيضاء إلا في المسجد)، وسبب قولها هذا أنها طلبت أن يوتى بجنازة سعد بن أبي وقاص إلى باب حجرتها لتصلي عليه، فكأن بعض الناس تكلم في ذلك، فأجابت بهذا الجواب، واستدلت بهذا الدليل على الصلاة في المسجد، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على ابن البيضاء في المسجد، وأقسمت على ذلك من أجل بيان تحققها وتأكدها وضبطها للشيء الذي تحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على جواز الحلف من غير استحلاف؛ من أجل التأكيد، لاسيما وقد حصل تردد من بعض الناس في هذا العمل الذي أرادت عائشة أن تعمله.(368/35)
تراجم رجال إسناد حديث: (والله ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد)
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا فليح بن سليمان].
فليح بن سليمان صدوق يخطئ كثيراً، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن صالح بن عجلان].
صالح بن عجلان مقبول، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن محمد بن عبد الله بن عباد].
قال في التقريب: ويقال: صوابه محمد بن عباد بن عبد الله، أي: بتقديم عباد على عبد الله، وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
ولا يضر هنا وجود هذا الرجل في صحة الحديث؛ لأن الحديث في صحيح مسلم من غير هذا الوجه، فالحديث ثابت في صحيح مسلم، وفيه بيان سبب هذا الحديث، وهو طلب عائشة رضي الله عنها أن يؤتى بجنازة سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه لتصلي عليه عند باب حجرتها.
[عن عباد بن عبد الله بن الزبير].
عباد بن عبد الله بن الزبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة مر ذكرها.(368/36)
شرح حديث: (والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا ابن أبي فديك عن الضحاك -يعني: ابن عثمان - عن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ابني بيضاء في المسجد: سهيل وأخيه)].
أورد أبو داود الحديث السابق من طريق أخرى عن عائشة: (أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على ابني بيضاء في المسجد) تعني: سهيلاً وأخيه.(368/37)
تراجم رجال إسناد حديث: (والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد)
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هو هارون بن عبد الله الحمال البغدادي، وهو ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا ابن أبي فديك].
هو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك، وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الضحاك بن عثمان].
الضحاك بن عثمان صدوق يهم أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي النضر].
هو سالم المدني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة مر ذكرها.
فهذا الحديث إسناده مستقيم، فالإسناد السابق وإن كان فيه كلام إلا أن هذه الطريق بمعناه تشهد له.(368/38)
شرح حديث: (من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن أبي ذئب حدثني صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه) هكذا جاء عند أبي داود: (فلا شيء عليه)، وجاء عند غيره: (فلا شيء له) وفُسر قوله: (فلا شيء له) أنه ليس هناك ميزة ولا فضيلة بصلاته على الجنازة في المسجد على الصلاة في غير المسجد، فالمسجد هو خير البقاع وأشرفها، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه قال: (أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغضها إلى الله أسواقها)، فالمساجد هي أفضل البقاع وأحبها في كل البلدان؛ لأنها محل الذكر والعبادة والطاعة، ومع ذلك من صلى على الجنازة في المسجد لا يقال: إن له ميزة على الصلاة عليه في غير المسجد؛ لأن أكثر ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليها أنه كان في غير المسجد، إذاً فالمراد أنه لا يظن باعتبار أن المساجد أفضل البقاع أن الصلاة فيها على الجنازة أفضل من الصلاة عليها في خارج المساجد، وإنما يدل على أن الصلاة عليها في المساجد سائغة، وفضل الصلاة في المسجد وميزتها إنما تكون في صلاة الجماعة، فهنا لها فضل وميزة على غيرها، وقد جاء في الحديث: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة)، وفي رواية: (بخمسة وعشرين جزءاً).
فالمقصود: أنه في الحديث السابق نفي شيء خاص، وليس نفي الأجر، فإن الأجر والثواب حاصلان، وقد قالوا: إن الصلاة على الجنازة في المسجد قد يترتب عليها أن الذي يصلي في المسجد قد ينصرف ولا يتبع الجنازة، وإذا ذهب إليها وصلى عليها في الأماكن التي يصلى على الجنائز فيها فإنه يكون قد ذهب خطوات من أجل الصلاة على الجنازة، فيؤجر على ذلك، ويحصل على القيراطين المذكورين في الحديث، وأيضاً فإنه يسهل عليه أن يذهب لتشييعها واتباعها، بخلاف ما لو صلى في المسجد فإنه ينصرف ولا يتبع الجنازة.(368/39)
تراجم رجال إسناد حديث: (من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى القطان، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي ذئب].
هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن صالح مولى التوأمة].
هو صالح بن نبهان مولى التوأمة، وهو صدوق اختلط، أخرج حديثه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وابن أبي ذئب ممن روى عنه قبل الاختلاط، فروايته عنه صحيحة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.
وقد ذكر الترمذي هذا الحديث في (العلل)، ونقل عن البخاري أنه قال: ابن أبي ذئب روى عن صالح مولى التوأمة أخيراً، وروى عنه مناكير.
وذكره ابن القطان في (بيان الوهم والإيهام) وحكم عليه بالنكارة.
وقد ذكر في (التقريب) أن ابن أبي ذئب ممن روى عن صالح مولى التوأمة قبل الاختلاط.
وقال ابن عدي: لا بأس برواية القدماء عنه كـ ابن أبي ذئب وابن جريج.(368/40)
الدفن عند طلوع الشمس وعند غروبها(368/41)
شرح حديث: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الدفن عند طلوع الشمس وعند غروبها.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع حدثنا موسى بن علي بن رباح قال: سمعت أبي يحدث أنه سمع عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، أو نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تَضَيّف الشمس للغروب حتى تغرب) أو كما قال].
قوله: [باب الدفن عند طلوع الشمس وغروبها]، أي: أن ذلك جاء فيه النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، أو ندفن فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تتضيف للغروب) أي: حين تقترب من الغروب وتكون على وشك الغروب، فهذه الأوقات الثلاثة ينهى عن الصلاة فيها، سواء كانت صلاة جنازة أو غيرها، وينهى أيضاً عن الدفن فيها، وهي أوقات قصيرة يمكن أن يُنتظر حتى تنقضي، والانتظار فيها لا يؤثر.
قوله: (وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل) أي: حتى تميل إلى جهة الغرب، ويحصل الزوال الذي به يدخل وقت صلاة الظهر.
قوله: (وحين تَضَيَّف الشمس للغروب حتى تغرب) أي: إذا قربت من الغروب حتى تغرب.(368/42)
تراجم رجال إسناد حديث: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا موسى بن علي بن رباح].
موسى بن علي بن رباح صدوق ربما أخطأ، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه ثقة أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عقبة بن عامر].
هو عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه، وحديثه أخرجه له أصحاب الكتب الستة.(368/43)
شرح سنن أبي داود [369]
إذا مات رجال ونساء فكيف يرتبون عند الصلاة عليهم؟ وأين يقف الإمام إذا صلى على الميت رجلاً كان أو امرأة؟ وكم عدد تكبيرات صلاة الجنازة؟ وما يقرأ فيها؟ وبماذا يدعى فيها للميت؟ هذه مسائل متعلقة بصلاة الجنازة، وقد جاءت مفصلة في السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.(369/1)
ترتيب جنائز الرجال والنساء عند الصلاة عليها(369/2)
شرح أثر الصلاة على أم كلثوم وابنها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب إذا حضر جنائز رجال ونساء من يقدّم.
حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي حدثنا ابن وهب عن ابن جريج عن يحيى بن صبيح حدثني عمار مولى الحارث بن نوفل: (أنه شهد جنازة أم كلثوم وابنها، فجعل الغلام مما يلي الإمام، فأنكرت ذلك، وفي القوم ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو قتادة وأبو هريرة رضي الله عنهم، فقالوا: هذه السنة)].
قوله: [باب إذا حضر جنائز رجال ونساء من يقدم] إذا حضر جنائز رجال ونساء وأطفال فإنه يقدم الرجال، ثم الأطفال، ثم النساء، وهذا مثلما يكون في صفوف الصلاة، ففي صفوف الصلاة يكون الرجال أولاً، ثم يليهم الأطفال، ثم تليهم النساء.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عباس وأبي قتادة وأبي سعيد وأبي هريرة أنهم قالوا: إن السنة تقديم الطفل على المرأة، وأن الطفل يلي الإمام، وتكون المرأة من ورائه، وقول الصحابة عن شيء: إنه من السنة، فإنهم يعنون بذلك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون له حكم الرفع، ومن الصيغ التي لها حكم الرفع أيضاً قول الصحابي: هذا هو السنة، أو هو سنة، فهذا يحمل على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمقصود بالسنة هنا: الطريقة والمنهج، والسنة تطلق على أربعة إطلاقات.
الإطلاق الأول: تطلق ويراد بها الطريقة والمنهج، فسنة الرسول صلى الله عليه وسلم هي كل ما جاء في الكتاب والسنة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي فليس مني)، وقولهم هنا: (من السنة)، أي: سنة الرسول، وهي منهجه وطريقته، فالمقصود بذلك المعنى العام.
الإطلاق الثاني: تطلق ويراد بها حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فتكون مرادفة للحديث، ومنه قول الفقهاء والعلماء عندما يريدون أن يحتجوا بمسألة فيجملون الأدلة ثم يفصلونها، فيقولون: وقد دل على هذه المسألة الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، فأما الكتاب: فقول الله تعالى كذا، وأما السنة: فقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا، فالسنة إذا جاءت معطوفة على الكتاب فالمراد بها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
الإطلاق الثالث: تأتي السنة ويراد بها ما يعتقد موافقاً للسنة، أي: خلافاً للبدعة، فالسنة تقابل البدعة، ومنه الكتب التي ألفت في العقيدة من سلف هذه الأمة، كالسنة لـ ابن أبي عاصم، والسنة للالكائي، والسنة للطبراني، والسنة لـ محمد بن نصر المروزي، ولـ أبي داود، وهو كتاب بعنوان: كتاب السنة ضمن السنن، وقد جمع فيه الأحاديث المتعلقة بالعقيدة، فالسنة هنا تقابل البدعة.
الإطلاق الرابع: تأتي بمعنى المندوب والمستحب، وهذا في اصطلاح الفقهاء، فإنهم إذا قالوا: يسن كذا، فمعناه: أنه من الأمور المستحبة المندوبة، وليس من الأركان ولا من الواجبات، وإذا قالوا: أركان وواجبات وسنن، فإنهم يقصدون بالسنن المستحبة التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، ويطلبها الشارع طلباً غير جازم.
وإذا كانت الجنائز جنائز أطفال ذكور وإناث فالذي يبدو أن الإناث تكون وراءها، فيقدم الذكور على الإناث، ولو كان هناك أطفال إناث ونساء في حال الصلاة فإن الأطفال والإناث يكنّ وراء النساء، فالذين يقدمون على النساء هم الأطفال الذكور، وتكون صفوفهم في الصلاة عليهم كصفوفهم في الصلاة وراء الإمام في صلاة الجماعة.
قوله: [عن عمار مولى الحارث بن نوفل أنه شهد جنازة أم كلثوم وابنها].
هي أم كلثوم بنت علي رضي الله تعالى عنهما، وهي زوجة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعنها وعن الصحابة أجمعين، وابنها هو زيد، وقد ماتا في وقت واحد، وقدما للصلاة، فقدِّم الابن وجعلت هي وراءه، أي: أن الابن يلي الإمام وأمه تكون وراءه إلى جهة القبلة.(369/3)
تراجم رجال إسناد أثر الصلاة على أم كلثوم وابنها
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي].
يزيد بن خالد بن موهب الرملي ثقة أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن صبيح].
يحيى بن صبيح صدوق أخرج له أبو داود.
[عن عمار مولى الحارث بن نوفل].
عمار مولى الحارث بن نوفل صدوق ربما أخطأ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[وفي القوم ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[وأبو سعيد].
هو سعد بن مالك بن سنان، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
[وأبو قتادة].
هو أبو قتادة الحارث بن ربعي صحابي جليل، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأبو هريرة].
قد مر ذكره.(369/4)
مكان قيام الإمام من الميت إذا صلى عليه(369/5)
شرح حديث أنس في صلاته على الرجل وقيامه عند رأسه وصلاته على المرأة وقيامه عند عجيزتها ورفعه ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب أين يقوم الإمام من الميت إذا صلى عليه؟ حدثنا داود بن معاذ حدثنا عبد الوارث عن نافع أبي غالب قال: (كنت في سكة المربد فمرت جنازة معها ناس كثير، قالوا: جنازة عبد الله بن عمير، فتبعتها فإذا أنا برجل عليه كساء رقيق على بريذينته، وعلى رأسه خرقة تقيه من الشمس، فقلت: من هذا الدَّهقان؟ قالوا: هذا أنس بن مالك، فلما وضعت الجنازة قام أنس، فصلى عليها وأنا خلفه لا يحول بيني وبينه شيء، فقام عند رأسه فكبر أربع تكبيرات لم يطل ولم يسرع، ثم ذهب يقعد، فقالوا: يا أبا حمزة! المرأة الأنصارية، فقربوها وعليها نعش أخضر، فقام عند عجيزتها فصلى عليها نحو صلاته على الرجل ثم جلس، فقال العلاء بن زياد: يا أبا حمزة! هكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الجنائز كصلاتك، يكبر عليها أربعاً ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة؟ قال: نعم، قال: يا أبا حمزة! غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم، غزوت معه حنيناً، فخرج المشركون فحملوا علينا حتى رأينا خيلنا وراء ظهورنا، وفي القوم رجل يحمل علينا فيدقنا ويحطمنا، فهزمهم الله، وجعل يجاء بهم فيبايعونه على الإسلام، فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن علي نذراً إن جاء الله بالرجل الذي كان منذ اليوم يحطمنا لأضربن عنقه، فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجيء بالرجل، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا رسول الله! تبت إلى الله، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يبايعه؛ ليفي الآخر بنذره، قال: فجعل الرجل يتصدى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليأمره بقتله، وجعل يهاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقتله، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يصنع شيئاً بايعه، فقال الرجل: يا رسول الله! نذري، فقال: إني لم أمسك عنه منذ اليوم إلا لتوفي بنذرك، فقال: يا رسول الله! ألا أومضْتَ إلي؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنه ليس لنبي أن يومض)، قال أبو غالب: فسألت عن صنيع أنس في قيامه على المرأة عند عجيزتها، فحدثوني أنه إنما كان لأنه لم تكن النعوش، فكان الإمام يقوم حيال عجيزتها يسترها من القوم.
قال أبو داود: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) نسخ من هذا الحديث الوفاء بالنذر بقتله بقوله: إني قد تبت].
قوله: [باب أين يقوم الإمام من الميت إذا صلى عليه] أي: إذا قدِّم وجعل بين يدي الإمام ليصلي عليه، فأين يقف، هل يقف عند رأسه، أو وسطه، أو عند صدره، أو ماذا؟ وقد جاءت السنة بأنه يقف عند رأس الرجل ووسط المرأة عند عجيزتها، وهذه المسألة من المسائل التي جاءت في السنة بالمغايرة فيها بين الرجال والنساء في الأحكام، والأصل هو التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام، فلا يفرق بينهما إلا إذا جاء دليل يدل على التفريق بينهما كما في مسألتنا هذه، فإذا جاء التفريق فُرِّق بينهما، وأيضاً مثل التفريق بين بول الجارية وبول الغلام اللذين لم يأكلا الطعام، وهناك مسائل كثيرة يفترق فيها الرجال عن النساء في الأحكام، والأصل هو عدم التفريق إلا إذا وجد ما يدل على التفريق، فالسنة هي الوقوف عند رأس الرجل ووسط المرأة.
وقد أورد أبو داود حديث نافع أبي غالب قال: (كنت في سكة المربد)، السكة هي الطريق، والمربد: مكان بالبصرة، (فمرت جنازة يتبعها ناس كثير فسأل عنها، فقيل: هذه جنازة عبد الله بن عمير فتبعتها، فإذا أنا برجل عليه كساء رقيق على بريذينة له) وهو تصغير برذون، والبرذون -كما سبق أن مر بنا- هو الفرس غير العربي، فهو إذن ليس أصيلاً، فقد قيل: إنه من خيل الترك.
(وعلى رأسه خرقة تقيه من الشمس، فقلت: من هذا الدهقان؟) الدهقان يطلق على عدة معاني، منها: التاجر، ومنها: القوي على التصرف مع حدة، وزعيم الفلاحين ورئيس الإقليم.
قوله: (فلما وضعت الجنازة) أي: جنازة عبد الله بن عمير، (قام وصلى عليها، وأنا خلفه لا يحول بيني وبينه شيء) معناه: أنه أتقن العمل الذي عمله أنس بن مالك في الصلاة، حيث صلى أربعاً، ووقف عند رأس الرجل.
قوله: (فقام عند رأسه)، وهذا هو محل الشاهد، أنه يقف عند رأس الرجل، (وكبر أربع تكبيرات لم يطل ولم يسرع) أي: ليس هناك تطويل ولا إسراع، وإنما هو توسّط، ومعلوم أن التكبيرات ليس فيها تطويل، ولكن الكلام فيما بينهن من القراءة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء.
وهذا يدل على أن التكبيرات على الجنازة تكون أربعاً، وقد جاء أكثر من ذلك إلى تسع، ولكن الذي عليه عمل الصحابة والخلفاء التكبير أربع تكبيرات.
قوله: (ثم ذهب يقعد فقالوا: يا أبا حمزة! المرأة الأنصارية)، أي: أنه لما فرغ ظن أنه ليس هناك جنازة أخرى، (فقيل: المرأة الأنصارية) أي: هناك جنازة أخرى لامرأة أنصارية.
قوله: فقربوها وعليها نعش أخضر، وهو غطاء غُطِّيت به ليسترها، قيل: إن هذا إنما أتي به من الحبشة، فقد كانوا يفعلون ذلك، وقيل: إن أول ما فُعل ذلك بـ فاطمة رضي الله عنها، وقيل: إنه فعل بـ زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها.
وهذا الأثر يدل على أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك، وهو ستر للمرأة يواري حجمها وتقاطيعها.
قوله: (فقام عند عجيزتها) أي: عند وسطها.
قوله: [(فصلى عليها نحو صلاته على الرجل، ثم جلس، فقال العلاء بن زياد: يا أبا حمزة! هكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنائز كصلاتك يكبر عليها أربعاً ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة؟ قال: نعم)].
أي: هل فعلك هذا مطابق لفعل الرسول عليه الصلاة والسلام في التكبير أربعاً والوقوف عند رأس الرجل وعجيزة المرأة؟ فقال: نعم، وهذا هو رفعه إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، أي: أنه من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام وليس من فعل أنس نفسه، فهو متبع لا مبتدع.
قوله: (قال: يا أبا حمزة! غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، غزوت معه حنيناً، فخرج المشركون فحملوا علينا حتى رأينا خيلنا وراء ظهورنا، وفي القوم رجل يحمل علينا فيدقنا ويحطمنا، فهزمهم الله، فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إن علي نذراً إن جاء الله بالرجل الذي كان منذ اليوم يحطمنا لأضربن عنقه؛ لأنه كان شديد الإيذاء والإساءة للمسلمين.
قوله: (فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيء بالرجل).
أي: تريّث الرسول صلى الله عليه وسلم في مبايعة ذلك الرجل ليفي الناذر بنذره، فلما لم يفعل الناذر شيئاً بايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(وجيء بالرجل فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! تبت إلى الله، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبايعه؛ ليفي الآخر بنذره، قال: فجعل الرجل يتصدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم)]، المراد بالرجل الذي يتصدى صاحب النذر.
قوله: (ليأمره بقتله) أي: أنه ينتظر منه إشارة وأمراً بقتله.
[(وجعل يهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتله)]، أي: أنه لم يُقدم بدون إشارة وإذن من النبي صلى الله عليه وسلم، فلما لم يحصل منه تنفيذ بايعه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: (نذري يا رسول الله! فقال: إني لم أمسك عنه منذ اليوم إلا لتوفي بنذرك، قال: يا رسول الله! ألا أومضت إلي) أي: أشرت إليّ إشارة.
فقال عليه الصلاة والسلام: (إنه ليس لنبي أن يومض) أي: ليس له أن يظهر شيئاً ويبطن شيئاً آخر، وقد سبق أن مر بنا حديث مثل هذا، وفيه: (لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين).
قوله: [قال أبو غالب: فسألت عن صنيع أنس في قيامه على المرأة عند عجيزتها، فحدثوني أنه إنما كان لأنه لم تكن النعوش، فكان الإمام يقوم حيال عجيزتها يسترها من القوم]، وهذا التعليل غير واضح؛ لأنه لو كان ذلك من أجل الستر فهي الآن مستورة، فينبغي أن يتغير هذا الأمر ويتحول لتغير العلة، ولكنه وقف وسطها مع سترها، فدل ذلك على أن الموقف يكون في وسط المرأة في جميع الأحوال، سواء كانت مستورة أو غير مستورة.
[قال أبو داود: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) نسخ من هذا الحديث الوفاء بالنذر في قتله بقوله: إني قد تبت]، لأنه صلى الله عليه وسلم تريث وتمهل من أجل أن يفي بنذره.(369/6)
تراجم رجال إسناد حديث أنس في صلاته على الرجل وقيامه عند رأسه وصلاته على المرأة وقيامه عند عجيزتها ورفعه ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: [حدثنا داود بن معاذ].
داود بن معاذ ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الوارث].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع أبي غالب].
نافع أبو غالب ثقة أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أنس].
أنس رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(369/7)
شرح حديث: (صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام عليها للصلاة وسطها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حسين المعلم حدثنا عبد الله بن بريدة عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قال: (صليت وراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على امرأة ماتت في نفاسها، فقام عليها للصلاة وسطها)].
سبق أن ذكر أبو داود ترجمة أين يقف الإمام في صلاة الجنازة فيما إذا كان المصلى عليه رجل أو امرأة، وجاء في حديث أنس بن مالك الذي تقدم أنه يقف عند رأس الرجل، وعند عجيزة المرأة، وقد أورد أبو داود بعد هذا حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه هذا وهو: (أنه صلى وراء النبي عليه الصلاة والسلام على امرأة ماتت في نفاسها، فوقف في وسطها) وهذا لا ينافي ما تقدم من ذكر العجيزة؛ لأن ذلك هو الوسط أو قريب من الوسط، وكل منهما يدل على أنه لا يقف عند رأسها، وإنما يقف عند رأس الرجل.(369/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام عليها للصلاة وسطها)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حسين المعلم].
هو حسين بن ذكوان المعلم، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن بريدة].
عبد الله بن بريدة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سمرة].
هو سمرة بن جندب رضي الله عنه وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(369/9)
التكبير على الجنازة(369/10)
شرح حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبر رطب فصفوا عليه وكبر عليه أربعاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب التكبير على الجنازة.
حدثنا محمد بن العلاء أخبرنا ابن إدريس سمعت أبا إسحاق عن الشعبي: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر بقبر رطب فصفوا عليه، وكبر عليه أربعاً) فقلت للشعبي: من حدثك؟ قال: الثقة من شهده عبد الله بن عباس رضي الله عنهما].
قوله: [باب التكبير على الجنازة] أي: أن صلاة الجنازة فيها تكبيرات، وقد جاءت السنة بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأقل شيء جاء هو أربع تكبيرات، وهو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله غالباً، وكذلك خلفاؤه، وأكثر ما ورد تسع تكبيرات، ولكن الأكثر من حيث العمل والذي عليه عمل الخلفاء هو أربع تكبيرات.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر رطب فصفوا عليه)، قوله: (رطب) أي: حديث عهد بدفن، وعليه أثر الدفن، (فصفوا عليه، وكبر أربعاً) أي: صلوا مع النبي عليه الصلاة والسلام، فكان إماماً لهم، وكانوا يصلون معه بصلاته صلى الله عليه وسلم، فدل هذا على أن من لم يصل على الميت قبل دفنه في المصلى أو في المسجد فإنه يصلي عليه بعد الدفن بحيث لا يطول الأمد كثيراً، ويكون حديث عهد بالدفن، وحديث ابن عباس هذا يدل على أنهم صلوا عليه في وقت قريب، فقد قال: (رطب)، والرطوبة هذه نتيجة كونه دفن حديثاً ولم يتقادم عهده، فصلى عليه وصلوا معه، فدل هذا -كما ذكرنا سابقاً- على أن الصلاة على القبر بعد الدفن سائغة، وأن هذا ليس خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، فقد فعله معه أصحابه، والأصل أن الأحكام عامة، ولا تثبت الخصوصية للنبي عليه الصلاة والسلام إلا بدليل، وصلاة الصحابة معه تدل على أنه حكم عام وليس من خصائص الرسول، وحتى لو صلى وحده عليه الصلاة والسلام فإن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل.(369/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبر رطب فصفوا عليه وكبر عليه أربعاً)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن إدريس].
هو عبد الله بن إدريس الأودي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت أبا إسحاق].
هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الشعبي].
هو عامر بن شراحيل الشعبي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحابه الكرام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أضاف الشعبي ذلك إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، ولما سئل من حدثه به قال: الثقة من شهده، أي: من شهده عبد الله بن عباس، يعني: أن صحابي الحديث هو عبد الله بن عباس.
فقوله: (من شهده) أي: من شهد ذلك وحضره مع هؤلاء الذين صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأما كلمة: الثقة، فمعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم عدول بتعديل الله عز وجل لهم، فلا يحتاجون إلى تعديل المعدلين، ولا إلى توثيق الموثقين بعد تعديل الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن لعل الشعبي أراد من وراء ذلك أن يبين أن الذي حدثه بذلك هو عمدة، وهو ممن يعول على كلامه فقد شهد ذلك، وإلا فإن المعروف من طريقة العلماء أنه لا يقال للواحد من الصحابة: ثقة، وإنما يكفي أن يقال: صحابي، فإن وصف بأنه صحابي فهو أعلى الأوصاف، فلا يحتاج بعد ذلك إلى أن يوصف بشيء آخر لا ثقة ولا غير ثقة، ولهذا فالمعروف عند المحدثين وغيرهم من العلماء إذا ذكروا واحداً من الصحابة فإنهم يكتفون بأن يقولها عنه: له صحبة، اللهم إلا إذا كان له خصوصية فيذكرونها فيقولون: شهد بدراً، أو شهد الحديبية، أو إنه من السابقين الأولين، وغير ذلك من صفات الصحابة التي يتفاضلون ويتفاوتون بها، وأما توثيق الصحابة وأن يقال عن الواحد منهم: ثقة، فهذا غير معروف، وقد ذكروا في ترجمة عبد الله بن المبارك رحمه الله أن بعض العلماء قال عنه: هو أجل من أن يقال فيه: ثقة؛ لأنه عظيم الشأن، فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من باب أولى.(369/12)
شرح حديث تكبير زيد بن أرقم على الجنائز أربعاً وخمساً ورفعه ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة (ح) وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى أنه قال: (كان زيد -يعني ابن أرقم - رضي الله عنه يكبر على جنائزنا أربعاً، وإنه كبر على جنازة خمساً فسألته، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكبرها).
قال أبو داود: وأنا لحديث ابن المثنى أتقن.
].
أورد أبو داود حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه، قال ابن أبي ليلى: (كان زيد بن أرقم يصلي على جنائزنا أربعاً، وإنه كبر مرة خمساً، فسألته عن التكبير خمساً فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها) أي: أن ذلك قد حصل من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على حصول التكبير أكثر من أربع، وجاء ما يدل على أكثر من ذلك، لكن المشهور والمعروف عن النبي عليه الصلاة والسلام وعن بعض الخلفاء الراشدين أنه يكبر أربعاً، وهذا هو الذي عليه عمل الناس غالباً، والزيادة على ذلك في حدود ما ورد سائغة ما دام أنه قد ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فما دام أن الأغلب الوارد عن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه هو التكبير أربع تكبيرات فالأولى فعل ذلك، فإن فعل غيره مما ورد فهو أمر سائغ، وهذا يسمى: اختلاف تنوع، فكل تلك الأنواع حق، فإذا أتي بذلك في بعض الأحيان حتى يُعرف أن الأمر ليس مقصوراً على أربع، وأن غير ذلك سائغ فلا بأس بذلك، فقد يجهل الناس ذلك كما حصل من عبد الرحمن بن أبي ليلى، فقد كان المعهود أن الإمام يكبر أربعاً، فلما كبر خمساً سألوه، فبين أن الرسول فعل ذلك.(369/13)
تراجم رجال إسناد حديث تكبير زيد بن أرقم على الجنائز أربعاً وخمساً ورفعه ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
هو هشام بن عبد الملك، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا محمد بن المثنى].
معنى: (ح) التحول من إسناد إلى إسناد آخر، ومحمد بن المثنى هو أبو موسى العنزي الملقب بـ الزمن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن جعفر].
محمد بن جعفر هو الملقب بـ غندر البصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة عن عمرو بن مرة].
هذا الإسناد أنزل من الإسناد الأول، ففي الإسناد الأول: هشام بن عبد الملك حدثنا شعبة، أي: أن بين أبي داود وبين شعبة واسطة واحدة، وفي الإسناد الثاني: محمد بن مثنى حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة، فبينه وبين شعبة واسطتان.
[عن عمرو بن مرة].
هو عمرو بن مرة الهمداني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي ليلى].
هو عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن أرقم].
زيد بن أرقم رضي الله عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: وأنا لحديث ابن المثنى أتقن].
أي: أنه أتقن حديث الشيخ الثاني في الإسناد النازل، وهو: محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة.(369/14)
ما يُقرأ على الجنازة(369/15)
شرح قول ابن عباس عن قراءة الفاتحة على الجنازة: (إنها من السنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى [باب ما يقرأ على الجنازة.
حدثنا محمد بن كثير أخرنا سفيان عن سعد بن إبراهيم عن طلحة بن عبد الله بن عوف أنه قال: (صليت مع ابن عباس رضي الله عنهما على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب، فقال: إنها من السنة)].
قوله: [باب ما يقرأ على الجنازة]، أي: ما يُقرأ في الصلاة من القرآن.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عباس: (أنه قرأ بفاتحة الكتاب وقال: إنها من السنة)، والصحابي إذا قال: من السنة، فالمراد سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون له حكم الرفع، فجاء عن ابن عباس رضي الله عنه قراءة الفاتحة، وجاء عنه قراءة سورة بعدها، والمتعين هو قراءة الفاتحة، وأما غيرها فهو مثل السورة في الصلاة المفروضة، أي: أنها مستحبة.
وقد أسمعهم ابن عباس قراءته هنا؛ حتى يعرفوا أنها سنة.
ولا يُشرع أن يقول شيئاً قبل الفاتحة غير الاستعاذة، فليس هناك دعاء استفتاح، فإنه لم يأتِ شيء يدل عليه في صلاة الجنازة.(369/16)
تراجم رجال إسناد قول ابن عباس عن قراءة الفاتحة على الجنازة: (إنها من السنة)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعد بن إبراهيم].
سعد بن إبراهيم ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن طلحة بن عبد الله بن عوف].
طلحة بن عبد الله بن عوف ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.(369/17)
الدعاء للميت(369/18)
شرح حديث: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء)
قال المصنف رحمه الله تعالى [باب الدعاء للميت.
حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني حدثني محمد يعني: ابن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء)].
قوله: [باب الدعاء للميت]، أي: في الصلاة، ومعلوم أن صلاة الجنازة إنما شرعت للدعاء للميت والشفاعة له، فهذا هو المقصود منها، وما قبل ذلك من الحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو بمثابة التمهيد؛ لأن من أسباب قبول الدعاء أن يسبقه حمد الله، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث الذي سبق أن مر بنا في قصة ذلك الرجل الذي سأل في صلاته ولم يحمد الله، ولم يصل على رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجل هذا)، فدل هذا على أن من أسباب قبول الدعاء أن يسبقه بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، وقراءة الفاتحة هي حمد لله وثناء عليه وتمجيد له، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هي دعاء للنبي عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك يأتي بالمقصود من الصلاة على الجنازة وهو الدعاء، إذاً فصلاة الجنازة إنما شُرعت للدعاء، وما سوى الدعاء مما يكون قبل ذلك إنما هو تمهيد؛ لأنه من أسباب قبول الدعاء.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) أي: اجتهدوا في الدعاء من قلوب مخلصة، فهذا هو المقصود من صلاة الجنازة.
ومعلوم أنه كونه يدعا له وحده فهذا هو الأصل، لكن إذا دُعي للحي بعده كما جاءت به السنة فلا بأس بذلك، وأما أن يقوم الإنسان على الجنازة يدعو لنفسه فلا، بل يدعو للميت، وأما قوله في الدعاء: (اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده) فهذا دعاء للحي، ولكنه يتعلق بالميت، فالذي يبدو أن المقصود منه هو أن الإنسان يجتهد ويقبل على الله، ويهتم بالدعاء، فلا يكون هناك ذهول ولا غفلة؛ حتى يحصل المقصود من الصلاة على الجنازة.(369/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء)
قوله: [حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني].
عبد العزيز بن يحيى الحراني صدوق ربما وهم، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثني محمد يعني: ابن سلمة].
هو محمد بن سلمة الحراني، وهو ثقة أخرج حديثه البخاري في (جزء القراءة) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إبراهيم].
هو محمد بن إبراهيم التيمي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة بن عبد الرحمن].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(369/20)
شرح حديث: (اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو حدثنا عبد الوارث حدثنا أبو الجلاس عقبة بن سيار حدثني علي بن شماخ قال: شهدت مروان سأل أبا هريرة رضي الله عنه: (كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الجنازة؟ قال: أمع الذي قلت؟ قال: نعم، -قال: كلام كان بينهما قبل ذلك- قال أبو هريرة: اللهم أنت ربها، وأنت خلقتها، وأنت هديتها للإسلام، وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئناك شفعاء فاغفر له)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن مروان بن الحكم سأله: (كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنازة؟) والمراد بذلك الدعاء، أي: كيف سمعته يدعو للميت في صلاة الجنازة؟ (قال: أمع الذي قلت؟) وفي هذا إشارة إلى كلام سابق كان بينهما قبل هذا السؤال.
قوله: (اللهم أنت ربها، وأنت خلقتها، وأنت هديتها للإسلام، وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئناك شفعاء فاغفر له).
وهذا فيه ثناء على الله عز وجل قبل الدعاء، ومعلوم أن التمهيد للدعاء بالثناء عليه وتعظيمه وتمجيده تعالى أمر مطلوب ينبغي للعبد أن يحرص عليه، وأن يعنى به.
وقوله: (وجئناك شفعاء) أي: ندعوك، فالمقصود بالشفاعة هنا، أي: جئناك نطلب منك أن تغفر لها، وأما ما قبله فإنما هو تمهيد له، ووسيلة إليه.
وإذا قيل: كيف يكون هذا والله جل وعلا يقول {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، فلا بد من الإذن؟ فيقال: لقد أذن الله تعالى في الشفاعة بالدعاء، ومعنى هذه الآية: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، أي: أن الشفاعة في الآخرة لا تكون إلا لمن أذن الله له فيها، ولا تكون إلا لمن رضي قوله وعمله، وأما بالنسبة للدنيا فالشفاعة دعاء، والدعاء مأذون فيه، وقد مر في الحديث: (إنه لا يصلي عليه أربعون يشفعون فيه إلا شفعهم الله فيه) أي: يدعون له.(369/21)
تراجم رجال إسناد حديث: (اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام)
قوله: [حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو].
أبو معمر عبد الله بن عمرو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الوارث].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو الجلاس عقبة بن سيار].
أبو الجلاس عقبة بن سيار ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثني علي بن شماخ].
علي بن شماخ مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر، وقد مر ذكره.
[قال أبو داود: أخطأ شعبة في اسم علي بن شماخ، قال فيه: عثمان بن شماس، قال أبو داود: سمعت أحمد بن إبراهيم الموصلي يحدث أحمد بن حنبل قال: ما أعلم أني جلست من حماد بن زيد مجلساً إلا نهى فيه عن عبد الوارث وجعفر بن سليمان].
جاء هذا في بعض نسخ أبي داود، ولا أدري ما معنى هذا الكلام، فـ عبد الوارث معروف أنه ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، فلا أدري ما وجه أخذ حماد بن زيد عليه، ولعله لكونه رُمي بالقدر.
وأما جعفر بن سليمان فصدوق أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأصحاب السنن، ولعل كلام حماد بن زيد فيه من أجل أنه كان يتشيع، ولكن هذا لا يمنع من الأخذ عنهما، فـ عبد الوارث بن سعيد أخرج له أصحاب الكتب الستة، ويأتي ذكره كثيراً في الأسانيد، وهو حجة وعمدة.
[قال أبو داود: أخطأ شعبة في اسم علي بن شماخ، قال فيه: عثمان بن شماس، وسمعت أحمد بن إبراهيم الموصلي].
أحمد بن إبراهيم الموصلي صدوق أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة في (التفسير).
[يحدث أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديث أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال: ما أعلم أني جلست من حماد بن زيد].
أي: أنه يكرر الكلام فيهما.(369/22)
شرح حديث: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فقال: اللهم اغفر لحينا وميتنا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن مروان الرقي حدثنا شعيب -يعني: ابن إسحاق - عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على جنازة فقال: اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان، ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في دعائه في صلاته على جنازة (اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان، ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده).
هنا في رواية أبي داود ذكر الإيمان أولاً، وذكر الإسلام آخراً، فقال: (اللهم من أحييته فأحيه على الإيمان، ومن توفيته فتوفه على الإسلام)، والمعروف في أكثر الروايات هو العكس، (اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته فتوفه على الإيمان)، ومعلوم أن الإيمان والإسلام إذا انفرد أحدهما فإنه يشمل الآخر، وإذا جُمع بينهما في الذكر فإن المعنى يوزع بينهما كما في حديث جبريل، ومعلوم أن الإنسان في الحياة الدنيا يحيا على دين الإسلام، وأما عند الموت فإنه يكون على الإيمان، وهو أكمل من الإسلام، فدرجة الإيمان أعلى من درجة الإسلام؛ لأن الإيمان يشمل الإسلام وزيادة، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، ولهذا جاء في القرآن في سورة الحجرات: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، وجاء في حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى جماعة وفيهم رجل كنت أظنه أولاهم، فقلت: يا رسول الله! إنك أعطيت القوم وفيهم فلان وهو مؤمن، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أوْ مسلم) أي: أنه يلقنه أن يقول: مسلم؛ لأن الإسلام هو المقدار الذي يشترك فيه الناس، فكل من دخل في الإسلام فإنه يقال له: مسلم، لكن ليس كل من دخل في الإسلام يقال له: مؤمن؛ لأن الإيمان أكمل من الإسلام، ولهذا فالمشهور عند أهل السنة أن الإنسان يستثني في الإيمان فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأنها درجة كمال، ولكن إذا قيل له: أأنت مسلم؟ فإنه يقول: نعم مسلم، وإذا قيل له: أنت مؤمن؟ فيقول: مؤمن إن شاء الله.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجهاً في تقديم الإسلام وهو: أن الإسلام إذا ذُكر مع الإيمان فالمراد به العمل، وما دام أن الإنسان في الحياة فعنده استطاعة على العمل، وأما عند الموت فلا مجال إلا للإيمان، أي: الاعتقاد الصحيح.
أقول: وهذا يوضح هذا المعنى، فالإسلام -كما هو معلوم- هو الاستسلام والانقياد، فهنا قال: لأن الإسلام يراد به العمل، ولهذا لما فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام في حديث جبريل قال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت) ولما فسر الإيمان قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) فكله اعتقادات قلبية ليس فيها عمل، فعند الجمع بينهما يحمل الإسلام على الأمور الظاهرة، ويحمل الإيمان على الأمور الباطنة، وكما قال شيخ الإسلام إن الحياة فيها عمل، وأما عند الموت فإنه يموت على الإيمان والتصديق بأركان الإيمان هذه.
ويمكن أن يقال: إن الحديث وقع فيه قلب، وذلك كما وقع في حديث أبي هريرة: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) فقلبه بضعهم فقال: (حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله)، وكما جاء في حديث: (من كان له إبل لا يؤدي زكاتها بطح يوم القيامة بقاع قرقر، فتمر عليه تطؤه بأخفافها، كلما مر عليه أخراها رد عليه أولاها)، فقد جاء مقلوباً: (كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها)، مع أن الرد لا يكون إلا بعدما ينتهي الآخر، فيبدأ الأول من جديد، وأما إذا مر عليه الأول فالآخر يكون في الطريق إليه فلا يكون ذلك رداً، فالرد إنما يكون بعد الاستكمال، فيمكن أن يكون هذا من قبيل القلب.
والذي يبدو أن هذا اللفظ عام، فيدعا به لأي ميت، ولا تغير فيه الضمائر بحسب الميت إن كان ذكراً أو أنثى، بل يقال: (اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا) للجميع، ثم هذا الدعاء شامل يدخل فيه الحي والميت، والصغير والكبير، والذكر والأنثى، والشاهد والغائب، وهو دعاء للجنازة ولغير الجنازة، وللحاضر والغائب، والصغير والكبير، والذكر والأنثى.(369/23)
تراجم رجال إسناد حديث: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فقال: اللهم اغفر لحينا وميتنا)
قوله: [حدثنا موسى بن مروان الرقي].
موسى بن مروان الرقي مقبول أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا شعيب يعني: ابن إسحاق].
شعيب بن إسحاق ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن أبي كثير].
هو يحيى بن أبي كثير اليمامي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة عن أبي هريرة].
أبو سلمة وأبو هريرة مر ذكرهما.(369/24)
شرح حديث: (اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك فقه فتنة القبر وأنت أهل الوفاء والحمد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي حدثنا الوليد (ح) وحدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا الوليد وحديث عبد الرحمن أتم، حدثنا مروان بن جناح عن يونس بن ميسرة بن حلبس عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رجل من المسلمين فسمعته يقول: اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك، فقه فتنة القبر)، قال عبد الرحمن: (في ذمتك وحبل جوارك، فقه من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحمد، اللهم فاغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم).
قال عبد الرحمن: عن مروان بن جناح].
أورد أبو داود حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه: (أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة فسمعه يقول: اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك)، وهذا يدل على جواز تسمية الشخص إذا كان يعرفه، فقد قال: (اللهم إن فلان بن فلان) فيسميه باسمه كما جاء في هذا الحديث، وهنا أبهم الاسم؛ لأن الاسم ليس مقصوداً، وإنما المقصود هو العموم فأبهمه، وقد سماه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوله: (في ذمتك) أي: في عهدك.
قوله: (فقه فتنة القبر) وهي رهبة وفزع السؤال والامتحان في القبر.
قوله: [قال عبد الرحمن: في ذمتك وحبل جوارك].
وهذا قريب من معنى الذي قبله، والمراد في ذمتك.
قوله: (فقه من فتنه القبر وعذاب النار)، وهذا سؤال يشمل السلامة من العذاب بعد الموت، سواء كان في القبر أو في النار.
قوله: (وأنت أهل الوفاء والحمد) أي: أهل الوفاء بالوعد، فقد وعد عباده بالمغفرة إذا فعلوا ما طُلب منهم، وهو أيضاً أهل لأن يحمد، وكل ذلك تعظيم لله عز وجل، وثناء عليه، وهذا من المناسب عند الدعاء كما عرفنا.
قوله: (اللهم فاغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم)، وهذا أيضاً دعاء بالمغفرة والرحمة، فقد وصف الله عز وجل بأنه غفور رحيم، فهو غفور يطلب منه أن يغفر، وهو رحيم يطلب منه أن يرحم.
قوله: [قال عبد الرحمن: عن مروان بن جناح] أي: أن لـ أبي داود في هذا الحديث شيخين، أحدهما: عبد الرحمن وكان تعبيره: عن شيخه يعني عن ابن جناح، وأما الشيخ الثاني فقال: حدثنا، وهذا يبين أن التعبير الذي حصل من أحد الشيخين ليس مطابقاً لتعبير الثاني، وإنما قال هذا: حدثنا، وقال الآخر: عن، وهذا يبين عناية المحدثين بصيغ التحديث وإن لم يكن الشخص مدلساً.(369/25)
تراجم رجال إسناد حديث: (اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك فقه فتنة القبر وأنت أهل الوفاء والحمد)
قوله: [حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي].
عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي هو الملقب بـ دحيم، وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الوليد].
هو الوليد بن مسلم الدمشقي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا إبراهيم بن موسى الرازي].
إبراهيم بن موسى الرازي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا الوليد].
هو الوليد بن مسلم.
[وحديث عبد الرحمن أتم].
عبد الرحمن هو الشيخ الأول لـ أبي داود في هذا الحديث.
[حدثنا مروان بن جناح].
مروان بن جناح لا بأس به، أخرج له أبو داود وابن ماجة، وقولهم: ولا بأس به بمعنى صدوق.
[عن يونس بن ميسرة بن حلبس].
يونس بن ميسرة بن حلبس ثقة أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن واثلة بن الأسقع].
واثلة بن الأسقع رضي الله عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(369/26)
شرح سنن أبي داود [370]
الصلاة على الغائب والقبر من المسائل التي جاءت في السنة النبوية وفيها كلام للعلماء وخلاف بينهم.
ومن تكريم الإسلام للميت أن أمر بدفنه، وللدفن أحكام تتعلق بصفة القبر والدفن وما يلحق بذلك مما هو مذكور في الأحاديث النبوية.(370/1)
الصلاة على القبر(370/2)
شرح حديث صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم على قبر المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الصلاة على القبر.
حدثنا سليمان بن حرب ومسدد قالا: حدثنا حماد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن امرأة سوداء أو رجلاً كان يَقُمُّ المسجد، ففقده النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأل عنه، فقيل: مات، فقال: ألا آذنتموني به؟ قال: دلوني على قبره، فدلوه، فصلى عليه)].
قوله: [باب الصلاة على القبر]، يعني: أن ذلك سائغ ومشروع، وأن الإنسان إذا لم يصل عليه وأراد أن يصلي عليه فليصل على قبره، وقد مر بنا سابقاً الحديث الذي فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر رطب، فصلى عليه هو وأصحابه)، فذاك يدل على الصلاة على القبر، وهذا أيضاً يدل على الصلاة على القبر، وفي هذا الحديث: (أنه كان هناك امرأة سوداء أو رجل، وكان يقم المسجد)، أي: ينظفه ويكنسه، (ففقده النبي صلى الله عليه وسلم)، أي: لم يره يقوم بهذا العمل الذي كان يعرفه عنه، (فسأل عنه فقيل: إنه قد مات، فقال: ألا آذنتموني؟) أي: لماذا لم تخبروني؟ (ثم إنه قال: دلوني على قبره، فذهب وصلى عليه صلى الله عليه وسلم)، وهذا يدل على مشروعية الصلاة على القبر لمن لم يصل قبل ذلك، وأما من صلى فإنه لا يصلي، بل تكفيه صلاته الأولى، ويصلي على القبر إذا كان رطباً وحديث عهد بالدفن، وأما إذا تطاول الزمن فبعض أهل العلم يقول بالصلاة أيضاً، لكن الذي أراه أن يدعو له، وأما أن يصلي عليه فهذا يحتاج إلى دليل يدل عليه.(370/3)
تراجم رجال إسناد حديث صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم على قبر المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومسدد].
مسدد مر ذكره.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
فائدة: إذا روى مسدد أو سليمان بن حرب عن حماد غير منسوب فالمراد به ابن زيد، وإذا روى موسى بن إسماعيل عن حماد غير منسوب فالمراد به ابن سلمة.
وقد ذكر المزي في (تهذيب الكمال) ترجمة حماد بن سلمة وحماد بن زيد متجاورتين فبعد ذكره لترجمة حماد بن سلمة عقد فصلاً وذكر فيه أنه إذا جاء حماد مهملاً فإذا كان الراوي عنه فلان وفلان وفلان فيكون فلان بن فلان، وإذا كان الراوي عنه فلان وفلان فيكون فلان أي: أنه عند الإهمال فإن ذلك المهمل يعرف عن طريق التلاميذ الذين رووا عنه.
[عن ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي رافع].
هو نفيع الصائغ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.(370/4)
الصلاة على المسلم يموت في بلاد الشرك(370/5)
شرح حديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الصلاة على المسلم يموت في بلاد الشرك.
حدثنا القعنبي قرأت على مالك بن أنس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات)].
قوله: [باب في المسلم يموت في بلاد الشرك]، أي: أنه يصلي عليه المسلمون صلاة الغائب، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ النجاشي، فإنه -كما في حديث أبي هريرة هذا- نعى النجاشي إليهم في اليوم الذي مات فيه) أي: أخبرهم بوفاته في اليوم الذي مات فيه، فقد أطلعه الله عز وجل على ذلك، فأخبرهم بذلك في نفس اليوم، وهذا من علامات صدقه صلى الله عليه وسلم، فكونه يخبر عن شيء غائب وبعيد عنه فإنما يكون ذلك عن طريق الوحي، فهذا لا يحصل في الزمن الماضي إلا عن طريق الركبان، وذلك لا يكون إلا بعد مضي مدة طويلة، وأما في هذا الزمان فالخبر يصل في لحظة بواسطة الاتصالات التي هيأها الله للناس في هذا الزمان، ولكن في زمنه صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على ذلك، فنعاه) أي: أخبرهم بوفاته، والنعي منه ما هو جائز مثل هذا الإخبار، ومنه ما هو محرم، كما كان في الجاهلية من ركوب ركبان يطوفون ويقولون: مات فلان، ويعدون محاسنه.
(وخرج بهم إلى المصلى، وكبر عليه أربعاً) وهذا يدل على مشروعية الصلاة على الغائب، والحديث واضح الدلالة على ذلك، وليس هذا خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هو له ولأمته، ولهذا أمر الناس أن يصلوا معه.
وقال بعض أهل العلم من المالكية: إن هذا من خصائصه، فليس للأمة أن تصلي على أحد غائب، وأن الذي حصل من الصلاة على النجاشي إنما هو من خصائصه، وقالوا: إن الجنازة أحضرت له وشاهدها وعاينها، والله قادر على ذلك، والصحابة رضي الله عنهم لم يطلعوا عليها.
ولكن هذا من الأمور التي لا تعرف إلا عن طريق الدليل، والتي لا تثبت إلا بالنص.
ومن أهل العلم من قال: إنه لا يصلى عليه إلا إذا لم يصل عليه في تلك البلد، ولم يأت شيء يدل على أن النجاشي قد صلي عليه في بلده، فلذلك صلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال بعض أهل العلم: إنه يصلى صلاة الغائب على كل من له منزلة ومكانة، فـ النجاشي كانت له منزلة ومكانة، وليس هناك دليل يدل على أنه لم يصل عليه في بلده، وليس هناك ما ينفي ذلك، نعم، إذا جاء شيء يدل على أنه لم يصل عليه وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك فيمكن أن يصلى عليه لأنه لم يصل عليه في بلده، وأما إذا لم يأت ما يدل على ذلك فلعله صُلي عليه لعلو مكانته ومنزلته.
وهذا الحديث من الأدلة الكثيرة التي فيها أن التكبير على الجنازة يكون أربع تكبيرات.(370/6)
تراجم رجال إسناد حديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[قال: قرأت على مالك بن أنس].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة فقيه، من فقهاء المدينة السبعة من عصر التابعين أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
قد مر ذكره.(370/7)
شرح قول النجاشي (أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عباد بن موسى حدثنا إسماعيل -يعني ابن جعفر - عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ننطلق إلى أرض النجاشي فذكر حديثه، قال النجاشي: أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه)].
أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان ممن ذهب إلى الحبشة وهاجر إليها، وقدم من الهجرة بعدما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وذكر الحديث وقال: إن النجاشي قال: (أشهد أنه رسول الله، وأنه هو الذي بشر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه) أي: حتى يخدمه، فهذه كناية عن خدمته.
والحديث ضعفه الألباني، ولعل ذلك من أجل تدليس أبي إسحاق السبيعي، فقد روى هنا بالعنعنة، ولكن كون النجاشي كان مسلماً فهذا أمر معلوم، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما صلى عليه إلا لأنه مسلم، وهناك أحاديث كثيرة تدل على إسلامه.(370/8)
تراجم رجال إسناد قول النجاشي (أشهد أنه رسول الله وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم)
قوله: [حدثنا عباد بن موسى].
هو عباد بن موسى الختلي، وهو ثقة أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا إسماعيل يعني ابن جعفر].
إسماعيل بن جعفر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسرائيل].
هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق].
هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بردة].
هو ابن أبي موسى، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي موسى].
هو عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(370/9)
الأسئلة(370/10)
حكم نعي الميت في الصحف والمجلات
السؤال
ما حكم النعي في الصحف والمجلات؟
الجواب
ليس في ذلك بأس؛ حتى يكون الناس على علم بموت من كانوا يعلمون أنه حي فيدعون له.(370/11)
حكم الصلاة على الغائب
السؤال
ما حكم الصلاة على الغائب؟
الجواب
الذي يبدو أنه لا بأس بذلك، وذلك لمن كانت له منزلة ومكانة، وليس لكل أحد.(370/12)
حكم الامتناع عن الصلاة على الغائب الذي لا تنطبق عليه الشروط
السؤال
إذا أمر الإمام بالصلاة على الغائب، وهذا الغائب لا تنطبق عليه الشروط، فهل لأحد من الناس أن يمتنع؟
الجواب
ينبغي له أن يصلي ولا يتخلف.(370/13)
لا يلزم من الصلاة على الغائب أن يموت في بلد الشرك
السؤال
هل تقيّد الصلاة على الغائب بالموت في بلد الشرك؟
الجواب
لا، ليس بلازم.(370/14)
حكم الجمع بين الأدعية في صلاة الجنازة
السؤال
هل للمصلي على الجنازة أن يجمع بين الأدعية الواردة في ذلك أو يختار بعضها؟
الجواب
إذا كان المصلي إماماً فله أن يدعو بعدة أدعية ولكن لا يطيل، فإنه لو جمع الأدعية كلها فسيطيل، وأما المأموم إذا دعا بدعاء والإمام لا يزال يدعو فإنه يدعو بدعاء آخر، ولكن على الإمام ألا يطيل؛ لما جاء في حديث أنس الذي سبق وفيه: (أنه لم يطل ولم يستعجل) أي: أنه يتوسط.(370/15)
الدعاء بعد التكبيرة الرابعة في صلاة الجنازة
السؤال
هل هناك بعد التكبيرة الرابعة دعاء أم أنه يسلم مباشرة؟
الجواب
يدعو بعدها، فقد ورد ذلك.(370/16)
حكم أخذ الجنسية من دولة كافرة
السؤال
هذا سؤال ورد من الإخوة المسلمين المقيمين في كندا: هل يجوز أخذ الجنسية الكندية لغرض استعمالها في أشياء تفيد المرء في دينه كتسهيل الدخول إلى دول الخليج عموماً للحصول على العمل فيها، وكذا تسهيل التنقل بالجواز الكندي لغرض التجارة، علماً بأنه يمكن أخذها بعد مرور مدة من الزمن من الإقامة القانونية في بلدهم، وعلماً أيضاً أنه يمكن أخذها بدون القسم أو المعاهدة على احترام دستورهم، وبدون معاهدتهم على موالاتهم في أي حرب، أو ما أشبهها من المعاهدات؟
الجواب
كونه يدخل دول الخليج، أو يذهب لتجارة هذا لغرض ليس دينياً، وإنما هو دنيوي، أما لو كان يريد أن يدعو إلى الله تعالى هناك أو نحو ذلك، فهذا هو الغرض الديني، وعلى كل لا بأس بذلك إذا كان الإنسان مضطراً إلى ذلك، وكانت هناك سلامة في جميع ما يتعلق بأمور الدين، ولا يحصل منه تعاون، أو تساهل، أو تنازل، أو دخول في أمر لا يسوغ، أو إقدام على أمر لا يسوغ بسبب أخذ الجنسية.(370/17)
حكم قطع النسل إذا كان الأولاد يولدون مشوهين
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تقطع نسلها إذا كانت تظن أن كل من ستلده يخرج مشوهاً؟
الجواب
أقول: لا يعلم الغيب إلا الله، فقطع النسل لا يصلح.(370/18)
موقف الإمام في الصلاة على المرأة التي قد دفنت
السؤال
هل يكون موقف الإمام في الصلاة على المرأة على قبرها مثلما لو كانت حاضرة، فيقوم وسطها؟
الجواب
الذي يظهر أنه يقف عند رأس الرجل، وعند وسط المرأة.(370/19)
عدم تميز جنائز الرجال عن النساء من حيث لون النعش
السؤال
مر معنا حديث أنس: فقربوها وعليها نعش أخضر، فهل فيه دليل على تميز النساء عن الرجال باللون؟
الجواب
لا تميز بهذا الغطاء، والمقصود سترها سواء كان اللون أخضر أو غير ذلك.(370/20)
عموم قوله: (وأبدله زوجاً خيراً من زوجه وأهلاً خيراً من أهله) للرجال والنساء
السؤال
جاء في بعض أدعية الجنازة: (وأبدله زوجاً خيراً من زوجه، وأهلاً خيراً من أهله)، فهل يقال ذلك في الأنثى؟
الجواب
يؤتى بالضمير كما جاء، والمقصود بذلك الميت، كما جاء ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فما يأتي بضمير الأنثى، ويكون المقصود به الميت.(370/21)
عدم تميز أهل الفضل والعلم بالتكبير على جنائزهم أكثر من أربع تكبيرات
السؤال
ما صحة قول بعضهم: إن الميت إذا كان من أهل الفضل والعلم فإنه يكبر عليه أكثر من أربع تكبيرات؟
الجواب
ما نعلم شيئاً يدل على هذا، وكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متميزون ومع ذلك لا نعلم أنه كُبِّر عليهم أكثر من أربع لأجل تميزهم.(370/22)
ماذا يفعل المسبوق بتكبيرة أو تكبيرتين في صلاة الجنازة؟
السؤال
المسبوق بتكبيرة أو تكبيرتين في صلاة الجنازة ماذا يعمل؟
الجواب
جاء عنه عليه الصلاة والسلام: (ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، فإذا سلم الإمام عليه أن يأتي بالتكبيرات التي بقيت عليه، ويدعو بينها بدعاء قصير؛ لأن الجنازة ترفع فلا يبقى أمامه جنازة يدعو لها.(370/23)
حكم الجهر بالفاتحة أو ببعضها في صلاة الجنازة لتعليم الناس
السؤال
جاء في حديث ابن عباس: (أنه جهر بالفاتحة في صلاة الجنازة، وقال: إنما جهرت لتعلموا أنها سنة) كما عند النسائي، فهل يشرع فعل هذا لتعليم الناس ممن لا يقرأ الفاتحة في صلاة الجنازة؟
الجواب
إذا جهر الإنسان في بعض الأوقات مثلما كان الرسول يفعل في الصلاة السرية، فإنه كان يجهر بالآية حتى يخبرهم بالسورة، فإذا أظهر من الفاتحة بعض الكلمات فلا بأس بذلك.(370/24)
جمع الموتى في قبر واحد وتعليم القبر(370/25)
شرح حديث وضع النبي صلى الله عليه وسلم الحجر على قبر عثمان بن مظعون
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في جمع الموتى في قبر والقبر يعلم.
حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا سعيد بن سالم (ح) وحدثنا يحيى بن الفضل السجستاني حدثنا حاتم -يعني ابن إسماعيل - بمعناه، عن كثير بن زيد المدني عن المطلب أنه قال: (لما مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه أُخرج بجنازته فدفن، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً أن يأتيه بحجر، فلم يستطع حمله، فقام إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحسر عن ذراعيه) قال كثير: قال المطلب: قال الذي يخبرني ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كأني أنظر إلى بياض ذراعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين حسر عنهما، ثم حملها فوضعها عند رأسه، وقال: أتعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي)].
قوله: [باب في جمع الموتى في قبر واحد، والقبر يعلّم]، هذه الترجمة تشتمل على أمرين: الأول: أنه عند الحاجة يقبر الجمع من الموتى في قبر واحد، وقد مر بنا أحاديث عديدة وفيها: (أنه كان يسأل عن أكثرهم جمعاً للقرآن فيقدمه).
والثاني: أنه يوضع للقبر علامة حتى يعرف بها أن هذا قبر فلان، فكل هذين الأمرين جاءت بهما السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع الموتى في قبر واحد عند الحاجة إليه لا بأس به، ووضع علامة للقبر حتى يعرف جاءت به السنة أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أورد في ذلك حديث المطلب قال: (لما مات عثمان بن مظعون أخرج بجنازته ودفن، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً أن يأتيه بحجر فلم يستطع حمله، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام وحسر عن ذراعيه وحمله ووضعه عند رأسه وقال: أتعلّم قبر أخي، وأدفن عنده من مات من أهلي)، فهذا يدل على وضع علامة على القبر، وفيه بيان الحكمة من جعل هذا الحجر وهي قوله: (أدفن عنده من مات من أهلي) قيل: إنه أخوه من الرضاعة، ويدفن حوله من مات من أهله.
قال في (عون المعبود): (وأدفن إليه) أي: إلى قربه، وقال الطيبي: أي: أضم إليه في الدفن انتهى.
وبهذا المعنى يصح مطابقة الحديث للجزء الأول من الترجمة.
أقول: هذا غير واضح، أعني: كونه يدفن معه في القبر، وإنما يجعل حوله وقريباً منه، وأما الأحاديث التي فيها جمع الموتى في قبر واحد فذلك لما كثر القتلى في معركة أحد فكان يجمعهم في القبر الواحد، وأيضاً قلّت الثياب، فكان الثوب الواحد يقسم على اثنين أو على ثلاثة، ثم يجعلون في قبر واحد، ويسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثرهم جمعاً للقرآن فيقدمه إلى جهة القبلة في القبر.(370/26)
تراجم رجال إسناد حديث وضع النبي صلى الله عليه وسلم الحجر على قبر عثمان بن مظعون
قوله: [حدثنا عبد الوهاب بن نجدة].
عبد الوهاب بن نجدة ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا سعيد بن سالم].
سعيد بن سالم صدوق يهم، أخرج له أبو داود والنسائي.
[ح وحدثنا يحيى بن الفضل السجستاني].
(ح) للتحول إلى إسناد آخر، ويحيى بن الفضل السجستاني مقبول أخرجه له أبو داود.
[حدثنا حاتم يعني: ابن إسماعيل].
حاتم بن إسماعيل صدوق يهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[بمعناه عن كثير بن زيد المدني].
كثير بن زيد المدني صدوق يخطئ، أخرج له البخاري في (جزء القراءة) وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن المطلب].
هو المطلب بن عبد الله بن حنطب، وهو صدوق أخرج له البخاري في (جزء القراءة) وأصحاب السنن.
[عمن أخبره عن النبي صلى الله عليه وسلم].
أي: من أخبره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد ذلك، وهو هنا غير مسمى، ومعلوم أن جهالة الصحابة لا تؤثر؛ لأن المجهول فيهم في حكم المعلوم، فكلهم عدول بتعديل الله عز وجل وتعديل رسوله صلى الله عليه وسلم لهم.(370/27)
الأسئلة(370/28)
حكم كتابة اسم الميت على القبر
السؤال
هل يجوز أن يوضع فوق القبر شاهد ويكتب عليه اسم الميت: فلان بن فلان؟
الجواب
لا يجوز كتابة الأسماء على القبور؛ لأنها لم تأت، والذي جاء به الدليل هو وضع الحجر على القبر؛ حتى يكون على علم بذلك القبر، فإنه بدون هذه العلامة لا يستطيع أن يميز بين القبور.
والفائدة في ذلك أن يدفن حوله من مات من أهله، وأما قول الطيبي الذي ذكره صاحب (عون المعبود) إن معنى ذلك أن يضيف إليه من مات من أهله في ذلك القبر، فليس بواضح أن ينبش القبر، ثم يدفن معه شخص آخر.(370/29)
الحكمة من وضع علامة على القبر يعرف بها
السؤال
هل هناك فعل مخصوص يترتب على معرفة قبر من القبور بوضع إشارة عليه؟
الجواب
الفعل المخصوص هو أن يدفن إليه من مات من أهله، كما جاء في الحديث، وأيضاً إذا عرفه فإنه يأتي إليه ويدعو له.(370/30)
ترك المكان الذي يوجد فيه عظام أثناء الدفن(370/31)
شرح حديث: (كسر عظم الميت ككسره حياً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الحفار يجد العظم هل يتنكّب ذلك المكان؟ حدثنا القعنبي حدثنا عبد العزيز بن محمد عن سعد -يعني ابن سعيد - عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كسر عظم الميت ككسره حياً)].
قوله: [باب في الحفار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان]، أي: أنه يترك ذلك المكان، ويحفر في مكان آخر ليس فيه قبر، والذي يظهر أن في هذا تفصيلاً وهو: إذا كان الميت ما زال موجوداً أو أكثر رفاته فإنه يترك ذلك المكان ويذهب إلى مكان آخر، وأما إذا كان القبر ليس فيه إلا عظم فإنه لا يكسره، ولكن ينحيه جانباً، ويدفن فيه ميتاً آخر.
وقد أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كسر عظم الميت ككسره حياً)، أي: أنه محترم حياً وميتاً، فلا يجوز أن يستهان به في حال موته كما أنه لا يستهان به في حال حياته.
وهذا المنع من كسر العظم هو بالنسبة للمسلم، وأما عظم الكافر فلا بأس بكسره؛ لأن الكافر ليس له احترام، فمآله إلى النار.(370/32)
تراجم رجال إسناد حديث (كسر عظم الميت ككسره حياً)
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا عبد العزيز بن محمد].
هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي، وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعد يعني ابن سعيد].
عن سعد بن سعيد صدوق سيء الحفظ، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرة بنت عبد الرحمن].
هي عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، وهي ثقة أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(370/33)
اللحد(370/34)
شرح حديث: (اللحد لنا والشق لغيرنا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في اللحد.
حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا حكام بن سلم عن علي بن عبد الأعلى عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللحد لنا والشق لغيرنا)].
قوله: [باب في اللحد]، اللحد: هو الشق الذي يكون في جانب القبر من جهة القبلة، فيكون مائلاً عن سمت القبر بحيث يقف الذين على القبر على الجهة المفتوحة إلى الأعلى، ثم يدخلونه في الجهة الأمامية وهي اللحد، واللحد لغة: هو الميل، وسمي اللحد لحداً لأنه مائل عن سمت القبر.
وقد لحد للرسول صلى الله عليه وسلم، ونُصب عليه اللبن نصباً.
وأما الشق: فهو أن يُشق في وسط القبر شق يوضع فيه الميت، ثم يوضع اللبن وضعاً على أطرافه، والميت يكون في وسطه، فاللحد ينصب فيه اللبن نصباً، فيكون اللبن واقفاً مائلاً، وأما الشق فإن اللبن يوضع وضعاً على أطرافه من الجهتين.
واللحد أفضل من الشق، وكل منهما جائز بإجماع العلماء، فإذا كانت الأرض صلبة فإن اللحد يكون أفضل، وأما إذا كانت رخوة بحيث إذا حفروا ينهال ويسقط عليهم التراب فالشق هنا أفضل؛ لأن الشق لا يبقي شيئاً معلقاً، فهم يأخذون كل ما أمامهم، وأما اللحد فإنه يحفر إلى جهة القبلة فيبقى الجزء الذي فوق الميت معلقاً، وهذا يكون أفضل إذا كانت الأرض صلبة.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللحد لنا والشق لغيرنا)، أي: أنه لأهل الكتاب، وهو سائغ لنا، ولكن اللحد أفضل من الشق.(370/35)
تراجم رجال إسناد حديث (اللحد لنا والشق لغيرنا)
قوله: [حدثنا إسحاق بن إسماعيل].
هو إسحاق بن إسماعيل الطالقاني، وهو ثقة أخرج له أبو داود.
[حدثنا حكام بن سلم].
حكام بن سلم ثقة له غرائب، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن علي بن عبد الأعلى].
علي بن عبد الأعلى صدوق ربما وهم أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه صدوق يهم أخرج له أصحاب السنن.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(370/36)
عدد الذين يدخلون القبر(370/37)
شرح أثر دخول عدد من الصحابة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كم يدخل القبر؟ حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن عامر قال: (غسّل رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم علي والفضل وأسامة بن زيد رضي الله عنهم، وهم أدخلوه قبره)، قال: وحدثني مرحب أو أبو مرحب: (أنهم أدخلوا معهم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فلما فرغ علي قال: إنما يلي الرجل أهله)].
قوله: [باب كم يدخل القبر؟]، أي: من الرجال الذين يتولون وضعه في لحده، فيدخل من يحتاج إليه ومن يكفي لذلك، فقد يكتفى باثنين وقد يحتاج إلى أكثر من اثنين وذلك إذا كان الميت ثقيلاً فيتساعدون على حمله، وعلى وضعه في لحده، فهذا يتبع الحاجة.
وقد أورد أبو داود حديث مرحب أو أبي مرحب -وهو من الصحابة- أن علياً والفضل وأسامة بن زيد هم الذين غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم هم الذين نزلوا في قبره، وكان معهم عبد الرحمن بن عوف، فكانوا أربعة، فقال علي رضي الله عنه: إنما يلي الرجل أهله، أي: أنهم هم أولى الناس بإدخاله في القبر، فالأولوية لهؤلاء ويمكن أن يكون غيرهم، فإذا أرادوا ذلك فهم المقدمون، وإذا رغبوا من غيرهم أن يتولى ذلك لكونهم يجدون ضعفاً، أو عدم قدرة، أو عدم نشاط في ذلك فيجوز ذلك.(370/38)
تراجم رجال إسناد أثر دخول عدد من الصحابة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسماعيل بن أبي خالد].
إسماعيل بن أبي خالد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عامر].
هو عامر بن شراحيل الشعبي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحدثني مرحب أو أبو مرحب].
مختلف في صحبته، أخرج له أبو داود.(370/39)
شرح أثر عدد الذين دخلوا قبر النبي من طريق ثانية وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن الصباح أخبرنا سفيان عن ابن أبي خالد عن الشعبي عن أبي مرحب أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه نزل في قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كأني أنظر إليهم أربعة)].
أورد أبو داود حديث مرحب وهو ابن أبي مرحب وأنه رأى عبد الرحمن بن عوف نزل وقال: (كأني أنظر إليهم أربعة)، يعني: هم ثلاثة وعبد الرحمن معهم، ففي هذا مثل الحديث السابق أنهم أربعة.
قوله: [حدثنا محمد بن الصباح].
محمد بن الصباح صدوق أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[أخبرنا سفيان].
هو ابن عيينة، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي خالد عن الشعبي عن أبي مرحب].
ابن أبي خالد والشعبي وأبو مرحب مر ذكرهم.(370/40)
تراجم رجال الطريق الأخرى لأثر عدد الذين دخلوا قبر النبي(370/41)
إدخال الميت من قبل رجلي القبر(370/42)
شرح حديث: (أوصى الحارث أن يصلي عليه عبد الله بن يزيد فصلى عليه ثم أدخل القبر من قبل رجلي القبر وقال: هذا من السنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الميت يُدخل من قبل رجليه.
حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: أوصى الحارث أن يصلي عليه عبد الله بن يزيد، فصلى عليه، ثم أدخله القبر من قِبَل رجلَي القبر، وقال: هذا من السنة].
قوله: [باب في الميت يدخل من قِبَل رجلي القبر]، أي: من الجهة التي تكون فيه رجلاه، فيؤتى برأسه ثم يستمر حتى يكون مسامتاً للقبر، فيؤتى برأسه من جهة رجليه لا أن يكون معترضاً من الجهة القبلية، ولا من الجهة التي يكون فيها رأسه.
وقد أورد حديث عبد الله بن يزيد رضي الله عنه أن الحارث أوصى بأن يصلي عليه عبد الله بن يزيد، وأنه أدخله من قِبَل رجلَيه، وقال: (هذا من السنة)، وقوله: (هذا من السنة) له حكم الرفع.(370/43)
تراجم رجال إسناد حديث: (أوصى الحارث أن يصلي عليه عبد الله بن يزيد فصلى عليه ثم أدخل القبر من قبل رجلي القبر وقال: هذا من السنة)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن معاذ].
عبيد الله بن معاذ، ثقة أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
أبوه هو معاذ بن معاذ العنبري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
مر ذكره.
[عن أبي إسحاق].
هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن يزيد].
عبد الله بن يزيد صحابي صغير، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(370/44)
الجلوس عند القبر(370/45)
شرح حديث البراء بن عازب في جلوس النبي صلى الله عليه وسلم عند قبر رجل من الأنصار
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الجلوس عند القبر.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولم يلحد بعد، فجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستقبل القبلة، وجلسنا معه)].
قوله: [باب الجلوس عند القبر]، أي: قبل أن يدفن، فعندما يُذهب بالجنازة فللإنسان أن يجلس على الأرض، وقد مر بنا أن من ذهب معها فإنه لا يجلس حتى توضع على الأرض، وجاء في بعض الروايات: (حتى توضع في اللحد)، لكن الرواية الصحيحة هي رواية: (حتى توضع على الأرض)، فمن أراد أن يجلس بعد ذلك فليجلس، ومن أراد أن يقف فله أن يقف، ولكن الجلوس لا يكون بعد أن توضع على الأرض.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث البراء بن عازب، وهو حديث طويل مشهور، وفيه ذكر ما يجري في القبر، وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى القبر ولم يلحد بعد، أي: أنهم لم يزالو يحفرون لحده، فاحتاجوا إلى الجلوس، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة وجلسوا حوله، ثم ذكّرهم وأخبرهم بما يجري للإنسان في قبره، وهو حديث طويل، وقد أورد أبو داود رحمه الله منه ما يتعلق بالترجمة، وهي: الجلوس عند القبر، فدل هذا على جواز الجلوس عند القبر، سواء كان القبر لم يلحد بعد، أو كان قد ألحد وإنما أراد الإنسان أن يجلس حتى يُنتهى من دفنه، فلا بأس بذلك ما دام أنه قد وضع على الأرض كما سبق في بعض الأحاديث السابقة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جلس مستقبل القبلة، ومعلوم أنهم جلسوا غير مستقبلين القبلة؛ لأنهم كانوا محيطين به عليه الصلاة والسلام، فوعظهم وذكرهم في تلك المناسبة منتظرين انتهاء الدفن.(370/46)
تراجم رجال إسناد حديث البراء بن عازب في جلوس النبي صلى الله عليه وسلم عند قبر رجل من الأنصار
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المنهال بن عمرو].
المنهال بن عمرو صدوق ربما وهم، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن زاذان].
زاذان صدوق، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن البراء بن عازب].
البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(370/47)
الدعاء للميت إذا وضع في قبره(370/48)
شرح حديث: (كان إذا وضع الميت في القبر قال: باسم الله وعلى سنة رسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الدعاء للميت إذا وضع في قبره.
حدثنا محمد بن كثير (ح) وحدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا همام عن قتادة عن أبي الصديق عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا وضع الميت في القبر قال: باسم الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) هذا لفظ مسلم].
قوله: [باب في الدعاء للميت إذا وضع في القبر]، أي: أنه عندما يوضع في لحده فإن من يضعه يقول: (باسم الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع الميت في قبره قال: باسم الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وسنته هي منهجه وطريقته صلى الله عليه وسلم.
ولعل قائلاً أن يقول: إن الترجمة فيها الدعاء للميت، وليس في هذا الحديث دعاء، فما وجه المناسبة؟ فأقول: إن الدعاء -كما هو معلوم- على قسمين: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، والذي في هذا الحديث هو دعاء العبادة.
وأما دعاء المسألة فهو الطلب كقوله: اللهم أعطني كذا، اللهم حقق لي كذا، اللهم اغفر لي، فهذا دعاء مسألة، وهو أيضاً عبادة؛ لأن الإنسان يعبد الله بدعائه، فالدعاء هو العبادة، والذكر أيضاً يقال له: دعاء، ولكنه دعاء عبادة وليس دعاء مسألة.(370/49)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان إذا وضع الميت في القبر قال: باسم الله وعلى سنة رسول الله)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو الفراهيدي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا همام].
هو همام بن يحيى العوذي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو ابن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الصديق].
هو أبو الصديق الناجي واسمه: بكر بن عمرو، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(370/50)
إذا مات للرجل قرابة مشرك(370/51)
شرح حديث علي: (اذهب فوارِ أباك ثم لا تحدثن شيئاً حتى تأتيني)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الرجل يموت له قرابة مشرك.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني أبو إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي رضي الله عنه أنه قال: (قلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: اذهب فوارِ أباك، ثم لا تحدثن شيئاً حتى تأتيني، فذهبت فواريته وجئته، فأمرني فاغتسلت، ودعا لي)].
قوله: [باب في الرجل يموت له قرابة مشرك]، أي: ماذا يفعل؟ معلوم أنه يواريه، ولا بد من ذلك، ولا يشيَّع، لكنه لابد أن يوارى ويدفن.
وقد أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه: أنه لما مات أبوه أبو طالب على الشرك والكفر ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: (إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: اذهب فواره) أي: ادفنه في التراب، (ولا تحدثن شيئاً حتى تأتيني، فذهب وفعل ما أُمر به، ثم إنه رجع فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل ودعا له)، فهذا يدل على أن القريب المشرك إذا مات فإنه يجب على أقربائه المسلمين أن يواروه، ولكن لا يشرع تشييعه، ولا الذهاب معه، وإنما يذهب به من يحتاج إليه في مواراته ودفنه، وهذا الحديث يدل على أن أبا طالب مات كافراً، وقد جاءت عدة أحاديث تبيِّن أنه قد مات كافراً، ومن ذلك حديث ذهابه صلى الله عليه وسلم إليه في مرض موته، فقال له: (يا عم! قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله، وكان عنده اثنان من المشركين في ذلك الوقت، فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه، وأعادا عليه، وكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، ولم يقل لا إله إلا الله)، فمات كافراً، ولهذا قال علي: (إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: اذهب فواره)، وفيه: أن الرسول أمره بالاغتسال بعد مواراته، ودعا له.(370/52)
تراجم رجال إسناد حديث علي: (اذهب فوارِ أباك ثم لا تحدثن شيئاً حتى تأتيني)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبو إسحاق عن ناجية بن كعب].
أبو إسحاق هو السبيعي وقد مر ذكره، وناجية بن كعب، وهو ثقة أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن علي رضي الله عنه].
علي رضي الله عنه أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، رضي الله عنه وأرضاه.(370/53)
تعميق القبر(370/54)
شرح حديث: (احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في تعميق القبر.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي أن سليمان بن المغيرة حدثهم عن حميد يعني: ابن هلال عن هشام بن عامر رضي الله عنه قال: (جاءت الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد فقالوا: أصابنا قرح وجهد فكيف تأمرنا؟ قال: احفروا، وأوسعوا، واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر، قيل: فأيهم يقدَّم؟ قال: أكثرهم قرآناً، قال: أصيب أبي يومئذ عامر بين اثنين، أو قال: واحد)].
قوله: [باب في تعميق القبر]، التعميق: هو النزول في الأرض، والعلة في ذلك أنه إذا كان قريباً فربما نبشته السباع والكلاب فتأكله، وأما إذا كان عميقاً فإنها لا تصل إليه، فيكون في ذلك حفظه، إذاً فتعميق القبر جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون ذلك بقدر كافٍ يحتاج إليه، فلا يعمق تعميقاً طويلاً جداً بحيث يكون بعيداً، ولا يكون قريباً جداً بحيث تصل إليه السباع والكلاب فتنبشه وتأكله.
وقد أورد أبو داود حديث هشام بن عامر قال: (جاءت الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد فقالوا: أصابنا قرح وجهد) أي: بعد ما حصل الموت الشديد الكثير، فحصل جهد وشدة ومصيبة، فقال: (احفروا وأوسعوا) أي: أن القبر يوسع حتى يكفي لعدد من الموتى، فإن حفر قبر لكل واحد فيه مشقة عليهم؛ لكثرة القتلى، فأمرهم أن يحفروا ويوسعوا، ولعل المقصود من التعميق هو ألا يصير الميت عرضة للسباع والدواب، (واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر)، وهذا يدل على الترجمة السابقة وهي: جمع الموتى في قبر، والقبر يعلَّم، فهذا الحديث من الأدلة الدالة على تلك الترجمة.
(قيل: فأيهم يقدم؟) أي: إلى جهة القبلة، قال: (أكثرهم قرآناً)، وهذا يدل على فضل القرآن وحفظه والاشتغال والعناية به، ومعلوم أن طريقة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن وتعلمه أنهم يجمعون بين العلم والعمل به، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كنا إذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن) أي: أنهم يتعلمون العلم والعمل جميعاً، فيكونون بذلك قد جمعوا بين العلم والفقه وبين معرفة أحكامه وما اشتمل عليه، فيجمعون العلم والعمل.
وإذا وضع جماعة في قبر واحد فالذي يظهر أنه لا يفصل بينهم؛ لعدم ورود دليل في ذلك، بل يضم بعضهم إلى بعض.
قوله: (أصيب أبي بين اثنين أو واحد)، أي: أنه دُفن ومعه اثنان أو واحد، فالمهم أنه ليس وحده في قبره، بل جُعل معه غيره، فوقع الشك بين أنه كان معه اثنان أو كان معه واحد.(370/55)
تراجم رجال إسناد حديث: (احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي أن سليمان بن المغيرة حدثهم].
سليمان بن المغيرة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد يعني ابن هلال].
حميد بن هلال ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عامر].
هشام بن عامر صحابي أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأصحاب السنن.
وهذا الإسناد من الأسانيد الرباعية عند أبي داود.
ولا نعلم في التعميق حداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت بعض الآثار في ذلك، وقد ذكرها صاحب عون المعبود) فقال: وقد اختلف في حد الإعماق، فقال الشافعي: قامة، وقال عمر بن عبد العزيز: إلى السرة، وقال مالك: لا حد لإعماقه، وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه قال: (أعمقوا القطر إلى قدر قامة وبسطة)، قاله في النيل.
فالذي يظهر -والله أعلم- أنه يعمق بمقدار ما يؤمن فيه من وصول السباع والكلاب كما ذكرنا.(370/56)
شرح حديث (احفروا وأوسعوا) من طريق ثانية وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو صالح يعني الأنطاكي قال: أخبرنا أبو إسحاق يعني الفزاري عن الثوري عن أيوب عن حميد بن هلال بإسناده ومعناه، زاد فيه: (وأعمقوا)].
قوله: (وأعمقوا) هو محل الشاهد من إيراد الترجمة، وفي الأول ذكر السعة وذلك حتى يتسع القبر لعدة موتى، وهنا قال: (أعمقوا)، أي: أنه يوسع ويعمق، فيوسع من أجل العدد، وأما إذا كان الميت واحداً فلا يحتاج إلى أن يوسع إلا بمقدار الحاجة.
قوله: [حدثنا أبو صالح يعني: الأنطاكي].
هو أبو صالح محبوب بن موسى، وهو صدوق أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبي إسحاق الفزاري].
هو إبراهيم بن محمد بن الحارث، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الثوري].
الثوري مر ذكره.
[عن أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد بن هلال بإسناده ومعناه].
مر ذكره.(370/57)
شرح حديث (احفروا وأوسعوا) من طريق ثالثة وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جرير حدثنا حميد يعني ابن هلال عن سعد بن هشام بن عامر بهذا الحديث].
ثم أورده من طريق أخرى.
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جرير].
هو جرير بن حازم، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد عن سعد بن هشام بن عامر].
حميد مر ذكره، وسعد بن هشام بن عامر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[بهذا الحديث].
أي: أنه يرويه عن أبيه؛ لأن صاحب الحديث واحد وهو هشام بن عامر.(370/58)
الأسئلة(370/59)
حكم تكفين الكافر
السؤال
ما حكم تكفين الكافر؟
الجواب
إذا وجد نص يدل على أن الكافر يكفن فلا بأس، وإلا فالذي يظهر أنه لا يكفن، فالميت المسلم يكفن في ثياب بيض، ويغسل وهذا من أجل تطهيره وإكرامه، وأما الكافر فإن وجد نص على أنه يكفن بغير ثيابه وإلا فإنه يكفن في ثيابه.(370/60)
حكم أخذ بعض أعضاء الميت للحاجة
السؤال
ما حكم أخذ بعض أعضاء الميت بعد موته للحاجة؟
الجواب
أما المسلم فلا يجوز ذلك في حقه، وأما الكافر فلا بأس بذلك.(370/61)
حكم تشريح الجثث
السؤال
جاءت أسئلة في التشريح لتعلم الطلاب في كلية الطب حيث يشرحون الجثث، فما الحكم؟
الجواب
أما الكافر فلا بأس أن يشرح، وأما المسلم فلا يشرح.(370/62)
حكم نقل الأعضاء من إنسان إلى آخر
السؤال
ما حكم نقل الأعضاء من إنسان إلى آخر، وهل يدل حديث: (كسر عظم الميت ككسره حياً) على المنع من ذلك؟
الجواب
لا يجوز ذلك بالنسبة للمسلم، وأما بالنسبة للكافر فليس هناك مانع أن يستفاد من أعضائه إذا كانت هناك حاجة إليها، مثل أن يستفاد من العيون وغيرها.(370/63)
تفتت عظم الميت عند أخذه
السؤال
إذا قمنا في بعض الأوقات بتنحية عظم الميت فإنه يتفتت، فما حكم ذلك؟
الجواب
إذا كان يتفتت من قبل نفسه وليس بسبب الإنسان فلا يؤثر.(370/64)
أولى الناس بدفن المرأة هم محارمها
السؤال
هل يقوم بدفن المرأة محارمها فقط أم أنه يجوز أن يقوم بذلك غيرهم؟
الجواب
محارمها هم الأولى والأحق بذلك، وأما غيرهم فإذا كان هناك ضرورة إلى ذلك فلا بأس، مثل ألا يوجد أحد من محارمها.(370/65)
حكم الجمع بين الرجل والمرأة في القبر
السؤال
هل يجوز الجمع بين الرجل مع المرأة في القبر، وهل تشترط المحرمية في ذلك؟
الجواب
يجوز ذلك عند الحاجة، ولا تشترط المحرمية.(370/66)
حكم تشريح الجثة لأمر جنائي
السؤال
في بعض القضايا الجنائية يحتاج رجال الأمن إلى عرض الجثة على الأطباء، فلابد من تشريح الجثة لمعرفة سبب الوفاة، فما الحكم؟
الجواب
المسلم لا يجوز أن يمثّل به، ولا يجوز أن يُعمل به شيء، وأما الكافر فلا بأس بذلك.(370/67)
حكم صلاة الجنازة على من امتنع منها
السؤال
سمعت من شيخ مسجدنا: أنه إذا أقيمت صلاة الجنازة ولم يصل عليها بعض الناس فلا يصلى عليه إذا توفي، والجزاء من جنس العمل، فهل هذا الكلام صحيح؟
الجواب
هذا ليس بصحيح، فإن الصلاة على الجنازة فرض كفاية، فإذا وجد أحد لم يصل عليها فقد فوت على نفسه خيراً كثيراً، وعلى الإنسان أن يعامل الناس بمثل ما يحب أن يعاملوه به، فلو كان هو الميت لما أحب أن يتخلف عنه أحد، فلا ينبغي له أن يتخلف، وأما أن تترك الصلاة عليه بسبب فعله هذا فغير صحيح.
فكونه يعامل الناس بمعاملة ولا يحب أن يعامل هو بمثل هذه المعاملة فهذا شيء مذموم، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)، حديث صحيح أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو جزء من حديث طويل، فقوله: (وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه) أي: أن يعامل الناس بمثل ما يحب أن يعاملوه به، فإذا كان هو نفسه يحب أنه إذا قدِّم للصلاة عليه ألا يتخلف أحد عن الصلاة عليه فعليه أن يقوم هو بفعل هذا الشيء الذي يحب أن يؤتى إليه.
فالخلاصة: أنه يصلى على كل مسلم، ولا يمتنع من الصلاة عليه إلا على من عرف أنه كافر، فالكافر لا يصلى عليه.
وأما المبتدع فما دام أن بدعته لا توصله إلى حد الكفر فيصلى عليه.(370/68)
حكم تعزية المسلم إذا مات قريبه الكافر
السؤال
من مات قريبه الكافر هل يعزى لموته؟
الجواب
لا يدعى للكافر الميت، ولكن يمكن أن يدعى للحي المسلم بأن يقال له: أعظم الله أجرك، وغير ذلك مما يعود عليه بالنفع.(370/69)
فضل استقبال القبلة في الجلوس
السؤال
هل جلوس النبي صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة يدل على فضل ذلك؟
الجواب
نعم يدل على هذا، فكون الإنسان يختار أن يجلس مستقبل القبلة فهذا أفضل كما يدل عليه هذا الحديث.(370/70)
حكم الموعظة عند القبر
السؤال
اعتاد الناس في بلدنا بعدما يدفنون الميت أن يقوم أحدهم فيعظ الناس ويذكرهم، فهل هذا من السنة؟
الجواب
لا نعلم شيئاً يدل عليه إلا قصة البراء بن عازب وقصة البراء بن عازب كان الجلوس فيها لحاجة، وليس الأمر أن يجيء الناس للجنازة، ثم يتجمعون ويتحلقون ويوعظون ويذكرون، وإنما جلس النبي وأصحابه لأن القبر لم يكمل، فهم إذن بحاجة إلى الجلوس حتى يكتمل الدفن، فلما جلسوا وعظهم الرسول صلى الله عليه وسلم وذكرهم، فلا يتخذ مثل هذا سنة، نعم لو وُجد شيء يقتضي التأخير وقام أحد يذكر الناس فلا بأس بذلك.(370/71)
حكم الصلاة على تارك الصلاة
السؤال
جدي يبلغ من العمر حوالي تسعين عاماً، وأنا متأكد أنه لم يصل قط ركعة واحدة في حياته، فهل أحضر جنازته إذا مات وأصلي عليه، علماً بأني إذا امتنعت سيغضب علي والدي، ولا يوجد في عائلتي من يعرف أحكام الدفن؟
الجواب
لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرثه أقرباؤه، وإنما يكون ماله فيئاً في بيت المال، فيوارى كما يوارى سائر الكفار.(370/72)
الدفن بجانب قبور الصالحين
السؤال
هل في حديث عثمان بن مظعون دليل على أن الدفن بجانب الصالحين له فائدة؟
الجواب
ليس فيه دليل على هذا، وإنما قال: (أدفن إليه من مات من أهلي)، وهذا فيه دفن الأقارب بعضهم حول بعض.(370/73)
علاقة سهولة القبر بصلاح الميت
السؤال
في بلدنا يقولون: إذا كان حفر القبر فيه مشقة فصاحب القبر شقي، وإذا كان حفر القبر سهلاً فهو سعيد؟
الجواب
هذا كلام ساقط، فالسعادة ليست بمشقة الحفر ولا بسهولته، وإنما تكون السعادة والشقاوة بسبب العمل، فالعمل هو عنوان السعادة والشقاوة.(370/74)
من جامع في ليلته فلا ينزل في القبر
السؤال
قول النبي صلى الله عليه وسلم عند دفن إحدى بناته: (أيكم لم يقارف الليلة؟) هل يؤخذ منه حكم خاص؟
الجواب
نعم، فإنه يدل على أن الذي حصل منه مجامعة فإنه لا ينزل في القبر.(370/75)
صفة الدعاء للميت عند القبر
السؤال
ما هي صفة الدعاء للميت عند القبر؛ هل هو دعاء جماعي بالتأمين؟
الجواب
لا يكون جماعياً، بل كل واحد يدعو بنفسه، ويقول: اللهم اغفر له، وارحمه، وثبته عند السؤال، ولا يدعو واحد ويؤمن الباقون، وإنما كل واحد يدعو بنفسه.(370/76)
سبب دفن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مع النبي في البنيان
السؤال
إذا كان دفن النبي صلى الله عليه وسلم في بيته من خصائصه فكيف بدفن أبي بكر وعمر معه؟
الجواب
دفن أبو بكر وعمر مع النبي صلى الله عليه وسلم تبعاً له؛ لأن دفن النبي صلى الله عليه وسلم قد وجد في البنيان، فلم يدفنوا فيه استقلالاً، وإنما دفنوا تبعاً، فالدفن من خصائصه، وقد أضيف إليه أبو بكر وعمر، ولا يكون ذلك لغيرهم.(370/77)
كيفية التعامل مع ثعبان البيت
السؤال
رجل ساكن في بيت شعبي ينام ثم يستيقظ وإذا بثعبان ينام بجواره دائماً، فانتقل من هذا البيت إلى بيت جديد فنام فانتقل الثعبان ونام معه، فماذا يعمل؟
الجواب
إذا كان الواقع كما يقول فعليه أن يحذره وينذره، فإذا لم يذهب عنه بعد ثلاث فإنه يقتله كما جاء بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(370/78)
تسوية القبر(370/79)
شرح حديث: (لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته ولا تمثالاً إلا طمسته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في تسوية القبر.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثنا حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل عن أبي هياج الأسدي أنه قال: (بعثني علي رضي الله عنه، قال لي: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته)].
قوله: [باب في تسوية القبر]، المقصود من ذلك ألا يكون عليه بناء، فلا يرفع رفعاً كبيراً بحيث يزاد عليه من غير ترابه، وإنما يكون في مقدار ترابه دون أن يزاد عليه شيء من غيره، وإن زيد عليه شيء خفيف مثل الحصى أو غير ذلك فتوضع عليه حتى لا تأخذه الرياح فيضيع القبر، فيكون وضع هذا الحصى سبباً في بقائه، فذلك سائغ ولا بأس به، وأما أن يزاد عليه شيء من غير القبر بحيث يرفع، أو يبنى عليه فإن ذلك لا يجوز ولا يسوغ.
ثم إن من العلماء من قال: إن القبر يكون مسطحاً، ومنهم من قال: إنه يكون مسنماً، أي: أنه يرتفع شيئاً فشيئاً، بحيث يكون أعلاه ضيقاً وأصله واسعاً، فيتدرج شيئاً فشيئاً.
والأولى هو التسنيم؛ لأنه جاء ما يدل عليه في بعض الآثار التي وصفت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان مسنماً، وأيضاً التسطيح عرضة لأن تمكث فوقه الحيوانات، فيكون ذلك سبباً لتهدمه، بخلاف ما إذا كان مسنماً، فإنه يكون مرتفعاً.
وقد أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه أنه قال لـ أبي الهياج الأسدي: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته) فقوله: (قبراً مشرفاً إلا سويته) هو المقصود من الترجمة، وهو هدم البناء الذي يكون على القبر؛ لأن رفعه رفعاً زائداً عن ترابه لا يجوز، وإنما يكون في حدود التراب الذي يخرج منه ولا يزاد على ذلك.
قوله: (ولا تمثالاً إلا طمسته)، المراد بذلك الصور، فالمجسمة منها تكسر، والصور التي هي غير مجسمة تطمس، إلا إذا كانت في شيء يمتهن كالفراش ونحوه فإنه لا بأس بذلك، لكن ليس للإنسان أن يشتريها، ولا أن يشتري شيئاً فيه صور، ولكنه إذا ابتلي به ووصل إليه من طريق لم يسع فيها فإنه يستعمله على وجه الامتهان.(370/80)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته ولا تمثالاً إلا طمسته)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حبيب بن أبي ثابت].
حبيب بن أبي ثابت ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي وائل].
أبو وائل هو شقيق بن سلمة، وهو ثقة مخضرم أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الهياج الأسدي].
هو حيان بن حصين، وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن علي].
هو أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(370/81)
شرح حديث: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها -أي: القبور-)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا ابن وهب حدثني عمرو بن الحارث: أن أبا علي الهمداني حدثه قال: (كنا مع فضالة بن عبيد رضي الله عنه برودِسَ من أرض الروم، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بتسويتها).
قال أبو داود: رودس جزيرة في البحر].
أورد أبو داود عن أبي علي الهمداني: أنهم كانوا مع فضالة بن عبيد في جزيرة، وأنه مات صاحب لهم فأمر فضالة بتسوية قبره، وقال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بتسوية القبور).
وقد عرفنا التسوية، وهي ألا يرفع حتى يصير مشرفاً، بل يكون مستوياً، والظاهر أن المقصود به مثلما مر في حديث علي: (ولا قبراً مشرفاً إلا سويته).(370/82)
تراجم رجال إسناد حديث (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها -أي القبور-)
قوله: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح].
أحمد بن عمرو بن السرح ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عمرو بن الحارث].
عمرو بن الحارث ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن أبا علي الهمداني حدثه].
أبو علي الهمداني اسمه ثمامة بن شفي، وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن فضالة بن عبيد].
فضالة بن عبيد رضي الله عنه، وحديثه أخرجه البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأصحاب السنن.(370/83)
شرح أثر القاسم في وصفه لقبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبي فديك أخبرني عمرو بن عثمان بن هانئ عن القاسم قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: يا أمه! اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء.
قال أبو علي: يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقدَّم، وأبو بكر رضي الله عنه عند رأسه، وعمر رضي الله عنه عند رجليه، رأسه عند رجلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم].
ثم أورد أبو داود عن القاسم قال: دخلت على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها فقلت: (اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة) أي: أنها ليست عالية ولاصقة بالأرض، وإنما تكون مرتفعة عن الأرض قليلاً، (مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء) أي: أن عليها تراباً أحمر، (وقال: إنه يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم مقدَّم، وأن أبا بكر عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر عند رجليه، رأسه عند رجلي رسول الله صلى الله عليه وسلم).
أي: كأن أبا بكر -بناء على هذا الكلام- محاذياً للرسول صلى الله عليه وسلم، أي: أن رأسه عند رأسه، فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم مقدماً، وأبو بكر وراءه، ورأسه عند رأسه، وعمر رأسه عند رجلي الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه هي صفة القبور، وهذا الذي ذكره أبو علي راوي السنن عن أبي داود قال: يقال: كذا، قد جاء في (مستدرك الحاكم) من كلام القاسم بن محمد تابع للكلام المتقدم في (مستدرك الحاكم)، وجاء فيه: أن قبر الرسول كذا، ورأس أبي بكر -أظنه قال-: عند عند كتفي الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: أنه متأخر عنه وليس رأسه عند رأسه، ورأس عمر عند رجلي النبي عليه الصلاة والسلام، فهو إذن قريب من هذا الوصف، إلا أنه هناك قال: رأسه عند رأسه، وهنا قال: رأسه عند كتفيه، رأسه ليس مساوٍ لرأس النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو نازل عنه، بحيث يكون رأسه مساوٍ لكتفيه، وعمر عند رجلي النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا الأثر فيه إسناده رجل مستور، فهو إذن غير ثابت.(370/84)
تراجم رجال إسناد أثر القاسم في وصفه لقبر النبي وأبي بكر وعمر
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن أبي فديك].
هو محمد بن إسماعيل بن مسلم وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عمرو بن عثمان بن هانئ].
عمرو بن عثمان بن هانئ مستور، أي: مجهول الحال، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن القاسم].
هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
وليس لـ عائشة هنا رواية، وإنما يصف القاسم ما شاهده.
وهناك وصف آخر ذكره -فيما أظن- في (عون المعبود) وهو أن كل واحد منهم أنزل من الثاني، فـ أبو بكر عند كتف الرسول، وعمر عند كتف أبي بكر، فيكونون متسلسلين، فالأول هو الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر، ثم عمر، وكل واحد منهم عند كتف الذي قبله، فأظن أن هذا ذكره في (عون المعبود)، فهذه صفة ثالثة.
ويذكر بعض الإخوة أنه جاء عند أبي بكر الآجري في كتاب: (صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلم) عن هيثم بن بسطام المديني أنه قال: رأيت قبره صلى الله عليه وسلم في إمارة عمر بن عبد العزيز، فرأيته مرتفعاً نحواً من أربع أصابع، ورأيت قبر أبي بكر وراء قبره، ورأيت قبر عمر وراء قبر أبي بكر أسفل منه.(370/85)
الاستغفار عند القبر للميت في وقت الانصراف(370/86)
شرح حديث (استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: الاستغفار عند القبر للميت في وقت الانصراف.
حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا هشام عن عبد الله بن بحير عن هانئ مولى عثمان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم وسلوا له بالتثبيت فإنه الآن يسأل).
قال أبو داود: بحير بن ريسان].
[باب الاستغفار عند القبر للميت في وقت الانصراف]، فبعدما يدفن فإنه يوقف عند قبره ويدعا له بالمغفرة، وأن يثبته الله عند السؤال، فيقال: اللهم اغفر له وثبته، وهذا يدل على مشروعية الدعاء في هذا الوقت، وفيه دليل على أنه حي في قبره، وأن هناك حياة برزخية، ويدل أيضاً على أن هناك سؤالاً في القبر، فالميت يسأل بعد دفنه، فقد قال: (فإنه الآن يسأل)؛ ولهذا يطلب له التثبيت عند
السؤال
بأن يثبته الله تعالى بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، كأن يقال: اللهم اغفر له، اللهم ثبته بالقول الثابت.
أورد أبو داود حديث عثمان رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل)، فكان يدعو ويرشد إلى الدعاء، والمقصود من ذلك: أن كل واحد يدعو بنفسه، لا أن يكون هناك واحد يدعو ويؤمن الباقون، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: إني سأدعو فأمنوا، وإنما قال: (ادعوا لأخيكم) ومعنى هذا: أن كل واحد يدعو من قبل نفسه.
والوقوف على القبر يكون في جهة منه، ولا يلزم أن يقف عند رأسه إذا كان قبر رجل، ووسطه إذا كان قبر امرأة، وإذا كان الناس كثيرين فله أن يدعو ولو لم يكن مباشراً للقبر.
وفيه تنبيه للناس بأن يدعوا للميت، فربما يكون بعضهم غافلاً أو ساهياً.(370/87)
تراجم رجال إسناد حديث: (استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي].
إبراهيم بن موسى الرازي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام].
هو هشام بن يوسف الصنعاني، وهو ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن بحير].
عبد الله بن بحير وثقه ابن معين، وأخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن هانئ مولى عثمان].
هانئ مولى عثمان صدوق أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن عثمان بن عفان].
عثمان بن عفان أمير المؤمنين، وثالث الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: بحير بن ريسان].
أي: أن أبا داود زاد ذكر جد عبد الله، فهو في الإسناد هكذا: عبد الله بن بحير، وهنا ذكر اسم الجد.(370/88)
الأسئلة(370/89)
متى يكون سؤال الميت؟
السؤال
جاء في الحديث: (استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل)، فمتى يبدأ
السؤال
عند الدفن، أو بعد الموت كمن طالت مدته مثلاً ووضع في الثلاجة؟
الجواب
يبدأ عند الدفن، وأما من تأخر دفنه فلا يقال: إنه يسأل قبل أن يصل إلى القبر، وإنما قال ذلك بعد دفنه، ولكن كما هو معلوم أن الإنسان الذي لم يقبر كمن أكلته السباع، أو غرق في البحر، أو احترق بالنار أو ما إلى ذلك، فلا يقال: إنه لا يجري له ما يجري لمن يدفن، بل يجري ذلك للجميع، فكل يسأل، وكل يعذب أو ينعم، وذلك بأي طريقة مات، وسواء دفن أو لم يدفن.(370/90)
تذكير الناس بالاستغفار والدعاء للميت عند الدفن
السؤال
هل يسن تذكير الناس بالاستغفار والدعاء للميت؟
الجواب
الذي يبدو أنه لا بأس بذلك.(370/91)
حكم رفع اليدين في الدعاء للميت بعد دفنه
السؤال
هل ترفع اليدين في هذا الدعاء؟
الجواب
الأمر في ذلك واسع، فما نعلم شيئاً يدل على إثباته ولا على نفيه، فللإنسان أن يرفع وله ألا يرفع.
ورفع الأيدي له ثلاث حالات: حالات جاء النص على الرفع فيها، كالدعاء بعرفة، والدعاء عند الجمرة الأولى والجمرة الثانية، والاستسقاء.
وحالات لم يرد الرفع فيها، كالدعاء في خطبة الجمعة، فلا يرفع الإنسان يديه في الدعاء في خطبة الجمعة، لا الخطيب ولا المأمومون؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يرفع يديه على كثرة خطبه بالناس، وهو إمام الناس صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في بعض الأحاديث: (أنه ما كان يزيد على أن يشير بأصبعيه) ورأى بعض الصحابة رجلاً يرفع على المنبر يديه فتكلم فيه وقال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد على أن يشير بأصبعيه)، فدل هذا على عدم رفع الأيدي في هذا المكان.
وكذلك أيضاً بعد الصلوات المكتوبة، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو إمام الناس، وإذا كان موجوداً فلا يصلي أحد بالناس مع وجوده عليه الصلاة والسلام، ومع كثرة صلاته بالناس لم يؤثر ولم ينقل عنه أنه رفع يديه بعد الصلاة، فدل ذلك على أن هذا الموضع ليس من المواضع التي ترفع فيها الأيدي.
وأما المواضع الأخرى التي هي مطلقة فالأمر فيها واسع، فله أن يرفع، وله ألا يرفع.(370/92)
شرح سنن أبي داود [371]
إن من حسن توفيق الله للميت ثناء الناس عليه خيراً إذا مرت جنازته، ومن علامات سوء توفيقه إذا أثنوا عليه شراً عند مرور جنازته، ولقد كرم الله تعالى المسلم في حياته وبعد مماته، فمن تكريمه بعد مماته أن نهى عن المشي على قبور المسلمين، ونهى عن الجلوس عليها، ونهى عن امتهانها، وفي المقابل منع الشرع من تعظيم هؤلاء الأموات تعظيماً زائداً عن الحد المشروع، فنهى عن رفع قبورهم وتشييدها، ونهى عن تجصيصها، والتوسل بها ودعائها والاستغاثة بها، والذبح عندها، فالأمر وسط، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا جفاء.(371/1)
كراهية الذبح عند القبر(371/2)
شرح حديث: (لا عقر في الإسلام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كراهية الذبح عند القبر.
حدثنا يحيى بن موسى البلخي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا عقر في الإسلام)].
قوله: [باب كراهية الذبح عند القبر] الكراهية هنا بمعنى التحريم، فلا يجوز أن يُذبح عند القبور، وأما إذا كان الذبح عند القبور لأصحاب القبور فهذا شرك بالله عز وجل؛ لأن الذبح عبادة، فإذا تقرب به إلى غير الله فإن ذلك شرك، وأما إذا لم يكن الذبح لأصحاب القبور وإنما أريد به الذبح لله عز وجل فلا يجوز، وهو محرم، لكن لا يقال: إنه شرك، إلا أنه ذريعة ووسيلة إلى الشرك؛ لأن من ذبح في ذلك المكان -وإن كان يريد أنه لله- فإن الأمر يئول به إلى أن يكون لغير الله، وذلك بأن يذبح للميت.
فالحاصل: أنه لا يجوز الذبح عند القبور مطلقاً، فإن أريد بذلك التقرب إلى الميت فهو شرك بالله عز وجل، وأما إذا لم يكن كذلك فهو من البدع المحرمة التي لا تسوغ ولا تجوز.
وقد أورد أبو داود حديث أنس رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: (لا عقر في الإسلام)، فقد كانوا في الجاهلية يذبحون عند قبر الشخص إذا كان كريماً، ويقولون: كما أحسن إلى الناس في حياته فإنه يكون كذلك بعد وفاته، فيذبحون عنه؛ حتى يكون مطعماً حياً وميتاً.
فمعنى هذا الحديث: (لا عقر في الإسلام) أن هذا الذي كان يُعمل في الجاهلية لا يسوغ ولا يجوز.
[قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة].
وهذا مثاله.(371/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا عقر في الإسلام)
قوله: [حدثنا يحيى بن موسى البلخي].
يحيى بن موسى البلخي ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(371/4)
الصلاة على قبر الميت بعد حين(371/5)
شرح حديث صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل أحد
قال المصنف يرحمه الله تعالى: [باب الميت يصلى على قبره بعد حين.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج يوماً فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف)].
قوله: [باب الميت يصلى على قبره بعد حين]، المقصود بذلك: أن الميت يصلى على قبره بعد مدة ولو كانت طويلة، وقد قال بعض أهل العلم: إنه يصلى على الميت ولو قد مضى عليه مدة طويلة، وقال آخرون: إنه لا يصلى عليه إلا إذا كان حديث عهد بدفن، ويكون ذلك في حق من فاتته الصلاة ومن لم يصل عليه.
والحديث لا يدل على أن الميت يصلى عليه بعد مدة طويلة؛ لأن هذا -كما جاء في بعض الروايات- خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء فيها: (كان كالمودع للأحياء والأموات)، أي: أنه فعل ذلك توديعاً للأحياء والأموات في آخر عمره عليه الصلاة والسلام، فلا يستدل به على أنه يجوز الصلاة على أصحاب القبور بعد مدة طويلة، وإنما يدعا لهم في كل وقت وحين، وأما الصلاة عليهم فإنما تكون عند الموت قبل الدفن في المصلى أو المسجد، ومن فاتته الصلاة فإنه يصلي عليه عند القبر، كما سبق حديث: (أنه صلى الله عليه وسلم مر بقبر رطب -أي: حديث عهد بالدفن- وصفوا وراءه، فصلى عليه وكبر أربعاً)، وكذلك في قصة الرجل أو المرأة الذي كان يقمُّ المسجد فمات ودفن في الليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا آذنتموني؟ ثم قال: دلوني على قبره، فذهب وصلى عليه صلى الله عليه وسلم)، فإذا كان ذلك في وقت قريب من الموت فيصلي عليه من لم يصل، وأما بعد تقادم الزمان، ومرور الأوقات فلا يفعل ذلك، وإنما يدعا للأموات والأحياء، وأما هذا الذي حصل من النبي صلى الله عليه وسلم فهو من خصائصه كما جاء: (أنه كان كالمودع للأحياء والأموات).(371/6)
تراجم رجال إسناد حديث صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل أحد
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن أبي حبيب].
هو يزيد بن أبي حبيب المصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الخير].
هو مرثد بن عبد الله اليزني وهو مصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عقبة بن عامر].
هو عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه، وهو صحابي سكن مصر، فهذا الإسناد مسلسل بالمصريين إلا قتيبة بن سعيد.(371/7)
شرح حديث صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل أحد من طريق ثانية وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح عن يزيد بن أبي حبيب بهذا الحديث، قال: (إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات)].
أورد الحديث من طريق أخرى وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات)، وهذا يفيد أن هذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، فكونه يصلي عليهم بعد هذه المدة، وأنه كالمودع للأحياء والأموات، فهذا يدل على أنه من خصائصه.
ووجه ذكر الأحياء هنا أنه رجع من الصلاة على قتلى أحد فخطب الأحياء، هكذا جاء في بعض الروايات، وقال: (أنا فرطكم على الحوض)، وذكر كلاماً فيه إشارة إلى توديعه إياهم.
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا يحيى بن آدم].
يحيى بن آدم ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حيوة بن شريح].
هو حيوة بن شريح المصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن أبي حبيب بهذا الحديث].
وقد مر ذكر الإسناد والمتن.(371/8)
البناء على القبر(371/9)
شرح حديث: (نهى أن يقعد على القبر وأن يقصص ويبنى عليه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في البناء على القبر.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (نهى أن يُقعد على القبر، وأن يقصَّص، ويُبنى عليه)].
قوله: [باب في البناء على القبر]، أي: أنه حرام لا يجوز، وقد جاءت عدة أحاديث تدل على منعه ومنها هذا الحديث، وقد دُفن الرسول صلى الله عليه وسلم في البنيان، وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام؛ لأن الأنبياء يدفنون في المكان الذي ماتوا فيه، وقد جاء في الحديث: (إن الأنبياء يدفنون حيث يموتون)، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم في البنيان دُفن في المكان الذي مات فيه، فيكون ذلك من خصائصه.
وقد ذكر الذهبي في ترجمة ابن لهيعة عندما ذكر الحديث الذي فيه: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تتخذوا قبري عيداً)، ذكر أن الدفن في البنيان من خصائصه عليه الصلاة والسلام، وأنه ليس لأحد أن يدفن في البنيان، ولا أن يبنى بناء على القبر، إذاً فلا يسوغ البنيان على القبور، ولا دفن الموتى في البنيان: لا في المساجد ولا غير المساجد.
وقد أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقعد على القبر) أي: أن يجلس عليه، وهذا فيه امتهان للميت، (وأن يُقصَّص) أي: أن يجصص، فيجعل عليه جص، وهو مثل الإسمنت، وهو يتخذ من بعض أجزاء الأرض، ثم يحرق حتى يتماسك فلا يأخذه الماء، فهو كالإسمنت في هذا الزمان، فلا يجصص القبر ولا يسمّت، وإنما يوضع عليه ترابه فقط، وإن وضع عليه شيء من الحصى أو ما إلى ذلك حتى يمنع من تطاير التراب مع الهواء فيندرس القبر ويختفي، فلا بأس بذلك.
قوله: (وأن يقصص ويبنى عليه) أي: أن القعود فيه امتهان، والتجصيص والبنيان فيها تعظيم وغلو، وقد نُهي عن الإفراط والتفريط، عن الغلو والجفاء، فكل من الغلو والجفاء ممنوعان، فلا يمتهن الأموات بحيث يداس ويجلس على قبورهم، ولا يغلو الناس فيهم بأن يكون هناك بنيان وتعظيم يترتب عليه محاذير ومفاسد.(371/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (نهى أن يقعد على القبر وأن يقصص ويبنى عليه)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرزاق حدثنا ابن جريج].
عبد الرزاق مر ذكره، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني أبو الزبير].
هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنه سمع جابراً] هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(371/11)
شرح حديث (نهى أن يقعد على القبر) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد وعثمان بن أبي شيبة قالا: حدثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن سليمان بن موسى، وعن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه بهذا الحديث.
قال أبو داود: قال عثمان: (أو يزاد عليه)، وزاد سليمان بن موسى: (أو أن يكتب عليه)، ولم يذكر مسدد في حديثه: (أو يزاد عليه).
قال أبو داود: خفي علي من حديث مسدد حرف: (وأن)].
أورد أبو داود حديث جابر من طريق أخرى، وفيه: (وأن يزاد عليه) أي: يزاد عليه تراب من غيره، فيكون ذلك رفع له، وهذا لا يجوز، فلا يرفع في بنيان القبر، ولا يزاد في ترابه فيعلو بذلك ويكون مشرفاً، وقد مر حديث علي وفيه: (لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته) أي: أنه لا يجوز أن يجعل مرتفعاً، وأما إذا جعل عليه تراب القبر نفسه ولم يزد عليه شيء من غيره فلا بأس في هذا، ولهذا قال: (أو يزاد عليه) أي: لا يزاد عليه شيء من تراب غيره.
قوله: (أو أن يكتب عليه) أي: لا يكتب عليه شيء لا اسمه ولا غير اسمه، وسواء كبرت المقبرة أو صغرت، فالرسول صلى الله عليه وسلم فعل علامة يعرف بها قبر الميت، وأما الكتابة فكأنها إعلان يعرف به هو وغيره من الناس أن هذا قبر فلان.(371/12)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى أن يقعد على القبر) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[وعثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا حفص بن غياث].
حفص بن غياث ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج عن سليمان بن موسى].
ابن جريج مر ذكره، وسليمان بن موسى الأشدق صدوق في حديثه بعض لين، أخرج له مسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[وعن أبي الزبير عن جابر].
قد مر ذكرهما، وهنا يروي ابن جريج عن سليمان بن موسى وعن أبي الزبير.
[قال أبو داود: قال عثمان: (أو يزاد عليه)، وزاد سليمان بن موسى: (أو أن يكتب عليه).
ولم يذكر مسدد في حديثه: (أو يزاد عليه).
قال أبو داود: خفي علي من حديث مسدد حرف: (وأن)].
أي: قبل كلمة: (يبنى عليه)، وهذا يدل على عناية العلماء الفائقة بضبط ألفاظ الأحاديث، فتجدهم يضبطون مثل هذه الألفاظ اليسيرة السهلة التي يكون المعنى واضحاً بها وبدونها، ومع ذلك فقد اعتنوا عناية فائقة بضبط الأحاديث وتدوينها.(371/13)
شرح حديث: (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة: (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وفي بعض الأحاديث جاء ذكر اليهود والنصارى، وهذا يدل على تحريم اتخاذ القبور مساجد، وتحريم البناء عليها، سواء كان البناء مسجداً أو غير مسجد، ولكن الحرمة في حال اتخاذها مسجداً أشد وأعظم.(371/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة فقيه، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق، رضي الله عنه وأرضاه.(371/15)
كراهية القعود على القبر(371/16)
شرح حديث: (لأن يجلس أحدكم على جمرة خير له من أن يجلس على قبر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كراهية القعود على القبر.
حدثنا مسدد حدثنا خالد حدثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه حتى تخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر)].
قوله: [باب في كراهية الجلوس على القبر] سبق أن مر بنا الحديث الذي فيه: (نهى أن يقعد على القبر) وهناك ذكره في البناء، وهنا ذكر شيئاً يخص الجلوس على القبر، فيكون هذا الحديث وذاك الحديث كل منهما يدل على عدم جواز الجلوس على القبور، وهنا زيادة بيان خطورة هذا الأمر.
وقد أورد المصنف حديث أبي هريرة مرفوعاً: (لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه حتى تخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر)، وهذا يدل على تحريم الجلوس على القبور؛ لأن فيه امتهاناً لها، والمسلم محترم في حياته وبعد وفاته، ويدخل في النهي عن الجلوس على القبور القيام والوقوف عليها، وأما قبر الكافر فليس له حرمة.
وتفسير القعود بأنه لقضاء الحاجة تفسير بعيد، وإذا وجد فهو أسوأ، ولكن المقصود ما هو أعم من ذلك وهو مجرد الجلوس، ومعلوم أن الإنسان في حالة الجلوس لقضاء الحاجة يجلس على رجليه، وجسده وثيابه لا تمس الأرض، وأما الجلوس على القبر والقعود عليه فهو الذي تلي فيه الثياب القبر، فهذا هو الجلوس المقصود من الحديث، وليس الجلوس لقضاء الحاجة.(371/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (لأن يجلس أحدكم على جمرة خير له من أن يجلس على قبر)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا خالد].
مسدد مر ذكره، وخالد هو ابن عبد الله الواسطي الطحان، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سهيل بن أبي صالح].
سهيل بن أبي صالح صدوق أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وقد روى له البخاري مقروناً وتعليقاً.
[عن أبيه].
أبوه هو أبو صالح السمان واسمه: ذكوان، ولقبه: السمان، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
قد مر ذكره.(371/18)
شرح حديث: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عيسى حدثنا عبد الرحمن -يعني ابن يزيد بن جابر - عن بسر بن عبيد الله قال: سمعت واثلة بن الأسقع رضي الله عنه يقول: سمعت أبا مرثد الغنوي رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)].
أورد أبو داود حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)، وهذا فيه النهي عن الجلوس على القبور، وعن الصلاة إليها، أي: أن يقصدها الإنسان بالصلاة، فيجعلها أمامه ليصلي لله عز وجل مستقبلاً لها، كل ذلك لا يسوغ ولا يجوز، وقد مرّ في الجلوس ثلاثة أحاديث: الحديث الأول: هو الحديث الذي فيه النهي عن التجصيص والبناء، والحديث الثاني هو الذي فيه ذكر الوعيد، والحديث الثالث هو هذا الحديث الذي فيه النهي عن الجلوس على القبور: (لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها).
وهذا يدل على أن استقبالها بالصلاة لا يسوغ ولا يجوز، ويدل أيضاً على أن فعل بعض الناس الذين يأتون إلى المسجد النبوي المبارك فيتركون الصفوف الأول، وربما أتوا مبكرين، ويصلون خلف قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، يدل على أنهم واقعون في هذا الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى إلى القبور، وهؤلاء يتعمدون الصلاة إليها، فيكونون بذلك مخالفين أو واقعين فيما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى ولو كان بين القبر وبين المصلي حاجز من جدار أو نحوه، فما دام أنهم يتعمدون الصلاة وراء القبر فيشملهم النهي.
وبعض الناس قد يسألون عن امتداد الصفوف -خاصة في العيدين- إلى جهة البقيع، فنقول: على الإنسان ألا يتعمد الصلاة وراء القبر، وعليه أن يتخير المكان المناسب، ولا يفعل كبعض الناس الذين يأتون والمسجد خالي فيتعمدون أن يأتوا إلى هذا المكان الذي فيه القبر، وأما إذا كان الإنسان لا يدري أن أمامه قبر، أو لم يتعمد ذلك فهو معذور.(371/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عيسى].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرحمن يعني ابن يزيد بن جابر].
عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بسر بن عبيد الله].
بسر بن عبيد الله ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن واثلة بن الأسقع].
واثلة بن الأسقع رضي الله عنه صحابي، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[سمعت أبا مرثد الغنوي].
أبو مرثد الغنوي اسمه كناز بن الحصين، وهو صحابي أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
وهذا الحديث في صحيح مسلم.(371/20)
المشي في النعل بين القبور(371/21)
شرح حديث: (يا صاحب السبتيتين! ويحك ألق سبتيتيك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب المشي في النعل بين القبور.
حدثنا سهل بن بكار حدثنا الأسود بن شيبان عن خالد بن سمير السدوسي عن بشير بن نهيك عن بشير مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورضي الله عنه -وكان اسمه في الجاهلية زحم بن معبد فهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ما اسمك؟ قال: زحم، فقال: بل أنت بشير) - قال: (بينما أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر بقبور المشركين فقال: لقد سبق هؤلاء خيراً كثيراً، ثلاثاً، ثم مر بقبور المسلمين فقال: لقد أدرك هؤلاء خيراً كثيراً، وحانت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نظرة فإذا رجل يمشي في القبور عليه نعلان، فقال: يا صاحب السبتيتين! ويحك ألق سبتيتيك، فنظر الرجل فلما عرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلعهما فرمى بهما)].
ثم قوله: [باب المشي في النعل بين القبور]، أي: أن ذلك لا يجوز، إلا إذا كانت المقبرة فيها حرارة شديدة في الرمضاء، أو كان فيها شوك يتأذى به الإنسان فإنه يمشي بالنعل، ولكن يكون ذلك بين القبور، وليحرص على ألا يطأ على قبر، والنهي جاء حتى عن المشي بين القبور، كما أورده أبو داود في حديث بشير بن الخصاصية رضي الله عنه، فهو يدل على أن المشي في المقبرة لا يجوز بالنعال، ولكن إذا كان هناك أمر يقتضيه كأن تكون الشمس حارة وفيها رمضاء، أو كان فيها شوك أو شيء يؤذي فيمكن للإنسان أن يستعمل ذلك من باب ارتكاب أخف الضررين في سبيل التخلص من أشدهما، وذلك سائغ؛ لأن هذا ضرر وهذا ضرر، ولكنه لا يطأ على قبر؛ حتى لا يكون الامتهان واضحاً.
وقد أورد أبو داود حديث بشير بن الخصاصية رضي الله عنه: (أنه كان يمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمرا بقبور المشركين فقال: لقد سبق هؤلاء خيراً كثراً) أي: أنهم تقدموا وجاء خير كثير بعدهم لم يدركوه، (وجاء إلى قبور المسلمين وقال: لقد أدرك هؤلاء خيراً كثراً) أي: أنهم لحقوه وأدركوه وصاروا من أهل ذلك الخير، وأما أولئك فلم يبقوا حتى يدركوا ذلك الخير الذي جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو الإسلام، فماتوا على الشرك والكفر ففاتهم ذلك الخير، (ثم حانت منه التفاتة) أي: التفت (فرأى رجلاً يمشي في القبور وعليه نعلان سبتيتان)، والنعلان السبتيتان هما اللتان صنعتا من الجلد المدبوغ بالقرض، (فقال: يا صحاب السبتيتين! ألقهما)، وليس معنى ذلك أنه خاص بالسبتيتين، بل هو عام في جميع النعال ولعله ذكر السبتيتين حتى يتنبه ذلك الرجل إلى النعل التي كانت عليه فيعرف أنه المقصود، (فقال: يا صاحب السبتيتين! ألقهما) أي: لا تمشي بهما، (فخلعهما) أي: أنه بادر إلى الامتثال لما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المبادرة إلى امتثال ما جاء عن الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والحكم هنا عام لجميع النعال وليس مقصوراً على السبتيتين، وبعض الناس قالوا: إن هذا خاص بالسبتيتين؛ لأن فيهما ترفاً، ولا يستعملهما إلا أهل الترف، وهذا ليس بصحيح، فالمقصود من ذلك النعال مطلقاً.(371/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (يا صاحب السبتيتين! ويحك ألق سبتيتيك)
قوله: [حدثنا سهل بن بكار].
سهل بن بكار ثقة ربما وهم، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا الأسود بن شيبان].
الأسود بن شيبان ثقة أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن خالد بن سمير السدوسي].
خالد بن سمير السدوسي صدوق يهم قليلاً، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن بشير بن نهيك].
بشير بن نهيك ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بشير مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم].
بشير مولى رسول الله مشهور بـ ابن الخصاصية، وهو صحابي أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) وأبو داود والنسائي وابن ماجة، وكان اسمه في الجاهلية زحم بن معبد، فهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (ما اسمك؟ قال: زحم، قال: بل أنت بشير).
أي: كأن هذا الاسم وهو زحم بن معبد لم يعجب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أدري ما هي المعاني التي تدل عليها هذه الكلمة حتى لم يعجب ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم.(371/23)
شرح حديث: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا عبد الوهاب يعني: ابن عطاء عن سعيد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم)].
أورد أبو داود حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم)، وهذا فيه دلالة على أنه يُمشى بالنعل في المقبرة، وقد مر في حديث صاحب السبتيتين أنه لا يمشى، ويمكن أن يجمع بينهما بأن هذا الحديث لا يلزم منه أن يكون المشي بين القبور، وإنما قد يكون في المقبرة فضاء فيمشي الناس في ذلك الفضاء بنعالهم حتى يصلوا إلى القبور ثم يخلعونها، وعند الانصراف إذا وصلوا إلى ذلك الفضاء في المقبرة لبسوا نعالهم، وإنما المحذور إذا مشوا بها بين القبور، فالناس عندما يدفنون في المقبرة فإنهم يبدءون من آخرها ثم تتصل القبور حتى تصل إلى الباب، فهذه المنطقة التي يمشون فيها هي تلك المنطقة التي لم يكن فيها قبور، فهم يمشون إذاً في أرض لا قبور فيها وإن كانت في داخل مقبرة، فيحمل هذا الحديث على هذا المعنى، ولا يلزم أن يكون المشي بين القبور.
وفي هذا الحديث أيضاً دليل على سماع الأموات، ولكن لا يستدل به على سماعهم مطلقاً، فالأصل هو أن هذا من أمور الغيب التي لا يثبت منها شيء إلا بدليل، فالشيء الذي ورد فيه دليل مثل هذا، ومثل تكليمه عليه الصلاة والسلام لأصحاب القليب يوم بدر وقال: (إنهم يسمعون)، فهذا يُثبت، ولا يتوسع في ذلك بأن يقال: إنهم يسمعون كل شيء؛ لأن هذه من أمور الغيب، فيقتصر فيها على ما ورد.(371/24)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم)
قوله: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري].
محمد بن سليمان الأنباري صدوق أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الوهاب يعني ابن عطاء].
عبد الوهاب بن عطاء صدوق ربما أخطأ، أخرج له البخاري في (خلق أفعال العباد) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سعيد].
هو سعيد بن أبي عروبة، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه، وقد مر ذكره.(371/25)
تحويل الميت من موضعه للأمر يحدث(371/26)
شرح حديث جابر في قصة إخراجه أبيه من القبر بعد ستة أشهر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في تحويل الميت من موضعه للأمر يحدث.
حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن سعيد بن يزيد أبي مسلمة عن أبي نضرة عن جابر رضي الله عنه قال: دُفن مع أبي رجل فكان في نفسي من ذلك حاجة، فأخرجته بعد ستة أشهر، فما أنكرت منه شيئاً إلا شعيرات كن في لحيته مما يلي الأرض] قوله: [باب في تحويل الميت من موضعه للأمر يحدث]، أي: تحويله من قبره إلى مكان آخر، وليس معنى ذلك أنه ينقل ويسافر به إلى مكان بعيد، وإنما المقصود: تحويله من مكان إلى مكان في نفس البلد؛ لأمر اقتضى ذلك، كما جاء في فعل جابر مع أبيه، فإن السبب في إخراجه أنه دفن معه شخص، وكان في نفسه من ذلك شيء، وهذا أمر يتعلق بالحي ولا يتعلق بالميت، وكما هو معلوم أن من كان منعماً فإنه لا يضره من يعذب بجواره، ومن كان معذباً فإنه لا ينتفع بتنعم من كان بجواره، وأمور الغيب من الأمور التي يجب الإيمان والتصديق بها، فالمنعم منعم والمعذب معذب، فذلك الأمر لا يرجع إلى الميت بأنه يناله شيء من أمر من بجواره، ولكن كان في نفس الحي -وهو جابر رضي الله عنه- شيء، فنقله وحوله عن مكانه.
وجاء أيضاً في بعض الآثار -وما أدري عن ثبوته-: أنه كان يخشى عليه أن يجترفه السيل، أي: أن السيل كان يمر بقرب القبر، فإن صح هذا فهذه علة وجيهة.
قوله: (فأخرجته بعد ستة أشهر، فما أنكرت منه شيئاً إلا شعيرات كن في لحيته مما يلي الأرض) أي: أنه رآه بعد ستة أشهر على حالته التي دفن عليها، فلم يتغير منه شيء إلا شعيرات كن في لحيته مما يلي الأرض.
وهذا يدل على أن بعض الأموات قد يبقى في قبره مدة طويلة لا تأكله الأرض، لكن لا يقطع بأن الشهداء لا تأكلهم الأرض؛ لأن هذا لم يكن إلا بعد ستة أشهر، والله أعلم ما سيكون في المستقبل، وأما الأنبياء فإن الأرض لا تأكل أجسامهم أبداً كما جاء بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(371/27)
تراجم رجال إسناد حديث جابر في قصة إخراجه أبيه من القبر بعد ستة أشهر
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد بن زيد].
حماد بن زيد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن يزيد].
سعيد بن يزيد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي نضرة].
هو المنذر بن مالك بن قطعة، وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن جابر].
جابر رضي الله عنه، وقد مر ذكره.(371/28)
الثناء على الميت(371/29)
شرح حديث: (مروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة فأثنوا عليها خيراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الثناء على الميت.
حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن إبراهيم بن عامر عن عامر بن سعد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (مروا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال: وجبت، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً فقال: وجبت، ثم قال: إن بعضكم على بعض شهداء)].
قوله: [باب في الثناء على الميت]، ثناء الناس على الميت بالخير يرجى معه أن يكون كذلك، وأن يكون ممن وفقه الله عز وجل، ولكنه لا يقطع له بالجنة، وذكر الناس لشخص بسوء يخشى عليه أن يكون كذلك، ولكنه لا يقطع له بشيء؛ لأن ذلك من الأمور الغيبية التي لا يطلع عليها إلا الله عز وجل.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (مروا بجنازة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثنوا عليها خيراً فقال: وجبت، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً فقال: وجبت، ثم قال: إن بعضكم على بعض شهداء) أي: أن تلك الشهادة التي شهدوها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لها شأن ومنزلة، ولذلك قال: (وجبت) فالذي أثنوا عليه خيراً يكون من أهل الخير، والذي أثنوا عليه شراً يكون من أهل الشر، وهذا الذي حصل بين يديه صلى الله عليه وسلم الأمر فيه واضح، فقد أخبر عليه الصلاة والسلام بأن هذا الذي أثنوا عليه خيراً قد وجبت له الجنة، وأن ذاك الذي أثنوا عليه شراً قد جبت له النار، لكن هذا لا يعني أن كل من يثنى عليه بالخير أو بالشر يكون كذلك، وأنه تجب له الجنة أو النار، فإن العلم عند الله عز وجل، وأما هذا الذي حصل من النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (وجبت) فأمره واضح، فقد أيده النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه، وقال: (وجبت).
وأما غيره: فإذا أثنى الناس على أحد بخير أو بشر فلا يقال: وجبت له الجنة، أو وجبت له النار، وإنما يقال: يرجى للمحسن، ويُخاف على المسيء.
ومما يوضح هذا المعنى ما جاء في الحديث الصحيح: (أن رجلاً كان في إحدى الغزوات، وكان قد أبلى بلاء عظيماً في سبيل الله، فأثنوا عليه ثناء عظيماً، وأنه لم يترك شيئاً فيه نكاية بالعدو إلا وعمله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو من أهل النار)، ومع ذلك فإنهم كانوا قد شهدوا له بالعمل وبالجهد العظيم، ومع ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (هو في النار)، فصار على خلاف ما ظهر لهم منه، فقال أحد الصحابة: أنا آتيكم بخبره، فصار يتابعه، فإذا أسرع أسرع وإذا تأخر تأخر، حتى أصيب في يده، فجزع من ذلك فجعل نصل سيفه على الأرض ورأسه على صدره فتحامل عليه حتى قتل نفسه، فجاء وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال عليه الصلاة والسلام عند ذلك: (إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر).
فهذا الذي أثنوا عليه خيراً وذلك الذي أثنوا عليه شراً فقال عليه الصلاة والسلام: (وجبت) لا شك أنه قد وجب له ذلك، وأما غيره ممن يثنى عليه سواء كان في زمن الصحابة أو بعد زمن الصحابة فلا يقطع له بجنة ولا نار، ولكنه يرجى للمحسن ويخاف على المسيء.
ومما يوضح هذا المعنى أيضاً ما جاء في بعض الروايات أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (توشكون أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار، قالوا: بم ذلك يا رسول الله؟! قال: بالثناء الحسن والثناء السيئ)، ومعنى (توشكون): تقربون، أي: أنه ليس شيئاً محققاً، وإنما شيء مقارب، والمعنى: أنه لا يجزم به، وعلى هذا: فإن من أثني عليه خير فيرجى له الخير والثواب العظيم من الله، ومن أثني عليه شر فيخشى عليه، والعلم بالحقائق إنما هو عند الله سبحانه وتعالى.
وأما ما جرت به العادة في بعض البلدان من أنهم إذا فرغوا من صلاة الجنازة قال الإمام: ما قولكم في هذا الميت؟ فيقولون: خيراً، فهذا غلط، وهذا الكلام لا يصلح أن يقال؛ لأن هذا الفعل ليس له أساس في الدين، هذا أولاً.
وثانياً: أنه قد يتكلم متكلم في من هو على خير بخلاف ذلك، وقد يكون أيضاً بالعكس، فمثل هذا لا يصلح ولا يليق أن يكون.(371/30)
تراجم رجال إسناد حديث: (مروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة فأثنوا عليها خيراً)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم بن عامر].
إبراهيم بن عامر ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن عامر بن سعد].
هو عامر بن سعد البجلي، وهو مقبول أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(371/31)
شرح سنن أبي داود [372]
زيارة القبور من الأمور التي استحبها الشارع وسنها للناس؛ وذلك لما فيها من تذكر الموت والآخرة، وهي خاصة بالرجال دون النساء، ولا يجوز الاستغفار والدعاء للميت الكافر مطلقاً ولو كان من أولي القربى.(372/1)
زيارة القبور(372/2)
شرح حديث زيارته صلى الله عليه وسلم لقبر أمه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في زيارة القبور.
حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا محمد بن عبيد عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: استأذنت ربي تعالى على أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، فاستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور؛ فإنها تذكر بالموت)].
قوله: [باب في زيارة القبور]، زيارة القبور سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها فائدة للزائرين والمزورين إذا كانوا مسلمين، فالزائر يستفيد أنه يتذكر الموت؛ فيستعد له بالأعمال الصالحة، ويستفيد أيضاً أنه يكون قد فعل سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيؤجر على ذلك، ويستفيد أيضاً أنه دعا لإخوانه المسلمين فأحسن إليهم، فيثاب على ذلك الإحسان، ومن أحسن أحسن الله إليه، والله تعالى يقول: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60].
إذاً: الحي يستفيد ثلاث فوائد، وأما الميت المسلم المزور فإنه يستفيد الدعاء له، فالأموات يستفيدون من دعاء الأحياء.
إذاً: الزيارة الشرعية التي تكون على وفق السنة، والمشتملة على تذكر الموت، وعدم فعل شيء من البدع، ثم حصول الدعاء للميت، يستفيد فيها الحي والميت.
وأما الزيارة البدعية المخالفة للسنة التي يكون فيها استغاثة بالأموات، أو يكون فيها توسل بهم وغير ذلك، فإن ذلك يتضرر منه الحي ولا يستفيد منه الميت، فالحي يتضرر من ذلك لأن الاستغاثة بغير الله شرك بالله، وأما التوسل بأصحاب الأموات إلى الله عز وجل فهذا من البدع المحدثة، وهو من الوسائل التي تؤدي إلى الشرك، فيكون الزائر قد تضرر من ذلك ولم يستفد، وأما المزور الذي استُغيث به فلم يستفد من ذلك شيئاً؛ لأنه طلب منه أمور لا تطلب منه، ولا يقدر عليها، وعلى هذا فالزيارة الشرعية يستفيد منها الحي والميت، والزيارة البدعية يتضرر بها الحي ولا يستفيد منها الميت شيئاً.
وأما زيارة المسلم لقبر الكافر فإن فيها فائدة للحي وهي تذكر الموت، وأما الميت فلا يستفيد شيئاً؛ لأنه لا يجوز الدعاء له.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله) قيل: إنه بكى على ما فاتها وعلى ما سبقها من الخير الكثير عندما ماتت قبل أن يبعث نبياً، فقد كانوا على عبادة الأوثان والأصنام، فبكى وأبكى عليه الصلاة والسلام، وقال: (إنه استأذن ربه أن يستغفر لها فلم يأذن له)؛ لأن الكافر لا يستغفر له، قال الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:113]، (واستأذن أن يزورها فأذن له، فقال صلى الله عليه وسلم: زوروا القبور؛ فإنها تذكر بالآخرة)، إذاً فزيارة قبر الكافر سائغة ولكنها من أجل تذكر الموت لا للدعاء للميت، فإن الميت الكافر لا يدعا له، والدعاء لا ينفعه، وهذا الحديث يدل على أن أم الرسول صلى الله عليه وسلم ماتت كافرة، وأنها من أهل النار، وقد بيّن الله عز وجل في كتابه أنه لا يجوز للنبي والمؤمنين أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى فقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].
وهذا الحديث حديث صحيح، وقد رواه مسلم في صحيحه، وهو يدل على أن أم الرسول صلى الله عليه وسلم ماتت كافرة، وكذلك أبوه، فقد جاء في الحديث الذي في صحيح مسلم: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أين أبي؟ قال: أبوك في النار، فلما رأى ما في وجهه دعاه وقال له: إن أبي وأباك في النار).(372/3)
تراجم رجال إسناد حديث زيارته صلى الله عليه وسلم لقبر أمه
قوله: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري].
محمد بن سليمان الأنباري صدوق أخرج له أبو داود.
[حدثنا محمد بن عبيد].
هو محمد بن عبيد الطنافسي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن كيسان].
يزيد بن كيسان صدوق يخطئ، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأصحاب الكتب السنن.
[عن أبي حازم].
هو سلمان الأشجعي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.(372/4)
شرح حديث: (نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن في زيارتها تذكرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا معرف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن في زيارتها تذكرة)].
أورد أبو داود حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن في زيارتها تذكرة)، وهذا الحديث فيه الجمع بين الناسخ والمنسوخ، فقوله: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور) منسوخ، وقوله: (فزوروها) ناسخ.
وقد كان النهي عن الزيارة في أول الأمر؛ لكونهم حديثي عهد بالجاهلية، فمنعوا من ذلك حتى تنقطع ما في قلوبهم من أمور الجاهلية، ثم نسخ بعد ذلك وأثبتت الزيارة؛ لأن فيها تذكرة للموت وللآخرة، فيكون الإنسان على استعداد تام لذلك بالأعمال الصالحة التي تقربه إلى الله عز وجل زلفى.
وهذا إنما هو في حق الرجال، وأما النساء فقد جاءت في حقهن بعض الأحاديث التي فيها لعن الزائرة كما سيأتي.(372/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن في زيارتها تذكرة)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معرف بن واصل].
معرف بن واصل ثقة أخرج له مسلم وأبو داود.
[عن محارب بن دثار].
محارب بن دثار ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن بريدة].
هو عبد الله بن بريدة، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(372/6)
زيارة النساء للقبور(372/7)
شرح حديث: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في زيارة النساء القبور.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا شعبة عن محمد بن جحادة سمعت أبا صالح يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج)].
قوله: [باب في زيارة النساء القبور]، اختلف العلماء في حكم زيارة النساء للقبور، فمنهم من قال بجوازها، ومنهم من قال بمنعها.
والذين قالوا بالجواز استدلوا بما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه، واستدلوا أيضاً بالأحاديث العامة في الزيارة كقوله: (فزوروها)، وكذلك قوله: (فإنها تذكر بالآخرة) قالوا: والنساء بحاجة إلى التذكرة، فهن مثل الرجال.
واستدل أصحاب القول الثاني بالأحاديث التي فيها منع النساء من الزيارة، والتي تدل على لعن الزوارات، وأن المصلحة اليسيرة التي تحصل لهن بالزيارة يقابلها مفسدة أكبر وأعظم وهي: ما يكون منهن من النياحة، وما هن عليه من الضعف وعدم الصبر كما هو حال الرجال، لذلك جاءت أحاديث تدل على المنع.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج).
وهذا الحديث جاء بلفظ: (زائرات) وفيه ذكر اتخاذ المساجد والسرج عليها، وكل هذه الأمور غير سائغة.
وهذا الحديث في إسناده رجل متكلم فيه وهو أبو صالح الراوي عن ابن عباس، وليس أبا صالح السمان، وإنما هو شخص آخر فيه كلام، فتكلموا على الحديث من أجله، ولكن الحديث جاء من وجه آخر وفيه: (لعن الله زوارات القبور).
فالذين قالوا: إن زيارة النساء للقبور جائزة قالوا: إن المقصود بالنهي هو المكثرات من الزيارة؛ لأن (زوارات) صيغة مبالغة، تدل على إكثارهن من الزيارة.
ولكن يمكن أن يفسر (زوارات) بمعنى (زائرات)، فيكون متفقاً مع هذا الحديث السابق: (لعن رسول الله زائرات القبور)، فصيغة فعّال كما أنها تأتي للمبالغة فإنها تأتي للنسبة، فليس كل ما يأتي على صيغة فعّال يكون للمبالغة، بل قد يكون للنسبة، وذلك مثل: نجار وحداد، فهذه الصيغ ليست للمبالغة، وإنما هي نسبة إلى الحدادة والنجارة.
ومن ذلك أيضاً قول الله عز وجل: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، فإن المنفي هو أصل الظلم، أي: وما ربك بذي ظلم، فهو سبحانه ليس بمنسوب إلى الظلم، ولا يقال: إن المقصود من ذلك نفي المبالغة، وإنما هو نفي لأصل الظلم عن الله تعالى.
إذاً: المراد من قوله: (زوارات) أي: المنسوبات للزيارة، وليس معنى ذلك المكثرات من الزيارة.
وقد ضعف الشيخ الألباني رحمه الله هذا الحديث في السنن، ولما جاء إلى الكلام عليه في (أحكام الجنائز) ذكر أن الترمذي قال: حديث حسن، وقال: إن هذا لا يسلم له، إلا إن أراد أنه حسن لغيره فيكون مسلماً؛ لأنه قد جاء بلفظ: (زوارات)، وهذا إنما يكون إذا اعتبرنا أن (زوارات) بمعنى (زائرات)، وهو رحمه الله قد أشار إلى أن اللعن إنما هو للمكثرات من الزيارة، ولكن الذي يظهر أن ذلك اللعن ليس على المبالغة، وإنما هو لعن على أصل الزيارة؛ لأنه يترتب عليها ضرر كبير، وأمر عظيم، وذلك لضعف النساء، وعدم صبرهن، وعدم قدرتهن وجلدهن كما هو حال الرجال.
وعلى هذا: فالقول الصحيح هو القول بالتحريم، وأن النساء لا يجوز لهن أن يزرن القبور، ثم أيضاً -كما هو واضح- أن المرأة إذا تركت الزيارة فأكثر ما في الأمر أنها تركت أمراً مستحباً، وأما إذا فعلت الزيارة فإنها تتعرض للعنة كما في هذا الحديث، ومعلوم أن ترك هذا الفعل الذي تسلم فيه من اللعنة أولى ومقدم على كونها تفعل شيئاً لو تركته لم يحصل لها شيء إلا أنها تركت أمراً مستحباً لا يترتب على تركه شيء.
إذاً: القول بالتحريم والمنع هو الأظهر والأولى.
وكذلك إذا أتين مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس لهن أن يقصدن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم.(372/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا شعبة].
شعبة مر ذكره.
[عن محمد بن جحادة].
محمد بن جحادة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت أبا صالح].
أبو صالح اسمه باذان، وهو ضعيف، أخرج له أصحاب السنن.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة من أصحابه الكرام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(372/9)
ما يقوله إذا زار القبور أو مرّ بها(372/10)
شرح حديث الدعاء الوارد في زيارة القبور
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يقول إذا زار القبور أو مر بها.
حدثنا القعنبي عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)].
قوله: [باب ما يقول إذا زار القبور أو مر بها]، أي: أنه يسلم على أهل القبور ويدعو لهم.
وقد أورد حديث أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون).
قوله: (السلام عليكم) هذا دعاء لهم بالسلامة.
وقوله: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) فيه أن الإنسان يتذكر أن مصيره إلى ما صاروا إليه، وأنه لا بد أن يكون في يوم من الأيام معهم، وأنه سيُزار كما زارهم، فكما أنه الآن زائر فغداً سيكون مزوراً.
وقوله: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) ليس هذا للشك وأنه قد يحصل وقد لا يحصل، فهذا أمر محقق، وهذا مثل قوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27]، فهو إخبار عن أمر محقق، وليس أمراً مشكوكاً فيه.
وقد جاء في بعض الروايات زيادة على ذلك: (أنتم سلفنا ونحن بالأثر، نسأل الله لنا ولكم العافية).
والحاصل: أن الزيارة الشرعية تشتمل على الدعاء للأموات، وفي ذلك فائدة لهم.
وأما تخصيص السلام على ميت واحد كأن يقول: السلام على فلان، ثم يقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، فإنه إذا رأى القبور يسلم على الجميع، وإذا أراد أن يسلم على شخص بعينه فإنه يذهب إليه، ويقف عند رأسه مستقبلاً إياه، فيسلم عليه، ويدعو له.(372/11)
تراجم رجال إسناد حديث الدعاء الوارد في زيارة القبور
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن العلاء بن عبد الرحمن].
هو العلاء بن عبد الرحمن الحرقي، وهو صدوق أخرج حديثه البخاري في (جزء القراءة) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه ثقة أخرج له البخاري في (جزء القراءة) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.(372/12)
إذا مات المحرم كيف يصنع به؟(372/13)
شرح حديث الرجل الذي وقصته راحلته وهو محرم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب المحرم يموت كيف يصنع به؟ حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثني عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (أُتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل وقَصْته راحلته، فمات وهو محرم، فقال: كفنوه في ثوبيه، واغسلوه بماء وسدر، ولا تخمروا رأسه؛ فإن الله يبعثه يوم القيامة يلبي)].
قوله: [باب في المحرم يموت كيف يصنع به؟] أي: إذا مات في حال إحرامه فكيف يصنع به؟
و
الجواب
أنه يغسل، ويعامل معاملة المحرم الحي فلا يغطى رأسه، ولا يطيب.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عباس: (أن رجلاً وقصته دابته وهو واقف بعرفة، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كفنوه في ثوبيه) أي: الإزار والرداء.
قوله: (ولا تخمروا رأسه) أي: كما أن المحرم في حال حياته لا يغطى رأسه فكذلك في حال موته، فيدفن ورأسه مكشوف لا يغطى، ويعامل في حال موته معاملة الحي المحرم.
وكذلك أيضاً لا يطيب، وذلك مثل المحرم الحي فإنه لا يمس طيباً.
وقوله في أول الحديث: (وقصته راحلته) أي: أنه سقط عنها فدقت عنقه، فمات من ذلك.
وهذا الحديث يدل على أن من مات على شيء فإنه يُبعث عليه، فهذا مات وهو محرم يلبي وسوف يبعث وهو محرم يلبي.
وأما تغطية الوجه ففيه خلاف بين أهل العلم، وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث: (ولا تخمروا رأسه ووجهه)، وجاء عن عدد من الصحابة أنهم كانوا يغطون وجوههم.
وهناك حديث ذكره الشيخ الألباني في كتاب العلل للدارقطني، وهو في السلسلة الصحيحة برقم (2899)، وقد جاء موقوفاً ومرفوعاً: (أنه كان يخمر وجهه وهو محرم) إذاً: قد جاء المنع والجواز، ولكن إذا احتاط الإنسان ولم يخمر وجهه فهذا هو الذي ينبغي له أن يفعله، ولعل المنع يكون على العموم، ويكون الجواز للحاجة.(372/14)
تراجم رجال إسناد حديث الرجل الذي وقصته راحلته وهو محرم
قوله: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان].
محمد بن كثير مر ذكره.
وسفيان هو الثوري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عمرو بن دينار].
هو عمرو بن دينار المكي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.
[قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: في هذا الحديث خمس سنن: (كفنوه في ثوبيه) أي: أن الميت يكفن في ثوبين، (واغسلوه بماء وسدر) أي: أن السدر يكون في جميع الغسلات، (ولا تخمروا رأسه، ولا تقربوه طيباً، وكان الكفن من جميع المال]، فهذه خمس سنن ذكرها الإمام أحمد في قصة هذا المحرم الذي وقصته ناقته.
قوله: (كفنوه في ثوبيه) أي: أنه يكفن في ثيابه، فلا يكفن في ثلاثة أثواب، وإنما يكفن في ثوبيه اللذين أحرم بهما، وهما إزار ورداء.
قوله: (واغسلوه بماء وسدر) أي: أنه يغسل بماء وسدر كما يغسل الميت غير المحرم، والسدر ليس بطيب، ويكون السدر في كل غسلة.
قوله: (ولا تخمروا رأسه) أي: لا تغطوه، فالتخمير هو التغطية.
قوله: (ولا تقربوه طيباً)، أي: أنه يعامل معاملة المحرم الحي، فلا يطيب، ولا يغطى رأسه، ويكون الكفن من جميع المال، فإنه قال: (في ثوبيه)، ولم يسأل: هل له ورثة؟ أو هل عليه دين؟ ومعنى هذا أن الكفن يكون من رأس المال، وأنه يقدم على غيره بحيث لو ضاقت التركة ولم تكف إلا للكفن فإنه يكفن بها، ولا يعطاها أصحاب الدين إذا كان عليه دين.
وكما أن كسوته في حال الحياة مقدمة على الديون فكذلك في حال الموت فإن كفنه مقدم.
وأما المحرمة إذا ماتت في حال إحرامها فإنها تكفن في ثيابها التي أحرمت بها.(372/15)
شرح حديث الرجل الذي وقصته راحلته من طريق ثانية وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن حرب ومحمد بن عبيد المعنى، قالا: حدثنا حماد عن عمرو وأيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه قال: (وكفنوه في ثوبين)].
أورد رواية فيها: (كفنوه في ثوبين)، وهذا مطلق، أي: أنهما قد يكونان ثوبي الإحرام وقد يكونان غيرهما، لكن جاء في الرواية السابقة: (في ثوبيه) أي: أنه يكفن في نفس إحرامه الذي عليه.
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومحمد بن عبيد].
هو محمد بن عبيد بن حساب، وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد].
هو ابن زيد بن درهم، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو].
هو عمرو بن دينار وقد مر ذكره.
[وأيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن جبير عن ابن عباس].
قد مر ذكرهما.
[قال أبو داود: قال: سليمان: قال: أيوب: (ثوبيه)، وقال: عمرو: (ثوبين)].
وهذا اختلاف في الروايات، ففي بعضها: (ثوبين)، وفي بعضها: (ثوبيه).
[وقال ابن عبيد: قال: أيوب: (في ثوبين)، وقال: عمرو: (في ثوبيه)، زاد سليمان وحده: (ولا تحنطوه)]، الحنوط: شيء يوضع مع الميت في كفنه، وهذا بمعنى قوله: (لا تقربوه طيباً).(372/16)
شرح حديث الرجل الذي وقصته راحلته من طريق ثالثة وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا حماد عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه بمعنى سليمان: (في ثوبين)].
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا حماد عن أيوب عن سعيد عن ابن عباس].
قد مر ذكرهم جميعاً.(372/17)
شرح حديث الرجل الذي وقصته راحلته من طريق رابعة وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (وقصت برجل محرم ناقته فقتلته، فأُتي به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: اغسلوه، وكفنوه، ولا تغطوا رأسه، ولا تقربوه طيباً؛ فإنه يبعث يهل)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهو كالسابق.
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن المعتمر، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحكم].
هو الحكم بن عتيبة، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن جبير عن ابن عباس].
سعيد وابن عباس قد مر ذكرهما.(372/18)
الأسئلة(372/19)
متى يكون الثناء على الميت?
السؤال
كيف يكون الثناء على الميت؟ ومتى يثنى عليه؟ هل عند السماع بخبر موته أو عند دفنه؟
الجواب
ليس لذلك وقت معين، فيمكن أن يكون عند السماع، أو عند الدفن، فكل ذلك جائز، ولا يتكلم إلّا من يعرف حاله، ومن لا يعرف حاله يسكت، أو يستغفر له ويسكت.(372/20)
الصلاة على القبر إذا كان قديماً من خصوصياته صلى الله عليه وسلم
السؤال
لماذا جعلنا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم الصلاة على القبر إذا كان قديماً كما فعل في قتلى أحد، ولم نجعل من خصوصياته إذا كان القبر حديثاً؟
الجواب
لأنه صلى على القبر الذي كان رطباً كما مر بنا، وصفوا وراءه فصلى بهم وصلوا معه، وإن لم يأت ما يدل على أنهم صلوا معه فإن ما يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم تفعله أمته، ولكنه لما جاء في الحديث: (كالمودع للأحياء والأموات) دل ذلك على أنه خاص به، وأما نحن فلا نفعل ذلك، فلا يذهب أحدنا ويصلي على القبور مودعاً للأحياء والأموات.
فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أخبر بقرب أجله، وأما نحن فلا ندري متى آجالنا.(372/21)
حكم منع الحمل مؤقتاً
السؤال
هناك امرأة تعيش مع أهل زوجها في بيت ضيق، ولها ثلاثة أولاد ينامون معها في غرفتها، فهل يجوز لها أن تمنع الحمل مؤقتاً حتى تستقل في بيت خاص؟
الجواب
المكان الذي يترتب عليه مضرة فيما يتعلق بالحمل وتربية الأولاد من ناحية أنهم يولدون كل سنة، فقد تلد والشخص الذي قبله لم يمش بعد، فلها أن تعمل شيئاً يؤخر الحمل ولا يقطعه.
وأما قضية كونهم في حجرة واحدة فيمكن أن تنجب أكثر من ثلاثة أولاد وليس في ذلك بأس، بل الأولى أن تفرح بكثرة الولد.(372/22)
حكم الوليمة للختان
السؤال
هل يشرع للختان وليمة؟
الجواب
لا نعلم شيئاً يدل على مشروعيتها، لكن إذا فُعل شيء من ذلك فليس هناك ما يمنعه.(372/23)
إقامة الحدود من خصوصية الحاكم والوالي
السؤال
حدثت في إندونيسيا حادثة كبرى، وهي: إقامة الحد على الزاني بالرجم، وقد أقامتها بعض الجماعات الجهادية المنتمية إلى الدعوة السلفية، وقد كان الزاني من أتباع تلك الجماعة، وقد اعترف بما فعل، ورضي بما حُكم عليه، فما رأيكم بهذا يا فضيلة الشيخ؟
الجواب
الحدود يقيمها السلطان والوالي، ولا يقيمها أشخاص ليسوا بأهل سلطة ولا ولاية.(372/24)
صلاة الرجل مع غيره جماعة تصدقاً عليه
السؤال
هل يجوز لمن صلى صلاة الجماعة في المسجد أن يصلي مع رجل فاتته الجماعة في البيت قياساً على من تصدق على رجل في صلاته معه في المسجد؟
الجواب
الذي يبدو أنه جائز، فهذه جماعة وتلك جماعة، ولا شك أن الجماعة في المسجد أفضل؛ لأنها أولى، وإذا صلى معه تطوعاً وقد فاتته الصلاة فإنه يكون محسناً إليه، فلا بأس بذلك.(372/25)
رأس الميت يكون عن يمين الإمام رجلاً كان أو امرأة
السؤال
هل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل رأس الميت في صلاة الجنازة عن يسار الإمام، ورأس المرأة عن يمينه؟
الجواب
كلهم يكونون عن يمينه، مثل وضعهم في القبر، ومثله لو صلى عليهم وهم في القبر، فإن الميت يكون في القبر مستقبل القبلة، وما نعرف شيئاً يدل على خلاف ذلك.(372/26)
حكم وضع حجرين على القبر كعلامة
السؤال
هل يجوز وضع حجرين على القبر من أجل العلامة، أحدهما عند الرأس، والآخر عند الرجلين؟
الجواب
الذي يبدو أنه لا بأس بذلك.(372/27)
حكم أكل الدجاج المستورد
السؤال
ما حكم أكل الدجاج المستورد من الخارج علماً أنها من ذكاة المشركين الكفار؟
الجواب
المشركون الوثنيون غير أهل الكتاب لا تحل ذبائحهم، وأما إذا كانوا أهل كتاب فإن ذبائحهم تحل، إلا إذا عرف أنهم يذبحون ذبحاً غير شرعي، أي: غير الذبح الذي جاء في شريعتنا، كأن يخنقوها خنقاً أو تكون ميتة، فالمسلم لو فعل ذلك فإنها لا تؤكل ذبيحته فما بالك بالكتابي.
وأما إذا كانوا يصعقونها: فإن كانت تموت بالصعق فلا تحل، وأما إذا كان الصعق لا يميتها ولكنه يخدرها، فتبقى حية، وتبقى لها قوتها ونشاطها وحركتها، وتبقى الحياة مستقرة فيها، فلا بأس بذلك.
ولا يؤخذ بما هو مكتوب عليها من أنها ذُبحت على الطريقة الإسلامية؛ لأنهم يكتبون ذلك على علب الأسماك!!(372/28)
حكم وضع حجر على قبر الرجل وحجرين على قبر المرأة
السؤال
هل هناك دليل على التفرقة بين القبرين من حيث وضع حجر على قبر الرجل، وحجرين على قبر المرأة؟
الجواب
لا نعلم شيئاً يدل على ذلك، ولكن إذا وضع حجران ليتعرف عليه الإنسان، وفي نفس الوقت أيضاً ليكون تحديداً للقبر وأطرافه بحيث يُعرف ولا يوطأ فلا بأس بذلك.
والذي جاء في أصل الإعلام هو وضع حجر واحد، فقد مر بنا في الحديث: (أعلمه بحجر، فكانت تلك الحجر صخرة كبيرة لم يستطع الرجل أن يحملها فحسر الرسول عليه الصلاة والسلام عن ذراعيه وحملها ووضعها عند رأسه).(372/29)
حكم الدعاء بعد التكبيرة الرابعة في الصلاة على الصبي
السؤال
هل نقول عند الصلاة على الطفل بعد التكبيرة الرابعة: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله؟
الجواب
نعم يقال ذلك، وقد جاء في الحديث: (اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا)، فيقال بالذي ورد.(372/30)
حكم الوضوء في غسل الجنابة
السؤال
هل الوضوء واجب عند غسل الجنابة؟
الجواب
إذا أراد الإنسان أن يغتسل من الجنابة فالمستحب له أن يتوضأ ثم يغتسل، ولكنه إذا اغتسل فلا يمس -في حال الاغتسال- ذكره؛ لأن ذلك ينقض الوضوء، وإذا صب الماء على جسده ونوى بذلك رفع الحدث الأكبر والأصغر فإنه يصح، ويغني ذلك عن كونه يتوضأ؛ لأن الكل لرفع الحدث، ولكن ذلك لا يصح في مثل غسل الجمعة أو غسل التبرد؛ لأن هذين ليس فيهما رفع للحدث، والأكمل أن يتوضأ ويغتسل.(372/31)
عدم صحة حديث: (اختلاف أمتي رحمة)
السؤال
هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اختلاف أمتي رحمة)؟
الجواب
لم يصح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(372/32)
حكم تسمية الطفل والعق عنه والصلاة عليه إذا ولد لسبعة أشهر ميتاً
السؤال
إذا خرج الطفل من بطن أمه ميتاً وله سبعة أشهر، فهل يسمى، ويعق عنه، ويصلى عليه؟
الجواب
نعم، يصلى عليه، والأولى أن يعق عنه، وأما التسمية فليس لها وجه؛ لأنه ليس بحي حتى يسمى ويدعا وينادى.(372/33)
كيفية وضع يدي الميت بعد موته
السؤال
ما الصحيح في كيفية وضع يد الميت، فإننا في مجتمعنا نضع يد الميت اليمنى على اليسرى على صدره، وقد قال بعض الناس: إن ذلك بدعة، فهل هذا صحيح؟
الجواب
لا نعلم شيئاً يدل على أن يديه توضع على صدره، وإنما تكون على وضعهما الطبيعي، فتوضع بجنبيه ممتدتين، وكل واحدة لاصقة بجنبه.(372/34)
معنى قوله تعالى: (كل شيء هالك إلّا وجهه)
السؤال
قال الله جل وعلا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، فهل اليدان والعينان وغير ذلك من صفات الله داخلة في هذا المستثنى؟
الجواب
هذه الآية الكريمة تدل على إثبات صفة الوجه لله عز وجل، وتدل على بقاء الله عز وجل بذاته ومنها صفة الوجه، والله تعالى باق بذاته وصفاته، ولا يقال: إن البقاء إنما هو للوجه فقط، وإنما هو للذات والصفات.(372/35)
الفرق بين التسطيح والتسنيم في القبر
السؤال
لو تزيدنا إيضاحاً في بيان الفرق بين التسطيح والتسنيم؟
الجواب
التسنيم: هو أن يكون أعلى القبر ضيقاً، وأسفله واسعاً كالهرم، وهو أيضاً مثل سنام البعير.
فلو نظرت إلى البعير لوجدت بطنه واسعة، ثم يضيق شيئاً فشيئاً حتى يصل إلى مكان ضيق أعلى السنام، بحيث إنه لو نزل عليه المطر لذهب ولم يستقر، وهكذا القبر المسنّم.
وأما إذا كان مسطحاً فإن الماء يستقر عليه، ويكون فيه مجال للحيوانات كالكلاب وغيرها أن تبرك وتربض عليه، فإذا كان مسطحاً فإنه يكون أسلم وأبقى له.(372/36)
سماع الأموات عند السلام عليهم
السؤال
هل يسمع الميت عندما يسلم عليه؟
الجواب
لا أعلم شيئاً يدل على هذا.(372/37)
حكم دفن الميت بنعشه
السؤال
ما حكم دفن الميت بنعشه؟
الجواب
لا يفعل ذلك؛ فإن النعش يبقى للناس يحملون عليه، ثم إن دفن النعش -مع أنه لا أصل له- فإنه يضيق القبر، فإن القبر يحفر على قدر الإنسان، والنعش يحتاج إلى مساحة كبيرة، ولذلك فإنه يضيق القبر، فيترتب عليه توسيع اللحد، بالإضافة إلى كونه ليس له أساس، ثم ما هي الفائدة منه؟!(372/38)
حكم العمليات الاستشهادية
السؤال
ما قولكم فيمن يقوم بعملية الانتحار من بعض الشباب الفلسطينيين، هل يعتبر شهيداً أم منتحراً؟
الجواب
الذي يقوم بعملية التفجير بنفسه هو منتحر، ولا يوصف بأنه شهيد.
وقد توسع الناس الآن في إطلاق الشهادة، فكل من يموت يقال: استشهد، وقد يكون هؤلاء الذين ماتوا نصارى، ومع ذلك يقال عنهم: إنهم شهداء، نعم هم شهداء النار، فليس أمامهم إلا النار يشهدونها ويحضرونها، وأما الجنة فلا سبيل لهم إليها، أعني النصارى والكفار الذين يموتون على ذلك.
فصارت الشهادة الآن سهلة تعطى لكل أحد.(372/39)
حكم قول أنا مؤمن إن شاء الله بقصد التحقيق
السؤال
ما حكم قول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله، بقصد التحقيق؟
الجواب
كان السلف يقولون: أنا مؤمن إن شاء الله، والمقصود من ذلك عدم تزكية النفس، فالإيمان صفة كمال، وهو أعلى من درجة الإسلام.
فالمسلم إذا قيل له: أنت مسلم؟ قال: نعم أنا مسلم والحمد لله، لكن إذا قيل له: أنت مؤمن؟ فإنه يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أي: أرجو أن أكون من أهل هذه الصفة التي هي صفة كمال.(372/40)
الثناء على الميت بالشر لا يُعدّ غيبة
السؤال
قوله في الحديث: (فأثنوا عليها شراً) هل يفهم من ذلك جواز الكلام على الميت؟ وهل يعتبر ذلك غيبة له؟
الجواب
لا يعتبر ذلك غيبة له إذا ذكره بصفاته الذميمة، أو بشيء مما هو فيه؛ حتى يجتنبه الناس ويبتعدوا عنه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة على الثناء بالخير والثناء بالشر.(372/41)
حكم قول جرت عادة الله بكذا
السؤال
ما حكم التعبير بهذه العبارة: جرت عادة الله بكذا وكذا؟
الجواب
التعبير بمثل هذه العبارة ليس بجيد.(372/42)
ما يفعل عند زيارة من هو في سكرات الموت
السؤال
إذا ذهبت لزيارة أحد المرضى فوجدته في سكرات الموت فما الذي ينبغي عليّ أن أفعله وأقوله؟
الجواب
كما هو معلوم أن الميت إذا كان في سكرات الموت وروحه تنزع فإنه ليس هناك مجال كي يلقن الشهادة، ولا تنفع في ذلك الوقت، فما ينفعه الإيمان في ذلك الوقت إذا لم يكن قد آمن من قبل، وأما إذا كان يعقل فتذكر عنده لا إله إلا الله؛ حتى يقولها فتكون آخر كلامه.
وأما إذا لم يؤمن قبل ذلك فلن ينفعه أن يؤمن في سكرات الموت، وأما إذا لم يغرغر فإن توبته تقبل، وأما إذا غرغر فلا ينفعه ذلك كما حصل لفرعون؛ فإنه لما قال: آمنت، قيل له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91].(372/43)
أبوا النبي صلى الله عليه وسلم ليسا من أهل الفترة
السؤال
هل يدخل أبوا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] فيكونان من أهل الفترة؟
الجواب
لا يدخلان في ذلك؛ لأن الرسالة كانت موجودة في عهدهما، وكان هناك مؤمنون على دين إبراهيم، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتحنث على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام قبل أن يبعث، فالدين إذاً كان موجوداً، وهناك من كان متمسكاً به، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنهما في النار.(372/44)
حكم زيارة قبر أمّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما رأيكم فيمن يزور قبر أم النبي صلى الله عليه وسلم الآن، ويقول: إن ذلك سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ويشد الرحل لذلك؟
الجواب
لا يجوز شد الرحل لأجل ذلك، وأما إذا مر الإنسان وتذكر الموت فلا بأس به، ولا يدعو، فإن الفائدة من زيارة قبور الكفرة هي تذكر الموت لا الدعاء لهم.
أما هؤلاء الذين فُتنوا فيعتقدون أنها مؤمنة، فإنهم يذكرون في ذلك أشياء ساقطة ليس لها قيمة، وقد ذكرها بعض العلماء، ومن ذلك: أن الله تعالى أحيا أبوي النبي صلى الله عليه وسلم فآمنا به!! ولو كان هذا أمراً ثابتاً لنقل، ولصار أمراً خارقاً للعادة يتناقله الناس، ولم يأت شيء صحيح من ذلك، بل الذي جاء من طرق صحيحة أنهما في النار، كما رواه مسلم في صحيحه.(372/45)
حكم السلام على القبور من خارج المقبرة
السؤال
هل تصح الزيارة والسلام من خارج المقبرة؟
الجواب
نعم تصح، فإذا كان على القبور سور فرآها وشاهدها وسلم عليهم السلام المشروع من خارج السور كفى، وليس بلازم أن يدخل إلى المقبرة.(372/46)
شرح سنن أبي داود [373]
اليمين هو توكيد الشيء بذكر معظم، ولذا لا يجوز أن يكون إلا بالله عز وجل، ولا يجوز الحلف بالله عز وجل إلا على صدق، كما أنه ينبغي عدم الإكثار من الأيمان وإن كانت على صدق، أما إن كانت على كذب وباطل فقد جاء الوعيد الشديد في ذلك، واليمين والنذر متقاربان، وكفارتهما واحدة، كما أن الكفار مخاطبون بأصول الشريعة وفروعها.(373/1)
التغليظ في الأيمان الفاجرة(373/2)
شرح حديث (من حلف على يمين مصبورة كاذباً فليتبوأ بوجهه مقعده من النار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الأيمان والنذور.
باب التغليظ في الإيمان الفاجرة.
حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من حلف على يمين مصبورة كاذباً فليتبوأ بوجهه مقعده من النار)].
قوله: [كتاب الأيمان والنذور] الأيمان: جمع يمين، والنذور: جمع نذر، واليمين المقصود به الحلف والقسم، وقيل للحلف يميناً لأنهم كانوا عند الحلف يضع الشخص يمينه بيمين الآخر، أو يده بيد الآخر، من أجل التوثيق والتأكيد للشيء الذي يحلف عليه، فلذلك لها: يمين.
واليمين شرعاً: توكيد الشيء بذكر اسم الله أو صفته، يقول: والله، والرحمن، والرحيم، والعزيز، والحكيم، واللطيف، والخبير، وهذه أسماء، أو يقول: وحياة الله، وجلال الله، وعظمة الله، وعزة الله، وكلام الله، ويد الله، وغير ذلك من صفات الله عز وجل، فيؤكد الشيء بذكر اسم الله عز وجل عليه أو صفته، ويكون ذلك بالأسماء والصفات، والحلف بأسماء الله وصفاته هو حلف بالله عز وجل؛ لأن أسماء الله يحلف بها وصفات الله يحلف بها، والحالف بذلك يكون حالفاً بالله؛ لأن الله عز وجل بذاته وأسمائه وصفاته هو الخالق ومن سواه مخلوق، فلا يحلف إلا بالله سبحانه وتعالى، ولا يكون الحلف مقصوراً على لفظ الله، بل الذي يحلف بصفات الله وأسمائه يكون حالفاً بالله؛ لأن الحلف بالله هو الحلف بأسمائه وصفاته، وليس مجرد لفظ الجلالة الذي هو (الله)، وإنما هذا الاسم هو أعظم الأسماء وأصل الأسماء الذي تضاف إليه الأسماء وتتبعه.
فالحلف بالأسماء والصفات هو حلف بالله عز وجل.
وأما النذور فهي جمع نذر، والنذر: هو أن يوجب الإنسان على نفسه ما ليس واجباً عليه لحدوث أمر، كأن يقول: إن حصل كذا فلله علي كذا وكذا، أو إذا تحقق كذا أو وجد كذا فلله علي كذا وكذا، فالناذر يلزم نفسه بشيء ليس بلازم عليه، لكن هذا الإلزام يكون مبنياً على حصول شيء، ومضافاً إلى حصول شيء، كأن يقول: إن شفى الله مريضي فلله علي كذا، أو إن رد الله غائبي فلله علي كذا، ونحو ذلك.
ويجمع بين الأيمان والنذور في الكتب للتقارب بينها، ولأن النذر أيضاً جاء في بعض الأحاديث: (كفارته كفارة يمين)، ولهذا صار العلماء يجمعون بين الأيمان والنذور في كتاب واحد، كما فعل أبو داود، وكما فعل البخاري وغيرهما؛ فإنهم يجمعون بين هذا وهذا فيقولون: كتاب الأيمان والنذور.
قوله: [باب التغليظ في الأيمان الفاجرة]، الفاجرة: هي الكاذبة التي هي مبنية على كذب، وهي اليمين الغموس، واليمين الغموس هي التي تغمس صاحبها في الإثم، وقيل لها: فاجرة بمعنى كاذبة؛ لأن الحالف كاذب في حلفه، وهي تكون عن خبر وليس فيها كفارة، وإنما على الإنسان أن يتوب إلى الله عز وجل ويستغفر ويندم مما قد حصل منه.
وأما الأيمان المعقودة على أمر مستقبل فهذه هي التي تكون فيها كفارة إذا حنث فيها، فإذا لم يف بما حلف عليه فإنه يكفر عن يمينه، كما جاء في الحديث: (فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير) فإذا حلف الإنسان على يمين ورأى غيرها خيراً منها فيكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير.
فالكفارة تكون عن الإيمان المعقودة التي يؤتى بها لأمر مستقبل، أو لأمر يفعله، أو أمر لا يفعله، ثم بعد ذلك يظهر له أن المصلحة في الفعل أو عدم الفعل -وهو الحنث- فإنه يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير.
والكفارة ذكرها الله عز وجل في كتابه العزيز وهي: عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، وإذا لم يستطع لا هذا ولا هذا فإنه ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام، هذه هي كفارة الإيمان التي شرعها الله عز وجل في كتابه العزيز.
وقد أورد أبو داود حديث عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين مصبورة كاذباً فليتبوأ بوجهه مقعده من النار).
وهذا هو المقصود من قوله: (التغليظ في الأيمان الفاجرة) أي: أن أمرها خطير، وأنه ورد فيها زجر ووعيد شديد، فهذا هو المقصود بالتغليظ، والتغليظ هو في قوله: (فليتبوأ بوجهه مقعده من النار)، وهذا يدل على خطورة هذا الأمر، وأن فيه الوعيد الشديد، وأن أمره خطير تُوعد عليه بهذه العقوبة الشديدة العظيمة التي هي أنه يتبوأ بوجهه مقعده من النار.
واليمين المصبورة: هي التي يصبر لها الإنسان ويلزم بها في الحكم، كأن يلزم القاضي شخصاً بأن يحلف على أمر من الأمور فيحلف، فإن هذا يقال له: يمين صبر أو يمين مصبورة؛ لأنه حبس عليها وألزم بها، وليست من قبيل لغو اليمين، كقول الإنسان: لا والله وبلى والله، وإنما المقصود من ذلك يمين يترتب عليها حكم، ويلزم القاضي الشخص بأن يحلف فيحلف، ويترتب على ذلك تحصيل شيء محلوف عليه هو كاذب فيه، فيصل إليه شيء لا يستحقه بسبب اليمين، فيتبوأ مقعده من النار بسبب ذلك.
وقوله: (من حلف على يمين مصبورة كاذباً فليتبوأ بوجهه مقعده من النار)، أي: أنه يكب على وجهه، وأنه يستعد لهذا المكان الذي هيئ له والذي يكب فيه على وجهه في النار والعياذ بالله! وكونه يقع في النار على هذا الوجه الذي فيه إذلال وإهانة، ويكب على أشرف شيء فيه، لا شك أن هذا فيه ذل وهوان، وفيه زيادة في العقوبة، ولهذا يقول الله عز وجل: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22]، فالذي يسحب على وجهه في النار -والعياذ بالله- وهو أشرف شيء فيه، معناه: أنه بلغ الغاية في الذلة والإهانة والعياذ بالله.(373/3)
تراجم رجال إسناد حديث (من حلف على يمين مصبورة كاذباً فليتبوأ بوجهه مقعده من النار)
قوله: [حدثنا محمد بن الصباح البزاز].
محمد بن الصباح البزاز ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يزيد بن هارون].
هو يزيد بن هارون الواسطي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا هشام بن حسان].
هشام بن حسان ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن سيرين].
محمد بن سيرين ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمران بن حصين].
عمران بن حصين رضي الله عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهذا الإسناد كل رجاله أخرج لهم أصحاب الكتب الستة.(373/4)
من حلف يميناً ليقتطع بها مالاً لأحد(373/5)
شرح حديث (من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن حلف يميناً ليقتطع بها مالاً لأحد.
حدثنا محمد بن عيسى وهناد بن السري المعنى قالا: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان)، فقال الأشعث رضي الله عنه: في والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ألك بينة؟ قلت: لا، قال: لليهودي: احلف، قلت: يا رسول الله! إذاً يحلف ويذهب بمالي، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران:77]، إلى آخر الآية)].
قوله: [باب فيمن حلف يميناً ليقتطع بها مالاً لأحد]، أي: ليأخذ مالاً لغيره بسبب يمين هو فيها فاجر كاذب، فمن أجل أن يحصل على مال غيره حلف هذه اليمين، وهذا أمره خطير، وقد توعد من كان كذلك بالعقوبة الشديدة، فقد ورد في حقه وعيد شديد، ولهذا جاء في هذا الحديث: (لقي الله وهو عليه غضبان)، أي: من يفعل كذلك، ففيه تغليظ شديد في هذا الأمر.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن مسعود والأشعث بن قيس رضي الله تعالى عنهما في ذلك، أما عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان).
وهذا يدل على عقوبته، وأن فعله هذا يكون سبباً في غضب الله عليه، وفيه أيضاً إثبات صفة الغضب لله، فنثبت صفة الغضب لله عز وجل على ما يليق بكماله وجلاله كسائر الصفات، حيث يجب إثبات كل ما جاء في الكتاب والسنة من الأسماء والصفات لله تعالى على وجه يليق بكماله وجلاله دون تشبيه بخلقه، ودون تأويل أو تعطيل أو تكييف، بل على حد قول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
فهذا يدل على خطورة الحلف على الكذب والفجور، ويدل أيضاً على أن كون الإنسان يأخذ مال غيره بالحلف الفاجر الكاذب أن ذلك يؤدي إلى غضب الله عليه يوم يلقاه، فيكون مستحقاً للوعيد الذي يعاقبه الله تعالى به.
قوله: [قال الأشعث بن قيس: في والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني، فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ألك بينة؟ قلت: لا، قال لليهودي: احلف.
قلت: يا رسول الله! إذاً يحلف ويذهب بمالي، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} [آل عمران:77])].
أي: أن هذا الذي جاء في هذا الحديث: (أن من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وعليه غضبان)، حصل للأشعث شيء من هذا القبيل، حيث قال: (كان بيني وبين يهودي أرض فجحدها اليهودي، فرفعته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ألك بينة؟ قلت: لا، قال لليهودي: احلف.
فقلت: إذاً يحلف، ويذهب بمالي) أي: ما دام أن المسألة مجرد حلف فإنه سيحلف ويأخذ مالي، قال: فأنزل الله هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77]، فهذه الآية تدل على عقوبة من اشترى بعهد الله وباليمين الفاجرة الكاذبة شيئاً قليلاً من حطام الدنيا، سواء كان قليلاً أو كثيراً، فإن هذه عقوبته، وسوف يلقى الله عز وجل فلا يكلمه ولا ينظر إليه ولا يزكيه، وله عذاب أليم، فيحصل له هذا الوعيد الشديد الذي جاء في هذه الآية الكريمة، وفي هذا الحديث الشريف عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته وعليه.(373/6)
تراجم رجال إسناد حديث (من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
هو محمد بن عيسى الطباع، وهو ثقة أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأبو داود، والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[وهناد بن السري].
هو هناد بن السري أبو السري، وهو ثقة أخرج حديثه البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[المعنى].
يعني: أن هذين الشيخين لم يتفق لفظ الحديث عندهما في كل شيء، وإنما هو متفق من حيث المعنى.
[قالا: حدثنا أبو معاوية].
هو محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شقيق].
هو شقيق بن سلمة أبو وائل، وهو مشهور بكنيته واسمه، فيذكر بالكنية أحياناً فيقال: أبو وائل، وأحياناً يذكر باسمه فيقال: شقيق كما هو هنا، وهو ثقة مخضرم، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله].
هو عبد الله بن مسعود الهذلي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد فقهاء الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[فقال الأشعث].
هو الأشعث بن قيس النخعي، صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(373/7)
بيان أن الكفار مخاطبون بأصول الشريعة وفروعها
هذا الحديث فيه دلالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، والقول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة هو القول الصحيح؛ والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم، لكن القول الصحيح هو أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، لكن ليس معنى ذلك أنهم لو أتوا بالفروع ولم يأتوا بالأصول أنها تقبل منهم، فإنها لا تقبل إذا لم يوجد الإيمان والتوحيد، كما قال الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، ولكن فائدة الخطاب هو الزيادة في العذاب والعقاب؛ لأن الكفار متفاوتون فليسوا على حد سواء، فهم دركات في النار، كما أن أهل الجنة في الجنة درجات بعضهم فوق بعض، فهؤلاء بعضهم أنزل من بعض، وبعضهم أشد عذاباً من بعض، وإن كان أسفلهم وأخفهم عذاباً يرى أنه لا أحد أشد منه عذاباً، ولكن هم في النار دركات، ومعلوم أن من كفر ولم يحصل منه إيذاء للمسلمين فهو أخف ممن كفر وصد عن سبيل الله، ولهذا يقول الله عز وجل: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88]، فالكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وهم مطالبون بالفروع، ولكنهم مطالبون قبلها بالأصول، ويعاقبون على عدم الإتيان بالأصول والفروع، والفروع لو أتوا بها دون الأصول فإنها لا تقبل منهم.(373/8)
شرح حديث (لا يقتطع أحد مالاً بيمين إلا لقي الله وهو أجذم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمود بن خالد حدثنا الفريابي حدثنا الحارث بن سليمان حدثني كردوس عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه: (أن رجلاً من كندة ورجلاً من حضرموت اختصما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أرض من اليمن، فقال الحضرمي: يا رسول الله! إن أرضي اغتصبنيها أبو هذا وهي في يده، قال: هل لك بينة؟ قال: لا، ولكن أحلفه، والله يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه، فتهيأ الكندي لليمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يقتطع أحد مالاً بيمين إلا لقي الله وهو أجذم، فقال الكندي: هي أرضه)].
أورد أبو داود حديث الأشعث بن قيس رضي الله عنه: (أن رجلاً من كندة ورجلاً من حضرموت اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم) وكندة: قبيلة كبيرة في اليمن، وحضرموت: أرض في اليمن، فهذا منسوب إلى قبيلته، وهذا منسوب إلى أرضه وبلده حضرموت: (فقال الحضرمي: إن أرضي اغتصبها أبو هذا وهي في يده) يعني: بيد هذا الشخص الذي يخاصمه، ويريد أن يحصل عليها.
قال: (هل لك بينة؟ قال: لا.
ولكن أحلفه) وهذا فيه أن المدعي هو الذي عليه البينة، وهو الذي يُطالب بالبينة؛ لأنه ادعى على غيره أن عنده حقاً، أو أن له عليه حقاً، فإن أقر المدعى عليه فلا يحتاج الأمر إلى شيء، ولكن إن أنكر طولب المدعي بالبينة، فإن أتى بالبينة حكم بها، وإن لم يؤت بها حلف المدعى عليه وبرئت ساحته إن حلف، وإن نكل قضي عليه بالنكول، يعني: ما دام أنه لم يحلف، والواجب والمتعين عليه أن يحلف، فإنه يحكم عليه، وإن حلف خلي سبيله.
والخصومة بينهم ستكون عند الله عز وجل إذا كان أخذ مالاً بغير حق، ولكن في الدنيا وفي الظاهر ليس هناك إلا البينات من قبل المدعين والإيمان من قبل المدعى عليهم.
وقوله: (ولكن أحلفه) يعني: أنه مستقر عنده أن اليمين على المدعى عليه؛ لأن المدعي ليس عنده بينة، فيطلب يمين المدعى عليه.
قوله: (والله يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه)، هذا تأكيد لقوله بأنه أرضه، وأضاف ذلك إلى أن الله تعالى يعلم، وأنه عالم بكل شيء، وأن الذي يعلمه الله عز وجل أنها أرضي، وهذا فيه تأكيد، وفيه أن الإنسان يضيف العلم إلى الله تعالى، وأن الله تعالى يعلم أن هذا هو الواقع، والله تعالى يعلم كل شيء، وهذا مما يعلمه الله على حقيقته؛ لأن الله يعلم كل شيء على ما هو عليه، والناس قد يحصل منهم ذكر الشيء على غير حقيقته، والله يعلم المحق من المبطل والكاذب من الصادق.
وفي بعض النسخ زيادة: (والله ما يعلم أنها أرضي)، وشرحها بعض الشراح فقال: إنه يريد أن يحلف بهذه الصيغة بأن يقول: (والله! ما يعلم أنها أرضي)، لكن يبدو -والله أعلم- أنه بدون (ما) أوضح؛ لأنه قال بعدها: (والله يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه)، أي: أن الله تعالى يعلم هذا وهذا، يعلم أنها أرضه، ويعلم أن أباه أغتصبها.
إذاً: بدون (ما) أوضح، وإذا كانت بـ (ما) فتفسيرها كما قال بعض الشراح: أنه يحلف بهذه الصيغة، يعني: أحلفه بأن يقول: (والله! ما يعلم أنها أرضي).
وقوله: (فتهيأ الكندي لليمين)، يعني: استعد أن يحلف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقتطع أحد مالاً بيمين إلا لقي الله وهو أجذم)، وقد فسر هذا بأنه ناقص البركة، أو فاقد البركة أو غير ذلك.
وقوله: (فقال الكندي: هي أرضه) أي: أنه كان مبطلاً، ولكن لما سمع بهذا الوعيد ترك تلك الأرض خوفاً من الله عز وجل، فقال: هي أرضه، فأخذها.(373/9)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يقتطع أحد مالاً بيمين إلا لقي الله وهو أجذم)
قوله: [حدثنا محمود بن خالد].
هو محمود بن خالد الدمشقي، وهو ثقة أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الفريابي].
هو محمد بن يوسف الفريابي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الحارث بن سليمان].
الحارث بن سليمان صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثني كردوس].
هو كردوس الثعلبي، وهو مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والنسائي.
[عن أشعث بن قيس].
أشعث بن قيس رضي الله عنه قد مر ذكره.
وهذه القصة غير القصة السابقة، فهذه فيها أن رجلاً من كندة ورجلاً من حضرموت اختصما وفي الأولى قال: (كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني)، فالأولى تتعلق به، وهو أحد الطرفين فيها، وأما الثانية فليس طرفاً فيها، وإنما يخبر عن شيء حصل عند النبي صلى الله عليه وسلم وأن الخصمين اختصما، وأن أحدهما قال كذا والثاني قال كذا، فهذه قصة، وتلك قصة أخرى.(373/10)
شرح حديث (جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى رسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن علقمة بن وائل بن حجر الحضرمي عن أبيه رضي الله عنه قال: (جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول الله! إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق، قال: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا.
قال: فلك يمينه، قال: يا رسول الله! إنه فاجر لا يبالي ما حلف عليه، ليس يتورع من شيء، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ليس لك منه إلا ذاك، فانطلق ليحلف له، فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما لئن حلف على مال ليأكله ظالماً ليلقين الله عز وجل وهو عنه معرض)].
أورد أبو داود حديث وائل بن حجر رضي الله عنه وفيه: (أن رجلاً من حضرموت ورجلاً من كندة اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الحضرمي قال: إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها، ليس له فيها حق)، يعني: هي في حوزتي وتحت تصرفي وتحت يدي، ويدي مستولية عليها، فهي لي، وأنا مالكها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ألك بينة)، ولم يكن عنده بينه، فقال له: (فلك يمينه) فقال: إنه فاجر وسيحلف ويأخذ حقي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس لك منه إلا ذاك)، يعني: إذا لم يكن عندك بينة، فليس هناك إلا اليمين، وليس لك منه إلا ذلك، فإن حلف فإنها تبقى في حوزته، وإن عدل عن الحلف فإنه يسلمها إليك.
قال: (فانطلق ليحلف له، فلما أدبر قال عليه الصلاة والسلام: (أما لئن حلف على مال ليأكله ظالماً ليلقين الله عز وجل وهو عنه معرض)، وهذا وعيد شديد في حق من حلف على يمين كاذبة من أجل أن يقتطع بها حق غيره، فمن فعل ذلك فإنه يلقى الله وهو معرض عنه.
وهذه القصة عن وائل بن حجر، وتلك عن الأشعث، فيحتمل أنهما قصتان ويحتمل أن تكون قصة واحدة واختلفت فيها الرواية، لكن هذه القصة ليس فيها أنه اعترف بأنها أرضه، وأما السابقة ففيها أنه اعترف وقال: هي أرضه، وتركها، وفي الأولى قال: إنها لأبي وأبوه اغتصبها، وأما هنا فقال: إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي.
فإذا كانت هي نفس القصة الأولى فسيكون معنى قوله: (غلبني) أنها في يده ولم يمكني منها، وفي الحديث الأول أن أباه هو الذي غصبها، وهذا قام مقام أبيه، فيحتمل أن يكون أبوه -كما جاء في الحديث الأول- هو الذي أخذها وهذا ورثها، وأضيف إليه هنا أنه غلبه عليها على اعتبار أنه تمسك بها ولم يمكنه منها، فقال: إنه غلبه عليها وإن كان أصل الاغتصاب من أبيه، وهنا كأن الاغتصاب منه هو وأنه غلبه عليها، فيحتمل أن تكون قصتين، وأن تكونا قصة واحدة، ويكون توجيه الكلام على اعتبار أنه أضيف إليه المغالبة، وإن لم يكن هو الغاصب، وإنما هو وارث للغاصب؛ لأنه ممتنع من تسليمها لصاحبها.
وقوله: (فانطلق ليحلف له فلما أدبر).
قال صاحب عون المعبود: لعل المقصود من ذلك أنه ذهب ليحلف عند المنبر، كما سيأتي في الحديث الذي بعد هذا، والذي فيه تغليظ الحلف عند منبره صلى الله عليه وسلم، وأنه أراد أن يذهب ليحلف في ذلك المكان.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أما لئن حلف على مال)، لا يدل على الحلف ولا على عدمه، وإنما أخبر بأنه إن حصل منه كذا فإن عقوبته كذا وكذا، لكن هل حلف أو لم يحلف لا يوجد شيء يدل عليه.(373/11)
تراجم رجال إسناد حديث (جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى رسول الله)
قوله: [حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو الأحوص].
هناد بن السري مر ذكره، وأبو الأحوص هو سلام بن سليم الحنفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سماك].
هو سماك بن حرب، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن علقمة بن وائل بن حجر].
علقمة بن وائل بن حجر صدوق، أخرج له البخاري في رفع اليدين، ومسلم وأصحاب السنن.
وذكر الحافظ أنه لم يسمع من أبيه، ولكن الصحيح أنه قد سمع من أبيه، والذي لم يسمع من أبيه هو أخوه عبد الجبار بن وائل، وأما علقمة فقد سمع، وقد أخرج له مسلم عدة أحاديث يرويها عن أبيه، ومسلم كما هو معلوم من شرطه الاتصال، وعدم الانقطاع، وكذلك جاء عن بعض العلماء أنهم أثبتوا سماعه منه، وقال الأمير علي: إنه سمع أباه، كما نص الترمذي في باب المرأة استكرهت على الزنا بقوله: علقمة بن وائل سمع من أبيه، وهو أكبر من عبد الجبار بن وائل الذي لم يسمع من أبيه.
انتهى، وعدم السماع إنما يستلزمه قول يحيى بن معين فيما ذكره الذهبي، ولعله لم يثبت، فإن الإمام مسلماً روى في منع سب الدهر حديثه عن أبيه، وعليه الجمهور، فالله تعالى أعلم.
انتهى كلامه.
قلت: وقد صرح البخاري في تاريخه وغيره أنه سمع من أبيه، فالصحيح أنه سمع من أبيه، فالحديث متصل وليس بمنقطع.
[عن أبيه].
أبوه هو وائل بن حجر رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.(373/12)
تعظيم اليمين عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم(373/13)
شرح حديث (لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في تعظيم اليمين عند منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير حدثنا هاشم بن هاشم أخبرني عبد الله بن نسطاس من آل كثير بن الصلت أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة ولو على سواك أخضر، إلا تبوأ مقعده من النار، أو وجبت له النار)].
قوله: [باب ما جاء في تعظيم اليمين عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم]، أي: تغليظها وتعظيمها في المكان، وأن ذلك قد يسبب هيبة ورهبة للشخص الحالف ويجعله يتخوف من العقوبة إذا كان كاذباً.
وقد أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة ولو على سواك أخضر، إلا تبوأ مقعده من النار)].
أي: ولو كان على شيء يسير، فكيف بالكثير؟! وذكر السواك الأخضر فيه إشارة إلى يسره وسهولته وكثرته، بخلاف اليابس؛ فإن اليابس قد ينقل من بلد إلى بلد فيكون عزيزاً نفيساً، ولكنه في المكان الذي هو فيه مبذول وحاصل بكثرة، فهو شيء يسير، فالأمر فيه خطورة ولو كان بهذه المثابة، ولذا قال: (إلا تبوأ مقعده من النار)، فهذا فيه الوعيد الشديد في حق من حصلت منه هذه اليمين الآثمة الكاذبة ولو كان على الشيء اليسير، وفيه تعظيم اليمين عند منبره صلى الله عليه وسلم.(373/14)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي، فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا ابن نمير].
هو عبد الله بن نمير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هاشم بن هاشم].
هاشم بن هاشم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عبد الله بن نسطاس].
عبد الله بن نسطاس وثقه النسائي، وحديثه أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أنه سمع جابر بن عبد الله].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(373/15)
تعظيم الحلف بعد العصر
هذا الحديث فيه تعظيم المكان، وأما تعظيم الزمان فقد جاء فيه تغليظ اليمين بعد العصر، وهذا يشعر بأن هناك تغليظاً في الوقت أيضاً، وتنصيصاً عليه، وهذا فيه إشارة إلى تعظيمه.(373/16)
حكم مطالبة الإنسان خصمه بالحلف في مكان أو زمان خاص
إن قيل: هل للإنسان أن يطالب خصمه بهذا الأمر فيقول له: احلف في هذا المكان أو في هذا الزمان؟ ف
الجواب
ليس له ذلك إلا إذا رأى القاضي ذلك، ورأى أنه لا يحلف في مكانه الذي هو فيه، فلا بأس، ومعلوم أن الحالف إذا كان كاذباً فإنه آثم ولو لم يحلف عند المنبر، فقد جاء في الحديث: (لقي الله وهو عليه غضبان) ومنها: (لقي الله وهو أجذم).(373/17)
من حلف على يمين كاذباً فلا يخلد في النار
قوله: (وجبت له النار)، لا يدل على الخلود، وإنما يدل على أنه يستحقها، وأمره إلى الله عز وجل؛ لأن كل ذنب دون الشرك فأمره إلى الله عز وجل إن شاء عذب صاحبه، وإن شاء عفا عنه، وإن عذبه لا يخلده في النار؛ لأنه لا يخلد في النار إلا الكفار الذين هم أهل النار، والذين لا سبيل لهم إلى الخروج منها بحال من الأحوال، وأما من لم يكن كافراً فإن مآله إلى الجنة وإن دخل النار، وإن عذب في النار فإنه لا بد أن يخرج منها ويدخل الجنة.(373/18)
حكم الحلف بالأنداد(373/19)
شرح حديث (من حلف فقال في حلفه واللات فليقل لا إله إلا الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الحلف بالأنداد.
حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من حلف فقال في حلفه: واللات، فليقل لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق بشيء)].
قوله: [باب الحلف بالأنداد] في بعض النسخ: [الحلف بغير الله]، والحلف بغير الله محرم مطلقاً سواء كان أنداد أو بغير أنداد، ولكن لعله ذكر الأنداد لأنه هو الذي جاء في هذا الحديث الذي أورده تحت هذه الترجمة وهو يتعلق بالأنداد والأصنام، وهذا إنما اعتادوه في الجاهلية، حيث إنهم كانوا يحلفون بالأصنام، فيقول الواحد منهم: واللات والعزى، فلما جاء الإسلام وصار الحلف إنما يكون بالله عز وجل، وكانوا قد ألفوا وغلب على ألسنتهم استعمال الحلف باللات، كان بعضهم يقول ذلك؛ لأنه حديث عهد بالإسلام ولسانه قد اعتاد على ذلك، فهو يحلف بها وهو لا يريد ذلك، وما كان حلفه في الإسلام كحلفه في الجاهلية؛ لأنه قبل ذلك كان يعبد الأصنام، ثم صار كافراً بالأصنام بعد أن هداه الله للإسلام، فهو كافر بالأصنام والأنداد، وقبل ذلك كان يعبد الأنداد ويحلف بها، فالرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يعود ألسنتهم على أنه إذا حصل منهم شيء وهم حديثو عهد بالإسلام وألسنتهم قد اعتادت على ذلك فيحصل من الإنسان من غير اختياره، فيعود نفسه أن يأتي بالتوحيد بعد أن يحلف بهذا الشيء الذي كان قد ألفه، لأنه نشأ عليه وعاش عليه، فقال: (من قال في حلفه: واللات، فليقل: لا إله إلا الله) يعني: كما أنه حلف بهذا الشيء الذي قد ألفه فإنه يبادر ويأتي بكلمة لا إله إلا الله التي هي كلمة التوحيد، والتي فيها أن الله عز وجل هو الذي يعبد وهو الذي يعظم وهو المستحق للعبادة، فيكون في ذلك تعويد للألسنة على ترك هذا الأمر الذي حصل منها وقد اعتادته، فإذا حلف بالأصنام فيقول بعد ذلك: لا إله إلا الله، حتى تألف الألسنة ذكر الله عز وجل وكلمة التوحيد، وحتى يحصل نسيان وترك لهذا الأمر الذي ألفوه.
وكذلك أيضاً بالنسبة للقمار والميسر كانوا يستعملون الميسر ولذا قال: (من قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق بشيء) وفي بعض الأحاديث: (فليتصدق) بدون ذكر (بشيء).
وهذا أيضاً كذلك؛ لأنه لما جاء الإسلام ومنع من القمار كان يحصل منهم التداعي له والتنادي له؛ لأنهم كانوا قد ألفوه، وقد كانوا يعملونه في الجاهلية، فمن قال لصاحبه: تعال أقامرك، ليبذل المال في الباطل، فقد أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يبذل المال في الحق، وإلى أن يبذله في صدقة تنفعه، فيكون في ذلك تأديب لهم، وتعويد لهم إذا فكروا في أمر محرم قد اعتادوه وألفوه أن يبادروا إلى أن يتصدقوا بشيء.
وبعض أهل العلم قال: إنه يتصدق بالشيء الذي أراد أن يقامر به، يبذله في الخير بدل أن يبذله في الميسر.
والحاصل: أن هذا فيه إرشاد إلى أن الإنسان يتصدق، ومعلوم أن هذا كان وهم حديثو عهد بالإسلام، فمن أراد أن يقامر أو قال لصاحبه: تعال أقامرك، فعليه أن يتصدق.(373/20)
تراجم رجال إسناد حديث (من حلف فقال في حلفه واللات فليقل لا إله إلا الله)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد بن عبد الرحمن].
هو حميد بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أكثرهم حديثاً على الإطلاق رضي الله تعالى عنه وعن الصحابة أجمعين.(373/21)
حكم من حلف بالكعبة ونحوها
هل يلحق بهذا من حلف بالكعبة أو بأي شيء غير الله، بأن يقال له: قل: لا إله إلا الله؟ لا أدري هل يلحق كل حلف بغير الله بذلك أم لا؟ لأنه إنما جاء في الأصنام التي كانوا يحلفون بها في الجاهلية، كاللات وهبل، فإنهم كانوا يعبدونها في الجاهلية من دون الله عز وجل، فالذي يبدو أن هذا في ذلك الأمر الذي اعتادوه وألفوه، وأن هذا كان من أجل أن تعتاد ألسنتهم، وأما الذي يحلف بالكعبة فهو حلف بغير الله، والكعبة معظمة في الإسلام، ولكنه لا يحلف بها، وأما الصنم فليس له إلا الإهانة والتدمير، ولكن الحديث ورد في شيء معين وهي الأصنام، فهذا هو الذي يبدو أنه يؤتى بعده بلا إله إلا الله، وأما من حلف بالكعبة أو حلف بالنبي فإنه يرشد إلى أن يحلف برب الكعبة وبرب النبي، فالكلمة التي قالها يجعلها مضافة إلى رب، فيأتي برب قبل ذلك، ويعود نفسه أنه بدلاً من أن يقول: والنبي، يقول: ورب النبي، فكلمة النبي يبقيها ولا يتخلى عنها، ولكن يضيفها إلى ربه؛ بأن يقول: ورب النبي، وكذلك الكعبة يقول ورب الكعبة.
فالذي يبدو أن الأمر بقول: لا إله إلا الله؛ لأنه في مقابل شيء كان يعبد في الجاهلية.
وأما هل الأمر في قوله: (فليقل) للوجوب أو للاستحباب؟ فالأصل أنه للوجوب، وأما فيما يتعلق بالصدقة فقال بعض العلماء: إنها للاستحباب؛ لأن هذا فيه إخراج مال فهو إرشاد، وأما الحلف فهو توحيد، وأمره بالتوحيد لا يدل على كفر، وإنما يدل على أنه سبق لسانه إلى شيء قد اعتاده وألفه، فيعود أن يأتي بالتوحيد بدل هذه الكلمة التي أتى بها لأن لسانه قد تعودها.(373/22)
شرح سنن أبي داود [374]
لقد رحم الإسلام الشرك بالله عز وجل، وسد الأبواب والذرائع التي تؤدي إلى الشرك الأكبر، فحرم الحلف بالآباء والأمهات والأنداد، فهو شرك أصغر إلا إذا اعتقد الحالف أن الحلف بغير الله أعظم من الحلف بالله فهو كفر وشرك أكبر، كذلك حرم الإسلام الحلف بالأمانة، ولا كفارة في لغو اليمين، والحلف لا يجوز فيه المعاريض إلا إذا كان مظلوماً أو مكرهاً على شيء، فالأصل: أن اليمين على نية المستحلف.(374/1)
كراهية الحلف بالآباء(374/2)
شرح حديث (لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كراهية الحلف بالآباء.
حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلحفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون)].
قوله: [باب في كراهية الحلف بالآباء]، الكراهية هنا المقصود بها: التحريم؛ لأنه قد جاء في هذا الحديث النهي، وجاء أيضاً وصف الحلف بغير الله بأنه شرك، وهو يدل على التحريم، ولكنه شرك أصغر، فإذا كان الحالف بغير الله معتقداً أن الحلف بغير الله أعظم من الحلف بالله، وأهم من الحلف بالله فهذا كفر، ولكن كون الإنسان يحلف بغير الله عز وجل فحلفه من الشرك الأصغر، ومعلوم أن الشيء الذي يوصف بأنه شرك يعتبر من أعظم الذنوب وأخطرها، ولهذا جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (لأن أحلف بالله فأكذب أحب إلي من أن أحلف بغيره فأبر)، وفي لفظ آخر: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أحلف بغيره صادقاً)، يعني: أن الحلف بالله توحيد، والكذب معصية، ولكن الحلف بغير الله شرك، حتى وإن كان حلفاً على صدق؛ لأن الشيء الذي يوصف بأنه شرك أخطر من غيره، وكلام ابن مسعود رضي الله عنه هذا يدل عليه؛ لأنه قال: (لأن أحلف بالله فأكذب أحب إلي من أحلف بغيره فأبر)؛ لأن الحلف بغير الله شرك وإن وجد معه صدق، والحلف بالله توحيد وإن وجد معه كذب، فسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد)، وقد كانوا في الجاهلية يحلفون بآبائهم وأمهاتهم وبالأنداد، ثم قال: (ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون)، فقد أرشد إلى أنه لا يجوز الحلف بغير الله من جهتين: في قوله: (لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم)، وفي قوله: (ولا تحلفوا إلا بالله)، فصار النهي عن الحلف بغير الله موجوداً في الجملتين، الجملة الأولى فيها التنصيص على أنه لا يحلف بالآباء ولا بالأمهات، ولا بالأنداد، والجملة التي بعدها فيها أن الحلف يكون مقصوراً على الله وحده، وأن كل ما سواه لا يحلف به؛ لا الآباء ولا الأمهات ولا الأنداد ولا غير ذلك، فالجملة الثانية أعم من الأولى؛ لأنها تشمل على ما دلت عليه الأولى وزيادة، وهو أن كل شيء غير الله لا يحلف به، وكل مخلوق لا يحلف به، وأن الحلف إنما يكون بأسماء الله وصفاته، والحلف بأسماء الله وصفاته حلف به سبحانه وتعالى.
فقوله: (ولا تحلفوا إلا بالله) أي: يجب أن يكون الحلف بالله، وليس المقصود أن يكون بلفظ الجلالة الذي هو (الله)، وإنما بأسمائه وصفاته؛ لأن الحلف بأسمائه وصفاته حلف به، والذي يقول: وعزة الله وجلالة الله حالف بالله، والذي يقول: وكلام الله، أو والرحمن والرحيم والعزيز والخبير والسميع والبصير هو حالف بالله.
وقوله: (ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون)، أي: إذا حلفتم بالله فلتكونوا صادقين، ولا تحلفوا على كذب، بل احلفوا على صدق.
والجملة الأولى فيها قصر الحلف على أن يكون بالله لا بغيره، والجملة الثانية فيها بيان أن الحلف بالله إنما يكون بالصدق، ولا يكون بغير الصدق، ولهذا قال: (ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون).
أي: لا تحلفوا بالله الذي أمرتم بالحلف به إلا على وجه الصدق لا على الكذب.(374/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن معاذ].
هو عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري، وهو ثقة أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثني أبي].
أبوه هو معاذ بن معاذ العنبري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عوف].
هو عوف بن أبي جميلة الأعرابي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة].
محمد بن سيرين وأبو هريرة مر ذكرهما.(374/4)
شرح حديث (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أدركه وهو في ركب، وهو يحلف بأبيه، فقال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليسكت)].
أورد أبو داود حديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أدركه، وهو في ركب، والركب: جمع راكب.
وقوله: (وهو يحلف بأبيه)، أي: يقول: وأبي وأبي، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليسكت) أي: من كان حالفاً فليكن حلفه بالله أو ليسكت، ولا يحلف بغير الله، ففيه النهي عن الحلف بغير الله، وفيه الإلزام بأن الحلف إذا أريد إنما يكون بالله وإلا فعليه السكوت وعدم الحلف إذا كان الحلف بغير الله، فإما أن يحلف بالله أو ليسكت.(374/5)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن عمر].
عبيد الله بن عمر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي جليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[عن عمر بن الخطاب].
عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(374/6)
شرح حديث (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أخرنا معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه عن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (سمعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحو معناه إلى بآبائكم)، زاد: قال عمر: (فوالله! ما حلفت بها ذاكراً ولا آثراً)].
أورد المصنف حديث ابن عمر من طريق أخرى وفيه هذه الزيادة وهي أنه قال: (والله ما حلفت بها ذاكراً ولا آثراً)، أي: أن عمر رضي الله عنه استسلم وانقاد لما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، فابتعد عن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان يفعله ولا يحكيه عن غيره، فلا يقول: وأبي، ولا يقول: إن فلاناً قال: وأبي.
فقوله: (ما حلفت بها ذاكراً ولا آثراً)، أي: ما فعلت ذلك من نفسي بأن حلفت بالآباء، ولا آثراً ذلك عن غيري بأنه قال كذا وكذا، وهذا معناه أنه حفظ لسانه من أن يذكر الحلف بغير الله لا بفعله ولا بالنقل عن غيره، وهذا يدلنا على أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يستسلمون وينقادون ويبادرون إلى اتباع النصوص وإلى الانقياد لما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فهم أسبق الناس إلى كل خير، وأحرص الناس على كل خير رضي الله عنهم وأرضاهم.(374/7)
تراجم رجال إسناد الطريق الأخرى لحديث (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري].
عبد الرزاق ومعمر والزهري مر ذكرهم.
[عن سالم عن أبيه].
هو سالم بن عبد الله بن عمر، وهو ثقة فقيه أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وأبوه عبد الله بن عمر مر ذكره.
[عن عمر].
عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر ذكره.(374/8)
شرح حديث (من حلف بغير الله فقد أشرك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء حدثنا ابن إدريس قال: سمعت الحسن بن عبيد الله عن سعد بن عبيدة قال: سمع ابن عمر رجلاً يحلف: لا والكعبة، فقال له ابن عمر رضي الله عنهما: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد أشرك)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رجلاً يقول: لا والكعبة، أي: يحلف بالكعبة، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد أشرك) أي: أن الحلف بغير الله شرك، ولكنه -كما هو معلوم- شرك أصغر، ولكن إذا أريد به أن الحلف بغير الله أعظم من الحلف بالله فإنه يكون شركاً أكبر، فإذا أريد بالحلف تعظيم غير الله، وأنه أعظم من الله، وأنه يهاب الحلف بغير الله، ولا يهاب الحلف بالله، فهذا -والعياذ بالله- شرك أكبر، وأما إذا كان غير ذلك فإنه من الشرك الأصغر، ولكن كما ذكرنا أن الأمر الذي يوصف بأنه شرك أخطر من جميع المعاصي والذنوب الأخرى، وقد مر آنفاً الأثر عن ابن مسعود الذي فيه: (لئن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً).(374/9)
تراجم رجال إسناد حديث (من حلف بغير الله فقد أشرك)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن إدريس].
هو عبد الله بن إدريس، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت الحسن بن عبيد الله].
هو الحسن بن عبيد الله النخعي، وهو ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن سعد بن عبيدة].
سعد بن عبيدة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمع ابن عمر رجلاً].
ابن عمر قد مر ذكره.(374/10)
شرح حديث (أفلح وأبيه إن صدق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود العتكي حدثنا إسماعيل بن جعفر المدني عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر عن أبيه أنه سمع طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه -يعني: في حديث قصة الأعرابي- قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أفلح وأبيه إن صدق، دخل الجنة وأبيه إن صدق)].
أورد أبو داود حديث طلحة بن عبيد الله الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفلح وأبيه إن صدق، أو دخل الجنة وأبيه إن صدق)، فقول الرسول: (وأبيه) هذا فيه أنه حلف بغير الله؛ وذلك أنه جاء أعرابي وقال: علمني الإسلام، فقال: (إن الله أوجب خمس صلوات، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا، ثم قال وصيام رمضان، قال: هل علي غير ذلك؟ قال: لا.
قال: والزكاة، قال: هل علي غير ذلك؟ قال: لا.
فلما ولى قال: والله لا أزيد ولا أنقص، فقال: أفلح وأبيه إن صدق).
وقوله: (في قصة الأعرابي) أي: أنه ذكر الحديث باختصار، وهذا يخالف ما جاء في الأحاديث المتقدمة من النهي عن الحلف بغير الله، والحلف بالآباء، وهذا الحديث فيه أن الرسول قال: (أفلح وأبيه) وقد اختلف العلماء في هذا، فمنهم من قال: إن هذا الحديث شاذ، قال الشيخ الألباني رحمه الله: إن هذه الرواية شاذة؛ لأنها جاءت من طريق مالك: (أفلح إن صدق) بدون ذكر (وأبيه).
وبعض أهل العلم قال: إن هذا كان قبل النهي.
ومن العلماء من قال: إن هذا مما اعتادوه دون أن يكون قصدهم الحلف والتعظيم.
والقول بأن لفظة (وأبيه) شاذة هو أحسن من غيره، من جهة أن عدم ذكرها متفق مع الروايات الأخرى التي فيها النهي عن الحلف بالآباء.(374/11)
تراجم رجال إسناد حديث (أفلح وأبيه إن صدق)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود العتكي].
هو ابن الربيع الزهراني، وهو ثقة أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا إسماعيل بن جعفر المدني].
إسماعيل بن جعفر المدني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سهيل نافع بن مالك عن أبيه].
أبو سهيل نافع بن مالك ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأبوه ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنه سمع طلحة بن عبيد الله].
طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(374/12)
كراهية الحلف بالأمانة(374/13)
شرح حديث (من حلف بالأمانة فليس منا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كراهية الحلف بالأمانة.
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا الوليد بن ثعلبة الطائي عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من حلف بالأمانة فليس منا)].
قوله: [باب في كراهية الحلف بالأمانة] المقصود بالكراهية هنا: التحريم؛ لأنه قد أورد في الباب حديثاً فيه الزجر والتحذير وبيان خطورة الحلف بالأمانة، فهو على هذا محرم، وكل حلف بغير الله فهو محرم؛ لأن الحلف إنما يكون بالله وبأسمائه وصفاته، ولا يحلف بغيره، كما سبقت الأحاديث في ذلك، وقد جاء في بعضها أن ذلك شرك، ومن ذلك ما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (لئن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أحلف بغيره صادقاً)، وذلك أن الذنب الذي يوصف بأنه شرك يكون أخطر من غيره، وإن كان شركاً أصغر، كالحلف بغير الله.
وقد أورد حديث بريدة: (من حلف بالأمانة فليس منا)، وهذا يدل على تحريمه، وأنه أمر خطير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بالأمانة فليس منا)، أي: أن هذا ليس من شأن المسلمين, وليس من عمل المسلمين، ومن فعل ذلك فليس على طريقتنا ولا على منهجنا وسنتنا، وإنما هو متشبه بغيرنا، وهذا لا يدل على أنه خرج من الإسلام، وإنما يدل على الزجر من هذا العمل.
والحاصل: أن الحلف بالأمانة فيه زجر شديد؛ لأن الحلف بالأمانة حلف بغير الله، وكل حلف بغير الله فإنه لا يجوز، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون)، فقوله: (ولا تحلفوا إلا بالله) فيه قصر الحلف على أن يكون بالله، أي: بأسمائه وصفاته، ولا يكون بغيره؛ لا بالأمانة ولا بالآباء ولا الأمهات، ولا بحياة إنسان، ولا بشرفه، ولا بأي شيء آخر، بل كل حلف يجب أن يكون بالله عز وجل، كما سبق في قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليسكت).(374/14)
تراجم رجال إسناد حديث (من حلف بالأمانة فليس منا)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الوليد بن ثعلبة الطائي].
الوليد بن ثعلبة الطائي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن ابن بريدة].
هو عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(374/15)
معنى الكراهة عند المتقدمين
تعبير المصنف بالكراهة هو على طريقة المتقدمين أن الكراهة يراد بها: التحريم، كما قال الله عز وجل: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38]، فإن الله عز وجل ذكر قبل هذه الآية جملة من الذنوب الكبيرة التي منها الزنا وقتل النفس، وقتل الأولاد، وأكل مال اليتيم، وغير ذلك من الأمور المحرمة، ثم ختم بقوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38].(374/16)
حكم قول (وأمانة الله)
أما قول: (وأمانة الله) فقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قال: وأمانة الله، كانت يميناً ولزمته كفارة فيها، وقال الشافعي: ليس ذلك يميناً ولا يكون فيه الكفارة، والظاهر أنها ليست يميناً، وليس فيها كفارة؛ لأنها ليست حلفاً بالله، وقول: (وأمانة الله) هو مثل الأمور التي تضاف إلى الله للتشريف، كبيت الله وعبد الله وناقة الله، وهذا إضافته من هذا النوع؛ لأن الأمانة ليست من صفات الله عز وجل، وإنما هي من مخلوقاته، أو من الأمور التي شرعها كالعبادات، كما في قوله عز وجل: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)) [النساء:58]، وحقوق الله تعتبر أمانة عند الإنسان، وحقوق الآدمي كذلك، والغسل من الجنابة أمانة، والصيام أمانة، وكل ذلك أمانة، أي: أن الإنسان مؤتمن عليها يجب عليه أن يأتي بها، فليس الإنسان حالفاً بصفة من صفات الله، ولا باسم من أسماء الله، إذاً: هو ليس حلفاً شرعياً، وليس عليه كفارة.(374/17)
لغو اليمين(374/18)
شرح حديث (هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب لغو اليمين.
حدثنا حميد بن مسعدة السامي حدثنا حسان -يعني ابن إبراهيم - حدثنا إبراهيم -يعني الصائغ - عن عطاء في اللغو في اليمين قال: قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (هو كلام الرجل في بيته: كلا والله، وبلى والله)].
قوله: [باب لغو اليمين]، المقصود بلغو اليمين: الشيء الذي لا يراد عقده، ولا التزامه، وإنما هو شيء يجري على الألسنة عند الكلام، فهذا يقال له لغو يمين، مثل: لا والله، وبلى الله، فعندما يتحدث الإنسان أو يخبر عن شيء أو يراد أن يطلب منه شيء في المستقبل، فيقول: لا والله، وبلى والله، فهذا من لغو اليمين، ولغو اليمين ليس فيه كفارة، ولا يؤاخذ عليه الإنسان، ولكن على الإنسان أن يحرص على أن يحفظ لسانه عن اليمين، فقد جاء عن إبراهيم النخعي أنه قال: كانوا يضربوننا على اليمين والعهد ونحن صغار.
أي: كانوا يؤدبونهم ويعظمون في أنفسهم الحلف بالله، حتى لا يكون الحلف بالله أمراً سهلاً، وإنما كانوا يجعلونه أمراً عظيماً، وكانوا لا يقدمون عليه ولا يستسهلونه ويستهينون به، فالإنسان يحرص على ألا يحلف، إلا إذا كان هناك أمر يحتاج إلى توكيد وأراد أن يحلف عليه فلا بأس بذلك.
وتفسير لغو اليمين بهذا جاء عن عائشة رضي الله عنها من طرق كثيرة موقوفاً عليها، وجاء من هذه الطريق مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون قد صح عنها موقوفاً ومرفوعاً، فهو من كلامها، وأيضاً أضافته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في لغو اليمين: (هو كلام الرجل: كلا والله، وبلى والله) أي: الشيء الذي يجري على اللسان ولا يقصد الإنسان به عقد اليمين.(374/19)
المعاريض في اليمين(374/20)
شرح حديث (يمينك على ما يصدقك عليها صاحبك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب المعاريض في اليمين.
حدثنا عمرو بن عون أخبرنا هشيم (ح) وحدثنا مسدد حدثنا هشيم عن عباد بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يمينك على ما يصدقك عليها صاحبك)].
قوله: [باب المعاريض في اليمين]، المقصود بالمعاريض: أن يذكر الإنسان شيئاً مورياً به، فهو يريد شيئاً وغيره يريد شيئاً آخر، بمعنى: أنه يريد أن يفهم منه صاحبه شيئاً أو يريد شيئاً وهو يريد شيئاً آخر، فهذا يقال له: معاريض، وقد جاء عن عمر رضي الله عنه وعن عمران بن حصين: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب)، ولكن المعاريض لا تستعمل إلا عند الحاجة إليها.
أما إذا كان الإنسان الذي استحلف صاحب حق، أو استحلفه القاضي، فليس له استعمال المعاريض، وإنما تستعمل المعاريض في أمر هناك داعٍ إليه، كأن يكون مظلوماً، أو مكرهاً على شيء، أما إذا كان الذي استحلفه صاحب حق فليس الأمر كذلك، بل الأمر كما جاء في هذا الحديث الذي أورده أبو داود عن أبي هريرة: (يمينك على ما يصدق عليها صاحبك) أي: أن اليمين على نية المستحلف، وقد جاء في بعض الروايات: (اليمين على نية المستحلف) فليس هو على ما يريد أو على ما يعرض به أو يذكره الحالف من المعاريض، وإنما هو على نية المستحلف.
فإذا كان مظلوماًَ، أو كان في أمر لا يلزمه فله أن يعرض حتى يسلم، فيكون صادقاً فيما يقول على حسب الظاهر، والمستحلف يفهم شيئاً آخر غير الذي يريده الحالف.
والمعاريض تكون في الحلف وفي غير الحلف، وقد جاء في أحاديث عديدة فيها ذكر المعاريض أو التعريض، ومن ذلك قصة أم سليم مع أبي سليم لما جاء وكان ولده مريضاً وقد مات الولد، فسألها عنه فلم تخبره بأنه مات، ولكنها أتت بعبارات هي أرادت شيئاً وهو فهم شيئاً آخر، فقالت: إنه أسكن ما كان وقد استراح.
ففهم أنه في حالة جيدة وأنه هادئ مستريح في النوم، وهي تريد أنه هدأت نفسه واستراح وانتهى من هذه الدنيا، فقد كانت تريد شيئاً وهو فهم شيئاً آخر، فهذا يقال له: تعريض، ولهذا أكل معها وجامعها واطمأن معها، ولم تقل له: إنه قد مات حتى لا يتأثر ويتألم.
ويأتي في بعض الأحاديث وفي كلام بعض أهل العلم ذكر المعاريض، فهذا من هذا القبيل، وقد ذكر أبو داود في آخر الباب حديثاً فيه ذكر المعاريض، وهو أن سويد بن غفلة قال عن وائل بن حجر: إنه أخوه، والمخاطب كان يفهم أنه أخوه من النسب، وهو يريد أخوته في الإسلام، فهذا يقال له معاريض.
ومنه أيضاً ما حصل من إبراهيم الخليل في الكذبات الثلاث التي قال: إنها كذبات، وهي في الحقيقة معاريض؛ لأنه قال عن زوجته: إنها أختي، وقال: إنه ليس هناك مسلم إلا أنا وأنتِ، ولذا قال للجبار: إنها أخته، وهي ليست أخته من النسب، ولكنها أخته في الإسلام، فهذا من قبيل المعاريض.
وقوله: (يمينك على ما يصدقك به صاحبك) أي: على نية المستحلف، فإذا أمره القاضي أن يحلف فعليه أن يحلف بدون تعريض، ولكنه إذا كان مظلوماً، أو كان في أمر فيه مضرة عليه وليس المستحلف محقاً فله أن يعرض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب كما جاء ذلك عن عمر بن الخطاب وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما.(374/21)
تراجم رجال إسناد حديث (يمينك على ما يصدقك عليها صاحبك)
قوله: [حدثنا عمرو بن عون].
عمرو بن عون ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا مسدد].
هو ابن مسرهد البصري، وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا هشيم عن عباد بن أبي صالح].
هشيم مر ذكره، وعباد بن أبي صالح هو ابن أبي صالح السمان، ويقال له: عبد الله، وعبد الله اسمه وعباد لقبه، وهو أخو سهيل، وأبوه أبو صالح السمان المشهور الذي يروي عن أبي هريرة كثيراً، وهو لين الحديث، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبيه].
أبوه هو أبو صالح السمان واسمه ذكوان ولقبه السمان ويقال له: الزيات، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
والحديث رواه مسلم، فهو حديث صحيح.
[قال مسدد: أخبرني عبد الله بن أبي صالح، قال أبو داود: هما واحد؛ عباد بن أبي صالح وعبد الله بن أبي صالح].
يعني: أن في رواية هشيم الأولى قال: عباد بن أبي صالح، وفي رواية مسدد عن هشيم قال: عبد الله بن أبي صالح، ثم قال أبو داود: إنهما شخص واحد، يعني: أن هذا عبر باللقب، وهذا عبر بالاسم، أو هذا أتى بالاسم وهذا أتى باللقب، وهذا من الألقاب التي تؤخذ من الأسماء؛ لأن مثل عباد مأخوذ من عبد الله، ومثل عبد الله بن عثمان المروزي لقبه عبدان، ومثل: عبد الرحمن بن إبراهيم يقال له: دحيم، وهكذا فالألقاب أحياناً تؤخذ من الأسماء، فهنا عباد مأخوذ من عبد الله، ومثله كلمة (العباد) التي أنتسب إليها في نسبي، فأنا يقال لي: عبد المحسن العباد، وذلك أنه اشتهر أحد الأجداد بلقبه: العباد، فحصلت النسبة إلى الجد باللقب، وإلا فاسمه عبد الله، ولكن لقب بالعباد، فهذا الذي في هذا الإسناد هو من هذا القبيل.
والتورية هي بمعنى المعاريض، فيعرض ويوري بمعنى واحد.(374/22)
شرح حديث (صدقت المسلم أخو المسلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن محمد الناقد حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن جدته عن أبيها سويد بن حنظلة رضي الله عنه قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعنا وائل بن حجر رضي الله عنه، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا وحلفت أنه أخي، فخلي سبيله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته أن القوم تحرجوا أن يحلفوا وحلفت أنه أخي، قال: (صدقت؛ المسلم أخو المسلم)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث سويد بن حنظلة رضي الله عنه أنهم كانوا في سفر وكان معهم وائل بن حجر، وأنه أخذه عدو، وأن أصحابه الذين كانوا معه تحرجوا أن يحلفوا وأنني حلفت وقلت: إنه أخي، فقال عليه الصلاة والسلام: (صدقت؛ المسلم أخو المسلم) يعني: أخوة الإسلام موجودة، فكونك أتيت بهذا الوصف فهو وصف حقيقي وهو واقع، ولكن المستحلف فهم أنه يقصد أخوة النسب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (صدقت؛ المسلم أخو المسلم) أي: صدقت فهو أخوك، أو الواقع أنه أخوك، لكنها أخوة الإسلام، وليست أخوة النسب، وهذا هو وجه كونه من المعاريض، وهو من جنس قول إبراهيم عليه السلام للجبار: إنها أختي، وهي زوجته، أي: أنها أخته في الإسلام، وهذا من التعريض والتورية.(374/23)
تراجم رجال إسناد حديث (صدقت المسلم أخو المسلم)
قوله: [حدثنا عمرو بن محمد الناقد].
عمرو بن محمد الناقد ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبو أحمد الزبيري].
هو محمد بن عبد الله بن الزبير، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسرائيل].
هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم بن عبد الأعلى].
إبراهيم بن عبد الأعلى ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن جدته].
جدته مجهولة.
[عن أبيها سويد بن حنظلة].
سويد بن حنظلة رضي الله عنه صحابي، أخرج حديثه أبو داود وابن ماجة.(374/24)
الحكم على حديث (صدقت المسلم أخو المسلم)
هذا الحديث في إسناده هذه المجهولة، وأما قوله: (المسلم أخو المسلم) فهذا ثابت في أحاديث أخرى صحيحة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله، التقوى ها هنا) كما في حديث أبي هريرة الطويل في صحيح مسلم، وهو أحد الأربعين النووية، ولكن قوله في هذه القصة: (صدقت المسلم أخو المسلم) لا أعرف شيئاً يدل على هذا اللفظ الذي فيه هذه التورية، والألباني يصحح هذا الحديث، ولكن لا أدري هل التصحيح المقصود به لفظ: (المسلم أخو المسلم)، فإن هذا صحيح ثابت وليس فيه إشكال، ولكن هذه القصة التي فيها التورية جاءت من طريق سويد بن حنظلة، ولم يرو عنه إلا ابنته وليس له إلا هذا الحديث الواحد، وابنته مجهولة.
فإن قيل: الحلف لا يجوز فيه التعريض فكيف حلف هنا على المعاريض؟ ف
الجواب
أن الحالف ليس له أن يعرض إلا إذا كان مظلوماً كما في هذه القصة، فإن فيها: أنه أخذه عدو فحلف أنه أخوه حتى يخلصه، وهذا تعريض جائز، وعلى هذا فالتعريض فيه تفصيل: إذا كان بحق فليس للإنسان أن يعرض، وإذا كان المستحلف محقاً فليس له أن يعرض كما جاء في الحديث الأول: أن اليمين على نية المستحلف.
وأما إذا لم يكن المستحلف محقاً بأن كان ظالماً، فللحالف أن يعرض حتى يتخلص من الظلم، وفي نفس الوقت أيضاً يكون صادقاً في مقاله وابتعد عن الكذب واعتاد الصدق؛ ومثل ذلك قوله: (إنه أخوه) وهو يريد أخوة الإسلام، وهذا كلام صحيح.(374/25)
شرح سنن أبي داود [375]
الحلف لا يكون إلا باسم من أسماء الله عز وجل أو صفة من صفاته، والأمانة ليست اسماً من أسماء الله عز وجل ولا صفة من صفاته، لذا لا يجوز الحلف بها، وقد جاء الوعيد الشديد فيمن حلف بالأمانة أو بملة غير الإسلام، ويكون الوعيد أشد إذا كانت اليمين على كذب، ولا حنث على من قرن اليمين بمشيئة الله تعالى.(375/1)
ما جاء في الحلف بالبراءة وبملة غير الإسلام(375/2)
شرح حديث (من حلف بملة غير الإسلام كاذباً فهو كما قال)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الحلف بالبراءة وبملة غير الإسلام.
حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع حدثنا معاوية بن سلام عن يحيى بن أبي كثير قال: أخبرني أبو قلابة أن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أخبره أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت الشجرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من حلف بملة غير ملة الإسلام كاذباً فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة، وليس على رجل نذر فيما لا يملكه)].
قوله: [باب ما جاء في الحلف بالبراءة وبملة غير الإسلام] كأن يقول: هو يهودي أو هو نصراني إن حصل كذا أو كذا أو إن فعل كذا وكذا، هذا معنى قوله: بملة غير الإسلام وقوله: (بالبراءة) أي: أنه بريء من الإسلام.
وقد أورد أبو داود حديث ثابت بن الضحاك وهو ممن بايع تحت الشجرة بيعة الرضوان، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بملة غير ملة الإسلام كاذباً فهو كما قال) وهذا فيه زجر وفيه وعيد شديد، وليس معنى ذلك أنه يكون كافراً، ولكنه تلفظ بكلام خبيث وقبيح، فهو آثم وإثمه شديد، وسواء كان كاذباً أو صادقاً كما سيأتي في الحديث الذي بعد هذا؛ لأن التلفظ بهذا الكلام لا يجوز لا بكونه صادقاً ولا كاذباً، فكون الإنسان يكذب ويتلفظ بمثل هذا فهو سوء إلى سوء وشر إلى شر، فإذا تلفظ بهذا التلفظ الخبيث ومع ذلك كذب فيكون قد جمع بين خصلتين ذميمتين: كذب ولفظ سيء، وإذا كان صادقاً فإن الصدق محمود ولكن اللفظ مذموم.
فقوله: (من حلف بملة غير ملة الإسلام كاذباً فهو كما قال) معناه: كأن يقول: هو يهودي أو هو نصراني إن فعل كذا وكذا أو إن حصل كذا وكذا.
وقوله: (كاذباً) معناه: أنه أتى بهذا الكلام ليؤكده وهو كذب ليس بصحيح، ولكن حتى لو كان صحيحاً فإن الأمر خطير كما سيأتي في الحديث الذي بعد هذا.
وقوله: (ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة) هذا فيه أن الجزاء من جنس العمل، وقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفسه بحديدة جاء وحديدته بيده يجأ بها نفسه -أي: يقتل بها نفسه- ومن قتل نفسه بسم فإنه يتحساه في نار جهنم)، أي: أنه يعذب بالشيء الذي قتل نفسه به في الآخرة، وهذا يدل على أنه يجب على الإنسان أن يحافظ على نفسه وألا يعرضها للتهلكة، كما قال الله عز وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29]، فنفس الإنسان ليست ملكاً له يتصرف فيها كيف يشاء، وإنما يتصرف في حدود ما هو مأذون له وما هو مشروع له، وقد حرم عليه أن يقتل نفسه، فإذا أقدم على قتل نفسه فإنه يكون بذلك مرتكباً أمراً خطيراً وهو مستحق للعقوبة، ويعذب بالشيء الذي قتل نفسه به، فإن قتل نفسه بحديدة فإنه يوم القيامة يجأ نفسه بتلك الحديدة، وإن قتلها بسم فإنه يتحسى ذلك السم، وإن قتل نفسه برميه نفسه من جبل فإنه يعاقب بمثل ذلك يوم القيامة.
وقوله: (وليس على رجل نذر فيما لا يملكه) أي: أن الإنسان ينذر بالشيء الذي يملكه، أما شيء لا يملكه كأن يقول: إن شفى الله مريضي فعبد فلان حر، فليس له ذلك؛ لأنه لا يملكه، فالإنسان لا ينذر إلا في الشيء الذي يملكه، ولا يكون النذر إلا في طاعة، أما شيء لا يملكه الإنسان فليس له أن ينذر به.
والنذر أيضاً غير مستحب، فالإنسان لا ينبغي له أن ينذر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) وذلك أن الناذر يقول مثلاً: إن شفى الله مريضي أصوم مثلاً شهراً، أو أتصدق بكذا، أو أعتق كذا، فإذا شفى الله المريض فإنه قد يتألم ويتأثر، وهذه الصدقة التي ألزم نفسه بها قد يؤديها وهو كاره ويبحث عن مخرج ليتخلص؛ لأنه لا يريد أن يخرج هذه الصدقة باطمئنان وارتياح، وإنما خرجت منه بكره، فهو قال: إن حصل كذا فعلي كذا، ولما حصل الأمر الذي ذكره كره أن يفعل الأمر الذي نذره؛ لأنه يتعلق بماله أو يتعلق بصحته وصيامه، فتجده يبحث عن المخارج، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (وإنما يستخرج به من البخيل) فهو يلزم نفسه وقد كان في عافية قبل أن يلزم نفسه، فالنذر غير مرغب فيه، ولكنه إذا نذر فيلزمه الوفاء، والإنسان يمدح على وفائه، كما قال الله عز وجل: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7] أي: أنهم بعد أن ينذروا يوفون، ولكن لا ينبغي النذر، فالإنسان إذا أراد أن يتصدق، فيتصدق بدون أن يعلق صدقته بشيء وبدون أن يعلقها على شيء، وإنما يخرجها لله من أول وهلة، أما كونه يلزم نفسه إن حصل شيء ثم إذا حصل ذلك الشيء كرهت نفسه أن يخرج الشيء الذي نذره، ويبحث عن المخارج والتخلص، فهذا لا ينبغي.(375/3)
تراجم رجال إسناد حديث (من حلف بملة غير الإسلام كاذباً فهو كما قال)
قوله: [حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع].
أبو توبة الربيع بن نافع ثقة أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا معاوية بن سلام].
معاوية بن سلام ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن أبي كثير].
هو يحيى بن أبي كثير اليمامي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني أبو قلابة].
هو أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن ثابت بن الضحاك أخبره].
ثابت بن الضحاك رضي الله عنه صحابي، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(375/4)
شرح حديث (من حلف فقال: إني بريء من الإسلام فإن كان كاذباً فهو كما قال)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا زيد بن الحباب حدثنا حسين -يعني ابن واقد - حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف فقال: إني بريء من الإسلام، فإن كان كاذباً فهو كما قال، وإن كان صادقاً فلن يرجع إلى الإسلام سالماً)] هذا يدل على خطورة مثل هذا الكلام؛ سواء كان صادقاً أو كاذباً، وأنه سواء إن كذب أو صدق، ولكنه إن كذب ينضاف إلى إثم القول الشنيع والقول السيئ إثم الكذب، وإذا كان صادقاً فإتيانه بهذا اللفظ السيئ مضرة عليه؛ لأن اللفظ نفسه شنيع وقبيح ولا يجوز للإنسان أن يأتي به.
فمن حلف بذلك فهو آثم على كل حال؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (فإن كان كاذباً فهو كما قال) وذلك مثل أن يقول: هو يهودي أو نصراني.
(وإن كان صادقاً فلن يرجع إلى الإسلام سالماً) أي: لن يبقى على ما كان عليه قبل أن يقول هذه المقالة؛ لأن هذه الكلمة خبيثة يعاقب على قولها ولو كان صادقاً.(375/5)
تراجم رجال إسناد حديث (من حلف فقال: إني بريء من الإسلام فإن كان كاذباً فهو كما قال)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، وهو الإمام ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زيد بن الحباب].
زيد بن الحباب صدوق أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا حسين يعني ابن واقد].
حسين بن واقد ثقة له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه].
عبد الله بن بريدة وأبوه قد مر ذكرهما.(375/6)
الأسئلة(375/7)
خطورة الحلف بملة غير الإسلام
السؤال
ألا يكون قوله: (فلن يرجع إلى الإسلام سالماً) أمارة على خروجه من الإسلام وكفره بحلفه بملة غير ملة الإسلام، وأن حلفه بالبراءة من الإسلام يقضي بكفره الأكبر وإن لم يرد حقيقة البراءة؟
الجواب
الذي يبدو أن هذا إنما هو زجر، وهو مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر فإن كان كذلك وإلا حار عليه) فالذي قالها لا يكون كافراً بمجرد أنه قالها لإنسان غير كافر، وإنما المعنى: أنه يعود عليه مغبة ذلك وإثمه.
وإذا حلف بذلك كاذباً فإنه يكون أشد مما لو كان صادقاً، ومعلوم أن كونه يقول هذا الكلام ويكذب أسوأ وأعظم من كونه يقول ذلك ويصدق؛ لأنه جمع بين خصلتين ذميمتين: الأولى: أنه تكلم بكلام قبيح، والثانية: أنه كذب، وأما هذا فتكلم بكلام صحيح وصدق.
والذي يصرف الحديث عن ظاهره يقول: إن هذا من جنس أحاديث الوعيد التي فيها التهديد والتخويف، مثل الحديث الذي ذكرنا: (من قال لأخيه: يا كافر فإن كان كذلك وإلا حار عليه).(375/8)
حكم العمليات الاستشهادية
السؤال
في قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة) تأتي أسئلة منها: ما هو الموقف الصحيح تجاه ما نسمعه مما يسمى بالعمليات الاستشهادية أو الانتحارية في مقابلة الكفار: هل يثنى على هذه الأعمال أم أننا نحذر منها؟ فإن بعض الناس يقول: إن الذي يفجر نفسه مع مجموعة من الكفار يكون شهيداً، فهل هذا صحيح؟
الجواب
الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29] ومعلوم أن من فعل ذلك فإنه قاتل لنفسه، فقتال الكفار مأذون فيه، ولكن كون الإنسان يقتل نفسه غير مأذون فيه، فقتلهم يكون بغير قتل النفس، وأما أن يقتلهم بقتل نفسه فإن ذلك غير سائغ، وهذا لا يقال له: استشهاد، وإنما يقال له: انتحار وقتل نفس.(375/9)
حكم من قتل نفسه بشرب الدخان
السؤال
الذي يشرب الدخان ويكون سبباً في موته هل يعتبر قاتلاً لنفسه ويعذب به يوم القيامة في النار أم لا؟
الجواب
هذا محتمل؛ لأنه إذا كان قتل نفسه بالدخان أو بأي شيء فإنه يعذب به؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة) عام.(375/10)
حكم الرجل يحلف ألا يتأدم(375/11)
شرح حديث (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع تمرة على كسرة فقال هذه إدام هذه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الرجل يحلف ألا يتأدم.
حدثنا محمد بن عيسى حدثنا يحيى بن العلاء عن محمد بن يحيى بن حبان عن يوسف بن عبد الله بن سلام رضي الله عنهما قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضع تمرة على كسرة فقال: هذه إدام هذه)].
قوله: [باب الرجل يحلف ألا يتأدم]، أي: أنه إذا حلف ألا يستعمل إداماً ثم استعمل إداماً، فيكون قد حلف فتلزمه الكفارة، لكن ما هو الإدام؟ لم يورد أبو داود حديثاً فيه حلف على ألا يأتدم، وإنما فيه تسمية التمر بأنه إدام، ومعنى ذلك: أنه إذا أضاف التمر إلى الخبز الذي هو الطعام فإنه يعتبر إداماً له، والمشهور: أن الإدام هو مثل الزيت والسمن، واللحم، ونحو ذلك، ولكن ذكر هنا أن التمر يؤتدم به سواء كان مخلوطاً مع الطعام أو متميزاً عنه ما دام أنه يؤتدم به، فالحديث ليس فيه ذكر حلف وإنما فيه ذكر تسمية التمر أنه إدام.
والحديث غير صحيح؛ لأن في إسناده من اتهم بالوضع فهو غير ثابت، ولكن إذا حلف الإنسان ألا يأتدم وكان حلفه على قضية معينة فله أن يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير، فإذا حلف على ألا يأكل إداماً فإنه يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير، والحديث هنا ليس فيه شيء فيه حلف، ولكن فيه تسمية التمر إداماً، وهو غير صحيح.(375/12)
تراجم رجال إسناد حديث (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع تمرة على كسرة فقال هذه إدام هذه)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
هو محمد بن عيسى الطباع، وهو ثقة أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا يحيى بن العلاء].
يحيى بن العلاء متهم بالوضع، أخرج حديثه أبو داود وابن ماجة.
[عن محمد بن يحيى بن حبان].
محمد بن يحيى بن حبان ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يوسف بن عبد الله بن سلام].
يوسف بن عبد الله بن سلام صحابي صغير أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.(375/13)
طريق أخرى لحديث (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع تمرة على كسرة فقال هذه إدام هذه) وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي عن محمد بن أبي يحيى عن يزيد الأعور عن يوسف بن عبد الله بن سلام رضي الله عنهما مثله].
يعني: أنه وضع تمرة على كسرة فقال: (هذه إدام هذه).
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هو هارون بن عبد الله الحمال البغدادي، وهو ثقة أخرج حديثه البخاري ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عمر بن حفص].
هو عمر بن حفص بن غياث وهو ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا أبي].
أبوه ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن أبي يحيى].
محمد بن أبي يحيى صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[عن يزيد الأعور].
يزيد الأعور مجهول، أخرج له أبو داود والترمذي في الشمائل.
[عن يوسف بن عبد الله بن سلام].
يوسف بن عبد الله بن سلام رضي الله عنهما قد مر ذكره.(375/14)
الاستثناء في اليمين(375/15)
شرح حديث (من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الاستثناء في اليمين.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما يبلغ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فقد استثنى)].
قوله: [باب الاستثناء في اليمين]، الاستثناء في اليمين هو أن يقول: والله! إن شاء الله، أي: أنه يضيف ذلك إلى مشيئة الله؛ لأنه إذا قال: إن شاء الله فإن الأمر واسع، ولا يعتبر حانثاً؛ لأن الذي يقع هو الذي شاءه الله إما هذا وإما هذا، فإذا قال الإنسان في حلفه: والله إن شاء الله لأفعلن كذا وكذا ولم يفعل، فليس عليه كفارة ولا يعتبر حانثاً؛ لأنه أضاف ذلك إلى مشيئة الله.
وقوله: (من حلف فقال: إن شاء الله فقد استثنى) أي: أنه يقول: إن شاء الله بعد اليمين بشرط أن يكون متصلاً، لا أن يكون بين الحلف والاستثناء مدة، وإنما إذا كان متصلاً بأن قال: والله! ثم قال بعدها: إن شاء الله، فهذا هو الاستثناء الصحيح، ولا يضر إذا كان الفصل للتنفس أو السعال أو العطاس أو شيء منعه من الاستثناء فإنه يعتبر متصلاً، أما كونه يحلف ثم بعد مدة يقول: إن شاء الله، فهذا لا ينفع؛ لأن الاستثناء لا بد أن يكون متصلاً، ولا مانع أن يلقن الاستثناء بأن يقول: والله! فيقال له: قل: إن شاء الله، فقال إن شاء الله، فإذا لقن فلا بأس، كما جاء في قصة سليمان بن داود حين قال: (والله! لأطوفن الليلة على تسعين امرأة.
فقيل له: قل: إن شاء الله.
فلم يقل: إن شاء الله) الحديث.(375/16)
تراجم رجال إسناد حديث (من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان].
سفيان هو ابن عيينة المكي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وأحمد لا يروي عن الثوري؛ لأن الثوري متقدم الوفاة؛ فقد توفي سنة (161هـ) والإمام أحمد توفي سنة (241هـ).
[عن أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(375/17)
شرح حديث (من حلف فاستثنى فإن شاء رجع وإن شاء ترك غير حنث)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عيسى ومسدد وهذا حديثه قالا: حدثنا عبد الوارث عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من حلف فاستثنى فإن شاء رجع وإن شاء ترك غير حنث)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف فاستثنى) أي: قال: إن شاء الله (فإن شاء رجع) أي: رجع عن اليمين، (وإن شاء ترك غير حنث).
أي: لا يعتبر ذلك حنثاً ولا يعتبر حالفاً، سواء فعل أو لم يفعل.(375/18)
تراجم رجال إسناد حديث (من حلف فاستثنى فإن شاء رجع وإن شاء ترك غير حنث)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى ومسدد].
محمد بن عيسى ومسدد مر ذكرهما.
[وهذا حديثه].
أي: حديث مسدد الذي هو الشيخ الثاني.
[قالا: حدثنا عبد الوارث].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب عن نافع عن ابن عمر].
أيوب ونافع وابن عمر قد مر ذكرهم.(375/19)
الأسئلة(375/20)
صيغة الحلف بالأمانة
السؤال
ما هي صيغة الحلف بالأمانة؟ وهل قول الرجل: بأمانة -يعني: بصدق- فيها شيء؟
الجواب
صيغتها: أن يقول: بالأمانة مثل قوله: بالله أو والله، هذه هي صيغة الحلف بالأمانة.
وأما إذا قال الرجل لآخر: بأمانة، ومقصوده: أني أأمنك، أو أنك تصدقني فيما تقول وأن هذا شيء أنت مؤتمن عليه، ولم يرد صيغة الحلف؛ فهذا لا شيء فيه، لكن كونه يحلف ويقول: بالأمانة أو والأمانة فهو مثلما يقول: والله وبالله.(375/21)
الحكم على حديث عائشة في تفسير لغو اليمين
السؤال
حديث عائشة في تفسير لغو اليمين الذين رووه مرفوعاً هم دون من رووه موقوفاً، ألا يمكن أن يكون رفعه خطأً من بعض الرواة وأن الصواب مع من وقف؟
الجواب
كل منهما صحيح؛ لأن الرفع زيادة ثقة، فهي مقبولة، ولا تنافي بينهما؛ لأن هذا ثابت وهذا ثابت.(375/22)
حكم الحلف في المعاريض من دون طلب
السؤال
هل تجوز اليمين في المعاريض دون طلب اليمين؟
الجواب
استعمال اليمين من غير حاجة لا ينبغي، والإنسان يحرص على ألا يستعمل اليمين، ولا يعود نفسه على كثرة الحلف، لا سيما إذا لم يطلب منه، أما إذا طلب منه اليمين وكان الطالب محقاً فهذا يتعين عليه.(375/23)
التعريض بعدم وجود مال لمن عرف بعدم الوفاء
السؤال
جاءني شخص يريد أن يستقرض مني مبلغاً، وأنا أعرف أنه لن يرده، فقلت معرضاً: إنه لا يوجد عندي هذا المبلغ في البيت، مع أن المبلغ موجود في البنك، فهل تعريضي هذا صحيح؟
الجواب
تعريضك صحيح؛ لأنك تعرف أنه لن يرده، وأنت تريد أن تتخلص منه.(375/24)
حكم الاستثناء في الوعد
السؤال
ما حكم قول الإنسان عند الوعد: إن شاء الله، حتى يسلم إن لم يف؟
الجواب
على الإنسان أن يحرص على أن يفي بوعده إذا وعد، وإذا أضاف إليه (إن شاء الله) فيمكن أن يكون ذلك من باب الجزم والتحقيق والتأكيد وليس التعليق، أي: أن الإنسان عندما يقول: إن شاء الله ليس معناه: أنه إن شاء وفى بالوعد وإن شاء لم يف، بل على الإنسان أن يفي بالوعد.(375/25)
دخول قاتل نفسه تحت المشيئة وحكم الصلاة عليه
السؤال
من قتل نفسه هل هو داخل تحت المشيئة؟ وما حكم الصلاة عليه؟
الجواب
لا شك أنه داخل تحت المشيئة؛ لأن كل من لم يكن كافراً فهو تحت المشيئة، وإنما الذي لا يدخل تحت المشيئة هو الشرك؛ لقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فالشرك هو الذي لا يغفر، ولا يدخل تحت المشيئة؛ لأن الله شاء أن يعذب المشرك في النار أبد الآباد، لا يخرج منها أبداً، وأما من فعل ما دون الشرك فهو تحت المشيئة إن شاء عفا الله عنه ولم يعذبه، وإن شاء عذبه، ولكن إذا عذبه لا يخلده في النار، بل يخرجه منها ويدخله الجنة، فكل من مات غير مشرك ودخل النار فإنه لا بد أن يخرج منها ويدخل الجنة، وقد لا يدخل النار إذا تجاوز الله وعفا عنه.
وأما الصلاة فيصلى عليه، ولكن ينبغي أن يتخلف عن الصلاة عليه بعض من لهم شأن ومنزلة؛ حتى يكون في ذلك ردع وزجر لغيره، لكن لا تترك الصلاة عليه نهائياً.(375/26)
حال حديث (من حلف واستثنى لم يحنث ولو بعد عام)
السؤال
ما مدى صحة حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (من حلف واستثنى لم يحنث ولو بعد عام)
الجواب
لا أعتقد أنه يصح عن ابن عباس؛ لأن كونه يستثني بعد عام معناه: أن كل يمين يمكن أن يتخلص من كفارتها عند الحنث، ولن تبقى هناك يمين مكفرة أبداً، فما دام أنه بعد مدة طويلة يقول: إن شاء الله إذاً: كيف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها) وفيه شيء يخلص منها وهي كلمة: إن شاء الله؟! فهذا الحديث لا أدري عن صحته، ولا أعتقد أنه يصح عن ابن عباس.(375/27)
النذر لا يغير من قضاء الله
السؤال
هل يغير النذر من قضاء الله شيئاً؟
الجواب
النذر لا يغير من قضاء الله، بل الذي قضاه الله وقدره يقع، سواء نذر أو لم ينذر، فإذا شفى الله عز وجل مريضهم فإن هذا شيء قد كتبه الله، وإذا لم يشفه فهو مقدر أيضاً، فالقضاء والقدر قد كتب في اللوح المحفوظ، فلا يغيره نذر الإنسان، وإنما الذي قضاه الله عز وجل وقدره واقع، فإن كان في قضاء الله وقدره أنه يشفي مريض الناذر شفي، وإن كان في قدر الله أن مريضه يموت مات.(375/28)
حكم الرجوع في النذر
السؤال
من نذر أن يصوم ثلاثة أيام كلما عصى الله ولم يستطع فهل يمكنه الرجوع في النذر؟ وما هي الكفارة؟
الجواب
إذا كثرت عليه وصارت كثرتها تؤثر عليه بأن يصير ذلك مثل صيام الدهر فكفارته كفارة يمين، لكن على الإنسان أن يلتزم بالشيء الذي التزمه من أول وهلة، لا أن يهمل حتى تتجمع عليه أشهر ثم يذهب يبحث عن مخرج.(375/29)
حكم خروج الطالب من فصله إلى فصل آخر
السؤال
هل يجوز للطالب أن يخرج من فصله إلى فصل آخر غير فصله لحضور مجلس أحسن من الحصة في فصله؟
الجواب
ليس له ذلك؛ لأن المسئولين رتبوا هذه الفصول، وأتوا بالمدرس ليدرس في هذا المكان الطلاب الذين خصص لهم هذا الدرس، وكلف المدرس بأن يحضر، فعليهم أن يلتزموا بالحضور، وليس لهم أن يذهبوا إلى مكان آخر؛ لأن هذا هو المطلوب منهم، وهذا هو الشيء الذي بني عليه تنظيم الدراسة، فليس الإنسان مخيراً فيها، ولو كل واحد فعل هذا لبقي المدرس بدون طلاب.(375/30)
حكم ارتداء العروس للفستان الأبيض المخرز بخرز سكري
السؤال
هل يجوز للعروس أن ترتدي الفستان الأبيض المخرز بخرز سكري ليلة العرس؟
الجواب
الابتعاد عن الأشياء المستوردة وتقليد الأعداء والكفار بما كان من عاداتهم ومن أفعالهم هو المطلوب.(375/31)
الفرق بين من حكم بغير من أنزل الله مستحلاً وغير مستحل
السؤال
هل هناك فرق بين من حكم بغير ما أنزل الله في مسألة واحدة وبين من وضع قوانين تخالف شرع الله عز وجل يرجع إليها؟
الجواب
إذا حكم في مسألة واحدة مستحلاً ذلك ومعتقداً أن هذا حلال فهو كافر، وكذلك إذا حكم في مسائل كثيرة وهو مستحل لذلك فهو كافر، وإن كان وضع هذه النظم معتقداً أن الشريعة لا تصلح وأن النظم هذه هي التي تصلح فهذا كفر، أما إذا كان يعتقد أنه مخطئ وآثم، وأن عمله غير صحيح، فهذا كفر دون كفر، ولا فرق بين مسألة ومائة مسألة.(375/32)
سبب اعتذار إبراهيم عليه السلام عن مقام الشفاعة العظمى يوم القيامة
السؤال
الكذبات التي قالها إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم من باب المعاريض، فلماذا يعتذر بهذه الكذبات عن مقام الشفاعة العظمى يوم القيامة؟
الجواب
لأن الأنبياء كما هو معلوم هم أفضل الناس وأعلى الناس، والشيء وإن كان ليس على حقيقته، ولكنهم يرون ذلك عظيماً وإن كان يسوغ لهم فعله، وأنه من باب المعاريض، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام هو خليل الرحمن الذي اتخذه الله خليلاً، وهذا من كماله وتواضعه لله عز وجل.(375/33)
وقت قول الإنسان بعد المؤذن وأنا أشهد أن محمداً رسول الله
السؤال
متى يقول الإنسان إذا سمع المؤذن: وأنا أشهد أن محمداً رسول الله، رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً؟
الجواب
عند شهادة أن محمداً رسول الله.(375/34)
بيان أن الأولى ترك المعاريض الموهمة
السؤال
قول بعض السلف: إنه أصبح يكره الحق، ويحب الفتنة، ويصلي بغير وضوء.
والمقصود: الموت والأولاد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهل هذه تعتبر من المعاريض؟ وهل يجوز حكاية مثل هذه الأقوال؟
الجواب
مثل هذه الأشياء بعد توضيحها وبيانها يتبين أن صاحبها ليس كما يتبادر إلى السامع، ولكن كون الإنسان يبتعد عن مثل ذلك ويعود نفسه السلامة من مثل هذا الكلام لا شك أنه خير.(375/35)
كيفية معاملة الرجل لزوجته التي لا تستجيب لفراشه
السؤال
لدي زوجة وإذا طلبتها للفراش لا تأتي ولو خوفتها، فماذا يجب علي؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم بين الوعيد الشديد في حق من كان هذا حالها، فإذا كان يمكنه الاستفادة منها وإلا فإنه يسرحها ويتخلص منها.(375/36)
متى يقول المؤذن: الصلاة خير من النوم
السؤال
قول: الصلاة خير من النوم هل يقال في الأذان الأول أو الثاني؟
الجواب
يقال في الأذان الذي عند دخول الوقت؛ لأن هذا هو الوقت الذي ليس للناس أن يناموا فيه، وأما الأذان الأول فهو كما جاء في الحديث أنه لأجل أن يوقض النائم ويرجع القائم، وقد قال بعض أهل العلم: إن المقصود بالأذان الأول: الأذان الثاني بالنسبة للإقامة، فإنه أول بالنسبة للإقامة، ولهذا جاء أن الأذان الذي أتى به عثمان بن عفان رضي الله عنه قالوا له: الأذان الثالث، أي: الثالث بالنسبة للإقامة والأذان الذي عند صعود الخطيب على المنبر، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين كل أذانين صلاة) أي: الأذان والإقامة.(375/37)
حكم زيادة الثقة
السؤال
ما رأيكم في قول من يقول: إن المتقدمين يكادون أن يجمعوا على أن زيادة الثقة لا تقبل؟
الجواب
زيادة الثقة كالحديث المستقل، ومعلوم أن من الرواة من يحدث بما حفظ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، والزيادة في الحديث كرواية حديث مستقل، فلو أنه روى حديثاً مستقلاً قُبل منه، فكذلك إذا روى وحفظ أكثر مما حفظه غيره فإنه يقبل، والزيادة من الثقة مقبولة معروفة، لكن كونه بهذا الوصف الذي ذكره أن المتقدمين يكادون يجمعون، وأن الأكثرية على أن زيادة الثقة لا تقبل، هذا لا أعتقد أنه صحيح.(375/38)
حكم سب الدين
السؤال
من سب الدين ولم يرد بذلك الخروج من الدين، فهل حكمه مثل حكم من قال عن نفسه: إنه بريء من هذا الدين؟
الجواب
الذي يسب الله عز وجل أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم أو يسب دين الإسلام ظاهره الكفر، وليس مثل من قال هذا الكلام الذي يقوله عند الغضب: إنه يهودي أو نصراني، فكونه يسب الله عز وجل الذي هو رب العالمين وخالق لكل شيء هذا كفر، وكذلك إذا سب الرسول عليه الصلاة والسلام الذي رسالته أعظم منة امتن الله تعالى بها على المسلمين، ولهذا كانت محبته أعظم من محبة النفس والوالد والولد والناس أجمعين، فالذي يبدو أن هذا ليس مثل هذا.
والله أعلم.(375/39)
شرح سنن أبي داود [376]
اليمين فيها تعظيم للمحلوف به، فلا يجوز الحلف إلا بالله عز وجل، ولذا كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم كلها فيها تعظيم لله عز وجل، ولا يجوز الحلف على كذب أو قطيعة رحم أو معصية، ومن حلف على ذلك فلا يجوز له الوفاء بما حلف عليه، وإن تعارض حلفان كحلف الضيف والمضيف في طعام فأبرهم وأصدقهم من بدأ بالأكل.(376/1)
كيفية يمين النبي صلى الله عليه وسلم(376/2)
شرح حديث (أكثر ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلف بهذه اليمين: لا ومقلب القلوب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في يمين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كانت.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا ابن المبارك عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أكثر ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحلف بهذه اليمين: لا، ومقلب القلوب!)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: [باب ما جاء في يمين النبي صلى الله عليه وسلم ما كانت].
أي: في قسم النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يقسم؟ وما هي الصيغة التي كان يأتي بها؟ وما هو اللفظ الذي كان يأتي به في حلفه صلى الله عليه وسلم؟ وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كانت أكثر يمين النبي صلى الله عليه وسلم: لا، ومقلب القلوب! يعني: أن أكثر ما كان يحلف به النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر ما كان يتلفظ به عليه الصلاة والسلام حالفاً هو اللفظ: (لا، ومقلب القلوب!) فهذا اللفظ أكثر ما كان يستعمله النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي ذكر تقليب القلوب تعظيم لله عز وجل، وأنه هو الذي يقلب القلوب كيف يشاء، فيحولها من الضعف إلى القوة ومن القوة إلى الضعف، ومن الإيمان إلى الكفر ومن الكفر إلى الإيمان، فهو الذي يتصرف كيف يشاء، وهو الذي يقلبها كيف يشاء.
وكلمة (لا) يقصد بها نفي شيء ثم الحلف بعد ذلك، وقد تأتي اليمين بدون أن يسبقها (لا)، ولكن إذا كانت على نفي فإنه تتقدم كلمة (لا) على الحلف، كما مر في لغو اليمين: لا والله، وبلى والله.(376/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أكثر ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلف بهذه اليمين: لا ومقلب القلوب)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا ابن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك المروزي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن موسى بن عقبة].
هو موسى بن عقبة المدني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم].
هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، وهو رحمه الله ثقة فقيه من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(376/4)
شرح حديث (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في اليمين قال: والذي نفس أبي القاسم بيده)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع حدثنا عكرمة بن عمار عن عاصم بن شميخ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا اجتهد في اليمين قال: والذي نفس أبي القاسم بيده!)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اجتهد في اليمين قال: والذي نفس أبي القاسم بيده!) يعني: أنه كان إذا اجتهد في اليمين فإنه يأتي بهذه الصيغة، وقد كان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يحلف بقوله: (والذي نفسي بيده!) كما جاء في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أنه يحلف بهذا الحلف مؤكداً الشيء الذي يريد تأكيده بأن يقول: (والذي نفسي بيده)، أو (والذي نفس محمد بيده)، وهنا قال أبو سعيد: إنه كان إذا اجتهد في اليمين يعني: اهتم بها يأتي بها بهذه الصيغة التي هي قوله: (والذي نفس أبي القاسم بيده!) صلى الله عليه وسلم.
والحديث ضعفه الشيخ الألباني؛ لأن فيه من هو متكلم فيهم.(376/5)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في اليمين قال: والذي نفس أبي القاسم بيده)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عكرمة بن عمار].
عكرمة بن عمار صدوق يغلط، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عاصم بن شميخ].
عاصم بن شميخ وثقه العجلي وأخرج له أبو داود.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري رضي الله عنه هو سعد بن مالك بن سنان الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(376/6)
شرح حديث (كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حلف يقول: لا وأستغفر الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة أخبرني زيد بن الحباب أخبرني محمد بن هلال حدثني أبي أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: (كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حلف يقول: لا، وأستغفر الله)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة قال: (كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حلف يقول: لا، وأستغفر الله) وهذا في الحقيقة ليس فيه حلف؛ لأن لفظ: (أستغفر الله) ليس بيمين.
والحديث ضعيف ضعفه الشيخ الألباني؛ لأن فيه من هو متكلم فيه، ولفظه ليس متفقاً مع القسم ومع اليمين؛ لأن القسم والحلف إنما هو بالله وبأسمائه وصفاته على توكيد شيء، وهذا ليس بحلف، وليس فيه إلا الاستغفار.(376/7)
تراجم رجال إسناد حديث (كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حلف يقول لا، وأستغفر الله)
قوله: [حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة].
محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[أخبرني زيد بن حباب].
زيد بن الحباب صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرني محمد بن هلال].
هو محمد بن هلال بن أبي هلال، وهو صدوق أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثني أبي].
أبوه هو هلال بن أبي هلال، وهو مقبول أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أنه سمع أبا هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو أكثر السبعة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(376/8)
شرح حديث (فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر إلهك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا إبراهيم بن حمزة حدثنا عبد الملك بن عياش السمعي الأنصاري عن دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي عن أبيه عن عمه لقيط بن عامر رضي الله عنه، قال دلهم: وحدثنيه أيضاً الأسود بن عبد الله عن عاصم بن لقيط أن لقيط بن عامر خرج وافداً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال لقيط: (فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر حديثاً فيه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لعمر إلهك)].
أورد أبو داود حديث لقيط بن عامر بن صبرة رضي الله عنه أنه قدم وافداً على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر حديثاً طويلاً وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعمر إلهك) وهذا حلف، والمقصود بالعمر: الحياة، وقد جاء ذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] وهذا من الله عز وجل، وقد قال بعض أهل العلم: إن هذا يمين، وقال بعضهم: إنه ليس بيمين، والأقرب أنه ليس بيمين؛ لأنه استعمله الرسول عليه الصلاة والسلام واستعمله الصحابة واستعمله من بعدهم، فكان الواحد منهم يقول: لعمري، ومعلوم أنه قد جاء في الأحاديث النهي عن الحلف بغير الله عز وجل، فكون الصحابة يقولون هذا الكلام لا يعتبر حلفاً، وإنما هو من ألفاظ تأكيد الكلام مثل: لا جرم، وحقاً، وغير ذلك من العبارات التي يؤتى بها لتأكيد الكلام من غير أن تكون قسماً.
فمما يوضح أنها غير قسم أنه قد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعمري) وجاء عن الصحابة مثل عائشة أنها قالت: (لعمري) وجاء عن جماعة من سلف هذه الأمة من بعد الصحابة أنهم كانوا يستعملونها ويقول أحدهم: لعمري.
إذاً: هذه اللفظة من ألفاظ التأكيد وليست من ألفاظ القسم، وللشيخ حماد الأنصاري رحمه الله بحث في هذه الكلمة منشور في مجلة الجامعة حول لفظة: (لعمري)، وقد بين النقول عن العلماء أنها ليست بقسم، وأنها من ألفاظ تأكيد الكلام.(376/9)
تراجم رجال إسناد حديث (فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر إلهك)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا إبراهيم بن حمزة].
هو إبراهيم بن حمزة الزبيري، وهو صدوق أخرج له البخاري والنسائي في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا عبد الملك بن عياش السمعي الأنصاري].
عبد الملك بن عياش السمعي ويقال له: عبد الرحمن مقبول أخرج له أبو داود.
[عن دلهم بن الأسود بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي].
دلهم بن الأسود مقبول أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
أبوه مقبول أخرج له أبو داود.
[عن عمه لقيط بن عامر].
لقيط بن عامر رضي الله عنه صحابي، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
قوله: [قال دلهم: وحدثنيه أيضاً الأسود بن عبد الله عن عاصم بن لقيط].
الأسود بن عبد الله تقدم ذكره.
وعاصم بن لقيط ثقة أخرج له أبو داود.
[أن لقيط بن عامر].
لقيط بن عامر تقدم ذكره.
والحديث ضعيف، ومع ذلك كما ذكرنا أن الأقرب -والله أعلم- أن هذه ليست من ألفاظ القسم وإنما هي من ألفاظ تأكيد الكلام، والسلف كانوا يستعملونها، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعمري من أكل برقية باطلاً فقد أكلت برقية حقاً)، وعائشة رضي الله عنها قالت: (لعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة)، وكذلك جاء عن جماعة من العلماء المتقدمين والمتأخرين أن الواحد منهم كان يقول: لعمري.
وفي تحفة الأشراف زيادة (عن أبيه) في الإسناد الأول فيكون: عن دلهم بن الأسود بن عبد الله عن أبيه، ثم بعد ذلك عن عمه لقيط.
وهذا لا يؤثر؛ لأن كلمة (عم) تطلق على أخي الرجل وأيضاً تطلق على عم أبيه، فعم الأب يقال له: عم.
فإذا كانت الزيادة ثابتة فيصير العم هو أخو الأب، وأما بدونها فيكون عم الرجل هو عمه كما هو معلوم.
وإذا ثبتت هذه الزيادة فإن الحديث يزداد ضعفاً؛ لأن عبد الله بن حاجب قال عنه الحافظ: مجهول.(376/10)
القسم هل يكون يميناً(376/11)
شرح حديث (أن أبا بكر أقسم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: لا تقسم)
قال المصنف رحمه الله تعالى [باب في القسم هل يكون يميناً.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن أبا بكر رضي الله عنه أقسم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا تقسم)].
قوله: [باب في القسم] أي: في لفظ القسم [هل يكون يميناً] أي: بدون أن يكون معها (بالله)؛ لأنه لو قال: بالله أو أقسمت بالله فهو يمين سواء قال قبلها: أقسمت أو لم يقل، فلو قال: بالله ما حصل كذا وكذا، أو أقسمت بالله ما حصل كذا وكذا، أو أقسمت بالله لأفعلن كذا وكذا، أو بالله لأفعلن كذا وكذا، فهذا هو يمين ما دام أن كلمة (بالله) التي هي القسم موجودة، لكن الكلام على أقسمت بدون (بالله)، كأن يقول: أقسمت أن أفعل كذا وكذا، أو أقسمت أن تفعل كذا وكذا، فهل تكون يميناً أو لا تكون يميناً؟ من أهل العلم من قال: إنها تكون يميناً، ومنهم من قال: لا تكون يميناً؛ لأنه لم يحصل الإقسام بالله عز وجل فلا تكون قسماً.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عباس: (أن أبا بكر أقسم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقسم) وهذا في قصة الرؤيا التي رآها رجل فأتى بها وعرضها على النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس فيه أبو بكر، فطلب أبو بكر رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن له أن يعبرها، فأذن له فعبرها، فقال: (أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً.
فقال: أقسمت لتخبرنني بما أخطأت، فقال: لا تقسم) فهو لم يقل: أقسمت بالله، وإنما قال: أقسمت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقسم)، فمن أهل العلم من قال: إنها تكون قسماً بالنية.
ومنهم من قال: إنها لا تكون قسماً.
والذي يظهر: أنها ليست بقسم، وإنما هي مجرد كلمة لا تعد قسماً، ومثلها كلمة (حلفت عليك)، فإنها من جنس أقسمت؛ لأنه لم يأت بعدها: بالله.(376/12)
تراجم رجال إسناد حديث (أن أبا بكر أقسم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: لا تقسم)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان].
أحمد بن حنبل مر ذكره، وسفيان هو ابن عيينة المكي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو الذي أدركه الإمام أحمد وأما الثوري فإنه لم يدركه؛ لأن الإمام أحمد ولد بعد وفاته بأربع سنوات أو ثلاث؛ فإن الإمام أحمد توفي سنة (241هـ) وعمره سبع وسبعون سنة، والثوري توفي سنة (161هـ)، فالإمام أحمد إنما يروي عن سفيان بن عيينة الذي أدركه وكانت وفاته سنة (197 أو 198 هـ) أو قريباً من ذلك، فـ ابن عيينة هو الذي أدركه وهو شيخه وهو الذي روى عنه، وأما الثوري فإنه لم يدركه، ولهذا إذا روى الإمام أحمد عن سفيان غير منسوب كما هنا فهو ابن عيينة؛ لأنه شيخه، وأما الثوري فإنه ليس شيخاً له ولم يدركه.
[عن الزهري].
أيضاً الذي يروي عن الزهري هو ابن عيينة، فـ ابن عيينة هو المعروف بالرواية عن الزهري، والزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله، وهو ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن عبد الله].
هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو ثقة فقيه أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.(376/13)
شرح حديث أبي هريرة في قصة تعبير أبي بكر للرؤيا وإقسامه على النبي صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الرزاق قال ابن يحيى: وكتبته من كتابه قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أبو هريرة رضي الله عنه يحدث (أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني أرى الليلة، فذكر رؤيا فعبرها أبو بكر، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً.
فقال: أقسمت عليك يا رسول الله! بأبي أنت لتحدثني ما الذي أخطأت؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقسم)].
وهذا مثل الذي قبله، إلا أن فيه أن القصة هي قصة رؤيا، وأنه حصل تعبيرها من أبي بكر، وأن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: (أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً) وأنه قال: (أقسمت عليك بأبي أنت يا رسول الله! لتخبرني)، وقوله: (بأبي) ليس قسماً، وإنما هو تفدية، أي: أنت مفدي بأبي أن تخبرني، فمثل هذا إذا جاء فهو من قبيل التفدية لا من قبيل الحلف، والرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (لا تقسم).(376/14)
تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة في قصة تعبير أبي بكر للرؤيا وإقسامه على النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، وهو ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال ابن يحيى: وكتبته من كتابه قال: أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس].
الزهري وعبيد الله وابن عباس قد مر ذكرهم.
وهذا الحديث من مسند أبي هريرة، والأول من مسند ابن عباس.(376/15)
شرح حديث أبي هريرة في قصة تعبير أبي بكر للرؤيا وإقسامه على النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس قال: أخبرنا محمد بن كثير أخبرنا سليمان بن كثير عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الحديث لم يذكر القسم، زاد فيه: ولم يخبره].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى عن ابن عباس وقال إنه لم يذكر القسم، أي: أنه لم يقل: أقسمت، وزاد فيه: (ولم يخبره)، كنص على أنه لم يخبره بالذي أراده أبو بكر حين طلب منه أن يخبره بما أخطأ فيه.
ففي بعض الروايات السابقة أنه قال: أقسمت عليك لتخبرني، أي: بالذي أخطأت فيه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبره، وفي اللفظ المتقدم قال: (لا تقسم) ومعلوم أن الإخبار لم يقع ولم يأت شيء يدل على وقوعه، ولعل في الإخبار به شيئاً من المضرة، فمن أجل ذلك لم يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرجل الذي رأى الرؤيا قال: رأيت ظلة ينطف منها السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون بأيديهم فمنهم المستقل والمستكثر، ورأيت سبباً واصلاًَ من السماء إلى الأرض، فأراك يا رسول الله أخذت به فعلوت به ثم أخذ به رجل آخر فعلا به … إلى آخره فلم يخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بما أخطأ وإنما قال: (لا تقسم).(376/16)
تراجم رجال إسناد الطريق الأخرى لحديث أبي هريرة
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس أخبرنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سليمان بن كثير].
هو سليمان بن كثير العبدي، وهو لا بأس به في غير الزهري أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس].
الزهري وعبيد الله وابن عباس تقدم ذكرهم.(376/17)
معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر (لا تقسم)
إذا قيل: ما الفائدة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر: (لا تقسم) إذا كان قوله: أقسم عليك ليس معناه القسم؟
و
الجواب
أن معناه: أنك لا تفعل، وكأنه يقول له: قد أقسمت، فلا تقسم في المستقبل.
والله أعلم.(376/18)
من حلف على طعام لا يأكله(376/19)
شرح قصة أبي بكر مع أضيافه وحلفه ألا يأكل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن حلف على طعام لا يأكله.
حدثنا مؤمل بن هشام حدثنا إسماعيل عن الجريري عن أبي عثمان أو عن أبي السليل عنه عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: (نزل بنا أضياف لنا، قال: وكان أبو بكر رضي الله عنه يتحدث عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالليل، فقال: لا أرجعن إليك حتى تفرغ من ضيافة هؤلاء ومن قراهم، فأتاهم بقراهم فقالوا: لا نطعمه حتى يأتي أبو بكر، فجاء فقال: ما فعل أضيافكم؟ أفرغتم من قراهم؟ قالوا: لا، قلت: قد أتيتهم بقراهم فأبوا وقالوا: والله! لا نطعمه حتى يجيء، فقالوا: صدق قد أتانا به فأبينا حتى تجيء، قال: فما منعكم؟ قالوا: مكانك، قال: والله! لا أطعمه الليلة، قال: فقالوا: ونحن والله! لا نطعمه حتى تطعمه، قال: ما رأيت في الشر كالليلة قط، قال: قربوا طعامكم، قال: فقرب طعامهم، فقال: بسم الله، فطعم وطعموا، فأخبرت أنه أصبح فغدا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بالذي صنع وصنعوا، قال: بل أنت أبرهم وأصدقهم)].
أورد أبو داود حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه: أن أبا بكر كان له أضياف وأنه طلب منه أن يقدم لهم قراهم وأن يقدم لهم ضيافتهم، وكان مشغولاً مع النبي عليه الصلاة والسلام، فلما قدم لهم الطعام امتنعوا من أكله حتى يحضر أبو بكر وحلفوا على ذلك، فلما جاء أبو بكر قال: هل قدمتم القراء للأضياف؟ قال: إنهم حلفوا ألا يأكلوا حتى تحضر، فسألهم فقالوا: نعم.
فقال: ما منعكم؟ قالوا: مكانك، أي: أنهم يريدون أن يأكلوا معه وأن يكون أكلهم معه لا أن يكون بدون حضوره، فحلف ألا يطعمه، وحلفوا هم ألا يطعموه، فكل أحد حلف ألا يأكل حتى يأكل الآخر، فلما حلف وحلفوا بعده قال: ما رأيت في الشر كالليلة قط، لأجل هذا الذي حصل؛ لأن هذا حلف ألا يأكل وهم حلفوا ألا يأكلوا، وكل واحد أثر على صاحبه في حلفه ألا يأكل، ثم قال: قربوه وبدأ بالأكل، فحنث في حلفه رضي الله تعالى عنه وأرضاه ثم أكلوا، قال: فأخبرت أنه أصبح فغدا على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: (أنت أبرهم وأصدقهم) أي: أنه قد أحسن.
لكن هذه القصة ليس فيها ذكر شيء يتعلق بالكفارة، والأصل هو وجوب الكفارة، فمن حلف ألا يفعل ثم فعل فإنه يكفر، ولا شك أن صنيع أبي بكر حينما ترك يمينه وأتى الذي هو خير هو الأولى والأفضل وهو قد حنث وهم لم يحنثوا، والكفارة الأصل أنها لازمة على من كان كذلك، وليس في الحديث شيء يدل على حصول الكفارة منه، ولكن جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير) وأبو بكر أتى الذي هو خير ولا شك أنه كفر عن يمينه.(376/20)
تراجم رجال إسناد قصة أبي بكر مع أضيافه وحلفه ألا يأكل
قوله: [حدثنا مؤمل بن هشام].
مؤمل بن هشام ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا إسماعيل].
هو إسماعيل بن إبراهيم بن علية، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الجريري].
هو سعيد بن إياس وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عثمان].
هو أبو عثمان النهدي عبد الرحمن بن مل، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أو عن أبي السليل عنه].
هو أبو السليل ضريب بن نقير، وهو ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن أبي بكر].
عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما صحابي، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(376/21)
مسائل متعلقة بقصة أبي بكر مع أضيافه
حلف أبو بكر رضي الله عنه ليس من لغو اليمين؛ لأن هذا شيء مقصود وهو معزوم عليه.
وقول أبي بكر رضي الله عنه: (ما رأيت في الشر كالليلة قط) ليس من باب سب الدهر، وإنما فيه أن ذلك الذي حصل في تلك الليلة ليس شيئاً طيباً.
وقوله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر: (بل أنت أبرهم وأصدقهم) ليس فيه أنه لم يحنث في يمينه، بل إنه رضي الله عنه حنث في يمينه، ولكنه أتى الذي هو خير، وكونه أتى الذي هو خير معناه: أنه حصل منه البر، وليس المقصود أنه أبرهم بيمينه، ولكن المقصود: أنه من أهل البر وأهل الصدق، فهو حنث في يمينه لأنه حلف ألا يأكل ثم أكل، لكن هذا مدح له في البر والصدق.(376/22)
طريق أخرى لقصة أبي بكر مع أضيافه وحلفه ألا يأكل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن المثنى حدثنا سالم بن نوح وعبد الأعلى عن الجريري عن أبي عثمان عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما بهذا الحديث نحوه.
زاد عن سالم في حديثه قال: ولم يبلغني كفارة].
أورد أبو داود حديث عبد الرحمن بن أبي بكر من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله وزاد عن سالم أنه قال: (لم يبلغني كفارة)، أي: أنه ما بلغه أنه كفَّر، وهذا لا يدل على أنه لم يكفر، فإن الأصل هو التكفير؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير).(376/23)
تراجم رجال إسناد الطريق الأخرى لقصة أبي بكر مع أضيافه
قوله: [حدثنا ابن المثنى].
هو محمد بن المثنى العنزي أبو موسى الملقب بـ الزمن، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سالم بن نوح].
سالم بن نوح صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[وعبد الأعلى].
هو عبد الأعلى بن عبد الأعلى، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الجريري عن أبي عثمان عن عبد الرحمن بن أبي بكر].
الجريري وأبو عثمان وعبد الرحمن بن أبي بكر قد مر ذكرهم.
وهذا فيه الرواية بالجزم عن أبي عثمان وليس مثل الذي قبله: عن أبي عثمان أو عن أبي السليل عنه.(376/24)
شرح سنن أبي داود [377]
لا نذر إلى فيما يبتغي به وجه الله، والنذر في غير ابتغاء وجه الله شرك، ولا تكون كفارة إلا في اليمين على الأمر المستقبل، ولا بد من الكفارة عن اليمين قبل الحنث إلا فيما لا يعبأ به من أمر تافه فإنه يأتي بالذي هو خير منه.(377/1)
اليمين في قطيعة الرحم(377/2)
شرح حديث (لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب وفي قطيعة الرحم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب اليمين في قطيعة الرحم.
حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب: أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة، فقال: إن عدت تسألني عن القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة، فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك، كفر عن يمينك وكلم أخاك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب وفي قطيعة الرحم وفيما لا تملك)].
قوله: [باب اليمين في قطيعة الرحم].
اليمين في قطيعة الرحم لا تجوز، والوفاء بها إذا وقعت لا يجوز، فلو حصل من شخص يمين على قطيعة الرحم فإنه لا يجوز له أن يفي بها، بل يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير.
وقد أورد أبو داود عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة، فقال: إن عدت تسألني عن القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة.
أي: أن أحدهما أراد القسمة، والثاني لم يرد القسمة، فقال: إن عدت تسألني عن هذا الذي سألتني عنه فكل مالي في رتاج الكعبة، أي: لمصالح الكعبة، أو وقف على مصالح الكعبة، فقال له عمر: (إن الكعبة غنية عن مالك)، أي: أن هذا الذي حصل لم يحصل إلا من أجل قطيعة رحم، ثم قال: (كفر عن يمينك وكلم أخاك) أي: في الشيء الذي امتنعت منه ولا تستمر على ذلك، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب وفي قطيعة الرحم وفيما لا تملك) أي: أن الإنسان إذا حلف على قطع رحم أو نذر قطع رحم فإنه لا يفي بذلك.
وقوله: (وفي قطيعة الرحم ولا فيما تملك) أي: أن اليمين وكذلك النذر لا يكون من الإنسان في معصية الله، ولا في قطيعة الرحم، ولا في شيء لا يملكه الإنسان، وإنما يكون في شيء يملكه الإنسان وفي طاعة الله وفي غير قطيعة الرحم، واليمين لا يجوز الوفاء بها إذا كانت في قطع الرحم أو في معصية الله، وكذلك النذر، ولكن يجب على الإنسان أن يكفر؛ لأن النذر كفارته كفارة يمين.
وقول عمر: (كفر عن يمينك وكلم أخاك) إن كان أتى بهذا على أساس أن النذر مثل اليمين، فهذا من جنس التحريم الذي جاء في القرآن في قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2]، وهو صلى الله عليه وسلم إنما حرم على نفسه شيئاً معيناً حيث قال: إنه لن يأكله أو لن يفعله، وكما جاء في الآية أنه إما أن يتعلق بالأمة والسرية، أو أنه يتعلق بالشيء الذي حرمه على نفسه وهو العسل الذي كان يأكله من بيت إحدى زوجاته فأنزل الله عز وجل: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2].
ويقول الخطابي: إن النذر إذا خرج مخرج اليمين كان بمنزلة اليمين في أن الكفارة تجزئ عنه.
وقد جاء في الحديث: (أن النذر كفارته كفارة يمين).
فقوله: (إن عدت تسألني عن القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة) من قبيل التحريم الذي حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم على نفسه ألا يأكله وسمي يميناً.(377/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب وفي قطيعة الرحم)
قوله: [حدثنا محمد بن المنهال].
محمد بن المنهال ثقة أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حبيب المعلم].
حبيب المعلم اختلف في اسم أبيه فقيل: زائدة وقيل: زيد، وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب].
عمرو بن شعيب صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[فقال له عمر].
هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابي الجليل، ثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث ضعفه الألباني، ولا أدري ما وجه التضعيف، فإن سعيداً روى عن عمر وعثمان وعلي، ولكنه روى عن أبي بكر مرسلاً، وقد أدرك زمن عمر وأدرك مدة من حياة حياته.(377/4)
شرح حديث (لا نذر إلا فيما يبتغى به وجه الله ولا يمين في قطيعة رحم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن عبدة الضبي أخبرنا المغيرة بن عبد الرحمن حدثني أبي عبد الرحمن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله وآله وسلم قال: (لا نذر إلا فيما يبتغى به وجه الله، ولا يمين في قطيعة رحم)].
أورد أبو داود حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نذر إلا فيما يبتغى به وجه الله، ولا يمين في قطيعة رحم) أي: لا يحصل هذا ولا هذا، فاليمين لا تكون إلا في قربة وفي طاعة ولا تكون في معصية، وكذلك أيضاً لا تكون في قطيعة رحم، وإنما تكون في أمر مباح وأمر سائغ ومشروع، وأما الأمر المحرم فلا ينذر ولا يحلف فيه، والجميع -كما تقدم- فيه الكفارة.(377/5)
تراجم رجال إسناد حديث (لا نذر إلا فيما يبتغى به وجه الله ولا يمين في قطيعة رحم)
قوله: [حدثنا أحمد بن عبدة الضبي].
أحمد بن عبدة الضبي ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا المغيرة بن عبد الرحمن].
المغيرة بن عبد الرحمن صدوق يهم، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثني أبي عبد الرحمن].
أبوه عبد الرحمن صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب عن أبيه].
عمرو بن شعيب مر ذكره، وأبوه هو شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو، وهو صدوق كابنه أخرج له البخاري في الأدب المفرد وجزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن جده].
جده عبد الله بن عمرو، وليس المقصود به جد عمرو، وإنما هو جد شعيب الذي هو عبد الله بن عمرو؛ لأن أباه محمد بن عمرو ليس صحابياً، وإذا كانت الرواية تنتهي إليه فالحديث يكون مرسلاً، وقد صح أن عمرو بن شعيب سمع من جده عبد الله بن عمرو فهو متصل، ولهذا يأتي في بعض الأحاديث عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهذا معناه: أن أباه شعيباً يروي عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص وليس عن أبيه محمد فيكون مرسلاً منقطعاً.
وعبد الله بن عمرو بن العاص هو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(377/6)
شرح حديث (لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم ولا في معصية الله ولا في قطيعة رحم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا المنذر بن الوليد قال: حدثنا عبد الله بن بكر حدثنا عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم ولا في معصية الله ولا في قطيعة رحم، ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليدعها وليأت الذي هو خير فإن تركها كفارتها)].
أورد أبو داود حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم) أي: أن الإنسان لا ينذر شيئاً لا يملكه بل هو ملك غيره، ولا يحلف على شيء يتعلق بملك غيره، وإنما يكون في الشيء الذي يملكه الإنسان سواء كان نذراً أو يميناً.
وقوله: (ولا في معصية الله) أي: لا ينذر شيئاً في معصية، ولا يحلف على شيء هو معصية.
وقوله: (ولا في قطيعة رحم) كذلك قطيعة الرحم لا نذر ولا يمين فيها.
وقوله: (ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليدعها وليأت الذي هو خير) وهذا عام، فكل من حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها فإنه يدعها ويأتي الذي هو خير، وإذا كانت في أمر محرم أو في معصية فلا شك أن غيرها خير منها، وأما إذا كان في أمر مباح فقد يكون الإقدام والتنفيذ خيراً، وأما إذا كان معصية فالتنفيذ لا يجوز والترك هو المتعين.
وقوله: (فإن تركها كفارتها) هذا لا يدل على أنه لا كفارة على من نذر معصية، ولكن هذا يدل على أن تركها متعين وأن فعلها حرام ولا يجوز الإقدام عليه، وكون الإنسان يتركها من أجل الله يثاب على ذلك، ولكن ذلك لا يغني عن الكفارة، والنذر كفارته كفارة يمين.
وإذا صح قوله: (فإن تركها كفارتها) فالمقصود أن المعصية لا تفعل، كون الإنسان يتركها من أجل الله لا شك أنه مأجور على ذلك وأنه على خير، ولكن كونه حلف فإنه مع تركها عليه الكفارة التي هي كفارة اليمين.(377/7)
تراجم رجال إسناد حديث (لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم ولا في معصية الله ولا في قطيعة رحم)
قوله: [حدثنا المنذر بن الوليد].
المنذر بن الوليد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود.
[حدثنا عبد الله بن بكر].
عبد الله بن بكر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن الأخنس].
عبيد الله بن الأخنس صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده].
عمرو بن شعيب وأبوه وجده قد مر ذكرهم.(377/8)
بيان أن أكثر الأحاديث في الكفارة قبل الحنث
[قال أبو داود: الأحاديث كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وليكفر عن يمينه) إلا فيما لا يعبأ به].
أي: أن الأحاديث كلها جاءت في أنه إذا حلف يميناً ولم يفعلها فإنه يكفر عنها، ولا يأتي الذي هو خير إلا فيما لا يعبأ به ولعله يعني في الشيء التافه.
ويمكن أن يكون المعنى: إلا فيما لا يعبأ به من الأحاديث؛ لأنه جاء في بعض الأحاديث شيء من هذا الذي أشار إليه.(377/9)
حال يحيى بن عبيد الله
[قال أبو داود: قلت لـ أحمد: روى يحيى بن سعيد عن يحيى بن عبيد الله؟ فقال: تركه بعد ذلك وكان أهلاً لذلك، قال أحمد: أحاديثه مناكير وأبوه لا يعرف].
يحيى بن سعيد هو القطان، ويحيى بن عبيد الله هو ابن عبد الله بن موهب وهو متروك أخرج له الترمذي وابن ماجة.
وقوله: [فقال: تركه بعد ذلك].
أي: أن يحيى بن سعيد روى عنه ولكنه تركه بعد ذلك.
وقوله: [وكان أهلاً لذلك].
أي: وكان أهلاً لأن يتركه.
وقوله: [قال أحمد: أحاديثه مناكير وأبوه لا يعرف].
أي: أن أباه مجهول، ولكن كلمة (مناكير) عند الإمام أحمد لها اصطلاح خاص، فإذا قال: أحاديثه مناكير، فإن كان معروفاً بذلك مثل هذا الذي هو متروك فإنه يكون على الجادة، لكن يقول بعض أهل العلم: إنه يطلق المنكر أو المناكير على ما يكون به التفرد، وأن الراوي إذا تفرد بأشياء عن غيره يقول عنه: أحاديثه مناكير، ولكنها لا تكون مردودة؛ لأن التفرد محتمل، فمن تفرد بأحاديث فإنه يحتمل أن تكون أحاديثه مقبولة، وقد ذكر هذا الحافظ في مقدمة الفتح عند ترجمة بريد بن عبد الله بن أبي بردة، ذكر هذا الاصطلاح عن بعض المحدثين، والذي يظهر أنه لا يقصد بها هنا مجرد التفرد؛ لأن هذا الراوي متروك، ولذا قال: وكان أهلاً للترك.
ولعل المقصود: أنه متروك في أشياء تتعلق بالشيء الذي لا يعبأ به، لكن ما دام أنه قال: كان أهلاً للترك فمعناه: أنه متروك مطلقاً.(377/10)
من يحلف كاذباً متعمداً(377/11)
شرح حديث (أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن يحلف كاذباً متعمداً.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الطالب البينة فلم تكن له بينة، فاستحلف المطلوب فحلف بالله الذي لا إله إلا هو، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بلى قد فعلت، ولكن قد غفر لك بإخلاص قول: لا إله إلا الله)].
قوله: [باب فيمن يحلف كاذباً متعمداً].
هذه الترجمة أتى بها مطلقة، والمقصود: ما حكمه؟ فقد يكون متعمداً ولكنه قد يكون مغفوراً له، ولكن هذا لا يقال في كل أحد، إنما هو في هذا الذي ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام وفي قصة الشخص الذي قال له: (بلى ولكن الله قد غفر لك بإخلاص قول: لا إله إلا الله)، فهذا شيء جاء عن الوحي وعن إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على شيء حصل على خلاف الواقع.
وقوله: (بلى قد فعلت) أي: أن هذا الذي حلفت عليه لست صادقاً فيه وإنما أنت كاذب فيه، ولكن الله غفر لك بأنك قلت: والله الذي لا إله إلا هو، فحينما ذكرت الشهادة مخلصاً كان ذلك كفارة لهذا الإثم الذي حصل منك، لكن هذا لا يقال لكن من يحلف ويقول: والله الذي لا إله إلا هو؛ لأن ذاك حصل به وحي ودل على أنه كان مخلصاً، وأيضاً الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إنك كنت مخلصاً، فلا يقاس عليه غيره، ولا يقال: إن غيره يكون كذلك، ولا يقال: إن هذا حكم عام، بل هذا حكم مقصور ومخصوص فيما ورد؛ لأن فيه حصول شيء عن طريق الوحي وهو أنه أخبر بأنه قد فعل وأنه ليس صادقاً فيما حلف عليه، بل هو كاذب فيما حلف عليه، ولكن هذا الكذب غفر له بسبب هذا الذي أضافه إلى اليمين من الإخلاص لله عز وجل.
والحديث في إسناده رجل متكلم فيه وهو عطاء بن السائب، فإنه اختلط، والشيخ ناصر صححه، ولعله لوجود شواهد له، فيكون قد جاء عن ابن عباس وجاء عن غيره، فقد جاءت قصص أخرى فيها أن جبريل نزل وقال له كذا وكذا، فيمكن أن يكون هذا التصحيح مع وجود هذا الرجل المختلط للشواهد الأخرى التي جاءت من طرق أخرى غير هذه الطريق، وقد أشار إليها في عون المعبود، فإنه ذكر حديث ابن عباس وحديثاً آخر أيضاً بهذا المعنى.
[قال أبو داود: يراد من هذا الحديث أنه لم يأمره بالكفارة].
أي: فيما حلف عليه، ولعل اليمين لم تكن معقودة على أمر وإنما على خبر، ومعلوم أن اليمين التي على خبر هي اليمين الغموس ولا كفارة فيها، وليس فيها إلا الاستغفار والتوبة كما ذكرنا ذلك فيما مضى، وإنما الكفارة تكون في الأمر المستقبل الذي يقول فيه: والله لأفعلن أو والله لا أفعل، ثم يحنث، وأما ذاك فهو إما صادق فيما أخبر به ويكون سالماً من الإثم، وإما كاذب فيأثم لحصول الكذب منه، فهنا لم يأمره بكفارة لأن هذا المجال ليس مجال كفارة؛ لأنه ليس على أمر مستقبل، ولم تكن يمينه معقودة على أمر يفعله أو لا يفعله، وإنما هي مبنية على الإخبار: والله ما حصل كذا أو والله إنه حصل كذا.(377/12)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو ابن سلمة بن دينار البصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وحماد إذا جاء غير المنسوب ويروي عنه موسى بن إسماعيل فالمراد به حماد بن سلمة وليس المراد حماد بن زيد؛ لأن حماد بن زيد وحماد بن سلمة قرينان، وهما في وقت واحد، وهما بصريان ومتفقان في الشيوخ والتلاميذ كثيراً، ولهذا يأتي في تراجم بعض الرواة: روى عن الحمادين إذا كانا في شيوخه، وإذا كانا من تلاميذه يقال: روى عنه الحمادان.
وقد اختص بعض الرواة بالرواية عن أحدهما دون الآخر، فإذا جاء موسى بن إسماعيل يروي عن حماد غير منسوب, فالمراد به حماد بن سلمة , وإذا جاء سليمان بن حرب يروي عن حماد غير منسوب, فالمراد به حماد بن زيد , وقد ذكر المزي في تهذيب الكمال بعد ترجمة حماد بن سلمة فصلاً ذكر فيه بعض التلاميذ الذين إذا رووا عن حماد فالمراد حماد بن زيد، وإذا روى غيرهم عن حماد فالمراد حماد بن سلمة , وهذا الذي هنا هو من هذا القبيل؛ لأن موسى بن إسماعيل يروي عن حماد بن سلمة، فحيث جاء مهملاً فالمراد به حماد بن سلمة , وحماد بن سلمة ثقة أخرج له البخاري تعليقا ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا عطاء بن السائب].
عطاء بن السائب صدوق اختلط، أخرج حديثه البخاري مقروناً وأصحاب السنن, والذين رووا عنه قبل الاختلاط روايتهم صحيحة, والذين رووا عنه بعد الاختلاط أو رووا قبل الاختلاط وبعده, ولم يتميز، فروايتهم لا يعتد بها, وحماد بن سلمة ممن روى عنه قبل الاختلاط وبعد الاختلاط, بخلاف فـ حماد بن زيد فقد روى عنه قبل الاختلاط, فإذا روى عن عطاء بن السائب فروايته صحيحة, وأما حماد بن سلمة فروى عنه قبل الاختلاط وبعد الاختلاط, وعلى هذا فروايته عنه فيها نظر.
ولكن لعل التصحيح الذي ذكرت عن الشيخ ناصر رحمه الله هو للشواهد الأخرى التي جاءت في هذا المعنى.
[عن أبي يحيى].
هو زياد المكي الأعرج، وهو ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن ابن عباس].
ابن عباس رضي الله عنه قد مر ذكره.(377/13)
الأسئلة(377/14)
بيان أن الكفارة تكون في اليمين على الأمر المستقبل
السؤال
هل الكفارة تكون في اليمين التي على المستقبل فقط؟
الجواب
نعم, لا تكون إلا في يمين معقودة على أمر مستقبل, وأما اليمين على الخبر, فإن صدق المتكلم فيسلم من الذنب، وإن كذب فهي يمين غموس.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقسم) جاء في رواية البخاري ومسلم: (والله لتحدثني يا رسول الله! فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تقسم) فقوله هنا: (لا تقسم) فيه اختصار.(377/15)
حكم الحلف بصيغة وحق الله، وعهد الله، والقديم الأزلي
السؤال
هل يجوز الحلف بصيغة: وحق الله, وعهد الله، والقديم الأزلي؟
الجواب
لا يجوز ذلك؛ لأن العهد مثل الأمانة, وحق الله هو العبادة.
وأما القديم الأزلي فيمكن؛ لأن الله عز وجل قديم أزلي, وهو بهذا قد حلف بالله, وإن كانت كلمة القديم لم تأت في أسماء الله, وكذلك الأزلي، ولكن لا شك أن الله تعالى لا بداية له.(377/16)
حكم إطعام مسكينين خمس مرات في كفارة اليمين
السؤال
هل يجزئ في كفارة اليمين إطعام مسكينين خمس مرات؟ وهل يلزم إخبارهم أن هذا الطعام كفارة يمين؟
الجواب
إذا كان المساكين موجودين فيطعم عشرة, وإذا كان لا وجود لهم, أو كانوا قليلين فيمكن أن يعطي خمسة منهم طعام يومين, أو يعطيهم في كل يوم طعاماً لمدة يومين.
وأما إذا كان المساكين كثيراً فيطعم عشرة حتى يفيد عدداً لا أن يفيد شخصاً واحداً أو شخصين.
ولا يلزم أن يخبرهم أنه طعام كفارة ما دام أنه يعرف أنهم مستحقون له.(377/17)
تعريف المسكين
السؤال
من هو المسكين في هذا العصر؟ المسكين في هذا العصر وفي كل عصر: هو الذي ليس عنده شيء يكفيه, فالفقير والمسكين: هما اللذان لا يجدان كفاية لهما, وهما بحاجة إلى إحسان المحسنين, والفرق بين الفقير والمسكين: أن الفقير أشد حاجة, قالوا: إن الفقير هو الذي لا يجد شيئاً أصلاً, والمسكين هو الذي يجد شيئاً لا يكفيه.(377/18)
قول الإنسان إن رزقني الله مالاً لأتصدقن
السؤال
إذا قال شخص: والله! إن رزقني الله مالاً لأتصدقن، فهل هذا نذر فيما لا يملكه؟
الجواب
هذا مثل النذر، كأن يقول: إن شفى الله مريضي لأفعل كذا, وقوله: إن رزقني الله مالاً لأتصدقن بكذا من هذا القبيل.(377/19)
حكم تسمية الله عز وجل بالمقلب
السؤال
في عون المعبود عند قوله: (يا مقلب القلوب) قال الحافظ: فيه جواز تسمية الله تعالى بما ثبت من صفاته على الوجه الذي يليق به، فما وجهه؟
الجواب
وجه: أن الله يقال له: مقلب القلوب, يطلق عليه ذلك, ولكن هل من أسماء الله المقلب؟ الله أعلم؛ لأن هذا مقيد بالقلوب, والأصل في الأسماء أنها تأتي مطلقة بدون تقييد.(377/20)
إذا حلف الإنسان على شيء لا يريده
السؤال
في بعض الأحيان يحلف الإنسان وهو لا يريد الشيء المحلوف عليه, فما حكم يمينه؟
الجواب
ما دام أنه حصل منه عقد على شيء مستقبل فالأصل أنه يمين؛ لأن الأصل أن الإنسان يحلف على شيء يريده.(377/21)
حكم إتلاف الأشياء المحرمة
السؤال
ما العمل إذا وجد الشخص أشياء مما يعمله الكهنة والمشعوذون؟ وهل له أن يقوم بإحراقه أو سكب الماء عليه وإتلافه؟
الجواب
الأشياء المحرمة يتلفها الإنسان بأي طريقة, سواء بحرقها أو دفنها أو تمزيقها أو غير ذلك، المهم أنه يزيلها ويتلفها.(377/22)
مدى صحة عبارة المدينة منبع من منابع العلوم الشرعية
السؤال
هل هذه العبارة صحيحة: المدينة منبع من منابع العلوم الشرعية, أم أن الصحيح منبع العلوم الشرعية هو الكتاب والسنة فقط؟
الجواب
معلوم أن الكتاب والسنة هما الينبوع الصافي النقي، ولكن إذا أريد به أن المدينة حصل فيها نزول الوحي وشع منها النور, وانتشر منها الهدى، فهذا معنى صحيح, وذلك من ناحية أن مكة والمدينة هما بلدا الوحي ومهبطاه, وقد حصل هذا النور وهذا الينبوع فيهما، ولا شك أن ذلك هو الحق والهدى الذي هو كتاب الله وسنة رسوله, فكتاب الله وسنة رسوله إنما كانا في مكة والمدينة, والرسول صلى الله عليه وسلم كان في مكة ثم كان في المدينة, وسور القرآن منها ما هو مكي ومنها ما هو مدني.
فالمدينة لا شك أنه شع منها النور وخرج منها الخير, وانطلق منها الهداة المصلحون, ولكن الشيء الذي خرج به الناس من الظلمات إلى النور هو الوحي الذي هو كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فإذا أريد: أنه ظهر منها الحق والهدى, وأنه انطلق الهداة المصلحون من المدينة, وأن الكتاب والسنة إنما نزل في مكة والمدينة, وأن كل ما حصل للناس مما فيه السعادة إنما خرج من مكة والمدينة، فلا شك أن الذي خرج من مكة والمدينة هو الحق والهدى، بخلاف الذي خرج من المدن الأخرى من مناهج وطرق جديدة محدثة ليس لها أساس من الدين.(377/23)
بيان الصاع الذي تتعلق به الأحكام والكفارات
السؤال
كيف أضعف خالد القسري الصاع وهو يعلم أن الأحكام متعلقة به كالكفارات والزكوات؟
الجواب
لا أدري، لكن يمكن أن يكون هذا بعد أن عرف أن مقدار صاع الرسول صلى الله عليه وسلم هو خمسة أرطال وثلث، فجعله ستة عشر رطلاً، والذي يتعلق به الأحكام هو ثلث هذا الصاع الكبير؛ لأنه ما دام أنه قد عرف مقدار صاع الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه خمسة أرطال وثلث, فكونه جعله ستة عشر لعله من أجل أن الناس إذا أرادوا أن يكيلوا يكيلون بسرعة؛ لأن المال كثير، وبدلاً من أن يكيل ثلاثة آصع يكيل صاعاً مرة واحدة، فلعل هذا من ناحية الكيل، ولكنه من ناحية الحكم ما دام أنه معروف أن صاع الرسول صلى الله عليه وسلم خمسة أرطال وثلث فمعنى ذلك أن الكفارة إذا أخرجت بهذا الصاع تصير ثلاث كفارات, أو ست كفارات على اعتبار أن الكفارة نصف صاع.(377/24)
حكم تقدير الكيل بالوزن
السؤال
هل يصح تقدير الكيل بالوزن؛ لأن الكيل من كل صنف من الحبوب أو الزيوت أو غيرها يختلف حسب وزن ذلك الصنف؟
الجواب
يمكن أن يقدر، لكن الوزن يختلف بالنسبة للأشياء، فصاع من شيء خفيف لا يعادل صاعاً من شيء ثقيل؛ بل يتفاوت، فيمكن أن يستعمل الوزن مكان الكيل إذا عرف وزن الكيل، فمثلاً: إذا كان الصاع من البر أو من الأرز ثلاثة كيلو فلا يحتاج إلى أن يكال الصاع، وإنما يكفي معرفة الوزن, وهكذا لو كان هناك وعاء يسع عشرة كيلو من الأرز، ونحو ذلك.(377/25)
مقدار كفارة اليمين
السؤال
هل كفارة اليمين صاع أو نصف صاع؟
الجواب
كفارة اليمين نصف صاع لكل مسكين، فيطعم عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع, أي: خمسة عشر كيلو.(377/26)
شناعة بدعة القول بخلق القرآن
السؤال
في رؤيا أبي داود لـ محمد بن خلاد إذا فسر الوقف بالوقف في خلق القرآن، فهل تعتبر هذه الرؤيا تخفيفاً من شأن هذه البدعة وأنها ليست منكرة؟
الجواب
هذه البدعة لا شك أنها منكرة, وكون الله عز وجل تجاوز عنه وعفا عنه لا يدل على عدم شناعتها؛ لأن الله عز وجل يغفر كل شيء دون الشرك.(377/27)
حكم الاستثناء بالقلب
السؤال
هل يصح الاستثناء إن لم يتلفظ به وإنما نواه بقلبه؛ لأنه ما لم يرد أن يسمعه المحلوف له؟
الجواب
لا ينفع الاستثناء بالقلب؛ لأنه لا بد من الكلام.(377/28)
معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية أين الله؟ قالت في السماء
السؤال
في سؤاله صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء) , هل تأتي (في) بمعنى فوق؟
الجواب
( في) تأتي بمعنى على, كما قال الله عز وجل في قصة موسى مع السحرة وفرعون: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] أي: على جذوع النخل؛ لأنه ليس المعنى أنه يشق جذوع النخل ويدخلهم فيها, وإنما يصلبهم عليها.
فلو أريد به السماء المبنية فإن (في) بمعنى على, لكن هناك شيء أوضح من هذا وهو أن المراد بالسماء: العلو, وليس المراد بها السماء المبنية.(377/29)
حكم اختبار بعض الناس لمعرفة عقيدتهم
السؤال
هل يستفاد من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ ومن أنا؟) جواز اختبار بعض الناس لمعرفة عقيدتهم وكذلك لمعرفة منهجهم بسؤالهم بعض الأسئلة؟
الجواب
السؤال هناك حصل لمعرفة كونها من أهل الإيمان، فإذا كانت هناك حاجة إلى معاملة إنسان أو إلى مداخلة إنسان فيمكن للإنسان أن يحتاط في التعرف عليه بسؤاله عما يحتاج إلى معرفته.(377/30)
حكم من ينكر صفة العلو
السؤال
هل الذي ينكر صفة العلو يعد كافراً بدون قيام الحجة عليه لأجل أن دلالة العلو دلالة نقل وعقل وفطرة؟
الجواب
لا شك أن علو الله عز وجل دل عليه الكتاب والسنة والإجماع والمعقول وكذلك الفطرة، وهذه أدلة كلها متوفرة على ذلك, لكن الإنسان قد يكون عنده شيء من اللبس أو شيء يشوش عليه من بعض المبتدعة، كما حصل لكثير من الناس الذين ابتلوا بترك عقيدة الفطرة التي عليها أهل السنة والجماعة, فكونه تقام عليه الحجة ويبين له الحق هذا أمر لا بد منه.(377/31)
الأشاعرة ليسوا من أهل السنة
السؤال
هل يدخل الأشاعرة في مسمى أهل السنة؟
الجواب
لا يدخلون؛ لأن أهل السنة والجماعة هم من وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (من كان على ما أنا عليه وأصحابي) , والأشاعرة ليسوا على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ولما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الفرق قال: (كلها في النار إلا واحدة) ومعلوم أن أصحاب هذه الفرق كلهم مسلمون، لكن منهم فرقة واحدة سالمة من العذاب؛ لأنها على الجادة، وبقية تلك الفرق منحرفة عن الجادة مع تفاوتها في القرب والبعد، ولكنها كلها مستحقة للوعيد.
إذاً: الأشاعرة ليسوا على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فالصحابة لم يكونوا يعرفون هذه العقيدة التي عليها الأشاعرة، فإنها إنما جاءت بعدهم.(377/32)
دخول الأشاعرة في مسمى أهل السنة عند مقابلة الشيعة
السؤال
إذا قيل: أهل السنة في مقابل الرافضة فهل يدخل الأشاعرة حينئذٍ في أهل السنة؟
الجواب
إذا كان المقصود المقابلة بين السنة والشيعة, فهم داخلون في السنة؛ لأنهم ليسوا من الشيعة, ولكن السنة التي هي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الرسول وأصحابه ليسوا عليها, وأما كونهم ليسوا شيعة, فنعم ليسوا بشيعة, بل هم مخالفون للشيعة.(377/33)
شرح سنن أبي داود [378]
إذا حلف الإنسان على شيء ورأى غيره خيراً منه فقد جاء الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه، وله أن يكفر عن يمينه ثم يحنث، وله أن يحنث ثم يكفر عن يمينه؛ لورود الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا وهذا، والاستثناء في اليمين بعد السكوت لا يصح، إلا إذا كان الفصل لأمر طارئ، كسعال أو عطاس أو نحوه.
وكفارة اليمين عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فمن عجز عن ذلك فعليه أن يصوم ثلاثة أيام.(378/1)
تكفير اليمين قبل الحنث(378/2)
شرح حديث (إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الرجل يكفر قبل أن يحنث.
حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد حدثنا غيلان بن جرير عن أبي بردة عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير.
أو قال: إلا أتيت الذي هو خير وكفرت يميني)].
قوله: [باب في الرجل يكفر قبل أن يحنث] , أي: عندما يحلف على يمين, ويرى أن الخير في ترك اليمين والتكفير, فهل يكفر قبل أن يحصل الحنث الذي هو فعل الشيء الذي حلف ألا يفعله, أم أنه لا يكفر إلا بعد الحنث؟
و
الجواب
أنه يجوز للإنسان أن يكفر قبل الحنث وبعده, فإذا كانت المصلحة في غير ما حلف عليه, فإنه يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير, أو يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه, فكل ذلك سائغ.
ومن أهل العلم من قال: إنه لا يكفر قبل الحنث؛ لأنه لا تجب الكفارة إلا بالحنث, فإذا وجد الحنث لزمت الكفارة, وقبل الحنث فالكفارة غير لازمة, لكن جاء في بعض الأحاديث تقديم الكفارة وفي بعضها تقديم الحنث, وذلك يدل على جواز التقديم والتأخير بين الحنث والكفارة, فالحانث له أن يكفر قبل أن يحنث, وله أن يحنث قبل أن يكفر.
وقد أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير).
وهذا فيه الإتيان بالكفارة أولاً، والحنث ثانياً.
وقوله: (أو قال: إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني)، هذا شك من الراوي، لكن جاء في بعض الأحاديث ما يدل على تقديم الحنث على الكفارة, وجاء في بعضها ما يدل على تقديم الكفارة ثم الحنث, وذلك في العطف بثم، وهذا يدل على أن الكفارة يجوز أن تقدم على الحنث وأنه ليس الأمر كما قال بعض أهل العلم: إنه لا تقدم الكفارة على الحنث؛ لأنها لا تجب, فكون الإنسان يقدم الكفارة ثم يحنث لا بأس بذلك.(378/3)
تراجم رجال إسناد حديث (إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو ابن زيد، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة, وهنا جاء حماد غير منسوب, وإذا جاء سليمان يروي عن حماد فهو حماد بن زيد , وقد مر قريباً أن موسى بن إسماعيل إذا روى عن حماد, فهو حماد بن سلمة.
إذاً: يعرف المهمل برواية التلاميذ عن ذلك المهمل؛ لأن الشخص إذا ذكر باسمه ولم يذكر نسبه يقال له في علم المصطلح: مهمل, أي: أهمل عن النسبة فلم ينسب, فصار محتملاً لشخصين أو أكثر مثل: حماد، فهذا يقال له: المهمل.
ومعرفة المهمل تكون بمعرفة التلاميذ، فإذا جاء سليمان بن حرب يروي عن حماد فهو ابن زيد , وإذا جاء موسى بن إسماعيل يروي عن حماد فهو ابن سلمة.
[حدثنا غيلان بن جرير].
غيلان بن جرير ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بردة].
هو أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, واسمه عبد الله بن قيس الأشعري، وهو مشهور بكنيته, وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(378/4)
مفهوم ذكر الرجل في الأحكام دون المرأة
ذكر الرجل في الترجمة في قول المصنف: (باب الرجل يكفر قبل أن يحنث) هذا على اعتبار الغالب، فإن الغالب أن الخطاب يكون للرجال, وليس المقصود من ذلك أن هذا حكم يختص به الرجل, بل المرأة كذلك تكفر قبل أن تحنث إذا رأت ترك اليمين خيراً.
فذكر الرجال سواء كان في كلام العلماء في التراجم كما هو هنا, أو في غير ذلك في الأمور التي ليس فيها دليل على اختصاص الرجل بها عن النساء فالحكم للرجال والنساء جميعاً, وكذلك يأتي في الأحاديث ذكر أحكام مضافة إلى الرجال وليس المقصود اختصاص الرجال بتلك الأحكام, بل النساء كذلك.
والأصل: هو أنه لا فرق بين الرجال والنساء في الأحكام إلا إذا وجد تمييز بين الرجال والنساء في الأحكام بأن قيل: هذا الحكم للرجال, وهذا الحكم للنساء، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (التسبيح للرجال والتصفيق للنساء) أي: في الصلاة, ومثل قوله: (يغسل من بول الجارية وينضح من بول الغلام) وغير ذلك, هذا إذا جاء شيء يميز الرجال على النساء, أو النساء على الرجال, فالمعتبر الأدلة, والأصل هو عدم التفريق حتى يوجد دليل, ولهذا يأتي ذكر الرجل في الأحاديث وليست خاصة به، كقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تتقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) فكلمة (رجل) هذه لا مفهوم لها، فلا تخرج منها المرأة, بل المرأة مثل الرجل في ذلك، فإذا كانت معتادة أن تصوم يوم الإثنين ووافق يوم الثلاثين من شعبان فلها أن تصوم, فليس الحكم خاصاً بالرجال دون النساء.
وكذلك مثل قوله عليه الصلاة والسلام: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به)، وكذلك لو وجد متاعه عند امرأة قد أفلست فهو أحق به من الغرماء.
والحاصل: أن ذكر الرجال في كلام العلماء وكذلك في بعض الأحاديث إنما هو لأن الخطاب في الغالب مع للرجال, لا لأن هذا حكم يخص الرجال دون النساء.
وأما ما ذكره الخطابي عن الشافعي أنه قال: وإن كفر بالصوم قبل الحنث لم يجزه, وإن كفر بالطعام أجزأه, واحتج أصحابه في ذلك بأن الصيام مرتب على الإطعام فلا يجوز إلا مع عدم الأصل، كالتيمم لما كان مرتباً على الماء لم يجز إلا مع عدم الماء.
فهذا إذا كان الإنسان لا يقدر على الإطعام، ولا يقدر على العتق, ولا يقدر على الكسوة، فله أن يتحول إلى الصيام، فلا فرق بين هذا وهذا, فلا يجوز للإنسان أن يكفر بالصيام إذا كان يستطيع التكفير بغيره.(378/5)
شرح حديث (يا عبد الرحمن بن سمرة! إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا هشيم أخبرنا يونس ومنصور -يعني ابن زاذان - عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الرحمن بن سمرة! إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير وكفر يمينك)].
أورد أبو داود حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: (إذا حلفت على يمين ورأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير وكفر يمينك)، فذكر الحنث قبل الكفارة, وقد تقدم أن كل ذلك جائز, فكون الكفارة قبل الحنث أو بعده كل ذلك صحيح.(378/6)
تراجم رجال إسناد حديث (يا عبد الرحمن بن سمرة! إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير)
قوله: [حدثنا محمد بن الصباح البزاز].
محمد بن الصباح البزاز ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا يونس].
هو يونس بن عبيد، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومنصور يعني ابن زاذان].
منصور بن زاذان ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ومنصور بن زاذان هذا ذكر في ترجمته عن بعض أهل العلم أنه قال: لو أن منصور بن زاذان قيل له: إن ملك الموت بالباب ما أمكنه أن يزيد شيئاً في عمله؛ لأنه ملازم التقوى والعمل الصالح, ومداوم على ذلك, أي: أنه لا يستطيع أن يأتي بشيء جديد, فلا يهتم ويستعد، وإنما تكون حالته بعد أن قيل له هذه المقالة مماثلة لحالته قبلها, ولا يكون بإمكانه أن يأتي بزيادة عمل؛ لأنه ملازم للتقوى, وهذا يدل على صلاحه وتقواه, وقد مر قريباً كلمة تدل على صلاح رجل مماثل له وهو إبراهيم بن ميمون الصائغ , فقد كان صائغاً، وكان إذا رفع المطرقة ثم سمع النداء للصلاة طرحها وترك الضرب على الشيء الذي يصوغه ويشتغل فيه, ثم يقوم إلى الصلاة.
[عن الحسن].
هو الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن سمرة].
عبد الرحمن بن سمرة رضي الله تعالى عنه صحابي, وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(378/7)
ترخيص الإمام أحمد للكفارة قبل الحنث
[قال أبو داود: سمعت أحمد يرخص فيها: الكفارة قبل الحنث].
ذكر أبو داود هذا عن أحمد؛ لأنه جاء عن بعض أهل العلم المنع من ذلك, وأنه لا تقع الكفارة قبل الحنث؛ لأن الوجوب إنما يكون بالحنث, ولكن كونها تقدم لا بأس بذلك؛ لأنه جاء في بعض الأحاديث تقديم الكفارة وفي بعضها تقديم الحنث فكل ذلك سائغ.(378/8)
شرح حديث عبد الرحمن بن سمرة من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن خلف حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه نحوه قال: (فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى عن عبد الرحمن بن سمرة وهو مثل الذي قبله, إلا أن فيه تقديم الكفارة على الحنث, فالرواية السابقة فيها تقديم الحنث على الكفارة, وهنا: تقديم الكفارة على الحنث, وكل ذلك صحيح.(378/9)
تراجم رجال إسناد الطريق الأخرى لحديث عبد الرحمن بن سمرة
قوله: [حدثنا يحيى بن خلف].
يحيى بن خلف صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا عبد الأعلى].
هو عبد الأعلى بن عبد الأعلى، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سعيد].
هو سعيد بن أبي عروبة، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة].
الحسن وعبد الرحمن بن سمرة قد مر ذكرهما.(378/10)
ورود الأحاديث في جواز تقديم الحنث على الكفارة أو الكفارة على الحنث
[قال أبو داود: أحاديث أبي موسى الأشعري وعدي بن حاتم وأبي هريرة رضي الله عنهم في هذا الحديث روي عن كل واحد منهم في بعض الرواية: الحنث قبل الكفارة.
وفي بعض الرواية: الكفارة قبل الحنث].
ذكر أبو داود: أن أحاديث أبي موسى الأشعري وعدي بن حاتم وأبي هريرة في بعضها تقديم الكفارة على الحنث, وفي بعضها تقديم الحنث على الكفارة, وهذا مثل هذا الذي مر في حديث عبد الرحمن بن سمرة؛ فحديث عبد الرحمن بن سمرة جاء من طريقين: الطريق الأولى فيها تقديم الحنث على الكفارة, والطريق الثانية فيها تقديم الكفارة على الحنث, وحديث أبي موسى الذي مر فيه: (إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) أو: (إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني)، وكذلك حديث عدي بن حاتم , وحديث أبي هريرة كلها فيها هذا وهذا, وهذا يدل على جواز الأمرين وأنه لا بأس بتقديم الكفارة على الحنث, أو تقديم الحنث على الكفارة.
قوله: [وعدي بن حاتم].
عدي بن حاتم صحابي أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[وأبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
وفي عون المعبود ذكر أن حديث أبي موسى في الصحيحين، وحديث عدي بن حاتم في مسلم وحديث أبي هريرة في مسلم أيضاً.
وقول أبي داود: (روي عن كل واحد منهم) بصيغة التمريض ليس المقصود التمريض؛ لأن الحديث في الصحيحين أو أحدهما, وإنما فيه الإشارة إلى حصول الرواية؛ لأنه لم يذكر الذي روى عنهم, وإنما بنى ذلك للمجهول، فليس المقصود من ذلك أنها صيغة تمريض.(378/11)
مقدار الصاع في الكفارة(378/12)
شرح حديث صفية في صفة صاع النبي صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كم الصاع في الكفارة؟ حدثنا أحمد بن صالح قال: قرأت على أنس بن عياض قال: حدثني عبد الرحمن بن حرملة عن أم حبيب بنت ذؤيب بن قيس المزنية وكانت تحت رجل منهم من أسلم ثم كانت تحت ابن أخ لـ صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن حرملة: فوهبت لنا أم حبيب صاعاً، حدثتنا عن ابن أخي صفية عن صفية رضي الله عنها أنه صاع النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أنس: فجربته أو قال: فحزرته فوجدته مدين ونصفاً بمد هشام.
] قوله: [باب كم الصاع في الكفارة؟].
أي: مقدار الصاع في الكفارة، ومعلوم أن الصاع في الزكاة وفي الكفارات وغير ذلك هو صاع النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو مقدار النصاب، وهو ثلاثمائة صاع؛ لأن النصاب خمسة أوسق, والوسق ستون صاعاً، فيكون النصاب ثلاثمائة صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبق فيما يتعلق بالوضوء والغسل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد, وأن المد هو ربع الصاع, وأن الصاع أربعة أمداد، وقالوا: إن المد مقدار ملء اليدين المتوسطتين، فملؤهما يقال له: مد, وأربعة أمداد هي الصاع.
وقد جاء في بعض الأحاديث فيما يتعلق بكفارة لبس المخيط أو الحلق في الحج أنها كما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ذبح شاة، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع, أو صيام ثلاثة أيام) فتكون الكفارة لكل مسكين نصف صاع، ونصف الصاع مدان.
وقد أورد أبو داود حديث صفية بنت حيي رضي الله عنها زوج الرسول صلى الله عليه وسلم, وفيه أن أم حبيبة وهبت صاعاً وروت عن ابن أخي صفية عن صفية أنه صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أنس بن عياض شيخ شيخ أبي داود حزره وقدره فوجده مدين ونصفاً.
وقوله: (بمد هشام) يعني: هشام بن عبد الملك الخليفة.
ومعلوم أن الصاع هو أربعة أمداد كما جاء في الأحاديث، وليس مدين, ومعلوم أن الآصع تختلف والناس يختلفون في الزيادة والنقصان، ولكن المعتبر هو صاع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو أربعة أمداد.
وهذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه من هو متكلم فيه.(378/13)
تراجم رجال إسناد حديث صفية في صفة صاع النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[قال: قرأت على أنس بن عياض].
أنس بن عياض ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عبد الرحمن بن حرملة].
هو عبد الرحمن بن حرملة المدني، وهو صدوق ربما أخطأ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أم حبيب بنت ذؤيب بن قيس المزنية].
أم حبيب بنت ذؤيب المزنية مستورة، أي: مجهولة الحال, أخرج لها أبو داود.
قوله: [وكانت تحت رجل منهم من أسلم، ثم كانت تحت ابن أخي لـ صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن حرملة: فوهبت لنا أم حبيب صاعاً حدثتنا عن ابن أخي صفية].
ابن أخي صفية لا يعرف، أخرج له أبو داود.
وأم حبيب هي زوجته.
[عن صفية].
صفية أم المؤمنين رضي الله عنها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(378/14)
شرح أثر محمد بن خلاد في مقدار المكوك والكيلجة مع تراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن محمد بن خلاد أبو عمر قال: كان عندنا مكوك يقال له: مكوك خالد، وكان كيلجتين بكيلجة هارون، قال محمد: صاع خالد صاع هشام، يعني ابن عبد الملك.
] أورد أبو داود هذا الأثر عن محمد بن محمد بن خلاد قال: كان عندنا مكوك يقال له: مكوك خالد، وكان كيلجتين بكيلجة هارون، قال محمد: صاع خالد صاع هشام.
] محمد هو محمد بن محمد بن خلاد , وهذا أثر موقوف على محمد بن محمد بن خلاد، والمكوك مكيال, ومكوك على وزن (تنُّور) كما في القاموس.
وقوله: [يقال له: مكوك خالد].
وخالد لا أدري من هو، وقد يكون خالد بن عبد الله القسري المذكور في الأثر الآتي.
وقوله: [وكان كيلجتين بكيلجة هارون].
الكيلجة: مقدار مكيال، وهارون هذا شخص من الناس الله أعلم من هو.
وقوله: [قال محمد: صاع خالد صاع هشام، يعني ابن عبد الملك].
أي: أن صاع خالد هذا المذكور هنا هو صاع هشام بن عبد الملك الذي مر في الأثر الذي قبل هذا.
وقوله: [حدثنا محمد بن محمد بن خلاد أبو عمر].
هو محمد بن محمد بن خلاد الباهلي، وهو ثقة أخرج له أبو داود.(378/15)
شرح أثر محمد بن خلاد في مقدار صاع خالد القسري
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن محمد بن خلاد أبو عمر حدثنا مسدد عن أمية بن خالد قال: لما ولي خالد القسري أضعف الصاع، فصار الصاع ستة عشر رطلاً].
هذا قد يوضح الرواية الأولى؛ لأن الرواية عن محمد بن خلاد لم ينسب فيها خالداً , وهنا نسبه.
وقوله: [لما ولي خالد القسري] خالد القسري ولي الحجار ثم ولي الكوفة.
وقوله: [أضعف الصاع] أي: زاد فيه حتى بلغ ستة عشر رطلاً, والمعروف أن صاع الرسول صلى الله عليه وسلم خمسة أرطال وثلث، كما جاء ذلك عن مالك بن أنس في مناظرة جرت بينه وبين أبي يوسف، فأخرج صاعاً وقدروه فإذا هو خمسة أرطال وثلث, فرجع أبو يوسف إلى قول مالك.
وهذا يعني أنه أضعفه أكثر من الضعفين؛ لأن صاع النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أرطال وثلث، وهذا جعله ستة عشر رطلاً، أي: أنه جعله ثلاثة أضعاف صاع النبي صلى الله عليه وسلم.(378/16)
تراجم رجال إسناد أثر محمد بن خالد في مقدار صاع خالد القسري
قوله: [حدثنا محمد بن محمد بن خلاد عن مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أمية بن خالد].
أمية بن خالد صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[قال أبو داود: محمد بن محمد بن خلاد قتله الزنج صبراً فقال بيده هكذا.
ومد أبو داود يده وجعل بطون كفيه إلى الأرض، قال: ورأيته في النوم فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: أدخلني الجنة، فقلت: فلم يضرك الوقف].
هذا الكلام ذكره أبو داود وهو يتعلق بـ محمد بن خلاد وهو شيخه الذي يروي عنه, وقال: إنه قتله الزنج صبراً، وقد تقدم أن اليمين المصبورة هي التي يحبس عليها الإنسان, وقد قالوا: كل قتل ليس في قصاص ولا في جهاد في سبيل الله ولا خطأ يقال له: صبر؛ لأن فيه تعمداً وحبساً على القتل.
وقوله: [فقال بيده هكذا، ومد أبو داود يده وجعل بطون كفيه إلى الأرض].
لا أدري ما هو المقصود بهذه الإشارة.
وقوله: [ورأيته في النوم فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: أدخلني الجنة, فقلت: فلم يضرك الوقف].
قال الشارح: لعل المقصود بذلك كونهم وقفوه أو حبسوه للقتل.
وهنا يأتي احتمال آخر وهو: أنه كان ممن وقف في فتنة خلق القرآن، وهذا مذكور في ترجمته في تهذيب التهذيب، لكن الله أعلم بثبوت ذلك عنه.(378/17)
الرقبة المؤمنة في الكفارة(378/18)
شرح حديث الجارية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرقبة المؤمنة.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن الحجاج الصواف حدثني يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله! جارية لي صككتها صكة، فعظم ذلك عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها.
قال: فجئت بها، قال: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة).
] أورد أبو داود هذه الترجمة وهي [باب الرقبة المؤمنة]، أي: في الكفارة, يعني: هل يشترط وصف الإيمان للرقبة التي تعتق أم أنه يعتق أي رقبة ولو كانت كافرة؟ فمثلاً: جاء في كفارة اليمين أنها عتق رقبة ولكنها جاءت مطلقة في القرآن, غير مقيدة بالإيمان, وكذلك جاء في كفارة الظهار عتق رقبة وجاءت غير مقيدة, ولم تأت مقيدة بالإيمان إلا في كفارة القتل, فجمهور العلماء حملوا المطلق على المقيد, وقالوا: إن النفس التي تعتق تكون مؤمنة, ومن أهل العلم من أجاز أن تكون كافرة, ولكن الجمهور على أنها لابد أن تكون مؤمنة ولا يجوز أن تكون كافرة.
ولا شك أن القول بأنها لابد أن تكون مؤمنة هو القول الذي يجعل الإنسان يطمئن أنه قد أبرأ ذمته في الكفارة، والقول بإعتاق الرقبة الكافرة لا يكون فيه اطمئنان إلى براءة الذمة.
إذاً: القول بحمل المطلق على المقيد كما جاء في القرآن هو الذي فيه السلامة والاطمئنان إلى براءة الذمة.
وقد أورد أبو داود حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه أنه كانت له جارية, وكانت ترعى غنماً، فجاء الذئب وأخذ شاة منها, ثم جاء وسأل عنها, فقالت: أخذها الذئب، فصكها، ثم ندم وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فعظم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, أي: أخبره أن ضرب الجارية وصكها أمر عظيم، فقال: ألا أعتقها يا رسول الله؟! قال: (ائتني بها.
فأتاه بها, فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء.
قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله.
قال: أعتقها فإنها مؤمنة).
فلما قالت: (إن الله في السماء) حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بإيمانها وأقرها على ذلك، وهذا كقول الله عز وجل: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] والمراد بالسماء: العلو, وليس المراد به السماء المبنية أو السموات السبع, فإن الله لا يحويه شيء مخلوق، وإنما هو فوق العرش بائن من خلقه لا يحويه شيء من مخلوقاته.
فالمقصود بقوله: (في السماء) أي: في العلو, ومعلوم أن العلو يطلق على كل ما علا الإنسان، فكل ما فوق الإنسان يقال له: علو، والسماء المبنية والتي هي شيء وجودي هي مخلوقة، والله عز وجل لا يحويه شيء مخلوق, فلا يقال: إنه في السماء وإن السموات تحويه؛ لأنه سبحانه وتعالى فوق العرش, وإنما المقصود بالسماء العلو, وما فوق العرش يقال له: علو, ويقال له: سماء.
إذاً: الله سبحانه وتعالى في السماء أي: فوق العرش, وليس في السماء دون العرش, أي: السماء المبنية.
وهذه العقيدة التي قالتها هذه الجارية هي عقيدة الفطرة التي فطر الله الناس عليها, والناس الذين لم يتعلموا علم الكلام ولم يبتلوا به لم يخرجوا عن الفطرة, فعقيدة الفطرة هي عقيدة هذه الجارية التي قالت: (إن الله في السماء)، ولهذا جاء عن عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه أنه سأله رجل عن شيء من الأهواء, فقال له: (الزم عقيدة الصبي والأعرابي واله عما سوى ذلك)، أي: لأن الصبي والأعرابي على الفطرة, والذي يكون على الفطرة تكون عقيدته هي العقيدة الصحيحة, وأما الذين اعتقدوا شيئاً مخالفاً لهذه العقيدة فإنما جاءهم البلاء بخروجهم عن الفطرة, وخروجهم عن هذه العقيدة الحقة الصحيحة السليمة التي دل عليها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبعض المتكلمين الذين ابتلوا بعلم الكلام منهم من آل أمره إلى الندم والحيرة بعد توغله في علم الكلام وتمكنه منه, وقد جاء عن الرازي -وهو ممن تمكن من علم الكلام- أنه قال: الفائز من كان على عقيدة العجائز، يعني: العوام.
وجاء عن أبي المعالي الجويني أنه قال: أموت على عقيدة عجائز نيسابور.
وهذا يعني أن المتكلمين الذين ابتلوا بعلم الكلام منهم من آل أمره إلى الحيرة, وبعد ذلك تبين له أن الفطرة والشيء الذي عليه العوام هو الحق والهدى, وأن هذا العلم الذي تعلموه وخرجوا به عن الفطرة أوقعهم في الحيرة والندم, ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية, وشارح الطحاوية، والشهرستاني وغيرهم مقولات عديدة عن جماعة من المتكلمين، منهم الرازي والجويني وابن أبي الحديد , نقلوا عنهم ما يدل على حيرتهم وندمهم, وفيهم من صرح بأن السلامة إنما هي في عقائد العوام وفيما عليه العوام, وهذا هو الذي قال عنه عمر بن عبد العزيز: (الزم عقيدة الصبي والأعرابي واله عما سوى ذلك) , يعني: ابتعد عما سوى ذلك.
وفي هذا الزمان انتشر مذهب الأشاعرة, ومذهب الأشاعرة ليس هو مذهب أهل السنة والجماعة؛ لأن الأشاعرة يثبتون سبع صفات, والسبع الصفات التي أثبتوها لم تسلم من التأويل, كصفة الكلام، وهي واحدة من السبع, وما سوى ذلك يؤلونه.
وهذه العقيدة التي ابتلي بها كثير من الناس سبب ذلك هو دراستها، فإنهم درسوها فخرجوا عن الفطرة التي هي عقيدة العجائز والعوام، ولهذا يقول بعض الناس في هذا الزمان: إن 95% من المسلمين أشاعرة, وهذا كلام ليس بصحيح؛ لأن الأشاعرة هم المتعلمون الذين درسوا مذهب الأشاعرة, وأما العوام وهم الأكثرية الكاثرة فهم على الفطرة, ولم يخرجوا عن الفطرة، وإنما خرج عنها الذين تعلموا هذه العقيدة التي خرجوا بها عن الفطرة, وإلا فالذين بقوا على الفطرة -وهم الأكثرية- ليسوا أشاعرة, بل الأشاعرة هم الذين درسوا في مؤسسات تدرس عقيدة الأشاعرة.
والحاصل: أن هذا الحديث في سؤال الرسول إياها وأنها قالت: في السماء، فيه إثبات صفة العلو لله عز وجل، وهو مثل ما جاء في القرآن: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:16] , والمقصود بذلك: العلو, والله تعالى عالٍ على خلقه, وفوق عرشه المجيد بذاته سبحانه وتعالى، فله علو القدر وعلو القهر وعلو الذات سبحانه وتعالى.
وقوله: (فإنها مؤمنة) فيه إشارة إلى أن الرقبة التي تعتق تكون مؤمنة.
وبعض المتكلمين من الأشاعرة يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب الجارية على قدر عقلها! وهذا كلام باطل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (أين الله؟ قالت: في السماء, قال: أعتقها فإنها مؤمنة)، فحكم الرسول صلى الله عليه وسلم بإيمانها, إذاً: هذا الشيء الذي قالته هو خلاف عقيدة الأشاعرة؛ ولذا يقال لهم: هل أقرها الرسول على باطل؟! وهل هذه العقيدة التي ابتلي بها بعض الناس وجاءت بعد زمن الصحابة حجب عنها الصحابة وادخرت لمن بعدهم؟! وهل تكون هناك عقيدة حقة تحجب عن الصحابة ولا يعرفونها ولا يظفرون بها, ويظفر بها أناس يجيئون بعدهم؟! هل هذا يعقل؟!
و
الجواب
أبداً لا يكون ذلك, بل الحق والهدى هو ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولو كانت هذه العقيدة التي عليها الأشاعرة خيراً لسبق إليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن العقيدة التي كانوا عليها هي أنهم كانوا يثبتون النصوص على ما تقتضيه على وجه يليق بجلال الله تعالى, دون أن يفكروا بتشبيه أو تعطيل أو تأويل.
ولو أن الناس بقوا على مثل عقل هذه الجارية الذي هو عقل السلامة لكان خيراً لهم.(378/19)
تراجم رجال إسناد حديث الجارية
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى].
يحيى هو ابن سعيد القطان البصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحجاج الصواف].
الحجاج الصواف ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني يحيى بن أبي كثير].
هو يحيى بن أبي كثير اليمامي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هلال بن أبي ميمونة].
الشيخ: عن هلال بن أبي ميمونة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن يسار].
عطاء بن يسار ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معاوية بن الحكم السلمي].
معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه صحابي، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأبو داود والنسائي.(378/20)
شرح حديث الشريد بن سويد في أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بإعتاق رقبة مؤمنة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن الشريد رضي الله عنه أن أمه أوصته أن يعتق عنها رقبة مؤمنة, فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إن أمي أوصت أن أعتق عنها رقبة مؤمنة وعندي جارية سوداء نوبية) فذكر نحوه.
] أورد أبو داود حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه أنه قال: إن أمه أوصت أن يعتق عنها جارية مؤمنة, وأنه كان عنده جارية نوبية فذكر نحوه, أي: نحو ما تقدم في حديث معاوية بن الحكم السلمي , وأن الرسول سألها وأنها قالت نحو ذلك.(378/21)
تراجم رجال إسناد حديث الشريد بن سويد في أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بإعتاق رقبة مؤمنة
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة، وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن عمرو].
هو محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الوقاصي الليثي، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة فقيه أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم, وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن الشريد].
هو الشريد بن سويد رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[قال أبو داود: خالد بن عبد الله أرسله لم يذكر الشريد].
أي: أن خالد بن عبد الله أحد الرواة أرسله فلم يذكر الشريد، بل قال: عن أبي سلمة، ورفعه.
وخالد بن عبد الله هو الواسطي الطحان، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.(378/22)
شرح حديث (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء فقال يا رسول الله! إن عليَّ رقبة مؤمنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني حدثنا يزيد بن هارون أخبرني المسعودي عن عون بن عبد الله عن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء فقال: يا رسول الله! إن علي رقبة مؤمنة، فقال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء بإصبعها، فقال لها: فمن أنا؟ فأشارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى السماء، يعني: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة).
] أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى بجارية سوداء وقال: يا رسول الله! إن علي رقبة مؤمنة، فالرسول صلى الله عليه وسلم اختبرها ليعرف إيمانها فقال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء, وسألها عن نفسه فأشارت إليه وإلى السماء, أي: أنت رسول الله, فقال: أعتقها فإنها مؤمنة).(378/23)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء فقال يا رسول الله! إن عليَّ رقبة مؤمنة)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني].
إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، ثقة أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يزيد بن هارون].
هو يزيد بن هارون الواسطي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني المسعودي].
هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو صدوق اختلط، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن عون بن عبد الله].
عون بن عبد الله هو أخو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود المعروف, وهو ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عتبة].
عبد الله بن عتبة قيل: له رؤية, ووثقه جماعة، وأخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.
وقد ضعف الألباني هذا الحديث، وقال: فيه ذكر الأعجمية، والأعجمية لم تأت إلا في حديث أبي هريرة، نقله عن الذهبي في العلو, وعلق الشيخ الألباني على كلام الذهبي في العلو.
وأما مسألة الإشارة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه أشار إلى السماء, أي: أن الله تعالى فوق, وذلك في حديث جابر الطويل حين قال: (إنكم ستسألون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت, فرفع يديه إلى السماء وقال: اللهم اشهد).
ولفظة: (أعجمية) ليست في هذا الحديث, ولكنها جاءت في حديث أبي هريرة في بعض الطرق، وقد نقلها الذهبي في العلو، وتضعيف الشيخ الألباني هو للحديث كله؛ لأن فيه المسعودي هذا.(378/24)
الاستثناء في اليمين بعد السكوت(378/25)
شرح حديث (والله! لأغزون قريشاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الاستثناء في اليمين بعد السكوت.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا شريك عن سماك عن عكرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والله لأغزون قريشاً، والله لأغزون قريشاً، والله لأغزون قريشاً, ثم قال: إن شاء الله).
] قوله: [باب الاستثناء في اليمن بعد السكوت] , سبق أن ذكرنا أن الاستثناء في اليمين إنما ينفع إذا كان متصلاً بالكلام، وأن السكوت أو الفصل إذا كان بسبب أمر طارئ كسعال أو عطاس أو تنفس فلا يؤثر، وأما إذا طال الفصل فإنه لا يصح الاستثناء, ومن العلماء من قال: إنه يكون في المجلس.
ولكن الذي يبدو أنه لا بد أن يكون متصلاً, والسكوت إذا كان لأمر طارئ أو لأمر يقتضيه فلا يؤثر, وأما إذا كان السكوت لإعراض عن القصة واشتغال بغيرها, ثم بعد ذلك يرجع ويقول: إن شاء الله, فهذا لا ينفع.
إذاً: هذا السكوت فيه تفصيل، فإن كان الصوت انقطع شيئاً يسيراً لأمر طارئ كما في الأمثلة التي أشرت إليها, فإن ذلك لا يؤثر في الاستثناء, وأما إذا طال الفصل, فإنه لا ينفع الاستثناء.
وقد أورد أبو داود حديث عكرمة، وقد جاء في الرواية الآتية أنه أسنده عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (والله! لأغزون قريشاً، والله! لأغزون قريشاً, والله! لأغزون قريشاً، ثم قال: إن شاء الله).
[قال أبو داود: وقد أسند هذا الحديث غير واحد عن شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس أسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم].
أي: وقد أسند هذا غير واحد عن شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس، فيكون مرفوعاً ومتصلاً وليس منقطعاً كما هو ظاهر الرواية التي ساقها المصنف أولاً, فإنه أشار إلى أن جماعة أسندوه, وأنهم رفعوه وذكروا الواسطة بين عكرمة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن عباس.
قوله: [وقال الوليد بن مسلم عن شريك: ثم لم يغزهم].
أي: قال الوليد في روايته عن شريك: ثم لم يغزهم، يعني: أنه لم يحصل منه غزو وقد حلف عليه, فيكون الاستثناء الذي حصل وهو قول: (إن شاء الله) هو الذي نفع وأثر في ذلك.(378/26)
تراجم رجال إسناد حديث (والله! لأغزون قريشاً)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شريك].
هو ابن عبد الله النخعي الكوفي، وهو صدوق يخطئ كثيراً, أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سماك].
هو سماك بن حرب، وهو صدوق أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
وروايته عن عكرمة فيها اضطراب.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما صحابي جليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
[وقال الوليد بن مسلم].
هو الوليد بن مسلم الدمشقي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.(378/27)
شرح حديث (والله! لأغزون قريشاً) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء أخبرنا ابن بشر عن مسعر عن سماك عن عكرمة يرفعه قال: (والله! لأغزون قريشاً, ثم قال: إن شاء الله, ثم قال: والله! لأغزون قريشاً إن شاء الله تعالى, ثم قال: والله! لأغزون قريشاً, ثم سكت، ثم قال: إن شاء الله).
قال أبو داود: زاد فيه الوليد بن مسلم عن شريك: ثم قال: ثم لم يغزهم].
أورد هذه الرواية الثانية التي هي عن عكرمة مسندة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (والله! لأغزون قريشاً، ثم قال: إن شاء الله, ثم قال: والله! لأغزون قريشاً إن شاء الله, ثم قال: والله! لأغزون قريشاً، ثم سكت ثم قال: إن شاء الله) وهذا هو الذي فيه مطابقة للترجمة من ناحية السكوت, أي: أن هذه الطريق هي التي فيها ذكر السكوت بهذا التفصيل الذي فيه أنه حلف واستثنى ثم حلف واستثنى ثم حلف وسكت ثم استثنى, ولكن هذه الطريق مرسلة، والمسندة هي التي جاء فيها الحلف ثلاث مرات, ثم قال في الأخير: (إن شاء الله) فترجع إلى الجميع؛ لأنه قسم متصل.
وهذه الطريق الثانية ضعفها الشيخ ناصر، لكن من حيث الحكم الشرعي على ما جاء في الرواية الأولى: (والله! لأغزون قريشاً، والله! لأغزون قريشاً، والله! لأغزون قريشاً) إذا كان الكلام متصلاً فمعلوم أن الاستثناء يرجع إلى الجميع.
وفي الرواية الثانية: (والله! لأغزون قريشاً إن شاء الله, والله! لأغزون قريشاً إن شاء الله) , وفي الثالثة: سكت, فالأولى ليس فيها إشكال؛ لأن الاستثناء متصل, والثالثة هي التي حصل فيها سكوت, ثم حصل استثناء, وهي التي فيها الإشكال؛ لأن الاستثناء يلزم أن يكون متصلاً, وهذه الرواية لم يثبت أنه كان متصلاً، فهل يكون فيه دليل على أنه يمكن الفصل في السكوت؟
الجواب
إذا كان المقصود بالسكوت سكوتاً طارئاً لتنفس أو سعال أو عطاس, أو لمخاطبة إنسان, مثل: أن يقال له: قل: إن شاء الله، فإن مثل هذا سائغ أن يقول الإنسان: والله، فيقال له: قل: إن شاء الله, فيقول: إن شاء الله.
وأما قوله: (والله! لأغزون قريشاً ثم قال: إن شاء الله) , فإن (ثم) هنا لا تفيد التراخي، وإنما يمكن أنها جاءت بعدها لكن بشيء يسير, وليس معناه أنه سكت ثم رجع إلى الكلام.(378/28)
تراجم رجال إسناد حديث (والله! لأغزون قريشاً) من الطريق الثانية
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء أبو كريب، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن بشر].
هو محمد بن بشر، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسعر].
هو مسعر بن كدام، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سماك عن عكرمة يرفعه].
سماك وعكرمة قد مر ذكرهما.(378/29)
شرح سنن أبي داود [379]
إن من أنواع العبادت التي لا يجوز صرفها إلا إلى الله النذر، والإنسان إذا نذر قد يتردد في الفعل ويبحث عن الخلاص من تنفيذه، لذلك نهى الإسلام عن النذور وكرهه، ولا نذر في معصية ولا يجوز الوفاء به إذا كان في معصية، ومن نذر لله ثم عجز عن الوفاء يكفر عن نذره.(379/1)
النهي عن النذور(379/2)
شرح حديث (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النذر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب النهي عن النذور.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير بن عبد الحميد ح: وحدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن منصور عن عبد الله بن مرة قال عثمان: الهمداني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النذر -ثم اتفقا - ويقول: لا يرد شيئاً وإنما يستخرج به من البخيل).
قال مسدد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (النذر لا يرد شيئاً).
] قوله: [باب النهي عن النذور]؛ لأن الإنسان عندما يريد أن يحسن وأن يتصدق وأن يقوم بعمل صالح فعليه أن يأتي به مخلصاً لله مقبلاً على الله, يفعل ذلك ابتغاء وجه الله, ولا يعلق فعله بشيء ويلزم نفسه به, ويقول: إن حصل كذا فإنه يفعل كذا وكذا، ثم بعد ذلك إذا حصل هذا الذي علق النذر به يتردد في الفعل ويبحث عن الخلاص من التنفيذ، وإذا نفذه نفذه ونفسه كارهة، فإن هذا لا يليق.
وهذا هو السبب الذي جاء من أجله النهي عن النذر وكراهيته, والنذر إذا كان طاعة فإنه يجب الوفاء به, وإذا كان معصية فلا يجب الوفاء به وعلى الإنسان في ذلك كفارة يمين.
والحاصل: أن الإنسان عندما يريد أن يعمل عملاً صالحاً فيعمله ابتداءً من غير أن يعلقه على شيء ومن غير أن يربطه بشيء؛ لأنه عندما يأتي للتنفيذ قد يفقد الإخلاص أو ينقص؛ وذلك لأنه يكره أن يفعل هذا الفعل، فيفعله وهو كاره, ونفسه لا تسمح به, ولكنه يؤديه لأنه ألزم نفسه به, ولا يؤديه بارتياح وطمأنينة وفرح وسرور بالقربة إلى الله عز وجل, وإنما تخلص من الالتزام الذي التزمه.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النذر)؛ وذلك لما يترتب عليه من هذه الأمور التي أشرت إليها, وهي كون الإنسان يعمل العمل وهو كاره له, ونفسه غير مطمئنة إليه, وإذا كان النذر يتعلق بمال فقد يشح به, وقد يحصل من البخيل أن ينذر ولا يفعل ابتداءً, فألزم نفسه بشيء يستخرج به منه بسبب النذر الذي ألزم نفسه به, فهو لا يريد أن يتصدق, ولكنه ألزم نفسه بشيء إن حصل له كذا وكذا ثم عند التنفيذ تكره نفسه وتأبى ويستخرج به منه, وقد يفعل ذلك قهراً ومن غير اختياره؛ لأن ذلك شيء لازم وواجب عليه, وإذا لم يفعله في حياته فإنه يخرج بعد وفاته؛ لأنه دين لازم عليه يجب الوفاء به, فإن كان حياً يلزمه ذلك, وإن مات فإنه يخرج من التركة.
وقوله: (لا يرد شيئاً) أي: لا يرد الشيء الذي علق نذره عليه, فكون الإنسان يقول: إن شفى الله مريضي لأتصدقن بكذا وكذا, أو لله علي كذا وكذا, فإن هذا لا يرد قضاء الله وقدره, والذي قدر الله تعالى أن يكون لا بد أن يكون, ففعله هذا لا يغير قضاء الله وقدره, بل قضاء الله وقدره نافذ سواء نذر أو لم ينذر.
وقوله: (وإنما يستخرج به من البخيل) أي: لأنه ألزم نفسه به؛ لأن البخيل لا ينفق ولكنه ألزم نفسه إن حصل كذا وكذا، وقد حصل ذلك الشيء, فاستخرج به من ماله شيء هو لا يريد أن يخرجه, ولكنه ألزم نفسه به, فخرج من غير اختياره, ومن غير رغبته.(379/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النذر)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا جرير بن عبد الحميد].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا مسدد].
(ح) هي للتحول من إسناد إلى إسناد, ومسدد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو عوانة].
هو الوضاح بن عبد الله اليشكري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن المعتمر، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن مرة].
هو عبد الله بن مرة الهمداني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال عثمان: الهمداني].
أي: عثمان بن أبي شيبة؛ لأن مسدداً قال: عبد الله بن مرة فقط ولم يزد عليها, وأما عثمان بن أبي شيبة الذي هو الشيخ الأول فقال: عبد الله بن مرة الهمداني، فهو لما ذكر الشيء الذي اتفقوا عليه وهو عبد الله بن مرة ذكر زيادة عثمان في تعريفه وفي نسبه، وأنه عندما عبر بالتحديث قال: حدثنا عبد الله بن مرة الهمداني , فزاد كلمة الهمداني , وأما مسدد فلم يذكر الهمداني وهو يسوق الإسناد بهذا الحديث من طريقه.
[عن عبد الله بن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهو صحابي جليل أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وهم: عبد الله بن عمر , وعبد الله بن عمرو , وعبد الله بن عباس , وعبد الله بن الزبير , وقد سمي بعبد الله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عدد كبير, ولكن هؤلاء هم الذين اشتهروا بلقب العبادلة, فعندما يقال: العبادلة, أو العبادلة الأربعة, فإنه يقصد بهم هؤلاء الأربعة.
وممن يسمى بعبد الله من الصحابة: عبد الله بن مسعود , وعبد الله بن قيس الأشعري , وغيرهم، إلا أن الذين اشتهروا بلقب العبادلة هم هؤلاء الأربعة؛ لأنهم من صغار الصحابة؛ ولأنهم تأخرت وفاتهم حتى أدركهم من لم يدرك كبار الصحابة ممن يسمى عبد الله.
وقوله: [(أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النذر) ثم اتفقا].
أي: الشيخان اللذان هما: عثمان بن أبي شيبة ومسدد.
وقوله: [قال مسدد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (النذر لا يرد شيئاً)].
أي: لا يرد شيئاً قضاه الله وقدره, بل المقدر كائن نذر أو لم ينذر, ولكن النذر يلزم الناذر نفسه به, وإن كان بخيلاً فإنه يستخرج به منه بسبب النذر.(379/4)
فضل الوفاء بالنذر
إن قيل: إذا كان النذر مكروهاً فما توجيه الآية التي أثنى الله عز وجل فيها على من يوفون بالنذر؟ ف
الجواب
أن توجيه الآية أنه إذا وجد النذر فإنه يوفى به, ولكن الإنسان ابتداءً لا يلزم نفسه بتعليق أمر على شيء، وإنما يتقرب إلى الله عز وجل بالعمل الصالح ابتداءً دون أن يعلقه بأمر قد لا ترتاح نفسه إلى تنفيذ تلك العبادة والقربة عندما يحصل له الشيء الذي علق نذره عليه، فالإنسان لا ينبغي له أن ينذر, والله تعالى لم يقل: انذروا, أو احرصوا على النذر, وإنما قال: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]، لكن من نذر فيلزمه أن يوفي.
وأما ما ذكره الخطابي من أن النذر لا يكون إلا إذا كان معلقاً، أما إذا قال: لله علي أن أتصدق بألف درهم, فليس هذا بنذر.
فالذي يبدو أن هذا الكلام غير واضح؛ لأن النذر هو إلزام الإنسان نفسه, والإنسان قد يلزم نفسه دون أن يعلق على شيء, لكن الغالب أن النذر إنما يكون بالتعليق بشيء, وهذا هو الذي من أجله جاء التعليل بقوله: (إن النذر لا يرد شيئاً) , أي: لا يرد شيئاً قضاه الله وقدره, فلو قال: لله علي أن أحج، أو لله علي أن أصوم شهراً، ولم يقل: إن شفى الله مريضي فإنه يلزمه الوفاء؛ لأن هذا نذر.(379/5)
شرح حديث (لا يأتي ابن آدم النذر القدر بشيء لم أكن قدرته له)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو داود قال: قرئ على الحارث بن مسكين وأنا شاهد: أخبركم ابن وهب قال: أخبرني مالك عن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يأتي ابن آدم النذر القدر بشيء لم أكن قدرته له, ولكن يلقيه النذر القدر قدرته، يستخرج من البخيل, يؤتي عليه ما لم يكن يؤتي من قبل).
] أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يأتي ابن آدم النذر القدر بشيء لم أكن قدرته له)، أي: أنه لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم يكن مقدراً؛ لأن كل ما يقع في الوجود هو مقدر, فلا يحصل بالنذر شيء لم يقدره الله, وإنما المقدر سيكون سواء نذر أو لم ينذر, ولكنه إذا كان قد نذر فسيحصل منه ذلك الشيء الذي نذره.
والمقدر قد يكون مطابقاً لما أراده, وقد يكون غير مطابق لما أراده, فقد يحصل الشيء الذي نذر من أجل حصوله، فقد يقول: إن شفى الله مريضي فعلي كذا، فيشفي الله مريضه, لكن هذا الشفاء قد كتب الله في الأزل أنه سيشفى, سواء نذر أو لم ينذر, فالنذر لا يغير شيئاً ولا يقدم ولا يؤخر, ولكنه شيء يستخرج به من البخيل, ويعطي بسبب النذر ما لم يكن يعطي بدون النذر.
وقوله: (لا يأتي ابن آدم النذر القدر بشيء لم أكن قدرته له, ولكن يلقيه النذر)].
أي: أن هذا الذي نذره إن كان الله قدر أن يحصل له الشفاء حصل له الشفاء, وإن كان لم يقدر له الشفاء فلن يحصل له الشفاء, فإذا كان الله تعالى قدر أن يحصل الشفاء لزمه الشيء الذي نذره, وإن لم يوجد ذلك فإنه لا يلزمه الشيء الذي نذره؛ لأنه نذر على حصول شيء، لكن هذا الذي حصل ليس سببه النذر, وأنه لو لم ينذر لم يحصل, بل هذا شيء قدر الله أن يكون وقدر أن ينذر، ولكن النذر ليس هو الذي أتى بالشفاء.
فالله تعالى قدر أن يشفى, إذاً النذر ألقاه إلى القدر, وإذا حصل شيء فمعناه أن المقدر هو هذا, وليس المعنى أن هناك شيئاً غير وبدل من أجل النذر, بل المقدر كائن, نذر أو لم ينذر.
قوله: (ولكن يلقيه النذر القدر قدرته)].
أي: ولكن يلقيه النذر على القدر قدرته, فإن كان قد قدر أن يوجد الشفاء, فقد وجد الشفاء بقدر الله وإن لم يوجد النذر، وإن لم يحصل الشيء الذي نذر من أجله فهو ما قدره الله, فما حصل بالنذر شيء جديد وما حصل به تغيير ولا تبديل، فقوله: (ولكن يلقيه النذر القدر قدرته) أي: ألقى الله هذا النذر على الشيء الذي قدره الله عز وجل, لا أن النذر هو الذي جاء بشيء لم يكن مقدراً من قبل.
فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن, فلا تحصل حركة ولا وسكون في الوجود إلا وقد سبق بها قضاء الله وقدره.
وقوله: [(يستخرج من البخيل)].
أي: يستخرج بالنذر من البخيل؛ لأن البخيل لا يجود بالمال, ولا يرغب في بذل المال, ولكنه حصل له أمر اهتم به, فحرص على أن تحصل له الفائدة، فعلق الصدقة على حصول الفائدة, فلما حصل الشفاء صار يخرج من ماله وهو كاره.
وقوله: (يؤتي عليه ما لم يكن يؤتي من قبل)].
أي: أن البخيل يؤتي على النذر ما لم يكن يؤتيه من قبل؛ لأنه لو لم ينذر ويلزم نفسه لما بذل هذا المال, لكن بسبب النذر أعطى شيئاً هو كاره إعطاءه، وهذا هو الذي يخل بهذه العبادة, أن الإنسان يفعلها وهو كاره, ونفسه ليست مرتاحة مطمئنة لفعلها.(379/6)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يأتي ابن آدم النذر القدر بشيء لم أكن قدرته له)
قوله: [حدثنا أبو داود قال: قرئ على الحارث بن مسكين].
الحارث بن مسكين ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
وقوله: [وأنا شاهد].
أي: وهو شاهد حاضر وغيره يقرأ على الحارث بن مسكين وهو يسمع.
[أخبركم ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: أخبرني مالك] هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه, أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة, وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزناد].
هو عبد الله بن ذكوان المدني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة, وأبو الزناد لقبه وهو لقب على صيغة الكنية, وكنيته أبو عبد الرحمن.
[عن عبد الرحمن بن هرمز].
هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام, بل هو أكثر السبعة حديثاً على الإطلاق، فرضي الله عنه وأرضاه.(379/7)
ضابط الحديث القدسي
هذا الحديث قدسي ولكن ليس فيه إسناده إلى الله؛ لأن المعروف في الأحاديث القدسية أنه يسبقها أن يقول الصحابي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه, أو يقول الرسول: قال الله تعالى, والحديث القدسي ليس من القرآن, فإذا قيل: حديث قدسي، أي: أنه مضاف إلى الله.
وعلامته: حصول الضمائر الراجعة إلى الله عز وجل، كقوله: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي)؛ لأنه لا أحد يقول: يا عبادي! غير الله عز وجل.
وهذا الحديث فيه ضمائر ترجع إلى الله، ولكن ليس في أوله الصيغة التي يعرف بها الحديث القدسي وهي: (يقول الرسول: قال الله تعالى كذا، أو قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال كذا وكذا)، فالحديث هذا فيه ضمائر تكلم من الله عز وجل، وهي علامة الحديث القدسي، لكن ليس فيه الصيغة التي تدل على الحديث القدسي التي تسبق الحديث.(379/8)
ما جاء في النذر في المعصية(379/9)
شرح حديث (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في النذر في المعصية.
حدثنا القعنبي عن مالك عن طلحة بن عبد الملك الأيلي عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)].
قوله: [باب ما جاء في النذر في المعصية]، أي: أنه لا يجوز للإنسان أن ينذر في المعصية، وإذا نذر فلا يجوز له الوفاء، فالنذر في المعصية غير جائز، ولكن عليه كفارة يمين، كما جاء في بعض الأحاديث، فإذا نذر أن يفعل أمراً محرماً، أو يفعل معصية فعليه كفارة يمين، فنذر المعصية لا يجوز، وإذا وجد فلا يجوز الوفاء به وفيه كفارة يمين.
وقد أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)، فمن نذر أن يطيع الله فليطعه؛ لأن القربة تفعل، والإنسان إذا ألزم نفسه بها فعليه أن يأتي بها، وأما المعصية إذا ألزم نفسه بها فلا يجوز له أن يفعلها، ولكن يأتي بكفارة يمين عن هذا النذر الذي نذره في المعصية.(379/10)
تراجم رجال إسناد حديث (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك عن طلحة بن عبد الملك الأيلي].
مالك مر ذكره، وطلحة بن عبد الملك الأيلي ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن القاسم].
هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق، وهي عمة القاسم، وهي من السبعة الذين عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله الأنصاري وأم المؤمنين عائشة، ستة رجال وامرأة واحدة، وفيهم يقول السيوطي في الألفية: والمكثرون في رواية الأثر أبو هريرة يليه ابن عمر وأنس والبحر -ابن عباس- كالخدري وجابر وزوجة النبي(379/11)
الأسئلة(379/12)
حكم الوفاء بالنذر للموتى
السؤال
بعض العوام ينذرون للموتى نذوراً، فما حكم الوفاء بها؟ وهل يكفر عنها كفارة يمين؟
الجواب
النذر الذي يوفى به هو الذي يكون لله، ويكون في طاعة، أما نذر المعصية فليس لله، وليس طاعة لله، وفيه كفارة يمين، وكونه ينذر للموتى هذا لا يجوز؛ لأن هذا نذر لغير الله، وليس نذراً لله، بل هذه عبادة لغير الله، فالنذر لأصحاب القبور مثل دعاء أصحاب القبور، وكل هذا عبادة لغير الله عز وجل، وكفارته التوبة.(379/13)
حكم النذر للحجرة النبوية
السؤال
هل يجوز النذر للحجرة النبوية؟
الجواب
لا يجوز أن ينذر للحجرة النبوية، والإنسان إذا أراد أن يحسن إلى الفقراء والمساكين فإنه يعطيهم، ولا يأتي بشيء يرميه في الحجرة أو ينذر للحجرة، فإن هذا لا يجوز.(379/14)
حكم من نذر أن يصوم الإثنين والخميس ثم عجز عن ذلك
السؤال
إذا نذر العبد أن يصوم يوم الخميس والإثنين ما دام حياً ثم تبين له عدم الإمكانية؛ لأنه عجز في آخر حياته، فهل له أن يكفر؟
الجواب
إذا عجز يكفر، وإذا تمكن من الاستمرار، وكان يمكنه ذلك، فليف بنذره.(379/15)
الفرق بين النذر والدعاء
السؤال
ألا يكون النذر من الأسباب فيكون كالدعاء؟
الجواب
لا؛ لأن النذر ليس مأموراً به، والدعاء مأمور به.(379/16)
حكم من نذرت صيام شهر في كل عام ثم عجزت
السؤال
امرأة نذرت إن شفى الله مريضها أن تصوم شهراً في كل عام، فشفى الله مريضها، فصامت، ثم هي الآن تكون مرة حاملاً ومرة تكون مرضعاً، ويشق عليها الصيام فماذا تصنع؟
الجواب
إذا عجزت فتكفر عن نذرها.(379/17)
حكم من نذر معصية وفعلها
السؤال
إذا نذر الإنسان في معصية، ثم فعل المعصية، فهل عليه كفارة يمين؟
الجواب
نعم، يجب عليه أن يكفر؛ لأن النذر في المعصية أصلاً لا يجوز الوفاء به، بل يجب عليه أن يترك وأن يكفر، ولو فعل فعليه أن يكفر؛ لأنه نذر نذر معصية، فيكفر ولو فعل المعصية؛ لأن هذا فعل محرم؛ ولأنه لا يجوز لا هذا ولا هذا، فلا يجوز النذر، ولا يجوز الوفاء به.
ووجوب الكفارة عليه فيه تأديب له حتى لا يفعل هذا الفعل، ولا يقدم عليه، ولو لم تكن الكفارة إلا إذا امتنع، فإنه يمكن أن يقدم على الفعل المحرم حتى يتخلص من الكفارة.(379/18)
صيغة النذر
السؤال
هل للنذر صيغة معينة؟
الجواب
النذر هو جعل شيء لله عز وجل إما مقيداً أو غير مقيد، فالمقيد كأن يقول: لله عليَّ إن شفى الله مريضي أن أعمل كذا وكذا، أو لله عليَّ أن أحج حجة، أو لله عليَّ أن أعتكف عشرة أيام أو ما إلى ذلك، وإذا لم يقيدها فالمهم أن يكون لله عز وجل.(379/19)
وقت لزوم الوفاء بالنذر
السؤال
متى يلزم الوفاء بالنذر؟ هل يلزم بعد النذر مباشرة أم على التراخي؟
الجواب
هذا على حسب القدرة؛ لأن هذا دين، والواجب عليه أن يفي بهذا الدين متى أمكنه ذلك، فإذا كان قادراً فلا يؤخر، ومثله مثل الإنسان الذي عليه دين، فإنه يجب عليه أن يبادر إلى قضاء الدين.(379/20)
اشتراط قول (لله عليَّ كذا) في النذر
السؤال
هل صيغة النذر لا بد فيها من لفظ (لله عليَّ) أو يكفي أن يقول مثلاً: إذا شفيت سأتصدق؟
الجواب
إذا قال: إن شفى الله مريضي سأتصدق بكذا وكذا، فهذه الصيغة صيغة نذر، وأما قوله: إذا شفيت فسأتصدق، فهذه الصيغة ليست صيغة نذر.(379/21)
اشتراط التلفظ في النذر
السؤال
هل يشترط في النذر أن يتلفظ به أم يكفي فيه حديث النفس؟
الجواب
لابد أن يتلفظ، وأما حديث النفس فلا يعتبر كلاماً ولا يلزمه به أي شيء، فلو أن إنساناً فكر في طلاق زوجته فلا تطلق بهذا التفكير، وبهذا الذي في قلبه، وكذلك لو أن إنساناً فكر في عتق رقبة فلا تعتق بهذا التفكير، وبهذا الذي في نفسه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل).(379/22)
حكم القسم بالقرآن وبحق القرآن
السؤال
هل يجوز القسم بالقرآن أو بحق القرآن؟
الجواب
القرآن يجوز أن يقسم به؛ لأنه كلام الله، وحق القرآن لا يقسم به؛ لأن حقه أن يعظم، وهذا عمل من أعمال الإنسان، فحق القرآن أن يعظمه الإنسان ويحترمه ويوقره، ولا يحلف باحترامه وتوقيره للقرآن، ولكن يمكن أن يحلف بالقرآن؛ لأنه كلام الله، وكلام الله عز وجل يحلف به.
وأما فيما يتعلق بالمصحف، فإنه لا يقسم بالمصحف؛ لأن المصحف يشتمل على كلام الله وعلى غير كلام الله، فهو يشتمل على كلام الله وهو غير مخلوق، ويشتمل على الورق، وعلى الغلاف، وعلى الحبر والمداد، وكل هذه مخلوقة؛ فالمصحف مشتمل على مخلوق وغير مخلوق ولذا لا يحلف بالمصحف، وأما القرآن فيحلف به؛ لأن القرآن هو من كلام الله عز وجل.(379/23)
زيادة إيمان الأنبياء والمرسلين ونقصانه
السؤال
هل إيمان الأنبياء والمرسلين يزيد وينقص أم يزيد فقط؟
الجواب
لا شك أنهم أكمل الخلق، وليس عندهم إلا الكمال، والنقصان لا يرد عليهم، وإنما يزيد إيمانهم.(379/24)
حكم تعطر المعلمة قبل الدرس أمام الطالبات
السؤال
بعض معلمات التحفيظ يضعن عطراً خفيفاً قبل الدرس أمام الطالبات، وعند الإنكار عليهن يقلن: إنه لا يلبث أن يزول وإنه يغير رائحة العرق، ولا دليل لمن ينكر علينا ذلك، فما توجيهكم؟
الجواب
لا ينبغي لهن التطيب؛ لأن خروج المرأة متطيبة هذا غير جائز، ولكن هل صحيح أن هذا طيب لا يمكث، وأنه لا يتعدى الحال؟ فإذا كان الأمر كذلك فلا بأس به، ولكن قد يقدم على هذا الشيء فتكون النتيجة بخلاف ذلك فتكون المرأة بذلك متعرضة للإثم؛ لأنها تخرج متعطرة، وذلك غير سائغ.(379/25)
شرح سنن أبي داود [380]
إذا نذر الإنسان نذراً مباحاً فيجب عليه الوفاء به، وأما إذا نذر نذراً محرماً فلا يجوز له الوفاء به، وعليه كفارة يمين، ومن نذر فيما لا يطيق فلا يجب عليه الوفاء به بل عليه الكفارة، وهكذا إذا عجز عن الوفاء بالنذر فعليه أن يكفر كفارة يمين؛ لورود الأحاديث بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.(380/1)
الكفارة في النذر إذا كان في معصية(380/2)
شرح حديث (لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية.
حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو معمر حدثنا عبد الله بن المبارك عن يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين)].
قوله: [باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية]، أي: إذا كان النذر في معصية، فبعض أهل العلم يرى أنه لا كفارة عليه، ولكن جاءت أحاديث تدل على أن عليه كفارة، ومنها حديث عائشة رضي الله عنها هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين).
وقوله: (لا نذر) تحريم للنذر ومنع له ونفي له أن يوجد وهو في معصية، و (لا) نافية للجنس، وهي هنا نافية لجنس النذر، أي: لا نذر يحصل في معصية، فهو خبر بمعنى النهي، أي: لا يجوز أن ينذر في المعصية.
وقوله: (وكفارته) أي: إذا وجد (كفارة يمين) فليس معنى ذلك أنه إذا نذر معصية يتركها فقط، وإنما عليه أن يكفر عن هذه اليمين التي أتى بها في المعصية، وقد جاء في صحيح مسلم حديث: (النذر كفارته كفارة يمين)، وهو حديث مطلق، وهو يدل على أن أي نذر سواء كان في طاعة أو معصية أن كفارته كفارة يمين، ولكن هذا الحديث الذي هنا نص فيه على أن نذر المعصية فيه كفارة يمين.(380/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين)
قوله: [حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو معمر].
هو إسماعيل بن إبراهيم أبو معمر القطيعي وهو ثقة أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الله بن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك المروزي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يونس].
يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف المدني، وهو ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها وقد مر ذكرها.
وهذا الحديث صحيح وإسناده في غاية الوضوح.(380/4)
شرح حديث (لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن السرح أخبرنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب بمعناه وإسناده.
قال أبو داود: سمعت أحمد بن شبويه يقول: قال ابن المبارك -يعني في هذا الحديث-: حدث أبو سلمة فدل ذلك على أن الزهري لم يسمعه من أبي سلمة، وقال أحمد بن محمد وتصديق ذلك ما حدثنا أيوب يعني ابن سليمان] أورد أبو داود هذا الحديث من طريق أخرى وقال: بمعناه وإسناده، أي: بمعنى الحديث وإسناد الحديث.(380/5)
تراجم رجال إسناد حديث (لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا ابن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح، وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أخبرنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب].
ابن وهب ويونس وابن شهاب مر ذكرهم.
وقوله: [قال أبو داود: سمعت أحمد بن شبويه يقول: قال ابن المبارك -يعني في هذا الحديث-: حدث أبو سلمة فدل ذلك على أن الزهري لم يسمعه من أبي سلمة].
أي: أن الزهري قال: حدث أبو سلمة، فقوله: (حدث أبو سلمة) يفهم منه أن الزهري لم يسمعه من أبي سلمة.
وقوله: [سمعت أحمد بن شبويه].
هو أحمد بن محمد بن ثابت المروزي، ويأتي ذكره بأسماء متعددة: أحمد بن محمد، وأحمد بن شبويه، وأحمد بن محمد بن ثابت، وأحمد بن محمد المروزي، وهو شخص واحد، وهو ثقة أخرج له أبو داود.
قوله: [وقال أحمد بن محمد].
هو ابن شبويه الذي مر.
وقوله: [وتصديق ذلك ما حدثنا أيوب، يعني ابن سليمان].
هو أيوب بن سليمان بن بلال القرشي، وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.(380/6)
إعلال الإمام أحمد لحديث (لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين)
[قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: أفسدوا علينا هذا الحديث، قيل له: وصح إفساده عندك؟ وهل رواه غير ابن أبي أويس؟ قال: أيوب كان أمثل منه -يعني أيوب بن سليمان بن بلال - وقد رواه أيوب].
أحمد بن حنبل هو الإمام المعروف المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
يقول: أفسدوا علينا هذا الحديث، قيل له: وصح إفساده عندك؟ وهل رواه غير ابن أبي أويس؟ فقال: أيوب كان أمثل منه.
أي: أن أيوب بن سليمان بن بلال أمثل من ابن أبي أويس.(380/7)
شرح حديث (لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين) من طريق ثالثة وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثنا أيوب بن سليمان عن أبي بكر بن أبي أويس عن سليمان بن بلال عن ابن أبي عتيق وموسى بن عقبة عن ابن شهاب عن سليمان بن أرقم أن يحيى بن أبي كثير أخبره عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين)].
هذا الحديث مثل الذي قبله، ولكن الإسناد طويل، وهذا من أنزل الأسانيد؛ لأن فيه عشرة أشخاص.
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثنا أيوب بن سليمان عن أبي بكر بن أبي أويس].
أبو بكر بن أبي أويس هو عبد الحميد بن عبد الله وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن سليمان بن بلال].
سليمان بن بلال ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي عتيق].
هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وهو صدوق أخرج له البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة.
[وموسى بن عقبة].
هو موسى بن عقبة المدني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
ابن شهاب مر ذكره.
[عن سليمان بن أرقم].
سليمان بن أرقم ضعيف، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن يحيى بن أبي كثير].
هو يحيى بن أبي كثير اليمامي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة عن عائشة].
أبو سلمة وعائشة قد مر ذكرهما.(380/8)
إعلال أحمد بن محمد المروزي لحديث (لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أحمد بن محمد المروزي: إنما الحديث حديث علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن الزبير عن أبيه عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أراد أن سليمان بن أرقم وهم فيه، وحمله عنه الزهري، وأرسله عن أبي سلمة عن عائشة رحمها الله].
قوله: [قال أحمد بن محمد المروزي: إنما الحديث حديث علي بن المبارك].
علي بن المبارك صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن الزبير].
محمد بن الزبير متروك، أخرج له أبو داود في المراسيل والنسائي.
[عن أبيه].
أبوه لين الحديث، أخرج له النسائي، ولم يذكر أبا داود في التقريب لأنه أخرج له تعليقاً.
[عن عمران بن حصين].
هو عمران بن حصين أبو نجيد، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث من الطريق الأولى صححه الألباني، والطريق الثانية قال: إنها صحيحة بما قبلها، والحديث في صحيح مسلم، لكنه عام ليس فيه ذكر المعصية.
وقال الإمام ابن القيم إنه يشمل الطاعة ويشمل المعصية، يعني: الحديث الذي في مسلم، وقال: إنه جاء عن عدد من الصحابة أنهم قالوا: إن النذر بالمعصية فيه كفارة يمين، ولا شك أن كونها تلزمه فيه تأديب، حتى لا يمر مثل هذا الأمر بسلام، ودون أن يكون له تبعات، ودون أن يتحمل شيئاً في ماله بسبب هذا النذر الذي لا يجوز، والذي هو نذر المعصية.
[قال أبو داود: روى بقية عن الأوزاعي عن يحيى عن محمد بن الزبير بإسناد علي بن المبارك مثله].
أي: بالإسناد الذي قبل هذا.
وقوله: [روى بقية].
هو بقية بن الوليد وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى عن محمد بن الزبير بإسناد علي بن المبارك مثله].
يحيى ومحمد بن الزبير وعلي بن المبارك مر ذكرهم.(380/9)
شرح حديث عقبة بن عامر (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد القطان أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري أخبرني عبيد الله بن زحر أن أبا سعيد أخبره أن عبد الله بن مالك أخبره أن عقبة بن عامر رضي الله عنه أخبره (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة، فقال: مروها فلتختمر، ولتركب، ولتصم ثلاثة أيام)].
أورد أبو داود حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه: (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة، فقال: مروها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام)، أي: أن هذا النذر الذي هو عدم الاختمار نذر معصية، وكذلك نذرها أن تحج حافية ليس عليها نعال؛ لأن في ذلك مضرة ومشقة عليها.
وجاء في بعض الروايات: أنها كانت عاجزة، أو غير قادرة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (مروها فلتركب ولتختمر)، لأن عدم الركوب يعود عليها بالمضرة، وكونها نذرت ألا تختمر هذا نذر معصية.
وقوله: (ولتصم ثلاثة أيام) قيل: إن المقصود من هذا أنه كفارة يمين، وهذا مبني على أنها غير قادرة؛ لأن الصيام ثلاثة أيام إنما يكون عند العجز عن الرقبة أو عن إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم.
ومن أهل العلم من قال: إنها فدية، وإنه شيء يتعلق بالهدي؛ لأنه جاء في بعض الروايات أنها تذبح هدياً، فقالوا: إن هذه الثلاثة الأيام بدل من الهدي.
وقد ضعف الشيخ الألباني الحديث لأجل هذه الزيادة التي فيها الأمر بصيام ثلاثة أيام، وقال: إن هذه جاءت من طريق عبيد الله بن زحر، وهو متكلم فيه.
لكن إن صح فهو محمول على أنها غير قادرة على الإطعام، ومن أهل العلم من قال -كما جاء في بعض الروايات الصحيحة التي ستأتي-: إنه أمرها أن تهدي، فيكون الصيام بدلاً عن الهدي، والهدي فدية عن تركها المشي الذي نذرته، ولا أدري ما وجهه؛ لأن النذر جاء أن كفارته كفارة يمين، وأما كونها فدية فقد ذكر بعض أهل العلم أنه على سبيل الاستحباب، وليس على سبيل الإلزام.
وأما الكفارة فتلزمها ما دام أنها خالفت نذرها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين).(380/10)
تراجم رجال إسناد حديث عقبة بن عامر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد القطان].
يحيى بن سعيد القطان ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري].
هو يحيى بن سعيد الأنصاري المدني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: أخبرني عبيد الله بن زحر].
عبيد الله بن زحر صدوق يخطئ، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[أن أبا سعيد أخبره].
هو أبو سعيد الرعيني، وهو جعثل بن هاعان، وهو صدوق أخرج له أصحاب السنن.
[أن عبد الله بن مالك أخبره].
هو عبد الله بن مالك أبو تميم الجيشاني، وهو ثقة مخضرم أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وهناك عبد الله بن مالك اليحصبي المصري، وهو صدوق أخرج له أصحاب السنن.
والحافظ في التقريب رمز للجيشاني بـ (قد) أي: أخرج له أبو داود في القدر، قال صاحب عون المعبود: وذكر عبد الرحمن بن أبي حاتم وغير واحد أن عبد الله بن مالك اليحصبي المصري يروي عن عقبة بن عامر، وروى عنه أبو سعيد الرعيني، وأن عبد الله بن مالك أبا تميم الجيشاني الرعيني يروي عن عمر بن الخطاب، وأبي ذر الغفاري، وأبي نضرة الغفاري، وروى عنه عبد الله بن هبيرة الحضرمي، وغيره، وجعلوهما اثنين، وهو أولى بالصواب، انتهى.
أي: أن الجيشاني شخص واليحصبي شخص آخر، وأما كون الحافظ رمز له بـ (قد) وذاك رمز له بـ (د) فإن حديث الجيشاني مخرج هنا في السنن.
[أن عقبة بن عامر أخبره].
هو عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(380/11)
طريق أخرى لحديث عقبة بن عامر (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة) وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مخلد بن خالد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال: كتب إلي يحيى بن سعيد أخبرني عبيد الله بن زحر مولى لبني ضمرة -وكان أيما رجل- أن أبا سعيد الرعيني أخبره، بإسناد يحيى ومعناه].
ذكر أبو داود طريقاً أخرى للحديث السابق، وذكر أنها بإسناده ومعناه.
قوله: [حدثنا مخلد بن خالد].
مخلد بن خالد ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: كتب إلي يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو ثقة ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عبيد الله بن زحر].
عبيد الله بن زحر مر ذكره.
وقوله: [وكان أيما رجل].
هذا ثناء عليه بأنه نعم الرجل.
[أن أبا سعيد الرعيني أخبره، بإسناد يحيى ومعناه].
أبو سعيد الرعيني مر ذكره.(380/12)
شرح حديث ابن عباس في نذر أخت عقبة بن عامر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حجاج بن أبي يعقوب حدثنا أبو النضر حدثنا شريك عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله! إن أختي نذرت -يعني: أن تحج ماشية- فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئاً، فلتحج راكبة، ولتكفر عن يمينها)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخته نذرت أن تحج ماشية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئاً، فلتحج راكبة، ولتكفر عن يمينها)، يعني: كونها تعذب نفسها، وتتعب نفسها، وتتقرب بذلك إلى الله عز وجل، ليس هذا مما شرعه الله عز وجل؛ فإن الله عز وجل يسر للناس في عباداتهم، ولم يكلفهم إلا ما يطيقون، وهي تريد أن تشق على نفسها، فعملها غير مشروع وغير صحيح، ولذا قال: (فلتحج راكبة، ولتكفر عن يمينها)، فأمرها أن تركب، والمشي الذي نذرته تتركه، وتكفر عن يمينها.
وسمي النذر يميناً لأن حكمه حكم اليمين من ناحية لزومه إذا كان طاعة، ولزوم الكفارة، فالنذر له حكم اليمين من حيث الإلزام؛ لأن الحالف ألزم نفسه، وهذا ألزم نفسه، وقد يكون نذره بيمين، لكن حتى لو لم يكن بيمين، فإن حكمه حكم اليمين، ولهذا جاء في الحديث: (كفارة النذر كفارة اليمين).(380/13)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في نذر أخت عقبة بن عامر
قوله: [حدثنا حجاج بن أبي يعقوب].
حجاج بن أبي يعقوب ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا أبو النضر].
هو أبو النضر هاشم بن القاسم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شريك].
هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي، وهو صدوق يخطئ كثيراً، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة].
محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن كريب].
هو كريب مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما صحابي، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.(380/14)
شرح حديث ابن عباس في نذر أخت عقبة بن عامر من طريق ثانية وتراجم رجالها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو الوليد حدثنا همام عن قتادة حدثنا عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى البيت، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تركب وتهدي هدياً)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس: (أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تركب وأن تهدي هدياً)، وهذا الهدي قيل: إنه على سبيل الاستحباب، وليس فيه ذكر الكفارة، ويمكن أن يكون هذا الهدي هو الكفارة، ويمكن أن يكون هدياً مستحباً وهو غير الكفارة، على اعتبار أن النذر كفارته كفارة يمين، أو أنه أطلق على كفارة اليمين أنها هدي، ولكن هذا ليس مستقيماً؛ لأن الهدي هو من بهيمة الأنعام.
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
هو محمد بن المثنى أبو موسى الزمن العنزي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو الوليد].
هو هشام بن عبد الملك الطيالسي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا همام].
هو همام بن يحيى العوذي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس قد مر ذكره.
والهدي لازم لمن كان متمتعاً أو قارناً، وأما هذا فليس فيه شيء يفيد التمتع أو القران، فكل من كان متمتعاً أو قارناً فالهدي لازم عليه بنص القرآن، أما المفرد فليس عليه هدي.(380/15)
شرح حديث ابن عباس في نذر أخت عقبة بن عامر من طريق ثالثة وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية قال: إن الله لغني عن نذرها، مرها فلتركب)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس من طريق أخرى في قصة أخت عقبة بن عامر، وفيه أن النبي أمرها أن تركب، ولم يتعرض لذكر شيء من الكفارة.
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام].
هو هشام الدستوائي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس].
قتادة وعكرمة وابن عباس قد مر ذكرهم.(380/16)
حديث نذر أخت عقبة بن عامر من طريق عكرمة مرسلاً
[قال أبو داود: رواه سعيد بن أبي عروبة نحوه، وخالد عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه].
سعيد بن أبي عروبة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وخالد].
هو خالد بن مهران الحذاء، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه].
وهذه الطريق مرسلة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى، ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن عكرمة أن أخت عقبة بن عامر بمعنى هشام، ولم يذكر الهدي، وقال فيه: (مر أختك فلتركب)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وفيه: (مر أختك فلتركب).
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا ابن أبي عدي].
محمد بن إبراهيم بن أبي عدي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد عن قتادة عن عكرمة].
سعيد بن أبي عروبة وقتادة وعكرمة مر ذكرهم.
[أن أخت عقبة بن عامر].
وهذا مرسل.
وقوله: [بمعنى هشام].
أي: بمعنى الإسناد الذي قبل هذا.
وقوله: [ولم يذكر الهدي].
أي: أن هشاماً لم يذكر الهدي.
[قال أبو داود: رواه خالد عن عكرمة بمعنى هشام].(380/17)
شرح حديث عقبة بن عامر الجهني (نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مخلد بن خالد حدثنا عبد الرزاق حدثنا ابن جريج أخبرني سعيد بن أبي أيوب أن يزيد بن أبي حبيب أخبره أن أبا الخير حدثه عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أنه قال: (نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله، فأمرتني أن أستفتي لها النبي صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لتمش ولتركب)].
أورد أبو داود حديث عقبة بن عامر من طريق أخرى، وفيه قال: (لتمش ولتركب)، أي: تجمع بين هذا وهذا، فإذا كانت تطيق أن تشمي فلتمش، وإذا شق عليها فلتركب، وبهذا تكون قد جمعت بين هذا وهذا.(380/18)
تراجم رجال إسناد حديث عقبة بن عامر الجهني (نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله)
قوله: [حدثنا مخلد بن خالد حدثنا عبد الرزاق حدثنا ابن جريج أخبرني سعيد بن أبي أيوب].
سعيد بن أبي أيوب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن يزيد بن أبي حبيب أخبره].
يزيد بن أبي حبيب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن أبا الخير حدثه].
هو مرثد بن عبد الله اليزني المصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عقبة بن عامر].
عقبة بن عامر قد مر ذكره، وأخته معروفة بـ أم حبان لم يذكر اسمها.(380/19)
شرح حديث (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس، فسأل عنه فقالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، قال: مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه)].
أورد المصنف حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذ رأى رجلاً قائماً في الشمس، فقال: من هذا؟ قالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يتكلم، ولا يستظل، ويصوم).
يعني: أنه نذر أن يمتنع عن الكلام، فلا يكلم أحداً، ولا يجلس، وأن يكون واقفاً في الشمس، ويصوم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك هذه الأشياء التي نذرها وقال: (مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه).
فأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينهوه عن ثلاث، وأن يأمروه بواحدة وهي إتمام الصوم؛ لأنه يطيق الصوم؛ ولأنه نذر طاعة، وأما تلك ففيها مشقة على النفس، وفيها تكليف، وفيها ضرر، فليست نذر طاعة، فأمره بتركها، وأمره أن يكون في الظل بدلاً عن الشمس، وأن يجلس بدل القيام، وأن يتكلم بدل السكوت؛ لأن هذه الأمور ليس له أن يفعلها، وأن يلزم نفسه بها؛ لأنها من الإضرار بالنفس، والإضرار بالصحة، وليس فيه قربة لله عز وجل، وأما الصيام ففيه قربة، فأمرهم أن يأمروه أن يتم الصوم، وأن يترك هذه الأمور التي فعلها، وأن يصير إلى أضدادها.
وليس في الحديث أنه أمره بالكفارة، وبعض أهل العلم الذين لا يرون الكفارة استدلوا بهذا الحديث وأمثاله على عدم الكفارة، وقالوا: إنه لم يذكر الكفارة، إذاً: لا كفارة في نذر المعصية، ولكن قد جاء ذكر الكفارة في أحاديث أخرى، فهي ثابته، وعدم ذكرها في هذا الحديث لا يدل على نفيها، بل الأدلة الدالة على إثباتها هي المعتبرة، وهي التي يعول عليها؛ لأنها ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(380/20)
تراجم رجال إسناد حديث (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا وهيب].
هو وهيب بن خالد، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.(380/21)
الكلام مع الخطيب يوم الجمعة
وفي هذا الحديث أن الكلام حصل في الخطبة، والكلام مع الخطيب لا بأس به، فإذا تكلم الخطيب مع غيره أو كلمه غيره فلا بأس بذلك، وهذا الحديث ليس فيه شيء يتعلق ببيان الخطبة وما هو المراد بالخطبة؟ لكن ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح عن الخطيب البغدادي في المبهمات أنه قال: في جمعة، أو يوم جمعة، ولا أدري شيئاً عن ثبوت ذلك، لكن الكلام في خطبة الجمعة من الإمام، ومن يكلم الإمام هذا ثابت؛ فقد جاء في قصة الأعرابي الذي جاء وقال: (يا رسول الله! هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا)، وكذلك أيضاً لما جاء رجل وجلس والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (هل صليت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين وتجوز فيهما)، وكذلك الحديث الذي فيه ذكر الرجل الذي جاء يقطع الصفوف ويمشي بينها والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له: (اجلس فقد آذيت) فكلام الخطيب والكلام مع الخطيب لا بأس به.(380/22)
من ابتدع عبادة فهي مردودة عليه
فإن قيل: أليس في حديث أبي إسرائيل دلالة على رد من ابتدع عبادة؟
و
الجواب
إذا كان يريد أن يتعبد الله به بمجرد كونه واقفاً في الشمس، فلا شك أن هذا من البدع، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بدعة ضلالة).(380/23)
حكم التسمي بإسرائيل والتكني به
وأما هل يجوز التسمي بإسرائيل أو التكني بأبي إسرائيل؟ ف
الجواب
لا نعلم شيئاً يمنعه؛ لأن إسرائيل المراد به: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، هذا هو إسرائيل، واليهود والنصارى وأهل الكتاب هم من نسل يعقوب، فلهذا يقال لهم: بنو إسرائيل، فالتسمي أو التكني به ليس بذلك بأس، ومن الصحابة من يقال له: أبو إسرائيل، ومن الرواة الثقات إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الذي يأتي ذكره في الأسانيد.(380/24)
شرح حديث (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يهادى بين ابنيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن حميد الطويل عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يهادى بين ابنيه، فسأل عنه، فقالوا: نذر أن يمشي، فقال: إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه، وأمره أن يركب)].
أورد أبو داود حديث أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يهادى بين ابنيه) أي: لا يستطيع المشي بمفرده، وإنما يلزمه ابناه واحد عن يمينه، وواحد عن شماله، وكان ذلك في الحج، حيث إنه نذر أن يحج ماشياً وهو بهذه الهيئة لا يستطيع أن يمشي وحده، فكان أولاده يسندونه واحد من اليمين، وواحد من الشمال، فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنه نذر أن يمشي، فقال: (إن الله غني عن تعذيب هذا نفسه، وأمره أن يركب).
فقد كان يمشي في المشاعر بهذه الهيئة حيث كان يهادى بين ابنيه، فقالوا: إنه نذر، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله غني عن تعذيب هذا نفسه، وأمره أن يركب)، ومعلوم أن الحج عبادة، والإنسان إذا كان مطيقاً ونذر أن يحج، وأن يمشي على رجليه، وكان يستطيع أن يمشي فلا بأس بذلك، فيذهب من مكة إلى منى، ومن منى إلى عرفة، ويرجع من عرفة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى, ومن منى إلى مكة؛ فإن الله عز وجل ذكر المشاة وذكر الركبان فقال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27]، (رجالاً) أي: مشاة، فالذي يستطيع ذلك له أن يفعله، ولكن إذا كان سيلحقه مضرة، فليس له ذلك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يجلب الإنسان الضرر إلى نفسه.
وفي الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يركب، وليس فيه شيء يتعلق بالكفارة، وقد تقدم أن ذكرنا أنه قد جاءت الأحاديث بثبوت الكفارة ولزومها.(380/25)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يهادى بين ابنيه)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد الطويل].
هو حميد بن أبي حميد الطويل، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثابت البناني].
هو ثابت بن أسلم البناني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(380/26)
طريق أخرى لحديث (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يهادى بين ابنيه) وتراجم رجال إسنادها
[قال أبو داود: رواه عمرو بن أبي عمرو عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه].
ذكر أبو داود أنه جاء من طريق أخرى عن أبي هريرة.
قوله: [رواه عمرو بن أبي عمرو عن الأعرج عن أبي هريرة].
عمرو بن أبي عمرو ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة، والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً.(380/27)
شرح حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر وهو يطوف بالكعبة بإنسان يقوده بخزامة في أنفه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن معين حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني عاصم الأحول أن طاوساً أخبره عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر وهو يطوف بالكعبة بإنسان يقوده بخزامة في أنفه، فقطعها النبي صلى الله عليه وسلم بيده، وأمره أن يقوده بيده)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بإنسان وهو يطوف بالكعبة يقوده آخر بخزامة في أنفه، وهي من شعر تشبه الخطام، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوده بيده، إذا كان محتاجاً للقيادة، وذلك لكونه كفيفاً، أو لكونه عاجزاً ويحتاج إلى من يساعده، فإنه يقوده بيده، ولا يفعل ذلك بحبل أو ما إلى ذلك حتى لا يشبه البهيمة التي تقاد بالحبال؛ لأن هذا غير سائغ.
وذكر هنا خزامة في أنفه، ولا أدري ما المقصود بقوله: (في أنفه)، لأن المعروف أنهم كانوا يأخذون الناقة التي فيها شدة أو الجمل الصعب فيخرقون أنفه أو يربطونه بأنفه ويقودونه به لشدة صعوبته، فيكون في ذلك منع لقسوته وقوته وهيجانه وشدته عليهم، فلا أدري هل يكون هذا في الإنسان أنه يُجعل في أنفه شيء يقاد به أم لا؟ لأن هذا فيه صعوبة؛ وفعل هذا الشيء من الصعب جداً، وأما كونه يقاد بيده أو يربط بيده حبل ويقاد به فيمكن، وقد جاء في بعض الأحاديث أنه كان هناك حبل في يده، فقطعه الرسول صلى الله عليه وسلم.(380/28)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر وهو يطوف بالكعبة بإنسان يقوده بخزامة في أنفه)
قوله: [حدثنا يحيى بن معين].
يحيى بن معين ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حجاج].
هو حجاج بن محمد المصيصي الأعور، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عاصم الأحول].
هو عاصم بن سليمان الأحول، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن طاوساً أخبره].
هو طاوس بن كيسان، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.(380/29)
شرح حديث (أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله السلمي حدثني أبي حدثني إبراهيم -يعني ابن طهمان - عن مطر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن أخت عقبة بن عامر رضي الله عنها نذرت أن تحج ماشية، وأنها لا تطيق ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله لغني عن مشي أختك، فلتركب ولتهد بدنة).
أورد أبو داود حديث ابن عباس في قصة نذر أخت عقبة بن عامر الجهني أن تحج ماشية، وقد مر جملة من الأحاديث في هذا الموضوع عن عقبة وعن ابن عباس، وذكر أبو داود بعض الطرق لهذا الحديث، وقد فصل بين أحاديثها بهذه الثلاثة الأحاديث التي مرت: الحديث الذي فيه أبو إسرائيل، والحديث الذي فيه الرجل الذي يهادى بين رجلين، والحديث الأخير الذي فيه أنه رأى إنساناً يقوده آخر بخزامة، وكان المناسب أن تكون الأحاديث المتعلقة بأخت عقبة متصلة ببعضها، هذا هو المناسب في الترتيب، ولكنها تأخرت، فلا أدري ما وجه التأخير، وهل ذلك من أبي داود أو من غيره؟ الله أعلم.
قوله: [عن ابن عباس: (أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية وأنها لا تطيق ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله لغني عن مشي أختك، فلتركب ولتهد بدنة)].
فكونها تحج ماشية لا بأس بذلك إذا كانت تستطيع؛ لأن الله عز وجل ذكر أن الناس يأتون إلى الحج مشاة وركباناً، فمن نذر أن يحج ماشياً وأمن لحوق المضرة فعليه أن يوفي بالنذر، لكن حيث لا يكون الأمر كذلك كما في هذا الحديث فقد كانت غير مطيقة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله غني عن مشي أختك مرها فلتركب ولتهد بدنة) أي: تترك ذلك الذي نذرته وتركب وتهدي بدنة, والبدنة شيء كبير، فلا أدري ما وجه كونها تهدي بدنة، وأما فيما يتعلق بالنذر فكفارته كفارة يمين كما تقدم، وأما فيما يتعلق بالبدنة فمعلوم أن الذي يجب في الهدي هو أقل شيء وهو الشاة كما جاء في تفسير ما استيسر من الهدي، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شاة، وأما كونها تهدي بدنة فقال بعض أهل العلم: إن هذا على سبيل الاستحباب، لا على سبيل الإيجاب.(380/30)
تراجم رجال إسناد حديث (أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية)
قوله: [حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله السلمي].
أحمد بن حفص بن عبد الله السلمي صدوق أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثني أبي].
أبوه صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثني إبراهيم يعني ابن طهمان].
إبراهيم بن طهمان ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مطر].
هو مطر الوراق، وهو صدوق كثير الخطأ، وعليه فإذا لم يأت ذكر البدنة إلا من طريقه، ففي صحة الحديث نظر إذا لم يوجد له شواهد؛ لأن الهدي مطلق ينطبق على أقل شيء، وأقل شيء هو شاة، فالحديث فيه أمرها بأن تهدي بدنة، وهذا شيء كبير، وفيه نظر، ومادام في إسناده مطر الوراق وهو صدوق كثير الخطأ فمعناه: أن التصحيح فيه نظر، اللهم إلا أن يأتي شيء من طريق أخرى يقويه، فيكون الاعتبار بغير هذا الطريق، والألباني صحح الحديث.
ومطر الوراق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عكرمة عن ابن عباس].
عكرمة وابن عباس مر ذكرهما.(380/31)
وجه أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأخت عقبة بن عامر أن تهدي بدنة
جاء في بعض الأحاديث التي مرت أنه أمرها بالهدي من دون تخصيص، فمن أهل العلم من قال: إن هذه شبيهة بقتل الصيد، أو أنه لأجل الإخلال بما التزم في الحج، وأما ما يتعلق بالنذر فمعلوم أن كفارته كفارة يمين، لكن هذا الإهداء يفعل إذا كان شيئاً قليلاً، ولكن حتى الإهداء ولو بشاة هو أكثر من إطعام عشرة مساكين، ولكن المقصود أن تفعل الكفارة.
وما جاء ذكر الهدي إلا في مسألة الحج هذه في قصة أخت عقبة بن عامر، فيحتمل أن يكون أمرها بالهدي لأن هذا شيء يتعلق بالحج وأنها التزمت شيئاً لم تف به، أو لم تتمكن من الوفاء به.
وعلى كل الحديث فيما يتعلق بالهدي المطلق سبق أن مر، وإذا فعل الإنسان ما جاء في الحديث وهو ما استيسر من الهدي لإطلاقه فيما مضى فلا بأس، وإن ثبت ذكر البدنة من غير هذا الطريق فلعل ذلك على سبيل الاستحباب.
وقد ذكر الخطابي عن الشافعي وأبي حنيفة أنه يريق دماً بدون تخصيص، ولكن كأنهم يريدون به ما يتعلق بالحج، لكن كما ذكرنا أن بعض أهل العلم لا يقول بالكفارة في المعصية، وهذا ليس معصية، فإذا كان مباحاً وكان مطاقاً فليس بمعصية، لكن إذا كان غير مطاق فلا يجوز النذر به، وإذا نذره فيخرج منه بالكفارة إذا لم يمكن الوفاء به.(380/32)
شرح حديث (إن أختي نذرت أن تمشي إلى البيت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا شعيب بن أيوب حدثنا معاوية بن هشام عن سفيان عن أبيه عن عكرمة عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أن قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أختي نذرت أن تمشي إلي البيت، فقال: إن الله لا يصنع بمشي أختك إلى البيت شيئاً)].
أورد أبو داود حديث عقبة بن عامر، وهو مثل الذي قبله، ولكنه مختصر، فلم يذكر فيه شيئاً أمرت به، وإنما ذكره باختصار، ولكن في الأحاديث التي مضت ما يوضحه.(380/33)
تراجم رجال إسناد حديث (إن أختي نذرت أن تمشي إلى البيت)
قوله: [حدثنا شعيب بن أيوب].
شعيب بن أيوب صدوق أخرج له أبو داود.
[حدثنا معاوية بن هشام].
معاوية بن هشام صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة عن عقبة بن عامر الجهني].
عكرمة مر ذكره، وعقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وبالنسبة لترتيب الأحاديث ذكرنا أن الأولى أن تكون أحاديث قصة أخت عقبة بن عامر متتالية، وفي بعض النسخ ذكرت كذلك، وهذا هو الترتيب المناسب؛ لأنها كلها في موضوع واحد، فكونها تأتي على نسق واحد هذا هو المناسب في الترتيب، فإذا كان في بعض النسخ هذا فهو الأقرب.
وفي النسخة التي مع عون المعبود جعل حديث أبي إسرائيل في باب آخر متقدم غير هذا الباب، وهو باب النذر في المعصية.(380/34)
شرح سنن أبي داود [381]
الوفاء بالنذر من أعظم القربات التي مدح الله بها عباده المؤمنين، وهو دين ينبغي قضاؤه عن الميت كحقوق الآدميين، لكن من نذر الصلاة في بيت المقدس أجزأه عنها الصلاة في المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن نذر نذراً ففعل أفضل منه أجزأه، ومن نذر أن يصوم شهراً لا يجزئه صوم رمضان، ومن نذر نذوراً كل نذر مستقل فلكل نذر كفارة.(381/1)
من نذر أن يصلي في بيت المقدس(381/2)
شرح حديث (أن رجلاً قام يوم الفتح فقال يا رسول الله! إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من نذر أن يصلي في بيت المقدس.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا حبيب المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رجلاً قام يوم الفتح فقال: يا رسول الله! إني نذرت لله إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، قال: صل ههنا، ثم أعاد عليه، فقال: صل ههنا، ثم أعاد عليه، فقال: شأنك إذاً)].
أورد أبو داود [باب من نذر أن يصلي في بيت المقدس]، إذا نذر أن يصلي في بيت المقدس فله أن يصلي فيما هو أفضل منه، كمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسجد الحرام، وأما نذر الصلاة في مسجد آخر غير المساجد الثلاثة ويحتاج الأمر إلى شد رحل فلا يجوز له ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، وإذا نذر أن يصلي في المسجد الأقصى، فإنه يفي بنذره إذا صلى في المسجد الحرام، أو في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهما أفضل منه، وإن شد الرحل إليه وصلى فيه، ولم يصل في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في المسجد الحرام فله ذلك.
وقد أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي ركعتين في بيت المقدس، فقال: صل ههنا، فأعاد عليه، فقال: صل ههنا، فأعاد عليه، فقال: شأنك إذاً) أي: اذهب إذا شئت، وما دمت عازماً على هذا فلك ذلك، أي: أنه لا يلزمه أن يصلي هنا، ولكن الذي أرشده رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه يكفيه ويغنيه عن أن يصلي في بيت المقدس، لكن إن أراد أن يذهب فله أن يذهب؛ لأنه قال: (شأنك إذاً) أي: إذا كان الأمر كذلك فكما تريد.
فالذي أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إليه يغني عنه، ويريحه من التعب؛ لأنه سيصلي في المكان الفاضل، فيكفيه عن المفضول، لكن لو نذر وهو في بيت المقدس أن يصلي في المسجد النبوي، أو في المسجد الحرام، فلا يجزيه أن يصلي هناك؛ لأنه نذر أن يذهب إلى مكان فاضل، والمسجد الأقصى دون المسجدين: المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم.
فمن نذر أن يذهب إلى المسجد الأقصى ويصلي فيه إذا لم يستطع ولم يتمكن فله أن يصلي في المسجد الحرام أو المسجد النبوي إذا أمكنه ذلك، وإن لم يرد أن يصلي في المسجد الحرام، أو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يذهب إلى المسجد الأقصى فله ذلك.(381/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رجلاً قام يوم الفتح فقال يا رسول الله! إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد].
موسى بن إسماعيل مر ذكره، وحماد هو ابن سلمة، وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا حبيب المعلم].
حبيب المعلم صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن أبي رباح].
عطاء بن أبي رباح ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود: روي نحوه عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم].
أي: نحو حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(381/4)
شرح حديث (أن رجلاً قام يوم الفتح) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مخلد بن خالد حدثنا أبو عاصم (ح) وحدثنا عباس العنبري المعنى حدثنا روح عن ابن جريج أخبرني يوسف بن الحكم بن أبي سفيان أنه سمع حفص بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف وعمرو -وقال عباس: ابن حنة - أخبراه عن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر، زاد: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي بعث محمداً بالحق! لو صليت ههنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مثل الذي قبله، أي: في قصة الرجل الذي نذر أن يصلي في المسجد الأقصى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صل ههنا) وأنه راجعه مرتين, وفي الثالثة قال: (شأنك إذاً) أي: افعل ما شئت، ولكنه زاد هنا: (والذي بعث محمداً بالحق لو صليت ههنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس)، فهذا تأكيد لما أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إليه مرتين، وهو يقول له: صل ههنا صل ههنا، وفي الثالثة قال: شأنك إذاً، فأكد له بأن هذا الذي أرشده إليه أولى له من أن يذهب، ولذا قال: (لو صليت ههنا لأجزأك)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (صل ههنا) واضح في أن هذا يجزئه.
والحديث في إسناده عدد من الرواة مقبولون، وقد ضعفه الألباني، ولكن في الحقيقة هذا الحديث يختلف عن الذي قبله؛ وإنما هو بمعنى الذي قبله، لأن قوله: (والذي بعث محمداً بالحق! لو صليت ههنا) مطابق لقوله: (صل ههنا)، فيعتبر شاهداً للذي قبله، أو مثل الذي قبله وليس فيه شيء جديد، وإنما هو تأكيد للشيء الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم له مرتين.(381/5)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رجلاً قام يوم الفتح) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا مخلد بن خالد].
مخلد بن خالد ثقة أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا أبو عاصم].
هو الضحاك بن مخلد أبو عاصم النبيل، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[(ح) وحدثنا عباس العنبري].
(ح) هي للتحول من إسناد إلى إسناد، وعباس العنبري هو عباس بن عبد العظيم العنبري، وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا روح].
هو روح بن عبادة، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وقد مر ذكره.
[أخبرني يوسف بن الحكم بن أبي سفيان].
يوسف بن الحكم لم يحكم عليه الحافظ، ولكنه روى عنه اثنان فأكثر، ولم يذكر فيه جرح ولا تعديل فهو مجهول الحال، كما ذكر ذلك بعض المحققين للتقريب.
[أنه سمع حفص بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف].
حفص بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف مقبول أخرج له أبو داود.
[وعمرو وقال عباس: ابن حنة].
أي: أن الشيخ الأول الذي هو مخلد بن خالد قال: عمرو، ولم يقل: ابن حنة، وأما عباس الذي هو الشيخ الثاني فأضاف نسبته وقال: ابن حنة.
وعمرو بن حنة هذا مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن عمر بن عبد الرحمن بن عوف].
عمر بن عبد الرحمن بن عوف مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر].
أي: بهذا الخبر المتقدم وفيه الزيادة هذه، وإبهام الصحابي أو الصحابة لا يؤثر، وقد ذكر أبو داود بعد ذلك في طريق أخرى أن منهم عبد الرحمن بن عوف.(381/6)
شرح حديث (أن رجلاً قام يوم الفتح) من طريق ثالثة وتراجم رجاله
[قال أبو داود: رواه الأنصاري عن ابن جريج فقال: جعفر بن عمر، وقال: عمرو بن حية، وقال: أخبراه عن عبد الرحمن بن عوف، وعن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم].
ذكر من هؤلاء الرجال عبد الرحمن بن عوف، وذكر أنه روي عن رجال آخرين من هذه الطريق التي هي طريق الأنصاري، والأنصاري هو محمد بن عبد الله الأنصاري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وقوله: [عن ابن جريج فقال: جعفر بن عمر].
أي: أن ابن جريج قال: جعفر بن عمر بدل حفص بن عمر.
[وقال: عمرو بن حية].
أي: أنه نسبه، وقال بدل حنة بالنون: حية بالياء.
[وقال: أخبراه عن عبد الرحمن بن عوف، وعن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم].
أي: فيه ذكر أو تسمية واحد من هؤلاء الرجال الذين أبهموا في الطريق التي أوردها أولاً، وهو عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه.
ولم يذكر الحافظ شيئاً عن جعفر بن عمر، فإما أن يكون تصحيفاً، أو أن يكون شخصاً آخر، لكن ليس من رجال الكتب الستة؛ لأنه لم يذكر له ترجمة في التقريب.(381/7)
حكم من ترك النذر وفعل أفضل منه
ولو فعل أمراً أفضل من الذي نذره فإنه يجزئه، فمثلاً: من نذر أن يتصدق بفضة، فأخرج ذهباً فلا باس؛ لأنه أتى بالمقصود، ولو نذر أن يذبح شاة، وذبح بقرة، أو ذبح بدنة فإنه يجزئه بلا شك.(381/8)
من نذر صيام شهر لا يجزئه صيام رمضان
ومن نذر أن يصوم شهراً مطلقاً فلا يجزئه أن يصوم رمضان لكونه أفضل الشهور؛ لأن هذا واجب بحكم الشرع على المسلمين جميعاً، وهو أوجب على نفسه شيئاً يخصه، فيصوم غير رمضان.(381/9)
قضاء النذر عن الميت
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قضاء النذر عن الميت.
حدثنا القعنبي قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أن سعد بن عبادة رضي الله عنه استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اقضه عنها)].
أورد أبو داود باب قضاء النذر عن الميت، يعني: أن الإنسان إذا مات وعليه نذر فإنه يقضى عنه، فإن كان مالياً فهو يخرج من ماله، ومن أصل التركة، وإن كان غير مالياً كالصيام فإنه يصوم عنه وليه، يعني: بعض أقاربه؛ لأنه جاء في الحديث: (من مات وعليه صيام، صام عنه وليه) كما سيأتي.
الحاصل: أن الإنسان إذا مات وعليه نذر فإن كان يتعلق بمال، وله مال خلفه، فهو في أصل تركة؛ لأن حقوق الله عز وجل وحقوق الآدميين مقدمة على الميراث؛ لأن الميراث لا يكون إلا من بعد وصية يوصى بها أو دين، فيخرج الدين الذي عليه سواء كان لله أو للعباد، وإذا كان شيئاً بديناً مثل الصيام، فالصيام جاء ما يدل على أنه يصام عنه، فيصام عنه.
وأورد أبو داود حديث عبد الله بن عباس أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن أم ماتت وعليها نذر، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقضيه عنها، وهذا يدل على أن النذر يقضى عن الميت.
وإن كان صوماً فالظاهر أنه لا يجب على الأولياء أن يقضوه عنه، ولكنه يستحب، وكذلك لو كان عليها نذر مالي وليس عنده تركة، فلا يلزمهم أن يخرجوا عنه، ولكن يستحب.(381/10)
شرح حديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة أن يقضي النذر عن أمه بعد موتها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قضاء النذر عن الميت.
حدثنا القعنبي قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أن سعد بن عبادة رضي الله عنه استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اقضه عنها)].
قوله: [باب في قضاء النذر عن الميت]، أي: إذا مات الإنسان وعليه نذر فإنه يقضى عنه، فإن كان مالياً فيخرج من ماله، ومن أصل التركة، وإن كان غير مالي كالصيام فإنه يصوم عنه وليه، أو بعض أقاربه؛ لأنه جاء في الحديث: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) كما سيأتي.
والحاصل: أن الإنسان إذا مات وعليه نذر فإن كان يتعلق بمال، وله مال خلفه، فهو في أصل تركة؛ لأن حقوق الله عز وجل وحقوق الآدميين مقدمة على الميراث؛ لأن الميراث لا يكون إلا من بعد وصية يوصى بها أو دين، فيخرج الدين الذي عليه سواء كان لله أو للعباد، وإذا كان شيئاً بدنياً مثل الصيام، فقد جاء ما يدل على أنه يصام عنه، فيصام عنه.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن عباس أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن أمي ماتت وعليها نذر، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقضيه عنها، وهذا يدل على أن النذر يقضى عن الميت.
وإن كان صوماً فالظاهر أنه لا يجب على الأولياء أن يقضوه عنه، ولكنه يستحب، وكذلك لو كان عليه نذر مالي وليس عنده تركة، فلا يلزمهم أن يخرجوا عنه، ولكن يستحب.(381/11)
تراجم رجال إسناد حديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة أن يقضي النذر عن أمه بعد موتها
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[قال: قرأت على مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن عبد الله].
هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عباس].
عبد الله بن عباس قد مر ذكره.(381/12)
شرح حديث (أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن نجاها الله أن تصوم شهراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن عون أخبرنا هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة ركبت البحر، فنذرت إن نجاها الله أن تصوم شهراً، فنجاها الله، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت ابنتها أو أختها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن تصوم عنها)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس أيضاً: (أن امرأة ركبت البحر، فنذرت إن نجاها الله أن تصوم شهراً، فماتت قبل أن تصوم، فجاءت ابنتها أو أختها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تصوم عنها)، فدل هذا على أن النذر يقضى عن الميت، ولو كان صوماً؛ لأن الأمر ليس مقصوراً على المال، بل الشيء الذي تدخله النيابة يفعل، ومن ذلك الصوم وما جاء فيه نص، وأما الذي لم يأت فيه نص فلا يفعل، فإن كان قد نذر صلاة فلا يصلى عنه؛ لأنه لا يصلي أحد عن أحد.(381/13)
تراجم رجال إسناد حديث (أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن نجاها الله أن تصوم شهراً)
قوله: [حدثنا عمرو بن عون].
عمرو بن عون ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بشر].
هو جعفر بن إياس المشهور بـ ابن أبي وحشية، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس تقدم ذكره.(381/14)
شرح حديث (أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت كنت تصدقت على أمي بوليدة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا عبد الله بن عطاء عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة رضي الله عنه: (أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: كنت تصدقت على أمي بوليدة، وإنها ماتت وتركت تلك الوليدة.
قال: قد وجب أجرك ورجعت إليك في الميراث.
قالت: وإنها ماتت وعليها صوم شهر؟) فذكر نحو حديث عمرو].
أورد أبو داود حديث بريدة بن الحصيب رضي الله تعالى عنه: أن امرأة جاءت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقالت: إنها وهبت لأمها وليدة -أي: جارية- وإنها ماتت، فهي تسأل: هل ترجع الصدقة إليها؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (قد وجب أجرك ورجعت إليك في الميراث) أي: وجب أجرك لأنك تصدقت عليها ولكنها عادت إليك بالميراث، فدل هذا على أن الإنسان لو تصدق على قريب له ثم مات، فإن الذي تصدق عليه يرث هذا الشيء الذي تصدق عليه به ولا يعتبر ذلك رجوعاً في الصدقة أو شراءً للصدقة؛ لأن شراء الصدقة لا يجوز، كما جاء ذلك في الحديث عن عمر في قصة الفرس: (لا تشتره ولو باعكه بدرهم) وأما كونه يرجع إليه بالميراث فقد دل هذا الحديث على أنه لا بأس به.
وسألته عن أمها وأنها ماتت وعليها صوم شهر، فذكر نحو حديث عمرو، أي: نحو الحديث الذي تقدم والذي فيه أنه أمرها بأن تصوم عنها.(381/15)
تراجم رجال إسناد حديث (أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت كنت تصدقت على أمي بوليدة)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن عطاء].
عبد الله بن عطاء صدوق يخطئ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة].
عبد الله بن بريدة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأبوه بريدة بن الحصيب رضي الله عنه صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(381/16)
حكم قضاء الصوم عن الميت
إذا قيل: كيف نقول بالاستحباب في قضاء الصوم مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ سعد: (اقضه عنها) وفي حديث ابن عباس: فأمرها؟ ف
الجواب
أن سعداً جاء يستفتي هل يفعل هذا أو لا يفعل؟ فالرسول أرشده إلى أن يقضي، وهذا جواب سؤال أن هذه العبادة تدخلها النيابة.(381/17)
من مات وعليه صيام صام عنه وليه(381/18)
شرح حديث (أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إنه كان على أمها صوم شهر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء فيمن مات وعليه صيام صام عنه وليه.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى قال: سمعت الأعمش (ح) وحدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو معاوية عن الأعمش المعنى عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنه كان على أمها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى)].
قوله: [باب ما جاء فيمن مات وعليه صوم صام عنه وليه]، أي: أن الصيام تدخله النيابة وأن وليه يصوم عنه.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عباس: أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: إن أمها ماتت وعليها صوم شهر.
فالنبي صلى الله عليه وسلم ضرب لها مثلاً يتبين به أنها تفعل ذلك، وذلك أنه قال: (لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى) يعني: إذا كان قضاء الدين عن الميت يكفي ويجزئ في حقوق العباد فكذلك حق الله عز وجل يحصل به قضاء الدين، فدل هذا على أن الدين عن الميت إذا قام به غيره أن ذلك يكفيه، ولكن الصيام الغالب فيه أن الأقارب يحسن بعضهم إلى بعض، ويشفق بعضهم على بعض، ويقوم بعضهم بالإحسان إلى بعض، ولكن لو حصل من غير الأقارب فإنه لا بأس بذلك؛ لأنه ما دام الأصل أن النيابة تجوز في الصوم فكذلك الدين لو أداه عنه غير قريبه فإن ذلك يجزي عنه، وكذلك أيضاً لو صام عنه غير قريبه فإن ذلك يجزئ ولا بأس بذلك.
وإذا لم يقم الأولاد بفعل ما نذر به أبوهم فأمره إلى الله عز وجل.
وقوله: [(أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنه كان على أمها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى)].
هذا الحديث أيضاً فيه دليل على إثبات القياس، وهو من أدلة إثبات القياس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاس هذا على هذا، وأنه إذا كان هذا ينفع فهذا ينفع، وإذا كان هذا يجزي فهذا يجزي، والأحاديث التي جاءت في إثبات القياس عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة، وهذا الحديث من جملة الأحاديث الدالة على ذلك.(381/19)
تراجم رجال إسناد حديث (أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إنه كان على أمها صوم شهر)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت الأعمش] هو سليمان بن مهران الأعمش، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[(ح) وحدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو معاوية].
هو أبو معاوية محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش المعنى عن مسلم البطين].
هو مسلم بن عمران البطين، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن جبير عن ابن عباس].
سعيد بن جبير وابن عباس قد مر ذكرهما.(381/20)
شرح حديث (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن عبيد الله بن أبي جعفر عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، وهذا مطابق للترجمة وهي أن من مات وعليه صيام يصوم عنه وليه، وهذا يشمل الصيام الواجب على الإنسان في أصل الشرع الذي هو رمضان، ويشمل الذي أوجبه الإنسان على نفسه وهو النذر؛ لأن الحديث مطلق فيشمل هذا وهذا.
ومن أهل العلم من قصره على النذر، ولكن الحديث في عمومه يدل على هذا وهذا، وأن للإنسان أن يصوم عن غيره الأيام التي عليه في رمضان سواء بعضها أو كلها إذا كانت لازمة عليه، كما لو أفطر لسفر أو لمرض ثم شفي بعد ذلك وتمكن من القضاء ولم يقض فإنه يقضى عنه، وإما إذا كان أفطر لمرض واستمر به المرض حتى مات فإنه لا يقضى عنه؛ لأنه لم يتمكن من أن يقضي، والقضاء عنه إنما يكون فيما إذا تمكن من القضاء، وهذا فيما يتعلق برمضان، وأما الذي أوجب على نفسه النذر فإنه إذا لم يقم به صام عنه وليه، ويمكن أن يصوم عنه غير وليه كما ذكرنا، فليس الأمر مقصوراً على الولي، ولكن لعل ذكر الولي هو من أجل أن الأقارب يهتم بعضهم ببعض.
والحاصل: أن قوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) كما يدخل فيه صيام النذر يدخل فيه صيام رمضان وكذلك الكفارات، إلا أن الكفارات التي يشترط فيها التتابع لا بد فيها على الذي يصوم أن يصوم متتابعاً؛ لأن القضاء كالأداء، وأما ما لا يلزم فيه التتابع فيمكن أن يشترك عدد من الناس فيه ولا يلزم أن يقوم به واحد، فلو أن إنساناً مات وعليه صيام رمضان أو صيام نذر أيام غير متتابعة، وتوزعها مجموعة من أقاربه فصام هذا بعضها وهذا بعضها فلا بأس، لكن ما يلزم فيه التتابع لا بد أن يصومه واحد صوماً متتابعاً؛ لأن القضاء كالأداء.(381/21)
تراجم رجال إسناد حديث (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عمرو بن الحارث].
هو عمرو بن الحارث المصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن أبي جعفر].
عبيد الله بن أبي جعفر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن جعفر بن الزبير].
محمد بن جعفر بن الزبير ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
هو عروة بن الزبير، وهو ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديقة، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(381/22)
الأسئلة(381/23)
حكم الحلف بحق الله
السؤال
ذكرتم حفظكم الله أنه لا يجوز أو لا يسوغ الحلف بحق القرآن، فما حكم الحلف بحق الله؟
الجواب
حق الله هو العبادة، والعبادة هي حق الله على العباد، فلا يحلف بها.(381/24)
حكم تعدد الكفارة بتعدد النذر
السؤال
في حديث أبي إسرائيل أنه نذر عدة أشياء فوفى بالبعض وهو الصوم وحنث في البعض الآخر، فهل تتعدد الكفارة أم تكون واحدة؟
الجواب
الذي يبدو أن النذر عند إطلاقه إطلاقاً واحداً تكون كفارته كفارة واحدة، إلا إذا كان نذر كل واحد مستقلاً فكل واحد فيه الكفارة، وإما إذا نذرها جميعاً وفعل بعضها فإنه تكفيه كفارة واحدة.(381/25)
حكم نذر زيارة قبر شخص ما
السؤال
ما التوجيه لمن نذر زيارة قبر أحد بحجة أن أصل الزيارة سنة؟
الجواب
إذا كانت الزيارة في البلد وبدون سفر فعليه أن يوفي بنذره، وأما إذا كانت تحتاج إلى سفر فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) فلا يجوز له أن يسافر.(381/26)
الواجب على أولياء من ترك صيام رمضان لمرض مزمن حتى مات
السؤال
من ترك صيام رمضان لمرض مزمن ثم مات فهل الواجب على الأولياء الصيام عنه أو الفدية؟
الجواب
إذا كان المرض لا يرجى برؤه فالفدية لازمة في نفس الوقت؛ لأنه ليس هناك مجال لأن يصوم، وأما إذا كان المرض مؤقتاً ثم بعد ذلك شفي، وتمكن من الصيام ولم يص، م فإنه يصام عنه، وأما إن كان المرض قد استمر معه حتى مات فإنه لا يلزمه صيام.(381/27)
حكم الكفارة عن الغير
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يكفر عن نذر رجل آخر في حال حياته إذا لم يستطع الكفارة؟
الجواب
نعم، يجوز بشرط موافقته وإخباره أو إعطائه ليكفر ويخرج هو كفارة نفسه.(381/28)
حكم قضاء الصوم والدين المشكوك في قضائه
السؤال
إذا مات شخص كان عليه دين أو صيام ولا ندري هل قضى ذلك الدين أو الصيام أو لا، فهل يصام عنه بالتقدير؟
الجواب
لعل السائل كان عليه دين وعليه صوم ولا يدرى هل فعل هذا أو هذا أو أنه فعل واحداً ولا يدرى عن الثاني، وأقول: إذا تحقق بأن أحدهما قضي فإن ذلك يكفي، وإن كان لم يتحقق فيقضى هذا وهذا، وإذا كان يتعلق بالدين فيسأل المدين هل وصل حقه أو لم يصل إليه حقه؟ فإن أخبر بأنه لم يصل فإنه يقضى.(381/29)
حكم الرد على الخطيب إذا خالف السنة أثناء الخطبة
السؤال
يستدل بعض أهل التكفير بحديث أبي إسرائيل على جواز الرد على الأئمة إذا خالفوا السنة أثناء الخطبة والإنكار عليهم، فما صحة هذا الاستدلال؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي رأى الذي يفعل الأمر المنكر فقال له: افعل كذا وكذا، فأين في الحديث الرد على الخطيب؟ فهذا الحديث ليس فيه أن أحداً رد على الخطيب، ولكن تقدم أن ذكرنا أن الكلام مع الخطيب جائر ولا يدخل تحت كون الإنسان يتكلم والإمام يخطب؛ لأن هذا ليس فيه انشغال عن الخطبة، وأما إذا كان الإمام يخطب والناس يتكلمون فهذا لا يجوز، لكن كون الخطيب يسأل أحداً ثم يجيبه، أو احتاج الأمر إلى أن يطلب منه أن يدعو أو كذا فيجوز، أما كونه يقاطع الخطيب ويقول له: افعل كذا أو اترك كذا أو هذا كذا، فهذا لا يصلح أبداً، بل يجب أن يستمع الناس للخطبة، وأما أن يقف واحد ويتكلم معه ويعارضه فهذه فوضى ينتهي الأمر بها إلى أن الخطبة تذهب ولا يستفاد منها.(381/30)
شرح سنن أبي داود [382]
من نذر نذراً فإنه يجب عليه الوفاء به، إلا أن يكون نذراً في معصية، أو فيما لا يملك الإنسان، أو فيما لا يطيق، فإن نذر نذراً من ذلك فعليه أن يكفر عنه كفارة يمين، ومن نذر في الجاهلية نذراً ثم أدرك الإسلام يوفي بنذره، ومن نذر أن أن يتصدق بماله كله يجزئ عنه الثلث.(382/1)
ما يؤمر به من الوفاء بالنذر(382/2)
شرح حديث: (أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله! إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر.
حدثنا مسدد حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة عن عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه: (أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، قال: أوفي بنذرك، قالت: إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا -مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية- قال: لصنم؟ قالت: لا، قال: لوثن؟ قالت: لا، قال: أوفي بنذرك)].
قوله: [باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر] أي: أن الإنسان عندما ينذر يفي بنذره إذا لم يكن محرماً، وقد ذكرنا فيما مضى أن نذر المعصية لا يجوز تنفيذه ولكن فيه كفارة يمين.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: (أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنها نذرت أن تضرب على رأسه صلى الله عليه وسلم بالدف -يعني: إذا رجع سالماً من غزوة من الغزوات- فقال: أوفي بنذرك) وضرب الدفوف جاء أنه مستحب ومشروع في الأعراس، وفي غيرها لم يأت ما يدل عليه، وقد قيل: إن هذا الذي جاء في هذا الحديث كان فرحاً وسروراً وابتهاجاً بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم سالماً، فأبيح ذلك على أساس أنه ليس عبادة ولكن لما اقترن به من كونه فرحاً بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم وابتهاجاً وسروراً بوصوله سالماً صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فأمرها صلى الله عليه وسلم بأن تفي به، وفي ذلك إغاظة للكفار في كون المسلمين يفرحون بقدومه ويهتمون ويحرصون على قدومه، ففي ذلك مصلحة وفائدة، وفيه إغاظة للكفار، وقد جاء نظير ذلك في بعض الأمور التي جاء فيها منع ولكنه رخص فيها للمصلحة والفائدة ولإغاظة الكفار والأعداء.
ومن ذلك: ما جاء في قصة قيام المغيرة بن شعبة على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يقوم الرجال على رأس الرجل.
ومن ذلك: ما جاء أنه عليه الصلاة والسلام صلى بالناس ذات مرة جالساً لما جحش، فصلى جالساً وصلى الناس وراءه قياماً، فأشار إليهم أن اجلسو، فجلسوا، وبعد ذلك قال: (إن كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم يقومون على رءوس ملوكهم وهم جلوس)، فهذا جاء فيه ما يدل على منعه، ولكن جاءت إباحة مثل هذا في الوقت أو المناسبة التي فيها إظهار الاحتفاء بالرسول صلى الله عليه وسلم والحرص عليه وتوقيره عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك بيان منزلته عند أصحابه أمام الأعداء.
وقالت له أيضاً: (إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا) هذا المكان أبهم، ما سمي المكان الذي حصل النذر فيه، وأتي بكلمة كذا وكذا لإبهامه وعدم تعيينه، وفسره الراوي بقوله: مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية، فقال صلى الله عليه وسلم: (لصنم؟ قالت: لا، قال: لوثن؟ قالت: لا، قال: فأوفي بنذرك).
والوثن والصنم قيل في الفرق بينهما: أن الصنم ما كان على شكل هيئة الإنسان أو هيئة المخلوق، والوثن ما لم يكن كذلك، فهو أعم من أن يكون على هذا الوصف وقيل: إنه لا فرق بينهما، وإنها كلها أصنام وكلها أوثان.
وقوله: (أوفي بنذرك) يعني: ما دام أنه مكان لا يذبحون فيه للصنم ولا للوثن وإنما هو مكان يذبحون فيه ذبحاً مجرداً، فلا بأس بالذبح فيه، فإذا كان هناك مكان فيه شيء من عبادة الأصنام أو فعل شيء يفعلونه من أجل أمر محرم، فهذا لا يسوغ ولا يجوز الذبح فيه، أما إذا لم يكن من هذا القبيل فإنه لا بأس به، كمكان يذبح فيه المسلمون ويذبح فيه الكفار، وليس ذلك لصنم ولا لوثن، وإنما هو مكان ذبح، فمثل هذا لا بأس به؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يعرف هل كان من أجل أن الكفار كانوا يذبحون فيه لصنم، فلما بينت أنه ليس كذلك وإنما هو مكان يحصل فيه الذبح ولم يكن لأصنام، قال عليه الصلاة والسلام: (أوفي بنذرك).(382/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة].
الحارث بن عبيد أبو قدامة صدوق يخطئ، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والترمذي.
[عن عبيد الله بن الأخنس].
عبيد الله بن الأخنس صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده].
هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو صدوق أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن، وأبوه هو شعيب بن محمد، وهو أيضاً صدوق أخرج له البخاري في الأدب المفرد وجزء القراءة وأصحاب السنن، وجده هو عبد الله بن عمرو بن العاص صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(382/4)
شرح حديث: (نذر رجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا داود بن رشيد حدثنا شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: حدثني أبو قلابة قال: حدثني ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: (نذر رجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك؛ فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم)].
أورد أبو داود حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: إنه نذر أن ينحر إبلاً ببوانة، وبوانة مكان، فقال صلى الله عليه وسلم: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟) يعني: في هذا المكان الذي نذرت أن تذبح فيه؟ قال: لا، قال: (هل كان فيه عيد من أعيادهم؟) يعني: هل كانوا يتخذون ذلك المكان لتعظيم أعيادهم والاحتفال بها وأن الإنسان إذا فعل ذلك يكون مشابهاً لهم ومشاركاً لهم؟ فقال: لا، قال (أوف بنذرك؛ فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم) وهذا مثل الذي قبله، فإن فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل تلك المرأة عن ذلك المكان هل كان فيه شيء محذور يتعلق بأفعال أهل الجاهلية؟ وكان جوابها أن قالت: لا، ليس هناك شيء، فقال: (أوفي بنذرك)، ولعل ذكر المكان واختياره هو من أجل الإحسان إلى أهله، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن الإنسان إذا نذر أن ينحر إبلاً أو أن ينحر غنماً في مكان من أجل الصدقة على أهله فإنه يفي بنذره ويجعل هؤلاء الذين نذر لهم هم الذين يستفيدون من نذره.(382/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (نذر رجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة)
قوله: [حدثنا داود بن رشيد].
داود بن رشيد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا شعيب بن إسحاق].
شعيب بن إسحاق ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي أبو عمرو، وهو ثقة فقيه محدث بلاد الشام وفقيهها أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن أبي كثير].
هو يحيى بن أبي كثير اليمامي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثني أبو قلابة].
هو أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثني ثابت بن الضحاك].
ثابت بن الضحاك رضي الله عنه صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(382/6)
حكم الذبح لله عند الأضرحة
وهنا يرد
السؤال
هل يجوز الذبح عند الأضرحة وإقامة الولائم عليها؟ علماً بأن الذين يذبحون ينوون أن الذبح لله خالصاً؟
و
الجواب
أنه لا يجوز؛ لأن هذا فيه تعظيم لأصحاب القبور، فحتى وإن لم يذبح للأضرحة وإنما ذبح لله فهو ليس شركاً، ولكنه من الأمور المبتدعة والمحرمة.(382/7)
شرح حديث ميمونة بنت كردم: (خرجت مع أبي في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هارون حدثنا عبد الله بن يزيد بن مقسم الثقفي من أهل الطائف قال: حدثتني سارة بنت مقسم الثقفي أنها سمعت ميمونة بنت كردم قالت: (خرجت مع أبي في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت الناس يقولون: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أبده بصري، فدنا إليه أبي وهو على ناقة له معه درة كدرة الكتَّاب، فسمعت الأعراب والناس يقولون: الطبطبية الطبطبية، فدنا إليه أبي فأخذ بقدمه، قالت: فأقر له ووقف فاستمع منه، فقال: يا رسول الله! إني نذرت إن ولد لي ولد ذكر أن أنحر على رأس بوانة في عقبة من الثنايا عدة من الغنم، قال: لا أعلم إلا أنها قالت: خمسين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل بها من الأوثان شيء؟ قال: لا، قال: فأوف بما نذرت به لله.
قالت: فجمعها فجعل يذبحها فانفلتت منها شاة فطلبها وهو يقول: اللهم أوف عني نذري، فظفرها فذبحها)].
أورد أبو داود حديث ميمونة بنت كردم أنها ذهبت مع أبيها للحج، وأن الناس كانوا يقولون: رسول الله، أي: يشيرون إليه، فجعلت تبد بصرها إليه، أي: تجعل بصرها متجهاً إليه لا يحيد عنه ولا تنظر إلى غيره محبة للنظر إليه صلى الله عليه وسلم، فوصل إليه أبوها وصار عند ناقته وأقر له، أي: أقر له بالرسالة وآمن به، والناس يقولون: الطبطبية، قيل: إن المقصود بالطبطبية: الصوت أو العصا إذا ضرب بها على شيء، أو أنه صوت حركة الأقدام، ثم إن أباها سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نذر إن ولد له ولد ذكر أن ينحر مقداراً من الغنم في مكان يقال له: بوانة، بنية أو عقبة، فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم كما سأل الذين مر ذكرهم وقال له: (هل بها من الأوثان شيء؟ قال: لا، قال: فأوف بما نذرت به لله) فوفى بنذره وجعل يذبحها فشردت منها شاة واحدة، فجعل يتبعها ويقول: اللهم أوف عني نذري، يعني: حقق لي الوفاء بنذري، حتى يتمكن من الحصول على هذه الشاة الذي شردت حتى يفي بنذره ويذبحها ويكمل العدد الذي التزمه.(382/8)
تراجم رجال إسناد حديث ميمونة بنت كردم: (خرجت مع أبي في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا يزيد بن هارون].
هو يزيد بن هارون الواسطي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن يزيد بن مقسم الثقفي].
عبد الله بن يزيد بن مقسم الثقفي صدوق أخرج له أبو داود.
[قال: حدثتني سارة بنت مقسم الثقفي].
سارة بنت مقسم الثقفي لا تعرف أخرج لها أبو داود.
[أنها سمعت ميمونة بنت كردم].
ميمونة بنت كردم صحابية أخرج لها أبو داود وابن ماجة.
والحديث سبق أنه صحيح، وهذا الإسناد فيه هذه المرأة التي لا تعرف، والحديث أخرجه ابن ماجة، وله شواهد فيما يتعلق بقضية نذر الذبح ببوانة، والأحاديث التي تقدمت كلها شواهد له فيما يتعلق بالنذر.(382/9)
حكم نظر المرأة إلى الرجل
هذا الحديث ليس فيه جواز نظر المرأة إلى الرجل، وإنما إذا كان النظر من مكان بعيد لا يحصل به تحديد الأشخاص وتحديد الوجوه والنظر إليهم فهذا لا بأس به مثلما كانت عائشة تنظر إلى الحبشة الذين كانوا يلعبون؛ لأنها كانت تراهم من بعد وهم يلعبون ويتحركون، لكن كون المرأة تنظر إلى وجه الرجل وتتمتع بالنظر إليه وما إلى ذلك، فذلك لا يجوز لا في حق الرجل ولا في حق المرأة؛ لأن الله تعالى يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] ويقول: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] لكن إذا كان من بعد ولم يكن فيه تمتع بالنظر ولم يكن لشهوة وميل إلى الرجال فهذا لا بأس به، وحديث عائشة من أمثلة هذا.(382/10)
معنى الدرة والكتاب
قولها: (فدنا إليه أبي وهو على ناقة له معه درة كدرة الكتَّاب) الدرة قيل: إنها الصوت، وقيل: إنها العصا، والكتَّاب: هم الذين يعلمون القراءة والكتابة، والكتَّاب أيضاً: محل تعلم الصغار.(382/11)
شرح حديث ميمونة بنت كردم من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن عمرو بن شعيب عن ميمونة بنت كردم بن سفيان عن أبيها نحوه مختصر منه شيء، قال: (هل بها وثن أو عيد من أعياد الجاهلية؟ قال: لا، قلت: إن أمي هذه عليها نذر ومشي أفأقضيه عنها؟ وربما قال ابن بشار: أنقضيه عنها؟ قال: نعم)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى مختصراً شيء منه قال: (هل به وثن أو عيد من أعياد الجاهلية؟ قال: لا، قلت: إن أمي هذه عليها نذر ومشي أفأقضيه عنها؟ وربما قال ابن بشار: أنقضيه عنها؟ قال: نعم)، ذكر فيه الزيادة التي فيها أن أمه كان عليها نذر ومشي، والمشي لعله مشي في عبادة أو ذهاب إلى عبادة وليس المقصود المشي المطلق وإنما هو مشي في عبادة وذلك حيث يكون مطاقاً.(382/12)
ترجمة رجال إسناد حديث ميمونة بنت كردم من طريق أخرى
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
هو محمد بن بشار الملقب بندار البصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو بكر الحنفي].
هو عبد الكبير بن عبد المجيد وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الحميد بن جعفر].
عبد الحميد بن جعفر صدوق ربما وهم أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب عن ميمونة بنت كردم بن سفيان عن أبيها].
عمرو بن شعيب وميمونة قد مر ذكرهما، وأبوها كردم بن سفيان لم يذكر الحافظ له ترجمة في التقريب، وهو صحابي.(382/13)
حكم شد الرحل من أجل الوفاء بالنذر
قد يقول قائل: كونه نذر أن يذبح إبلاً ببوانة هذا يقتضي شد الرحل فهل يجوز ذلك؟
و
الجواب
أن كونه نذر أن يذبح غنماً توزع على الفقراء والمساكين في بلد ما ليس فيه بأس؛ لأن المحظور هو أن يشد الرحل من أجل تمييز البقعة بشيء، وأما كونه من أجل أن يفي بنذره بأن يوصل صدقة إلى من يستحقها من المحتاجين في بلد من البلدان ويريد أن يذبح عندهم لأنهم محتاجون، فمثل هذا لا بأس به.(382/14)
حكم الذبح في الأماكن التي يذبح فيها أهل البدع
وهنا
السؤال
إذا كان أهل البدع لهم أماكن معروفة للذبح كالذبح بمناسبة الموالد، فهل يجوز الذبح في هذه الأماكن؟
و
الجواب
أنه إذا كان هناك ذبح في المناسبات وأوقات المناسبات فلا يجوز؛ لأن هذا فيه مشاركة لهم أو ظن أن من يفعل ذلك مشارك لهم، وأما إذا كان الذبح ليس في وقت مناسبات والناس محتاجون إلى هذا المكان وهم لا يذبحون في هذا الوقت فلا بأس، وإذا استغنى الإنسان عن أن يذبح في هذا المكان ووجد أماكن أخرى ليست كذلك فلا شك أن هذا هو الذي ينبغي.(382/15)
النذر فيما لا يملك(382/16)
شرح حديث: (كانت العضباء لرجل من بني عقيل وكانت من سوابق الحاج)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النذر فيما لا يملك.
حدثنا سليمان بن حرب ومحمد بن عيسى قالا: حدثنا حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: (كانت العضباء لرجل من بني عقيل وكانت من سوابق الحاج، قال: فأُسِر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في وثاق، والنبي صلى الله عليه وسلم على حمار عليه قطيفة، فقال: يا محمد! علامَ تأخذني وتأخذ سابقة الحاج؟ قال: نأخذك بجريرة حلفائك ثقيف.
قال: وكان ثقيف قد أسروا رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وقد قال فيما قال: وأنا مسلم، أو قال: وقد أسلمت، فلما مضى النبي صلى الله عليه وسلم -قال أبو داود: فهمت هذا من محمد بن عيسى - ناداه: يا محمد! يا محمد! قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً، فرجع إليه فقال: ما شأنك؟ قال: إني مسلم، قال: لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح.
قال أبو داود: ثم رجعت إلى حديث سليمان قال: يا محمد! إني جائع فأطعمني إني ظمآن فاسقني، قال: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هذه حاجتك أو قال: هذه حاجته، قال: ففودي الرجل بعد بالرجلين، قال: وحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لرحله، قال: فأغار المشركون على سرح المدينة فذهبوا بالعضباء، قال: فلما ذهبوا بها وأسروا امرأة من المسلمين قال: فكانوا إذا كان الليل يريحون إبلهم في أفنيتهم، قال: فنوموا ليلة وقامت المرأة فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا رغا، حتى أتت على العضباء، قال: فأتت على ناقة ذلول مجرسة، قال: فركبتها ثم جعلت لله عليها إن نجاها الله لتنحرنها، قال: فلما قدمت المدينة عرفت الناقة ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأرسل إليها، فجيء بها وأخبر بنذرها، فقال: بئس ما جزيتيها أو جزتها؛ إن الله أنجاها عليها لتنحرنها! لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم).
قال أبو داود: والمرأة هذه امرأة أبي ذر].
قوله: [باب في النذر فيما لا يملك] أي: كون الإنسان ينذر أن يتصدق بمال غيره وهو ليس ملكه بأن يقول مثلاً: إن حصل كذا فناقة فلان لله أو إن حصل كذا فدار فلان لله، هذا لا يملكه الإنسان، والإنسان إنما ينذر في شيء يملكه ولا ينذر في شيء لا يملكه، فهذا هو المقصود بكون الإنسان ينذر شيئاً لا يملكه، يعني: أنه ملك غيره، والنذر إنما يكون فيما يملكه الإنسان.
وأورد أبو داود حديث عمران بن حصين، وأبوه حصين بن عبيد الخزاعي صحابي لم يصب من نفى إسلامه، أخرج له النسائي في عمل اليوم والليلة.
وحديث عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه فيه أنه قال: (كانت العضباء لرجل من بني عقيل وكانت من سوابق الحاج فأسر).
العضباء: هي ناقة الرسول عليه الصلاة والسلام وراحلته، وكانت لرجل من بني عقيل، وكانت من سوابق الحاج، أي: أنهم كانوا إذا سافروا للحج فإنها تتقدم وتسبق، فأسر ذلك الرجل الذي هو من بني عقيل.
قوله: [فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وثاق]، يعني: وهو مربوط بوثاق.
قوله: [والنبي صلى الله عليه وسلم على حمار عليه قطيفة، فقال: يا محمد علامَ تأخذني وتأخذ سابقة الحاج؟ قال: (نأخذك بجريرة حلفائك ثقيف)].
لأن ثقيفاً حالفوا بني عقيل الذين منهم هذا الرجل، وكان ثقيف قد أسروا رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أخذه من أجل أن يفاديه بالرجلين، يعطيهم إياه من أجل أن يتركوا صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [قال: وكان ثقيف قد أسروا رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وقال فيما قال: وأنا مسلم، أو قال: وقد أسلمت].
يعني: أن الرجل هذا كان كافراً فقال: أنا مسلم، يعني: أنه أراد أن يخلى سبيله لأنه مسلم على ما يقول، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو قلتها وأنت تملك أمرك) يعني: قبل أن يقبض عليك وقبل أن تمسك وقبل أن يشد وثاقك وقبل أن تؤسر: (أفلحت كل الفلاح)؛ لأنك قلت ذلك برغبة وصدق، وهنا يمكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك لأنه علم بوحي أن إسلامه كان تقية، أو أنه لم يكن صادقاً في إسلامه وإنما هو لأجل الأسر.
قوله: [فلما مضى النبي صلى الله عليه وسلم -قال أبو داود: فهمت هذا من محمد بن عيسى - ناداه: يا محمد! يا محمد! قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً، فرجع إليه فقال: (ما شأنك فقال: إني مسلم، قال: لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح) قال أبو داود: ثم رجعت إلى حديث سليمان].
يعني: أن أبا داود فهم من محمد بن عيسى -وهو أحد الشيخين اللذين هما: سليمان بن حرب ومحمد بن عيسى الطباع - هذا الكلام الذي ذكره، ثم قال: رجعت إلى حديث سليمان، يعني: إلى سياقه.
قوله: [قال: يا محمد! إني جائع فأطعمني إني ظمآن فاسقني، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذه حاجتك أو قال: هذه حاجته)].
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إليه وكان رفيقاً رحيماً فقال: (هذه حاجتك)، ويمكن أن يكون غير صادق في هذه أيضاً؛ وإنما يريد أن يأتي إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل أن يحاول معه لأن يخلصوه مما هو فيه، ويحتمل أنه صادق في ذلك فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (هذه حاجتك) يعني: أنها سهلة.
قال الخطابي: لم يخلّه النبي صلى الله عليه وسلم مع ذلك لكنه رده إلى دار الكفر، فيتأول على أنه قد كان أطلعه الله على كذبه وأعلمه أنه تكلم به على التقية دون الإخلاص، ألا تراه يقول: (هذه حاجتك) حين قال: إني جائع فأطعمني وإني ظمآن فاسقني؟ وليس هذا لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولعل المقصود هنا بقوله: (هذه حاجتك) كأنه -والله أعلم- يريد أن يرجع إليه من أجل محاولة إطلاق سراحه؛ لأنه لو كان مقصوده هذا لقال في الحال لما كلمه الرسول: إني جائع وإني عطشان، لكنه قاله بعد أن لم يجبه الرسول إلى ما طلب ثم لما ولى عنه جعل يناديه.
فإما أن يكون المقصود الإنكار عليه وأن هذا غير صحيح، وأنه كان من أجل أنه محاولة معه، أو من أجل أن هذه الحاجة أمرها سهل، فإما هذا وإما هذا.
قوله: [ففودي الرجل بعد بالرجلين].
وهذا هو المقصود من أسره، أي: أنه دفع فداءً بأن يكون أولئك الذين حالفوا بني عقيل يدفعون الرجلين اللذين هما من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا الرجل يدفع لهم.
قوله: [وحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لرحله، قال: فأغار المشركون على سرح المدينة فذهبوا بالعضباء، قال: فلما ذهبوا بها وأسروا امرأة من المسلمين، قال: فكانوا إذا كان الليل يريحون إبلهم في أفنيتهم، قال: فنوموا ليلة وقامت المرأة فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا رغا حتى أتت على العضباء، قال: فأتت على ناقة ذلول مجرسة].
ذكر أن المشركين أغاروا على سرح المدينة، والسرح: هي الإبل التي يذهب بها للرعي في الصباح وتأتي في المساء، وقد جاء عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يتناوبون رعاية الإبل، كما جاء في حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه في صحيح مسلم قال: (كنا نتناوب رعاية الإبل) يعني: أنهم كانوا يجمعون إبلهم وبدلاً من أن يسرح كل واحد بإبله وهي قليلة يسرح كل يوم واحد بهذه المجموعة والباقون جالسون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذون عنه، فأغار المشركون على سرح المدينة وأخذوا العضباء وأخذوا امرأة، فكانوا في الليل يريحون إبلهم في أفنيتهم حولهم ومعهم تلك المرأة ومعهم العضباء، فنوموا ليلة، أي: ألقى الله عليهم النوم جميعاً إلا هذه المرأة، فجعلت المرأة تأتي إلى الإبل تلمسها، فكانت الإبل ترغو سوى هذه العضباء، أي: أنها كانت إذا لمست تلك الإبل وقربت منها رغت فتتركها، حتى جاءت إلى العضباء فلم يحصل منها هذا الشيء, وكانت ذلولاً مجرسة، يعني: أنها كانت ناقة عندها سهولة واستجابة وليست صعبة، وهذه صفات مدح لها، فلم يحصل منها أنها رغت كما رغا غيرها، فركبتها ونذرت إن نجاها الله عز وجل أن تنحرها، وهذا هو محل الشاهد من الترجمة في نذر ما لا يملك؛ لأنها نذرت أن تنحر هذه الناقة التي لا تملكها.
وهذا يدل على أن المرأة عند الضرورة لها أن تسافر بدون محرم، والضرورة مثل التخلص من الأسر، أو أن يعتدي عليها أحد أو يحاول الاعتداء عليها، فإذا هربت وشردت وحدها فإن ذلك جائز، وإنما المحظور والممنوع هو أن تسافر المرأة بدون محرم في غير الضرورة، وإلا فالضرورة تبيح أن تسافر المرأة من دون محرم وهذه القصة من أمثلة ذلك.
فنذرت أن تنحرها إن نجاها الله عز وجل من هؤلاء، وقد نجاها الله عز وجل، قال: (فركبتها ثم جعلت لله عليها إن نجاها الله لتنحرنها، قال: فلما قدمت المدينة عرفت الناقة ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأرسل إليها فجيء بها، وأخبر بنذرها فقال: بئس ما جزيتيها) يعني: بئس كونها تجازيها بأن نجاها الله عز وجل عليها ثم تنحرها، والمقصود من ذلك: حصول النذر وإلا فإن التنفيذ ليس لها ذلك؛ لأنها لا تملكها، ولكن كونها تفعل ذلك وتنذر إن نجاها الله عز وجل أنها تفعل كذا هذا ليس بجميل.
قوله: [فقال: (بئس ما جزيتيها أو جزتها؛ إن الله أنجاها عليها لتنحرنها! لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم)].
يعني: لا ينذر الإنسان في معصية الله؛ لأن الوفاء محرم والنذر محرم، فإذا وجد النذر فلا يجوز الوفاء به؛ لأن الوفاء محرم فلا يجوز الإقدام على أمر محرم، لكن تقدم أ(382/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (كانت العضباء لرجل من بني عقيل وكانت من سوابق الحاج)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومحمد بن عيسى].
هو محمد بن عيسى الطباع، وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[قالا: حدثنا حماد].
هو ابن زيد، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة وإذا روى سليمان بن حرب عن حماد وهو مهمل غير منسوب فهو حماد بن زيد.
[عن أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قلابة].
أبو قلابة مر ذكره.
[عن أبي المهلب].
هو أبو المهلب الجرمي عم أبي قلابة، وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمران بن حصين].
عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما أبو نجيد صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(382/18)
من نذر أن يتصدق بماله(382/19)
شرح حديث كعب بن مالك: (قلت: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن نذر أن يتصدق بماله.
حدثنا سليمان بن داود وابن السرح قالا: حدثنا ابن وهب أخبرني يونس قال: قال ابن شهاب: فأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب وكان قائد كعب من بنيه حين عمي عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك، قال: فقلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر)].
قوله: [باب فيمن نذر أن يتصدق بماله] أي: بماله كله، هل يفي بذلك أو لا يفي؟ والترجمة جاءت في النذر، والمصنف أتى بحديث كعب بن مالك في قصة توبة الله عليه، والنذر ليس فيها واضحاً، وإنما فيها أنه أراد أن يتصدق بماله وأن يجعل ماله صدقة لله عز وجل، وليس فيه إشارة إلى النذر وأنه قال: لله علي أن أفعل كذا وكذا، وإنما فيه أن من شكر الله عز وجل على النعمة أن يفعل كذا وكذا، والرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) لا أن تخرج من مالك كله وإنما تصدق وأبقِ، فقال: (إني أمسك سهمي الذي في خيبر).(382/20)
تراجم رجال إسناد حديث كعب بن مالك: (قلت: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود].
هو سليمان بن داود المصري، وهو ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[وابن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[قالا: حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس].
يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: قال ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[فأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك].
عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[أن عبد الله بن كعب].
عبد الله بن كعب ثقة، وقيل: له رؤية، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن كعب بن مالك].
كعب بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد الثلاثة الذين خلفوا وتاب الله عليهم وأنزل الله تعالى فيهم قرآناً يتلى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:118 - 119] يعني: أن الله عز وجل نجاه وتاب عليه بالصدق؛ ولهذا أمر الله المؤمنين أن يكونوا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الصدق.(382/21)
حكم الصدقة بجميع المال
من نذر أن يتصدق بماله كله فإنه يتصدق به، ومن أهل العلم من قال: إنه يتصدق بالثلث فقط، هذا إذا كان قد نذر، أما إذا عرض أو وعد أو إخبار أو سؤال أو استفتاء أو ما إلى ذلك فله أن يتصرف فيه كما يريد.
وبعض أهل العلم قال: إن هذا يرجع إلى أحوال الناس؛ فمن الناس من إذا تصدق بماله كله يسهل عليه كـ أبي بكر رضي الله عنه، ومن الناس من يشق عليه ذلك، ولا يكون عنده الصبر واليقين الذي يكون عند غيره.(382/22)
شرح حديث كعب بن مالك من طريق أخرى وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين تيب عليه: (إني أنخلع من مالي) فذكر نحوه إلى: (خير لك)].
هذه طريق أخرى لحديث كعب بن مالك المتقدم.
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، هو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عبد الله بن كعب عن أبيه].
هؤلاء قد مر ذكرهم.(382/23)
شرح حديث: (إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني عبيد الله بن عمر حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم أو أبو لبابة رضي الله عنه أو من شاء الله: (إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي كله صدقة قال: يجزئ عنك الثلث)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن كعب بن مالك أو عن أبي لبابة أو عن غيرهما، وأنه قال: (إن من توبتي أن أهجر داري التي أصبت فيه الذنب وأن أنخلع من مالي، فقال عليه الصلاة والسلام: يجزئ عنك الثلث) هذا فيه تعيين للمقدار الذي يبقيه الإنسان فيما إذا أراد أن يتصدق أو ينذر، وهذا كأنه بمثابة الاستفتاء أو الإخبار أنه سيفعل كذا وكذا، فالرسول قال له: افعل كذا، أو يكفيك كذا وكذا.(382/24)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب)
قوله: [حدثني عبيد الله بن عمر].
هو عبيد الله بن عمر القواريري، وهو ثقة أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا سفيان بن عيينة].
هو سفيان بن عيينة المكي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه].
هؤلاء قد مر ذكرهم.
وقوله: [أو أبو لبابة أو من شاء الله].
أبو لبابة هو ابن عبد المنذر، وهو صحابي أنصاري أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة.(382/25)
شرح حديث: (إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المتوكل حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرني معمر عن الزهري قال: أخبرني ابن كعب بن مالك قال: كان أبو لبابة رضي الله عنه فذكر معناه، والقصة لـ أبي لبابة].
ذكر أبو داود الحديث من طريق أخرى عن أبي لبابة، وذكر أن القصة لـ أبي لبابة، والقصة هي المذكورة الحديث السابق، وكان فيه شك هل هو كعب بن مالك أو أبو لبابة أو شخص آخر؟(382/26)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا محمد بن المتوكل].
محمد بن المتوكل صدوق له أوهام كثيرة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: أخبرني معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري قال: أخبرني ابن كعب بن مالك].
الزهري وابن كعب بن مالك قد مر ذكرهما.
[قال أبو داود: رواه يونس عن ابن شهاب عن بعض بني السائب بن أبي لبابة، ورواه الزبيدي عن الزهري عن حسين بن السائب بن أبي لبابة مثله].
ذكر أبو داود طرقاً أخرى معلقة وهي مثل التي قبلها.
وقوله: [رواه يونس عن ابن شهاب عن بعض بني السائب بن أبي لبابة، ورواه الزبيدي].
الزبيدي هو محمد بن الوليد الزبيدي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن الزهري عن حسين بن السائب بن أبي لبابة].
حسين بن السائب هنا هو الشخص الذي أبهم من بني السائب، وهو مقبول أخرج له أبو داود.(382/27)
شرح حديث كعب: (يا رسول الله! إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى حدثنا حسن بن الربيع حدثنا ابن إدريس قال: قال ابن إسحاق: حدثني الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن أبيه عن جده رضي الله عنه في قصته قال: قلت: (يا رسول الله! إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى الله وإلى رسوله صدقة، قال: لا، قلت: فنصفه؟ قال: لا، قلت: فثلثه؟ قال: نعم، قلت: فإني سأمسك سهمي من خيبر)].
وهذا فيه إشارة إلى المقدار الذي أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه ثلث المال، فقال: إنه سيمسك سهمه من خيبر.(382/28)
تراجم رجال إسناد حديث كعب: (يا رسول الله! إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى].
هو محمد بن يحيى الذهلي، وهو ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا الحسن بن الربيع].
الحسن بن الربيع ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن إدريس].
هو عبد الله بن إدريس، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: قال ابن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن أبيه عن جده].
الزهري وعبد الرحمن بن عبد الله بن كعب قد مر ذكرهما.(382/29)
من نذر نذراً لا يطيقه(382/30)
شرح حديث: (من نذر نذراً لم يسمه فكفارته كفارة يمين …)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من نذر نذراً لا يطيقه.
حدثنا جعفر بن مسافر التنيسي عن ابن أبي فديك قال: حدثني طلحة بن يحيى الأنصاري عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر نذراً لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً لا يطيقه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً أطاقه فليف به)].
قوله: [باب من نذر نذراً لا يطيقه] أي: أنه يكفر عنه كفارة يمين، وقد سبق أن النذور التي لا يمكن الوفاء بها لأنها معصية، أو لأنها ملك للغير، أو لأن الإنسان لا يطيق فعلها، فإن التخلص من ذلك يكون بإخراج كفارة يمين عن ذلك النذر.
وقد أورد حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر نذراً لم يسمه فكفارته كفارة يمين) كأن يقول: لله علي أن أقوم بتقديم شيء لله أو بعبادة لله، دون أن يسميها فكفارته كفارة يمين.
وقوله: (ومن نذر نذراً في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً لا يطيقه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً أطاقه فليف به) يعني: ما دام أنه مطاق فإنه يأتي به.(382/31)
تراجم رجال إسناد حديث: (من نذر نذراً لم يسمه فكفارته كفارة يمين)
قوله: [حدثنا جعفر بن مسافر التنيسي].
جعفر بن مسافر التنيسي صدوق ربما أخطأ أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن ابن أبي فديك].
هو إسماعيل بن مسلم، وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثني طلحة بن يحيى الأنصاري].
طلحة بن يحيى الأنصاري صدوق يهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند].
عبد الله بن سعيد بن أبي هند صدوق ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بكير بن عبد الله بن الأشج].
هو بكير بن عبد الله بن الأشج المصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن كريب].
هو كريب مولى ابن عباس، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود: روى هذا الحديث وكيع وغيره عن عبد الله بن سعيد بن أبي الهند أوقفوه على ابن عباس].
يعني: أنه جاء مرفوعاً وجاء موقوفاً.
قوله: [روى هذا الحديث وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وغيره عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند].
عبد الله بن سعيد بن أبي هند تقدم ذكره.(382/32)
من نذر نذراً لم يسمه(382/33)
شرح حديث: (كفارة النذر كفارة اليمين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من نذر نذراً لم يسمه.
حدثنا هارون بن عباد الأزدي حدثنا أبو بكر -يعني ابن عياش - عن محمد مولى المغيرة قال: حدثني كعب بن علقمة عن أبي الخير عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفارة النذر كفارة اليمين)].
قوله: [باب من نذر نذراً لم يسمه] أي: فماذا يصنع؟
و
الجواب
أنه يكفر كفارة يمين، ولهذا أورد أبو داود حديث عقبة بن عامر الذي فيه (كفارة النذر كفارة اليمين)، وهو لفظ عام، فهذا نذر فتكون كفارته كفارة يمين.(382/34)
تراجم رجال إسناد حديث: (كفارة النذر كفارة اليمين)
قوله: [حدثنا هارون بن عباد الأزدي].
هارون بن عباد الأزدي مقبول أخرج له أبو داود.
[حدثنا أبو بكر يعني ابن عياش].
أبو بكر بن عياش ثقة أخرج له البخاري ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن محمد مولى المغيرة].
محمد مولى المغيرة مجهول الحال، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[قال: حدثني كعب بن علقمة].
كعب بن علقمة صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبي الخير].
هو أبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني المصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عقبة بن عامر].
عقبة بن عامر رضي الله عنه صحابي أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث الذي هو: (كفارة النذر كفارة اليمين) أخرجه مسلم.
[قال أبو داود: ورواه عمرو بن الحارث عن كعب بن علقمة عن ابن شماسة عن عقبة].
قوله: [ورواه عمرو بن الحارث].
هو عمرو بن الحارث المصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن كعب بن علقمة].
كعب بن علقمة صدوق أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن ابن شماسة].
هو عبد الرحمن بن شماسة، وهو ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.(382/35)
شرح حديث: (كفارة النذر كفارة اليمين) من طريق أخرى وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عوف أن سعيد بن الحكم حدثهم أخبرنا يحيى -يعني ابن أيوب - حدثني كعب بن علقمة أنه سمع ابن شماسة عن أبي الخير عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله].
قوله: [حدثنا محمد بن عوف].
هو محمد بن عوف الطائي، وهو ثقة أخرج له أبو داود والنسائي في مسند علي.
[أن سعيد بن الحكم حدثهم].
هو سعيد بن الحكم المصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا يحيى يعني ابن أيوب].
يحيى بن أيوب صدوق ربما أخطأ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني كعب بن علقمة أنه سمع ابن شماسة عن أبي الخير عن عقبة بن عامر].
هؤلاء تقدم ذكرهم.(382/36)
من نذر في الجاهلية ثم أدرك الإسلام(382/37)
شرح حديث عمر: (يا رسول الله! إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من نذر في الجاهلية ثم أدرك الإسلام.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى عن عبيد الله حدثني نافع عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (يا رسول الله! إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف في المسجد الحرام ليلة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك)].
قوله: [باب من نذر في الجاهلية ثم أدرك الإسلام]، أي: أنه يفي بنذره في الإسلام، وقد أورد في ذلك حديث عمر رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك) فدل هذا على أن الكافر في حال كفره إذا نذر قربة وطاعة ثم دخل في الإسلام فإنه يفي بها، وكثير من أهل العلم قالوا: إنه لا ينعقد نذره، ولكن كون الرسول صلى الله عليه وسلم أمره بالوفاء يدل على أن الوفاء به متعين وأنه لازم.(382/38)
تراجم رجال إسناد حديث عمر: (يا رسول الله! إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، الإمام المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب الإسلام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
هو ابن عمر بن حفص العمري المصغر، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل وأحد العبادلة الأربعة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(382/39)
شرح سنن أبي داود [383]
معرفة أحكام البيع والشراء والإجارة من أعظم المهمات، فينبغي للمسلم أن يتعلمها؛ لأن الإنسان لا يخلو من البيع والشراء، وقد جاءت الأحاديث الكثيرة التي تبين شروط صحة البيع والإجارة وأحكامهما وما يباح منهما وما يحرم، إلا ما كان مشتبهاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن الوقوع في الشبهات عموماً؛ حتى وإن كان حل المشتبه أقرب من تحريمه، فالاحتياط والورع في تركه أولى.(383/1)
التجارة يخالطها الحلف واللغو(383/2)
شرح حديث: (يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أول كتاب البيوع.
باب في التجارة يخالطها الحلف واللغو.
حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي وائل عن قيس بن أبي غرزة رضي الله عنه قال: (كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسمى السماسرة، فمر بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسمانا باسم هو أحسن منه فقال: يا معشر التجار! إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة)].
قوله: [كتاب البيوع والإجارات] البيوع: جمع بيع، والإجارات: جمع إجارة، وقد ذكرهما بالجمع باعتبار الأصناف والأنواع، والبيع: هو مبادلة المال، وهو: تمليك الأعيان بعوض على التأبيد، والإجارة: عقد على منفعة، فهي تمليك المنافع إلى الأجل المحدد.
والبيع من الأمور التي لابد منها للناس؛ لأن الإنسان تتعلق حاجته بما عند غيره، وغيره لا يبذله له بدون مقابل، فكان السبيل إلى الوصول إلى الذي يريده الإنسان عن طريق البيع، فيدفع الثمن ويأخذ السلعة، فيكون البائع محتاجاً إلى الثمن، والمشتري محتاجاً إلى السلعة، فيدفع هذا ما عنده لهذا، ويدفع هذا ما عنده لهذا.
والإجارة تتعلق بالمنافع لا بالأعيان؛ لأن العين باقية، ونفعها هو الذي يملك ويعقد عليه، مثل استئجار الدار، فيستأجر منفعة الدار وهي أن يسكن فيها، فإذا باع المالك العين صار بيعاً، وخرجت العين من ملكه عن طريق أخذ ثمن عليها، وإن أبقى العين في ملكه ولكنه أخرج منفعتها عن ملكه، وأخذ مقابل ذلك شيئاً، فهذه إجارة، وهي: عقد على منفعة مباحة معلومة من عين معينة أو موصوفة في الذمة مدة معلومة بثمن معلوم، فلابد من تحديد المدة، ولابد من تحديد الأجرة، وإلا حصل الجهل والغرر والاختلاف بين الناس.
والإجارة مجمع على مشروعيتها مثل البيع، ولم يخالف في ذلك إلا من شذ ممن لا يعتبر خلافه، وكما أن الناس محتاجون إلى ما عند غيرهم من الأعيان، فكذلك أيضاً في الإجارة هم محتاجون إلى ما عند غيرهم من المنافع، ولن تحصل لهم هذه المنافع بلا مقابل؛ فشرعت الإجارة ليحصل صاحب العين مبلغاً من النقود في مقابل منفعة عينه التي يخرجها من ملكه مدة معلومة، والإنسان الذي بيده نقود وهو بحاجة إلى منفعة كسكنى دار، قد لا يستطيع أن يشتري داراً، ولكنه يستطيع أن يدفع أجرة لسكنى الدار؛ فيدفع في مقابل هذه المنفعة، والناس لا يستغنون عن ذلك، والذي نقل عنه القول بعدم جواز الإجارة ابن علية وأبو بكر بن كيسان الأصم، وابن علية هذا هو إبراهيم بن إسماعيل بن علية، وأبوه إسماعيل بن علية إمام مشهور، ومحدث كبير، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وابنه إبراهيم هو الذي عنده شذوذ في بعض المسائل، ومنها مسألة الإجارة، وأبو بكر بن كيسان الأصم معتزلي، وابن علية هذا قال عنه الذهبي في الميزان: جهمي هالك، فهما من المبتدعة، هذا من الجهمية، وهذا من المعتزلة، وهما اللذان خالفا في جواز الإجارة، وهذا خلاف ما عليه الإجماع، وخلاف المعقول؛ لأن الناس لابد لهم من المنافع، وهي لا تحصل لهم بالمجان، فلابد إذاً من الإجارة.
قوله: [باب في التجارة يخالطها الحلف واللغو] وهو الكلام الذي فيه ترغيب في السلعة وترويج لها، وقد يكون منه ما هو كذب، وقد يكون منه ما هو لغو لا حاجة إليه، فكيف تحصل السلامة من مغبة هذا الذي يحصل في التجارة من اللغو والحلف؟ أورد أبو داود حديث قيس بن أبي غرزة رضي الله عنه قال: (كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نسمى السماسرة) يعني: كان الذين يشتغلون في البيع والشراء يقال لهم: السماسرة، وهذا لفظ أعجمي، فإن العجم هم الذين غلب عليهم التجارة والعمل، وكان يقال لهم: سماسرة، قال: (وإن النبي صلى الله عليه وسلم سمانا باسم هو أحسن منه، فقال: يا معشر التجار!)، يعني: فسماهم تجاراً بدل السماسرة، والسمسار: يطلق على من يكون واسطة في البيع بين البائع والمشتري، ويأخذ في مقابل وساطته شيئاً، فيقال له: سمسار؛ لأنه متوسط بين البائع والمشتري.
قوله: [(إن البيع يحضره اللغو والحلف)] أي: يحصل فيه الحلف، فالإنسان يحلف من أجل البيع والشراء، فإذا كان صادقاً فهو غير آثم، وإن كان كاذباً فهو آثم، ولا يحتاج الأمر إلى أن يحلف، بل يخبر بالسلعة كما هي، ويخبر عنها بما يعلمه فيها دون أن يحلف، ولا يجعل الله وسيلة إلى أنه لا يتحدث إلا حالفاً، بل يعرض سلعته ويبين ما فيها دون أن يحلف، وإن حلف بكذب فإنه يأثم بذلك.
قوله: [(فشوبوها بالصدقة)].
يعني: أخرجوا صدقة تكفر هذا الأمر الذي قد يخالط البيع من كون الإنسان يتكلم بكلام لا حاجة إليه، أو يحلف على السلعة، لكن إذا كان كاذباً فإنه يأثم لكذبه، وإذا تاب تاب الله عليه، والصدقة فيها سلامة من هذا اللغو الذي قد يحصل من الإنسان عند بيعه وشرائه، فتكون صدقته كالكفارة لما يحصل من حلف أو كلام لا حاجة إليه في ترويج السلعة وتنفيقها.
وقد استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على أن زكاة العروض غير واجبة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأن تشاب التجارة بالصدقة، ولو كان هناك شيء في التجارة واجب لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكثر أهل العلم على القول بوجوب الزكاة في عروض التجارة؛ بل عروض التجارة هي أغلب ما يحصل منه من الفوائد، وأكثر ما تحصل الزكاة عن طريقها، وقد استدل أهل العلم على زكاة العروض بالآيات والأحاديث العامة فيما يتعلق بالزكاة، لاسيما وغالب المكاسب والأعمال تكون في التجارة، فإذا لم يكن في التجارة زكاة فمعناه أن قسماً كبيراً مما يصرف للفقراء من الأغنياء سينقطع، وقد اتفق على وجوب زكاة عروض التجارة الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة هم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، والفقهاء السبعة هم فقهاء المدينة السبعة الذين يأتي ذكرهم كثيراً عند ذكر الرجال، وهم فقهاء جمعوا بين الفقه والحديث، وكانوا في زمن متقارب وفي عصر واحد فقيل لهم: الفقهاء السبعة، وهم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، والسابع منهم فيه خلاف، فقيل: هو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وقيل: هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وقيل: هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
فهذه المسألة -وهي مسألة الزكاة في عرض التجارة- من المسائل التي اتفق عليها الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة، وقد اشتهر الخلاف في ذلك عن أهل الظاهر، فهم الذين قالوا: لا تجب فيها الزكاة، وكذلك وافقهم جماعة من أهل العلم قليلون جداً، وبعض أهل العلم حكى الإجماع على وجوب زكاة عروض التجارة.(383/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (يا معشر التجار! إن البيع يحضره اللغو والحلف)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو معاوية].
هو أبو معاوية محمد بن خازم الضرير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش] هو سليمان بن مهران الكاهلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي وائل].
هو شقيق بن سلمة، وهو ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قيس بن أبي غرزة].
قيس بن أبي غرزة صحابي، أخرج له أصحاب السنن.(383/4)
شرح حديث: (يا معشر التجار! إن البيع يحضره اللغو) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسين بن عيسى البسطامي وحامد بن يحيى وعبد الله بن محمد الزهري قالوا: حدثنا سفيان عن جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين وعاصم عن أبي وائل عن قيس بن أبي غرزة رضي الله عنه بمعناه، قال: (يحضره الكذب والحلف)، وقال عبد الله الزهري: (اللغو والكذب)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وهو مثل الحديث السابق.(383/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (يا معشر التجار! إن البيع يحضره اللغو) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا الحسين بن عيسى البسطامي].
الحسين بن عيسى البسطامي صدوق، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[وحامد بن يحيى].
حامد بن يحيى ثقة، أخرج له أبو داود.
[وعبد الله بن محمد الزهري].
عبد الله بن محمد الزهري صدوق، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جامع بن أبي راشد].
جامع بن أبي راشد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعبد الملك بن أعين].
عبد الملك بن أعين صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعاصم].
هو عاصم بن بهدلة ابن أبي النجود، وهو صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب الكتب الستة والبخاري ومسلم أخرجا له مقروناً.
[عن أبي وائل عن قيس بن أبي غرزة].
مر ذكرهما.(383/6)
استخراج المعادن(383/7)
شرح حديث: (أن رجلاً لزم غريماً له بعشرة دنانير)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في استخراج المعادن.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي حدثنا عبد العزيز -يعني ابن محمد - عن عمرو -يعني ابن أبي عمرو - عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن رجلاً لزم غريماً له بعشرة دنانير، فقال: والله لا أفارقك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل، فتحمل بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتاه بقدر ما وعده، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من أين أصبت هذا الذهب؟ قال: من معدن، قال: لا حاجة لنا فيها، وليس فيها خير، فقضاها عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)].
قوله: [باب في استخراج المعادن] ذكر استخراج المعادن في كتاب البيوع لأن المعادن إما أن تكون ذهباً وفضة فتكون أثمان السلع، وإما أن تكون من الأشياء الأخرى فتكون من السلع التي يحتاج إليها الناس، فهي مصدر من المصادر التي يحصل بها الذهب والفضة وكل أنواع المعادن من حديد أو غير ذلك.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عباس (أن رجلاً لزم غريماً له بعشرة دنانير)، أي: لم يسهل أمره، ولم يتركه حتى يأتي بحقه متى شاء، وإنما تابعه ولازمه ليحصل على حقه، وقال: إنني لا أتركك حتى تأتيني بحميل، أي: ضامن يضمن حقي، وإذا لم توفني فإنه يقوم بالوفاء بدلاً عنك، فالنبي صلى الله عليه وسلم صار حميلاً له، أي: ضمن له حقه.
قوله: [(فتحمل بها النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه بقدر ما وعده)].
أي: بقدر ما وعده من ذهب.
قوله: [فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (من أين أصبت هذا الذهب؟ قال: من معدن، قال: لا حاجة لنا فيها، وليس فيها خير)]، قال بعض أهل العلم: إن المنع لم يكن من أجل أنها معدن، وإنما من أجل أمور أخرى، قيل: إنه لم يعطه ذهباً، وإنما أعطاه ذهباً مخلوطاً بترابه، ولم يكن متميزاً، ومعلوم أنه اتفق معه على دنانير، والدنانير معروفة المقدار والوزن، ولم تكن مخلوطة بالتراب، فهو لم يأت بالشيء الذي يكون مطابقاً لحقه حتى يكون موفياً له، وإنما أعطاه ذهباً مع ترابه، فهو ذهب غير معروف المقدار، وليس مساوياً لما يطالبه به، وهو عشرة دنانير، وليس المقصود من المنع كونه من معدن؛ لأن الذهب مثل غيره من المعادن أودعها الله في الأرض.
قوله: [(فقضاها عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
أي: قضى العشرة الدنانير التي كانت على ذلك الغريم، والنبي عليه الصلاة والسلام ضمن له، وأعطى لصاحب الحق حقه عندما رآه ملازماً لغريمه.(383/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رجلاً لزم غريماً له بعشرة دنانير)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد].
عبد العزيز بن محمد الدراوردي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو يعني ابن أبي عمرو].
عمرو بن أبي عمرو ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(383/9)
اجتناب الشبهات(383/10)
شرح حديث: (إن الحلال بين وإن الحرام بين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في اجتناب الشبهات.
حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا أبو شهاب حدثنا ابن عون عن الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما ولا أسمع أحداً بعده يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات -وأحياناً مشتبهة- وسأضرب لكم في ذلك مثلاً: إن الله حَمى حِمى، وإن حِمى الله ما حرم، وإنه من يرع حول الحِمى يوشك أن يخالطه، وإنه من يخالط الريبة يوشك أن يجسر)].
قوله: [باب في اجتناب الشبهات] المقصود بالشبهات: الأشياء التي لم يتبين حلها من حرمتها، فليست من الحلال البين، ولا من الحرام البين، وإنما هي مشتبهة لا يدرى هل هي حلال أو حرام، هذه هي المشتبهات.
إذاً: تنقسم الأشياء إلى ثلاثة أقسام: منها ما هو حلال بين، ومنها ما هو حرام بين، ومنها ما لم يعرف حرمته ولا حله وإنما هو مشتبه، وقد يشتبه على بعض الناس، ويتضح حكمه لبعض الناس، ولهذا قال: (لا يعلمهن كثير من الناس)، ومعناه أن بعض الناس قد يعلم أن هذا المشتبه من الحرام البين أو من الحلال البين، ومن عرف أن هذا المشتبه من الحرام البين فإنه يجتنبه لزوماً، ومن عرف أنه من الحلال البين فله أن يفعله، والاحتياط والورع في تركه؛ لأنه قد يكون حراماً، ففي تركه السلامة المحققة، وإذا فعله مع عدم جزمه بحله، ومع احتمال الحرمة؛ فإنه يكون في نفسه منه شيء، فالطريقة المثلى التي بينها رسول الله عليه الصلاة والسلام هي أن يترك المشتبه حتى لا يعرض الإنسان نفسه لأن يكون قد فعل أمراً محرماً.
قوله: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، وأحياناً يقول: مشتبهة) يعني: أحياناً يقول: مشتبهة، وأحياناً يقول: مشتبهات.
قوله: (وسأضرب لكم في ذلك مثلاً، إن الله حَمى حِمى، وإن حِمى الله ما حرم، وإنه من يرع حول الحمى يوشك أن يخالطه، وإنه من يخالط الريبة يوشك أن يجسر).
ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً مشاهداً معايناً لكون الشيء يكون حلالاً بيناً وحراماً بيناً ومشتبهاً لا يدرى هل هو حلال أم حرام، وهو أن هناك حِمى قد منع من الوصول إليه، فالإنسان الذي يبتعد عن الحمى يسلم، ومن حام حول الحمى فقد يدخل في الحمى لأنه قريب منه فيقع فيه، وهذا من ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمثال حتى يتضح المعقول بالمحسوس، فإن المكان إذا كان محمياً لا يسمح لأحد أن يرعى غنمه فيه، فإن كان بعيداً منه فإنه قد سلم؛ لأن الغنم ليست قريبة منه فتقع فيه، ومن رعى حوله فيمكن أن تنطلق الغنم وتصل إلى مكان المنع، فكذلك الذي يقدم على المشتبهات ويفعلها فإنه قد يكون ذلك المشتبه حراماً فيقع فيه، ولكن السلامة في تركه والاستبراء للعرض وللدين، كما جاء في بعض روايات الحديث: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) استبرأ لدينه لكونه لم يقع في أمر محرم، ولعرضه حتى لا يلام ويقال: إنه فعل كذا وفعل كذا.
قوله: (وإنه من يرع حول الحمى يوشك أن يخالطه، وإنه من يخالط الريبة يوشك أن يجسر).
من يخالط الريبة يمكن أن يقع في المحرم، كما أن الراعي الذي يحوم حول الحمى يمكن أن تقع غنمه في الحمى، فيكون قد وقع في أمر محذور وأمر ممنوع منه.
والحديث ورد بأطول من هذا في الصحيحين، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، وهذا الحديث جاء في الصحيحين بألفاظ مختلفة، وأورده النووي في الأربعين النووية؛ لأنه من الأحاديث الجامعة، فهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.(383/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن الحلال بين وإن الحرام بين)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو شهاب].
هو عبد ربه بن نافع، وهو صدوق يهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا ابن عون].
هو عبد الله بن عون، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الشعبي].
هو عامر بن شراحيل الشعبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت النعمان بن بشير].
النعمان بن بشير صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحابي ابن صحابي، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وهو من صغار الصحابة، وقد توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام وعمره ثمان سنوات، وقد جاء عنه التصريح بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الحديث، ففي الصحيحين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين)، وكان عمره ثمان سنوات لما توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا مما يستدل به العلماء على تحمل الصغير في حال صغره وروايته في حال كبره، فتكون روايته معتبرة؛ لأن العبرة بحال الأداء، ومثله الكافر إذا تحمل في حال كفره وأدى في حال إسلامه، فإن روايته معتبرة، فهو يحكي عن شيء حصل في حال الكفر ثم يؤديه في حال الإسلام.(383/12)
شرح حديث: (إن الحلال بين وإن الحرام بين) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عيسى عن زكريا عن عامر الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول بهذا الحديث، قال: (وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ دينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى عن النعمان بن بشير، وفيه التصريح بسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس)].
وهذا فيه أن هذا المشتبه الذي لا يدرى هل هو من الحلال البين أو من الحرام البين بعض الناس يعلمه، لكن كثير من الناس تخفى عليهم أحكامها، ولا يهتدي إليها كل أحد.
قوله: [(فمن اتقى الشبهات استبرأ عرضه ودينه)].
يعني: من ترك الأمور المشتبهة سلم من أن يعرض دينه لشيء من النقص بأن يفعل أمراً محرماً، وصان عرضه عن أن يتكلم فيه بأن يقال: فلان فعل كذا، وفلان ما عنده ورع، هذا هو معنى (استبرأ لعرضه) ومثله حديث: (مطل الغني ظلم، يحل عرضه وعقوبته) يعني: كون الإنسان عنده حق ثم هو يماطل صاحبه فهو ظلم لصاحب الحق، وهذا المطل يحل عرضه بأن يتكلم فيه صاحب الحق فيقول: منعني حقي، عمل معي كذا وكذا، وعقوبته أي: حبسه إذا كان قادراً على السداد والوفاء ولكنه مماطل.
قوله: [(فمن اتقى الشبهات استبرأ عرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)].
لأن الأمر إذا كان مشتبهاً ليس واضحاً أنه حلال، فلعله يكون حراماً، فإذا وقع فيه الإنسان فقد وقع في الأمر المحرم، فالاحتياط هو ترك الشبهات، وليس كل من وقع في الشبهات يقع في الحرام، فقد تكون الشبهة حلالاً فلا يقع فيه، لكن من استمرأ أن يأتي الأمور المشتبهة فقد يكون شيء منها حراماً.(383/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن الحلال بين وإن الحرام بين) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي].
إبراهيم بن موسى الرازي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا عيسى].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زكريا].
هو زكريا بن أبي زائدة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الشعبي سمعت النعمان بن بشير].
مر ذكرهما.(383/14)
اللحوم المستوردة من المشتبهات
من المشتبهات -مثلاً:- اللحوم المستوردة إذا لم يعرف طريقة ذبحها، أما إذا عرفت طريقة ذبحها، وأنها تذبح ذبحاً شرعياً، فهي حلال، لكن إذا جاءت من بلد لا تعرف طريقتهم في الذبح، وقد يذبحون ذبحاً شرعي أو غير شرعي، فهذا الأمر مشتبه.
والأولى أن الإنسان يأخذ لحماً مذبوحاً في البلد يطمئن لذبحه، فهذا أولى من أن يأكل لحماً فيه اشتباه، وأيضاً الشراء من المنتجين في البلد أولى من الشراء من الخارج، وإن كان الشراء منهم جائزاً مثل جواز الزواج بالنصرانية وباليهودية، لكن أيهما أولى الزواج من مسلمة أو من كافرة؟ لاشك أن الزواج من المسلمة أولى، وإن كان الزواج من الكتابية جائزاً، لكن الحلال ليس كله على حد سواء، فهذا أولى من هذا، وكون الإنسان يتزوج بمسلمة أولى من أن يتزوج بكافرة من أهل الكتاب.(383/15)
شرح حديث: (ليأتين على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عيسى حدثنا هشيم أخبرنا عباد بن راشد قال: سمعت سعيد بن أبي خيرة يقول: حدثنا الحسن منذ أربعين سنة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، (ح) وحدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن داود -يعني ابن أبي هند - وهذا لفظه، عن سعيد بن أبي خيرة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ليأتين على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا، فإن لم يأكله أصابه من بخاره، قال ابن عيسى: أصابه من غباره)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليأتين على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا، فإن لم يأكله أصابه من بخاره أو أصابه من غباره) يعني: أنه ما أحد يسلم أن يقع في شيء من الربا، لكن الحديث ضعيف؛ لأن فيه انقطاعاً بين الحسن وأبي هريرة، فهو لم يسمع منه، ولأن فيه أيضاً شخصاً مقبولاً لا يحتج به إلا عند المتابعة، لكن الانقطاع بين الحسن وأبي هريرة كافٍ في عدم ثبوته.(383/16)
تراجم رجال إسناد حديث: (ليأتين على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
هو محمد بن عيسى الطباع، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا عباد بن راشد].
عباد بن راشد صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[سمعت سعيد بن أبي خيرة].
سعيد بن أبي خيرة مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الحسن].
هو الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
[(ح) وحدثنا وهب بن بقية].
هو وهب بن بقية الواسطي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا خالد بن عبد الله].
هو خالد بن عبد الله الواسطي الطحان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن داود يعني ابن أبي هند].
داود بن أبي هند ثقة كان يهم، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن، وهذا الحديث لفظ ابن أبي هند.
[عن سعيد بن أبي خيرة عن الحسن عن أبي هريرة].
تقدم ذكرهم.(383/17)
حكم أخذ الحوالات عن طريق البنوك الربوية
هذا الحديث لم يثبت، ولو ثبت فإن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم يقع، ولا يتخلف ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، لكن الحديث غير ثابت، فلا يقال: إن الواقع أنه ما أحد يسلم من الربا، وأن له نصيباً من الربا، فالتعامل في المصارف يمكن للإنسان أن يكون مرابياً ويمكن أن يكون غير مراب؛ فكون الإنسان يأتي إليه مال عن طريق البنوك الربوية لا يقال: إنه حرام عليه، وإنه كالربا، بل للمسلم أن يعامل الكفار، ومعلوم أن الكفار يتعاملون بأمور محرمة، ونحن لا نسأل ونقول: من أين جاء هذا المال؟ وهل هو ثمن خمر أو ثمن خنزير؟ بل نأخذه ولا نسأل عنه، والأصل هو السلامة، فهذا من جنسه، بمعنى: أن كون الإنسان تأتيه حوالة عن طريق البنك الربوي، فإنه يأخذها، ولا يقال: إنه أخذ حراماً، وإنما الحرام كونه يأخذ الفائدة المحرمة مقابل الإيداع، هذا هو الربا، وأما أن تأتي لك حوالة عن طريق البنك، فلا يقال: إنك أكلت ربا أو أخذت ربا.(383/18)
شرح حديث: (أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء أخبرنا ابن إدريس أخبرنا عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على القبر يوصي الحافر: أوسع من قبل رجليه، أوسع من قبل رأسه، فلما رجع استقبله داعي امرأة، فجاء وجيء بالطعام فوضع يده، ثم وضع القوم فأكلوا، فنظر آباؤنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلوك لقمة في فمه، ثم قال: أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها، فأرسلت المرأة قالت: يا رسول الله! إني أرسلت إلى البقيع يشترى لي شاة فلم أجد، فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل إلي بها بثمنها فلم يوجد، فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إلي بها، فقال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم: أطعميه الأسارى)].
أورد أبو داود حديث رجل من الأنصار مبهم، ومعلوم أن جهالة الصحابة لا تؤثر؛ لأنهم عدول ولا يحتاجون إلى تعديل من بعد ثناء الله عز وجل عليهم وثناء رسوله صلى الله عليه وسلم، والجهالة في غيرهم تؤثر وتضر، وفيهم لا تضر ولا تؤثر، ولا يعني كونهم عدولاً أنهم معصومون، فإن العصمة ليست لأحد إلا للرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، ولكنهم عدول وخيار يعتمد على كلامهم، ويعول على ما جاء عنهم من الرواية، وكل راو من الرواة دون الصحابة لابد من معرفة حاله من الثقة والضعف وغير ذلك إلا الصحابة فإن المجهول فيهم في حكم المعلوم، ولهذا لا يؤثر إذا قيل: عن رجل من الأنصار، أو عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن رجل من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فإن ذلك كاف في عدالته وقبول خبره.
وقد ذكر هذا الصحابي أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر يوصي الحافر الذي يحفر القبر أن أوسع من جهة رجليه، وأوسع من جهة رأسه، حتى يكون القبر واسعاً غير ضيق يضم الميت بعضه إلى بعض.
قوله: [(فلما رجع استقبله داعي امرأة فجاء وجيء بالطعام فوضع يده)].
أي: فلما رجع استقبله داعي امرأة تدعوه إلى طعام، فلما جاء ومد يده ومد الناس أيديهم تبعاً له صلى الله عليه وسلم جعل يلوك قطعة من اللحم في فمه ثم قال: (أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها)، وهذا علمه الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا ما أطلعه الله عز وجل عليه، وليس كل غيب يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي يعلم الغيب على الإطلاق هو الله سبحانه وتعالى، وقد جاء في كثير من الأحاديث أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب، مثل قصة العقد الذي فقدته عائشة في سفر، وجلسوا حتى الصباح في البحث عن العقد، ثم نفد الماء فأنزل الله آية التيمم، فتيمموا وصلوا، ولما يئسوا من الحصول على العقد أثاروا الإبل للرحيل، وإذا العقد تحت الجمل الذي كانت تركب عليه عائشة، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب على الإطلاق لقال من أول وهلة: العقد تحت الجمل، لكنه ما عرف ذلك حتى ثار الجمل ووجد العقد تحته.
وكذلك عائشة رضي الله عنها لما رميت بالإفك ما كان يعلم عليه الصلاة والسلام بالحقيقة حتى تألم وتأثر، وأرسل عائشة إلى أهلها، وقال لها: (إن كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله واستغفريه)، ولم يعلم براءتها إلا بعد أن نزلت آيات تتلى في سورة النور، فعند ذلك عرف أنها بريئة، وقبل ذلك مضت مدة طويلة وهو لا يعلم حقيقة الأمر، فلو كان يعلم الغيب مطلقاً لعلم براءتها من أول الأمر، وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه يوم القيامة يذاد عن حوضه أناس من أصحابه، قال: (فأقول: أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) فحتى بعد وفاته صلى الله عليه وسلم هو أيضاً لا يعلم بما فعل أصحابه من بعده؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قيل له: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، والمعنى: أن فيهم من ارتد، وهم الذين ارتدوا من أصحابه وقاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالجيوش المظفرة، حتى عاد الناس إلى ما كانوا عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحاصل: أن الله تعالى يطلع نبيه على ما شاء من غيبه، ولا يطلعه على كل الغيب، فالاطلاع على جميع الغيوب هو من خصائص الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا أمر الله نبيه أن يقول: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام:50]، وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188].
قوله: [(فأرسلت المرأة قالت: يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع يشترى لي شاة)].
أخبرت المرأة بالذي حصل، وهو أنها أرسلت إلى البقيع -وهو المكان الذي تباع فيه الغنم- من يشتري لها شاة، فلم يجد، وكان أحد جيرانها قد اشترى شاة، فأرسلت إليه تطلب منه أن يعطيها الشاة بثمنها، فلم تجد صاحب الشاة الذي هو صاحب البيت، فطلبت من امرأته أن تعطيها إياها، فأعطتها الشاة بدون إذن زوجها، فأخذت الشاة بغير إذن صاحبها الذي هو صاحب البيت.
والشاهد من إيراد الحديث فيما يتعلق بالشبهات: هو ترك النبي صلى الله عليه وسلم لأكل هذه الشاة بعد أن علم أنها أخذت بغير إذن أهلها، فالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه تركوا الأكل منها، وقال: (أطعميه الأسارى) ولعل المقصود بذلك أسارى الكفار، فيطعم ذلك للكفار بدلاً من أن يتلف ولا يستفاد منه، وهذا يدل على أن المال الذي يكون بيد الإنسان وهو غير حلال يتخلص منه بطريقة مناسبة، ومثله ما يسمى بالفوائد الربوية، وهي في الحقيقة مضار، فمن وقع في يده شيء منها، ثم جاء يسأل: ماذا يصنع فيها؟ ف
الجواب
أنه يصرف ذلك المال في أمور ممتهنة مثل تعبيد طرق أو بناء حمامات، أو ما إلى ذلك من الأشياء التي ليست في أمور شريفة، فيصرف المال في مثل ذلك للتخلص منه، كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم المرأة إلى التخلص من هذه الشاة بهذه الطريقة.(383/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن إدريس].
هو عبد الله بن إدريس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا عاصم بن كليب].
عاصم بن كليب صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه صدوق، أخرج له البخاري في رفع اليدين وأصحاب السنن.
[عن رجل من الأنصار].
وهو صحابي مبهم كما تقدم.(383/20)
آكل الربا وموكله(383/21)
شرح حديث: (لعن رسول الله آكل الربا وموكله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في آكل الربا وموكله.
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا سماك حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه)].
قوله: [باب في آكل الربا وموكله] أي: حكمه، وأنه ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد المصنف هذا الحديث عن عبد الله بن مسعود قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه) آكل الربا هو الذي يأخذ الربا، وليس المقصود بذكر الأكل قصر الانتفاع على الأكل، بل الحكم واحد ولو استعمله في غير الأكل، كأن يشتري به لباساً أو سيارة أو بيتاً، ولكنه ذكر الأكل لأنه أغلب وجوه الانتفاع، وقد قال الله في القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، فهو من هذا القبيل، ذكر الأكل لأنه أهم وجوه الانتفاع.
وموكله هو الذي دفعه؛ لأن المعاملة فيها آخذ ومعطي، فآكله هو الذي أخذه، وموكله هو الذي دفعه، وكاتبه هو الذي يكتب بين الآكل والموكل، والشهود هم الذين يشهدون على عقد الربا، فهؤلاء ملعونون أيضاً؛ لأن مساعدتهم والكتابة لهم والشهادة على أمر محرم من التعاون على الإثم والعدوان، وكلهم ملعونون على لسان رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(383/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (لعن رسول الله آكل الربا وموكله)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سماك].
هو سماك بن حرب، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود].
عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، الصحابي الجليل، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(383/23)
الأسئلة(383/24)
حال حديث قبيصة: (إذا صليت الفجر فقل ثلاثاً: سبحان الله العظيم وبحمده تعافى من العمى والجذام والفالج)
السؤال
حديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا يزيد بن هارون عن الحسن عن أبي كريمة قال: حدثني رجل من أهل البصرة عن قبيصة بن المخارق رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا قبيصة! ما جاء بك؟! قلت: كبرت سني، ورق عظمي، فأتيتك لتعلمني ما ينفعني الله عز وجل به.
قال: يا قبيصة! ما مررت بحجر ولا شجر ولا مدر إلا استغفر لك، يا قبيصة! إذا صليت الفجر فقل ثلاثاً: سبحان الله العظيم وبحمده تعافى من العمى والجذام والفالج، يا قبيصة! قل: اللهم إني أسألك مما عندك، وأفض علي من فضلك، وانشر علي رحمتك، وأنزل علي من بركاتك) ما مدى صحة هذا الحديث؟
الجواب
كونه يعافى من العمى والجذام والفالج بهذا الدعاء فيه نكارة، ثم الإسناد فيه رجل مبهم، فالظاهر عدم ثبوت هذا الحديث.(383/25)
حال حديث: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)
السؤال
ما حال حديث: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)؟
الجواب
هذا من أحاديث الأربعين النووية، والذي أعلم أنه صحيح.(383/26)
حكم الجمع بين الذهب والفضة في الزكاة
السؤال
من ملك مقداراً من الذهب لم يبلغ النصاب، وكذلك مقداراً من الفضة لم يبلغ النصاب، فهل يضم النقدين؟
الجواب
نعم، يضم بعضهما إلى بعض، وإذا كان مجموعهما نصاباً يزكي.(383/27)
شرح سنن أبي داود [384]
لقد حرم الله تعالى الربا بكل أنواعه وصوره في كتابه وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، فينبغي على المؤمن تركه وعدم التعامل به، كما ينبغي عليه ترك الحلف في البيع والشراء، فإن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة، وعليه أن يجتنب الدين ما استطاع إلا أن يكون عازماً على أدائه، فإن كان كذلك أدى الله تعالى عنه، وما كان في الجاهلية لا يبقى في الإسلام، إلا ما أقره الإسلام فإنه يبقى ثابتاً ومعتبراً.(384/1)
وضع الربا(384/2)
شرح حديث: (ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في وضع الربا.
حدثنا مسدد حدثنا أبو الأحوص حدثنا شبيب بن غرقدة عن سليمان بن عمرو عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع يقول: (ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رءوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون، ألا وإن كل دم من دم الجاهلية موضوع، وأول دم أضع منها دم الحارث بن عبد المطلب، كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل، قال: اللهم هل بلغت؟ قالوا: نعم ثلاث مرات، قال: اللهم اشهد.
ثلاث مرات)].
قوله: [باب في وضع الربا] أي: إبطال الربا الذي حصل في الجاهلية وأدركه الإسلام، وذلك أن ما كان موجوداً في الجاهلية من معاملات ومن أمور محرمة، فما انتهى الأمر فيها قبل أن يدخلوا في الإسلام لا يبحث عنه، ولا يرد منه شيء من هذا لهذا، فالذي مضى في الجاهلية مضى على ما هو عليه، ولكن ما أدركه الإسلام بمعنى أنه جاء الإسلام وهذا الربا موجود فإنه يبطل، ويكون للإنسان رأس ماله دون أن يأخذ الربا المحرم، وكذلك إذا كان هناك قتل في الجاهلية فإنه بمجيء الإسلام ينتهي الأمر، ولا يطالب بعد الإسلام بشيء حصل في الجاهلية، وكذلك إذا كان هناك أمور محرمة أخرى لا يبحث عنها، لكن إذا عرف أن هناك شيئاً لا يقره الإسلام مما كان موجوداً في الجاهلية، مثل نكاح أكثر من أربع، أو نكاح أختين أو ما إلى ذلك؛ فإن هذا لا يقره الإسلام، ولا يبقى في الإسلام، وما جاء الإسلام وأقره فإنه يكون ثابتاً ومعتبراً بحكم الإسلام، ومن المعاملات المباحة التي كانوا يتعاملون بها، وجاء الإسلام وأقرها: اعتبار الولي في النكاح، فإن هذا مما كان في الجاهلية وأقره الإسلام، كما جاء ذلك عن عائشة في الصحيح، ومثل المضاربة فقد كانت معمولاً بها في الجاهلية وجاء الإسلام وأقرها.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث عمرو الأحوص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: (إن ربا الجاهلية موضوع) يعني: أنه ملغى ومبطل، وأن للناس رءوس أموالهم ويترك الربا، وإن كانت المعاملة الربوية انتهت في الجاهلية، وأخذ الربا في الجاهلية، فإنه لا يطلب منه أن يعيد الربا الذي أخذه في الجاهلية؛ لأن الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها، والإسلام يهدم ما كان قبله، ولكن يبطل ما أدركه الإسلام، فالإسلام يقر ما كان مشروعاً ومباحاً، ويمنع ويلغي ما كان محرماً وغير سائغ.
وكذلك القتل الذي حصل بينهم في الجاهلية لا يطالبون به في الإسلام، فلو أن رجلاً قتل آخر في الجاهلية ثم أسلم فلا يقام عليه الحد في الإسلام، فالإسلام يهدم ما كان قبله، ومن سرق أشياء في الجاهلية ثم أسلم فلا يجب عليه أن يردها.
والجاهلية هي ما كان قبل الإسلام، وقبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يدخل الكفار الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام.
قال: (وأول دم أضع منها دم الحارث بن عبد المطلب).
ثم إنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا هل بلغت؟) وكررها ثلاثاً وقال: (اللهم اشهد) وكررها ثلاثاً، وقد جاء ذلك أيضاً في حديث جابر رضي الله عنه في حجة الوداع.(384/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو الأحوص].
هو أبو الأحوص سلام بن سليم الحنفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شبيب بن غرقدة].
شبيب بن غرقدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن عمرو].
سليمان بن عمرو مقبول، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه صحابي، أخرج له أصحاب السنن.
والحديث في سنده مقبول إلا أنه جاء له شاهد صحيح، فهو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(384/4)
كراهية اليمين في البيع(384/5)
شرح حديث: (الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كراهية اليمين في البيع.
حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا ابن وهب (ح) وحدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة عن يونس عن ابن شهاب قال: قال لي ابن المسيب: إن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة)، قال ابن السرح: للكسب، وقال: عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم].
قوله: [باب في كراهية اليمين في البيع] اليمين إذا كانت كاذبة فهي محرمة، وإذا كانت غير كاذبة فينبغي تركها، والإنسان يخبر بالشيء دون أن يحلف، ولا يجعل الله عرضة لليمين، وإنما يخبر بالشيء على ما هو عليه دون أن يحلف، ولكن إن حلف وكان صادقاً فإن ذلك لا يضره، وإن كان كاذباً في حلفه فإن ذلك يضره لكونه كذب، وإن ترتب شراء بسبب هذه اليمين الكاذبة فإن ذلك يكون سبباً في محق البركة من وراء هذا البيع أو من وراء هذا الشراء.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة)، وفي لفظ أحد شيخي أبي داود: (ممحقة للكسب) يعني: أن الحلف ينفق السلعة، ويروجها، ويجعل للمشتري فيها رغبة، وقد جاء في حديث السبعة الذين لا يكلمهم الله: (المنفق سلعته بالحلف الكاذب)، أي: المروج بضاعته بالحلف الكاذب، فالحلف منفقة للسلعة، وفيه ترويج لها، وترغيب فيها، ولكنه ممحقة للبركة، فهو سبب في ذهاب البركة من هذه الأموال التي حصّلها بسبب بيع هذه السلعة التي نفقها بالحلف الكاذب.(384/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة)
قوله: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح مصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عنبسة].
هو عنبسة بن عبد الواحد المصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود.
[عن يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن المسيب].
هو سعيد بن المسيب، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.(384/7)
الرجحان في الوزن والوزن بالأجرة(384/8)
شرح حديث: (زن وأرجح)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجحان في الوزن والوزن بالأجر.
حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا سفيان عن سماك بن حرب حدثني سويد بن قيس رضي الله عنه قال: (جلبت أنا ومخرفة العبدي بزاً من هجر، فأتينا به مكة، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمشي، فساومنا بسراويل فبعناه، وثم رجل يزن بالأجر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: زن وأرجح)].
قوله: [باب في الرجحان في الوزن والوزن بالأجر]، الترجمة مشتملة على أمرين: الأول: أن الإنسان عندما يزن يرجح، بمعنى أنه إذا وضع المعيار الذي يوزن به في كفة، ووضعت السلع التي توزن في كفة؛ فلا تكون الكفتان متساويتين، بل المشروع أن يحصل الرجحان، وذلك بأن تميل الكفة التي فيها السلعة عن الكفة الثانية التي فيها المعيار الذي يوزن به، هذا هو الرجحان.
الثاني: الوزن بالأجر، فيجوز أن يكون مع الإنسان ميزان، ويزن للناس بالأجر، أو مكيال ويكيل للناس بالأجر، أو يقسم للناس بالأجر، أو ما إلى ذلك من الأشياء التي يكون فيها إفادة للناس.
وقد أورد أبو داود حديث سويد بن قيس رضي الله عنه قال: (جلبت أنا ومخرفة) -وفي بعض الألفاظ مخرمة العبدي (بزاً من هجر)، والبز هو القماش، (فأتينا به مكة، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، فساومنا بسراويل فبعناه) أي: فباعوه للنبي عليه الصلاة والسلام، (وثم) أي: هناك شخص (يزن بالأجر)، أي: يوجد في السوق رجل عنده ميزان، والناس يزنون عنده ويعطونه أجرة على الوزن، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (زن وأرجح)، أقره على أن يزن بالأجر، وأمره أن يرجح في الوزن، بمعنى أن يزيد في الكفة التي فيها السلع التي توزن بحيث تميل الكفة، وليس معنى ذلك أنها تميل ميلاً عظيماً، فهذا قد يكون فيه ظلم، لكن يميل الميزان ميلاً يسيراً من غير أن يكون هناك إضرار بصاحب السلعة، هذا هو الذي أرشد إليه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فدل هذا الحديث على ما ترجم له المصنف من جهة إرجاح الميزان، وجواز أن يزن الإنسان للناس أو يكيل لهم أو يقسم لهم بالأجرة.
وهذا الرجحان للاستحباب وليس للوجوب؛ لأن الواجب هو حصول المماثلة في الميزان، لكن هذا على سبيل الاستحباب وعلى سبيل الاحتياط أيضاً، وهذا الرجحان يحصل بالميل اليسير.
وكل شخص يزن يشرع له إرجاح الوزن، سواء كان هو بائع السلعة أو كان الذي يزن عاملاً عند صاحب السلعة، أو كان شخصاً عنده ميزان يزن للناس بالأجر، فإن الجميع مأمورون بأن يرجحوا الميزان.
وأجرة الوزن تكون بحسب الاتفاق بين البائع والمشتري، إما على البائع أو على المشتري.
وذكر الوزن في هذا الحديث لا علاقة له بشراء السراويل، فإن السراويل لا توزن.(384/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (زن وأرجح)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن معاذ].
هو عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
أبوه هو معاذ بن معاذ العنبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان الثوري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سماك بن حرب].
سماك بن حرب صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سويد بن قيس].
سويد بن قيس رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب السنن.(384/10)
شرح حديث: (زن وأرجح) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر ومسلم بن إبراهيم المعنى قريب قالا: حدثنا شعبة عن سماك بن حرب عن أبي صفوان بن عميرة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة قبل أن يهاجر بهذا الحديث، ولم يذكر: يزن بأجر.
قال أبو داود: رواه قيس كما قال سفيان، والقول قول سفيان].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهنا قال: أبو صفوان بن عميرة، ذكره بكنيته، وهناك ذكره باسمه.
[قال أبو داود: رواه قيس كما قال سفيان، والقول قول سفيان].
وفيه إثبات هذه الزيادة، وهي كونه يزن بالأجر.(384/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (زن وأرجح) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[ومسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[المعنى قريب].
يعني: معنى رواية حفص ورواية مسلم قريب بعضها من بعض.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سماك بن حرب عن أبي صفوان بن عميرة].
مر ذكرهما.(384/12)
مخالفة سفيان لشعبة في حديث: (زن وأرجح)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن أبي رزمة سمعت أبي يقول: قال رجل لـ شعبة: خالفك سفيان، قال: دمغتني، وبلغني عن يحيى بن معين قال: كل من خالف سفيان فالقول قول سفيان].
أورد أبو داود كلاماً في الموازنة والمقارنة بين سفيان الثوري وشعبة، وكل منهما وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، والثقات الأثبات يوازن بينهما، ويقدم من هو أحفظ على من هو دونه، فمن كانت أغلاطه أقل كان هو المقدم، وهو الأثبت، وإن كانت أغلاطهما جميعاً قليلة، لكن بعضها أقل من بعض، فمن كان أقل أغلاطاً وأقل خطأً فإنهم يفضلونه على صاحبه، وإن كان كل منهما جبلاً في الحفظ، لكن عند المقارنة الدقيقة بين الاثنين فمن كانت أغلاطه أقل قدموه.
وقد ذكر أبو بكر الحازمي في كتابه: (شروط الأئمة الخمسة) الموازنة بين مالك وسفيان بن عيينة وروايتهما، وقال: مالك مقدم على سفيان في الحفظ؛ لأن سفيان عدت أغلاطه فبلغت كذا وكذا، ومالك عدت أغلاطه فكانت أقل، فهو مقدم على سفيان بن عيينة.
قوله: [قال رجل لـ شعبة: خالفك سفيان، قال: دمغتني].
يعني: أن القول قول سفيان، فهو أحفظ مني، ويقدم قوله على قولي.
قوله: [وبلغني عن يحيى بن معين قال: كل من خالف سفيان فالقول قول سفيان].
هذا يعني أن سفيان متمكن في الحفظ.(384/13)
تراجم رجال إسناد أثر مخالفة سفيان لشعبة في حديث: (زن وأرجح)
قوله: [حدثنا ابن أبي رزمة].
هو محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[سمعت أبي].
أبوه هو عبد العزيز بن أبي رزمة، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي.
[وبلغني عن يحيى بن معين].
يحيى بن معين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(384/14)
شرح قول شعبة: كان سفيان أحفظ مني
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع عن شعبة قال: كان سفيان أحفظ مني].
ذكر المصنف هذا الأثر الذي فيه اعتراف شعبة بأن سفيان أحفظ منه، وهذا يوضح معنى قوله: دمغتني، فليس معناها إنكاراً، وإنما هو اعتراف بفضل سفيان وحفظه.
واعتراف شعبة لـ سفيان بالحفظ يدل على الإنصاف، ويدل أيضاً على فضل هذا المعترف ونبله، وأنه لا يدعي شيئاً وهو يعتقد خلافه، وقد يقول الإنسان ذلك على سبيل التواضع، ولكن قول غيره هنا يطابق هذا الذي قاله من كون سفيان مقدم على غيره؛ يعني على شعبة وغير شعبة، فهذا الذي قاله شعبة لم ينفرد به حتى يقال: لعله تواضع منه، بل هذا هو الواقع.(384/15)
تراجم رجال إسناد قول شعبة: كان سفيان أحفظ مني
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
مر ذكره.(384/16)
المكيال مكيال المدينة(384/17)
شرح حديث: (الوزن وزن أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (المكيال مكيال المدينة).
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن دكين حدثنا سفيان عن حنظلة عن طاوس عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة)].
قوله: [باب في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المكيال مكيال المدينة)، المقصود من هذه الترجمة: بيان أن المكيال الذي يعول فيه على معرفة الحقوق التي لله عز وجل -مثل: الزكاة والكفارات وغيرها- هو مكيال أهل المدينة، فقد جاء أن الزكاة تكون كذا صاع، والكفارة كذا صاع، والمعتبر هو مكيال أهل المدينة.
أما بالنسبة للوزن -مثل وزن الذهب والفضة- فالمعتبر هو وزن أهل مكة؛ لأن أهل مكة أهل تجارة، وقد غلب عليهم ذكر الوزن، وأهل المدينة أهل حرث وزراعة، وقد غلب عليهم ذكر الكيل.
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة) أي: الأمور التي شرعها الله سبحانه وتعالى يرجع فيها إلى مكيال المدينة، فلو تغيرت المكاييل أو الموازين فلا بأس للناس أن يستعملوا الأشياء التي تعارفوا عليها في غير حقوق الله، ولكن فيما يتعلق بحقوق الله مثل الكفارات، وفيما يتعلق بالوزن مثل معرفة نصاب الذهب والفضة، فالمعتبر في الوزن هو ميزان أهل مكة، والمعتبر في الكيل هو مكيال أهل المدينة.
والناس إذا اعتبروا مقاييس وموازين وأحجاماً يكيلون بها ويزنون فالمعتبر في معاملاتهم هو ما تعارفوا عليه، ويرجع في ذلك إلى عرفهم، فلو كان على رجل في ذمته مائة صاع، وصاعهم أكبر من صاع المدينة، فلا يقال: يرجع إلى مكيال أهل المدينة، بل يرجع إلى الصاع الذي تعارفوا عليه، وهو الصاع الذي يتعامل به أهل ذلك البلد.(384/18)
تراجم رجال إسناد حديث: (الوزن وزن أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا ابن دكين].
هو أبو نعيم الفضل بن دكين وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان عن حنظلة].
سفيان مر ذكره، وحنظلة هو ابن أبي سفيان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن طاوس].
هو طاوس بن كيسان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عنه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(384/19)
اختلاف الرواة في حديث: (الوزن وزن أهل مكة)
[قال أبو داود: وكذا رواه الفريابي وأبو أحمد عن سفيان وافقهما في المتن، وقال أبو أحمد: عن ابن عباس مكان ابن عمر، ورواه الوليد بن مسلم عن حنظلة قال: (وزن المدينة، ومكيال مكة).
قال أبو داود: واختلف في المتن في حديث مالك بن دينار عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا].
أورد أبو داود روايات أخرى منها ما يوفق ما تقدم من جهة: (الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة)، وأنه جاء عن ابن عمر وعن ابن عباس، وجاء المتن في بعض الطرق مقلوباً: (وزن المدينة، ومكيال مكة)، ولاشك أن هذا من قبيل المقلوب، والصواب: (الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة).(384/20)
تراجم رجال إسناد الرواة المختلفين في حديث: (الوزن وزن أهل مكة)
قوله: [وكذا رواه الفريابي].
هو محمد بن يوسف الفريابي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأبو أحمد].
هو أبو أحمد محمد بن عبد الله الزبيري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان الثوري وقد مر ذكره.
[وقال أبو أحمد: عن ابن عباس مكان ابن عمر].
يعني: جعل أبو أحمد ابن عباس مكان ابن عمر.
[ورواه الوليد بن مسلم عن حنظلة].
الوليد بن مسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حنظلة].
حنظلة مر ذكره.
قوله: [(وزن المدينة، ومكيال مكة)].
يعني: جاء الحديث عن حنظلة من طريقين: الطريق الأولى: (مكيال أهل المدينة، ووزن أهل مكة).
الطريق الثانية من طريق الوليد بن مسلم: (كيل أهل مكة، ووزن أهل المدينة)، والمحفوظ هي الرواية الأولى.
[قال أبو داود: واختلف في المتن في حديث مالك بن دينار].
مالك بن دينار صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا].
يعني: أنه مرسل.(384/21)
التشديد في الدين(384/22)
شرح حديث: (إن صاحبكم مأسور بدينه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التشديد في الدين.
حدثنا سعيد بن منصور حدثنا أبو الأحوص عن سعيد بن مسروق عن الشعبي عن سمعان عن سمرة رضي الله عنه أنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ههنا أحد من بني فلان؟ فلم يجبه أحد، ثم قال: ههنا أحد من بني فلان؟ فلم يجبه أحد، ثم قال: ههنا أحد من بني فلان؟ فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ما منعك أن تجيبني في المرتين الأوليين؟! أما إني لم أنوه بكم إلا خيراً، إن صاحبكم مأسور بدينه.
فلقد رأيته أدى عنه حتى ما بقي أحد يطلبه بشيء)].
قوله: [باب في التشديد في الدين] أي: أن الإنسان عندما يتحمل الدين فأمره ليس بالهين وليس بالسهل، وليس للإنسان أن يقدم على الدين إلا إذا كان مضطراً إليه، وإذا اضطر إليه فليحرص على أن يوفي به.
وقد جاءت أحاديث عديدة تدل على التشديد فيه، وتبين خطورته، بل قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغفر للشهيد كل شيء، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إلا الدين سارني به جبريل آنفاً).
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فقال: ههنا أحد من بني فلان؟ فأعادها ثلاثاً، فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله، قال: ما منعك أن تجيبني في المرتين الأوليين، أما إني لم أنوه بكم إلا خيراً) يعني: أن الرجل خشي أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام ذكرهم لشيء غير محمود.
قوله: [(إن صاحبكم مأسور بدينه)].
يعني: رجل من قرابة هذا الشخص الذي هو من بني فلان مأسور بسبب دينه، أي: محبوس عن دخول الجنة.
قوله: [(فلقد رأيته أدى عنه حتى ما بقي أحد يطلبه بشيء)].
أي: هذا الشخص الذي قام أدى عن هذا الشخص المأسور حتى لم يبق يطالبه أحد.
وفيه إشارة إلى أن القرابة يشرع وينبغي لهم أن يحسن بعضهم إلى بعض، وأن يواسي بعضهم بعضاً، وأن يساعد بعضهم بعضاً، وهذا من صلة الأرحام.
وهذا الحديث مثل حديث: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه)، وفي حديث أبي قتادة قال عليه الصلاة والسلام: (الآن بردت جلدته) عندما قضى دين الميت، ومعلوم أنه قبل دخول الجنة تكون المقاصة بين من يستحقون الجنة بعدما يتجاوزون النار؛ فإنهم يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعض، وهذه المقاصة تكون بالحسنات، وهم قد تجاوزوا النار فلن يدخلوها، ولكن يبقى التفاوت بينهم في درجات الجنة، فيؤخذ هذا من هذا، وهذا من هذا، والنتيجة التي تترتب على هذا الأخذ هي ارتفاع الدرجات.(384/23)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن صاحبكم مأسور بدينه)
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو الأحوص عن سعيد بن مسروق].
سعيد بن مسروق والد سفيان الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الشعبي].
هو عامر بن شراحيل الشعبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سمعان].
هو سمعان بن مهند، وهو صدوق أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن سمرة].
هو سمرة بن جندب رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وقد ذكروا أن سمعان لم يسمع من سمرة، لكن الحديث له شواهد تؤيده وتدل على ما دل عليه.
[قال أبو داود: سمعان بن مهند].
ذكره وبين نسبته هنا.(384/24)
شرح حديث: (إن أعظم الذنوب عند الله أن يموت الرجل وعليه دين لا يدع له قضاء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب حدثني سعيد بن أبي أيوب أنه سمع أبا عبد الله القرشي يقول: سمعت أبا بردة بن أبي موسى الأشعري يقول عن أبيه رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه بها عبد بعد الكبائر التي نهى الله عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء)].
أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أعظم الذنوب عند الله بعد الكبائر التي نهى الله عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء)، وهذا فيه بيان التشديد في أمر الدين، وبيان خطورة الدين، وفيه: أنه إذا ترك له وفاء فإن المحذور يزول من جهة أن صاحب الحق سيصل إليه حقه؛ لأنه ترك تركة يمكن أن يسدد بها الدين، ويقضى منها الدين.
وهذا الحديث ضعيف، ولو صح فيحمل على من كان لا يريد للوفاء، وليس عنده نية الوفاء؛ لأن هذا يأكل أموال الناس بالباطل، أما من استدان وهو يريد الوفاء -وهو مضطر إلى ذلك- فهو معذور، ويجب عليه أن يحرص على أن يسدد الدين، وإذا لم يسدد فينبغي لأقاربه أن يقوموا بتسديد الدين عنه، فإن سددوها عنه انتهى ما في ذمته، وإن لم يسددوها عنه فإن المقاصة تكون في الدار الآخرة، وقد يتجاوز الله عز وجل عن المدين إذا كان عازماً على الوفاء وكان مضطراً إلى الدين، ويعطي الدائن من فضله وكرمه فوق ما يستحقه.(384/25)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن أعظم الذنوب عند الله أن يموت الرجل وعليه دين لا يدع له قضاء)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
سليمان بن داود المهري ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا ابن وهب حدثني سعيد بن أبي أيوب].
ابن وهب مر ذكره، وسعيد بن أبي أيوب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنه سمع أبا عبد الله القرشي ٍ].
أبو عبد الله القرشي مقبول، أخرج له أبو داود.
[سمعت أبا بردة بن أبي موسى].
أبو بردة بن أبي موسى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي موسى].
هو عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(384/26)
شرح حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي على رجل مات وعليه دين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يصلي على رجل مات وعليه دين، فأتي بميت فقال: أعليه دين؟ قالوا: نعم، ديناران، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه: هما علي يا رسول الله! قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما فتح الله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك ديناً فعلي قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته)].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان لا يصلي على من كان عليه دين)، وكان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك من أجل ألا يتهاون الناس بأمر الدين، بل يستصعبونه ويستثقلونه ويحرصون على التخلص والسلامة منه؛ من أجل أن يصلي عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ماتوا، ومن أجل أن يتحمل عنهم غيرهم ويساعدهم.
قوله: [(فقال أبو قتادة: هي علي يا رسول الله)] يعني: أنا أتحملهما، وأقوم بسدادهما عنه، فصلى عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل هذا في أول الأمر، وبعد أن فتح الله تعالى الفتوح، وحصلت الغنائم والأموال؛ كان يقضي دين الميت من بيت المال.
قوله: [(أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من مات وعليه دين فعلي قضاؤه ومن ترك مالاً فلورثته)].
يعني: إن كان للميت مال فهو للورثة، وإن كان عليه دين فالنبي صلى الله عليه وسلم يتحمله.(384/27)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي على رجل مات وعليه دين)
قوله: [حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني].
محمد بن المتوكل العسقلاني صدوق له أوهام كثيرة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
مر ذكره.
[عن أبي سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، وهو الصحابي الجليل أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(384/28)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من عير تبيعاً وليس عنده ثمنه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وقتيبة بن سعيد عن شريك عن سماك عن عكرمة رفعه قال عثمان: وحدثنا وكيع عن شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، قال: (اشترى من عير تبيعاً وليس عنده ثمنه، فأربح فيه فباعه، فتصدق بالربح على أرامل بني عبد المطلب وقال: لا أشتري بعدها شيئاً إلا وعندي ثمنه)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من عير تبيعاً) وفي بعض الألفاظ: بيعاً، والعير: هي القافلة التي تأتي ومعها بضاعة، كما قال الله عز وجل في قصة يوسف: {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف:82]، ومعنى الحديث: أنه اشترى منهم شيئاً ولم يكن معه ثمنه، فباعه فأربح فيه، فتصدق بالربح على أرامل بني عبد المطلب، ثم قال: (لا أشتري بعدها شيئاً إلا وعندي ثمنه)، والحديث في إسناده مقال، وهو يخالف ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توفي وعليه دين، وكانت درعه مرهونة بطعام اشتراه من يهودي لأهله صلى الله عليه وسلم.(384/29)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من عير تبيعاً وليس عنده ثمنه)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وقتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شريك].
هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي، وهو صدوق يخطئ كثيراً، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سماك عن عكرمة].
سماك مر ذكره، وعكرمة هو مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[رفعه].
فيكون الحديث مرسلاً.
[قال عثمان: وحدثنا وكيع عن شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله].
قد مر ذكرهم، وقوله: (مثله) أي: مثل الطريق المرسلة.(384/30)
شرح سنن أبي داود [385]
إذا اتفقت الأجناس الربوية كذهب بذهب أو فضة بفضة، فلا يجوز بيع بعضها ببعض إلا مثلاً بمثل يداً بيد، وإذا اختلفت كذهب بفضة فيجوز بيعها متفاضلة يداً بيد، وهذا ما يسميه العلماء بالصرف، ومسائله تقع في أيامنا بكثرة.(385/1)
المطل(385/2)
شرح حديث: (مطل الغني ظلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المطل.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع)].
قوله: [باب في المطل] المطل: هو عدم التسديد، وعدم توفية صاحب الحق حقه، فإذا طلب منه حقه لا يعطيه إياه، بل يماطله ويؤخر القضاء، وإذا كان المدين غنياً وأخر الحق فهو ظالم، وإن كان فقيراً فهو معذور، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، ويقول الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280].
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مطل الغني ظلم) أي: تأخير الحق عن صاحبه مع قدرته على التسديد ظلم لصاحب الدين؛ لأنه أخر عنه حقه بغير حق، وهذا يدل على تحريم ذلك، وأنه لا يجوز للإنسان أن يفعل هذا؛ لأنه ظلم، والظلم منهي عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الظلم ظلمات يوم القيامة).
وعلى هذا: فالمدينون منهم من هو غني واجد، ومنهم من هو فقير غير واجد، فعدم تسديد المدين مع قدرته هو ظلم منه للدائن، والفقير المعسر الذي لا يستطيع الوفاء ليس بظالم؛ لأنه ليس عنده شيء به يقضي دينه، والله تعالى يقول في حقه: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] يعني: ينظر إلى أن ييسر الله عز وجل له.
وقد جاء في بعض الروايات: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) بمعنى: أنه يحل أن يعاقب فيحبس حتى يقوم بالتسديد؛ لأنه قادر على القضاء، ويحل عرضه بأن يقول: منعني حقي، ويتكلم فيه، ويذمه؛ لأنه منعه حقه، وهذا إذا كان غنياً مماطلاً.
قوله: [(وإذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع)] أي: إذا أحال المدين الدائن على شخص آخر مليء غير معسر، فليقبل الإحالة عليه، ويذهب إلى الشخص الذي أحيل عليه، ويستوفي دينه منه، وهذا إذا كان مليئاً؛ لأنه قال: (وإذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع) أي: فليذهب إلى ذلك المحال عليه وليتبعه لأخذ حقه منه.
والأمر في قوله: (فليتبع) للاستحباب.
وإذا مطل الغني فلا يحل للدائن أن يأخذ شيئاً من متاعه، بل يرفع أمره إلى السلطان، وإذا أصلِ على مليء ثم مات أو أعسر فإنه يرجع إلى المحيل، ولا يسقط حق الدائن.(385/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (مطل الغني ظلم)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزناد].
هو عبد الله بن ذكوان المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعرج].
هو عبد الرحمن بن هرمز المدني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(385/4)
حسن القضاء(385/5)
شرح حديث: (خيار الناس أحسنهم قضاء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في حسن القضاء.
حدثنا القعنبي عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي رافع رضي الله عنه قال: (استسلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكراً، فجاءته إبل من الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بكره، فقلت: لم أجد في الإبل إلا جملاً خياراً رباعياً، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أعطه إياه، فإن خيار الناس أحسنهم قضاء)].
قوله: [باب في حسن القضاء] أي: إذا كان الإنسان مديناً فعندما يأتي وقت السداد يؤديه على وجه حسن، وله أن يزيده بالكمية أو الكيفية والنوع، فإذا تسلف نقوداً فله أن يزيده من النقود على حقه، وإذا استلف منه بكراً فله أن يرد رباعياً، وهو أكبر وأنفس من البكر، وهذا جائز إذا كان من غير مواطأة واتفاق، وأما إذا اتفقا عند الإقراض على أن يزيده، أو تواطأا والتواطؤ يكون بشيء غير معلن، كأن يلمح له تلميحاً أو يعرض له تعريضاً.
على الزيادة دون أن ينصا على ذلك في الوثيقة التي كتبت بينهما؛ فهذا لا يجوز؛ لأنه من القرض الذي جر نفعاً، وقد أجمع العلماء على أن كل قرض جر نفعاً فهو ربا، وقد ورد هذا في حديث ضعيف جداً كما قال الحافظ في بلوغ المرام، لكن معناه محل إجماع بين العلماء.
قوله: [(استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل بكراً) البكر: هو من الإبل مثل الغلام في بني الإنسان، أي: أنه في مقتبل حياته، وليس كبيراً، والرباعي هو الذي أكمل السنة السادسة ودخل في السنة السابعة.
وفي هذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام استسلف بكراً ورد رباعياً، وهذا فيه حسن القضاء؛ لأنه أعطاه أنفس مما أخذ منه، ثم قال: (إن خير الناس أحسنهم قضاءً)، فدل هذا على أن للمدين أن يعطي الدائن عند السداد شيئاً أكثر مما أخذه منه، إذا لم تكن هناك مشارطة ولا تواطؤ، وإنما هو إحسان ومعاملة طيبة من المقترض حيث أعطى أكثر مما أقرض.(385/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (خيار الناس أحسنهم قضاء)
قوله: [حدثنا القعنبي عن مالك عن زيد بن أسلم].
زيد بن أسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن يسار].
عطاء بن يسار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي رافع].
هو أبو رافع مولى رسول الله عليه الصلاة والسلام، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(385/7)
شرح حديث جابر: (كان لي على النبي صلى الله عليه وسلم دين فقضاني وزادني)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى عن مسعر عن محارب بن دثار قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كان لي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم دين فقضاني وزادني)].
أورد المصنف حديث جابر رضي الله عنه قال: (كان لي على النبي صلى الله عليه وسلم دين فقضاني وزادني) محل الشاهد منه قوله: (زادني)، ففيه حسن القضاء بالزيادة.
وإذا تعارف الناس على الزيادة في القضاء فهي من الربا.
ولا يجوز للمقترض أن يهدي للمقرض هدية بسبب القرض؛ لأنه من القرض الذي جر نفعاً.(385/8)
تراجم رجال إسناد حديث جابر: (كان لي على النبي صلى الله عليه وسلم دين فقضاني وزادني)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، الإمام الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسعر].
هو مسعر بن كدام، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محارب بن دثار].
محارب بن دثار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، وهو صحابي جليل، أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(385/9)
الصرف(385/10)
شرح حديث: (الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الصرف.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس عن عمر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الذهب بالورق رباً إلا هاء وهاء، والبر بالبر رباً إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر رباً إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير رباً إلا هاء وهاء)].
قوله: [باب في الصرف] الصرف: هو بيع النقود بعضها ببعض، سواء كان ذهباً بذهب أو ذهباً بفضة، والصرف خاص بالنقود، وأما الشعير بالشعير والتمر بالتمر فليس من قبيل الصرف، ولكنه مثل الصرف من جهة أنه جنس مثل جنس الذهب، فالذهب بالذهب يباع متماثلاً ومتقابضاً فيه، والتمر بالتمر يباع متماثلاً ومتقابضاً فيه، بدون تأجيل ولا زيادة، لكن الصرف خاص بالنقود والعملة؛ ولهذا يقول بعض المصنفين في كتبهم: باب الربا والصرف، والربا أعم من الصرف؛ لأن الربا يكون في الصرف وفي غيره، لكن الصرف لا يدخل فيه المكيلات مثل التمر والشعير والبر والأرز وغير ذلك من الأشياء المكيلة.
إذاً: هذه الترجمة هي ببعض ما اشتملت عليه الأحاديث؛ لأن الأحاديث الواردة في الباب اشتملت على الصرف وغير الصرف، وهي تدل على الترجمة، ولكنها ليست مقصورة على الترجمة؛ بل تشتمل على الترجمة -وهي الصرف- وعلى الأشياء المكيلة.
فالصرف خاص بالنقود، والنقود المتماثلة لابد فيها من التساوي والتقابض، فلا يجوز فيها فضل ولا نسيئة، والفضل هو الزيادة في بعضها على بعض، والنسيئة هو: تأجيل النقدين أو تأجيل أحدهما.
والنقود التي ليست من جنس واحد يشترط فيها التقابض، ولا مانع من التفاضل، كذهب وفضة، فالفضة تكون أكثر وزناً؛ لأن الذهب أنفس وأغلى من الفضة، فلا مانع من التفاضل، لكن لابد من التقابض؛ لأنه قد جاء في الحديث: (فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، أي: فبيعوا كيفما شئتم متفاضلاً إذا كان يداً بيد، فيجوز بيع (2) كيلو مثلاً فضة بكيلو ذهب، أو (10) كيلو فضة بكيلو ذهب، لكن لابد من التقابض، فصاحب الذهب يعطي الذهب لصاحب الفضة، وصاحب الفضة يعطي الفضة لصاحب الذهب في المجلس، دون أن يكون هناك تأخير.
وعلى هذا فالصرف إذا كان في بيع الشيء بجنسه فلابد فيه من أمرين: التماثل، والتقابض، وإذا اختلفت الأجناس فلابد من التقابض والتفاضل لا بأس به.
وقد أورد أبو داود حديث عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالورق رباً إلا هاء وهاء) (هاء وهاء) يعني إلا بالقبض، فيجوز بيعهما متفاضلين بشرط التقابض، وقد جاء في الحديث: (فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) فالتفاضل بين الذهب والفضة جائز، والمحذور هو النسيئة فيهما.
قوله: [(والبر بالبر رباً إلا هاء وهاء)]، لابد هنا من التقابض والتماثل أيضاً؛ لأن الذهب والورق جنسان مختلفان، فيلزم التقابض ويجوز التفاضل، وأما البر بالبر فهو جنس واحد، فلابد من التماثل والتقابض.
قوله: [(والتمر بالتمر رباً إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير رباً إلا هاء وهاء)].
(هاء وهاء) أي: خذ وخذ، كل واحد يقول للثاني: خذ، ففيه أخذ وإعطاء، هذا يقول لصاحبه: خذ ما عندي، وهذا يقول لصاحبه: خذ ما عندي.(385/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن ابن شهاب].
ابن شهاب هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن مالك بن أوس].
مالك بن أوس له رؤية، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر].
هو عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(385/12)
شرح حديث: (الذهب بالذهب تبرها وعينها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا بشر بن عمر حدثنا همام عن قتادة عن أبي الخليل عن مسلم المكي عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها، والبر بالبر مدي بمدي، والشعير بالشعير مدي بمدي، والتمر بالتمر مدي بمدي، والملح بالملح مدي بمدي، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يداً بيد، وأما نسيئة فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يداً بيد، وأما نسيئة فلا)].
أورد أبو داود حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(الذهب بالذهب تبرها وعينها)]، أي: لابد من التماثل والتقابض؛ لأنهما جنس واحد، حتى لو كان ذلك الجنس من نوعين: نوع مضروب نقوداً، ونوع قطعة من الذهب غير مسبوكة، فلابد من التساوي بينهما والتقابض.
ولا يقال: إنها إذا كانت مضروبة فإن سعرها يكون أغلى، بل لابد من التساوي، ولو كانت المضروبة نقوداً أو سبائك يتجمل بها، وصنعتها جميلة، فلابد من التساوي في بيع الذهب بالذهب، ويعرف التساوي بالوزن، ولابد أيضاً من التقابض؛ لأن بيع الجنس بالجنس لابد فيه من التقابض مع التماثل.
قوله: [(والفضة بالفضة تبرها وعينها)]، التبر المقصود به: الكسر والقطع، والعين هو النقد.
قوله: [(والبر بالبر مدي بمدي)].
المدي هو مقياس، فلابد من التساوي، مدي بمدي، وليس مديان بمدي ونحو ذلك.
قوله: [(والشعير بالشعير مدي بمدي، والتمر بالتمر مدي بمدي، والملح بالملح مدي بمدي)].
يعني: أن كل جنس يباع بجنسه لابد فيه من أمرين: التقابض، والتماثل، حتى ولو كان أحدهما جيداً والآخر رديئاً، مثل بيع ذهب مستعمل قديم بذهب جديد لماع حسن وجميل، فلابد من التساوي، ويمكن أن يتخلص من الذهب القديم ببيعه، ثم يشتري بالنقود ذهباً جديداً، أما أن يبيع ذهباً قديماً بذهب جديد مع التفاضل فهذا لا يجوز.
قوله: [(فمن زاد أو ازداد فقد أربى)].
(من زاد) أي: من أعطى، (أو ازداد) أي: طلب الزيادة، (فقد أربى) أي: أخذ الربا.
قوله: [(ولا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يداً بيد)].
يعني: إذا اختلف الجنس فلا مانع من التفاضل، فإذا باع ذهباً بفضة، والفضة أكثر، فلا بأس، لكن لابد من التقابض يداً بيد، أما إذا كان الجنس واحداً فلابد من الأمرين، وإذا كانا جنسين فالتقابض لابد منه، والتفاضل لا بأس به، فيجوز -مثلاً- بيع عشرة كيلو من الفضة بكيلو من الذهب، لكن لابد من تسليم الذهب وتسليم الفضة في مجلس الاتفاق.
قوله: [(وأما نسيئة فلا)].
يعني: إذا اختلف الجنسان فلا تجوز النسيئة، ويجوز التفاضل، فالربا ينقسم إلى قسمين: ربا فضل، وربا نسيئة، فربا الفضل يجري في بيع جنس واحد بمثله وأحدهما زائد، فهذا لا يجوز، فهو ربا فضل، وإذا اختلف الجنسان فالتفاضل جائز، والتقابض لابد منه في جميع الأحوال.(385/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (الذهب بالذهب تبرها وعينها)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا بشر بن عمر].
بشر بن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا همام].
هو همام بن يحيى العوذي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الخليل].
هو صالح بن أبي مريم، وثقه ابن معين والنسائي، وأخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسلم المكي].
هو مسلم بن اليسار المكي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي الأشعث الصنعاني].
هو شراحيل بن آده، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبادة بن الصامت].
عبادة بن الصامت رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(385/14)
شرح حديث: (الذهب بالذهب عينها وتبرها) من طريق أخرى وتراجم رجال الإسناد
[قال أبو داود: روى هذا الحديث سعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي عن قتادة عن مسلم بن يسار بإسناده].
وهذا مثلما تقدم، وهنا ذكر اسم الراوي: مسلم بن يسار.
وسعيد بن أبي عروبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وهشام بن أبي عبد الله الدستوائي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(385/15)
شرح حديث: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن خالد عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الخبر يزيد وينقص، وزاد قال: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)].
هذه كلمة عامة تشمل ما إذا كان بيع شعير ببر وأحدهما متفاضل، أو بر بتمر وأحدهما متفاضل، فيجوز ذلك بشرط التقابض.(385/16)
تراجم رجال إسناد حديث: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
هو عبد الله بن محمد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وهو أخو عثمان بن أبي شيبة، وعثمان يأتي كثيراً عند أبي داود، وأما أبو بكر فيأتي قليلاً بالنسبة لأخيه، ولكن مسلم لم يكثر عن أحد كما أكثر عن أبي بكر بن أبي شيبة، فهو أكثر شيخ روى عنه، وقد بلغت الأحاديث التي أخذها عن شيخه أبي بكر بن أبي شيبة في صحيحه أكثر من ألف وخمسمائة حديث.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد].
هو خالد بن مهران الحذاء، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قلابة].
هو أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت].
مر ذكرهما.(385/17)
حلية السيف تباع بالدراهم(385/18)
شرح حديث: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في حلية السيف تباع بالدراهم.
حدثنا محمد بن عيسى وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع قالوا: حدثنا ابن المبارك (ح) وحدثنا ابن العلاء أخبرنا ابن المبارك عن سعيد بن يزيد حدثني خالد بن أبي عمران عن حنش عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أنه قال: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز، قال أبو بكر وابن منيع: فيها خرز معلقة بذهب ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو بسبعة دنانير، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا، حتى تميز بينه وبينه، فقال: إنما أردت الحجارة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا، حتى تميز بينهما، قال: فرده حتى ميز بينهما)، وقال ابن عيسى: أردت التجارة.
قال أبو داود: وكان في كتابه: (الحجارة)، فغيره فقال: (التجارة)].
قوله: [باب في حلية السيف تباع بالدراهم] أي: إذا كانت الحلية من الفضة، والسيف إذا كان محلى بفضة فلا يباع بفضة؛ لأنه سيكون بيع فضة بفضة غير متماثلين، وهذا لا يجوز، ولو كان أحدهما من جنس الآخر، ولكن إذا باعها بذهب فلا بأس بذلك، فيجوز أن يبيع السيف المحلى بفضة بذهب، ولكن المحذور أن يبيعه بشيء من جنسه.
قوله في الحديث: [(فيها خرز معلقة بذهب ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو بسبعة دنانير)].
الدنانير من الذهب، فمعناه: أنه حصل بيع ذهب بذهب، ومعه زيادة خرز، والذهب غير متميز، ولم يعرف مقدار الذهب ومقدار الخرز، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل.
قوله: [(فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حتى تميز بينه وبينه)].
يعني: حتى تفصل الخرز عن الذهب، فإذا فصل وصار الذهب مماثلاً للذهب جاز البيع، وإن كان فيه زيادة أو نقص لم يجز، ويباع الخرز على حدة، ويباع الذهب بالذهب على حدة، لكن لو بيع بجنس آخر كالفضة فلا بأس.
قوله: [(فقال: إنما أردت الحجارة)].
أي: إنما أردت الخرز، ولم أرد الذهب، بل الذهب جاء تبعاً.
قوله: [وقال ابن عيسى: أردت التجارة].
هنا صحف الشيخ، فذكر التجارة بدل الحجارة، فيكون المعنى: أردت الاكتساب بهذا الذي اشتريته.(385/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
هو محمد بن عيسى الطباع، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع].
أحمد بن منيع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا ابن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن المبارك عن سعيد بن يزيد].
سعيد بن يزيد ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا خالد بن أبي عمران].
خالد بن أبي عمران صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن حنش].
هو حنش الصنعاني، وهو ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن فضالة بن عبيد].
فضالة بن عبيد رضي الله عنه صحابي، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.(385/20)
شرح حديث فضالة: (اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً فيها ذهب وخرز)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن أبي شجاع سعيد بن يزيد عن خالد بن أبي عمران عن حنش الصنعاني عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: (اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً فيها ذهب وخرز، ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لا تباع حتى تفصل)].
هذا الحديث مثل الذي قبله، فلا تباع القلادة حتى يفصل بعضها من بعض، وبعد فصلها إذا كانت القيمة للخرز فلا بأس، وإذا كانت القيمة للذهب فلابد من التماثل والتقابض.(385/21)
تراجم رجال إسناد حديث فضالة: (اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً فيها ذهب وخرز)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي شجاع سعيد بن يزيد عن خالد بن أبي عمران عن حنش الصنعاني عن فضالة بن عبيد].
مر ذكرهم.(385/22)
شرح حديث: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزناً بوزن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن أبي جعفر عن الجلاح أبي كثير حدثني حنش الصنعاني عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر نبايع اليهود الأوقية من الذهب بالدينار -قال غير قتيبة: بالدينارين والثلاثة، ثم اتفقا- فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزناً بوزن)].
أورد أبو داود حديثاً آخر عن فضالة بن عبيد، وهو غير الحديث الأول.
قوله: [(كنا نبايع اليهود الأوقية من الذهب بالدينار)].
الأوقية أربعون درهماً من الفضة.
قوله: [(قال غير قتيبة: بالدينارين والثلاثة)].
الدينار كان صرفه اثنا عشر درهماً من الفضة.
قوله: [(لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزناً بوزن)].
أي: لابد من التساوي في بيع الذهب بالذهب، وبيع الفضة بالفضة، وبيع التمر بالتمر، وبيع البر بالبر، وبيع الشعير بالشعير، فما داما جنساً واحداً فلابد فيهما من التساوي والتقابض، حتى الذهب الذي عياره (18) والذهب الذي عيراه (21) لابد في بيع أحدهما بالآخر من التساوي والتقابض.(385/23)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزناً بوزن)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن أبي جعفر].
ابن أبو جعفر هو عبيد الله بن جعفر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الجلاح أبي كثير].
الجلاح أبي كثير صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثني حنش الصنعاني عن فضالة بن عبيد].
مر ذكرهما.(385/24)
اقتضاء الذهب من الورق(385/25)
شرح حديث ابن عمر: (كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في اقتضاء الذهب من الورق.
حدثنا موسى بن إسماعيل ومحمد بن محبوب المعنى واحد قالا: حدثنا حماد عن سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو في بيت حفصة فقلت: يا رسول الله! رويدك أسألك، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)].
قوله: [باب في اقتضاء الذهب من الورق] أي: أن يكون في ذمته ورق فيأخذ عند الوفاء بدله ذهباً بقيمته، فالاقتضاء هو التسديد، كما في الحديث: (خير الناس أحسنهم قضاءً) أي: أن يسدد ويعطي الدائن أفضل مما كان يلزمه، وهذا جائز كما تقدم.
والمراد من هذه الترجمة: أن من كان في ذمته ورق فيوفي بذهب، أو كان في ذمته ذهب فيوفي بورق؛ لا بأس بذلك ولا مانع منه، ومثل هذا من كان عنده عملة معينة ثم يقضي الدائن بعملة أخرى، فلا بأس بذلك بسعر يوم التسديد.
فإذا كان في ذمته مبلغ من الذهب، ومضى على ذلك وقت وأراد أن يسدد بفضة، فلا ينظر للقيمة وقت الإقراض، وإنما ينظر للقيمة عند التسديد؛ لأن الذي في ذمته عملة معينة، فلو أعطاه إياها في أي وقت من الأوقات فهذا حقه، فإذا أراد أن يدفع مقابلها عملة أخرى فلا بأس بذلك، لكن بسعر القيمة عند السداد.
قوله: [(كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم)].
أي: أنه كان يبيع بالدنانير، ثم عند الوفاء يقول المشتري: ليس عندي دنانير، لكن عندي فضة، فيقدر قيمة الدنانير بالدراهم بدلاً من الذهب، فالدنانير من الذهب، والدراهم من الفضة.
وقوله: (بالبقيع) أي: حوله، وليس في المقبرة، وقيل: هو النقيع.
قوله: [(وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير)].
أي: بالعكس.
قوله: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، مالم تفترقا وبينكما شيء)].
يعني: حتى لا تقع في ربا النسيئة.(385/26)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر: (كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومحمد بن محبوب].
محمد بن محبوب ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة بن دينار، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سماك بن حرب].
سماك بن حرب صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو الصحابي الجليل عبد الله بن عمر، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(385/27)
شرح حديث ابن عمر من طريق أخرى وترجمة رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حسين بن الأسود حدثنا عبيد الله أخبرنا إسرائيل عن سماك بإسناده ومعناه، والأول أتم، لم يذكر: بسعر يومها].
أورد الحديث من طريق أخرى.
قوله: [حدثنا حسين بن الأسود].
هو حسين بن علي بن الأسود، وهو صدوق يخطئ كثيراً، أخرج له أبو داود والترمذي.
[حدثنا عبيد الله].
هو عبيد الله بن موسى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسرائيل].
هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سماك].
مر ذكره.(385/28)
الأسئلة(385/29)
الفرق بين الصرف والبيع
السؤال
ما هو الفرق بين الصرف والبيع؟
الجواب
إذا جئت إلى صراف وعندك مائة تريدها ريالات، فقال: ليس عندي مائة ريالات، لكن خذ هذه السبعين، وتبقى لك ثلاثون ريالاً، فهذا لا يجوز؛ لأنه صرف، ولا بد من التماثل: مائة من الورق فئة ريال مقابل ورقة المائة، وكذلك لابد من التقابض، وكونك تذهب ويبقى عنده لك شيء فهذا ربا نسيئة؛ لأن هذا صرف.
أما إذا جئت إلى صاحب دكان واشتريت منه سلعة بخمسين ريالاً، فأعطيته مائة، فقال: يبقى لك عندي خمسون ريالاً، فهذا جائز، ولا يقال: إنه صرف؛ لأن هذا بيع سلعة بعملة، إلا أن المشتري ليس عنده المبلغ المقابل للسلعة، ولكن عنده مبلغ أكثر منها، والبائع أخذ المبلغ الأكثر ليطمئن على حقه.(385/30)
حكم إعطاء المتزوج مالاً ثم يرده لمن أعطاه عند زواجه أو أكثر منه
السؤال
عندنا عادة وهي دفع مال للمتزوج، وعندما يتزوج الدافع فإنه يعطيه المتزوج الأول أكثر من هذا المبلغ أو مثله، فهل هذا جائز؟
الجواب
هذا ليس قرضاص، بل هو هبة، ثم هو أعطاه هبة أكثر مما أعطاه، فلا بأس بهذا، ولا يقال: إن هذا ربا؛ لأن هذا وهب شيئاً، وهذا وهب شيئاً، فهو من باب التبرع والمساعدة، والأولى أن الإنسان يتبرع للمتزوج ولا يريد منه أن يتبرع له في المستقبل، لكن إذا أعطاه على أنه سلف، واتفقا على أنه سلف، وأنه سيرجع إليه بأكثر مما أعطى فهذا لا يجوز.(385/31)
حكم شراء الذهب بالشيك
السؤال
ما حكم شراء الذهب بالشيك المصدق؟
الجواب
الظاهر أن الشيك يقوم مقام النقد؛ لأن حمل الفلوس الكثيرة من الصعوبة بمكان؛ ولهذا الناس يتعاملون بالشيكات.(385/32)
حكم إرجاع الذهب إلى الصائغ لإصلاحه في مجلس العقد قبل التفرق
السؤال
اشتريت ذهباً ودفعت ثمنه، ثم رددت بعضه لإصلاحه في نفس المجلس، ولم نفترق، فهل هذا جائز أم يجب الافتراق قبل إرجاع بعض الذهب الذي يجب إصلاحه؟
الجواب
لا يلزم الافتراق؛ لأن البيع تم بكونك أخذت حقك وهو أخذ حقه، وكونك أرجعت إليه شيئاً ليصلحه لا يؤثر في البيع.(385/33)
الأوراق النقدية تقوم مقام الذهب والفضة
السؤال
هل النقود الآن تقوم مقام الذهب والفضة؟
الجواب
نعم، فالناس الآن ليس بأيديهم عملة من ذهب وفضة، بل يتعاملون بالأوراق النقدية التي قامت مقام الذهب والفضة، وهي في قوة الذهب والفضة، بمعنى أن الإنسان يأتي لصاحب الدكان ويأخذ منه ما يريد، ويعطيه هذه الأوراق النقدية؛ لأنها حلت محل الذهب والفضة، ولكل بلد اعتبار، فالمملكة السعودية الأوراق النقدية فيها هي مقابل الفضة لا الذهب.(385/34)
حكم شراء الذهب بالنقود نسيئة
السؤال
هل يجوز شراء الذهب بالنقود نسيئة، يشتري الذهب ثم يدفع الثمن بعد شهر؟
الجواب
لا يجوز، فلابد من التقابض، وبيع العمل كلها بعضها ببعض لابد فيه من التقابض.(385/35)
العملات أجناس مختلفة
السؤال
هل العملات المختلفة: الريال والدولار والدينار جنس واحد؟
الجواب
لا، كلها أجناس مختلفة، وليست جنساً واحداً.(385/36)
حكم القياس على الأصناف الربوية الستة
السؤال
هل الربا مقصور على الأجناس الستة الواردة في الحديث أم يعم غيرها؟
الجواب
يعم كل ما كان مثلها، فالأرز مثلاً يجري فيه الربا، وهو غير مذكور في الحديث.(385/37)
حكم شراء الذهب بالنقود مع بقاء بعض النقود ديناً
السؤال
اشترى رجل من بائع الذهب ذهباً قيمته ألف ريال، وأعطاه سبعمائة وخمسين ريالاً على أن يعطيه الباقي في موعد لاحق، فما الحكم؟
الجواب
لا يجوز، فلابد أن يدفع الثمن كله، ويدفع المثمن كله، فلا يؤخر الثمن كله ولا بعضه، بل لابد من دفع الجميع، وإذا ما توافر له المال فينتظر حتى يتوافر له جميع المبلغ الذي يريد به شراء ذلك الذهب.(385/38)
حكم ترك باقي النقود عند صاحب السلعة
السؤال
إذا ذهبت إلى بائع واشتريت منه بخمسين ريالاً، وأعطيته مائة ريال، ولم يكن عنده إلا خمسون ريالاً، وقال لي: الباقي أعطيك إن شاء الله غداً، فما الحكم؟
الجواب
لا بأس؛ لأن هذا مجرد تسديد، فأنت اشتريت منه سلعة بخمسين ريالاً، وأعطيته مائة ريال، وليس عنده الباقي، فكونه يعطيك حقك فيما بعد لا بأس به، فهو يطمئن أن حقه وصل إليه، وأنت ترجع وتأخذ الباقي، فلا بأس؛ لأنك ما بعته نقوداً بنقود.(385/39)
وجوب التقابض في الصرف
السؤال
إذا صرفت من صاحب البقالة مائة ريال، فأعطاني ثمانين ريالاً، وبقي عنده عشرون ريالاً، فما الحكم؟
الجواب
هذا لا يجوز، بل لابد أن تأخذ حقك، وهو يأخذ حقه؛ لأن التقابض في الصرف لابد منه، والتفاضل يجوز إذا اختلفت العملات، لكن التقابض لابد منه.(385/40)
حكم تمييز الخرز من عقد الذهب عند بيعه
السؤال
إذا أردت أن أشتري عقد ذهب فيه خرز، فهل يجب أن أميز الخرز من الذهب؟
الجواب
إذا كنت اشتريته بفضة أو اشتريته بنقود فلا بأس، إنما المحذور إذا اشتريته بذهب، وأما إذا اختلفت الأجناس فلا بأس، لكن يكون البيع يداً بيد.(385/41)
الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل في الربا
السؤال
ما معنى الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل؟
الجواب
معناه: لو بيع مثلاً كوم من التمر بكوم من التمر، ولم يعرف مقدار هذا ولا مقدار هذا، فالجهل بالتماثل حاصل، فهو كالعلم بالتفاضل، يعني: أن هذا البيع فيه ربا، ومن شرط بيع الشيء بجنسه أن يكونا متماثلين، وفي بيع كوم من التمر بكوم آخر من التمر جهالة، فالتماثل بينهما مجهول، فهو لا يجوز كما لو علم بالتفاضل، فلا يجوز هذا البيع حتى لو كان أحدهما رديئاً والآخر طيباً.
والمخرج من الربا أن يبيع الرديء بنقد، ثم يشتري بالنقد من النوع الطيب الذي يريد، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بع الجمع بالدراهم واشتر بالدراهم جنيباً)، والجمع: هو التمر المجمع المختلط، والجنيب نوع جيد من التمر، فكانوا يبيعون الصاع من الجنيب بالصاعين من الجمع، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وبين لهم المخرج، وهو أن يبيع الرديء بدراهم، ثم يشتري بالدراهم التي يقبضها تمراً جيداً، أما أن يبيع جنساً بجنسه متفاضلاً فهذا لا يجوز.(385/42)
حكم شراء السلع نسيئة
السؤال
ما حكم شراء بضاعة من المحلات على الراتب بالدين؟
الجواب
الذهب والفضة يجوز أن يشترى بهما جميع السلع من غير الذهب والفضة، وليس هذا من قبيل الصرف، فالمحذور هو الصرف، ولهذا يجوز شراء السلع بالنقد نسيئة، ويجوز كذلك السلف، وقد جاءت السنة بجوازه، فهو تعجيل الثمن وتأجيل المثمن، وعكسه تعجيل المثمن، وتأجيل الثمن، فهذا جائز أيضاً والناس لا يستغنون عنه، والقضية ليس فيها صرف ولا بيع ربوي بربوي، وهذا يختلف عن بيع شعير ببر وشعير بتمر وما إلى ذلك.(385/43)
حكم تحويل الريالات إلى دولة أخرى ثم تستلم بالدولارات
السؤال
بعض الناس يحول لأهله في الخارج بالريالات ويستلمونها بالدولار، فما الحكم؟
الجواب
جائز؛ لأنه تم الاتفاق على السعر، ثم يوكله أن يوصله إلى المكان الذي يريده في بلد آخر مقابل أجرة على هذا التحويل.(385/44)
شرح سنن أبي داود [386]
الربا من أعظم المحرمات، وهو أبواب كثيرة، وقد حذر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام من التعامل به، وبين أهل العلم صوره وأحكامه؛ حتى يحذر المسلم من التلطخ به، فيجب على من يتعامل بالبيع والشراء أن يعلم هذه الأحكام وإلا وقع في الربا وهو لا يدري.
ومما يدخل في الربا بيع الحيوان بالحيوان نسيئة وبيع الرطب بالتمر إلا أنه رخص في العرايا وذلك فيما دون خمسة أوسق.(386/1)
الحيوان بالحيوان نسيئة(386/2)
شرح حديث (نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الحيوان بالحيوان نسيئة.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة)].
قوله: [باب في الحيوان بالحيوان نسيئة] أي: في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة؛ أن يباع حيوان، فيقبضه المشتري، وتكون القيمة في ذمته حيواناً آخر، ويعطيه إياه فيما بعد، هذا هو المقصود ببيع الحيوان بالحيوان نسيئة.
وقد أورد أبو داود حديث سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه: (أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة)، وهو واضح الدلالة على أن الحيوان لا يباع بالحيوان نسيئة، لكن يجوز بيع الحيوان بالحيوان يداً بيد.
وقد اختلف أهل العلم في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، فمنهم من قال بعدم جوازه لهذا الحديث، ومنهم من قال بجوازه؛ لحديث عبد الله بن عمرو الآتي في الباب التالي، لكن الحديث الثاني في إسناده من هو متكلم فيهم، وهذا الحديث من طريق الحسن عن سمرة، وفي رواية الحسن عن سمرة ثلاثة أقول: قيل: إنه سمع منه مطلقاً، وقيل: لم يسمع منه مطلقاً، وقيل: لم يسمع منه غير حديث العقيقة.
وحديث سمرة يصححه الألباني، ولعله للشواهد التي جاءت في معناه، وعلى هذا فيكون القول بالمنع هو الأولى، والذين قالوا بجواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة قالوا: إن هذا الحديث يحمل على ما إذا كان الحيوانان اللذان بيع أحدهما بالآخر كلاهما غائباً، كما لو باع هذا في ذمته حيواناً، وباع هذا في ذمته حيواناً، من غير تقابض، فصارت النسيئة من الجهتين، وليست من جهة واحدة، فقالوا: يحمل هذا الحديث على ما إذا كانت النسيئة من الجهتين، وليس من جهة واحدة، وأجازوا بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، واستدلوا بحديث عبد الله بن عمرو الذي سيأتي، ولكن فيه عدة أشخاص متكلم فيهم.(386/3)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة بن دينار، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
هو الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سمرة].
هو سمرة بن جندب وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(386/4)
الرخصة في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة(386/5)
شرح حديث عبد الله بن عمرو في الرخصة في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرخصة في ذلك.
حدثنا حفص بن عمر حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مسلم بن جبير عن أبي سفيان عن عمرو بن حريش عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يجهز جيشاً، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة)].
قوله: [باب في الرخصة في ذلك] أي: في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، فالترجمة الماضية تتعلق بالنهي، وهذه تتعلق بالجواز والترخيص.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً فنفدت الإبل) أي: لم يكن هناك إبل تكفي.
قوله: [(فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة)].
معناه: أنه كان يشتري إبلاً ويدفع قيمتها إذا جاء وقت الصدقة، ويكون البعير الذي يأخذه الآن ببعيرين من إبل الصدقة، لكن الحديث فيه عدة رجال متكلم فيهم.(386/6)
تراجم رجال إسناد حديث عبد الله بن عمرو في الرخصة في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق صدوق يدلس، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن، وهنا روى الحديث بالعنعنة.
[عن يزيد بن أبي حبيب].
يزيد بن أبي حبيب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسلم بن جبير].
مسلم بن جبير مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن أبي سفيان].
أبو سفيان مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن عمرو بن حريش].
عمرو بن حريش مجهول الحال، أخرج له أبو داود.
[عن عبد الله بن عمرو].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث فيه راويان مدلسان، وكل منهما روى بالعنعنة، وهما: محمد بن إسحاق ويزيد بن أبي حبيب، وفيه مجهول العين وهو مسلم بن جبير، وفيه راو مقبول وهو أبو سفيان، وفيه عمرو بن حريش وهو مجهول الحال، ففيه عدة أشخاص متكلم فيهم.
وقد ضعفه الشيخ الألباني رحمه الله في سنن أبي داود وحسنه في الإرواء من وجوه أخرى، فإذا صح فيحمل على أن النهي يكون للكراهة، لكن الاحتياط ألا يباع الحيوان بالحيوان نسيئة.(386/7)
بيع الحيوان بالحيوان يداً بيد(386/8)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى عبداً بعبدين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ذلك إذا كان يداً بيد.
حدثنا يزيد بن خالد الهمداني وقتيبة بن سعيد الثقفي أن الليث حدثهم عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترى عبداً بعبدين)].
قوله: [باب في ذلك إذا كان يداً بيد]، أي: أنه يجوز بيع الحيوان بالحيوان إذا كان يداً بيد، ولو كان هناك تفاضل.
وقد أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى عبداً بعبدين) وهذا البيع حاضر وليس نسيئةً، فيجوز بيع العبد بالعبد متماثلين أو متفاضلين كعبد بعبدين.(386/9)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى عبداً بعبدين)
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد الهمداني].
يزيد بن خالد الهمداني ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وقتيبة بن سعيد الثقفي].
قتيبة بن سعيد الثقفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن الليث حدثهم].
هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
هو أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث في صحيح مسلم، وأبو الزبير مدلس وقد عنعن فيه، ولكن ما جاء في الصحيحين عن المدلسين معنعناً فهو محمول على الاتصال؛ لأن الشيخين اشترطا ألا يذكرا إلا ما كان صحيحاً عندهما، ثم إن الراوي عن أبي الزبير هنا هو الليث، وقد ميز له ما سمعه من جابر.(386/10)
بيع التمر بالتمر(386/11)
شرح حديث (أينقص الرطب إذا يبس؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الثمر بالتمر.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الله بن يزيد أن زيداً أبا عياش أخبره أنه سأل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن البيضاء بالسلت، فقال له سعد: أيهما أفضل؟ قال: البيضاء، فنهاه عن ذلك وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأل عن شراء التمر بالرطب، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك)].
قوله: [باب في الثمر بالتمر]، الثمر هو الرطب، والتمر: هو الذي قد نشف ويبس، ومعلوم أن الرطب بعد ما يمضي عليه وقت ييبس ويكون تمراً؛ ولهذا جاء في الحديث إن الإفطار يكون على رطبات، فإن لم يجد فعلى تمرات، فالرطب شيء والتمر شيء، الرطب طري جديد، والتمر قديم قد مضى عليه وقت.
والترجمة هي: الثمر بالتمر، وليست التمر بالتمر؛ لأن الحديث الذي أورده فيه رطب بتمر، ولا يجوز أن يباع التمر بالرطب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن العلة هي عدم التماثل بقوله: (أينقص الرطب إذا جف؟) قال ذلك ليلفت أنظارهم إلى العلة، فقالوا: نعم، فنهاهم عن بيع الرطب بالتمر.
قوله: [أن زيداً أبا عياش سأل سعداً عن البيضاء بالسلت، فقال له سعد: أيهما أفضل؟ قال: البيضاء، فنهاه عن ذلك].
فسرت البيضاء بتفسيرين: أحدهما: أن المقصود بها نوع من البر أبيض اللون وفيه رخاوة، ورطوبة، أو نداوة، وليس يابساً، والسلت نوع آخر غير البر، وهذا لا يناسب الترجمة، ولا يناسب ما جاء في الحديث؛ لأن الذي جاء في الحديث أنهما من جنس واحد إلا أن أحدهما رطب والآخر يابس، هذا جديد وهذا قديم، فيكون معنى هذا أن البيضاء بالسلت جنس واحد، ولكنهما مختلفان في الرطوبة واليبوسة.
التفسير الثاني: أن البيضاء نوع من السلت، وكلاهما من الحبوب، وهذا هو الذي يناسب ذكر الرطب بالتمر الذي استدل به سعد رضي الله عنه، وأنه ليس جنساً آخر؛ لأنه لو كان جنساً آخر لجاز التفاضل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، فيجوز التفاضل حينئذ، ولا يمنع إلا إذا كانا من جنس واحد، كأن يباع بر رطب قبل أن ييبس ببر يابس، فهذا لا يصح، ورطب بتمر لا يصح، وعنب بزبيب لا يصح؛ لأن الجنس واحد، ويختلف كل عن الآخر في طراوته ويبوسته، والنبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى العلة في ذلك، وهي عدم التماثل؛ لأن الرطب إذا يبس فإنه ينقص، فلو بيع صاع من الرطب بصاع من التمر، ثم ترك الرطب حتى ييبس، فإنه يكون أقل من صاع، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى العلة بسؤالهم ليبين لهم أن العلة في عدم جواز ذلك أنه ينقص.
قوله: [فنهاه عن ذلك وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن شراء التمر بالرطب].
نهاه عن ذلك لأن هذا مثل بيع التمر بالرطب، وهذا من جنسه، إلا أنه بيع حبوب بحبوب من جنس واحد، إلا أن هذا رطب وهذا يابس.
قوله: [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك)].
سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا هو سؤال تقرير، وليس سؤال استفهام واستعلام، فإنه كان يعرف أن الرطب ينقص إذا جف ويبس، ولكن أراد أن يوقفهم على العلة والحكمة في ذلك، فقال: (أينقص الرطب إذا جف؟ فقالوا: نعم) إذاً: فما دمتم تعرفون أنه ينقص إذا جف، فليس بينهما تماثل، ومن شرط بيع التمر بالتمر أن يكونا مثلاً بمثل يداً بيد.(386/12)
تراجم رجال إسناد حديث (أينقص الرطب إذا يبس؟)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن يزيد].
عبد الله بن يزيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن زيداً أبا عياش].
هو زيد بن عياش أبو عياش، وهو صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
فكنيته أبو عياش، وأبوه اسمه عياش، ومن أنواع علوم الحديث: معرفة من وافقت كنيته اسم أبيه، وفائدة معرفة هذا النوع ألا يظن التصحيف، فالذي يعرف أنه زيد أبو عياش ولا يعرف أنه ابن عياش، يظن أن (أبو) تصحفت إلى (ابن)، والذي يعرف أنه زيد بن عياش، ولا يعرف أن كنيته أبو عياش، يظن أن (ابن) تصحفت إلى (أبو)، وإذا عرف أن الراوي كنيته مطابقة لاسم أبيه، فلن يكون هناك لبس، ولن يظن التصحيف، ومثله الأوزاعي واسمه عبد الرحمن بن عمرو، وكنيته أبو عمرو، ومثله هناد بن السري أبو السري، فهؤلاء وافقت كناهم أسماء آبائهم.
[عن سعد بن أبي وقاص].
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: رواه إسماعيل بن أمية نحو مالك].
يعني: من طريق أخرى.
وإسماعيل بن أمية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(386/13)
شرح حديث (نهى رسول الله عن بيع الرطب بالتمر نسيئة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة حدثنا معاوية -يعني ابن سلام - عن يحيى بن أبي كثير أخبرنا عبد الله أن أبا عياش أخبره أنه سمع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقول: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الرطب بالتمر نسيئة)].
أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الرطب بالتمر نسيئة) وهذا مثل الذي قبله، إلا أن فيه ذكر النسيئة، وذكر النسيئة خطأ فقد؛ جاء عن سعد من عدة طرق بدون ذكر النسيئة، وهو الذي مر في الرواية السابقة أيضاً.
إذاً: ذكر النسيئة خطأ، وقد يفهم منها جواز غير النسيئة، ولكن المنع هو في النسيئة وغير النسيئة، فيمنع بيع الرطب بالتمر حالاً متفاضلاً، ومن باب أولى نسيئة، فالمحفوظ في الحديث هو بيع الرطب بالتمر بدون ذكر النسيئة، وذكر النسيئة رواية شاذة.(386/14)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى رسول الله عن بيع الرطب بالتمر نسيئة)
قوله: [حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة].
هو الربيع بن نافع أبو توبة الحلبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي هو الذي اشتهرت عنه الكلمة التي قال فيها: إن معاوية رضي الله عنه ستر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فمن اجترأ على الستر اجترأ على ما وراءه، يعني: من سهل عليه أن يتكلم في معاوية سهل عليه أن يتكلم في غير معاوية، والسيئة تجر إلى السيئة، والزيغ يجر إلى الزيغ، والله تعالى يقول: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5].
ومن العقوبة على السيئة السيئة بعدها، كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، فمن ثواب الحسنة أن يوفق الإنسان إلى حسنة بعدها، ومن العقوبة على السيئة أن يبتلى بسيئة بعدها.
فمن سمح لنفسه أن يتكلم في معاوية وأن يعيبه أو ينتقده فإنه يسهل عليه أن ينتقل إلى من وراء معاوية رضي الله عن الصحابة أجمعين.
[حدثنا معاوية يعني ابن سلام].
معاوية بن سلام ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن أبي كثير].
هو يحيى بن أبي كثير اليمامي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا عبد الله].
هو عبد الله بن يزيد، وقد مر ذكره.
[أن أبا عياش أخبره أنه سمع سعد بن أبي وقاص].
مر ذكرهما.
وقد تفرد يحيى بن أبي كثير اليمامي بكلمة (نسيئة)، وغيره من الثقات رووه بدون كلمة (نسيئة)، كالإمام مالك وإسماعيل بن أمية، والضحاك بن عثمان، فهؤلاء رووا النهي عن بيع الرطب بالتمر مطلقاً بدون أن يقيد بنسيئة.(386/15)
طريق أخرى لحديث (نهى عن بيع الرطب بالتمر نسيئة) وتراجم رجال إسنادها
[قال أبو داود: رواه عمران بن أبي أنس عن مولى لبني مخزوم عن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه].
عمران بن أبي أنس ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن مولى لبني مخزوم عن سعد].
سعد رضي الله عنه مر ذكره.
قال أبو الحسن الدارقطني: خالفه مالك وإسماعيل بن أمية والضحاك بن عثمان وأسامة بن زيد رووه عن عبد الله بن يزيد ولم يقولوا فيه: نسيئة، واجتماع هؤلاء الأربعة على خلاف ما رواه يحيى بن أبي كثير يدل على ضبطهم للحديث.(386/16)
المزابنة(386/17)
شرح حديث (نهى عن بيع الثمر بالتمر كيلاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المزابنة.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن أبي زائدة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر كيلاً، وعن بيع العنب بالزبيب كيلاً، وعن بيع الزرع بالحنطة كيلاً)].
قوله: [باب في المزابنة]، المزابنة هي بيع الثمر على رءوس النخل بتمر، ومثله بيع البر بالحب الذي في السنابل، وهذا غير جائز، ونهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن فيه الجهل بالتساوي، وقد مر بنا أن بيع التمر بالرطب لا يجوز؛ لأنه ينقص إذا يبس، فهما غير متماثلين، فالتمر الذي على رءوس النخل الجهالة فيه أكثر؛ لأنه يباع بالخرص، والتمر معروف مقداره؛ لأنه يكال، فإذا كان لا يجوز بيع الرطب بالتمر كيلاً وليس على رءوس النخل، مع تحقق المماثلة من ناحية المقدار، لكون المحذور من أجل أنه ينقص إذا يبس؛ فمن باب أولى لا يجوز بيع التمر الذي على النخل بالتمر، إلا أنه سيأتي استثناء العرايا من المزابنة، وهي أن يباع ما على رءوس النخل خرصاً بتمر يدفع في مقابله حتى يستفيد الناس من الثمر، ويلقطونه شيئاً فشيئاً، ويستفيدون منه، وقد جاء الترخيص في حدود مقدار معين كما سيأتي ذكره في الأحاديث الآتية.
وعلى هذا فبيع الثمر بالتمر لا يجوز سواءً كيل وعرفت مساواته؛ لأنه ينقص إذا يبس، وسواء كان على رءوس النخل وعرف مقداره بالخرص وكيل التمر؛ كل ذلك لا يجوز، ولا يستثنى من ذلك إلا العرايا التي سيأتي لها أبواب تخصها.
قوله: [عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر كيلاً)].
يعني: بيع الرطب بالتمر كيلاً لا يجوز؛ لأن الثمر ينقص، لكن التمر بالتمر يجوز بشرط التماثل والتقابض.
ولو خرص الثمر بقدر التمر، بحيث لو جف الثمر صار بقدر التمر، فلا يجوز؛ لأن القاعدة المشهورة: الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل.
قوله: [(وعن بيع العنب بالزبيب كيلاً)].
لأن العنب إذا يبس ينقص مقداره، فلا يجوز بيع صاع من هذا بصاع من هذا.
قوله: [(وعن بيع الزرع بالحنطة كيلاً)].
يعني: سواء كان على السنابل أو أخذ من السنابل ولا يزال فيه رطوبة، فهذا أيضاً منهي عنه.(386/18)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى عن بيع الثمر بالتمر كيلاً)
قوله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة].
هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا ابن أبي زائدة].
هو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(386/19)
بيع العرايا(386/20)
شرح حديث (رخص في بيع العرايا بالتمر والرطب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في بيع العرايا.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص في بيع العرايا بالتمر والرطب)].
قوله: [باب في بيع العرايا].
لما ذكر المصنف المزابنة التي فيها المنع من بيع الثمر بالتمر ذكر بيع العرايا التي هي مستثناة من المزابنة، فلو أن جماعة عندهم تمر، وجاء وقت الثمر وليس عندهم نقود يشترون بها الثمر، وأرادوا أن يخرصوا نخلات معينة بمقدارها إذا يبست مقابل التمر الذي سيدفع من أجل أن يجنوا هذا الثمر شيئاً فشيئاً، ويستفيدوا من الرطب في وقت نضوجه، ويأكلوه شيئاً فشيئاً، فجاء الترخيص بقدر خمسة أوسق.
إذاً: المزابنة لا تجوز مطلقاً، ورخص منها في العرايا في مقدار معين، وليس للإنسان أن يزيد في بيع العرايا عن المقدار الذي جاء في الحديث، وهو ما دون خمسة أوسق، فالترخيص للحاجة، ولا يتوسع فيه فيشتري العرايا كيف شاء؛ لأن الاستثناء جاء فيما دون الخمسة أوسق أو الخمسة شك الراوي، ولكن جاء في حديث آخر أنه في حدود أربعة أوسق، فدل هذا على أن العرايا مستثناة من المنع، وأنه رخص لمن يريد أن يستفيد من الرطب في حينه على رءوس النخل، فيجنيه مدة الاستفادة منه كل يوم، لكن يكون بمقدار معين للحاجة.
والعرايا خاصة بالرطب والتمر، فلا يدخل فيها غيرهما.(386/21)
تراجم رجال إسناد حديث (رخص في بيع العرايا بالتمر والرطب)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني خارجة بن زيد].
خارجة بن زيد ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو زيد بن ثابت رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(386/22)
شرح حديث (نهى عن بيع الثمر بالتمر ورخص في العرايا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر، ورخص في العرايا أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطباً)].
أورد المصنف حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر) يعني مطلقاً، سواء كان على رءوس النخل أو في الأرض؛ لأنه ينقص إذا جف.
(ورخص في العرايا) استثناءً من هذا المنع.
قوله: [(أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطباً)].
يعني: حينما يكون الرطب في رءوس النخل فيخرص، ويؤخذ مقابل هذا المقدار الذي خرص تمر يدفعه الذين يريدون أن يستفيدوا من الرطب في الأكل لا في التجارة.
والخرص: هو حزر وتخمين وتوقع أن ما على هذا النخل سيكون كذا، وهو غير مقطوع به.
والوزن مثل الكيل، ولكن الأصل في التمر أنه يكال، ولا فرق في الحكم إذا وزن؛ لأن التماثل في الوزن مفقود؛ لأنه سيحصل فرق إذا يبس الرطب، فلا يجوز بيع الرطب بالتمر كيلاً أو وزناً؛ لأن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل.(386/23)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى عن بيع الثمر بالتمر ورخص في العرايا)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا ابن عيينة].
هو سفيان بن عيينة المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بشير بن يسار].
بشير بن يسار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهل بن أبي حثمة].
سهل بن أبي حثمة صحابي رضي الله عنه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(386/24)
مقدار العرية(386/25)
شرح حديث (رخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق)
قال المصنف رحمه الله تعالى.
[باب في مقدار العرية.
حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن داود بن الحصين عن مولى ابن أبي أحمد -قال أبو داود: وقال لنا القعنبي فيما قرأ على مالك عن أبي سفيان: واسمه قزمان مولى ابن أبي أحمد - عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق) شك داود بن الحصين.
قال أبو داود: حديث جابر إلى أربعة أوسق].
قوله: [مقدار العرية] معناه: أن الترخيص الذي حصل في الباب السابق ليس على إطلاقه، وأن من يريد أن يشتري ثمراً على رءوس النخل بتمر يقدمه لأصحاب الثمر، هو في حدود معينة؛ لأن هذا الترخيص إنما هو للاستفادة للأكل.
قوله: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق)].
أي: أنه ينقص عن خمسة أوسق، وأحد الرواة شك هل هو خمسة أوسق أو أقل من خمسة أوسق، وحديث جابر فيه أربعة أوسق، فيكون المعتبر ما كان أقل من الخمسة، فما زاد عن الخمسة متفق على عدم جوازه، وما كان بقدر خمسة أوسق من العلماء من قال بجوازه، ومنهم من قال بعدم جوازه، وما دون الخمسة أوسق جائز بلا خلاف، فالأحوط أن ينقص عن الخمسة؛ لأن التحديد بالخمسة مشكوك فيه، فيصار إلى اليقين الذي هو دون الخمسة، وقد جاء حديث جابر وفيه أنه أربعة أوسق.
ولو أن رجلاً اشترى بأربعة أوسق من التمر رطباً، ثم أكلها وأهله، فلا يجوز لهم أن يشتروا مرة أخرى؛ لأن الرخصة جاءت فيما دون خمسة أوسق فقط مرة واحدة.
والوسق ستون صاعاً، فيكون مقدار الخمسة الأوسق بالصاع الموجود في زمنه صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة صاع، والآن يقدر الصاع بثلاثة كيلو، وعليه فمقدار زكاة الفطر ثلاثة كيلو.
ومعلوم أن الصاع يتفاوت من مكان إلى مكان، والصاع الذي تتعلق به الأحكام ليس أي صاع يضعه الناس، فقد يضعون صاعاً صغيراً وقد يضعون صاعاً كبيراً، فالأحكام الشرعية تتعلق بصاع رسول الله عليه الصلاة والسلام.(386/26)
تراجم رجال إسناد حديث (رخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن داود بن الحصين].
داود بن الحصين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مولى ابن أبي أحمد].
هو أبو سفيان، قيل: اسمه وهب، وقيل: قزمان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر أصحابه حديثاً.(386/27)
تفسير العرايا(386/28)
شرح أثر عبد ربه الأنصاري في تفسير العرايا
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب تفسير العرايا.
حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني حدثنا ابن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث عن عبد ربه بن سعيد الأنصاري أنه قال: العرية الرجل يعري الرجل النخلة، أو الرجل يستثني من ماله النخلة أو الاثنتين يأكلها فيبيعها بتمر].
هذا تفسير من عبد ربه بن سعيد الأنصاري، وهو أخو يحيى بن سعيد الذي مر ذكره قريباً، قال: العرية أن يعري الرجل النخلة أو يستثني من ماله النخلة أو النخلتين يأكلها فيبيعها بتمر، يعني: أنه يبيع بستانه، ويستثني منه بعض النخلات، ثم إنه يبيعها بتمر والرطب على رءوسها، وهذا تفسير ضيق؛ لأنه قال: نخلة أو نخلتين، مع أن الأمر أوسع من هذا، فيجوز أن يباع للشخص الواحد ما دون خمسة أوسق.(386/29)
تراجم رجال إسناد أثر عبد ربه الأنصاري في تفسير العرايا
قوله: [حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني].
أحمد بن سعيد الهمداني صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا ابن وهب].
ابن وهب مر ذكره.
[أخبرنا عمرو بن الحارث].
هو عمرو بن الحارث المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد ربه بن سعيد الأنصاري].
هو أخو يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(386/30)
شرح أثر محمد بن إسحاق في تفسير العرايا
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري عن عبدة عن ابن إسحاق قال: العرايا أن يهب الرجل للرجل النخلات فيشق عليه أن يقوم عليها فيبيعها بمثل خرصها].
هذا تفسير من ابن إسحاق للعرايا، قال: العرايا أن يهب الرجل للرجل النخلات، فيشق عليه أن يقوم عليها، فيبيعها بمثل خرصها، وهذا تفسير آخر يختلف عن الذي تقدم، إلا أنه يشبهه من ناحية أن الذي اشترى بالتمر هو صاحب البستان، اشترى من الشخص الذي أعراه وأعطاه، ولكن التفسير الأوضح هو الذي الذي جاء ذكره في الأحاديث السابقة.
وقال بعض العلماء: العرايا أن يتضرر صاحب البستان بدخول هذا الذي أعطاه عليه دائماً، فيريد أن يتخلص من دخوله وكثرة تردده؛ لأن في ذلك مشقة عليه، فيتخلص منه بأن يشتري ما منحه إياه خرصاً، ويعطيه ما يقابله تمراً، وهذا فيه شراء الصدقة، فيكون مستثنى من النهي عن شراء الصدقة، لكن الذي يظهر أن العرايا استثناء من بيع الثمر على رءوس النخل بتمر كما جاءت الإشارة إليه في الأحاديث السابقة.(386/31)
تراجم رجال إسناد أثر محمد بن إسحاق في تفسير العرايا
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هو هناد بن السري أبو السري، وهو ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبدة].
هو عبدة بن سليمان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.(386/32)
الأسئلة(386/33)
حكم أخذ عربون في شراء الذهب
السؤال
شخص رغب في شراء ذهب معين، ولم يتوافر لديه قيمة هذا الذهب، فأشار إليه البائع أن يأخذ منه عربوناً حتى يحفظ له الذهب حتى تكتمل معه القيمة، فما الحكم؟
الجواب
لا يجوز هذا أبداً، لا يجوز أن يشتري ذهباً ولم يسلم القيمة كاملة، وكونه أعطاه بعض القيمة، أو كانت القيمة كلها مؤجلة فالنتيجة واحدة، فالعربون هو جزء من القيمة، وليس شيئاً خارجاً عن القيمة.(386/34)
حكم شراء الذهب مع بقاء شيء من المبلغ عند صاحب الذهب
السؤال
اشترى رجل ذهباً بخمسين ريالاً، وأعطى البائع مائة، وقال له: رد علي الباقي، فقال البائع: ليس عندي الآن، ولكن تعال غداً، فما الحكم؟
الجواب
لا يصلح هذا، ولو كانت السلعة غير الذهب والفضة لجاز، لكن إن كانت ذهباً أو فضة فلا يجوز أن يفترقا وبينهما شيء، فلابد من التقابض.(386/35)
حكم صرف عشرة ريالات ورقية بتسعة ريالات معدنية
السؤال
ما حكم صرف عشرة ريالات ورقية بتسعة ريالات معدنية؟
الجواب
ينبغي ألا يفعل ذلك، وإن كان بعض أهل العلم في هذا الزمان يجوزونه، لكن: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).(386/36)
شرح سنن أبي داود [387]
جاء الإسلام بكل ما يدعو إلى الألفة، وحرم كل ما هو سبب للفرقة والبغضاء؛ ولذلك جعل الإسلام للمعاملات المالية أحكاماً حكيمة رحيمة، وسد بهذه الأحكام كل طرق الخصام والبغضاء، فنهى عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، ونهى عن بيع السنين، ونهى عن بيع الغرر.(387/1)
بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها(387/2)
شرح حديث (نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله: باب في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، وحكمه أنه غير جائز، وقد جاءت الأحاديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال: (نهى رسول الله عليه الصلاة والسلام عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها نهى البائع والمشتري) وذلك لأن بيعها قبل أن يبدو صلاحها عرضة لأن يحصل فيها أضرار أو أخطار، ولا تحصل من ورائها الاستفادة.
ويشرع بيعها عندما تبدأ الاستفادة منها، وذلك بأن يطيب أكلها، ويحصل احمرارها واصفرارها، وأما قبل بدو صلاحها فلا يجوز بيعها، إلا إذا كان البيع قبل بدو الصلاح فيه مصلحة، كأن يؤكل على تلك الحال، أو يقطع ويستفاد منه، فلا بأس بهذا؛ لأن المقصود من المنع كونه يشتريه ويتركه على رءوس النخل، ويأكله شيئاً فشيئاً، فهذا لا يجوز إلا بعد بدو الصلاح.(387/3)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
عبد الله بن مسلمة القعنبي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس، الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الإسناد رباعي من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(387/4)
شرح حديث (نهى عن بيع النخل حتى يزهو)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا ابن علية عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله إلا أن فيه بيان أن الوقت الذي يجوز بيع الثمر فيه أن يزهو، والزهو هو الطيب، يعني حتى يطيب أكله حين يحمر أو يصفر وفيه أيضاً زيادة أنه نهى عن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة، يعني: إذا استوى وهو في سنبله يجوز بيعه؛ لأنه عند ذلك يكون قد طاب، وجاء وقت الاستفادة منه.
قوله: [(نهى البائع والمشتري)].
يعني أن النهي لكل منهما، فالإثم يكون على الجميع إذا خولف النهي؛ لأنهم قد نهوا جميعاً، ونهي البائع من أجل ألا يكون عرضة إلى أن يأكل مال أخيه بالباطل؛ لأنه إذا باعه قبل أن يبدو صلاحه، وحصل في الثمر مضرة، فيكون قد أكل ماله بالباطل، وأيضاً نهى المشتري لئلا يضيع ماله.
وأحياناً يؤخذ التمر من النخل، ثم يدفن حتى يستوي، ثم يخرج فيباع، وهذا فيه تدليس على الناس، وشراؤه قبل أن يبدو صلاحه لا يجوز إلا بشرط القطع، فإذا قطع يؤتى به كما هو، وأما كونه يدفن ويحصل بسبب دفنه أنه يتغير، ثم يؤتى به على أنه زهو، فهذا فيه تدليس.(387/5)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى عن بيع النخل حتى يزهو)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي، ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا ابن علية].
هو إسماعيل بن إبراهيم بن علية، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب].
أيوب بن أبي تميمة السختياني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن ابن عمر].
مر ذكرهما.(387/6)
شرح حديث (نهى عن بيع الغنائم حتى تقسم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة عن يزيد بن خمير عن مولى لقريش عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن بيع الغنائم حتى تقسم، وعن بيع النخل حتى تحرز من كل عارض، وأن يصلي الرجل بغير حزام)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغنائم حتى تقسم)؛ لأن الغنائم قبل قسمتها حق مشاع، وليس نصيب كل مقاتل متميزاً؛ لأن كل قطعة من الغنائم يشتركون فيها كلهم، فإذا قسمت عرف كل نصيبه فتصرف فيه، فمن باع قبل أن يعرف نصيبه فمعناه أنه يبيع شيئاً لم يكن ملكه له خالصاً، بل هو مشترك، مثل الذي له أرض بينه وبين شخص آخر، فلا يجوز له أن يبيعها؛ لأنه لا يملكها كلها، وإنما حقه مشاع فيها، ولم يتميز، وإذا ميز حقه، وأخذ كل واحد نصيبه، فله أن يتصرف في ملكه كيف يشاء.
والغنائم هي التي تحصل في الجهاد في سبيل الله، وقسمتها في الخمس المصارف التي ذكرها الله، فأربعة أخماسها تكون للغانمين، وليس لأحد منهم أن يتصرف في شيء منها حتى يعرف حقه فيتصرف فيه.
قوله: [(وعن بيع النخل حتى تحرز من كل عارض)].
إذا كان المقصود به بدو الصلاح فقط، فقد جاء ما يدل عليه في الأحاديث السابقة.
قوله: [(وأن يصلي الرجل بغير حزام)] لعل المراد أن يجعل حزاماً على الإزار، ولكن إذا أحكم شد الإزار وأمن سقوطه فإنه يحصل به المقصود وإن لم يكن عليه حزام.(387/7)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى عن بيع الغنائم حتى تقسم)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر النمري].
حفص بن عمر النمري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[عن شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن خمير].
يزيد بن خمير وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن مولى لقريش].
وهو مبهم.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر أصحابة حديثاً.
والحديث فيه هذا الرجل المبهم، وهو علة الحديث، وبه يكون الحديث غير صحيح.(387/8)
شرح حديث (نهى أن تباع الثمرة حتى تفتح)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر محمد بن خلاد الباهلي حدثنا يحيى بن سعيد عن سليم بن حيان قال: أخبرنا سعيد بن مينا قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تباع الثمرة حتى تفتح، قيل: وما تفتح؟ قال: تحمار وتصفار ويؤكل منها)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه، وفيه توضيح بدو الصلاح، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع الثمرة حتى تفتح، قيل: وما تفتح؟ قال: تحمار وتصفار) يعني: تحصل حمرتها وصفرتها ويطيب أكلها، فعلامة حسن مأكلها وطيبها كونها تحمر وتصفر، والمراد ثمر النخل فإنه يكون أصفر وأحمر.
قوله: [(ويؤكل منها)].
يعني: يطيب أكلها.(387/9)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى أن تباع الثمرة حتى تفتح)
قوله: [حدثنا أبو بكر محمد بن خلاد الباهلي].
ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة، وهو عم أبي عمرو محمد بن خلاد الباهلي.
[حدثنا يحيى بن سعيد].
يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليم بن حيان].
سليم بن حيان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وسليم ليس في رجال الكتب الستة من يقال له: سليم بفتح السين إلا هو، ومن سواه يقال له: سُليم، وهم كثيرون.
[أخبرنا سعيد بن مينا].
سعيد بن مينا ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(387/10)
شرح حديث (نهى عن بيع العنب حتى يسود)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا أبو الوليد عن حماد بن سلمة عن حميد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد)].
أورد أبو داود حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع العنب حتى يسود) يعني: حتى يطيب ويتغير لونه إلى السواد إذا كان يتغير بالاسوداد، وأما إذا كان يتغير بدون اسوداد كما هو الحال في بعض العنب فالمقصود أن يطيب أكله، وإذا كان يستفاد منه قبل طيب الأكل، وهو أن يؤكل حصرماً، فيجوز بيعه قبل أن ينضج، ولا يترك على الشجر، وإنما يقطع ويستفاد منه بالأكل أو البيع.
وإذا حصل البيع قبل بدو الصلاح بدون شرط القطع فالبيع فاسد، فيرجع للمشتري نقوده حتى وإن تلف الثمر أو الزرع، لأن البيع لم ينعقد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك مطلقاً سواء كان بشرط أو بدون شرط.
قوله: [(وعن بيع الحب حتى يشتد)].
يعني: يشتد في سنبله، بمعنى أنه يستوي وتؤمن عاهاته مثل ما مر في الحديث السابق: (حتى يبيض).(387/11)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى عن بيع العنب حتى يسود)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا أبو الوليد].
هو هشام بن عبد الملك الطيالسي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حماد بن سلمة].
حماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن حميد].
حميد بن أبي حميد الطويل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(387/12)
شرح حديث (لا تبتاعوا الثمرة حتى يبدو صلاحها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة بن خالد حدثني يونس سألت أبا الزناد عن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه وما ذكر في ذلك، فقال: كان عروة بن الزبير يحدث عن سهل بن أبي حثمة عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: (كان الناس يتبايعون الثمار قبل أن يبدو صلاحها، فإذا جذ الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع: قد أصاب الثمر الدمانة وأصابه قشام وأصابها مراض -عاهات يحتجون بها- فلما كثرت خصومتهم عند النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كالمشورة يشير بها: فإما لا فلا تتبايعوا الثمرة حتى يبدو صلاحها.
لكثرة خصومتهم واختلافهم)].
أورد أبو داود حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وفيه بيان السبب في تحريم بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وهو أنهم كانوا يشترونها قبل أن تزهو من أجل أن يبقوها حتى تزهو ويستفيدوا منها، فيحصل لها أمراض قبل بدو صلاحها، فعندما يأتون للتقاضي والاستيفاء يقول المشتري: حصل لها كذا، وحصل لها كذا، وحصل لها كذا، فكثرت خصوماتهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك البيع ما دام يؤدي إلى هذه الخصومات، فلا يجوز البيع إلا بعد بدو الصلاح.
قوله: [(فإذا جذ الناس وحضر تقاضيهم، قال المبتاع: قد أصاب الثمر الدمان)].
يعني: إذا جاء صاحب الحق يطالب بحقه فالمشتري -وهو المبتاع- يبدأ يتعلل ويقول: حصل كذا، وحصل كذا، وأريد أن تسقط عني كذا، أو أنت لا تستحق كذا وكذا، فكثرت الخصومات، فعند ذلك نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار قبل بدو الصلاح.
والدمان والقشام والمراض هي أنواع من الأمراض.
قوله: [(عاهات يحتجون بها)].
هذا يرجع لهذه الثلاثة الأمراض، وكذلك لغيرها من العاهات.
يحتجون بها أي: يتعللون بها من أجل أن يطرح لهم شيء من القيمة.
قوله: [(فلما كثرت خصوماتهم عند النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كالمشورة يشير بها)].
يعني: يشير عليهم؛ لأن هذا البيع يترتب عليه هذه الخصومات والأضرار.
قوله: [(فإما لا فلا تتبايعوا الثمرة حتى يبدو صلاحها).
يعني: ما دام الأمر كذلك، وهو حصول الخصومات والتنازع فلا تبيعوا الثمار حتى يحصل بدو الصلاح، وبذلك تسلمون من هذه الخصومات والمنازعات.
والأصل في النهي أنه للتحريم، وذلك لما يترتب على هذا البيع من الخلاف والتنازع.(387/13)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تتبايعوا الثمرة حتى يبدو صلاحها)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عنبسة بن خالد].
عنبسة بن خالد صدوق، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثني يونس].
يونس بن يزيد الأيلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزناد].
هو عبد الله بن ذكوان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهل بن أبي حثمة].
سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن ثابت].
زيد بن ثابت رضي الله عنه وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(387/14)
شرح حديث (نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه ولا يباع إلا بالدينار والدرهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني حدثنا سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، ولا يباع إلا بالدينار أو بالدرهم إلا العرايا)].
أورد أبو داود حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه)، وهذا قد تقدم.
قال: (ولا يباع إلا بالدينار والدرهم) يعني: أنه لا يباع بتمر من جنسه، لأن هذا هو المزابنة التي مر النهي عنها، ثم قال: (إلا العرايا) فهي مستثناة، فيجوز أن يباع ما في رءوس النخل بتمر يدفع مقدماً عند الاتفاق لمالك النخل، والذين اشتروا النخلات يستفيدون منها شيئاً فشيئاً، وتجوز العرايا في حدود أقل من خمسة أوسق كما مر.
والأصل في المزابنة أنها لا تجوز، ولا يباع الجنس بجنسه فيها إلا العرايا، وأما لو بيع بغير الدراهم والدنانير كأن يقول مثلاً: بعني هذا الحائط بسيارة، فلا بأس؛ لأن السيارة ليست من جنسه، فلا يدخلهما الربا، لكن إذا باعه من جنسه يدخله الربا.(387/15)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه ولا يباع إلا بالدينار والدرهم)
قوله: [حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني].
إسحاق بن إسماعيل الطالقاني ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا سفيان].
سفيان بن عيينة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
عبد الملك بن جريج المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء].
عطاء بن أبي رباح المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر رضي الله عنه مر ذكره.
وفي هذا الإسناد ثلاثة من الرجال مكيون، وهم: سفيان بن عيينة وابن جريج وعطاء بن أبي رباح.(387/16)