تراجم رجال إسناد حديث الاستجنان بالإمام في العهود
قوله: [حدثنا محمد بن الصباح البزاز محمد بن الصباح البزاز ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد].
عبد الرحمن بن أبي الزناد صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن أبي الزناد].
أبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان المدني، يكنى بابنه عبد الرحمن هذا الذي يروي عنه، ولقبه أبو الزناد، وهو لقب على صيغة الكنية، وعبد الله بن ذكوان المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعرج].
هو عبد الرحمن بن هرمز المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق، رضي الله عنه وأرضاه.(326/7)
شرح حديث أبي رافع في الوفاء بالعهد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو عن بكير بن الأشج عن الحسن بن علي بن أبي رافع أن أبا رافع أخبره قال: (بعثتني قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألقي في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله! إني والله لا أرجع إليهم أبدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ولكن ارجع، فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع، قال فذهبت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسلمت) قال بكير: وأخبرني أن أبا رافع كان قبطياً.
قال أبو داود: هذا كان في ذلك الزمان، فأما اليوم فلا يصلح].
أورد أبو داود حديث أبي رافع رضي الله تعالى عنه أنه أرسله المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورآه أدخل الله في قلبه الإسلام بمجرد أن رأى النبي عليه الصلاة والسلام.
قوله: [(إني لا أحبس البرد)] البرد هو: الرسول الذي يأتي بالرسالة.
قوله: [(ولكن ارجع، فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع)] يعني: تعال من هناك، أما أن تأتي وأنت رسول ثم تبقى، فهذا لا يصلح، بل عليك أن ترجع إلى من أرسلوك، وإذا وصلت إليهم وانتهت مهمة الرسالة، وصار الأمر إليك، فإذا أردت أن ترجع فارجع من هناك مسلماً، فلما وصل إليهم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم.
قوله: [(إني لا أخيس بالعهد)] أي: لا أفسد العهد، ولا أنقض العهد، وإنما أبقى عليه.
قوله: [(ولا أحبس البرد)] أي الرسول الذي يأتي بالبريد، ويأتي بالرسائل.
وقد ذكر الشارح في عون المعبود أن المجد بن تيمية قال: إن هذا كان في زمن الهدنة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفار قريش، وهذا في الحقيقة لا يستقيم؛ لأن مقتضى هذا أنه يرده كما رد أبا بصير، ولكن يحتمل أن يكون هذا في غير زمن الهدنة، وأن يكون قبلها أو بعدها.
وأيضاً فقد يكون المقصود بالعقد والاتفاق من كان منهم، أما إذا كان قبطياً ليس من قريش وليس من العرب فلا يدخل تحت عهد الحديبية، فيستقيم كلام أبي داود حيث جاء بالحديث يشير به إلى أن هذا كان وقت صلح الحديبية، ثم ذكر ذلك في آخر الحديث حيث قال: هذا كان في ذلك الزمان، فأما اليوم فلا يصلح.
قوله: [هذا كان في ذلك الزمان، فأما اليوم فلا يصلح].
فسر بتفسيرين: الأول: أن يكون القول بأنه كان قبطياً لا يصلح الآن، وهذا ليس بشيء.
والتفسير الثاني: أن المقصود به كونه في زمن الهدنة، وأن مقتضى الشرط أن من جاء يرد، ومن ذهب من المسلمين فإنه لا يرد، وهذا أيضاً كما أشرت غير واضح من جهة أن مقتضى الشرط يقتضي رده حتى ولو جاء من هناك من غير أن يكون رسولاً، لكن إذا قيل: إن المقصود بقوله: (من جاء منهم) كفار قريش والعرب فهو يرد، أما إذا كان ليس منهم وهو مثل هذا القبطي فلا؛ فيكون له وجه.(326/8)
تراجم رجال إسناد حديث أبي رافع في الوفاء بالعهد
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عبد الله بن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عمرو].
هو عمرو بن الحارث المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بكير بن الأشج].
هو بكير بن عبد الله بن الأشج المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن بن علي بن أبي رافع].
الحسن بن علي بن أبي رافع ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أن أبا رافع أخبره].
أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(326/9)
الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه(326/10)
شرح حديث سير الإمام إلى العدو في مدة العهد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه.
حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة عن أبي الفيض عن سليم بن عامر رجل من حمير قال: كان بين معاوية وبين الروم عهد وكان يسير نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو برذون، وهو يقول: الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدر، فنظروا فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء) فرجع معاوية].
أورد أبو داود باباً في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه، أي: إلى العدو قبل انقضاء العهد.
أورد أبو داود حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه الذي قال فيه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها، حتى ينقضي أمدها)].
ومعنى ذلك: أنه لا يحرك ساكناً إلا إذا انتهت المدة، أما كونه ينتقل من بلده إلى حدود العدو أو إلى قرب مكان يوجد فيه العدو، فإن هذا خلاف العهد، بل العهد أن يبقى في مكانه ولا يحرك ساكناً إلا إذا انتهت المدة، وعندما تنتهي يرحل متوجهاً إليهم، أما أن يسافر إليهم قبل أن تنتهي المدة فمعنى ذلك أنه تصرف تصرفاً وعمل عملاً مخالفاً في مدة العهد.
وذكر أبو داود رحمه الله القصة، وهو أنه لما سار معاوية رضي الله عنه وإذا رجل على فرس أو برذون، وإذا هو يقول: الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدر، فنظروا فإذا هو عمرو بن عبسة، فطلب منه معاوية أن يأتي، فأتى إليه وأخبره فلما سمع الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع، وهذا يدل على ما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من الاستسلام والانقياد لما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنهم إذا عملوا عملاً ثم تبين لهم أن الحق بخلافه فإنهم يرجعون عن الشيء الذي عملوه ما دام أن الدليل دل على أنه غير سائغ، وأنه لا يصلح.
قوله: [(من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة)].
أي: لا يتصرف تصرفاً يخالف العقد.
قوله: [(ولا يحلها)] أي تلك العقدة.
قوله: [(إلا بعد أن ينتهي الأمد)]، وهذا إشارة إلى أنه لا يعمل أي شيء يخالف العقد.
قوله: [(أو ينبذ إليهم على سواء)] بأن يخبرهم، وذلك إذا خاف منهم خيانة فيقول: العهد الذي بيني وبينكم انتهى، فيكونون على علم بأن العهد انتهى.
قوله: [(على سواء)].
أي: هو وهم يستوون في العلم بانتهاء مقتضى العهد.(326/11)
تراجم إسناد حديث سير الإمام إلى العدو في مدة العهد
قوله: [حدثنا حفص بن عمر النمري].
حفص بن عمر النمري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الفيض].
هو موسى بن أيوب، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن سليم بن عامر].
وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عمرو بن عبسة].
عمرو بن عبسة رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.(326/12)
الوفاء للمعاهد وحرمة ذمته(326/13)
شرح حديث الوفاء للمعاهد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الوفاء للمعاهد وحرمة ذمته.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قتل معاهداً في غير كنهه حرم الله عليه الجنة)].
قوله: [باب في الوفاء للمعاهد وحرمة ذمته] يعني: أنه إذا كان للإنسان عهد عند المسلمين فإنهم يوفون له بعهده ويعاملونه المعاملة التي يستحقها، فلا يقتلونه ولا يؤذونه.
قوله: [(في غير كنهه)] أي: من غير استحقاق للقتل، أما إذا كان مستحقاً للقتل فلا يستحق القاتل هذه العقوبة.
قوله: [(حرم الله عليه الجنة)] هذا من أحاديث الوعيد التي فيها تحريم الجنة، ولكن لا يعني ذلك أنها تحرم عليه كما تحرم على الكفار، وإنما تحرم عليه وقتاً معيناً، وذلك إذا لم يشأ الله عز وجل أن يغفر له، فإنه لا يدخلها مع أول من يدخلها، ولكنه يدخل النار ويعذب فيها على جرمه وعلى كبيرته، ثم بعد ذلك يخرج منها ويدخل الجنة، وهكذا شأن جميع العصاة وجميع أصحاب الكبائر، فإنهم لا بد أن يصيروا إلى الجنة في آخر الأمر، ولا يبقى في النار إلا الكفار الذين هم أهلها ولا سبيل لهم إلى الخروج منها، وأما العصاة وأصحاب الكبائر فهؤلاء لا بد أن يأتي عليهم وقت من الأوقات يخرجون من النار ويدخلون الجنة، وعلى هذا فالتحريم تحريم مؤقت.(326/14)
تراجم رجال إسناد حديث الوفاء للمعاهد
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عيينة بن عبد الرحمن].
هو عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن أبي بكرة].
هو أبو بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(326/15)
الرسل لا يقتلون(326/16)
شرح حديث نعيم في عدم قتل الرسل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرسل.
حدثنا محمد بن عمرو الرازي حدثنا سلمة -يعني ابن الفضل - عن محمد بن إسحاق قال: كان مسيلمة كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: وقد حدثني محمد بن إسحاق عن شيخ من أشجع يقال له سعد بن طارق عن سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهما حين قرأ كتاب مسيلمة: (ما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال، قال: أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما)].
أورد أبو داود باباً في الرسل، أي: الرسل الذين يأتون من الكفار إلى المسلمين برسائل، ومعنى ذلك أنهم يؤمنون ثم يعودون من حيث أتوا، وقد سبق أن مر قريباً قوله في الحديث: (أني لا أحبس البرد) ومعنى هذا أن البريد أو الرسول لا يقتل، وإنما يؤمن حتى يرجع إلى الجهة التي جاء منها.
أورد أبو داود حديث نعيم بن مسعود رضي الله عنه، أن رسولي مسيلمة لما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ الكتاب الذي معهما، قال: (ماذا تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال) أي أنهما يتابعانه فيما جاء به من الكفر ومن الردة، فقال عليه الصلاة والسلام: (لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما).
وهذا يدل على أن الرسل لا تقتل، ولو حصل من الرسول المجاهرة وإعلان الكفر كما حصل من رسولي مسيلمة بقولهما: (نقول كما قال) فدل هذا على أن الرسول يرجع إلى مأمنه وأنه لا يقتل.(326/17)
تراجم رجال إسناد حديث نعيم في عدم قتل الرسل
قوله: [حدثنا محمد الرازي].
محمد بن عمرو الرازي ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة.
[حدثنا سلمة -يعني: ابن الفضل-].
صدوق كثير الخطأ، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة في التفسير.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[كان مسيلمة كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وقد حدثني محمد بن إسحاق عن شيخ من أشجع يقال له سعد بن طارق].
سعد بن طارق ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي].
سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي، له صحبة، كما أن لأبيه صحبة، وحديثه أخرجه أبو داود.
[عن أبيه نعيم].
وأبوه أخرج حديثه أبو داود.(326/18)
شرح حديث ابن مسعود في عدم قتل الرسل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق: (عن حارثة بن مضرب أنه أتى عبد الله فقال: ما بيني وبين أحد من العرب حنة، وإني مررت بمسجد لبني حنيفة، فإذا هم يؤمنون بـ مسيلمة، فأرسل إليهم عبد الله، فجيء بهم فاستتابهم غير ابن النواحة قال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لولا أنك رسول لضربت عنقك فأنت اليوم لست برسول، فأمر قرظة بن كعب فضرب عنقه في السوق، ثم قال: من أراد أن ينظر إلى ابن النواحة قتيلاً بالسوق)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، أنه جاءه حارثة بن مضرب، وذكر الحديث.
قوله: [ما بيني وبين أحد من العرب حنة]: يعني: ليس هناك ضغن ولا حقد وعداوة، وهو بهذا يريد أن يمهد للكلام الذي يقوله، وكأنه يريد أن يقول: إن هذا الكلام الذي أقوله ليس عن عداوة، وليس عن غيض، وإنما هو الحقيقة والواقع.
قوله: [مررت بمسجد لبني حنيفة فإذا هم يؤمنون بـ مسيلمة].
مسجد بني حنيفة في الكوفة، أي: في المكان الذي هم فيه، وكان فيه ابن مسعود، فاستدعاهم لأنهم يؤمنون بـ مسيلمة الكذاب.
قوله: [فأرسل إليهم عبد الله، فجيء بهم فاستتابهم].
يعني: استتابهم وتركهم إلا واحداً منهم يقال له: ابن النواحة؛ لأنه قد قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (لولا أنك رسول لقتلتك) فلم يستتبه بل قتله؛ لأنه لم يعد في ذلك الوقت رسولاً، فأمر قرظة بن كعب أن يقتله، فقتله في السوق وقال: من أراد أن ينظر إلى ابن النواحة فلينظره قتيلاً بالسوق.
ومحل الشاهد منه قوله: (لولا أنك رسول لقتلتك) يعني: أن الرسل يعاملون معاملة خاصة فيردون إلى مأمنهم ولا يقتلون.(326/19)
تراجم رجال إسناد حديث ابن مسعود في عدم قتل الرسل
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق].
هو أبو إسحاق السبيعي عمرو بن عبد الله الهمداني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنه أتى حارثة بن مضرب].
وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عبد الله].
هو عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(326/20)
ما جاء في أمان المرأة(326/21)
شرح حديث أم هانئ في أمان المرأة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في أمان المرأة.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب قال: أخبرني عياض بن عبد الله عن مخرمة بن سليمان عن كريب: (عن ابن عباس قال: حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب أنها أجارت رجلاً من المشركين يوم الفتح، فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له، فقال: قد أجرنا من أجرت وأمنَّا من أمنت)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في أمان المرأة].
يعني: إذا أمنت أحداً أو أجارت أحداً فإنه ينفذ أمانها وجوارها، وقد سبق أن مر حديث: (المسلمون تتكافؤ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم)، وهنا أورد أبو داود حديث أم هانئ رضي الله عنها، وهو أنها عام فتح مكة أمنت رجلاً، وكان أخوها علي رضي الله عنه أراد أن يقتله، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته، فقال لها عليه الصلاة والسلام: (قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت) معناه: أن جوارك وأمانك معتبر عندنا.(326/22)
تراجم رجال إسناد حديث أم هانئ في أمان المرأة
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب قال: أخبرني عياض بن عبد الله].
عياض بن عبد الله فيه لين، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن مخرمة بن سليمان].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن كريب].
هو كريب مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس قال: حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحابه الكرام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها حديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(326/23)
شرح حديث عائشة في أمان المرأة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت (إن كانت المرأة لتجير على المؤمنين فيجوز)].
أورد أبو داود حديث عائشة: (إن كانت المرأة لتجير على المؤمنين فيجوز) أي: فيجوز جوارها وتأمينها وأمانها، ومعناه: أنهم كانوا يجيزونه ويثبتونه ولا يبطلونه، وهذا مثل الذي قبله، إلا أن هذا فيه إشارة إلى أن هذا يحصل، والحديث السابق إنما هو في قصة حصلت لـ أم هانئ رضي الله عنها في شخص معين، وهذا لفظ عام يدل على أن المرأة كانت تجير فيجوز أمانها ويعتبر.(326/24)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة في أمان المرأة
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا سفيان بن عيينة].
سفيان هو سفيان بن عيينة المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن المعتمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم].
إبراهيم بن يزيد ين قيس النخعي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأسود].
هو الأسود بن يزيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(326/25)
ما جاء في صلح العدو(326/26)
شرح حديث المسور بن مخرمة في صلح الحديبية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في صلح العدو.
حدثنا محمد بن عبيد أن محمد بن ثور حدثهم عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة أنه قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة وساق الحديث، قال: وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت به راحلته فقال الناس: حل حل خلأت القصواء، مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما خلأت وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل.
ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت، فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء، فجاءه بديل بن ورقاء الخزاعي ثم أتاه -يعني عروة بن مسعود - فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن لحيته! فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة فقال: أي غدر! أولست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أما الإسلام فقد قبلنا، وأما المال فإنه مال غدر لا حاجة لنا فيه فذكر الحديث.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله وقص الخبر، فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا.
فلما فرغ من قضية الكتاب قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا، ثم جاء نسوة مؤمنات مهاجرات الآية، فنهاهم الله أن يردوهن، وأمرهم أن يردوا الصداق، ثم رجع إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش، يعني: فأرسلوا في طلبه، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى إذ بلغا ذا الحليفة نزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً فاستله الآخر، فقال: أجل قد جربت به، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه فضربه حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لقد رأى هذا ذعراً، فقال: قد قتل والله صاحبي وإني لمقتول.
فجاء أبو بصير فقال: قد أوفى الله ذمتك، فقد رددتني إليهم ثم نجاني الله منهم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، وينفلت أبو جندل فلحق بـ أبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة)].
أورد أبو داود باباً في صلح العدو.
أي: الصلح مع الكفار، والصلح مع الكفار يجوز في حال ضعف المسلمين وعدم قوتهم، وأما مع قوتهم فإنه لا يصلح أن يصالح الكفار، وإنما يكون ذلك مع الضعف كما قال الله عز وجل: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد:35] فالصلح يجوز عند وجود ما يقتضيه من عدم قوة بالمسلمين.
أورد أبو داود حديث المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه في قصة صلح الحديبية، وذهاب النبي صلى الله عليه وسلم معتمراً في السنة السادسة من الهجرة، ومعه ألف وأربعمائة من أصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
قوله: [(خرج النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في بضعة عشرة مائة من أصحابة)].
يعني: ألفاً وأربعمائة، هذا هو أصح ما قيل فيه، وقيل: ألف وخمسمائة، وقيل: ألف وثلاثمائة، والأصح أنهم ألف وأربعمائة.
قوله: [(حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره، وأحرم بالعمرة)].
وهذا يدل على أن الإحرام يكون من الميقات، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم عام الحديبية بعمرة من الميقات، وأن الهدي يقلد ويشعر، وإشعاره أن يغرز في صفحة سنامه حتى يسيل الدم، فيكون علامة على أنه هدي، بحيث لو ضاع عرف من رآه أن هذا هدي، وكذلك أيضاً التقليد هو علامة على أنه هدي، وهو يدل على أن الإشعار سنة وليس بمثلة، وهو للحاجة والمصلحة، مثل الوسم الذي يفعل للحاجة، ومثل الختان الذي يكون بالنسبة للمولود، فهو وإن كان فيه شيء من التعذيب وشيء من المضرة إلا أن المصلحة فيه كبيرة، وقد جاءت السنة بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [وساق الحديث] معناه أن فيه اختصاراً وحذفاً.
قوله: [(حتى إذا جاء الثنية التي يهبط عليهم منها، بركت به ناقته، فقال الناس: حل حل)]، وهي كلمة زجر يراد منها أن تقوم الناقة.
قوله: [(فقال الناس: حل حل، خلأت القصواء، مرتين)].
يعني: حرنت، ومعناه: أنه صار بها هذا الخلق.
قال عليه الصلاة والسلام: (ما خلأت وما كان لها بخلق) -أي: ليس من عادتها- ولكن حبسها حابس الفيل)] أي: أن الذي حبسها هو الذي حبس الفيل عن أهل مكة.
قوله: [(والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)].
معناه: أنه لا يحصل بينه وبينهم قتال في الحرم.
قوله: [(ثم زجرها فوثبت، فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء)].
أي: زجرها فثارت وقامت، وذهب إلى الحديبية على ثمد وهو: الماء القليل.
قوله: [(فجاءه بديل بن ورقاء)].
والحديث فيه اختصار، وكان فيه أنه جيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله! نفد الماء فأخرج سهماً من كنانته، وأمرهم بأن يضعوه، فصارت البئر تجيش بالماء وتفور حتى سقوا رواحلهم ورووا، وذلك من بركة وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهم من كنانته فيها.
قوله: [(فجاءه بديل بن ورقاء الخزاعي، ثم أتاه يعني: عروة بن مسعود، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكلما كلمه أخذ بلحيته)].
وكانت العادة عندما كان الشخص يخاطب غيره يمسك بلحيته، وليس هذا من باب الإهانة، وإنما هو من باب الملاطفة.
قوله: [(والمغيرة بن شعبة قائم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومعه السيف، وعليه المغفر، فضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن لحيته)].
فكان المغيرة بن شعبة واقفاً على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف، فكان كلما مد يده على لحية الرسول ضربه بمؤخر السيف.
وهذا يدل على أن القيام على رأس الأمير عند حضور الكفار لا بأس به، وأن هذا من احترام الأمير، ومن المحافظة عليه، وأما إذا كان لغير ذلك فإنه لا يجوز، والرسول صلى الله عليه وسلم لما اشتكى وصلى جالساً، وصلى وراءه أناس قياماً أشار إليهم أن اجلسوا، ولما سلم قال: (كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم، يقومون على رأس ملوكهم وهم جلوس) فالقيام محذور إذا كان في غير هذه الحالة، أما إذا كان في هذه الحالة فهو سائغ؛ لأن هذا حصل من المغيرة بن شعبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالقيام على الرجل له حالتان: حالة فيها احترام الإمام وتوقيره، والمحافظة عليه عند الكفار، وإظهار تقديره عند الكفار.
والثانية: إذا كان لغير ذلك.
فهذه الحالة التي جاءت في قصة المغيرة تدل على جوازه في مثل هذه الحالة، والحديث الذي فيه: (كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم، يقومون على رأس ملوكهم وهم جلوس) يدل على أن ذلك لا يجوز.
قوله: [(فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟! قالوا: المغيرة بن شعبة)].
يسأل عن هذا الذي يضربه بنعل السيف، قال: من هذا؟! قالوا: المغيرة بن شعبة وهو ثقفي وعروة بن مسعود ثقفي، فقال: أي غدر، أولست أسعى في غدرتك؟! معناه: أنه من قومه ومن جماعته؛ لأن هذا ثقفي وهذا ثقفي، ولعل المقصود منه: أنه كان يجمع ديات من أجل أن يعطيها أولئك الذين قتلهم المغيرة.
قوله: [(وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أما الإسلام فقد قبلنا، وأما المال فإنه مال غدر لا حاجة لنا فيه)].
وهذه هي غدرة المغيرة التي ذكرها عروة بن مسعود.
قوله: (فذكر الحديث، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله) وقص الخبر.
ثم ذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بكتابة الصلح والعهد الذي بينه وبين الكفار وقال: [(هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)] وقد جاء فيه أنهم قالوا: إننا لا نعتقد بأنك رسول الله، ولكن قل: محمد بن عبد الله، أي اذكر اسمك واسم أبيك، فأقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر الكاتب بأن يكتب محمد بن عبد الله.
قوله: [(فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا)].
هو سهيل بن عمرو الذي تولى العقد عن جانب الكفار، وقد أسلم عام الفتح وحسن إسلامه رضي الله عنه وأرضاه.
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ما ذكر لما رأى في ذلك من مصلحة، وبعض أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم تألموا تألماً كثيراً، وقالوا: كيف نعطي الدنية في ديننا يا رسول الله؟! أي: كيف نقبل بمثل هذا الشرط الذي يقضي بأن من جاء منهم ولو كان على(326/27)
تراجم رجال إسناد حديث المسور بن مخرمة في صلح الحديبية
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد].
محمد بن عبيد هو ابن حساب أو المحاربي، وكل منهما روى عنه أبو داود، وكل منهما روى عن محمد بن ثور، ومحمد بن عبيد بن حساب ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
والمحاربي صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
وفي تحفة الأشراف: محمد بن عبد الأعلى؛ لكن هذا ليس بصحيح؛ لأن فيه محمد بن عبد الأعلى يروي عنه أبو داود في كتاب القدر فقط.
[أن محمد بن ثور حدثهم].
محمد بن ثور ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة بن الزبير].
هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن المسور بن مخرمة].
المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(326/28)
شرح حديث صلح الحديبية من طريق المسور ومروان
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء حدثنا ابن إدريس سمعت ابن إسحاق عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: (أنهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيهن الناس، وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا إسلال ولا إغلال)].
أورد أبو داود الحديث عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، وفيه: (أنهم اصطلحو) أي: الرسول صلى الله عليه وسلم وكفار قريش على وضع الحرب.
قوله: (على وضع الحرب عشر سنين) أي: أن الهدنة والصلح الذي بينهم مدته عشر سنوات يأمن فيها الناس، فيستطيع أن يذهب هؤلاء وهؤلاء، ولا يعتدي أحد على أحد إنفاذاً لهذا العهد، والصلح الذي بينهم.
قوله: [(وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة)] يعني: أنهم يلتزمون بمقتضى العقد، ويصير ما بينهم من عداوات ومن إقدام بعضهم على قتال بعض ممتنعاً بمقتضى هذا العقد، فتكون صدورهم وقلوبهم بمثابة العيبة المكفوفة، أي المشدودة على ما فيها من المتاع الجيد والشيء المحفوظ، فكذلك ذلك الاتفاق الذي قد حصل يحفظ في القلوب وفي الصدور، ولا يعتدي أحد على أحد في هذه المدة بمقتضى هذا العقد.
قوله: [(وأنه لا إسلال ولا إغلال)] أي: ليس هناك سرقة ولا خيانة في ظاهر ولا باطن، بل يأمن الناس في الظاهر والباطن فليس هناك خيانة ولا اعتداء، وليس هناك سرقة، وأخذ للأموال خفيةً.
هذا هو معنى هذه الجمل القصيرة التي أوردها أبو داود رحمه الله من طريق المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم.
ثم الصلح مع العدو اختلف العلماء في مقداره وتحديده، فمنهم من قال: إنه عشر سنوات لا يزيد عليها كما جاء في هذا الاتفاق الذي حصل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفار قريش.
ومنهم من قال: إنه يكون سنتين أو ثلاثاً؛ لأن الذي حصل تنفيذه إنما هو هذه المدة، وبعد ذلك حصل نقض العهد من كفار قريش، وبعد ذلك فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك في السنة الثامنة في شهر رمضان، أي: بعد مدة تقرب من السنتين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج في عمرة الحديبية في شهر ذي القعدة سنة ست، وفتح مكة كان في رمضان سنة ثمان، أي: بعد مضي أقل من سنتين.
ثم مما ينبغي أن يعلم أن الصلح الذي حصل بين الفلسطينيين واليهود في هذا الزمان ليس من هذا القبيل؛ لأنه ليس هناك قوة مسلمة وقوة كافرة حصل بينهما صلح، وإنما حصل الصلح بين ظالم ومظلوم، وبين أناس مغتصبين وهم اليهود وبين أناس اغتصبت أرضهم وهم الفلسطينيون، وقد اغتصبت ومضى على اغتصابها عشرون سنة، أي: من سنة ثمان وأربعين إلى سنة سبع وستين، ثم بعد ذلك حصل من بعض الزعماء العرب المتهورين شيء من الغرور، وترتب على ذلك أن اليهود توسعوا فأخذوا الضفة الغربية وأخذوا سيناء وأخذوا هضبة الجولان، فمضى على هذا الاحتلال الأخير ربع قرن من الزمان، والفلسطينيون مشردون بعيدون عن أوطانهم، فإذا أرادوا أن يتفقوا مع العدو الذي اغتصب أرضهم على أن يحصلوا على بعض أرضهم، فإنه لا بأس بذلك، وهو ليس صلحاً بين قوة مسلمة وقوة كافرة، وإنما هو صلح بين ظالم ومظلوم ومغتصب ومغتصب منه.
وإذا جاء الوقت الذي يكون فيه للمسلمين قوة ويستطيعون أن يقاتلوا اليهود ويقضوا عليهم أو يتخلصوا منهم، فإن المجال واسع والباب مفتوح، ولكن بعد أن مضى على الفلسطينيين هذه المدة الطويلة وهم مشردون يحتاجون إلى أن يحصلوا على بعض أرضهم ليبقوا فيها بعد أن مضى على احتلال أرضهم عشرات السنين، ثم حصل هذا الصلح الذي مضى عليه عشر سنوات واليهود يماطلون، ولم يحصل المسلمون على ذلك الشيء الذي يريدونه، ولكن الصلح كما أشرت هو بين ظالم ومظلوم، ومغتصب ومغتصب منه، وإذا كان لا يستطيع أن يحصل حقه كله، فإذا ظفر ببعضه إلى أن يأتي الوقت الذي يتمكن فيه المسلمون من أن يقاتلوا اليهود ويرفعوا راية الإسلام؛ فعند ذلك يحصل ما يحصل من الخير، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لا بد أن يقتتل المسلمون واليهود، وأن الحجر والشجر يقول: يا مسلم! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله).
وقد أفتى شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه بجواز هذا الصلح، واعترض عليه بعض المعترضين الذين ليس عندهم إلا حماس وعواطف، وليس عندهم فهم للشريعة وأحكامها! وكما قلت: هو صلح بين مغتَصِب ومغتَصَب، وهذا نظير ما لو أن لصوصاً اعتدوا على إنسان وسلبوا كل ما بحوزته من النقود وتركوه خالي الوفاض ليس له شيء، ثم صار بحاجة إلى أن يحصل على شيء مما أخذوا منه، فقالوا: نعطيك بعض حقك، فهل يقبل بعض حقه أم يقول: إما أن تعطوني مالي كله أو أتركه كله؟ كونه يأخذ بعض حقه ويستفيد منه أولى من كونه لا يحصل على شيء من حقه.(326/29)
تراجم رجال إسناد حديث صلح الحديبية من طريق المسور ومروان
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن إدريس].
هو عبد الله بن إدريس الأودي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت ابن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة بن الزبير] هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المسور بن مخرمة].
المسور بن مخرمة رضي الله عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ومروان بن الحكم].
وهو الخليفة، وقد قال عروة بن الزبير: إنه لا يتهم في الحديث، وحديثه أخرجه البخاري وأصحاب السنن.(326/30)
شرح حديث ذي مخبر في الصلح مع العدو
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا عيسى بن يونس حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: مال مكحول وابن أبي زكرياء إلى خالد بن معدان وملت معهما، فحدثنا عن جبير بن نفير قال: قال جبير: انطلق بنا إلى ذي مخبر رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأتيناه فسأله جبير عن الهدنة فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (ستصالحون الروم صلحاً آمناً، وتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم)].
أورد أبو داود حديث ذي مخبر رضي الله تعالى عنه أنه جاءه جبير بن نفير ومعه غيره يسألونه عن الهدنة، أي: الهدنة التي تقع بين المسلمين والنصارى، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ستصالحون الروم) وهم النصارى.
وقوله: [(صلحاً آمناً)] أي: يحصل الأمن بينكم وبينهم بمقتضى هذا الصلح، وهذا هو محل الشاهد للترجمة؛ لأن النصارى كفار، وهم أعداء المسلمين، ومع ذلك يحصل بينهم صلح، وهذا في آخر الزمان.
قوله: [(وتغزون أنتم وهم عدواً من روائكم)].
يعني: عدواً مشتركاً للمسلمين والنصارى، وليس معنى ذلك أنهم يغزون للجهاد في سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله، ولإدخال الناس في دين الله؛ لأن النصارى أنفسهم كفار، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ارجع فلن أستعين بمشرك) وإنما المقصود: أن هذا عدو مشترك للجانبين، وأن أولئك المتصالحين تعاونوا على ذلك العدو المشترك.
قوله: [(من ورائكم)] هذا يحتمل أن يكون من خلفهم ويحتمل أن يكون من أمامهم؛ لأن (وراء) تأتي بمعنى الأمام.
وقد أورد أبو داود الحديث في كتاب الملاحم في آخر الكتاب، وذكر في آخره أنهم عندما ينتصرون أو يغنمون أو يسلمون يأتون قافلين حتى إذا صاروا في مرج ذي فلول قام واحد من النصارى ونادى: انتصر الصليب! فيقوم رجل من المسلمين فيكسر الصليب الذي معه، فعند ذلك ينقض الروم العهد ويجمعون لقتال المسلمين، فيقتلون المسلمين قتلاً ذريعاً، وهذا لم يحصل إلى الآن، ولكنه لا بد أن يحصل كما أخبر بذلك الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(326/31)
تراجم رجال إسناد حديث ذي مخبر في الصلح مع العدو
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عيسى بن يونس].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي أبو عمرو، فقيه الشام ومحدثها، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن حسان بن عطية].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[خالد بن معدان].
وهو ثقة عابد يرسل كثيراً، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جبير بن نفير].
وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[انطلق بنا إلى ذي مخبر].
ذو مخبر رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أبو داود وابن ماجة.(326/32)
شرح سنن أبي داود [327]
الخروج للجهاد في سبيل الله هو ضرب في الأرض وسفر من الأسفار، لذا فإن الشرع الحنيف بين الآداب التي ينبغي على المسافر التقيد بها في هذا السفر، ومن هذه الآداب أن يكبر المسافر إذا بلغ مكاناً مشرفاً، وألا يطرق أهله بليل إلا إذا كان ذلك في أوله.(327/1)
العدو يؤتى على غرة(327/2)
شرح حديث قتل كعب بن الأشرف
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في العدو يؤتى على غرة ويتشبه بهم.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: (من لـ كعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟ فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا يا رسول الله! أتحب أن أقتله؟ قال: نعم، قال: فأذن لي أن أقول شيئاً، قال: نعم قل.
فأتاه فقال: إن هذا الرجل قد سألنا الصدقة وقد عنانا، فقال: وأيضاً لتملنه، قال: اتبعناه، فنحن نكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره، وقد أردنا أن تسلفنا وسقاً أو وسقين، قال كعب: أي شيء ترهنوني؟ قال: وما تريد منا؟ قال: نساؤكم، قالوا: سبحان الله، أنت أجمل العرب نرهنك نساءنا فيكون ذلك عاراً علينا! قال: فترهنوني أولادكم، قالوا: سبحان الله، يسب ابن أحدنا فيقال: رهنت بوسق أو وسقين! قالوا: نرهنك اللأمة -يريد السلاح- قال: نعم.
فلما أتاه ناداه فخرج إليه وهو متطيب ينضخ رأسه، فلما أن جلس إليه وقد كان جاء معه بنفر ثلاثة أو أربعة فذكروا له، قال: عندي فلانة وهي أعطر نساء الناس، قال: تأذن لي فأشم؟ قال: نعم، فأدخل يده في رأسه فشمه، قال: أعود؟ قال: نعم، فأدخل يده في رأسه، فلما استمكن منه قال: دونكم! فضربوه حتى قتلوه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: [باب في العدو يؤتى على غرة ويتشبه بهم].
أي: يؤتى على غفلة، ويتشبه بهم: أي يتظاهر بأنه معهم وهو ليس معهم، ولكن للوصول إلى ما يريد، وهذا من المكر والخدعة التي في الحرب؛ لأن الحرب خدعة.
وقد أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لـ كعب بن الأشرف؟) أي: من يقتله، ويخلص الناس من شره، فإنه آذى الله ورسوله؟ فقال محمد بن مسلمة رضي الله عنه: أتريد أن أقتله؟ قال: نعم.
قوله: [(قال: فأذن لي أن أقول شيئاً)] أي: أن أقول فيك شيئاً يرضى به، ويقصد من وراء ذلك أن يقول شيئاً مورياً.
قوله: [(فجاء إليه وقال: إن هذا الرجل -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- سألنا الصدقة)] يعني: سألهم الصدقة وطلب منهم الزكاة.
قوله: [(وقد عنانا)] أي: حصل لهم عناء ومشقة في التكاليف، ولا شك أن التكاليف شاقة وفيها تعب ونصب، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) وقال: (إسباغ الوضوء على المكاره) فالتكاليف شاقة، والصبر ثلاثة أنوع: صبر على طاعة الله ولو شقت على النفوس.
وصبر عن المعاصي ولو مالت إليها النفوس.
وصبر على أقدار الله المؤلمة.
قوله: [(وأيضاً لتملنه)] هذا يقوله كعب بن الأشرف، يعني: سيحصل منكم ملل منه.
قوله: [(اتبعناه فنحن نكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره)].
وأمره لا شك أنه سيصير في النهاية إلى أن يظهر الله دينه ويعلي كلمته، وهذا الكلام هو مقتضى الترجمة في قوله: (يتشبه بهم) ومعناه: أنه كأنه منهم، أو كأنه موافق لهم، وقوله: (اتبعناه ونحن نكره أن ندعه) أي: نريد أن نبقى معه حتى يتبين لنا أمره.
وأمره سينتهي إلى خير، وإلى نهاية طيبة، وإلى أن يظهر الله دينه ويعلي كلمته.
قوله: [(وقد أردنا أن تسلفنا وسقاً أو وسقين)].
يعني: جاء يطلب هذا الشيء، وهو وسق أو وسقان من الطعام، ومقدار الوسق ستون صاعاً.
قوله: [قال كعب: أي شيء ترهنوني؟ قال: وما تريد منا؟ قال: نساءكم].
أي: يريد أن يرهنوا نساءهم.
قوله: [قالوا: سبحان الله، أنت أجمل العرب، نرهنك نساءنا فيكون ذلك عاراً علينا!].
إما أن يكون أصله عربياً ولكنه تهود، أو أنه من العجم فيكون الإشكال قائماً، لأنه أجمل العرب وهو ليس منهم.
والحاصل أنهم امتنعوا من إعطائه نساءهم خشية العار كما قال.
قوله: [فترهنوني أولادكم؟ قالوا: سبحان الله! يسب ابن أحدنا فيقال: رهنت بوسق أو وسقين!].
أي: أنت تساوي وسقاً أو وسقين.
قوله: [قالوا: نرهنك اللأمة، يريد السلاح].
هذا يقوله محمد بن مسلمة، واللأمة بالهمز وقد تخفف، قيل: هي السلاح مطلقاً، وقيل: إنها الترس أو الوقاية التي يتقى بها في الحرب.
قوله: [قال: نعم، فلما أتاه ناداه، فخرج إليه وهو متطيب ينضخ رأسه].
كأنه ذهب على أن يعود ومعه السلاح، فقال: ائذن لي أن أشم.
قوله: [فلما أن جلس إليه وقد كان جاء معه بنفر ثلاثة أو أربعة].
هؤلاء النفر جاءوا مع محمد بن مسلمة.
قوله: [فذكروا له] يعني: الطيب الذي يفوح منه، وقالوا: ما هذا؟ فقال: عندي فلانة، وهي أعطر نساء الناس.
قوله: [قال: تأذن لي فأشم؟ قال: نعم، فأدخل يده في رأسه فشمه، قال: أعود؟ قال: نعم، فأدخل يده في رأسه، فلما استمكن منه قال: دونكم! فضربوه حتى قتلوه].
وهذا لا يقال: إنه من قبيل الغدر، بل هو من قبيل الخدعة في الحرب وقتل من يستحق القتل، إذ ليس هناك عهد بينهم وبينه، وكان قد آذى الرسول صلى الله عليه وسلم وسبه وكان يحرض كفار قريش عليه، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أهدر دمه وقال: (من لـ كعب بن الأشرف) يعني: من يقوم بقتله؟ فانتدب لذلك محمد بن مسلمة رضي الله عنه.(327/3)
تراجم رجال إسناد حديث قتل كعب بن الأشرف
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[عن سفيان].
هو سفيان بن عيينة المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن دينار].
هو عمرو بن دينار المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث من الرباعيات، وهي أعلى الأسانيد عند أبي داود رحمه الله.(327/4)
شرح حديث: (الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن حزابة حدثنا إسحاق -يعني ابن منصور - حدثنا أسباط الهمداني عن السدي عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن) معناه: أنه لا يفتك بأحد له عهد، ولكن إذا كان ليس له عهد فإنه يمكن أن يفتك به حيث يكون مستحقاً لذلك.
قوله: [(الإيمان قيد الفتك)] أي: قيده بحيث لا يكون إلا في محله، ومنعه من أن يكون في غير محله، كما أن الدابة المقيدة تكون ممنوعة من أن تذهب أو تصول أو تجول لحصول القيد الذي بها، وهذا من باب التشبيه.(327/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن)
قوله: [حدثنا محمد بن حزابة].
محمد بن حزابة صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا إسحاق -يعني ابن منصور -].
هو إسحاق بن منصور السلولي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أسباط الهمداني].
صدوق كثير الخطأ يغرب، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن السدي].
هو إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، وهو صدوق يهم، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو عبد الرحمن بن أبي كريمة، مجهول الحال، أخرج له أبو داود والترمذي.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أكثرهم على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
والحديث فيه من هو مجهول الحال، ولكن الألباني صححه وحسنه، فلعل ذلك من أجل الشواهد.
والظاهر أنه لما ذكر قصة كعب بن الأشرف ذكر بعده أنه لا يحصل الفتك بمن لا يستحقه، وأما من يستحقه فإنه يحصل به الفتك كـ كعب بن الأشرف.(327/6)
التكبير على كل شرف في المسير(327/7)
شرح حديث التكبير على كل شرف
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التكبير على كل شرف في المسير.
حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات، ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)].
أورد أبو داود باباً في التكبير على كل شرف في المسير.
أي: في السفر.
وأورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون) وهذا إنما يكون عند القفول، أي: الرجوع، ولا يقال في الذهاب والمسير وإنما في الذهاب والمسير يكتفي بالتكبير.
قوله: [(صدق الله وعده)].
أي: ما وعد به المسلمين من النصر ومن الخير.
قوله: [(ونصر عبده)] أي: الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(وهزم الأحزاب وحده)] قيل: إن المقصود بذلك الأحزاب التي تجمعت يوم الخندق، والله عز وجل هزمهم بالريح التي أثارها فأزعجتهم وجعلتهم يفرون، وقيل: إن المقصود بالأحزاب الأحزاب المختلفة قبل زمان نبينا؛ لأن الطوائف المختلفة كلها يقال لها أحزاب، قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} [غافر:5].(327/8)
تراجم رجال إسناد حديث التكبير على كل شرف
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة أحد الفقهاء الأربعة أصحاب المذاهب المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر].
الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد من الأسانيد الرباعية العالية عند أبي داود رحمه الله.(327/9)
الإذن في القفول بعد النهي(327/10)
شرح حديث الإذن في القفول بعد النهي
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الإذن في القفول بعد النهي.
حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي حدثني علي بن حسين عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:44] الآية نسختها التي في النور: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور:62] إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:62]].
أورد أبو داود باباً في الإذن في القفول بعد النهي، والمقصود من ذلك أنه حصل النهي فيما يتعلق بالمنافقين، وأنه صلى الله عليه وسلم عوتب على ذلك حيث كان يأذن لهم، وقال الله عز وجل: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، ثم نسخ ذلك بما في آخر سورة النور حيث قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور:62] أي: أنه جاء فيها أمره بالإذن لمن شاء منهم، وأن ذلك إليه صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك مأذوناً فيه، والذي عوتب عليه قبل ذلك هو إذنه للمنافقين.
قوله: [عن ابن عباس قال: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:44] الآية نسختها التي في النور: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور:62] إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:62]].
قيل: هو الآن على اعتبار النسخ، وقيل: إنه تقييد، وإن ذاك يحمل على شيء وهذا يحمل على شيء، فذاك في حق المنافقين وهذا في حق المؤمنين، وأعتبره أبو داود نسخاً.(327/11)
تراجم رجال إسناد حديث الإذن في القفول بعد النهي
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي].
هو صدوق أخرج له أبو داود.
[حدثني علي بن حسين].
هو علي بن حسين بن واقد، وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه هو حسين بن واقد، وهو ثقة له أوهام، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد النحوي].
هو يزيد بن أبي سعيد النحوي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
وقد مر ذكره.(327/12)
ما جاء في بعثة البشراء(327/13)
شرح حديث بعثة البشراء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في بعثة البشراء.
حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع حدثنا عيسى عن إسماعيل عن قيس: (عن جرير قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا تريحني من ذي الخلصة؟ فأتاها فحرقها، ثم بعث رجلاً من أحمس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبشره يكنى أبا أرطأة)].
أورد أبو داود رحمه الله باب بعثة البشراء.
يعني: الذين يبشرون بالفتح والانتصار، أي: بالمهمة التي قاموا بها.
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: (ألا تريحني من ذي الخلصة؟) وهو صنم لدوس، فذهب جرير وأحرقها، ثم أرسل شخصاً من أحمس، وهم قبيلة جرير بن عبد الله البجلي؛ لأن أحمس من بجيلة.
قوله: [(ثم بعث رجلاً من أحمس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره يكنى أبا أرطأه)]، هذا محل الشاهد، حيث أرسله يبشر الرسول صلى الله عليه وسلم بتنفيذ المهمة التي طلبها منه، وهي راحته من ذي الخلصة.(327/14)
تراجم رجال إسناد حديث بعثة البشراء
قوله: [حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع].
هو أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا عيسى عن إسماعيل].
عيسى مر ذكره، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قيس].
هو قيس بن أبي حازم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جرير].
هو جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(327/15)
ما جاء في إعطاء البشير(327/16)
شرح حديث إعطاء البشير
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في إعطاء البشير.
حدثنا ابن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب قال: سمعت كعب بن مالك قال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس وقص ابن السرح الحديث قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة، حتى إذا طال علي تسورت جدار حائط أبي قتادة -وهو ابن عمي- فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، ثم صليت الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فسمعت صارخاً: يا كعب بن مالك أبشر! فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه، فانطلقت حتى إذا دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يهرول حتى صافحني وهنأني)].
أورد أبو داود باباً في إعطاء البشير.
أي: إعطاء البشير من أجل بشارته بالشيء الذي بشر به، والمقصود من الإعطاء: إعطاؤه شيئاً من أجل هذه البشارة.
وأورد أبو داود شيئاً من قصة كعب بن مالك رضي الله عنه في توبته التي جاء القرآن بها، حيث تاب الله عليه وعلى صاحبيه، وذلك في قول الله عز وجل: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118] الآية.
والرسول صلى الله عليه وسلم هجرهم وأمر الناس بألا يكلموهم، وأمرهم أن يعتزلوا نساءهم حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ثم بعد ذلك نزلت توبة الله عليهم.
وبعدما حصلت التوبة وكان قد صلى الفجر في أعلى ظهر بيت من بيوتهم سمع صارخاً يقول: أبشر يا كعب بن مالك! فلما جاءه الشخص الذي بشره نزع ثوبيه وأعطاه إياهما على بشارته، وهذا هو محل الشاهد للترجمة.
ثم جاء إلى المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقام طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يهرول -أي: يسرع- يريد أن يهنئه، فصافحه وهنأه بهذه التوبة التي حصلت له من الله عز وجل.
وقوله: [(تسورت جدار حائط أبي قتادة)] معناه: أنه ما دخل من الباب وإنما صعد من فوق السور أو الجدار.(327/17)
تراجم رجال إسناد حديث إعطاء البشير
قوله: [حدثنا ابن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
ابن شهاب مر ذكره.
[عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك].
عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبيه] هو عبد الله بن كعب، له رؤية، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن كعب بن مالك].
كعب بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(327/18)
ما جاء في سجود الشكر(327/19)
شرح حديث أبي بكرة في سجود الشكر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في سجود الشكر.
حدثنا مخلد بن خالد حدثنا أبو عاصم عن أبي بكرة بكار بن عبد العزيز قال: أخبرني أبي عبد العزيز عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه كان إذا جاءه أمر سرور أو بشر به خر ساجداً شاكراً لله)].
أورد أبو داود رحمه الله باباً في سجود الشكر.
وهذه الترجمة محلها الأليق بها في الصلاة، ولكنه أتى بها في الجهاد، وهو من وضع الشيء في غير مظنته، لأنه قد يبحث الإنسان عن سجود الشكر في كتاب الصلاة فلا يجده فيقول: إنه لا يوجد عند أبي داود وهو لا يعلم أنه ذكره في كتاب الجهاد، فهو من ذكر الشيء في غير مظنته.
وهذا الصنيع يحصل به عدم العثور على الشيء المطلوب، وقد كان الحافظ ابن حجر رحمه الله يذكر في فتح الباري أن بعض الأحاديث ذكرت في غير مظنتها مثل حديث الزبير الطويل الذي فيه أنه كان عليه دين وأنه قال: عليك بمولى الزبير، وهو مذكور في الجهاد، فقال الحافظ ابن حجر: ذكر في غير مظنته، وكذلك سجود الشكر ذكر هنا في غير مظنته؛ لأن مظنته كتاب الصلاة.
ولكن لعل أبا داود رحمه الله ذكره بعد البشارة وإعطاء البشير من باب أن الشيء بالشيء يذكر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا بشر بشيء خر ساجداً.
وأورد حديث أبي بكرة قال: (كان صلى الله عليه وسلم إذا جاءه أمر سرور أو بشر به خر ساجداً شاكراً لله).
وسجود الشكر إنما يكون لأمر سرور له أهمية، وليس في كل أمر ولو كان تافهاً.(327/20)
تراجم رجال إسناد حديث أبي بكرة في سجود الشكر
قوله: [حدثنا مخلد بن خالد].
ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا أبو عاصم].
هو أبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بكرة بكار بن عبد العزيز].
وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[أخبرني أبي عبد العزيز].
وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبي بكرة].
هو أبو بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(327/21)
شرح حديث سعد بن أبي وقاص في سجود الشكر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبي فديك حدثني موسى بن يعقوب عن ابن عثمان -قال أبو داود: وهو يحيى بن الحسن بن عثمان - عن أشعث بن إسحاق بن سعد عن عامر بن سعد عن أبيه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة نريد المدينة، فلما كنا قريباً من عزور نزل ثم رفع يديه فدعا الله ساعة، ثم خر ساجداً فمكث طويلاً، ثم قام فرفع يديه فدعا الله تعالى ساعة، ثم خر ساجداً فمكث طويلاً، ثم قام فرفع يديه ساعة ثم خر ساجداً، ذكره أحمد ثلاثاً قال: إني سألت ربي وشفعت لأمتي فأعطاني ثلث أمتي، فخررت ساجداً شكراً لربي، ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي فأعطاني ثلث أمتي، فخررت ساجداً لربي شكراً، ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي فأعطاني الثلث الآخر، فخررت ساجداً لربي).
قال أبو داود: أشعث بن إسحاق أسقطه أحمد بن صالح حين حدثنا به، فحدثني به عنه موسى بن سهل الرملي].
أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ومعه أصحابه قادمين من مكة إلى المدينة ولما جاءوا عند مكان يقال له: عزور -قيل: إنه ثنية تقع قريباً من الجحفة في الطريق من مكة إلى المدينة- فلما كان هناك نزل ورفع يديه، ثم خر ساجداً، ثم قام وفعل مثل ذلك، ثم قام وفعل مثل ذلك، ثم أخبر بأنه شفع لأمته فأعطاه الله الثلث، ثم شفع فأعطاه الثلث الثاني، ثم شفع فأعطاه الثلث الأخير، وأن أمته كلها تخرج من النار بشفاعته صلى الله عليه وسلم.
ومعلوم أن النار لا يبقى بها أبد الآباد إلا الكفار، وأما من كان من المسلمين فإنه ولو فعل ما فعل من المعاصي والكبائر لا يخلد في النار أبد الآباد، بل لابد أن يخرج منها ويدخل الجنة بعد تطهيره وتمحيصه وعقوبته التي يعاقب بها من شاء الله تعالى أن يعاقب، وينجو منها من شاء الله عز وجل أن يتجاوز عنه، وذلك فضل الله عز وجل.
وفيه: أنه دعا قائماً ورفع يديه ثم سجد، والحديث فيه رجل مجهول فهو ليس بصحيح.(327/22)
تراجم رجال إسناد حديث سعد بن أبي وقاص في سجود الشكر
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبي فديك].
أحمد بن صالح مر ذكره، وابن أبي فديك هو محمد بن إسماعيل بن مسلم، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني موسى بن يعقوب].
وهو صدوق سيئ الحفظ، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن ابن عثمان -قال أبو داود: هو يحيى بن الحسن بن عثمان -].
وهو مجهول الحال، أخرج له أبو داود.
[عن أشعث بن إسحاق بن سعد].
وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن عامر بن سعد].
هو عامر بن سعد بن أبي وقاص، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: أشعث بن إسحاق أسقطه أحمد بن صالح حين حدثنا به، فحدثني به عنه موسى بن سهل الرملي].
موسى بن سهل الرملي ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.(327/23)
ما جاء في الطروق(327/24)
شرح حديث الطروق من طريق حفص بن عمر ومسلم بن إبراهيم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الطروق.
حدثنا حفص بن عمر ومسلم بن إبراهيم قالا: حدثنا شعبة عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكره أن يأتي الرجل أهله طروقاً)].
ذكر الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى باباً في الطروق.
والطروق هو: القدوم على الأهل ليلاً بحيث يأتي ويطرق عليهم الباب، فيكون مجيئه في ذلك على غرة وعلى غفلة وفيه إزعاج لهم، والزوجة في حال عدم استعداد وتهيؤ للزوج، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره ذلك.
ومن المعلوم أنه إذا كان عندهم علم بقدومه فإنه لا بأس بالإتيان إليهم في أي وقت من ليل أو نهار، لا سيما في هذا الزمان الذي يمكن فيه الاتصال بالأهل وإخبارهم بأنه سيأتي في الوقت الفلاني بالطائرة الفلانية التي تقلع في الوقت الفلاني، أو في سيارة تمشي في الوقت الفلاني، فيكونون على استعداد، فمثل هذا لا يكره، وإنما يكره أن يأتيهم على غرة.
وقد أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره أن يأتي الرجل أهله طروقاً)] يعني: ليلاً بحيث يطرق عليهم الباب على غرة، والكراهة للتنزيه.(327/25)
تراجم رجال إسناد حديث الطروق من طريق حفص بن عمر ومسلم بن إبراهيم
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
[ومسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محارب بن دثار].
محارب بن دثار، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد من أعالي الأسانيد عند أبي داود لأنه رباعي، وأبو داود له فيه شيخان هما في طبقة واحدة وهما: حفص بن عمر ومسلم بن إبراهيم الفراهيدي.(327/26)
شرح حديث الطروق من طريق ابن أبي شيبة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن مغيرة عن الشعبي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن أحسن ما دخل الرجل على أهله إذا قدم من سفر أول الليل)].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحسن ما دخل الرجل على أهله إذا قدم من سفر أول الليل).
أي: لا يكون في ذلك طروق؛ لأنه جاء وهم مستيقظون غير نائمين في أول الليل، فالمحذور ليس في ذات الطروق، إنما المحذور أن يكونوا نائمين وغافلين، ثم يأتيهم ويطرق عليهم الباب ويزعجهم.
أما إذا كان في أول الليل لا سيما إذا كان بعد المغرب وقبل العشاء، والناس ما زالوا ينتظرون صلاة العشاء وليس هناك نوم؛ فإن ذلك هو أحسن الأحوال بالنسبة لمن يأتي في الليل.
أما من جاء في النهار فإن جميع الأحوال في النهار مناسبة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم إذا قدم ضحى؛ لكن إذا قدم في الليل يكون قدومه في أول الليل، وهذا للابتعاد عن كونه يطرق عليهم ويزعجهم.
وتقدم أنه إذا حصل علم منهم بقدومه في أي وقت من ليل أو نهار فلا بأس به.(327/27)
تراجم رجال إسناد حديث الطروق من طريق ابن أبي شيبة
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[عن جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مغيرة].
هو مغيرة بن مقسم الضبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الشعبي].
هو عامر بن شراحيل الشعبي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، وقد مر ذكره.(327/28)
شرح حديث الطروق من طريق أحمد بن حنبل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم أخبرنا سيار عن الشعبي عن جابر بن عبد الله قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر، فلما ذهبنا لندخل قال: أمهلوا حتى ندخل ليلاً؛ لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه: (أنهم قدموا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فقال: أمهلوا حتى ندخل ليلاً -يعني: في أول الليل- حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة).
والشعثة هي: التي شعرها متفرق غير مرتب وغير منظم، فإنها تستعد بمشطه وتسريحه، وتستحد المغيبة، أي: التي غاب عنها زوجها، فتستحد باستعمال الحديدة في إزالة الشعر الذي حول القبل، ومعنى هذا أن العلم بقدومهم قد وصل المدينة؛ لأن هذا الاستعداد والتهيؤ إنما يكون عن علم بوقت القدوم.(327/29)
تراجم رجال إسناد حديث الطروق من طريق أحمد بن حنبل
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سيار].
هو سيار أبو الحكم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الشعبي عن جابر بن عبد الله].
وقد مر ذكرهما.(327/30)
تفسير الزهري للطروق
[قال أبو داود: قال الزهري: الطروق بعد العشاء.
قال أبو داود: وبعد المغرب لا بأس به].
يعني: الطروق يكون بعد صلاة العشاء بعد نوم الناس، وبعد المغرب لا بأس به؛ لأن الناس ينتظرون صلاة العشاء ويتهيئون لها، وهذا هو معنى ما تقدم من أن القدوم إنما يكون في أول الليل، أي قبل العشاء، وأما إذا كان بعد العشاء فيكون طروقاً.
وهذه الأحاديث لا تخص المتزوجين؛ لأن قضية الإزعاج تحصل للمتزوجين وغير المتزوجين، وكونه يطرق أهله ويكدر عليهم نومهم لا يختص بالمتزوجين.(327/31)
تلقي المجاهد إذا رجع(327/32)
شرح حديث تلقي المجاهد إذا رجع
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التلقي.
حدثنا ابن السرح حدثنا سفيان عن الزهري عن السائب بن يزيد قال: (لما قدم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة من غزوة تبوك تلقاه الناس، فلقيته مع الصبيان على ثنية الوداع)].
أورد أبو داود باباً في التلقي، يعني: تلقي القادمين من السفر، والخروج من البلد للقائهم وإظهار السرور بقدومهم، وقد جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد أبو داود حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه وكان من صغار الصحابة، وقد قال: (حج بي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن سبع سنين) أي: كان عمره في حجة الوداع سبع سنين.
لما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم من تبوك خرج الناس لاستقباله وفيهم الصبيان ومنهم السائب بن يزيد، فدل هذا على أن مثل ذلك سائغ، وأنه لا بأس به، وفيه إظهار السرور والاستبشار بالقادم.(327/33)
ترجم رجال إسناد حديث تلقي المجاهد إذا رجع
قوله: [حدثنا ابن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن السائب بن يزيد].
السائب بن يزيد رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا أيضاً إسناد رباعي.(327/34)
استحباب إنفاد الزاد في الغزو إذا قفل(327/35)
شرح حديث إنفاد الزاد في الغزو إذا قفل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيما يستحب من إنفاد الزاد في الغزو إذا قفل.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا ثابت البناني عن أنس بن مالك: (أن فتى من أسلم قال: يا رسول الله! إني أريد الجهاد وليس لي مال أتجهز به.
قال: اذهب إلى فلان الأنصاري فإنه كان قد تجهز فمرض، فقل له: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرئك السلام، وقل له: ادفع إلي ما تجهزت به.
فأتاه فقال له ذلك فقال لامرأته: يا فلانة! ادفعي له ما جهزتني به ولا تحبسي منه شيئاً، فوالله لا تحبسين منه شيئاً فيبارك الله فيه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب فيما يستحب من إنفاد الزاد في الغزو إذا قفل، وهذه الترجمة ظاهرها أن المقصود أن الإنسان عندما يقفل يستنفد زاده ولا يقلل على نفسه؛ لأنه إذا كان ذاهباً يمكن أن يقلل على نفسه خشية أن ينقضي زاده، ولكنه إذا رجع ما بقي هناك ما يحتاج معه إلى التقليل فيستفيد منه، هذا هو ظاهر الترجمة.
لكن الحديث الذي أورده فيها لا يدل على هذا المعنى الواضح من الترجمة، وإنما أورد فيه أبو داود رحمه الله حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن فتى من أسلم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس معه شيء يتجهز به للغزو فقال: اذهب إلى فلان وأقرئه السلام وقل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك بأن تدفع إليَّ الذي جهزت به نفسك) لأن هذا الرجل كان مريضاً لا يستطيع أن يسافر، وكان قد تهيأ للسفر وأعد الزاد الذي يسافر به، فذهب إليه وأبلغه بالذي أرشده إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فقال لامرأته: أعطيه كل شيء جهزتني به، أي: كل شيء أعددته لي لأسافر به ولا تمنعي منه شيئاً.
قوله: [(فوالله لا تحبسين منه شيئاً فيبارك الله فيه)].
أي: لن يكون فيه بركة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعطائه إياه.
هذا هو الحديث الذي أورده أبو داود تحت الترجمة، وليس بواضح مطابقته للترجمة، ولكن يمكن أن يقال: إنه إذا احتاج الإنسان إلى أن يسأل وهو في إنشاء السفر وفي ابتداء الغزو، فكذلك إذا قفل وكان بحاجة إلى زاد ونفد زاده وليس معه شيء فإنه من باب أولى أن يسأل؛ لأنه إذا ساغ له أن يسأل في البداية مع أنه معذور ويمكن أن يبقى، فكونه يسأل في النهاية وقد قفل ونفد الزاد منه لا بأس بذلك.
وقوله في الترجمة: [قفل] أي: رجع، والقفول هو: الرجوع من السفر.(327/36)
تراجم رجال إسناد حديث استحباب إنفاد الزاد في الغزو إذا قفل
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس رضي الله عنه مر ذكره.
وهذا الإسناد أيضاً من الأسانيد العالية عند أبي داود التي هي الرباعيات.(327/37)
الصلاة عند القدوم من السفر(327/38)
شرح حديث كعب بن مالك في الصلاة عند القدوم من السفر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الصلاة عند القدوم من السفر: حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني والحسن بن علي قالا: حدثنا عبد الرزاق أخبرني ابن جريج قال: أخبرني ابن شهاب قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عبد الله بن كعب وعمه عبيد الله بن كعب عن أبيهما كعب بن مالك: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يقدم من سفر إلا نهاراً -قال الحسن: في الضحى- فإذا قدم من سفر أتى المسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس فيه)].
أورد أبو داود رحمه الله باباً في الصلاة عند القدوم من السفر.
أي الصلاة في المسجد عند القدوم من السفر، وذلك أنه إذا قدم يذهب إلى المسجد ويصلي فيه ركعتين، هذه سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد أبو داود حديث كعب بن مالك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر أتى المسجد فصلى فيه ركعتين ثم جلس) أي: جلس للناس للسلام عليه وللقائه صلى الله عليه وسلم، فالحديث يدل على ما ترجمه المصنف من استحباب ذلك، وأن ذلك سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم كون الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي للمسجد ويصلي ركعتين؛ هذا ليس خاصاً به؛ لأن الخصوصية لا يصار إليها إلا بوجود دليل يدل عليها، وحيث لا يكون كذلك فإن الحكم للجميع ولا يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ثم أيضاً: كون الإنسان يأتي للمسجد ويصلي فيه ركعتين فيه تقوية الصلة بالله عز وجل، وكون الإنسان يحصل منه أول شيء في البلد دخول المسجد الذي هو خير البقاع وأفضل البقاع وأحب البقاع إلى الله عز وجل، أمر حسن!(327/39)
تراجم رجال إسناد حديث كعب بن مالك في الصلاة عند القدوم من السفر
قوله: [حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني].
محمد بن المتوكل العسقلاني صدوق له أوهام كثيرة، أخرج له أبو داود.
[والحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني ابن شهاب].
مر ذكره.
[أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك].
عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبيه عبد الله بن كعب].
أبوه عبد الله بن كعب له رؤية، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عبيد الله بن كعب].
وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبيهما كعب بن مالك].
كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(327/40)
شرح حديث ابن عمر في الصلاة عند القدوم من السفر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن منصور الطوسي حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق قال: حدثني نافع عن ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أقبل من حجته دخل المدينة، فأناخ على باب مسجده ثم دخله فركع فيه ركعتين ثم انصرف إلى بيته، قال نافع: فكان ابن عمر كذلك يصنع)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم من حجة الوداع أناخ عند المسجد ودخل فصلى فيه ركعتين ثم ذهب إلى بيته)، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه كذلك يصنع اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.(327/41)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر في الصلاة عند القدوم من السفر
قوله: [حدثنا محمد بن منصور الطوسي].
محمد بن منصور الطوسي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا يعقوب].
يعقوب بن إبراهيم بن سعد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبي].
أبوه هو إبراهيم بن سعد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(327/42)
شرح سنن أبي داود [328]
أباح الله للمسلم أن يتاجر في موسم الحج، وكذلك الجهاد، وليس للقاسم بين المجاهدين انتقاص حقوقهم إلا باتفاق سابق على أجرة معينة، وقد نهى الشرع عن مخالطة المشرك ومساكنته، كما بينت ذلك أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.(328/1)
ما جاء في كراء المقاسم(328/2)
شرح حديث أبي سعيد في كراء المقاسم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كراء المقاسم.
حدثنا جعفر بن مسافر التنيسي حدثنا ابن أبي فديك حدثنا الزمعي عن الزبير بن عثمان بن عبد الله بن سراقة أن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان أخبره أن أبا سعيد الخدري أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إياكم والقسامة! قال: فقلنا: وما القسامة؟ قال: الشيء يكون بين الناس فيجيء فينتقص منه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: [باب في كراء المقاسم].
والمقصود بكراء المقاسم: هو كون الذي يقسم الأشياء المشاعة -المشتركة- بين الناس يأخذ من هذا شيئاً يختص به مقابل قسمه، وهذا فيه تفصيل: فإذا اتفقوا معه على أن يقسم بينهم بمقابل فإنه يأخذ ما اتفقوا عليه، ولا يأخذ زيادة على ذلك، أو إنما يأخذ الشيء الذي يتفقون عليه.
وأما إذا كان القسم من واجباته لكونه هو المسئول، أو كان مرجعاً في ذلك، أو كان موظفاً يتولى قسمة الأشياء على الناس؛ فإن أجره وكراءه إنما حصل بالذي خصص له في مقابل ذلك، فليس له أن يأخذ من الناس شيئاً.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والقسامة! قالوا: وما القسامة يا رسول الله؟! قال: الشيء يكون بين الناس فيجيء فينتقص منه).
أي: أنه حق مشترك بين الناس، فيجيء القسام فيأخذ من هذا ويأخذ من هذا مقابل قسمه.(328/3)
تراجم رجال إسناد حديث أبي سعيد في كراء المقاسم
قوله: [حدثنا جعفر بن مسافر التنيسي].
جعفر بن مسافر التنيسي صدوق ربما أخطأ، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن أبي فديك].
هو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الزمعي].
هو موسى بن يعقوب، وهو صدوق سيئ الحفظ، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن الزبير بن عثمان بن عبد الله بن سراقة].
مقبول، أخرج له أبو داود.
[محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبره أن أبا سعيد].
هو سعد بن مالك بن سنان الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث فيه هذا الرجل المقبول، والمقبول لا يحتج به إلا عند المتابعة، لكن معناه فيه التفصيل الذي ذكرته.(328/4)
شرح حديث عطاء بن يسار في كراء المقاسم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله القعنبي حدثنا عبد العزيز -يعني ابن محمد - عن شريك -يعني ابن أبي نمر - عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه قال: (الرجل يكون على الفئام من الناس فيأخذ من حظ هذا وحظ هذا)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهي مرسلة عن عطاء بن يسار، وفيه ما في الذي قبله.
قوله: [(الرجل يكون على الفئام من الناس)] أي: على الجماعة الكثيرة من الناس الذين لهم حقوق مشتركة.
قوله: [(فيأخذ من حق هذا ومن حق هذا) أي: يصطفيه لنفسه لقيامه بالقسمة لهذه الحقوق.(328/5)
تراجم رجال إسناد حديث عطاء بن يسار في كراء المقاسم
قوله: [حدثنا عبد الله القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا عبد العزيز -يعني ابن محمد -].
هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شريك -يعني ابن أبي نمر -].
هو شريك بن عبد الله بن أبي نمر، وهو صدوق يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي أخرج له في الشمائل.
[عن عطاء بن يسار].
وهو تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث مرسل لأن عطاء تابعي، ويمكن أن يكون قد رواه عن أبي سعيد الذي في الإسناد السابق ويمكن أن يكون غيره، ويمكن أن يكون هناك واسطة من التابعين.(328/6)
التجارة في الغزو(328/7)
شرح حديث التجارة في الغزو
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التجارة في الغزو.
حدثنا الربيع بن نافع حدثنا معاوية -يعني ابن سلام - عن زيد -يعني ابن سلام - أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني عبيد الله بن سلمان أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم حدثه قال: (لما فتحنا خيبر أخرجوا غنائمهم من المتاع والسبي، فجعل الناس يتبايعون غنائمهم، فجاء رجل حين صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله! لقد ربحت ربحاً ما ربح مثله اليوم أحد من أهل هذا الوادي.
قال: ويحك وما ربحت؟ قال: ما زلت أبيع وأبتاع حتى ربحت ثلاثمائة أوقية.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا أنبئك بخير رجل ربح؟ قال: ما هو يا رسول الله؟ قال: ركعتين بعد الصلاة)].
أورد أبو داود رحمه الله باباً في التجارة في الغزو.
أي: أنه لا بأس بأن يبيع الإنسان ويشتري وهو مسافر في الغزو، وقد جاء في الحج الرخصة في ذلك: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]، والحج عبادة والغزو عبادة، وكل منها لا بأس بالتجارة فيه.
وقد أورد أبو داود حديثاً فيه ضعف، وهو عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس لما فتح الله لهم خيبر وأخذوا الغنائم من المتاع والسبي صاروا يتبايعون، أي: بعد أن قسمت الغنائم وعرف كل ما يستحقه، أما قبل القسمة فليس لأحد أن يبيع ويشتري؛ لأن الحق غير معروف، وإنما يبيع الإنسان حقه حيث يكون معروفاً وحيث يكون معيناً مميزاً.
قوله: [(فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة وقال: إنني ربحت ربحاً ما ربحه أحد من أهل الوادي)] يعني: من هؤلاء المنتشرين في الوادي والذين هم الجيش الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(ألا أنبئك بخير رجل ربح؟ قال: ما هو رسول الله؟! قال: ركعتين بعد الصلاة)].
أي: أن يركع ركعتين بعد الصلاة، فهذا هو الربح الحقيقي، وهو ربح الآخرة، وأما ربح الدنيا فليس بشيء أمام ربح الآخرة.
فالحديث يدل على جواز التجارة والبيع والشراء، ويدل على فضل العبادة وأن تجارة الآخرة أعظم وأهم، وأنها التي ينبغي أن يفرح بها وأن يحرص عليها؛ لأنها تجارة نتائجها مستمرة وباقية، بخلاف تجارة الدنيا فإنها إما أن تذهب من صاحبها أو يذهب هو عنها.(328/8)
تراجم رجال إسناد حديث التجارة في الغزو
قوله: [حدثنا الربيع بن نافع].
الربيع بن نافع هو أبو توبة الحلبي، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا معاوية -يعني ابن سلام -].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد -يعني ابن سلام -].
هو أخو معاوية بن سلام وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[أنه سمع أبا سلام].
وهو ممطور الحبشي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني عبيد الله بن سلمان].
وهو مجهول، أخرج له أبو داود.
[أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حدثه].
جهالة الصحابي لا تؤثر وإنما تؤثر جهالة غيره، والحديث فيه ذلك الرجل المجهول الذي هو عبيد الله بن سلمان؛ لكن المعنى صحيح، لأن الأصل هو الجواز، ولا يقال بالمنع إلا بدليل، وقد جاء ما يدل على التجارة في الحج وهو شبيه به.(328/9)
حمل السلاح إلى أرض العدو(328/10)
شرح حديث حمل السلاح إلى أرض العدو
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في حمل السلاح إلى أرض العدو.
حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس أخبرني أبي عن أبي إسحاق عن ذي الجوشن رجل من الضباب قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن فرغ من أهل بدر بابن فرس لي يقال له: القرحاء، فقلت: يا محمد! إني قد جئتك بابن القرحاء لتتخذه، قال: لا حاجة لي فيه، وإن شئت أن أقيضك به المختارة من دروع بدر فعلت.
قلت: ما كنت أقيضه اليوم بغرة، قال: فلا حاجة لي فيه)].
أورد أبو داود باباً في حمل السلاح إلى أرض العدو، وحمل السلاح إلى أرض العدو للجهاد في سبيل الله أمر لابد منه؛ لأن الجهاد بدون سلاح لا يترتب عليه فائدة، وإنما العبرة في كون الإنسان معه سلاح يجاهد به ويقاتل، فحمله للقتال أمر واضح ليس فيه إشكال، والذي فيه إشكال هو حمله إلى أرض العدو ليباع أو يهدى أو يعطى للأعداء يتقوون به، فهذا هو الذي لا يجوز.
وأبو داود رحمه الله أورد حديثاً فيه ضعف وفيه قول ذي الجوشن: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فرغ من أهل بدر بابن فرس لي يقال له: القرحاء).
ذو الجوشن هو رجل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم، ثم أسلم بعد ذلك، فأتاه بابن فرس له يقال له: ابن القرحاء.
قوله: [(قلت: يا محمد! إني قد جئتك بابن القرحاء لتتخذه)].
أي: لم يقل: يا رسول الله؛ لأنه لم يسلم.
قوله: [(أقيضك به المختارة من دروع بدر)].
يعني: أبادلك، فالمقايضة هي المبادلة، وهي أن يتنازل عن شيء مقابل شيء كدار عن دار، فهي مبادلة الأشياء بدون ثمن، فإذا كانت المبادلة بثمن فهو بيع.
والمختارة من دروع بدر هي النفيسة من دروع بدر، أي بدل ابن الفرس.
قوله: [(ما كنت أقيضه اليوم بغرة)].
أي: ما كنت أدفعه بمقابل شيء من المتاع أو الحيوان، والغرة قيل: المراد بها الفرس، والمشهور أنها عبد أو أمة؛ لكن الرجل امتنع لأن فرسه أغلى عنده، وأنه أغنى عنده من غرة أي: من فرس، ومحل الشاهد منه كون النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(أقيضك به المختارة من دروع بدر) ومعنى ذلك حمل السلاح إلى أرض العدو عن طريق شخص منهم، أي أن يباع عليه السلاح فيذهب به، لكن الحديث كما هو واضح غير ثابت؛ لأن أبا إسحاق السبيعي لا يروي عن ذي الجوشن وإنما يرسل عنه.(328/11)
تراجم رجال إسناد حديث حمل السلاح إلى أرض العدو
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عيسى بن يونس].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني أبي].
أبوه يونس بن أبي إسحاق، وهو صدوق يهم قليلاً، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي إسحاق].
هو أبو إسحاق عمرو بن عبد الله الهمداني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ذي الجوشن].
صحابي، أخرج له أبو داود.
وهذا فيه تحمل الراوي في حال كفره وتأديته في حال إسلامه، وهذا مثل حديث أبي سفيان في قصة هرقل، فإنه تحمل وأخبر عما في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قرئ على عظيم الروم، وكان ذلك في حال كفره، فكان يحدث بذلك في حال إسلامه، فلا بأس بتحمل الراوي في حال كفره وتأديته في حال الإسلام، كما أن الصغير يتحمل في حال صغره ويؤدي في حال كبره.(328/12)
الإقامة بأرض الشرك(328/13)
شرح حديث النهي عن مساكنة المشركين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الإقامة بأرض الشرك: حدثنا محمد بن داود بن سفيان حدثنا يحيى بن حسان أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود قال: حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب قال: حدثني خبيب بن سليمان عن أبيه سليمان بن سمرة عن سمرة بن جندب: أما بعد: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: [باب في الإقامة بأرض الشرك]، أي: ليس للإنسان أن يقيم في أرض المشركين وأن يساكنهم وأن يكون معهم؛ لئلا يحصل منهم تأثير عليه.
ولكن إذا كان بقاؤه بين المشركين لا يمنعه من أن يقيم فيهم شعائر دينه، وكان يستطيع أن يدعو الكفار إلى الدين الإسلامي، وكذلك يدعو المسلمين فيه إلى الله على بصيرة، ليتمسكوا بإسلامهم، وليحافظوا على شعائر دينهم، وليظهروا للكفار أحكام الإسلام حتى يعرفها الكفار، وحتى يكون ذلك سبباً في إسلام الكفار؛ فإنه لا بأس بذلك.
وقد أورد أبو داود حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله)؟ ومعناه: من اختلط به وامتزج به وسكن معه فإنه يكون مثله؛ لأن الاحتكاك قد يؤثر، والمشابهة في الظاهر قد يحصل منها تأثير على الباطن، فإذا كان الإنسان لا يستطيع إظهار شعائر دينه فعليه أن يرتحل وينتقل إلى بلد آخر يستطيع أن يظهر فيه شعائر دينه، وفيه التفصيل الذي أشرت إليه.(328/14)
تراجم رجال إسناد حديث النهي عن مساكنة المشركين
قوله: [حدثنا محمد بن داود بن سفيان].
محمد بن داود بن سفيان مقبول، أخرج له أبو داود.
[حدثنا يحيى بن حسان].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود].
سليمان بن موسى أبو داود فيه لين، أخرج حديثه أبو داود.
[حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب].
جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب ليس بالقوي، أخرج له أبو داود.
[حدثني خبيب بن سليمان].
خبيب بن سليمان مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه سليمان بن سمرة].
سليمان بن سمرة مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن سمرة بن جندب].
سمرة بن جندب رضي الله عنه، صحابي أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الإسناد سبق أن مر بنا مرتين قبل هذه، وتلك الأحاديث التي مر بها ضعيفة؛ لأن فيها خمسة فيهم كلام وقد انفرد بالإخراج لهم أبو داود، فمنهم من هو لين الحديث، ومنهم من هو مقبول، ومنهم من هو مجهول، ومنهم من ليس بالقوي، فهذا الحديث إسناده ضعيف ولكن متنه صحيح؛ لأنه جاء في روايات أخرى ما يشهد له، ولهذا صححه الألباني رحمه الله وأورده في السلسلة الصحيحة برقم (2330) وذكر شواهده.(328/15)
الأسئلة(328/16)
معنى: (وقع القدم) في حديث ابن أبي أوفى في باب ما جاء في القراءة في الظهر
السؤال
جاء في حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم) فما معنى: وقع قدم؟
الجواب
وقع القدم هو حركة القدم عند المشي، ومعناه: أن الناس تكاملوا ودخلوا في الصلاة.(328/17)
متى يكون للمسافر حكم المقيم؟
السؤال
من سافر إلى بلد ونوى أن يقيم فيه عدداً من السنين للدراسة، فهل يتم الصلاة أو يقصر؟
الجواب
يجب عليه أن يتم الصلاة؛ لأنه لا يعتبر مسافراً السفر الذي يكون فيه مشقة، بل هو مثل الحاضرين المقيمين ليس عليه تعب ولا مشقة، وإنما القصر والترخص يكون في حال الإقامة في البلد مدة لا تزيد على أربعة أيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما عرف عنه أنه دخل بلداً وأقام فيه مدة معينة يقصر إلا أربعة أيام في حجة الوداع؛ حيث دخل مكة في ضحى يوم الرابع ثم خرج من مكة إلى منى في ضحى يوم الثامن، فمن دخل بلداً وهو يريد الإقامة أكثر من أربعة أيام فإن حكمه حكم المقيمين، ومن دخله وهو ينوي أربعة أيام فأقل فحكمه حكم المسافرين، ومن دخله وهو لا ينوي مدة معينة وإنما يريد أن يقضي حاجة ولكن لا يدري متى تنتهي؛ فهذا يترخص برخص السفر وإن طالت المدة.(328/18)
العدو الذي يقاتله المسلمون والروم
السؤال
مر بنا قوله صلى الله عليه وسلم: (ستصالحون الروم صلحاً وتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم) فما معنى: (عدواً من ورائكم)؟
الجواب
قوله: (ومن ورائكم) يحتمل أن يكون أمامكم، ويحتمل أن يكون وراءكم؛ لأن الوراء يأتي بمعنى الأمام وبمعنى الخلف.(328/19)
حكم زوجة الابن من الرضاع
السؤال
هل يجوز للرجل أن يتزوج زوجة ابنه من الرضاعة؟
الجواب
ليس له ذلك، وهذا قول جمهور العلماء، وقد ذكر ابن كثير في تفسيره عند قوله: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23] أن قوله: ((الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ)) يخرج الابن بالتبني ولا يخرج الابن من الرضاعة.(328/20)
حكم أكل القنفذ للعلاج
السؤال
ما حكم أكل القنفذ لغرض العلاج؟
الجواب
هو محرم، وليس للإنسان أن يتداوى بالحرام.(328/21)
حكم بيع الشعير بالأجل
السؤال
ما حكم بيع الشعير بالأجل؟
الجواب
إذا كان يبيعه بفلوس فلا بأس، وكل شيء يباع بفلوس يمكن تأجيله، ولا مانع من ذلك؛ لأن تأجيل الثمن من النقود لا يقال: إنه من الربويات؛ لأن هذه أثمان من الذهب والفضة وما قام مقامهما، وإنما المحذور أن يبيعه بطعام آخر من جنسه أو من غير جنسه مؤجلاً.(328/22)
حكم استعمال اللولب للمرأة
السؤال
ما حكم استعمال اللولب؟
الجواب
اللولب الذي تستعمله النساء إذا كان من أجل تأخير الولادة بسبب وجود المشقة من توالي الولادة، وتضعه لوقت معين ثم ترفعه، فلا بأس في ذلك، أما وضع شيء يقطع النسل ويمنع الحمل مطلقاً فلا يجوز.(328/23)
حكم مسح الوجه بعد الدعاء
السؤال
سبق أن سئلتم عن مسح الوجه باليدين بعد الدعاء، فقلتم: إن الأحاديث التي وردت فيه ضعيفة، ولكن أشكل علينا ما قاله الحافظ ابن حجر في البلوغ بعد أن ذكر الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند وأبو داود عن السائب بن يزيد عن أبيه رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا فرفع يديه مسح وجهه بيديه) قال الحافظ في البلوغ: وله شواهد عند أبي داود من حديث ابن عباس وغيره، ومجموعها يقضي بأنه حديث حسن؟
الجواب
نعم هذا ذكره الحافظ ابن حجر في البلوغ، ولكن الصحيح هو ما قاله ابن تيمية وكذلك الشيخ الألباني رحمه الله: لا يثبت منها شيء، ولا يقوي بعضها بعضاً، فلا يعمل بها ولا يحتج بها، وإنما يرفع الإنسان يديه عندما يدعو ثم ينزلها من غير مسح.(328/24)
شد الرحل إلى غير المساجد الثلاثة
السؤال
هل يجوز شد الرحل من أجل الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة؟
الجواب
ليس للإنسان أن يشد الرحل للاعتكاف في غير المساجد الثلاثة.(328/25)
حكم اغتيال زعماء الكفر
السؤال
ذكرتم في درس ماض جواز اغتيال زعماء الكفار إذا كان يشكى منهم ضرر على المسلمين، فهل هذا على إطلاقه أم هو خاص بحال الحرب؟
الجواب
زعماء الكفار الذين يحصل منهم ضرر على المسلمين وإيذاء للمسلمين إذا أمكن التخلص منهم بدون أن يحصل ضرر أكبر فلا بأس به ولا مانع منه.
ومعلوم أن ذلك في حال الحرب أمر واضح، وأما في غير حال الحرب فإذا كان الضرر موجوداً، بحيث إن بعض الزعماء من الكفار يحصل منهم إيذاء شديد للمسلمين؛ فإذا تمكن من القضاء عليهم من غير حصول ضرر أكبر فلا بأس بذلك.
ومعلوم أن قصة كعب بن الأشرف التي مرت ليس فيها حرب، ولكن كان الرجل يسب الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤذي المسلمين، فالرسول أهدر دمه وقال: (من لـ كعب بن الأشرف؟).(328/26)
موقع ثنية الوداع
السؤال
مر أن السائب بن يزيد لقي النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم من غزوة تبوك على ثنية الوداع، أليس في هذا دليل على أن ثنية الوداع من جهة الشمال؟
الجواب
هذا دليل واضح على أن ثنية الوداع من جهة الشمال.(328/27)
مقاطعة المنتجات الإسرائيلية
السؤال
انتشرت في هذه الأيام أوراق فيها ذكر منتجات إسرائيلية وأمريكية وغيرها، وأنه ينبغي مقاطعة هذه المنتجات؛ لأنهم يتقوون بها على إخواننا في فلسطين، فما حكم هذه المقاطعة لهذه المنتجات؟
الجواب
هذه الأوراق التي تنشر لا يعرف شيء عن صحتها، فقد تكون صحيحة وقد ينشرها أناس من التجار الذين يبيعون غير هذه الأشياء لصرف الأنظار عنها، من باب الكيد التجاري، فمثل هذا لا ينبغي أن يعول عليه.(328/28)
ما ينبغي على المسلم في رمضان
السؤال
نرجو منكم كلمة عن شهر رمضان، وما ينبغي على المسلم فيه؟
الجواب
إن شهر رمضان موسم عظيم من مواسم الآخرة، فيه التجارة العظيمة، وقد مر بنا في الحديث أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إنني ربحت ربحاً ما ربحه أحد من أهل الوادي، قال: ويحك ألا أنبئك بما هو خير من ذلك ركعتين بعد الصلاة)، والحديث ضعيف لكن فيه إشارة إلى أن تجارة الآخرة هي التجارة الرابحة، ولا شك أن قدوم شهر رمضان المبارك على المسلمين قدوم موسم عظيم من مواسم الآخرة، فهو شهر فرض الله صيامه، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه، فعلى المسلم أن يستقبله بالارتياح والبشر والسرور، والعزم والتصميم على أن يصوم نهاره على الوجه الذي يرضي الله، وأن يقوم ليله، وأن يبتعد فيه وفي جميع الأيام عن المعاصي والفسوق.
ولكن الزمان الفاضل الخطر فيه أكبر، والضرر فيه أعظم إذا وقع الإنسان في المحذور، فعلى الإنسان أن يستقبله بتوبة صادقة نصوح، وأن يقدم على العبادة وعلى الطاعة تائباً من جميع الذنوب والمعاصي، فيصلح ما بينه وبين الله عز وجل ويصوم هذا الشهر، ويقوم الليل مع الأئمة في المساجد، يصلي بصلاتهم وينصرف عند انصرافهم، سواء صلوا إحدى عشرة ركعة أو صلوا ثلاثاً وعشرين أو صلوا ثلاثاً وثلاثين، أو أقل أو أكثر؛ لأن هذا كله سائغ وجائز، وداخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح أتى بركعة توتر ما مضى)، ولا شك أن ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأولى والأفضل، ولكن الزيادة عليه لا مانع منها؛ لأن هذا الحديث يدل على ذلك.
ثم كون الإنسان يصلي مع الإمام حتى ينصرف يدخل فيه تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة)، والمقصود بانصراف الإمام انصراف الناس من الصلاة وتفرقهم إلى بيوتهم، وليس كما يزعمه بعض الناس من أنه إذا كان الأئمة اثنين، والأول يصلي الخمس الأولى والثاني يصلي الخمس الثانية، فإنه إذا انصرف الإمام الأول انصرف، وقال: إنه قد صلى مع الإمام حتى انصرف؛ لأن الإمام الأول لم ينصرف وإنما تحول من كونه إماماً إلى كونه مأموماً وتقدم غيره للصلاة بدلاً منه في الركعات الباقية.
فالمقصود بالانصراف هو: أن يبقى مع الناس حتى ينصرفوا إلى منازلهم إذا فرغوا من الصلاة، ومما يوضح هذا أنه لو صلى بنا كل إمام ركعتين لصاروا عشرة أئمة، ومقتضى هذا القول أنه سيصلي ركعتين ويمشي؛ لأن الإمام الأول انصرف، فهذا مما يوضح فساد هذا الفهم.
وينبغي للإنسان ألا يحرم نفسه هذا الخير وهذا الفضل، ولا ينبغي له أن يترك الصلاة مع الناس بحجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى إحدى عشرة ركعة، فإن الرسول ما قال: لا يجوز سواها، بل قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح أتى بركعة توتر ما مضى)، فإذا صلى الإمام إحدى عشرة ركعة وانصرف فلينصرف معه، وإذا صلى ثلاثاً وعشرين ركعة وانصرف فلينصرف معه، وكذلك إذا صلى ثلاثاً وثلاثين ركعة، وهذا هو الذي ينبغي للإنسان.
ثم ينبغي للإنسان في هذا الشهر أن يحافظ على صيامه، ويبتعد عن كل ما يفسده وينقصه، وذلك من ناحية تناول ما لا يجوز تناوله، أو الوقوع في الأمور التي لا ينبغي الوقوع فيها من الكلام الفاحش البذيء والغيبة والنميمة وما إلى ذلك، كل ذلك يبتعد عنه الإنسان.
والرسول صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح وهو حديث قدسي: (يقول الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له، والحسنة بعشر أمثالها، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، وإنما خص الصيام لأنه من الأمور الخفية الباطنة التي لا يطلع عليها إلا الله عز وجل بخلاف غيره؛ فإن الصدقة تعرف، وأقل من يعرفها الفقراء الذين تعطى إليهم، وقد يعرفها غير الفقراء، والحج مشاهد معاين، والصلاة يعرف الناس من يذهب ويجيء إليها، ولكن بالنسبة للصوم فإنه خفي لا يطلع عليه أحد، فقد يكون الإنسان صائماً والناس لا يعرفون أنه صائم، وقد يكون مفطراً في رمضان والعياذ بالله والناس لا يعرفون أنه مفطر؛ لأن الصيام من الأمور الخفية التي لا يطلع عليها إلا الله عز وجل، ولهذا قال: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
ثم قال: (والصوم جنة) والجنة هي: الوقاية، فالصوم جنة من النار وجنة من المعاصي، فهو جنة من النار لأنه يقي من عذاب النار، وجنة من المعاصي لأن الصوم يضعف القوة البدنية، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أحصن للفرج، وأغض للبصر، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) فالشهوة التي تحصل للإنسان يضعفها الصوم، فيجعل الإنسان لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه وهو يأكل ويشرب، فإذاً هو جنة من المعاصي وجنة من النار.
(فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق) والرفث هو: الفاحش من القول، ويطلق كذلك على الجماع.
(فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم) أي: ينبهه حتى لا يستمر، وأيضاً ينبه نفسه على أنه في عبادة، والله تعالى أعلم.(328/29)
معنى كلمة (منهج)
السؤال
سمعنا كلامكم في كلمة المنهج، وأنها بحسب ما تضاف إليه، فما رأيكم في قول من قال: هي محدثة لا يجوز استعمالها؟
الجواب
كيف تكون محدثة؟! فهي من كلام العرب، ولها معنىً صحيح في اللغة العربية، ولكنها بحسب الإضافة، فمنهج كل قوم هو ما وضعوه وارتضوه لأنفسهم، وإذا كان ذلك المنهج حقاً فهو حق، وإذا كان باطلاً فهو باطل، ولهذا يقال: منهج أهل السنة والجماعة في العقيدة كذا وكذا، ومنهجهم في العمل كذا وكذا، فالمنهج هو الطريقة، فطريقتهم في العقيدة أنهم يعولون على النصوص والنقول، ولا يعولون على العقول، إذ العقول عندهم تابعة للنقول، والعقل لا يخالف النقل، فلا يقال: إنها محدثة وإنها لا تستعمل، بل معناها صحيح، لكنها بحسب ما تضاف إليه؛ فكل فرقة لها منهج، وكل جماعة لها منهج وطريقة، وهذا هو الواقع، ولا محذور فيه.(328/30)
الأحوال التي يخرج فيها المرء من منهج أهل السنة والجماعة في العلم والعمل
السؤال
متى يخرج الشخص عن منهج أهل السنة والجماعة في العلم والعمل؟
الجواب
يخرج عن منهجهم في العلم إذا تعلم العلم من غير طريقه ومن غير وجهه، بأن يتعلمه على طريقة أهل الأهواء، وعلى طريقة أهل البدع، فإنه يكون بذلك قد خرج عن منهجهم؛ لأن منهجهم أخذ الحق من طريقه وهو الكتاب والسنة، فإذا أخذه من غير هذين الطريقين فقد خرج عن المنهج الحق.
وكذلك العمل، فإن الإنسان يبني عمله على اتباع الكتاب والسنة، هذا هو المنهج الصحيح الذي عليه سلف الأمة، ولا يبنيه على محدثات الأمور والهوى وعلى البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، فيخرج عنهم في العلم بكونه يتعلم العلم الذي هو غير مستمد من الكتاب والسنة، بل على طريقة المتكلمين من أهل الضلال، وأيضاً يخرج عنهم في العمل لكونه لا يعمل طبقاً لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما طبقاً للبدع ومحدثات الأمور.(328/31)
الجهاد في كشمير
السؤال
هل يمكن الذهاب للجهاد في كشمير؟ وهل الجهاد الآن في كشمير فرض عين خاصة على نفس أهل البلد من الطلاب الذين جاءوا من كشمير؟
الجواب
كشمير من سنين كثيرة استولت عليها الهند، وأولئك بين حين وآخر يظهر منهم شيء من المقاومة، ولا يترتب على ذلك إلا إلحاق الضرر بالمسلمين، فالنتيجة التي تحصل منذ سنين أنه كلما حصل من المسلمين شيء من الظهور بقتل كافر، فإنه يقتل منهم أضعاف ذلك الذي قد قتل، فكون الإنسان يذهب إلى هناك للقتال فإن ذلك قد يتسبب في قتل أحد من المسلمين الأبرياء.(328/32)
حكم استخدام الأجراس للتنبيه على انتهاء وقت المحاضرة
السؤال
ما حكم الأجراس واستخدامها للتنبيه على انتهاء وقت المحاضرة أو الحصة؟
الجواب
لا بأس أن تستخدم بغير صوت الرنين الذي هو الجلجلة، بل يتخذ شيء له صوت لا يكون بهذا الوصف.(328/33)
حكم التحنيك
السؤال
هل التحنيك للصغير بالتمر بغير قصد التبرك يعتبر مستحباً، حتى إن بعض الناس يذهب بطفله إلى شيخ ليحنكه؟
الجواب
هذا لا يصلح أبداً، الناس ما ذهبوا إلى أبي بكر وعمر وهم أفضل من كل من جاء بعدهم رضي الله عنهم وأرضاهم، كما ذكر ذلك الشاطبي في كتاب الاعتصام.
أما أن الأب يحنك ولده أو القريب يحنك قريبه فلا بأس، وإنما المحذور أن يحنكه أحد من أجل البركة، فهذا ما حصل لأحد إلا للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا يتبركون بعرقه، والصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يفعلون ذلك بعرق أبي بكر أو عرق عمر أو عثمان أو غيرهم من الصحابة، وإنما اعتبروه خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا حكى الشاطبي الإجماع على هذا.(328/34)
حكم تسمية الأنثى (ناصرة)
السؤال
ما حكم تسمية الأنثى بناصرة؟
الجواب
الأسماء كثيرة، وعلى الإنسان أن يختار للمولود اسماً لا يحتاج إلى أن يسأل عنه؛ لأن الشيء لا يسأل عنه إلا إذا كان محل اشتباه، وناصرة مثل ناصر، لكن الشيء الذي في النفس منه شيء يترك إلى شيء لا يكون في النفس منه شيء.(328/35)
حكم عقد درس في عصر يوم الجمعة
السؤال
ما حكم عقد درس بعد عصر الجمعة، هل جاء فيه نهي؟
الجواب
التحلق قبل الجمعة هو الذي جاء فيه النهي، وأما بعد ذلك فلا نعلم شيئاً يدل على المنع منه.(328/36)
مراجعة الزوجة
السؤال
طلقت زوجتي مرة واحدة ولي منها ولد، ومعي زوجة ثانية، وأريد أن أرد زوجتي إلي، فما هو الحل لرد زوجتي إلي؟
الجواب
إذا كانت خرجت من العدة فإنه يخطبها ويعقد عليها من جديد، ويدفع لها مهراً كأنه خاطب من الخطاب، وإن كانت في العدة فالمراجعة حق له.(328/37)
وقت قنوت النوازل ورفع اليدين فيه
السؤال
هل قنوت النوازل مخصص بصلاة الفجر فقط؟ وما حكم رفع اليدين والتأمين في القنوت؟
الجواب
قنوت النوازل يكون في جميع الصلوات وليس خاصاً بالفجر، ويكون في السرية وفي الجهرية.
وأما رفع اليدين فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في النوازل أنه كان يرفع يديه، والمأمومون يؤمنون، وفي قنوت الوتر جاء عن عمر وعن أبي هريرة وعن بعض الصحابة أنهم كانوا يرفعون أيديهم.(328/38)
حكم مس التفسير للحائض
السؤال
هل يجوز للمرأة الحائض أن تمس كتاب التفسير المكتوب على حواشي المصحف؟
الجواب
نعم يجوز، ولكن الذي ينبغي أنها تستعمل ذلك بواسطة؛ لأن يدها قد تقع على القرآن؛ لأن القرآن مكتوب في الوسط ثم تأتي الحواشي من فوق وتحت وعلى الجوانب، فإذا استعملت اليد فقد تقع على بعض الآيات فالأولى أن تكون يداها في شراب بحيث لا تباشر ذلك، ولكن لو أنها لم يحصل منها إلا ملامسة التفسير فلا بأس بذلك، وقد جاء في الحديث (من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه).(328/39)
حكم من سب الله ورسوله من الجهال
السؤال
ابتلينا في بلادنا بأناس من المسلمين يسبون الله عز وجل ورسوله، فما واجبنا نحوهم؟ وهل يعذرون بالجهل؟
الجواب
الواجب عليكم أن تعلموهم وتبينوا لهم الخطورة، وإذا سبوا الله أو سبوا الرسول صلى الله عليه وسلم فما معنى إيمانهم بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم؟ وما معنى إسلامهم؟ وما معنى كونهم متعبدين وهم يسبون المعبود، ويسبون الذي دلهم وأرشدهم إلى عبادة المعبود صلى الله عليه وسلم، لا شك أن هذا والعياذ بالله عمل خطير، وهو كفر وردة عن الإسلام، وإذا كان عن سبق لسان فهو معذور، أما إذا كان السب عمداً فيجب التعليم ويجب التنبيه؛ لأن هذا من أخطر الأمور.(328/40)
اشتراط الإمام للجهاد
السؤال
هل يشترط الإمام والراية في كل حال لقتال الأعداء؟ وما الدليل على ذلك؟
الجواب
الجهاد في سبيل الله عز وجل لابد أن يكون بوجود الإمام وتوجيهه إذا كان الناس يذهبون لقتال الكفار ويذهبون لغزوهم، أما إذا اعتدي على الناس فإنهم يقاتلون عن أنفسهم سواء كان عندهم إمام أم لم يكن عندهم إمام.(328/41)
الرد على من يقول السنة القولية والتقريرية ليست حجة
السؤال
يوجد من يقول: أمر النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره ليس بحجة، وإنما الحجة في فعله فقط، فهل قوله صحيح؟
الجواب
كيف يكون صحيحاً أن يقال: أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحجة؟! {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وإذا كان قوله ليس حجة فماذا نفعل بالأحاديث القولية؟ هذا كلام عجيب!!(328/42)
حكم الفدائي
السؤال
ما حكم الفدائي الذي يحمل المتفجرات ويذهب إلى أوساط الكفار ويفجرهم ونفسه؟
الجواب
هذا قاتل لنفسه، وهو عمل لا يجوز.(328/43)
حكم الاستعانة بالكفار
السؤال
أليس في دخول النبي صلى الله عليه وسلم في جوار المطعم وهو كافر دليل على جواز الاستعانة بالكفار مع الضوابط؟
الجواب
نعم يجوز، وهذا دليل يدل على ذلك.(328/44)
الحكمة من الإقامة ثلاثة أيام بعد قتال الكفار
السؤال
ما الحكمة من الإقامة ثلاثة أيام بعد الفوز على العدو؟
الجواب
ذكرنا أنه لاستراحة الجيش بعد انتهائهم من القتال والمعركة، فيبقون من أجل الارتياح والاستجمام، وقيل أيضاً: إن معناه عدم الاكتراث بالعدو وأنهم لا يبالون بالكفار.(328/45)
حكم السبي إذا أسلموا
السؤال
إذا أسلم السبي فهل يطلق سراحهم؟
الجواب
لا يطلق سراحهم، والسبي رقيق سواءً بقي على كفره أو دخل في الإسلام.(328/46)
استخدام الأموال العامة في الأمور الشخصية
السؤال
جاءت أسئلة في قضية الغلول وعقوبة الغال واستخدام أموال الدولة في المصالح الخاصة.
الجواب
لا يجوز ذلك، وإنما تستعمل أموال الدولة في الأمور التي خصصت لها، ويكون الإنسان الموظف يأخذ من أوراق الدولة ومن أقلامها، أو يستعمل التلفونات في أموره الخاصة وليست في أمور الدولة، هذا لا يجوز، ويعتبر من الخيانة، لكن الغلول إنما هو من الغنيمة، وهذا أخذ للشيء بغير حقه.(328/47)
تفسير قوله تعالى (وما كان لنبي أن يغل)
السؤال
ما تفسير الآية: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161]؟
الجواب
جاء في تفسيرها أنه جاء في بعض الأحاديث أنهم فقدوا قطيفة وقالوا: لعل الرسول صلى الله عليه وسلم أخذها، ولعل المقصود من ذلك أنه أخذها اصطفاءً؛ ولكن جاء في بعض الأحاديث: وقد حسنه الألباني: أنه ما كان لنبي أن يتهمه قومه بالغلول.
وقوله: ((وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) أي: مثلما جاء في الحديث: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر، يقول: يا رسول الله أغثني! فأقول: قد أبلغتك).(328/48)
حكم بيع المصحف
السؤال
ما حكم بيع المصحف؟
الجواب
لا بأس بذلك.(328/49)
معنى أن المطر حديث عهد بربه
السؤال
جاء في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، قال: فحشر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله! لم صنعت هذا؟ قال: لأنه حديث عهد بربه) فما المراد؟
الجواب
يعني: أنه حديث عهد بإنزال ربه، وهو إنما نزل من بين السماء والأرض، كما قال الله عز وجل: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [البقرة:164]، {أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} [الواقعة:69] أي: السحاب، {أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:69]، وليس معنى ذلك أنه جاء من عند الله من فوق العرش.(328/50)
مقاطعة المنتجات الأمريكية واليهودية
السؤال
هل تقاطع المنتجات الأمريكية واليهودية؟
الجواب
المسلمون في هذا الزمان عندهم ضعف شديد؛ وسبب ضعفهم عدم قيامهم بأمر الله عز وجل وبما يجب عليهم، ومن أجل ذلك هانوا على أنفسهم، وهانوا على أعدائهم، فصاروا يهابون أعداءهم وأعداؤهم لا يهابونهم.
والمقاطعة وعدم المقاطعة وما إلى ذلك ترجع إلى المصلحة وما يترتب على ذلك من الفائدة، ومعلوم أن اليهود وهم من أرذل خلق الله ومن أحط خلق الله، ما تسلطوا على المسلمين إلا لضعف المسلمين وهوانهم وعدم قيامهم بأمر الله عز وجل، ولو أن المسلمين رجعوا إلى ربهم لصار لهم شأن، ولهابهم أعداؤهم بدل أن يكونوا هم الهائبين لأعدائهم، ومعلوم أن دول الكفر كلها ضد الإسلام، ولكن المسلمين هم الذين قصروا في إسلامهم، وقصروا بما يجب عليهم نحو إسلامهم، والمهم في المسلمين أن يرجعوا إلى الله عز وجل، وإذا رجعوا إلى الله عز وجل وأصلحوا ما بينهم وبين الله، وعملوا بما هو مطلوب منهم؛ فإن هذا من أسباب نصرهم، والله تعالى يقول: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:40 - 41].(328/51)
حكم الطهارة لسجود الشكر
السؤال
سجود الشكر هل يشترط له الطهارة واستقبال القبلة والتكبير والسلام؟
الجواب
فيه خلاف بين أهل العلم، والصحيح أنه لا يشترط، مثل سجود التلاوة.
ولا نعلم شيئاً يدل على تكبير ولا على سلام في سجود الشكر.
وكذلك استقبال القبلة لا أعرف فيه شيئاً؛ لكن كون الإنسان يتجه إليها لا شك أن هذا هو الذي ينبغي.(328/52)
حكم مسح الوجه بعد الدعاء
السؤال
ذكرتم حكم رفع اليدين في الدعاء، فما القول في مسح الوجه بهما؟
الجواب
لم يثبت، وقد ورد فيه أحاديث ضعيفة، والسنة أن ترفع الأيدي ثم تنزل بدون مسح.(328/53)
ما يجب على السائق إذا تسبب في الحادث فأصيب الراكب
السؤال
أنا سائق جئت من الرياض ومعي امرأة من أقربائي، فوقع لي حادث في عفيف، فوقع خلع للمرأة في بطنها وكسر في فخذها، جلست في مستشفى عفيف عشرة أيام، ثم نقلت إلى مستشفى الطائف وجلست فيه عشرة أيام، ثم توفيت قبل العملية، فهل علي شيء؟
الجواب
إذا كان السائق متسبباً في الحادث بسرعة أو شيء يرجع إلى إهماله وتفريطه، فلا شك أن عليه الدية وعليه الكفارة، وهي عتق رقبة، وإذا لم يستطع يصوم شهرين متتابعين.(328/54)
حكم دفع العامل جزءاً من أجرته للكفيل
السؤال
أحد العمال يعمل في ورشة ويدفع مبلغاً معيناً من المال لكفيله في كل شهر، سواء حصل على أجرة من عمله أو لم يحصل، أي أن الكفيل يقول لمكفوله: اشتغل وعند نهاية الشهر تسلم لي ألف ريال، سواء اشتغلت أم لم تشتغل، فهل هذا العمل جائز؟
الجواب
هذا غير صحيح؛ لأنه قد لا يحصل على شيء، فيفوز الكفيل بالمال دون العامل، فهو إما أن يكون أجيراً يعطيه كل شهر أجرة مقابل عمله، أو يكون على سبيل المشاركة بأن يكون له النصف مما يخرج، فعندما يخرج الشيء القليل يكون له نصفه، وعندما يخرج الشيء الكثير يكون له نصفه.
أما أن يقول: تعطيني كذا والباقي لك، فقد لا يحصل شيئاً فيضيع عمله بدون مقابل، ثم هذه الطريقة هل تأذن بها الدولة وتوافق عليها؟ فالشيء الذي لا توافق عليه الدولة في مثل هذا لا يصلح أن يؤخذ به، وأن يتصرف العامل كيف شاء، فإنما هو أجير له أجرة، لأنه استقدم على أنه أجير له.(328/55)
حكم اغتيال رؤساء الكفار
السؤال
هل يجوز اغتيال رؤساء الكفار الذين يمكرون بالإسلام والمسلمين في هذا الزمان بناءً على ما مر في قصة محمد بن مسلمة مع كعب بن الأشرف؟
الجواب
الذين يحصل منهم ضرر على المسلمين وأمكن التخلص منهم لا بأس بذلك، لكن بشرط ألا يحصل على المسلمين ضرر أكثر، أما إذا كان سيحصل على المسلمين ضرر أكثر فليس هذا من المصلحة وليس هذا من الحكمة.(328/56)
عمل أبي بصير ليس خروجاً على صلح الإمام
السؤال
هل عمل أبي بصير وأبي جندل في سيف البحر وتعرضهم لقوافل المشركين يعد خروجاً عن صلح الإمام أو يدل على جواز مثل ذلك العمل؟
الجواب
ليس خروجاً عن صلح الإمام؛ لأن الذي بين الإمام وبينهم أن يرد من يأتي إليه، وأما أولئك فالرسول ما قبلهم وهم لا يريدون أن يبقوا عند الكفار؛ لأنهم مسلمون، والكفار هم الذين اشترطوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يردهم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقبلهم، وليسوا تحت سلطة الإمام، وليسوا عنده بحيث يتمكن من تسليمهم، وإنما هم فارون من هؤلاء ومن هؤلاء، ولهذا لما تضرر الكفار من هذه العصابة التي كانت على سيف البحر طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبلهم وأن يكونوا عنده حتى يسلموا منهم.(328/57)
حكم الصلاة على من مات وهو يطوف حول قبر
السؤال
رجل مات وهو يطوف بقبر، هل تجوز الصلاة عليه؟
الجواب
الذي يعبد غير الله ويستغيث بالقبور، ويطوف بها، لا يعتبر مسلماً فلا يصلى عليه.(328/58)
الفرق بين صلاة الرجل وصلاة المرأة
السؤال
هل هناك فرق بين صلاة الرجل وصلاة المرأة؟
الجواب
لا فرق بين صلاة الرجل وصلاة المرأة، وما جاء في حق الرجل فهو في حق المرأة، وليس هناك شيء يتميز به الرجل عن المرأة أو المرأة عن الرجل في هيئة الصلاة وكيفية الصلاة، ولا يقال: النساء صلاتهن تختلف عن صلاة الرجال لكذا أو كذا، والأصل هو التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام حتى يأتي دليل على التفريق بينهم.(328/59)
حكم إطلاق (فرقة اغتيالات) على محمد بن مسلمة وأصحابه
السؤال
ما رأيك فيمن يقول: إن محمد بن مسلمة رضي الله عنه ومن كان معه هم فرقة اغتيالات النبي صلى الله عليه وسلم، هل يصح هذا؟
الجواب
هذا كلام ساقط، وكلام قبيح.(328/60)
حكم هدم مزارات التبرك
السؤال
إذا وجدت شجرة أو بناية والناس يزورونها، فهل لي أن أريح الموحدين منها بهدمها أو قطعها؟
الجواب
الذي ينبغي أن يرفع هذا إلى المسئولين، وهم الذين يتولون هذا؛ لأنه قد يقدم على شيء غير صحيح.(328/61)
حكم قراءة الدعاء من ورقة في الصلاة
السؤال
إمامنا في صلاة الفجر يخرج ورقة من جيبه يقرأ منها الدعاء على الكفار ونؤمن خلفه، ثم يعيدها إلى جيبه، فهل هذا العمل منه جائز؟
الجواب
نعم جائز، ولا بأس به؛ لكن كونه يدعو بدون ورقة هذا هو الأولى وهو الذي ينبغي، وما ذكر هو من جنس القراءة من المصحف في حق من لا يستطيع القراءة.(328/62)
تزيين الإبل بالحبال والسلاسل
السؤال
وضع سلاسل أو حبال للزينة لتجميل الإبل في أعناقها عادة منتشرة عندنا في البلد، فهل هذا يدخل في النهي؟
الجواب
إذا كانت توضع في رقبتها فهي قلادة، سواءً كانت من حديد أو من صوف أو غيره، والرسول إنما كان يقلد الهدي كما مر بنا في الحج أن عائشة كانت تفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الإشعار؛ فهذا ليعرف أنه هدي، وإذا كان ما يفعلونه لغرض صحيح وليس لغرض سيئ، ولا محذور فيه، فإنه لا بأس به.(328/63)
فضل العناية بالخيل
السؤال
جاءت في فضل العناية بالخيل أحاديث ذكرها الإمام أبو داود في كتاب الجهاد، فهل هذا يدل على أن الأمور سترجع إلى تلك الحال؟
الجواب
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة)، ثم أيضاً الأحاديث التي وردت في آخر الزمان ذكرت أنهم يغزون على الخيول، وهي في الصحيحين وفي غيرهما، فهذا يدل على بقاء الخيل وعلى الاستفادة منها في تلك الأزمان، ولا ندري هل هذه الوسائل الموجودة ستستمر وتبقى أو أنها تنتهي، والعلم عند الله عز وجل.
ومعلوم أن هذه الوسائل التي تعمل على الوقود وعلى النفط قد جعل الله هذا النفط سبباً في تحريكها وفي الاستفادة منها، لكن لو أن هذه المادة انعدمت فإن هذا الحديد سيقف في أماكنه ولا يستفاد منه، فهذا الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم لابد وأن يقع، أما هذا الموجود، هل سيبقى أو لا يبقى؟ فالله تعالى أعلم، لكن غالباً أنهم ما يصيرون إلى استعمال مثل هذه الوسائل مع وجود ما هو أمكن منها أو ما هو أشد منها، فيحتمل أن ذلك ينتهي، وأن الناس يعودون إلى تلك الوسائل التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بها كما قال: (سيأتي عشرة من أمتي أعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم، يقولون: الدجال خلفكم في أهليكم)، فذكر الخيول.(328/64)
من خالف أهل السنة في مسألة الخروج على الظلمة هل يعتبر منهم؟
السؤال
هل الخلاف في المسائل الحادثة من بعض الفرق التي تنتسب إلى السنة وتخالفهم في الأصول كالخروج على الحكام، ومسألة الديمقراطية وغيرها، هل هذه المخالفة لا توجب خروج هذه الطوائف عن منهج أهل السنة؟
الجواب
خروجهم عن منهج أهل السنة في هذه الناحية أمر مؤكد لا إشكال فيه، ولكن هل يصيرون خارجين عن أهل السنة بسبب هذا، أم نقول: عندهم هذا الأصل الذي أخطئوا فيه ولكن لا يزالون من أهل السنة، ولا شك أن تحريم الخروج على الولاة وإن جاروا من عقائد أهل السنة والجماعة، وقد ذكر حتى في المؤلفات الصغيرة المختصرة، يقول الطحاوي: ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة.
أي: فمنهج أهل السنة والجماعة أنهم لا يخرجون على الحكام، بل يدعون لهم ولا يدعون عليهم، وأما أهل البدع فإنهم يدعون عليهم ولا يدعون لهم، وغالباً أن الذين يخرجون يريدون أن يحلوا محلهم، ويريدون أن يحصلوا هذا الذي حصل لغيرهم، فيكون الدافع لهم على ذلك إنما هو حب الرئاسة وحب الولاية وحب الدنيا.(328/65)
حكم إنشاء الجماعات الإسلامية
السؤال
ما حكم إنشاء جماعة إسلامية ينصب لها رئيس وأمراء في كل منطقة؟ وما حكم الانتماء إلى هذه الجماعات؟
الجواب
إذا لم يكن بيدهم سلطة فهذا من العبث، اللهم إلا أن يكون المقصود أنهم يكونون مرجعاً للمسلمين في البلاد التي يحكمها الكفار والتي يوجد بها أقليات إسلامية تحتاج أفرادها إلى مرجع يرجعون إليه، ولكن كما هو معلوم أنه لا يقال له: إنه وال أو حاكم؛ لأن الحكم للذي يستطيع التنفيذ، ولكن هؤلاء يعتبرون مرجعاً يرجع إليهم في الأمور التي يحتاجون إليها كحل مشاكلهم، وإصلاح أحوالهم، وطلب الأشياء التي يحتاجون إلى طلبها، ودفع الأذى عنهم وما إلى ذلك.
أما إنشاء ولاية تحت ولاية فهذا لا يكون، وإنما الولاية فيمن ولاه الله عز وجل، سواء كان كافراً أو مسلماً، وسواء كان جائراً أو عادلاً، هذا هو الذي بيده التصرف ويسمع ويطاع في المعروف كما هو معلوم.(328/66)
شرح سنن أبي داود [329]
الأضحية شعيرة من شعائر الإسلام، شرعها الله للمسلمين في أيام عيد الأضحى، وقد اختلف العلماء في وجوبها، لكن لا خلاف في تأكد مشروعيتها، وفيها الحكم العظيمة التي شرعها الله لأجلها.(329/1)
ما جاء في إيجاب الأضاحي(329/2)
شرح حديث مخنف بن سليم في وجوب الأضحية والعتيرة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الضحايا.
باب ما جاء في إيجاب الأضاحي.
حدثنا مسدد حدثنا يزيد ح وحدثنا حميد بن مسعدة حدثنا بشر عن عبد الله بن عون عن عامر أبي رملة قال: أخبرنا مخنف بن سليم رضي الله عنه قال: ونحن وقوف مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعرفات قال: (يا أيها الناس! إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة، أتدرون ما العتيرة؟ هذه التي يقول عنها الناس الرجبية).
قال أبو داود: العتيرة منسوخة، هذا خبر منسوخ].
الضحايا: جمع ضحية، ويقال: أضاحي: جمع أضحية وإضحية، ويقال: أضحات: جمع أضحى.
وعلى هذا فإن المفرد فيه أربع لغات، والجمع على ثلاثة أوجه، فأضحية وإضحية بضم الهمزة وكسرها تجمع على أضاحي، وضحية تجمع على ضحايا، وهو الذي عقد المصنف الترجمة عليه حيث قال: كتاب الضحايا، واللفظ الرابع: أضحات والجمع أضحى فيكون من قبيل ما يكون المفرد فيه أكثر من الجمع في الحروف مثل بقر وبقرة، وشجر وشجرة؛ لأنه إذا جاءت التاء فيه صار مفرداً، وإذا حذفت منه صار جمعاً.
والضحية أو الأضحية أو الأضحات هي ما يذبح يوم النحر والثلاثة الأيام التي بعده تقرباً إلى الله عز وجل من غير الهدي؛ لأن الهدي لا يقال له أضحية، والهدي يكون في الحرم والأضحية تكون في كل مكان.
واختلف العلماء في حكمها: فمنهم من قال بوجوبها، ومنهم من قال: إنها من السنن المؤكدة، ومنهم من قال: إنها واجبة على ذوي اليسار ومستحبة لغيرهم، وأبو داود رحمه الله عقد الترجمة الأولى من الأبواب في هذا الكتاب بقوله: [باب ما جاء في إيجاب الأضاحي].
وجمهور أهل العلم على أنها مستحبة، وأنها من السنن المؤكدة، قالوا: ولم تأت أدلة واضحة تدل على الوجوب.
وقد أورد أبو داود في هذه الترجمة حديثين: الأول حديث مخنف بن سليم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(يا أيها الناس! إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة)].
وهذا يدل على الوجوب؛ لأن قوله: [(على كل أهل بيت)] معناه أنه يجب عليهم، أو مكتوب عليهم.
قوله: [(أضحية وعتيرة)] الأضحية قد عرفناها، وهي ما يذبح يوم النحر وأيام التشريق الثلاثة التي بعده تقرباً إلى الله عز وجل مما ليس بهدي.
والعتيرة هي الذبيحة التي تذبح في أوائل رجب، وكان هذا في الجاهلية وكان في صدر الإسلام، ثم جاء ما يدل على منعه وعلى النهي عنه، وجاء في الحديث: (لا فرع ولا عتيرة)، والعتيرة فعيلة بمعنى مفعولة، أي معتورة، والمعنى مذبوحة في رجب، ويقال لها: الرجبية، فالذين قالوا بالوجوب استدلوا بهذا الحديث، والحديث في إسناده من هو مجهول، فيكون ضعف الحديث بسببه.
ومن العلماء من قال: إن العتيرة باقية ولكنها على الاستحباب، ولم ينقل عن أحد من أهل العلم أنه كان يفعلها إلا ما جاء عن سعيد بن جبير أو سعيد بن المسيب خاصة، وإلا فإن أهل العلم لا يقولون بها، والمشهور عن أهل العلم أنهم لا يقولون بها -أي العتيرة-، وأنها إما ثابتة ولكنها منسوخة، أو أن الأحاديث الواردة فيها غير ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث الذي معنا فيه شخص متكلم فيه، والألباني قد حسن هذا الحديث، وفيه هذا الشخص الذي لا يعرف.
وأبو داود رحمه الله ذكر بعده أنه منسوخ، ولكن يشكل عليه إذا كان ثابتاً أن هذا في حجة الوداع في آخر الأمر، وليس هناك بين حجة الوداع وبين وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أشهر قليلة، فهذا يفيد أنه متأخر وليس بمتقدم، فالنسخ غير واضح، اللهم إلا أن يكون الناسخ جاء في الأشهر التي بعد الحج.
والقول بأنها كانت في الجاهلية وجاءت في أول الإسلام ثم نسخت هو الأقرب؛ لكن كون الحديث يدل على التأخر وأن ذلك كان في حجة الوداع، فالذي يظهر -والله أعلم- أن الحديث غير ثابت من أجل الرجل الذي في إسناده وهو غير معروف.(329/3)
تراجم رجال إسناد حديث مخنف بن سليم في وجوب الأضحية والعتيرة
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن يزيد].
يزيد بن زريع، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا حميد بن مسعدة].
الحاء للتحول من إسناد إلى إسناد.
وحميد بن مسعدة صدوق، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.
[عن بشر].
هو بشر بن المفضل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عون].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عامر أبي رملة].
عامر أبو رملة هو الذي قال عنه الحافظ في التقريب: يروي عنه عبد الله بن عون لا يعرف، أخرج حديثه أصحاب السنن.
[عن مخنف بن سليم].
مخنف بن سليم رضي الله عنه، وقد أخرج حديثه أصحاب السنن.(329/4)
شرح حديث عبد الله بن عمرو في وجوب الأضحية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا عبد الله بن يزيد حدثني سعيد بن أبي أيوب حدثني عياش بن عباس القتباني عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أمرت بيوم الأضحى عيداً جعله الله عز وجل لهذه الأمة، قال الرجل: أرأيت إن لم أجد إلا منيحة أنثى أفأضحي بها؟ قال: لا، ولكن تأخذ من شعرك وأظفارك، وتقص شاربك، وتحلق عانتك، فتلك تمام أضحيتك عند الله عز وجل)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما.
قوله: [(أمرت بيوم الأضحى عيداً جعله الله عز وجل لهذه الأمة)].
الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قال: (أمرت بكذا أو نهيت عن كذا) فالآمر له هو الله عز وجل، وإذا قال الصحابي: أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا، فالآمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والرسول عليه الصلاة والسلام إنما يأمر بأمر الله، وهو مبلغ عن الله كما هو معلوم؛ لأن السنة وحي من الله عز وجل أوحاها الله إلى نبيه عليه الصلاة والسلام، فهي مثل القرآن كلها وحي من الله، إلا أن القرآن وحي متعبد بتلاوته والعمل به، والسنة متعبد بالعمل بها كما يتعبد بالعمل بالقرآن، وقد جاءت أحاديث كثيرة دالة على أن السنة إنما هي وحي من الله عز وجل، ومن ذلك الحديث الذي فيه أن الشهيد يغفر له كل شيء، ثم بعد ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا الدين! سارني به جبريل آنفاً)، معناه أنه جاء الوحي بهذا الاستثناء من الله عز وجل عن طريق جبريل عليه السلام.
قوله: [(أمرت بيوم الأضحى عيداً جعله الله لهذه الأمة) كأن معنى هذا أن الناس يضحون، وأن الرجل فهم أن على الناس أن يضحوا، والمصنف أورده في باب إيجاب الأضاحي.
قوله: [(فقال الرجل: أرأيت)] أي: أخبرني.
قوله: [(إن لم أجد إلا منيحة)] المنيحة هي التي يستفاد من لبنها ومن درها، وتطلق غالباً على الشاة من الضأن والمعز، تعطى لمن يستفيد من لبنها وعينها باقية لمانحها الذي منحها، وهنا المقصود أنه لا يجد إلا منيحة يستفيد من درها وحليبها وهو بحاجة إليها، وليس معنى ذلك أنها عنده منيحة؛ لأنها لو كانت لغيره منيحة عنده فإنها ليست ملكاً له، فلا يجوز له التصرف فيها بالتضحية؛ لأنها عارية، والعارية مردودة، وإنما المقصود من ذلك أنها ذات در ولبن، وأنه يحتاج إلى الاقتيات منها، مع كونها ملكاً له.
قوله: [(قال: لا)] أي: أبق عليها واستفد من درها وحليبها وأنفق على نفسك مما ينتج منها من اللبن.
وقوله: [(ولكن تقص شاربك، وتقلم أظفارك، وتحلق عانتك، فذلك تمام أضحيتك)] معناه: أنك بنيتك الطيبة تحصل الأجر، وهذا يدل على أن على الإنسان أن يأتي بهذه الأشياء مثل الذي يريد أن يضحي، وذلك أنه إذا دخل عشر ذي الحجة لم يكن له أن يأخذ من شعره ولا من أظفاره ولا من بشرته شيئاً حتى يضحي، فكأن هذا الذي ليس عنده أضحية ولكنه عنده هذه المنيحة ولم يؤذن له بأن يذبحها قد أرشد إلى أنه يأخذ هذه الأشياء، ويكون كأنه قد أتى بأضحية، بمعنى أنه يحصل على أجر بهذه النية.
وقد جاء أن الذي لا يملك المال إذا تمنى أن يكون له مثل ما لشخص من الناس من المال حتى ينفقه في سبيل الله؛ أن له مثل أجره، ولكن الذي جاء في الحديث هنا يبدو أنه على اعتبار أن المضحي عندما تدخل العشر يمتنع من أخذ هذه الأشياء، ولا يفعل ذلك إلا بعدما يضحي، فيكون كأنه ضحى، فيأخذ من شعره ومن أظفاره وبشرته في ذلك الوقت.
والحديث ضعفه الألباني، وعلله بـ عيسى بن هلال الصدفي وقال: إنه مجهول -يعني عنده-، وقال الحافظ في التقريب: إنه صدوق.(329/5)
تراجم رجال إسناد حديث عبد الله بن عمرو في وجوب الأضحية
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هارون بن عبد الله الحمال البغدادي، لقبه الحمال وهو بغدادي، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن يزيد].
عبد الله بن يزيد المقري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن أبي أيوب].
سعيد بن أبي أيوب المصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عياش بن عباس القتباني].
وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عيسى بن هلال الصدفي].
وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عبد الله بن عمرو بن العاص].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(329/6)
الأضحية عن الميت(329/7)
شرح حديث الأضحية عن الميت
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الأضحية عن الميت.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا شريك عن أبي الحسناء عن الحكم عن حنش قال: (رأيت علياً رضي الله عنه يضحي بكبشين فقلت له: ما هذا؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصاني أن أضحي عنه، فأنا أضحي عنه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب الأضحية عن الميت]، والإنسان عندما يضحي يضحي عن نفسه وأهل بيته وله أن يضحي عن الأحياء والأموات من أهل بيته، وإذا أوصى رجل بأن يضحى عنه فليضح عنه.
وأما الأضحية عن الميت استقلالاً على سبيل الانفراد فلا نعلم شيئاً ثابتاً يدل عليه، ولكن كونه يضحي عن نفسه وعن أهل بيته أو أقاربه أحياء وأمواتاً، فلا بأس بذلك، وقد جاء في السنة ما يدل على ذلك، فيدخل الأموات تبعاً، وأما أن يضحى عنهم استقلالاً وانفراداً، وأن يكون ذلك من غير وصية منهم، فلا أعلم شيئاً يدل عليه.
والحديث الذي أورده أبو داود عن علي رضي الله تعالى عنه أنه كان يضحي بكبشين ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه بذلك، غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن في إسناده من هو مجهول، وفيه من هو متكلم فيه غير المجهول، والإنسان إذا أراد أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسببه شيء من رفعة الدرجة وعلو المنزلة فإن عليه أن يجتهد في الأعمال الصالحة لنفسه، فإن الله تعالى يعطي نبيه صلى الله عليه وسلم مثلما أعطاه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي دل الناس على الخير، (ومن دل على خير فله مثل أجر فاعله)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً).
فالرسول صلى الله عليه وسلم يحصل له من الأجر مثل أجور أمته كلها من أولها إلى آخرها، من حين بعثه الله إلى قيام الساعة؛ لأنه هو الذي دل الناس على الحق والهدى، وهو الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وما حصل للناس من خير وهدى فإنما هو بسببه وبدلالته وإرشاده عليه الصلاة والسلام، فالإنسان عليه أن يجتهد في الأعمال الصالحة لنفسه، ثم إن الله يعطي نبيه صلى الله عليه وسلم مثلما أعطى، لا أن يضحي له أو يعمل أعمالاً خاصة به أو يجعلها له.
وأسعد الناس وأوفرهم حظاً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصول الثواب والأجور إليهم أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم هم الذين تلقوا الحق والهدى عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهم الواسطة بين الناس وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكل من حفظ سنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وبلغها للناس، فإن الله تعالى يثيب كل من عمل بهذه السنة على عمله، ويثيب ذلك الصحابي الذي جاء بهذه السنة وروى هذه السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام مثلما أثاب ذلك العامل.
وحديث علي رضي الله عنه غير ثابت ولا يعول عليه، والإنسان يمكن أن يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم بسببه شيء من الحسنات إذا عمل لنفسه صالحاً.(329/8)
تراجم رجال إسناد حديث الأضحية عن الميت
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا شريك].
شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي، صدوق اختلط لما ولي القضاء، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن، فهو ممن تكلم فيه في الإسناد.
[عن أبي الحسناء].
أبو الحسناء بزيادة ألف قيل: اسمه الحسن، وقيل الحسين، مجهول من السابعة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي.
[عن الحكم].
الحكم بن عتيبة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حنش].
حنش بن المعتمر أو ابن ربيعة، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه أبو داود والترمذي والنسائي.
إذاً: الحديث فيه مجهول، وفيه حنش الذي يهم، وفيه شريك الذي ساء حفظه لما ولي القضاء، فالحديث ضعيف.
[عن علي].
علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهاديين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(329/9)
الرجل يأخذ من شعره في العشر وهو يريد أن يضحي(329/10)
شرح حديث النهي عن الأخذ من الشعر والظفر في العشر للمضحي
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الرجل يأخذ من شعره في العشر وهو يريد أن يضحي.
حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا محمد بن عمرو حدثنا عمرو بن مسلم الليثي سمعت سعيد بن المسيب يقول: سمعت أم سلمة رضي الله عنها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان له ذبح يذبحه؛ فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي)].
أورد أبو داود: [باب الرجل يأخذ من شعره في العشر وهو يريد أن يضحي] يعني أنه إذا دخل عشر ذي الحجة والإنسان يريد أن يضحي فإنه لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى يضحي، قالوا: وفي ذلك تشبيه له بالحاج.
وأورد أبو داود حديث أم سلمة رضي الله عنها في ذلك.
قوله: [(من كان له ذبح يذبحه)].
الذبح: المقصود به الأضحية، والذبح يأتي بمعنى المذبوح، أي أضحية يريد أن يضحي بها، والمقصود من ذلك: من كان يريد أن يضحي سواءً كان الذبح موجوداً في حوزته وفي ملكه، أو يريد أن يشتريه إذا جاء وقت الأضحية.
قوله: [(فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي)] أي أنه يمتنع من حين دخول العشر، وينبغي له أنه يتعاهد هذه الأشياء قبل أن تدخل العشر، كما أن الذي يريد الإحرام يتعاهد ذلك قبل أن يحرم حتى لا يحتاج إلى أخذ شيء من ذلك في حال الإحرام.
ومما ينبه عليه أن الإنسان عندما يحرم بالحج أو العمرة بعد دخول العشر وهو يريد أن يضحي ليس له أن يأخذ، لأنه داخل تحت النهي، أما الأخذ من الشعر عند التحلل من العمرة في حق المتمتع ونحوه في عشر ذي الحجة، فلا مانع منه، لأن ذلك نسك، وأخذه واجب من واجبات العمرة، أعني أخذ الشعر؛ وإنما يمنع من الشيء الذي هو غير واجب مثل كونه يريد أن يستعد للإحرام.
ثم إن العلماء اختلفوا في حكم الامتناع عن الأخذ في العشر لمريد الأضحية، فقيل: إنه واجب، وقيل: إنه مكروه، ويستدلون لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أرسل هديه لم يحرم عليه شيء بذلك، وبقي حلالاً في المدينة، فلا يمتنع من شيء كان يمتنع منه المحرم؛ ولكن ذاك الحديث عام في وقت الحج، وفي غير وقت الحج إذا أرسل هدياً، ولكن يخص منه ما جاء في هذا الحديث، أي: فيما إذا كان الإرسال في وقت الحج.(329/11)
تراجم رجال إسناد حديث النهي عن الأخذ من الشعر والظفر في العشر للمضحي
قوله: [حدثنا عبيد الله بن معاذ].
عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري، وهو ثقة أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبيه] معاذ بن معاذ العنبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عمرو].
محمد بن عمرو بن وقاص الليثي، صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن مسلم الليثي].
وهو صدوق، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن سعيد بن المسيب].
وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أم سلمة].
وهي هند بنت أبي أمية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: اختلفوا على مالك وعلى محمد بن عمرو في عمرو بن مسلم قال بعضهم: عمر وأكثرهم قال: عمرو.
قال أبو داود: وهو عمرو بن مسلم بن أكيمة الليثي الجندعي].
يعني أنه يقال له: عمر، والمشهور أنه عمرو، فبعض الرواة ذكره عمر بن مسلم وبعضهم ذكره عمرو بن مسلم، والمشهور في اسمه أنه عمرو كما ذكر ذلك أبو داود.(329/12)
النهي عن أخذ الشعر والظفر يشمل الرجال والنساء
قوله: [باب الرجل يأخذ من شعره في العشر وهو يريد أن يضحي]، الرجل لا مفهوم له، فالمرأة كذلك، وقد جاء الحديث بلفظ: [(من كان له ذبح يذبحه)]، وهذا عام يشمل الذكر والأنثى.
وذكر الرجال ليس له مفهوم في كلام العلماء، كما في تراجم أبي داود حيث يأتي بذكر الرجل وليس له مفهوم، فلا يعني أن المرأة ليست كذلك، بل الأصل أن النساء مثل الرجال في الأحكام إلا فيما جاء نص يميز فيه الرجال عن النساء أو النساء عن الرجال، فما يأتي في بعض الأحاديث من ذكر الرجل فإن المرأة مثله في ذلك؛ لأن الخطاب في الغالب إنما يوجه إلى الرجال.
ومن أمثلة ذلك ما جاء في الحديث: (لا تتقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه)، فمثله المرأة، وذكر الرجل لا مفهوم له، وكذلك قوله: (أيما رجل وجد متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من الغرماء) أي: وكذلك المرأة سواء كانت دائنة أو مدينة، وسواء كانت طالبة أو مطلوبة.(329/13)
عدم الأخذ من الشعر والظفر خاص بالمضحي
عدم الأخذ من الشعر والظفر إنما هو للمضحي، أما الذي يضحى عنه فلا بأس، فالرجل إذا أراد أن يضحي عنه وعن أهل بيته فهو مضح وأهل بيته مضحى عنهم، فلهم أن يأخذوا؛ لأنه ما ثبت في المضحى عنه شيء وإن جاء في ذلك رواية ضعيفة؛ لكن الذي ثبت إنما هو في المضحي فقط، وهو صاحب البيت وصاحب المنزل الذي يضحي عن نفسه وعن أهل بيته، وأما أهل بيته رجالاً ونساءً أو بنين وبنات فلهم أن يأخذوا.
وقوله: [(فلا يأخذن)] الذي يبدو أنه للتحريم، وأنه يحرم على الإنسان أن يفعل ذلك، وقد ذكر العلماء أن من فعل شيئاً من ذلك فكفارته أن يستغفر.(329/14)
ما يستحب من الضحايا(329/15)
شرح حديث عائشة في التضحية بكبش أقرن
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يستحب من الضحايا.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني حيوة حدثني أبو صخر عن ابن قسيط عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد، وينظر في سواد، ويبرك في سواد، فأتي به فضحى به، فقال: يا عائشة! هلمي المدية! ثم قال: اشحذيها بحجر، ففعلت، فأخذها وأخذ الكبش فأضجعه وذبحه، وقال: باسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد، ثم ضحى به صلى الله عليه وآله وسلم)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب ما يستحب من الضحايا]، يعني صفة الشيء الذي يضحى به، وما يستحب أن يكون عليه، وذلك فيما يتعلق باللون أو السمن.
وأورد أبو داود حديث عائشة وهو يتعلق باللون.
قوله: [(إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن)] أي: له قرنان، وذلك يدل على كمال خلقته، وكما هو معلوم أن غير الأقرن سائغ، ولكن هنا الإشارة إلى الأفضل وإلى الأولى.
قولها: [(يطأ في سواد)] أي أن رجليه ويديه سوداء، ومعناه أنه ليس كله أسود، وليس كله أبيض، ولكنه فيه سواد وبياض، والسواد في رجليه ويديه.
قولها: [(وينظر في سواد)] أي أن عينيه وما حول عينيه أسود.
قولها: [(ويبرك في سواد)] معناه أن أسفل بطنه مما يلي الأرض أسود.
فالمعنى أن الكبش فيه سواد وفيه بياض، والسواد كان في رأسه وفي رجليه وفي بطنه.
قوله: [(هلمي المدية)] أي: هاتي السكين.
قوله: [(اشحذيها)] معناه أنها تحدها كما جاء في الحديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، فالشحذ هنا هو الإحداد، ومعناه أن السكين تجرى على حجر أو على حديدة حتى يكون ما يقطع به حاداً، وذلك ليحصل مقصوده وهو الراحة وعدم المضرة والتعذيب للذبيحة، لأن السكين إذا كانت كالة تتألم الذبيحة وتتأذى.
والحديث يدل على أن من صفات الذبيحة المستحبة أن يكون فيها بياض وسواد، وأن المضحي يستحب له أن يباشر الذبح بنفسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم باشر الذبح بنفسه ولم يوكل أحداً، ويجوز للإنسان أن يوكل لكن المباشرة أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك.
وكذلك يدل الحديث على إراحة الذبيحة وشحذ الآلة التي يذبح بها حتى تكون حادة فلا تتأذى الذبيحة ولا يحصل لها تعذيب.
قولها: [(فأخذها وأخذ الكبش فأضجعه وذبحه)].
أي: أخذ السكين، وإضجاع الكبش يكون على جنبه الأيسر موجهاً إلى القبلة بحيث يطأ الذابح على صفحة عنقه برجله اليمنى، ويمسك الرأس باليد اليسرى، ويذبحه باليد اليمنى.
قولها: [(وقال: باسم الله)].
يدل على مشروعية التسمية عند الذبح وأنه يقول: باسم الله، في بعض الروايات أنه يقال: (باسم الله والله أكبر).
قوله: [(اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد)].
فيه أن الرسول ضحى عن نفسه وعن آله وأمته، أي عمن لم يضح منهم.(329/16)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة في التضحية بكبش أقرن
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري، ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[عن عبد الله بن وهب].
عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حيوة].
حيوة بن شريح المصري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صخر].
هو حميد بن زياد المصري، صدوق يهم سكن مصر، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[عن ابن قسيط].
هو يزيد بن عبد الله بن قسيط، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة بن الزبير].
عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(329/17)
شرح حديث أنس في صفة أضحية النبي صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أهيب عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحر سبع بدنات بيده قياماً، وضحى بالمدينة بكبشين أقرنين أملحين)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
قوله: [(نحر بيده سبع بدنات قائمات، وضحى بالمدينة)] يشعر أو يفيد أن نحر البدنات ليس بالمدينة، وقد يكون المراد بذلك أنها في الحج، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين بيده؛ لأنه كان معه مائة، ووكل علياً رضي الله عنه بنحر الباقي.
قوله: [(وضحى في المدينة بكبشين أقرنين أملحين)] الأقرن هو ما له قرون، كما مر في الحديث السابق، وذكر أن ذلك من تمام الخلقة.
والأملح هو الذي فيه سواد وبياض.
والكبش هو من الضأن، والأضحية تكون من الذكور والإناث، والمعز ذكره يقال له: تيس، والأنثى: عنز، والضأن الأنثى يقال لها: شاة، وأيضاً لفظ الشاة يطلق على الذكر والأنثى من الضأن والمعز، لأنه عندما يأتي ذكر الشاة مطلقة فيما يتعلق بالكفارات ونحوها فالمقصود به ذكر أو أنثى من الضأن أو المعز؛ لأن كلمة الشاة تأتي لمعنى عام وتأتي مراداً بها أنثى الضأن، ومن المعنى العام حديث: (في كل أربعين شاة شاة) فليس المقصود بذلك أنه يلزم أن تكون شاة أنثى، بل يمكن أن يكون ذكراً وأن تكون أنثى، وكذلك الحديث الذي ورد فيه: (انسك شاة) معناه: ذبيحة سواء كانت ذكراً أو أنثى من الضأن أو المعز.
والحديث دل على استحباب أن تكون الأضحية بذكر من الضأن؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
والأضاحي خاصة ببهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم، والجاموس يعد من فصيلة البقر.(329/18)
تراجم رجال إسناد حديث أنس في صفة أضحية النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أهيب].
أهيب بن خالد، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب].
أيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قلابة].
هو عبد الله بن زيد الجرمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.(329/19)
شرح حديث أنس في صفة أضحية النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضحى بكبشين أقرنين، أملحين، يذبح ويكبر ويسمي، ويضع رجله على صفحتهما)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك، وهو مثل الذي قبله أنه ضحى بكبشين أقرنين أملحين، وأنه يكبر ويسمي، ومعناه أنه يجمع بين التكبير والتسمية فيقول: باسم الله والله أكبر، وأنه يضع رجله على صفاحهما، أي: يضع رجله اليمنى على صفحة العنق، واليد اليسرى تمسك الرأس واليد اليمنى يحصل بها الذبح.(329/20)
تراجم رجال إسناد حديث أنس في صفة أضحية النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أخرى
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام].
هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
وقد مر ذكره.
هذا السند رباعي، وهو من الأسانيد العالية التي هي أعلى ما يكون عند أبي داود، وهي الرباعيات؛ لأن أبا داود رحمة الله عليه ليس عنده ثلاثيات، بل أعلى ما عنده الرباعيات، وهذا منها، بخلاف البخاري فعنده اثنان وعشرون حديثاً ثلاثياً، والترمذي عنده حديث ثلاثي واحد، وابن ماجة عنده خمسة أحاديث ثلاثية، وهي كلها بإسناد واحد وهو ضعيف، ومسلم وأبو داود والنسائي أعلى ما عندهم الرباعيات.(329/21)
الأسئلة(329/22)
علاقة ابن القيم بالوهابية
السؤال
يقول السائل: سألني شخص: هل ابن القيم من الوهابية؟!
الجواب
هذا من العجائب! فمعنى الوهابية أن ينسب للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وابن القيم توفي سنة (751هـ)، والإمام محمد بن عبد الوهاب ولد سنة (1115هـ)، فهذا السؤال من شأن الإنسان الجاهل الذي يعد كل من كان على منهج صحيح وعلى طريقة مستقيمة وهابياً ولو كان متقدماً بأزمان طويلة! والوهابية ليست نحلة جديدة، بل الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه ما أتى بشيء جديد، ولا بمنهج جديد، والذي أتى به هو ما كان عليه سلف هذه الأمة، فالشيء الذي جاء به هو اتباع الكتاب والسنة والسير على ما كان عليه سلف الأمة، وليس منهجه كالمناهج الجديدة التي ولدت ولها طرق خاصة، وإنما هو إحياء للسنة، وإظهار للسنة، وتمسك بالكتاب والسنة.
والذي أتى به الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هو الذي أتى به ابن القيم، وهو الذي أتى به ابن تيمية، وهو الذي أتى به الأئمة الأربعة، وهو الذي أتى به الصحابة وهكذا.(329/23)
حكم الاشتراك في الأضحية
السؤال
هل يصح أن يشترك في الأضحية الواحدة أكثر من شخص بأن يدفع كل واحد حسب استطاعته؟
الجواب
لا يشترك الناس في الأضحية من الغنم؛ لكن الإنسان يضحي بالشاة عن نفسه وعن أهل بيته.
والاشتراك في الأضحية الواحدة يصح إذا كانت من الإبل، فيشترك فيها سبعة بأن يكون لكل واحد سبع بدنة، وكذلك إذا كانت من البقر، وأما الشاة الواحدة فلا يشترك فيها، كما أن سبع البدنة لا يشترك فيه.(329/24)
تضحية المرأة عن أهل البيت
السؤال
إذا ضحت المرأة هل يكفي عن أهل البيت كلهم أم عن نفسها فقط؟
الجواب
إذا كانت المرأة هي المسئولة عن البيت فيكفي عنها وعن أهل البيت، وإن كان المسئول هو الرجل واتفقت مع الرجل على أنها تضحي عن أهل البيت فلها ذلك، وإن ضحت عن نفسها وعمن تريد من أقاربها من الأحياء والأموات فلها ذلك، وصاحب البيت هو الذي يستحب له أن يضحي عنه وعن أهل بيته.(329/25)
ذبح المرأة لأضحيتها
السؤال
هل للمرأة أن تباشر الذبح بنفسها مع وجود وليها؟
الجواب
المرأة لها أن تذبح كالرجل.(329/26)
الفرق بين الأضحية والهدي من جهة أخذ الشعر ونحوه
السؤال
هل هناك فرق بين أضحية العيد وهدي المحرم من حيث الأخذ من الشعر والعانة والإبط؟
الجواب
بعد دخول عشر ذي الحجة فالذي سيحج ويهدي له أن يأخذ من شعره ما دام أنه لن يضحي؛ لأن الأحاديث التي وردت في منع أخذ الشعر إذا دخل عشر ذي الحجة متعلقة بالأضحية لا بالهدي، وأما الذي يريد أن يضحي فسواء أراد الحج أم لا، ليس له أن يأخذ من شعره بعد دخول العشر.(329/27)
شرح سنن أبي داود [330]
لقد شرع الله الأضحية تقرباً إليه وتوسيعاً على الأهل والمساكين باللحم، وإذا كانت قربة فقد حدد الشرع صفات الأضحية المجزئة، وبين الوقت الذي تذبح فيه، والسن المشترط لها، والعيوب التي تمنع من قبولها.(330/1)
تابع ما يستحب من الضحايا(330/2)
شرح حديث جابر في صفة أضحية النبي صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا عيسى حدثنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي عياش عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: (ذبح النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الذبح كبشين أقرنين أملحين موجأين، فلما وجههما قال: إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض على ملة إبراهيم حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم منك ولك وعن محمد وأمته، باسم الله والله أكبر) ثم ذبح].
سبق في الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين، ثم أورد أبو داود هذا الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين، ثم ذكر بعد ذلك أنه سمى عند ذبحهما وكبر، وذكر أيضاً هذا الذكر عند الذبح، والحديث في إسناده مقال من جهة أبي عياش المعافري الذي هو أحد رجال الإسناد، وكذلك من جهة محمد بن إسحاق المدني فهو مدلس وقد روى بالعنعنة، فالذي له شواهد من ألفاظ هذا الحديث يكون صحيحاً من أجل تلك الشواهد التي جاءت في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل التضحية بالكبشين الأقرنين الأملحين، ومثل التسمية والتكبير، وأما ما جاء في هذا الحديث ولم يكن له شواهد فإنه مقدوح فيه من أجل أبي عياش المعافري، ومن أجل محمد بن إسحاق المدني الذي روى بالعنعنة، وهو صدوق يعتمد حديثه إلا فيما جاء معنعناً غير مصرح بالتحديث.
قوله: [(ذبح النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الذبح كبشين أقرنين أملحين موجأين)].
وهذا فيه ذكر الوجي، وهو الخصاء، وبعض أهل العلم قال: إن التضحية بالخصي أو الموجوء فيها شيء؛ لأنه نقص في الخلقة، ولكن الصحيح أنه ليس نقصاً في الخلقة وإنما هو كمال في الموجوء؛ لأنه يحصل له السمن بذلك لكونه ليس فحلاً ينزو على الإناث فيكون ذلك سبباً في ضعفه ونقص سمنه وقوته، فالخصاء من أسباب طيب لحمه، فيكون الذبح للفحل غير الموجؤ وللخصي الذي قد وجئ سائغ لا بأس به؛ لأن في كونه خصياً طيب لحمه وسمنه.
قوله: [(فلما وجههما)].
أي إلى القبلة وذلك للذبح.
قوله: [(فلما وجههما قال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم منك ولك، وعن محمد وأمته، باسم الله والله أكبر) ثم ذبح].
هذا فيه ذكر ودعاء، والدعاء قد ورد فيما يتعلق بالتكبير.
وكونه عن محمد وعن آل محمد أو أمة محمد ورد له شواهد، وقد سبق أن مر شيء منها.(330/3)
تراجم رجال إسناد حديث جابر في صفة أضحية النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي].
إبراهيم بن موسى الرازي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عيسى].
عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق مدلس، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن، وإذا صرح بالتحديث فحديثه معتمد، وإذا لم يصرح وإنما أتى بالعنعنة أو بقال فإن هذا من تدليسه، فيكون محتملاً للاتصال ومحتملاً للانقطاع، كما هو الشأن في التدليس.
[عن يزيد بن أبي حبيب].
يزيد بن أبي حبيب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عياش].
وهو المعافري، وهو مقبول، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(330/4)
شرح حديث أبي سعيد في صفة أضحية النبي صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن معين قال: حدثنا حفص عن جعفر عن أبيه عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضحي بكبش أقرن فحيل، ينظر في سواد، ويأكل في سواد، ويمشي في سواد)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه [(أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش فحيل)]، والفحيل هو الكريم العزيز عند أهله المعد للفحولة، أي لينزو على الإناث.
قوله: [(يمشي في سواد)] يعني أن رجليه ويديه فيها سواد سواء كلها أو مما يلي الأرض.
قوله: [(ينظر في سواد)] أي أن حول عينيه سواد.
قوله: [(يأكل في سواد)] أي الذي حول فمه يكون أسود؛ إما الرأس كله أو بعضه.
قوله: [(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي)] [كان] تدل على الدوام والاستمرار غالباً، ولكن قد جاء في بعض الأحاديث أنه ضحى بكبشين، فمعنى ذلك أنها هنا لا تدل على الدوام والاستمرار، ومن الأحاديث التي جاءت فيها لغير الدوام حديث عائشة رضي الله عنها: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت) فعبرت بـ"كان" مع أنه ما حصل ذلك إلا مرة واحدة في حجة الوداع.(330/5)
تراجم رجال إسناد حديث أبي سعيد في صفة أضحية النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: [حدثنا يحيى بن معين].
يحيى بن معين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حفص].
حفص بن غياث، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جعفر].
جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
محمد بن علي بن الحسين، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد].
أبو سعيد الخدري، وهو سعد بن مالك بن سنان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(330/6)
ما يجوز من السن في الضحايا(330/7)
شرح حديث جابر في إجزاء الجذع من الضأن
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يجوز من السن في الضحايا.
حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني حدثنا زهير بن معاوية حدثنا أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تذبحوا إلا مسنة؛ إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن)].
أورد أبو داود: [باب ما يجوز من السن في الضحايا]، وهذه الترجمة تتعلق بأسنان الضحايا وعمرها، والحد الأدنى لما يجزئ منها، ومعلوم أن الضحايا إنما تكون من بهيمة الأنعام فقط، وهي: الإبل، والبقر، والغنم.
والمعروف عند العلماء أن الضحية تكون بالجذع من الضأن والثني من غيره، أي الثني من المعز والبقر والإبل.
فالجذع من الضأن هذا أقل شيء، وهو ما تم له ستة أشهر فأكثر، والثني من غيره قال بعض أهل العلم: هو من المعز والضأن ما تم له سنة ودخل في السنة الثانية، ومن البقر ما تم له سنتان ودخل في السنة الثالثة، ومن الإبل ما أكمل خمس سنوات ودخل في السادسة، وهذا معناه أن الأسنان التي تؤخذ في الزكاة كلها دون ما يجزئ في الأضحية؛ لأن بنت مخاض من الإبل ما لها سنة، وبنت لبون ما لها سنتان، والحقة ما لها ثلاث سنوات، والجذعة ما لها أربع سنوات، والثني ما له خمس سنوات.
ومن أهل العلم من قال: إن الثني من الضأن ومن المعز ما تم له سنتان، ومن البقر ما تم له ثلاث سنوات، ومن الإبل ما تم له خمس سنوات، فلا خلاف في الإبل، وإنما الخلاف في الغنم والبقر.
وقد أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تذبحوا إلا مسنة)] يعني في الهدي وفي الأضحية؛ لأن الهدي والأضحية حكمهما واحد من ناحية الأسنان، فما يجزئ في هذا يجزئ في هذا، وما لا يجزئ في هذا لا يجزئ في هذا، والمعنى أن الحد الأدنى هو المسنة.
قوله: [(إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعاً من الضأن)] أي: إلا أن يشق عليكم فلا تجدون المسنة أو الثني فتذبحون من الضأن جذعة، وهذا يدل على أن الجذع من الضأن يجزئ عندما لا تتيسر مسنة، والمعروف عند أكثر العلماء أن هذا إنما هو للاستحباب وليس للإيجاب، ومعنى ذلك أنه يمكن أن يذبح الجذع من الضأن مع وجود المسنة، فيحمل هذا الذي جاء في الحديث على الاستحباب لا على الوجوب؛ لأنه قد جاءت أحاديث دالة على جواز ذبح الجذع.(330/8)
تراجم رجال إسناد حديث جابر في إجزاء الجذع من الضأن
قوله: [حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني].
أحمد بن عبد الله بن أبي شعيب الحراني، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن زهير بن معاوية].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله وقد مر ذكره.
وهذا من رباعيات أبي داود، أي: من أعلى الأسانيد عند أبي داود، بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أشخاص.(330/9)
شرح حديث زيد بن خالد فيما يجزئ من الضأن
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن صدران حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى حدثنا محمد بن إسحاق حدثني عمارة بن عبد الله بن طعمة عن سعيد بن المسيب عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أنه قال: (قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أصحابه ضحايا فأعطاني عتوداً جذعاً، قال: فرجعت به إليه فقلت له: إنه جذع، قال: ضح به، فضحيت به)].
أورد أبو داود حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنماً وأعطاه عتوداً جذعاً وقال له: ضح به)]، وهذا محمول على أنه من الضأن وليس من غير الضأن؛ لأن المعز لا يضحى بالجذع منه، بل لابد من المسنة، وذلك لما سيأتي في حديث أبي بردة بن نيار قال: (عندي عناق داجن جذعة، هل تجزئ عني؟ قال: تجزئ عنك ولا تجزئ عن أحد بعدك)، فدل هذا على أن الجذع من المعز لا يجزئ في الأضحية، بل لابد من المسنة، وأما الضأن فإنه يجزئ فيه الجذع الذي أكمل ستة أشهر ولم يبلغ أن يكون ثنياً، وعلى هذا فالحديث يحمل على أن المقصود به الجذع من الضأن وليس من المعز.
والعتود هو الذي اشتد وقوي.
قوله: [(قال: فرجعت به إليه فقلت له: إنه جذع، قال: ضح به)].
كأنه علم بأن المشروع إنما هو المسن، فقال: [(ضح به)]، فدل ذلك على جواز التضحية بالجذع من الضأن.(330/10)
تراجم رجال إسناد حديث زيد بن خالد فيما يجزئ من الضأن
قوله: [حدثنا محمد بن صدران].
محمد بن إبراهيم بن صدران، وهو صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إسحاق عن عمارة بن عبد الله بن طعمة].
محمد بن إسحاق مر ذكره.
وعمارة بن عبد الله بن طعمة مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن سعيد بن المسيب].
وهو تابعي ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن خالد الجهني].
زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث في إسناده عمارة بن عبد الله بن طعمة وهو مقبول، أخرج له أبو داود وحده، ولكن الحديث له شواهد.(330/11)
شرح حديث عاصم بن كليب فيما يجزئ من الضأن
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق حدثنا الثوري عن عاصم بن كليب عن أبيه أنه قال: (كنا مع رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقال له: مجاشع من بني سليم، فعزت الغنم، فأمر منادياً فنادى: إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقول: إن الجذع يوفي مما يوفي منه الثني).
قال أبو داود: وهو مجاشع بن مسعود].
أورد أبو داود حديث مجاشع بن مسعود السلمي رضي الله عنه أنه قال: [(عزت الغنم)] معناه أنها قلَّت، فالعزة هنا بمعنى القلة، والعزيز هو الشيء الذي قل ولم يكثر ويتيسر وجوده، والمقصود عزت الغنم الكبيرة.
قوله: [(إن الجذع يوفي مما يوفي به الثني)] هذا محمول على الضأن؛ لأن الحديث قد جاء بأنه لا تجزئ الجذع من المعز إلا عن أبي بردة الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها تجزئ عنك ولن تجزئ عن أحد بعدك)، فيكون هذا محمولاً على الجذع من الضأن.(330/12)
تراجم رجال إسناد حديث عاصم بن كليب فيما يجزئ من الضأن
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[عن عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الثوري].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عاصم بن كليب].
عاصم بن كليب بن شهاب، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
كليب بن شهاب وهو صدوق أيضاً، أخرج له البخاري في رفع اليدين وأصحاب السنن.
[عن مجاشع من بني سليم].
هو مجاشع بن مسعود من بني سليم رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة.(330/13)
شرح حديث البراء بن عازب فيما يجزئ من المعز
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا أبو الأحوص حدثنا منصور عن الشعبي عن البراء رضي الله عنه أنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم النحر بعد الصلاة فقال: من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم، فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله! والله لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، فتعجلت فأكلت وأطعمت أهلي وجيراني، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تلك شاة لحم، فقال: إن عندي عناقاً جذعة وهي خير من شاتي لحم، فهل تجزئ عني؟ قال: نعم ولن تجزئ عن أحد بعدك)].
أورد أبو داود حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس بعد الصلاة وقال: [(من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك)]، أي أنه أتى به على الوجه المشروع.
قوله: [(ومن نسك)] أي ذبح (قبل الصلاة فتلك شاة لحم)، أي ليست أضحية؛ لأن الأضحية إنما تكون بعد الصلاة، وهذا يدلنا على توقيت الذبح وأنه يكون بعد الصلاة لا قبل الصلاة، وأن الإنسان لو ذبح قبل الصلاة فإن ذبيحته لا تكون نسكاً ولا قربة، وإنما هي شاة تتخذ للحم كالذبائح التي تذبح في سائر أيام السنة ويقصد منها اللحم ولا يقصد منها القربة، فالقربة إنما هي في الأيام المحددة للأضاحي، وهي من بعد صلاة العيد إلى غروب الشمس من اليوم الثالث عشر، فهي أربعة أيام بلياليها.
وقد جاء في الحديث أنه قام أبو بردة بن نيار رضي الله عنه فقال: إنه ذبح قبل الصلاة وإنه أطعم جيرانه وأهله، وإنه إنما حمله على ذلك الرغبة في المبادرة إلى الأكل من اللحم لأنه يعلم أنه يوم أكل وشرب، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: [(تلك شاة لحم)]، أي إنها لم تكن أضحية؛ لأنها ما وقعت في الوقت.
قوله: [(إن عندي عناقاً جذعة وهي خير من شاتي لحم، فهل تجزئ عني؟ قال: نعم، ولن تجزئ عن أحد بعدك)] معناه أن هذه رخصة خاصة به، وأن ذبح العناق أو التضحية بالعناق لا تجزئ، وإنما يجزئ المسن وهو ما تم سنة، ما تم له سنة ودخل في السنة الثانية.
قوله: [عن البراء رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم النحر بعد الصلاة فقال: من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك)].
هذا يدل على أن الخطبة تكون بعد الصلاة ولا تكون قبل الصلاة، فيصلي أولاً ثم يخطب الإمام بعد ذلك.
قوله: [(من صلى صلاتنا)] أي: صلاة العيد.
قوله: [(ونسك نسكنا)] أي كما ننسك بعد الصلاة [(فقد أصاب النسك)].
قوله: [(ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم)] أي: ليست أضحية؛ لأن الأضحية يبدأ وقتها بعد الفراغ من الصلاة.
قوله: [(فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله! والله لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، فتعجلت فأكلت وأطعمت أهلي وجيراني، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تلك شاة لحم! فقال: إن عندي عناقاً جذعة وهي خير من شاتي لحم، فهل تجزئ عني؟ قال: نعم، ولن تجزئ عن أحد بعدك)].
كون أبي بردة رضي الله عنه ضحى قبل الصلاة ولم تعتبر أضحيته لعدم موافقتها للسنة، وعدم الإتيان بها على الوجه المشروع، يدلنا على أن الإنسان إذا فعل القربة وهو غير موافق للسنة لا يعتبر ذلك؛ لأن أبا بردة رضي الله عنه كان قصده حسناً، ومع ذلك لم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم ذبيحته أضحية؛ لأنها ما وقعت في الوقت، ولهذا قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري نقلاً عن بعض أهل العلم: وفي الحديث دليل على أن العمل لا يعتبر إلا إذا وقع موافقاً للسنة، وأنه إذا وقع غير موافق للسنة لا يعتبر ولو كان قصد فاعله حسناً؛ لأن أبا بردة رضي الله عنه كان قصده حسناً، لكن لما كانت القربة التي تقرب بها غير مطابقة للسنة وغير واقعة في الوقت المشروع لم تقبل، فدل ذلك على أن حسن القصد لا يكفي في العمل الذي يكون مخالفاً للسنة، بل لابد مع حسن القصد أن يكون العمل موافقاً للشرع.
ولهذا فإن ما يفعله بعض الناس من ذكر وأمور مبتدعة محدثة لم تأت بها سنة، ويتعللون بأن القصد حسن؛ لا يصح، لأن ذلك لا يكون كافياً؛ لدلالة هذا الحديث الذي معنا.
ومما يدل على ذلك أيضاً الأثر الذي جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: أنه خرج إلى المسجد وإذا فيه جماعة متحلقون ومعهم حصى، وفي كل حلقة شخص يقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة! هللوا مائة فيهللون مائة! كبروا مائة فيكبرون مائة! ويعدون بالحصى حتى يكملوا هذا العدد، فوقف على رءوسهم أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقال: ما هذا يا هؤلاء؟ إما أن تكونوا على طريقة أهدى مما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أنكم مفتتحو باب ضلالة، وذلك لأن الصحابة ما فعلوا هذا وهم خير الناس، وهم السابقون إلى كل خير والحريصون على كل خير رضي الله عنهم وأرضاهم، فقالوا: سبحان الله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير، فقال رضي الله عنه: وكم من مريد للخير لم يصبه! فهذا يدلنا على أن العمل الذي يتقرب به إلى الله عز وجل لابد أن يكون مطابقاً للسنة، وكل عمل من الأعمال لا يكون نافعاً ولا يكون معتبراً إلا إذا توافر فيه شرطان اثنان: أحدهما: أن يكون خالصاً لوجه الله، والثاني: أن يكون مطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن وجد الإخلاص وما وجدت المتابعة وإنما كان مبنياً على بدعة فإنه يكون مردوداً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وهو حديث متفق عليه، وفي لفظ لـ مسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
وإن وجدت المتابعة وكان العمل مطابقاً للسنة ولكن فقد شرط الإخلاص، وكان فيه الرياء وصرف العمل لغير الله، فإنه لا يعتبر ولا يكون نافعاً.
وهذا هو معنى: (أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله)؛ لأن أشهد أن لا إله إلا الله تعني الإخلاص، ومقتضاها أن تكون العبادة خالصة لوجه الله، ولا يكون لغيره فيها نصيب، وأما شهادة أن محمداً رسول الله فتقتضي المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم.
والحاصل أن الحديث الذي معنا يدل دلالة واضحة على أن العمل المعتبر هو ما كان مطابقاً للسنة، وأن العمل الذي يعمل غير مطابق للسنة ولو كان قصد صاحبه حسناً لا يعتبر؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما اعتبر تلك الأضحية التي حصلت قبل الصلاة؛ لأنها لم تقع في وقتها.(330/14)
تراجم رجال إسناد حديث البراء فيما يجزئ من المعز
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبي الأحوص].
وهو سلام بن سليم الحنفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
منصور بن المعتمر الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الشعبي].
وهو عامر بن شراحيل، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن البراء].
البراء بن عازب رضي الله عنهما، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(330/15)
شرح حديث البراء فيما يجزئ من المعز من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا خالد عن مطرف عن عامر عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (ضحى خال لي يقال له أبو بردة قبل الصلاة، فقال له: رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: شاتك شاة لحم! فقال: يا رسول الله! إن عندي داجناً جذعة من المعز، فقال: اذبحها ولا تصلح لغيرك)].
أورد أبو داود حديث البراء بن عازب من طريق أخرى، وفيه ما في الذي قبله، وفيه بيان أن أبا بردة هذا خال البراء بن عازب؛ لأنه قال: خال لي، والداجن هي المألوفة التي تربى في البيوت.(330/16)
تراجم رجال إسناد حديث البراء فيما يجزئ من المعز من طريق أخرى
قوله: [حدثنا مسدد عن خالد].
مسدد مر ذكره.
وخالد هو ابن عبد الله الواسطي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مطرف].
مطرف بن طريف، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عامر عن البراء].
عامر هو الشعبي، والبراء هو ابن عازب، وقد مر ذكرهما.
وأبو بردة بن نيار بالدال اسمه هانئ، وقيل: الحارث بن عمرو البلوي.(330/17)
ما يكره من الضحايا(330/18)
شرح حديث البراء فيما يكره من الضحايا
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يكره من الضحايا.
حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة عن سليمان بن عبد الرحمن عن عبيد بن فيروز قال: سألت البراء بن عازب رضي الله عنهما: ما لا يجوز في الأضاحي؟ فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصابعي أقصر من أصابعه، وأناملي أقصر من أنامله، فقال: (أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء بين عورها، والمريضة بين مرضها، والعرجاء بين ظلعها، والكسير التي لا تنقي، قال: قلت: فإني أكره أن يكون في السن نقص، قال: ما كرهت فدعه ولا تحرمه على أحد).
قال أبو داود: تنقي التي ليس لها مخ].
أورد أبو داود: [باب ما يكره من الضحايا] ومعنى الكراهة هنا التحريم.
وأورد فيه حديث البراء بن عازب رضي الله عنه وفيه: [(أربع لا تجوز في الأضاحي)] يعني لا يجوز أن يضحى بها.
قوله: [(العوراء البين عورها)]، يدل على أن العور إذا كان خفيفاً وكان البصر موجوداً ولكن فيه ضعف أنه لا يؤثر؛ لأن قوله: [(البين عورها)] يدل على أن المعتبر هو ما كان بهذا الوصف، أما إذا كان في العين عور ضعيف، فإن ذلك لا يؤثر ولا يمنع، وإنما صارت العوراء ناقصة لا يضحى لأنه نقص في الخلقة، هذا أولاً.
والأمر الثاني: أن ذلك من أسباب عدم تمكنها من الحصول على الأكل في المرعى كما تحصله سليمة العينين؛ لأن هذا النقص فيها بالنسبة للعين الواحدة يترتب عليه عدم الاستفادة من المرعى مثلما تستفيد ذات العينين السليمتين، ومن باب أولى العمياء.
قوله: [(والمريضة البين مرضها)]؛ لأن ذلك يؤثر في طيب اللحم ويؤدي إلى عدم جودة اللحم بسبب المرض، فإذا كان المرض خفيفاً لم يمنع، مثلما قيل في العوراء.
قوله: [(والعرجاء البين ظلعها)] وهي التي في إحدى يديها أو رجليها كسر أو ضعف أو خلل، فهي تعرج ويكون عرجها بيناً، وأما إذا كان العرج خفيفاً لا يمنعها من أن تعدو وأن تمشي مع غيرها من السليمات، فإن ذلك لا يمنع ولا يؤثر؛ لأن قوله: [(البين ضلعها)] معناه لأنها تتأخر ولا تلحق بغيرها من السليمات، ويكون ذلك من أسباب نقصها، ومن أسباب عدم تمكنها من الرعي؛ لأن غيرها يسبقها ويأكل وهي تأتي وراءه فتأكل مما خلف ومما ترك، ففيها ضعف من ناحية حركتها ومن ناحية عدم تمكنها من أن ترعى كما ترعى الغنمة السليمة.
قوله: [(الكسير التي لا تنقي)]، الكسير هي المكسورة، والتي لا تنقي هي التي ليس فيها مخ، ويكون ذلك بسبب الكسر الذي حصل فيها فيكون فيها ذلك الضعف، وعلى هذا فهي قريبة من النوع الثالث الذي مر وهو العرجاء البين ظلعها، إلا أن ذاك يكون أعم؛ لأن الضلع قد يكون من كسر وقد يكون من ضعف في الرجل أو اليد؛ لأنها تعرج بسبب العيب الذي فيها وإن كان الكسر غير موجود.
وبعض الذين خرجوا الحديث من الأئمة رووه بلفظ (العجفاء التي لا تنقي)، بدل [(الكسير)]، ومعناه الهزيلة، التي ليس فيها مخ، يعني كما قال أبو داود: [ليس لها مخ].
فبعض الأئمة ذكروا الحديث نفسه وعبروا فيه بالعجفاء، وهو الذي يناسب من ناحية أن ذكر الكسير فيه تداخل مع الذي قبله وهو [(العرجاء البين ظلعها)].
والتي لا تنقي هي التي لا مخ في عظامها، وهو الدهن الذي داخل العظام.
قوله: [عن عبيد بن فيروز قال: سألت البراء بن عازب: ما لا يجوز في الأضاحي؟ فقال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصابعي أقصر من أصابعه، وأناملي أقصر من أنامله)].
عبيد بن فيروز سأل البراء: [(ما لا يجوز؟)] أي: ما الذي لا يجوز؟ فكان أن أجاب بالحديث، وهذه طريقة سلف هذه الأمة من الصحابة ومن بعدهم، أنهم كانوا إذا سئلوا أجابوا بالأثر؛ لأن الإجابة بالأثر تشتمل على الجواب والدليل؛ لأنه لو أتى بالجواب بدون الدليل لاحتاج إلى أن يسأل سؤالاً آخر: ما الدليل على هذا؟ لكنه إذا م أجاب بالأثر يكون قد حصل منه الجواب على السؤال وزاد عليه بيان الدليل الذي يدل عليه.
وقد يورد الحديث وهو حديث طويل من أجل جملة فيه هي محل السؤال، ومن أمثله ذلك حديث جبريل المشهور الذي أورده مسلم في فاتحة صحيحه عن عمر قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله) الحديث الطويل، فقد أورده ابن عمر بسبب سؤال عن الإيمان بالقدر.
وهنا البراء بن عازب يحكي ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أشار بأصابعه، قال: [(وأصابعي أقصر من أصابعه، وأناملي أقصر من أنامله)] الأنامل هي: جزء من الأصابع أو بعض الأصابع، وهذا الذي قاله البراء قيل: إنه من باب الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون مع الأدب بيان الواقع، وأنه يعرف أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصابعه أكبر من أصابعه.
قوله: [(وفي آخره قال: قلت: فإني أكره أن يكون في السن نقص، قال: ما كرهت فدعه ولا تحرمه على أحد)] يعني: السن الذي يجزئ أو الذي يضحى به.
قوله: (ما كرهت فدعه ولا تحرمه على أحد) معناه: أنه إذا كان هناك نقص لا يصل إلى حد المنع، وأن الإنسان أراد أن يحصل الأكمل والأفضل ويترك هذا الذي فيه شيء من النقص، فليحصل الأفضل ولا يمنع غيره، وذلك مثل أن تكون عوراء ليس عورها بيناً، فإنها تكون مجزئة، فمن أراد تجنبها فليفعل ولا يحرمها على غيره.(330/19)
تراجم رجال إسناد حديث البراء فيما يكره من الضحايا
قوله: [حدثنا حفص بن عمر النمري].
حفص بن عمر النمري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
[عن شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي البصري، وهو ثقة، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن عبد الرحمن].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[عن عبيد بن فيروز].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب السنن أيضاً.
[عن البراء بن عازب].
البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، وقد مر ذكره.(330/20)
الأسئلة(330/21)
ما ورد في استقبال القبلة عند الذبح
السؤال
هل ورد شيء في استقبال القبلة عند الذبح؟
الجواب
أخرج البيهقي في السنن الكبرى (9/ 285) من طريق ابن جرير عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يستحب أن يستقبل القبلة إذا ذبح.
ورواه غيره عن ابن جرير وقال في الحديث: (كان يستقبل بذبيحته القبلة).
قال البيهقي: وروي فيه حديث مرفوع عن غالب الجزري عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها وإسناده ضعيف، أورده البيهقي في باب السنة أن يستقبل بالذبيحة القبلة.
راجع الإرواء (8/ 278).(330/22)
حكم جمع المال من الطلاب لشراء الأضاحي وتوزيعها على الفقراء
السؤال
جرت العادة في بعض المدارس في بلدنا أيام عيد الأضحى أن يجمع مالاً من الطلاب لشراء الضحايا بقراً أو غنماً، ثم توزع للفقراء والمساكين والمدرسين، فما حكم هذا العمل؟
الجواب
الذي ينبغي على كل قادر أن يضحي بنفسه ويوزع، بدون أن يكون هناك جمع من الناس.(330/23)
حكم تضحية ولي الأمر عن الشعب
السؤال
هل يجوز لولي الأمر في وقتنا الحاضر أن يضحي بكبشين واحد عنه وواحد عمن لم يضح من شعبه؟
الجواب
لا نعلم شيئاً يدل على هذا، فذاك حصل من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يقال: إن غيره يكون مثله؛ لأنه ما عرف عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أنهم فعلوا هذا.(330/24)
عمر المسنة من الأضاحي
السؤال
كم يكون عمر المسنة؟
الجواب
ذكرنا أن المسنة من الغنم ضأناً ومعزاً ما أكملت سنة ودخلت في الثانية، ومن البقر ما أكملت الثانية ودخلت في الثالثة، ومن الإبل ما أكملت الخامسة ودخلت في السادسة.(330/25)
التضحية عن أهل البيت إذا استقلوا في البيوت
السؤال
رجل عنده أربعة أبناء وكلهم يسكنون في بيوت خارج ملك أبيهم، فهل تجزئ عنهم أضحية أبيهم؟
الجواب
لا تجزئ ما دام أن كل واحد له بيت مستقل، وعليه أن يضحي عن نفسه ولا تجزئ عنه أضحية أبيه، لكن لو كانوا مع أبيهم في بيت واحد ومأكلهم واحد فإنها تجزئ عنهم.(330/26)
حكم الأضحية تموت قبل الذبح
السؤال
رجل اشترى أضحية ثم ماتت قبل الذبح أو انكسرت مثلاً، فما العمل؟
الجواب
يشتري أضحية أخرى ويذبحها.(330/27)
حكم الأضحية المجروحة
السؤال
انتشر بين الناس عندنا أن الأضحية إذا كان بها جرح فإنها لا تجزئ، فهل هذا صحيح؟
الجواب
ليس بصحيح، فإذا كان هذا الجرح لم يترتب عليه مرض بين، فإنه لا بأس بها، وأما إذا كان ترتب على هذا الجرح أنها مرضت مرضاً بيناً فلا تجزئ؛ للحديث الذي مر: (المريضة البين مرضها).(330/28)
حكم الأضحية بمقطوع الذنب
السؤال
هل تجوز الأضحية بمقطوع الذنب (الأبتر)؟
الجواب
لا أعلم ما يمنعه، وهو نقص في الخلقة ومن ناحية الجمال، ولكنه من ناحية السمن ومن ناحية كونه يحصل به المقصود، لا أعلم شيئاً يمنعه.(330/29)
حكم الزواج بالكتابية
السؤال
هل يجوز للمسلم أن يتزوج بامرأة يهودية أو نصرانية؟
الجواب
يجوز الزواج بالكتابية، ولكن الزواج بالمسلمة أولى.(330/30)
خطبة العيد
السؤال
هل خطبة العيد خطبة واحدة أم خطبتان؟
الجواب
المشهور عند العلماء أنها خطبتان، ولا أعلم خلافاً في المسألة من ناحية المتقدمين، ولا أعلم نصاً واضحاً يدل على أنها خطبتان؛ لكن جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وافق عيد يوم جمعة فمن حضر العيد أجزأه عن الجمعة)، والجمعة لها خطبتان، ومعنى هذا أن الجمعة فرض عين، والإنسان الذي يحضر العيد يسقط عنه ذلك الفرض فيجزئه أن يصلي ظهراً ولا يلزمه أن يأتي للجمعة، فكون العيد يغني عن الجمعة والجمعة فيها خطبتان، يعني أن العيد يكون فيه خطبتان؛ لأن هذا المجزئ يكون مماثلاً لذلك المجزئ، وإن كان بينهما فرق من ناحية أن الخطبتين في العيدين متأخرة وفي الجمعة متقدمة، ومن ناحية أن المصلي مخير بين الحضور وعدمه في خطبة العيد، بخلاف خطبة الجمعة فإنها مطلوب حضورها؛ ولكن من لم يحضرها فإن جمعته صحيحة، وحيث يكون مدركاً ركعة من الصلاة يضيف إليها أخرى ويكون قد أدرك الجمعة، فأنا لا أعلم نصاً واضحاً فيما يتعلق بأنها خطبتان إلا هذا الذي أشرت إليه.(330/31)
شرح سنن أبي داود [331]
لقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم مشروعية الأضحية، وما لا يصح التضحية به لما فيه من العيوب، كما بين أن الشاة تجزئ عن الرجل وأهل بيته، وأن البقرة والجزور تجزئ عن سبعة.
وقد ذبح صلى الله عليه وسلم أضحيته في المصلى تعليماً للناس، وبروزاً للفقراء ليأخذوا نصيبهم، ونهى الناس عن الادخار فوق ثلاث لأجل الصدقة على البدو، ثم نسخ ذلك.(331/1)
تابع ما يكره من الضحايا(331/2)
شرح حديث عتبة السلمي فيما يكره من الأضاحي
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا ح وحدثنا علي بن بحر بن بري حدثنا عيسى المعنى عن ثور حدثني أبو حميد الرعيني قال: أخبرني يزيد ذو مضر قال: أتيت عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه فقلت: يا أبا الوليد! إني خرجت ألتمس الضحايا فلم أجد شيئاً يعجبني غير ثرماء فكرهتها، فما تقول؟ قال: أفلا جئتني بها؟ قلت: سبحان الله! تجوز عنك ولا تجوز عني؟! قال: نعم، إنك تشك ولا أشك (إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المصفرة، والمستأصلة، والبخقاء، والمشيعة، والكسراء)، والمصفرة التي تستأصل أذنها حتى يبدو سماخها، والمستأصلة التي استؤصل قرنها من أصله، والبخقاء التي تبخق عينها، والمشيعة التي لا تتبع الغنم عجفاً وضعفاً، والكسراء: الكسيرة].
سبق في الدرس الماضي البدء بترجمة: [ما يكره من الضحايا] وشرحنا الحديث الصحيح الذي فيه بيان الرسول صلى الله عليه وسلم لأربع أنه لا يضحى بها قال: (العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والكسير التي لا تنقي)، وفي بعض الأحاديث: (العجفاء التي لا تنقي)، وقد أورد أبو داود هنا حديث عتبة بن عبد السلمي رضي الله تعالى عنه.
قوله: [خرجت ألتمس الضحايا فلم أجد شيئاً يعجبني غير ثرماء فكرهتها].
الثرماء قيل هي: التي سقطت الثنية والرباعية من أسنانها، ولا أعلم ما يدل على تحريمها وعلى عدم إجزائها إذا كانت سمينة صالحة من حيث قوتها وسلامتها، وأما إذا كانت هزيلة عجفاء فإنها لا تجزئ، كما سبق أن مر: (والعجفاء التي لا تنقي).
قوله: [(إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المصفرة، والمستأصلة، والبخقاء، والمشيعة، والكسراء)].
قد ذكر تفسير هذه الخمس فقال: [المصفرة التي قطعت أذنها من سماخها] أي: من أصلها.
قال: [والمستأصلة التي استؤصل قرنها من أصله، والبخقاء التي تبخق عينها] أي: تفقأ عينها.
قال: [والمشيعة هي التي لا تتبع الغنم] أي لا تسايرها ولا تمشي معها لضعفها وهزالها، قيل: المشيَعة، وقيل: المشيِعة، المشيَعة لأن الراعي يشيعها، أي يسوقها حتى تلحق بغيرها، ومشيِعة لأنها تشيع الغنم، أي تمشي وراءها، وذلك لهزالها وضعفها.
قال: [والكسراء الكسيرة] أي التي فيها كسر، ويترتب على ذلك عدم قدرتها على مسايرة الغنم.
فالحديث يدل على أن هذه الأشياء مما يكره في الضحايا، لكن الحديث غير ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيه رجلاً مجهولاً وفيه رجلاً مقبولاً لا يحتج به إلا عند المتابعة.(331/3)
تراجم رجال إسناد حديث عتبة السلمي فيما يكره من الأضاحي
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي].
إبراهيم بن موسى الرازي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: أخبرنا، ح وحدثنا].
[ح] هي للتحول من إسناد إلى إسناد، ومع أن أبا داود له هذان الشيخان إلا أنه أتى بالتحويل من أجل أن يبين الفرق في الصيغة، وهي أن الشيخ الأول قال: أخبرنا، والشيخ الثاني قال: حدثنا.
[حدثنا علي بن بحر بن بري].
علي بن بحر بن بري وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي.
[حدثنا عيسى المعنى].
عيسى هو شيخ إبراهيم وشيخ ابن بري، وهو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وقوله: المعنى يعني: أن رواية كل من الشيخين ليست متفقة في اللفظ، ولكنها متفقة في المعنى.
[عن ثور].
هو ابن يزيد الحمصي، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[حدثني أبو حميد الرعيني].
هو مجهول، أخرج له أبو داود.
[أخبرني يزيد ذو مضر].
يزيد ذو مضر وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن عتبة بن عبد السلمي].
عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أبو داود وابن ماجة.(331/4)
شرح حديث علي فيما يكره من الأضاحي
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق عن شريح بن النعمان -كان رجل صدق- عن علي رضي الله عنه أنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن نستشرف العين والأذنين، ولا نضحي بعوراء، ولا مقابلة، ولا مدابرة، ولا خرقاء، ولا شرقاء)، قال زهير: فقلت لـ أبي إسحاق: أذكر عضباء؟ قال: لا، قلت: فما المقابلة؟ قال: يقطع طرف الأذن، قلت: فما المدابرة؟ قال: يقطع من مؤخر الأذن، قلت: فما الشرقاء؟ قال: تشق الأذن، قلت: فما الخرقاء؟ قال: تخرق أذنها للسمة].
أورد أبو داود حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
قوله: [(أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذنين)].
أي: أن نطلع ونشرف عليها ونراها ونتأمل فيها.
قوله: [(ولا نضحي بعوراء)]، أي: العوراء البين عورها، كما سبق في حديث مضى.
قوله: [(ولا مقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء)].
المقابلة هي التي قطع من مقدم أذنها.
والمدابرة التي قطع من مؤخر أذنها.
والشرقاء التي قطعت أذنها وشقت فصارت قطعتين.
والخرقاء التي خرقت أذنها للسمة، أي أنه حصل فيها وسم، ولكن الوسم لم يكن على الظاهر بل ترتب عليه أنه سقط ما يقابله من الداخل؛ لأن الوسم قد يكون بدون خرق فيكون علامة بينة فيها، وقد يترتب على ذلك استئصال مكان الوسم الذي توسم به الغنم لتميز ولتعرف بأنها لآل فلان الذين وسمهم على صفة كذا؛ لأنهم كانوا يسمون، وكل له وسم معروف بحيث إنه إذا رئي الوسم قيل: هذه لآل فلان، أو هذا وسم آل فلان، فيكون هذا علامة.
فالتي تخرق أذنها للسمة معناه أنه يحصل الانخراق بسبب أنها وسمت، فترتب على الوسم استئصال ما جاءت عليه النار فصارت خرقاء.
[فقلت لـ أبي إسحاق: أذكر عضباء؟ قال: لا].
والعضباء هي التي قطع أكثر قرنها أو أكثر أذنها كما سيأتي مبيناً في بعض الروايات عند أبي داود.
والحديث ضعفه الشيخ الألباني بسبب أبي إسحاق السبيعي، وهو أنه قد اختلط، وقال: إن الذين رووا عنه هذا الحديث كلهم ممن روى عنه بعد الاختلاط، ليس فيهم أحد روى عنه قبل الاختلاط.
وكما هو معلوم أن بعض هذه العيوب لا يؤثر، كما لو قطع شيء من مقدم أذنها أو من مؤخر أذنها، أو كان في أذنها خرق أو ما إلى ذلك.(331/5)
تراجم رجال إسناد حديث علي فيما يكره من الأضاحي
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن زهير].
زهير بن معاوية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق].
عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شريح بن النعمان -كان رجل صدق-].
وهو صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[عن علي].
علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الهاديين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(331/6)
شرح حديث علي في كراهة العضباء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ويقال له هشام بن سنبر عن قتادة عن جري بن كليب عن علي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يضحى بعضباء الأذن والقرن)].
أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يضحى بعضباء الأذن والقرن)]، وعضباء الأذن والقرن هي التي قطع أكثر أذنها وأكثر قرنها، وقد مر في الحديث السابق أنه قال: هل ذكر العضباء؟ قال: لا، وإنما جاء ذكره في هذا الحديث، والحديث أيضاً فيه جري بن كليب وهو متكلم فيه فلا يصح من أجله، وهو مقبول.(331/7)
تراجم رجال إسناد حديث علي في كراهة العضباء
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جري بن كليب].
وهو مقبول، أخرج له أصحاب السنن.
[عن علي].
علي رضي الله عنه، وقد مر ذكره.
[قال أبو داود: جري سدوسي بصري لم يحدث عنه إلا قتادة].
هذا تعريف من أبي داود لـ جري بن كليب وأنه بصري لم يحدث عنه إلا قتادة، وقد روى عنه بالعنعنة، وهو نفسه متكلم فيه.
وجري تصغير جرو، والجرو هو ولد الكلب، وكليب تصغير كلب، فهو هنا مصغر وابن مصغر: جري بن كليب.(331/8)
شرح أثر ابن المسيب في تفسير الأعضب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى حدثنا هشام عن قتادة قال: قلت لـ سعيد بن المسيب: ما الأعضب؟ قال: النصف فما فوقه].
أورد أبو داود هذا الأثر في بيان الأعضب وأنه ما ذهب منه النصف فما فوقه، أي: من القرن أو الأذن، فهذا تفسير من سعيد بن المسيب للأعضب.
وهذا المتن يقال له في علم المصطلح: مقطوع، وهو المتن الذي ينتهي إسناده إلى التابع أو من دون التابع؛ لأن الذي ينتهي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقال له: مرفوع، والذي ينتهي إلى الصحابي يقال له: موقوف، والذي ينتهي إلى التابعي أو من دونه يقال له: مقطوع.
والمقطوع غير المنقطع؛ لأن المنقطع من صفات الإسناد، وهو سقوط رجل أو أكثر بشرط عدم التوالي، وكذلك أيضاً مع التوالي يقال له انقطاع.(331/9)
تراجم رجال إسناد أثر ابن المسيب في تفسير الأعضب
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن يحيى].
يحيى بن سعيد القطان البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام عن قتادة].
وقد مر ذكرهما.
[عن سعيد بن المسيب].
وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(331/10)
البقر والجزور عن كم تجزئ(331/11)
شرح حديث جابر في إجزاء البقر والجزور عن سبعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في البقر والجزور عن كم تجزئ؟ حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل حدثنا هشيم حدثنا عبد الملك عن عطاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كنا نتمتع في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نذبح البقرة عن سبعة والجزور عن سبعة، نشترك فيها)].
أورد أبو داود: باباً في البقر والجزور عن كم تجزئ؟ يعني عندما يشترك جماعة في ضحايا أو في هدي، كم يشترك في البقرة والجزور؟ والجزور هي من الإبل سواء كانت ذكوراً أو إناثاً، والجزور تجزئ عن سبعة والبقرة تجزئ عن سبعة، ومعنى ذلك أن البقرة تعادل سبع شياه والجزور سبع شياه، فيمكن أن يوجد سبعة أشخاص كل واحد يريد أضحية فيشتركون في بقرة أو في بدنة، وكل واحد له سبع يعادل الشاة.
وأما الغنم فإنه لا اشتراك فيها؛ لأن شاة واحدة يأتي بها الإنسان لنفسه أو عنه وعن غيره، وأما بالنسبة للهدي فلا اشتراك فيه عنه وعن غيره، وإنما يكون الهدي بالشاة عن واحد، وسبع البدنة عن واحد أو سبع البقرة عن واحد.
[عن جابر بن عبد الله قال: (كنا نتمتع في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نذبح البقرة عن سبعة والجزور عن سبعة نشترك فيها)].
قوله: [(كنا نتمتع)] معناه: أنهم عند الحج يكونون متمتعين وعليهم هدي، فيشترك في البقرة سبعة وفي البدنة سبعة، بمعنى أن سبعة أشخاص يجتمعون ويشترون جزوراً أو يشترون بقرة ويذبحونها عن السبعة هدياً، والرسول صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه البقر في حجة الوداع وهن متمتعات، فالبقرة يشترك فيها سبعة والبدنة سبعة.
وذكر التمتع مع أن الكتاب كتاب الضحايا؛ لأن الغالب أن الأحكام واحدة فيما يتعلق بالذبائح، إلا أن هناك فرقاً بينها من حيث إن الأضحية تكون في كل مكان والهدي لا يكون إلا في الحرم، أو حيث أحصر كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديبية، وكذلك لا تذبح الشاة في الحج عن الرجل وأهل بيته أو زوجته بخلاف الأضحية فيذبحها الرجل عن نفسه وأهل بيته.
أما العقيقة فلا اشتراك فيها، فيذبح عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة، ولا يشترك فيها أحد.
أما لو ذبح بقرة أو جزوراً عن الشاتين أو عن الشاة في العقيقة فهذا لا شك أنه مجزئ؛ لأنه أكمل وأتم وأكثر من الشاتين؛ لأن البقرة عن سبعة والبدنة عن سبعة، فهي تجزئ وزيادة؛ لكن لا تذبح البدنة أو البقرة إلا عن شخص واحد، أو شاتين عن الغلام، أو شاة عن الجارية، ولا يشترك في العقيقة سبعة أشخاص كل واحد له بنت فيذبحون عنهن بقرة أو بدنة، فإن هذا ما ورد.(331/12)
تراجم رجال إسناد حديث جابر في إجزاء البقر والجزور عن سبعة
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن هشيم].
هشيم بن بشير الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الملك].
وهو ابن أبي سليمان، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عطاء].
عطاء بن أبي رباح المكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(331/13)
شرح حديث جابر في إجزاء البقر والجزور عن سبعة من طريق أخرى وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد عن قيس عن عطاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (البقرة عن سبعة والجزور عن سبعة)].
أورد أبو داود حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البقرة عن سبعة والجزور عن سبعة)، وهو مثل الذي قبله.
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو ابن سلمة بن دينار البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وحماد هنا مهمل، لأنه إذا ذكر الراوي دون أن ينسب قيل له: مهمل سواءً ذكر اسمه ولم ينسب، أو ذكر اسمه واسم أبيه وكان ملتبساً ومشتبهاً بغيره، وتمييز المهمل ومعرفته تكون بالشيوخ والتلاميذ؛ فلنا حماد بن زيد وحماد بن سلمة وكلاهما بصري، وكلاهما في طبقة واحدة، ولهذا يأتي في الأسانيد أو في التراجم: روى عن الحمادين، أو: روى عنه الحمادان.
ولكن هناك تلاميذ فيهم من لا يروي إلا عن واحد منهما مثل موسى بن إسماعيل لا يروي إلا عن حماد بن سلمة، ولا يروي عن ابن زيد، فإذا أطلق حماد غير منسوب يروي عنه موسى بن إسماعيل فالمراد به حماد بن سلمة، وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن قيس].
قيس بن سعد المكي، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عطاء عن جابر].
عطاء بن أبي رباح عن جابر قد مر ذكرهما.(331/14)
شرح حديث جابر في الاشتراك في هدي الحديبية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن أبي الزبير المكي عن جابر بن عبد الله أنه قال: (نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة)].
هذا في الهدي، وجابر رضي الله عنه يقول: [(نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة) يعني: في غزوة الحديبية، وكانت على حدود الحرم وقريبة من الحرم، وذلك حيث أحصر صلى الله عليه وسلم، وهذا دال على ما دل عليه الحديثان المتقدمان من الاشتراك في البقر والإبل، وهذا في الهدي، والأضحية مثله.(331/15)
تراجم رجال إسناد حديث جابر في الاشتراك في هدي الحديبية
قوله: [حدثنا القعنبي].
القعنبي هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير المكي].
محمد بن مسلم بن تدرس، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر رضي الله عنه، وقد مر ذكره، وهذا رباعي، فهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(331/16)
الشاة يضحى بها عن جماعة(331/17)
شرح حديث الشاة يضحى بها عن جماعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الشاة يضحى بها عن جماعة.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب (يعني الإسكندراني) عن عمرو عن المطلب عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأضحى بالمصلى، فلما قضى خطبته نزل من منبره وأتي بكبش، فذبحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده، وقال: باسم الله، والله أكبر، هذا عني وعمن لم يضح من أمتي)].
أورد أبو داود باباً في الشاة يضحى بها عن جماعة وليس المقصود بالشاة -كما سبق- خصوص الشاة التي هي من الضأن، وإنما المقصود من ذلك الذكر والأنثى من الضأن والماعز، هكذا جاء الاستعمال والإطلاق في الأحاديث، فالمقصود أن الأضحية الواحدة من الغنم الواحدة سواء كانت تيساً أو عنزاً أو خروفاً أو كبشاً، يضحي بها صاحب البيت عنه وعن أهل بيته، فيشتركون فيها، وهذا بخلاف الهدي.
ووجه الدلالة من الحديث قوله: [(عني وعمن لم يضح من أمتي)]؛ لأن معناه أن جماعة اشتركوا في الأضحية، أي: في الأجر والثواب، وأن الرسول ضحى عنه وعمن من لم يضح من أمته صلى الله عليه وسلم، فهذا هو وجه إيراد الحديث في الترجمة.
والحديث فيه أيضاً التسمية والتكبير عند الذبح، وفيه أيضاً كون المضحي يذبح بيده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذبحه بيده.
قوله: [(فلما قضى خطبته)].
فيه النحر في المصلى؛ لأنه قال: [(نزل من منبره)] وذبح أضحيته.
وقيل: إن الذبح حدث بالمصلى من أجل أن يعلم الناس كيفية الذبح، أو من أجل أن يأتي الفقراء والمساكين ليأخذوا حقهم ويكون مبذولاً لهم.
وقوله: [(فلما قضى خطبته نزل من منبره)].
لأن الخطبة بعد الصلاة، ومعناه أنه انتهت الصلاة وانتهت الخطبة فنزل وذبح.
قوله: [(وأتي بكبش فذبحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده)] فيه أنه أتي بكبش، ومر معنا ذكر أنهما كبشان، فيمكن أن تكونا حادثتين في سنتين، ويمكن أنه ذبح واحداً في المصلى وواحداً في غير المصلى.(331/18)
تراجم رجال إسناد حديث الشاة يضحى بها عن جماعة
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يعقوب يعني الإسكندراني].
يعقوب بن عبد الرحمن القاري الإسكندراني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن عمرو].
عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، وهو ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المطلب].
المطلب بن عبد الله بن حنطب، وهو صدوق كثير التدليس والإرسال، وقد أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وقد مر ذكره.
وهنا راو كثير التدليس والإرسال، ولكن جاء عند الحاكم في المستدرك التصريح بالسماع من جابر ومعه شخص آخر مبهم، وقال: إنه أخبرهما، والحديث ذكره الألباني في إرواء الغليل، وقال: إنه حصل التصريح بالتحديث عند الحاكم، وكذلك عند الطحاوي، فقول الترمذي أن عبد الله بن حنطب لم يسمع من جابر مردود؛ لأنه قد صرح بالسماع عند الحاكم.(331/19)
الإمام يذبح بالمصلى(331/20)
شرح حديث الإمام يذبح بالمصلى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الإمام يذبح بالمصلى.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة أن أبا أسامة حدثهم عن أسامة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يذبح أضحيته بالمصلى)، وكان ابن عمر يفعله].
أورد أبو داود [باب الإمام يذبح في المصلى] أي: يذبح الأضحية في المصلى، وقد أورد فيه حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذبح أضحيته بالمصلى.
والحديث السابق يدل على هذا، لأنه نزل فأتي بكبش فذبحه، فهذا الذي جاء في حديث ابن عمر يدل عليه حديث جابر المتقدم وهو أنه ذبح في المصلى.
وقد قيل: إن ذبح الإمام بالمصلى من أجل أن يتبعه الناس ويذبحون بعد ذبحه، ومعلوم أن الذبح لا يكون إلا بعد الصلاة، فإذا كان الإمام قد نزل من المنبر وذبح أضحيته، فمعناه أنه سيكون ذبحهم بعد ذبحه، وكذلك أيضاً لتعليم الناس طريقة الذبح، وأيضاً ليكون هناك مجال للفقراء والمساكين ليأخذوا من اللحم؛ لأنه في مكان بارز وهو المصلى.(331/21)
تراجم رجال إسناد حديث الإمام يذبح بالمصلى
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[عن أبي أسامة].
أبو أسامة حماد بن أسامة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أسامة].
أسامة بن زيد الليثي، وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة وهم: عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس، وهو أيضاً أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد وجابر وأنس وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين، فهؤلاء السبعة عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [وكان ابن عمر يفعله] أي: فليس ذلك خاصاً بالإمام.(331/22)
حبس لحوم الأضاحي(331/23)
شرح حديث عائشة في حبس لحوم الأضاحي
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في حبس لحوم الأضاحي.
قال: حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: (دف ناس من أهل البادية حضرة الأضحى في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ادخروا الثلث وتصدقوا بما بقي، قالت: فلما كان بعد ذلك قيل لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: يا رسول الله! لقد كان الناس ينتفعون من ضحاياهم ويجملون منها الودك، ويتخذون منها الأسقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وما ذاك؟ أو كما قال، قالوا: يا رسول الله! نهيت عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم؛ فكلوا، وتصدقوا، وادخروا)].
أورد أبو داود [باب في حبس لحوم الأضاحي] أي: ادخارها، وأن الناس يبقونها عندهم للاستفادة منها عدة أيام يوم العيد وأيام التشريق، وأن هذا سائغ ومشروع ولا بأس به.
وقد أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [(دف ناس من الأعراب حضرة الأضاحي)]، معناه أنهم جاءوا وعندهم ضعف وفيهم مسكنة وحاجة، وقد جاءوا يتحرون أن يحصلوا شيئاً من اللحم بمناسبة العيد وذبح الأضاحي.
والدف قيل: هو المشي الخفيف، وقيل: المشي السريع مع مقاربة الخطا، ولعل السبب في ذلك الضعف ما كان فيهم من الفاقة والحاجة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم بأن يدخروا الثلث وأن يتصدقوا بالثلثين؛ من أجل تمكين هؤلاء الذين جاءوا من تحصيل اللحم الذي هم بحاجة إليه.
قوله: [(فلما كان بعد ذلك قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله! لقد كان الناس ينتفعون من ضحاياهم، ويجملون منها الودك، ويتخذون منها الأسقية)].
أي: كانوا يفعلون ذلك فيما مضى؛ ولكنهم بعد ذلك أمروا بأن يبقوا الثلث ويتصدقوا بالثلثين.
قوله: [(فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وما ذاك؟)].
أي: ما السبب الذي جعلكم تقولون هذا الكلام؟ قوله: [(قالوا: إنك نهيت عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث)]، معناه أن الناس يأكلون في حدود ثلاثة أيام، وبعد ذلك لا يمسكون.
قوله: [(إنما نهيت من أجل الدافة التي دفت)]، أي من أجل تلك الحالة التي حصلت، والجماعة الذين جاءوا يدفون إلى المدينة من أجل أن يحصلوا اللحم، ومعنى هذا أنه نسخ ذلك النهي عن إمساك اللحم بعد ثلاث، فصار سائغاً لهم الأكل والادخار.
قوله: [(ويجملون منها الودك)].
الجمل هو الإذابة، أي أن الشحم يذاب فيخرج منه ودك نتيجة للإذابة، ثم هذا الودك يحتفظون به ويجعلونه إداماً لأطعمتهم.
ثم الحديث جاء عن بعض الصحابة، وجاء عن بريدة رضي الله عنه ذكر ثلاثة أشياء منها هذا، وهو ذكر الناسخ والمنسوخ في حديث واحد، ففيه قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ألا فادخروا، وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الأسقية فانتبذوا في كل سقاء ولا تشربوا مسكراً)؛ لأنه قبل كان نهاهم أن ينتبذوا في الدبا والحنتم والمقير من الأوعية التي قد يحصل فيها إسكار دون أن يظهر على ظاهرها، ثم بعد ذلك أذن لهم أن ينتبذوا في كل وعاء ولكن بشرط ألا يشربوا مسكراً.
فهذا حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه اشتمل على ثلاثة أمور فيها إشارة إلى المنسوخ والإتيان بالناسخ، ومنه هذه المسألة التي معنا في حديث عائشة رضي الله عنها.(331/24)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة في حبس لحوم الأضاحي
قوله: [حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر].
عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرة بنت عبد الرحمن].
عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية رحمها الله، وهي تابعية ثقة، وهي مكثرة من الرواية عن عائشة، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(331/25)
شرح حديث نبيشة في حبس لحوم الأضاحي
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا خالد الحذاء عن أبي المليح عن نبيشة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنا كنا نهيناكم عن لحومها أن تأكلوها فوق ثلاث لكي تسعكم، فقد جاء الله بالسعة، فكلوا، وادخروا، واتجروا، ألا وإن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل)].
أورد أبو داود حديث نبيشة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(كنا نهيناكم عن لحومها)] أي لحوم الأضاحي.
قوله: [(أن تأكلوها فوق ثلاث)].
أي أمرهم أن يأكلوا في حدود ثلاثة أيام، ولا يزيدون عن ذلك.
ثم إنه قال: [(إنما نهيناكم من أجل السعة)]، يعني من أجل التوسيع على الناس، ومن أجل الحاجة إلى الناس.
قوله: [(وقد جاء الله بالسعة)] أي: كثر الخير وحصل الاستغناء، والسبب الذي نهينا من أجله -وهو أن يتيحوا الفرصة ويفسحوا المجال لأولئك الذين دفوا وجاءوا إلى المدينة من أجل أن يحصلوا اللحم- قد ذهب، فكلوا وادخروا واتجروا.
قوله: [(اتجروا)] معناه تصدقوا، والمقصود من ذلك اطلبوا الأجر، وليس المقصود التجارة الدنيوية؛ لأن الضحايا لا يباع منها شيء، بل الجزار لا يعطى أجرته منها، وإنما يعطى أجرته من خارجها، فالمقصود بالاتجار هنا طلب الأجر وذلك بالصدقة، وليس المقصود منه التجارة؛ لأن الضحايا لا يباع منها شيء.
قوله: [(ألا وإن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل)].
هذه الأيام التي هي أيام عيد الأضحى والثلاثة الأيام التي بعده هي أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل، أي أنه لا يجوز صومها فهو حرام، أما يوم العيد فلا يجوز صومه بحال من الأحوال، وأما أيام التشريق فأيضاً لا يجوز صومها إلا لمن لم يجد الهدي، كما ثبت أنه لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي، فمن لم يجد هدي التمتع أو القران يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، فله أن يصوم أيام التشريق، وقد رخص له في ذلك.(331/26)
تراجم رجال إسناد حديث نبيشة في حبس لحوم الأضاحي
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد مر ذكره.
[عن يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد الحذاء].
خالد بن مهران الحذاء، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي المليح].
أبو المليح بن أسامة بن عمير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نبيشة].
نبيشة وهو صحابي، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.(331/27)
الأسئلة(331/28)
اشتراط الأعمال للإيمان
السؤال
روى الإمام معمر بن راشد في الجامع الملحق بمصنف عبد الرزاق عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده! ما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشد من مجادلة المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار قال: يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويحجون معنا، ويجاهدون معنا، فأدخلتهم النار، قال: فيقول: اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم) الحديث ثم قال: (ثم يقول الله: شفعت الملائكة، وشفعت الأنبياء، وشفع المؤمنون، وبقي أرحم الراحمين، قال: فيقبض قبضة من النار -أو قال: قبضتين- ناساً لم يعملوا لله خيراً قط، قد احترقوا حتى صاروا حمماً)، الحديث.
قال الشيخ الألباني رحمه الله: وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وهو من رواية عبد الرزاق عن معمر، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة في التوحيد وابن نصر في تعظيم قدر الصلاة، وكذلك أخرجه مسلم والبخاري بلفظ: (فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه).
السؤال
ما معنى قوله: (لم يعملوا خيراً قط)، وهل يكون الحديث حجة للذين يجعلون الأعمال شرط كمال، مع أن ظاهر الحديث يؤيد ما ذهبوا إليه ولا قرينة صارفة؟
الجواب
الأعمال ليست على حد سواء، بل هي متفاوتة، فيها ما يكون كمالاً وفيها ما لابد منه، ومعلوم أن الأعمال من الإيمان، وهي داخلة في مسمى الإيمان، والمسلم عندما يدخل في الإسلام يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولابد أن يأتي بمقتضى الشهادتين، وليس معنى ذلك أنه يدخل في الإسلام ثم لا يصلي لله ركعة، ولا يزكي، ولا يحج، ولا يفعل الأعمال مطلقاً، فالحديث لا أدري على أي وجه يحمل إذا كان صحيحاً وإلا فإن الأعمال لابد منها.
فالشهادتان لابد من العمل بمقتضاهما، وإلا فإن المنافقين يقولونها ومع ذلك لا تنفعهم، ومن كان مؤمناً وهو صادق الإيمان فإن مقتضى ما عنده من الإيمان أن يأتي بالأعمال الصالحة كما قال بعض السلف: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال.
والحاصل: أنه لا يجوز أن يبحث عن أشياء يستهان بسببها بالأعمال، فبعض الناس يعتمد على أحاديث الوعد، ثم يهملون أو يضيعون ويفوتون على أنفسهم تحصيل الأعمال الصالحة؛ بسبب ما يسمعونه من أحاديث الوعد، فلابد من مراعاة الوعد ولابد من مراعاة الوعيد، فلا يغلب أحد جانب الوعد ولا يغلب جانب الوعيد، بل لابد من هذا وهذا.
وهذه اللفظة يستدل بها من يقول بعدم كفر تارك الصلاة.
أما حديث المفلس فلا دلالة فيه على شيء؛ لأنه يدل على أنه كان عنده شيء ولكنه ذهب، حيث أخذه الدائنون، فيمكن أن يكون المعنى أنهم ما عملوا شيئاً بقي لهم أو ينفعهم، لا أنهم دخلوا في الإسلام وشهدوا أن لا إله إلا الله ثم لم يسجدوا لله سجدة، ولم يطعموا مسكيناً، ولم يحجوا، ولم يصوموا يوماً من الدهر.(331/29)
إجزاء الأضحية عن الوالد وأولاده المتزوجين
السؤال
هل تجزئ الأضحية عن العائلة التي يكون فيها أكثر من أسرة واحدة، أي: أن الوالد له أبناء متزوجون ولهم أبناء؟
الجواب
إذا كانوا في بيت واحد فإنها تجزئ عنهم كلهم، وذلك إذا كانوا في بيت واحد وطعامهم واحد ومسكنهم واحد، أما إن كان كل واحد مستقلاً في بيته وعائلته، فكل واحد يذبح ذبيحة.(331/30)
إجزاء الحامل في الأضحية
السؤال
هل تجزئ الحامل من بهيمة الأنعام في الأضحية؟
الجواب
تجزئ الحامل، ولكن الأولى أن تجتنب.(331/31)
حكم الاجتماع للتكبير عند الأضحية
السؤال
في بلادنا يجتمع بعض الناس عند الأضحية ويكبرون عند الذبح كالتكبير في يوم العيد؟
الجواب
هذا غير صحيح، إنما التكبير يشرع للذابح الذي يذبح، فيقول: باسم الله، والله أكبر، أما الباقون فلا يكبرون للذبح، ولكن إن كانوا يكبرون لأيام التشريق فلا بأس، لا من أجل الذبح؛ لأن أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل.(331/32)
شرح سنن أبي داود [332]
لا تقتصر مشروعية الأضحية للمرء على كونه مقيماً في بلده، فله أن يضحي ولو مسافراً، وكذلك الحاج له أن يضحي بمكة.
وقد شرع الإحسان إلى الذبيحة ونهي عن تعذيبها وقتلها صبراً.
وأباح الله لنا ذبائح أهل الكتاب بخلاف ذبائح المشركين وما لم يذكر اسم الله عليه أو ذبح لغير الله تعالى، وكل ما أنهر الدم من محدد جاز الذبح به إلا السن والظفر.(332/1)
المسافر يضحي(332/2)
شرح حديث المسافر يضحي
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المسافر يضحي.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا حماد بن خالد الخياط حدثنا معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير عن ثوبان رضي الله عنه قال: (ضحى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: يا ثوبان! أصلح لنا لحم هذه الشاة، قال: فما زلت أطعمه منها حتى قدمنا المدينة)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في المسافر يضحي]، أي أن المسافر له أن يضحي كما أن المقيم له أن يضحي، وليست الأضحية مقصورة على المقيم، فالمسافر له أن يضحي في بلده بأن يوصي أهله بأن يذبحوا أضحية في يوم العيد أو أيام التشريق، ويضحي في الطريق حيث أدركه العيد، ولا مانع من ذلك.
فالحاصل أنه إذا حضر العيد فللإنسان أن يضحي سواء كان في بلده أو في غير بلده، وسواء كان مقيماً أو منتقلاً مسافراً، وإنما نص على المسافر؛ لأنه قد يظن أن الإنسان إذا كان مقيماً يضحي وإذا كان مسافراً لا يضحي، فبين أن السنة أن الإنسان يضحي سواء كان مقيماً أو مسافراً.
وقد أورد أبو داود حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: [(ضحى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: يا ثوبان! أصلح لنا لحم هذه الشاة)].
أي: أنه حصل منه أنه ضحى وكان ذلك في سفر وليس في إقامة.
قوله: [(يا ثوبان! أصلح لنا هذه الشاة)] يعني أنه يطبخ منها أو يهيئها لعدة أيام، ومعلوم أنهم كانوا يصلحون ذلك بتشريق اللحم وتقديده وذر الملح عليه بحيث ييبس ولا يحصل له نتن ورائحة خبيثة.
قوله: [(فما زلت أطعمه حتى قدمنا المدينة)]، هذا هو الذي يبين أنه كان مسافراً، وأنه كان يطعمه في الطريق حتى وصل المدينة؛ لأنه كان يصلح الطعام ويقدم الطعام، وكان يطعمه من هذا اللحم الذي هو لحم الشاة حتى قدم المدينة.
فهذا يدل على أن المسافر له أن يضحي، وعلى أن الإنسان له أن يأكل من اللحم ويدخر؛ لأن هذا الذي أكله حتى قدم المدينة مدخر.(332/3)
تراجم رجال إسناد حديث المسافر يضحي
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[عن حماد بن خالد الخياط].
وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن معاوية بن صالح].
معاوية بن صالح بن حدير، وهو صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي الزاهرية].
وهو حدير بن كريب، وهو صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن جبير بن نفير].
وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ثوبان].
ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.(332/4)
جمع الحاج بين الهدي والأضحية
يجوز للحاج أن يجمع بين الهدي والأضحية في مكة، لكن لا يجمع بينهما بذبيحة واحدة تكون هدياً وتكون أضحية، بل يذبح ذبيحتين، ذبيحة تكون هدياً وذبيحة تكون أضحية.
والذي ينبغي لمن كان في مكة حيث تكثر اللحوم أن يتولى المرء ذلك بنفسه، ويوصل اللحم إلى من يستحقه، أو يعطيه للجهة التي تقوم بذلك، وأما أن يتساهل ويتهاون في إيصال اللحم إلى من يستحقه، فالأولى له أن تكون الأضحية في بلده؛ لأن بلده تكون الحاجة فيه إلى اللحم حاصلة، بخلاف مكة فإن اللحوم تكون كثيرة.(332/5)
النهي أن تصبر البهائم والرفق بالذبيحة(332/6)
شرح حديث الإحسان في القتل والذبح
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النهي أن تصبر البهائم والرفق بالذبيحة.
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه قال: (خصلتان سمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا -قال غير مسلم يقول: فأحسنوا القتلة- وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)].
أورد أبو داود [باب في النهي أن تصبر البهائم والرفق بالذبيحة] الصبر معناه أنها تحبس للذبح، إما أن تحبس وتجاع حتى تموت، أو أنها تمسك وتتخذ غرضاً يعني هدفاً بحيث يتراماها الناس؛ لأن هذا فيه تعذيب للحيوان وإيذاء له وهو لا يجوز، بل المطلوب أن يحصل الرفق والإحسان في الذبح بحيث تكون الآلة التي يذبح بها حادة، ولهذا بين أنه يحد الشفرة ويريح الذبيحة ولا يعذبها ويعرضها للعذاب.
أورد أبو داود حديث شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه في ذلك.
قوله: [(إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)]، الإحسان مطلوب في كل شيء، فمن قتل فليحسن القتل، ومن ذبح فليحسن الذبح، بمعنى أنه لا يعذب المقتول ولا يعذب الذبيحة، فالمقتول يراح في القتل، ولا يمثل به، ولا يعذب إلا إذا كان مستحقاً لذلك، كأن يكون الذي يقتل قتل بالتمثيل فإنه يمثل به، مثلما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بالعرنيين، حيث سملهم وقطع أيديهم وأمر بإلقائهم في الرمضاء يستسقون فلا يسقون؛ لأنهم فعلوا ذلك بالراعي، والقتل قصاصاً يمكن أن يكون مثل الهيئة التي حصل بها القتل.
واليهودي الذي رض رأس امرأة بين حجرين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم برأسه أن يرض بين حجرين، والمعنى أن يقتل كما قتل، وكذلك جاء ما يدل على جواز القتلة الشديدة في مثل الزاني المحصن فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت؛ لأن هذا جاءت الشريعة به.
فيحسن القتل لمن يكون مستحقاً لذلك، أما من يكون مستحقاً لأن توقع به عقوبة شديدة جاءت الشريعة بتحديدها كالرجم في حق المحصن فإنه يفعل به ذلك، وهذا هو الحكم الذي شرعه الله عز وجل، ولا يأخذ الناس رأفة بالذي حصل منه ذلك الذنب الذي يستحق به هذه العقوبة، بل يطبق في حقه ما شرعه الله عز وجل.
وقوله: [(إن الله كتب الإحسان على كل شيء)]، هذا عام واسع، لكنه ذكر أمثلة لذلك فقال: [(فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة)] بمعنى أنه يراح الذي يقتل بحيث لا يعذب ولا يؤذى وهو حي، وكذلك لا يمثل به بعد الموت إلا من يستحق التمثيل كما عرفنا.
قوله: [(وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)]، ثم بين مما فيه إحسان الذبحة بأن يحد الإنسان الشفرة، وهي السكين التي يذبح بها، وذلك بأن يحدها بحديد، أو بحجر، أو بآلة تجعلها حادة، وتجعل الذبح بها مريحاً للذبيحة، ولا يذبحها بآلة كالة ثم يعذبها وهو يذبحها.
وأيضاً لا يذبحها أمام أختها؛ لأن هذا تعذيب.
وهذا الحديث من جوامع كلم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا أورد النووي رحمه الله هذا الحديث ضمن الأربعين النووية؛ لأن أحاديث الأربعين النووية هي في الغالب من جوامع كلم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد زاد ابن رجب الحنبلي رحمه الله عليها ثمانية أحاديث وكانت اثنين وأربعين، وإنما أطلق عليها أنها الأربعون تغليباً بحذف الكسر، وابن رجب زاد ثمانية أحاديث فصارت خمسين حديثاً، وشرحها بشرح نفيس سماه "جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم"، وهو كتاب آثار كما هو شأن الحافظ ابن رجب رحمة الله عليه، فإن شروحه أو أجزاءه الحديثية هي مظنة الآثار عن السلف؛ لأنه ينقل نقولاً كثيرة عن السلف في الآثار المتعلقة بموضوع الحديث الذي يشرحه.(332/7)
تراجم رجال إسناد حديث الإحسان في القتل والذبح
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد الحذاء].
خالد بن مهران الحذاء، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، لُقب بـ الحذاء ولم يكن يصنع الأحذية ولا يبيع الأحذية؛ لأن المتبادر إلى الذهن أن من يصنع الأحذية أو يبيعها يقال له (حذاء) مثلما يقال: السمان والزيات للذي يبيع السمن والزيت، وأمثال ذلك.
فالحذاء المتبادر إلى الذهن أنه يصنع الأحذية أو يبيعها وهو ليس كذلك، وإنما كان يجلس عند الحذائين، فنسب هذه النسبة، وقيل: إنه كان يقول للحذاء وهو عنده: احذ على كذا، أي كان يعمل له رسماً ويقول له: احذ على كذا، أي اقطع أو قص الجلد على حذو هذا المقياس أو هذا النموذج، فقيل له: الحذاء، والعلماء يقولون عنها: هذه نسبة إلى غير ما يتبادر إلى الذهن.
وهناك ألقاب لبعض المحدثين على غير ما يتبادر إلى الذهن مثل شخص يقال له: الضال وإنما قيل له الضال؛ لأنه ضل في طريق مكة، وقد يتبادر إلى الذهن أنه من الضلال وأنه وصف مذموم.
وكذلك الفقير يتبادر إلى الذهن أنه من الفقر، وإنما لقب بذلك؛ لأنه كان يشكو فقار ظهره فقيل له: الفقير، نسبة إلى فقار الظهر وليس إلى الفقر، فهذا من قبيل النسبة إلى غير ما يتبادر إلى الذهن.
وخالد بن مهران الحذاء ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قلابة].
أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الأشعث].
وهو شراحيل بن آدة، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن شداد بن أوس].
شداد بن أوس رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال غير مسلم يقول: (فأحسنوا القتلة)].
أي أن مسلماً شيخ أبي داود لم يذكر لفظة [القتلة] وإنما ذكرها غيره.(332/8)
الكتابة الشرعية والقدرية
قوله: [(إن الله كتب)].
أي: أوجب أو ألزم، هذا هو معنى الكتابة.
والمقصود بها الكتابة الشرعية وليست الكتابة القدرية؛ لأن الكتابة تأتي بمعنى القدر وبمعنى الشرع، فهناك كتابة شرعية مثل الإرادة الشرعية، وكتابة قدرية مثل الإرادة القدرية، وهنا المقصود بها الكتابة الشرعية مثل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]، {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة:180]، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]، فالمعنى: أوجب.
والألفاظ التي تأتي لمعنى شرعي ولمعنى كوني كثيرة، منها: كتب، ومنها: أذن، ومنها: أمر، ومنها: قضى، ومنها: أراد، وهي ألفاظ عديدة عقد لها ابن القيم باباً في كتابه: شفاء العليل فيما جاء في القضاء والقدر والحكمة والتعليل، والكتاب مؤلف من ثلاثين باباً كلها تتعلق بالقدر، وكان من جملة الأبواب باب في الألفاظ التي تأتي لمعنى كوني وتأتي لمعنى شرعي، وكان يمثل لكل نوع فيما يتعلق بالقدر وفيما يتعلق بالشرع.(332/9)
شرح حديث النهي عن صبر البهائم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن هشام بن زيد قال: دخلت مع أنس رضي الله عنه على الحكم بن أيوب، فرأى فتياناً أو غلماناً قد نصبوا دجاجة يرمونها، فقال أنس: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تصبر البهائم)].
أورد أبو داود حديث أنس رضي الله عنه أنه رأى غلماناً قد نصبوا دجاجة يرمونها، ومعناه أنهم ربطوها وهي حية، وجعلوها هدفاً، كل يرميها حتى يصيب، وهذا لا يجوز لما فيه من تعذيب وإيذاء للحيوان.
قوله: [(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهائم)، أي أن تحبس للموت، والمقصود بالصبر ما يشمل حبسها حتى تموت، ومثل هذه الهيئة التي ربطت فيها واتخذت غرضاً.(332/10)
تراجم رجال إسناد حديث النهي عن صبر البهائم
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
هشام بن عبد الملك الطيالسي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي، مر ذكره.
[عن هشام بن زيد].
هشام بن زيد بن أنس بن مالك، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم.
والحديث من الرباعيات عند أبي داود؛ لأن فيه أربعة بين أبي داود ورسول الله صلى الله عليه وسلم.(332/11)
مشروعية الاستقبال عند الذبح
ورد في كتاب "مناسك الحج والعمرة في الكتاب والسنة وآثار السلف وسرد ما ألحق الناس بها من البدع" للشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمة الله عليه، قال: والسنة أن يذبح أو ينحر بيده إن تيسر له وإلا أناب عنه غيره، ويذبحها مستقبلاً بها القبلة.
قال في الحاشية: فيه حديث مرفوع عن جابر عند أبي داود وغيره مخرج في الإرواء (1138)، وآخر عند البيهقي (9/ 285)، وروي عن ابن عمر أنه كان يستحب أن يستقبل القبلة إذا ذبح، وروى عبد الرزاق (8585) بإسناد صحيح عنه أنه كان يكره أن يأكل ذبيحة ذبحت لغير القبلة.(332/12)
الأسئلة(332/13)
حكم تجاوز قرن المنازل دون إحرام
السؤال
جاء الحجاج إلى المدينة، ومروا على قرن المنازل، ولم يأتوا مكة إلا بعد ثمانية أيام فهل ميقاتهم قرن المنازل أم ذو الحليفة؟
الجواب
لعلهم جاءوا من طريق وادي فاطمة حتى دخلوا المدينة دون أن يدخلوا مكة، وعلى كل حال حتى لو جاءوا من قرن المنازل ودخلوا مكة ولم يكن في نيتهم أن يدخلوا معتمرين وإنما يدخلون مارين إلى المدينة ثم يحرموا من المدينة، فلا بأس بذلك، فلهم أن يجلسوا في المدينة ويحرموا منها ما دام أنهم تجاوزوا قرن المنازل ولم يحرموا، إنما المحذور لو أحرموا بعد تجاوز قرن المنازل، أما إذا تجاوزوه غير محرمين ودخلوا مكة على سبيل المرور متجهين إلى المدينة، ثم يحرمون من المدنية فلا بأس بذلك، ولا مانع منه.(332/14)
ما يجب على من أحل من إحرامه قبل أداء النسك
السؤال
إذا كان الميقات من ذي الحليفة، فهل يفسخ إحرام من أحرم من قرن المنازل؟
الجواب
من أحرم يجب عليه أن يبقى على إحرامه، ولو جاء المدينة ولو ذهب إلى أي جهة، فما دام أنه دخل في النسك يجب عليه البقاء على الإحرام حتى يكمل النسك الذي دخل فيه، وليس له أن يترك إحرامه؛ لأنه سيذهب إلى المدينة وعليه إحرامه، ويستمر على إحرامه حتى يدخل مكة، ويطوف ويسعى ويقصر إذا كان إحرامه بالعمرة.
ومن أحرم من قرن المنازل ثم أحل من إحرامه حتى يحرم من ذي الحليفة بعد العودة من المدينة إلى مكة، يجب عليه أن يرجع إلى إحرامه، وذلك بأن يخلع ثيابه ويرجع إلى إحرامه ويستمر عليه، لأنه من حين دخل في الإحرام تعين عليه البقاء فيه والاستمرار حتى ينهي النسك الذي دخل فيه، فإن كان محرماً بعمرة فإنه يبقى حتى يطوف ويسعى ويقصر، وإن كان محرماً بالحج فالأفضل في حقه أن يحول إحرامه إلى عمرة، وأن يكون متمتعاً بدلاً من أن يكون مفرداً أو قارناً، فإذا وصل إلى مكة وطاف وسعى وقصر تحلل من عمرته.
فالحاصل أن من أحرم من الميقات ولم يدخل مكة وجاء للمدينة، فإنه يتعين عليه البقاء في إحرامه حتى يرجع إلى مكة ويطوف ويسعى ويقصر، ومن أخطأ وخلع إحرامه ولبس ثيابه، فإنه يتعين عليه أن يرجع إلى إحرامه؛ لأنه لا يزال محرماً.
وإذا كان مع هذا الذي أحل من إحرامه زوجة وجامعها فالأمر في ذلك خطير وليس بالهين، فإذا كان محرماً بعمرة أكمل هذه العمرة الفاسدة وأتى بعمرة ثانية وذبح شاة.(332/15)
اسم الله الأعظم
السؤال
ما هو اسم الله الأعظم؟
الجواب
فيه خلاف، قيل: إنه هو الله، وقيل: إنه الحي القيوم.(332/16)
حكم التسمية للذبح بآلة تسجيل
السؤال
في إحدى الدول الأوروبية آلات للذبح مسجل فيها باسم الله، كلما مرت بها البهيمة تنطق هذه الآلة: باسم الله، والبهيمة تكون معلقة أرجلها إلى الأعلى ورأسها إلى الأسفل، فهل يجوز لنا أن نأكل من هذه الذبائح؟ وما نصيحتكم لهؤلاء الذين يفعلون ذلك للمنافسة فقط؟
الجواب
الأصل أن تصدر التسمية من الشخص، ولا تكون مجرد تسجيل، فهذا مثل الأذان بالتسجيل، وعلى كل فإنه يؤكل منها.(332/17)
حكم ما ذبح بالسن أو العظم
السؤال
ما حكم الذبيحة التي ذبحت بالعظم أو السن؟ هل هي في حكم الميتة؟
الجواب
لا أدري هل النهي يقتضي حرمتها أو يقتضي التأثيم فقط.(332/18)
حكم الأكل من أضحية المفاخرة
السؤال
ما حكم الأكل من أضحية العيد لرجل اشتراها ليفرح ابنه أو للمفاخرة مع الجيران؟
الجواب
كونه يذبح ذبيحة يفاخر بها جيرانه لا ينبغي، وعليه أن يخلص قصده لله عز وجل ولا يكون عنده رياء ولا يريد بذلك إلا وجه الله سبحانه وتعالى، ولا يريد أي مفاخرة في شاة يذبحها.
أما إذا ذبحها ليفرحهم بأكل اللحم فلا بأس، وقد ذبح أبو بردة بن نيار أضحيته بقصد يشبه هذا.(332/19)
حكم الأكل من الذبيحة لمناسبة بدعية
السؤال
هل يجوز أكل الذبيحة التي تقدم بمناسبة بدعية مثل المولد النبوي أو في العزاء؟
الجواب
يجوز أكل الذبائح التي تقدم في مناسبات بدعية، ومن كانت بدعته مكفرة لا تؤكل ذبيحته.(332/20)
كتابة البسملة على السهم الذي يصطاد به
السؤال
هل تكفي كتابة: الله أكبر أو البسملة على السهم الذي يرمى به الصيد؟
الجواب
لا يكفي، ولابد من نطق الإنسان، وإلا لكتب الناس على هذه الآلات وتركوا التسمية!(332/21)
حكم أكل ما قطع من الصيد وهو حي
السؤال
لو ند الصيد ولم يقدر عليه، فلحقه جماعة وأخذوا يضربونه بيده ورجله ويقطعون أجزاءه، هل يحل لهم أكل الجزء المقطوع؟
الجواب
( ما أبين من حي فهو ميت).(332/22)
ضابط سيلان الدم في الصيد
السؤال
ماذا يقال في استعمال المسدس في الصيد؟ وماذا يقال في استعماله مكان الذبح، علماً بأن الدم قد يخرج قليلاً؟ وما ضابط سيلان الدم؟
الجواب
بالنسبة للصيد لا يحتاج فيه إلى كون الدم كثيراً أو قليلاً، المهم أن يصيده بمحدد وأن يخرج منه الدم، بل الكلب أو الصقر إذا حصل منه أنه جرحه بمخالبه وخرج منه الدم ولو كان يسيراً كفى، أما لو أمسكه وبرك عليه أو ضربه ضرباً بثقله ومات، فإنه يكون ميتة.(332/23)
حكم الأكل من ذبيحة الوكيرة
السؤال
ما حكم من ذبح وذكر اسم الله ولكن لم تكن لله، إنما ذبح لأجل بناء بيت جديد أو غير ذلك؟
الجواب
إذا ذبح الإنسان من أجل بناء بيت جديد، وهو ما يسمونه الوكيرة لا بأس به، فهو لم يذبحه على أنه أضحية، أو على أنه صدقة، وإنما ذبحه بهذه المناسبة، ولا يقال: إنه ليس لله، لأن كل شيء لله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} [الأنعام:162]، لكن الذي دفعه إلى ذلك كونه بنى بيتاً وأراد أن يطعم الناس أو يدل الناس على بيته.(332/24)
ذبائح أهل الكتاب(332/25)
شرح حديث ابن عباس في حل ذبائح أهل الكتاب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ذبائح أهل الكتاب.
حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي حدثني علي بن حسين عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:118]، {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]، فنسخ واستثنى من ذلك فقال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة:5]].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة: [باب في ذبائح أهل الكتاب] يعني حكمها وأنها حلال للمسلمين.
وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، فكتاب اليهود التوراة، وكتاب النصارى الإنجيل، والتوراة أنزلت على موسى، والإنجيل أنزل على عيسى عليهم الصلاة والسلام، فهما كتابان من عند الله، وقد حصل التحريف والتبديل لهما بعد ذلك، وجاء في القرآن أنهم حرفوا وبدلوا وغيروا واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً.
فهؤلاء هم أهل الكتاب؛ وأهل الكتاب ذبائحهم حلال لنا كما أن نساءهم حلال لنا، فالمسلمون يأكلون ذبائحهم ويتزوجون نساءهم، ولا يجوز أن يتزوج أهل الكتاب من المسلمين.
أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عباس في قول الله عز وجل: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:118]، {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]، قال: ثم نسخ ونزل {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5]، والطعام هو الذبائح، كما جاء ذلك مفسراً عن ابن عباس وغيره، وليس المقصود به غير الذبائح مثل البر وغير ذلك من الأطعمة؛ لأن هذه يمكن أن تأتي من أهل الكتاب وغير أهل الكتاب.
فالطعام الذي أحل لنا من أهل الكتاب هو ذبائحهم، بخلاف الوثنيين وعباد الأوثان والمشركين فلا يجوز أكل ذبائحهم، وكذلك لا تحل نساء المشركين من غير أهل الكتاب.
واليهود والنصارى كفار مشركون، ولكن كونهم ينتمون إلى كتاب ويتبعون رسولاً جعل لهم ميزة على غيرهم، وإن كان اتباعهم لرسولهم بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينفعهم شيئاً ولا يغنيهم شيئاً؛ لأن الواجب هو اتباع نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بالذي جئت به، إلا كان من أصحاب النار).
والحديث رواه مسلم في صحيحه.
فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أمتان: أمة دعوة وأمة إجابة، فأمة الدعوة كل أنسي وجني من حين بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، وأما أمة الإجابة فهم الذين دخلوا في الدين وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي استجابوا لدعوة الرسول عليه الصلاة والسلام.
فاليهود والنصارى من أمة الدعوة وليسوا من أمة الإجابة إلا إذا دخلوا في الدين الحنيف وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام، واستجابوا لشرع الله، وقاموا بالتعبد طبقاً لما جاء في شريعة الله عز وجل، ولهذا فإن الرسول الذي ينتمي إليه اليهود لو كان حياً ما وسعه إلا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء ذلك في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)، والنبي الذي يزعم النصارى أنهم أتباعه هو في السماء، ولكنه ينزل في آخر الزمان ويحكم بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام.
وقول ابن عباس رضي الله عنه: [{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]، {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:118]، ونسخ ذلك] أي: فأحل أكل الذبائح وإن لم يعلم أنهم ذكروا اسم الله عليها، أي: فلا نقول: إننا لا نأكل إلا إذا عرفنا أنهم ذكروا اسم الله، أما إن عرفنا أنهم ذكروا اسم غير الله على الذبيحة فلا يجوز الأكل منها، فإذا لم نعلم فإن الأصل أنها حل لنا، ولا يتوقف أكلنا من ذبائحهم على معرفة هل ذكروا الله أم لا، بل نأكل ونسمي، ولا يلزمنا أن نبحث هل ذكروا الله أو لا.(332/26)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في حل ذبائح أهل الكتاب
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي].
أحمد بن محمد بن ثابت المروزي ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن علي بن حسين].
علي بن حسين بن واقد، وهو صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
حسين بن واقد، وهو ثقة له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد النحوي].
يزيد بن أبي سعيد النحوي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عكرمة].
عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
وهو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(332/27)
شرح أثر ابن عباس في تفسير إيحاء الشياطين إلى أوليائهم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا إسرائيل حدثنا سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:121]، يقولون: ما ذبح الله فلا تأكلوه، وما ذبحتم أنتم فكلوه، فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]].
أورد أبو داود أثراً عن ابن عباس في قوله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:121]، أراد بذلك تفسير هذه الآية، وأن الشياطين من الإنس والجن توحي إلى أوليائهم من الإنس، ومما قالوه من الإيحاء: إن ما ذبحه الله عز وجل هو الميتة فلا تأكلوها، وما ذبحتموه أنتم فكلوه! فيطلقون على الميتة أنها ذبيحة الله، فهذا من وحي الشياطين إلى إخوانهم من شياطين الإنس.
قوله: [{لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:121]] معناه أنهم يقولون: قولوا لهم: إنكم تأكلون ما تذبحونه ولا تأكلون ما ذبحه الله.
قوله: [فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]]، يعني إن الميتة هي ما لم يذكر اسم الله عليه، وهذا غير التي لم تذبح فصارت بذلك نجسة لا يجوز الأكل منها إلا للضرورة التي يدفع بها الموت، ويؤكل بقدر الضرورة ولا يزاد على ما فيه إنقاذ النفس.
فالميتة لم يذكر اسم الله عليها، وأيضاً هي نجسة وفيها ضرر، فاجتمع فيها عدة محاذير.
والحاصل أن هذا فيه تفسير لإيحاء الشياطين إلى إخوانهم.(332/28)
تراجم رجال إسناد أثر ابن عباس في تفسير إيحاء الشياطين إلى أوليائهم
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسرائيل].
وهو ابن يونس بن أبي إسحاق، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سماك].
سماك بن حرب، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عكرمة عن ابن عباس].
وقد مر ذكرهما.
وهذا من رواية سماك عن عكرمة وروايته عنه مضطربة لكن له شواهد.(332/29)
علاقة أثر ابن عباس في تفسير إيحاء الشياطين بذبائح أهل الكتاب
هذا الأثر جاء في هذا الباب تبعاً وإلا فلا تعلق له بذبائح أهل الكتاب، وقد أورد المصنف بعده أثراً فيه ذكر اليهود وهم من أهل الكتاب، ولكن ذكر اليهود فيه غير صحيح؛ لأن الآية مكية واليهود ما حصلت المخاصمة معهم والاتصال بهم إلا في المدينة، فهي تتعلق بالمشركين ولا تتعلق باليهود.(332/30)
شرح حديث ابن عباس في تفسير النهي عن أكل ما لم يذكر عليه اسم الله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عمران بن عيينة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: نأكل مما قتلنا، ولا نأكل مما قتل الله؛ فأنزل الله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121] إلى آخر الآية)].
أورد المصنف هذا الأثر وهو مثل الذي قبله، إلا أن فيه ذكر اليهود، وقد قدمنا أن السورة مكية، وأن الآية نزلت بمكة فهي تتعلق بالمشركين كما جاء في الأثر السابق، فذكر اليهود هنا منكر ليس بصحيح، وإن كان معنى الحديث دون ذكر اليهود متفقاً مع الروايات الأخرى، فيكون الغلط إنما هو في ذكر اليهود، وأما الباقي فلا غلط فيه؛ لأنه متفق مع النصوص الأخرى ومتفق مع ظاهر القرآن، وهو أن الكلام عن المشركين؛ لأن السورة مكية والخطاب للمسلمين، والخصومة إنما كانت بين المسلمين والكفار من المشركين، وأما اليهود فإنما كان الاتصال بهم بعد الهجرة، ونزول سورة الأنعام إنما كان بمكة.(332/31)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في تفسير النهي عن أكل ما لم يذكر عليه اسم الله
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وإلا النسائي، وقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[عن عمران بن عيينة].
وهو صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب السنن.
[عن عطاء بن السائب].
عطاء بن السائب صدوق اختلط، وحديثه أخرجه البخاري وأصحاب السنن، والذين سمعوا منه قبل الاختلاط ليس فيهم عمران بن عيينة، فيكون الحديث غير صحيح من ناحية ما جاء فيه من ذكر اليهود على سبيل الخصوص، وأما ما يتعلق بموضوعه فهو متفق مع النصوص الأخرى الدالة على إيحاء الشياطين من الجن والإنس إلى إخوانهم شياطين الإنس بحيث يحاجون المسلمين ويقولون: كيف يحل لكم ما قتلتموه، ولا يحل لكم ما قتله الله، أي الميتة؟ [عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
وقد مر ذكره.(332/32)
الأسئلة(332/33)
حكم أكل ما قتل بالكهرباء أو الضرب
السؤال
نحن نعيش مع اليهود والنصارى في أوروبا، ونشاهد أن البهائم تقتل بواسطة الكهرباء أو بالضرب بالعصا على رأس البهيمة حتى تموت، فبعد أن علمنا صفة قتلهم، هل يشرع لنا أكل ذبائحهم؟
الجواب
الجهة التي رأيتموها تقتل البهائم بهذه الطريقة، وهي أنهم يضربونها أو يصعقونها ولا يذبحونها فإن ذبائحها تكون ميتة، لكن إذا كانوا يصعقونها بمعنى أنها تخدر حتى يذهب الهيجان والقوة التي فيها ولكنها تبقى على قيد الحياة ثم تذبح، فلا بأس بذلك، أما إذا كان صعقها أو ضربها يحصل به موتها، فإنها تكون ميتة ولا يحل أكلها حتى لو حصلت من مسلم فضلاً عن يهودي ونصراني، فالجهة التي عرفتم منها هذا العمل لا يجوز أن يؤكل منها.(332/34)
حكم أكل اللحم المستورد
السؤال
إذا كان المعهود الآن من اليهود والنصارى أنهم يقتلون البهائم بالكهرباء، فهل يجوز أكل المستوردات اللحمية؟
الجواب
إذا كانوا يصعقونها ولا يذبحونها فهي ميتة، لكن ما كل جهة تفعل ذلك، فالجهة التي تفعل هذا لا يجوز أكل ذبائحها، وأما إذا جهل ذلك ولم تعرف كيفية ذبحها، فإنه يحل، لأن الأصل هو الحل حتى يأتي شيء يدل على خلاف الحل، بأن يعلم بأنهم ذبحوا بهذه الطريقة.
وقد يقال: هذا من المشتبهات التي يتورع عنها الإنسان؟ ونقول: مر بنا في الحديث: (ما كرهته فدعه ولا تحرمه على غيرك)، فالأصل هو الحل، وما علم ذبحه بالطريقة الشرعية مقدم على ما جهلت طريقة ذبحه.(332/35)
ما جاء في أكل معاقرة الأعراب(332/36)
شرح حديث النهي عن أكل معاقرة الأعراب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في أكل معاقرة الأعراب.
حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا حماد بن مسعدة عن عوف عن أبي ريحانة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن معاقرة الأعراب).
قال أبو داود: اسم أبي ريحانة: عبد الله بن مطر وغندر أوقفه على ابن عباس].
أورد أبو داود [باب ما جاء في أكل معاقرة الأعراب] والمعاقرة مفاعلة من العقر وهو الذبح والنحر، والمقصود بالمعاقرة المغالبة في العقر، أي أنهم يتبارون ويتغالبون كل واحد يريد أن يكون متفوقاً على غيره بكثرة الذبح.
فالمقصود بالمعاقرة المغالبة والمسابقة والمنافسة في كثرة الذبح، وكان هذا ينبني على عصبية وعلى مغالبة، وكل واحد يريد أن يكون هو الذي فاق غيره في العقر، أي في كثرة الذبائح، هذا هو المقصود من هذه الترجمة.
وأورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: [(نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الأعراب)] يعني عن الذبائح التي جاءت بهذه الطريقة، لأنها ذبحت لغير الله أو كأنها مما أهل به لغير الله؛ لأنه ما كان المقصود منها إلا المغالبة والمنافسة، والتفوق على الغير، وهذا هو المقصود من الحديث وهو المقصود من الترجمة.
قوله: [وغندر أوقفه على ابن عباس].
غندر هو محمد بن جعفر، وهو لم يذكر في الإسناد، ولكنه أشار إلى أنه في طريق أخرى أوقفه على ابن عباس، وهذا الإسناد الذي أورده أبو داود هنا مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.(332/37)
تراجم رجال إسناد حديث النهي عن أكل معاقرة الأعراب
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هارون بن عبد الله الحمال البغدادي، ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن حماد بن مسعدة].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عوف].
عوف بن أبي جميلة الأعرابي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي ريحانة].
وهو عبد الله بن مطر، وهو صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن ابن عباس].
وقد مر ذكره.(332/38)
الذبيحة بالمروة(332/39)
شرح حديث: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الذبيحة بالمروة.
حدثنا مسدد حدثنا أبو الأحوص حدثنا سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة عن أبيه عن جده رافع بن خديج رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله! إنا نلقى العدو غداً وليس معنا مدى، أفنذبح بالمروة وشقة العصا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أرن أو أعجل، ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سناً أو ظفراً، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة.
وتقدم به سرعان من الناس فتعجلوا فأصابوا من الغنائم، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر الناس، فنصبوا قدوراً، فمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقدور فأمر بها فأكفئت، وقسم بينهم فعدل بعيراً بعشر شياة، وند بعير من إبل القوم، ولم يكن معهم خيل، فرماه رجل بسهم فحبسه الله، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما فعل منها هذا فافعلوا به مثل هذا)].
أورد أبو داود باباً في الذبيحة في المروة يعني أن الذبيحة تذبح بالمروة، والمروة هي حجارة بيضاء ملساء يكون لها حد فيذبح بها، فالمقصود بالمروة: الحجارة الملساء التي تكسر فيكون لها حد، أو تكون من أصلها فيها حد بحيث إنها تمر على حلق الذبيحة فتقطعها.
وأورد أبو داود حديث رافع بن خديج رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: [(إنا نلقى العدو غداً وليس معنا مدى)] أي ليس معنا سكاكين، فالمدى جمع مدية وهي السكين، أي: ليس معنا مدى نذبح بها، فإذا غنمنا شيئاً وأردنا أن نذبحه هل نذبحه بالمروة وشقة العصا؟ يعني العصا التي شقت فصار لها حد.
وقوله: [(هل نذبح بالمروة)] هو محل الشاهد للترجمة.
والحجارة الملساء قيل: إنها هي التي تقدح بها النار، فهذا النوع من الحجارة إذا ضرب واحد منها بالثاني حصل قدح نار فيجعلون خرقة أو نحوها عند القدح فيشعلون النار بسبب ذلك.
ولما قال: [(فهل نذبح بالمروة وشقة العصا؟)] أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قاعدة عامة، وهذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ فقال: [(ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل)]، أي كل شيء يريق الدم، سواء كان حجراً أو كان عصا أو خشباً حاداً، وليس الأمر مقصوراً على الحديد.
واستثنى من ذلك السن والظفر، وعلل ذلك بأن السن عظم؛ فدل على أن العظام لا يذبح بها، ولعل السبب في ذلك كما قال أهل العلم: إنها طعام الجن؛ وقد جاء أنه لا يستنجى بعظم ولا بروث؛ لأن العظام طعام الجن؛ لأن الله يجعل عليها لحماً فيأكلون منها، والروث علف لدوابهم، فلا يذبح بها؛ لأنها إذا ذبحت لوثت بالدم وهي طعام الجن، فلعل هذا هو السبب الذي من أجله منع الذبح بالعظم.
وكذلك الظفر قال: [(إنه مدى الحبشة)] وفي ذلك تشبه بالكفار؛ لأنهم يطيلون الأظفار، ويتخذونها للذبح، وذلك لا يجوز.
وقوله: [(ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل؛ ليس السن والظفر)]، ذكرنا أنه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وهذا من كمال بيانه وفصاحته وبلاغته عليه الصلاة والسلام، وهو أفصح الناس وأنصح الناس للناس، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فإنه سئل عن شيء محدد معين فأجاب بما يشمله ويشمل غيره بهذا اللفظ العام.
قوله: [(وتقدم به سرعان من الناس فتعجلوا فأصابوا من الغنائم، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر الناس، فنصبوا قدوراً، فمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقدور فأمر بها فأكفئت)].
أي: تقدم سرعان من الناس فأصابوا غنائم وبادروا إلى ذبحها وطبخها، وهذا لا يحل لهم؛ لأن الغنائم تمسك ويحتفظ بها حتى تقسم ويعرف كل نصيبه، فهؤلاء أقدموا على شيء لا يجوز لهم الإقدام عليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أكفأ القدور ومنعهم من استعمالها عقوبة لهم.
قوله: [(وقسم بينهم، فعدل بعيراً بعشر شياه)].
أي: وقسم بينهم الغنائم، وكانت إبلاً وغنماً، فكان يجعل العشر الشياه تعادل بعيراً، ولعل ذلك لكون الشياه فيها نقص أو فيها ضعف، والإبل كانت قوية وكانت سمينة، ومعلوم أن هذه حقوق وقسمة وليست من قبيل الضحايا، ففي الضحايا تجزئ البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة، ولا ينظر لكون الغنم سمينة والبقر ليست كذلك أو العكس، وإنما هذا يجزئ عن كذا وهذا يجزئ عن كذا بصرف النظر عن مقارنة هذا بهذا، لكن قسمة الحقوق لابد فيها من العدل، فكان البعير الواحد يعدل عشراً من الغنم.
قوله: [(وند بعير من إبل القوم ولم يكن معهم خيل، فرماه رجل بسهم فحبسه الله، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما فعل منها هذا فافعلوا به مثل هذا)].
ند بعير: شرد وهرب، ولم يكن معهم خيل: أي خيل قوية يلحق بها البعير بحيث يمسك.
قوله: (إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الصيد فما فعل منها هكذا فافعلوا به هكذا) يعني: إذا هرب ولم تتمكنوا من إمساكه وذبحه ذبحاً شرعياً فعاملوه معاملة الصيد، والصيد كما هو معلوم إذا رمي وأصابه السهم حتى خرج منه الدم فإن ذبحه وتذكيته تكون بذلك، فلو أنه وقع وأدرك وفيه حياة قطعت رقبته، وإن مات قبل أن يوصل إليه فإنه يكون حلالاً؛ وهذا يفعل به هكذا حيث لا يقدر عليه، أما إذا قدر عليه فإنه يذبح بأن ينحر في لبته أو يذبح إذا كان مما يذبح، والذبح يكون في الحلق بين الرقبة والرأس، والنحر يكون في اللبة التي في أسفل الرقبة عند ملتقى اليدين للبعير.
قوله: في أوله: [(أرن أو أعجل)] معناه أنه يسرع في الذبح ويكون فيه خفة، فأرن معناه: من الخفة، وأعجل: أسرع بذبحه حتى يحصل إراقة دمه وخروج روحه بسهولة من غير تعذيب.(332/40)
تراجم رجال إسناد حديث: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبي الأحوص].
أبو الأحوص سلام بن سليم الحنفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن مسروق].
وهو والد سفيان الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عباية بن رفاعة].
عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
رفاعة بن رافع، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن رافع بن خديج] صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(332/41)
شرح حديث ذبح الأرنب بمروة
قال المصنف رحمه الله تعالى: حدثنا مسدد أن عبد الواحد بن زياد وحماداً حدثاهم المعنى واحد، عن عاصم عن الشعبي عن محمد بن صفوان أو صفوان بن محمد رضي الله عنه قال: (أصدت أرنبين فذبحتهما بمروة، فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهما، فأمرني بأكلهما)].
أورد أبو داود حديث محمد بن صفوان رضي الله تعالى عنه أنه اصطاد أرنبين قال: [(أصدت أرنبين)]، أي: اصطدت أرنبين.
قوله: [(فذبحتهما بمروة)] أي: بحجر أملس له حد يقطع، فسأل النبي عليه الصلاة والسلام فقال: [(كلهما)] فدل ذلك على أن الذبح بالحجارة التي لها حد أو بغير ذلك مما لم يكن عظماً ولا ظفراً سائغ ولا بأس به.(332/42)
تراجم رجال إسناد حديث ذبح الأرنب بمروة
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عبد الواحد بن زياد].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحماد].
حماد بن زيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وإذا جاء مسدد يروي عن حماد غير منسوب فالمراد به حماد بن زيد، وهذا بخلاف حماد غير منسوب يروي عنه موسى بن إسماعيل الذي يمر بنا كثيراً، فالمراد به حماد بن سلمة؛ لأن التمييز بين المهملات يكون بالتلاميذ، فـ مسدد يروي عن حماد بن زيد وموسى بن إسماعيل يروي عن حماد بن سلمة، فلهذا يأتي إهمال النسبة اعتماداً على أنه هو الذي عرف أنه من شيوخه.
[حدثاهم المعنى واحد].
يعني أن رواية حماد وعبد الواحد معناهما واحد.
وقوله: [حدثاهم].
يعني: هم ومعهم غيرهم.
[عن عاصم].
عاصم بن سليمان الأحول، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الشعبي].
هو عامر بن شراحيل الشعبي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن صفوان أو صفوان بن محمد].
مختلف فيه هل هو محمد بن صفوان أو صفوان بن محمد، والأشهر أنه محمد بن صفوان، وهو صحابي، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.(332/43)
شرح حديث نحر اللقحة بالوتد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني حارثة: (أنه كان يرعى لقحة بشعب من شعاب أحد، فأخذها الموت فلم يجد شيئاً ينحرها به، فأخذ وتداً فوجأ به في لبتها حتى أهريق دمها، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بذلك، فأمره بأكلها)].
أورد أبو داود حديث رجل من بني حارثة رضي الله عنه أنه كان يرعى لقحة، وهي حديثة العهد بالولادة، فجاءها الموت وليس معه سكين، فأخذ وتداً أي من الخشب يكون طرفه محدداً، فوجأ به في لبتها حتى أهرق دمها ونحرها بذلك الوتد من الخشب، وجاء وسأل النبي عليه الصلاة والسلام فأمره بأكلها، وهذا مثل محمد بن صفوان الذي مر أنه جاء وقد ذبح الأرنبين بمروة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بأكلهما، فدل على أن الذبح بكل شيء محدد يحصل به الذبح صحيح ما لم يكن سناً أو ظفراً، كما جاء ذلك مبيناً في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أورده أبو داود رحمه الله في أول هذا الباب.(332/44)
تراجم رجال إسناد حديث نحر اللقحة بالوتد
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يعقوب].
يعقوب بن عبد الرحمن القاري الإسكندراني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن زيد بن أسلم].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن يسار].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رجل من بني حارثة].
هو صحابي، والمجهول في الصحابة في حكم المعلوم؛ لأن الجهالة فيهم لا تؤثر، وإنما تؤثر فيمن سواهم ومن دونهم من التابعين ومن دون التابعين، وأما الصحابة فإنهم عدول بتعديل الله عز وجل لهم.(332/45)
شرح حديث عدي بن حاتم في جواز الذبح بالحجر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سماك بن حرب عن مري بن قطري عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه قال: (قلت: يا رسول الله! أرأيت إن أحدنا أصاب صيداً وليس معه سكين، أيذبح بالمروة وشقة العصا؟ فقال: أمر الدم بما شئت، واذكر اسم الله عز وجل)].
أورد أبو داود حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه قال: [(إن أحدنا يكون معه الصيد وليس معه سكين، أيذبحه بالمروة وشقة العصا)] المروة هي الحجر التي لها حد، وشقة العصا يعني بها التي يكون لها حد، وقد سبق في الحديثين السابقين: حديث محمد بن صفوان الذبح بالمروة، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم وأجابه بأن يأكلها، وفي الثاني ذكر الوتد وهو من الخشب، وأن رجلاً من بني حارثة نحر اللقحة به واستفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يأكلها، وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله عدي بن حاتم رضي الله عنه أن الواحد يكون في الصيد فلا يكون معه سكين، أينحر بالمروة وشقة العصا؟ فقال: (أمر الدم بما شئت).
قوله: [(أمر الدم)] يعني: أسل الدم، ولكن هذا الإطلاق مقيد بما تقدم من الحديث، وهو أنه لا يكون في ذلك عظم ولا يكون في ذلك ظفر، فيكون هذا الإطلاق مقيداً بما مضى من أن الذبح بالعظم لا يسوغ وكذلك الذبح بالظفر.(332/46)
تراجم رجال إسناد حديث عدي بن حاتم في جواز الذبح بالحجر
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة بن دينار البصري ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سماك بن حرب].
وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن مري بن قطري].
وهو مقبول، أخرج له أصحاب السنن.
[عن عدي بن حاتم].
عدي بن حاتم رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(332/47)
شرح سنن أبي داود [333]
يجوز للمكلف تذكية البهيمة بما قدر عليه من محدد ليس عظماً ولا ظفراً، فإذا لم يقدر على ذبحها من عنقها أو نحرها من لبتها جاز له تذكيتها بإراقة دمها ولو من فخذها، وما لم يتحقق المسلم من التسمية عند ذبحه فهو مباح، وقد حث الشرع على إراحة الذبيحة فنهى عن شريطة الشيطان، وجعل ذكاة الجنين ذكاة أمه، وكان قد أباح العتيرة والفرع في أول الإسلام ثم نسخ ذلك.(333/1)
ذبيحة المتردية(333/2)
شرح حديث ذبيحة المتردية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في ذبيحة المتردية.
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! أما تكون الذكاة إلا من اللبة أو الحلق؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك).
قال أبو داود: هذا لا يصلح إلا في المتردية والمتوحش].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: باب ما جاء في ذبيحة المتردية، أي كيف تذبح المتردية؟ والمتردية هي التي سقطت في بئر ولم يوصل إلى حلقها أو لبتها التي في أصل العنق، ولو تركت لماتت، فإنه يجوز أن يطعن في فخذها وفي الشيء البارز منها، ويكون ذلك تذكية، وهذا مثل الصيد فإنه يرمى بالسهم فيصيبه في أي مكان منه فيسيل دمه فيكون حلالاً بذلك.
وسبق أن مر الحديث الأول في باب الذبح بالمروة، أنه ند بعير ولم يكن هناك خيل فرماه أحدهم بسهم فحبسه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك وقال: (إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما فعل منها هكذا فافعلوا به هكذا) أي: ما شرد وهرب ولم تستطيعوا إمساكه بحيث تذبحونه من حلقه أو لبته، فإنه يرمى بسهم، فإذا سقط فإنه يكون حكمه حكم الصيد، وشأنه شأن الصيد الذي لا يقدر على ذبحه إلا بهذه الطريقة، لكنه إذا وقع وأدرك وفيه حياة تعين ذبحه؛ أما ما رمي وخرجت روحه بهذه الإصابة التي حصلت في فخذه أو في أي مكان منه وسال الدم، فإنه يكون حلالاً بذلك إلحاقاً له بالصيد، وقد ورد النص فيه كما ورد في الصيد، وذلك في الحديث الذي مر، والمتردية كذلك؛ لأنها مثل الذي ند حيث لا يمكن الوصول إليها بحيث تذبح الذبح المشروع، فإنها تضرب في فخذها أو في أي مكان منها وتكون مثل الصيد، وتكون مثل الذي ند.
والإمام أبو داود رحمه الله أورد حديث أبي العشراء أسامة بن مالك وأنه سأل: [(أما تكون الذكاة إلا من اللبة أو الحلق؟)]، أي هل تكون الذكاة مقصورة على الذبح في هذين المكانين، وهو الحلق الذي يفصل الرأس من الرقبة، واللبة التي في أصل الرقبة عند ملتقى الرقبة باليدين، والتي يكون بها النحر للإبل.
فالإبل تنحر في لبتها، والبقر والغنم تذبح في حلقها، ويجوز نحر ما يذبح وذبح ما ينحر، أي يجوز أن البعير يذبح من حلقه، ويجوز أن تنحر البقرة من لبتها التي هي عند ملتقى الرقبة مع اليدين، ولكن الأصل أن النحر يكون للإبل وأن البقر والغنم لها الذبح.
قوله: [(لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك)]، هذا إنما يحمل على ما إذا كان للضرورة كالمتردية والأوابد التي لا يوصل إلى حلقها، ومعناه أنه في الاختيار وفي حال القدرة لا يجوز إلا الذبح من الحلق أو اللبة، ولكن عند الضرورة بأن تتردى بهيمة في بئر ويكون رأسها في الأسفل ومؤخرها هو الأعلى والبئر ضيقة، ولا يستطاع الوصول إلى حلقها لتذبح ذبحاً شرعياً؛ يطعن في فخذها ويكون ذبحها وتذكيتها بذلك، وعلى هذا قال أبو داود: [وهذا لا يصلح إلا في المتردية والمتوحش]، والمتردية ما سقط في بئر أو سقط من جبل ونحوه، والمقصود بها هنا التي لا يمكن الوصول إلى حلقها كما مر.
والمتوحش هو الصيد أو البهيمة التي ندت كما سبق أن مر في الحديث، وعلى هذا فالذي جاء في الحديث من الإطلاق وأن الذبح يكون باللبة وبالحلق ويكون بأن يطعن في أي مكان من الجسد، إنما يكون في حال الضرورة، وأما في حال الاختيار والسعة والقدرة فلابد من الذبح.
والحديث في إسناده رجل مجهول وهو أبو العشراء فهو غير ثابت، ولكن ما ذكره أبو داود من أن ذلك لا يصلح إلا في المتردية وفي المتوحش صحيح.(333/3)
تراجم رجال إسناد حديث ذبيحة المتردية
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن عبد الله بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد بن سلمة عن أبي العشراء].
حماد بن سلمة مر ذكره.
وأبو العشراء هو أسامة بن مالك وهو مجهول، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه صحابي، أخرج له أصحاب السنن.
والإسناد من الرباعيات عند أبي داود، ولكن في إسناده من هو مجهول فلا يصح، وعلى هذا فلا يعول على ما فيه من جواز الذبح بأي مكان غير الحلق واللبة، وإنما يحمل ما فيه على المتوحش والمتردية، وليس ذلك بناءً على هذا الحديث، ولكن على ما جاء في الصيد وفي البعير الذي ند ورمي بسهم، وتكون تذكيته أو حله بإصابته وجرحه، ولكن الحكم مثل الصيد لو أنه رمي بحجر فأصاب الحجر مقتلاً منه وسقط فإنه يكون ميتة إذا لم يدرك؛ كما أن الصيد لو رمي بالمعراض ومات بسبب الثقل وليس بسبب الحد، فإنه لا يحل لأنه يكون وقيذة، أما إذا أصابه الحد وسال منه الدم فهذا هو الذي يحل.(333/4)
المبالغة في الذبح(333/5)
شرح حديث المبالغة في الذبح
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المبالغة في الذبح.
حدثنا هناد بن السري والحسن بن عيسى مولى ابن المبارك عن ابن المبارك عن معمر عن عمرو بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما -زاد ابن عيسى: وأبي هريرة رضي الله عنه- أنهما قالا: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن شريطة الشيطان)، زاد ابن عيسى في حديثه: وهي التي تذبح فيقطع الجلد ولا تفرى الأوداج، ثم تترك حتى تموت].
أورد أبو داود باب المبالغة في الذبح، يعني أن الذبح يكون بقطع الحلقوم والأوداج والمريء بحيث يخرج الدم المنحبس من العروق، هذا هو المقصود بالمبالغة في الذبح، وهو المطلوب، وما ورد في الحديث ليس فيه مبالغة، فهو منهي عنه.
وأورد أبو داود حديث ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما: [(أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن شريطة الشيطان)]، وشريطة الشيطان هي التي يحز جلدها ثم تترك حتى تموت، وأضيفت إلى الشيطان؛ لأن الشيطان هو الذي يأمر بذلك حتى يفسدها على الناس، فلابد من قطع الحلقوم والأوداج والعروق المحيطة بالرقبة التي يسيل منها الدم، وذلك حتى يخرج الدم المنحبس ويسيل فتحل بذلك.
وسمِّيت شريطة من الشرط وهو الشق بالمشرط.
قوله: [ولا تفرى الأوداج] هي العروق التي تحيط بالرقبة، ولو ذبح حتى فصل الرقبة فهو خلاف الأولى، لأن الأحسن أن يقطع الحلقوم والأوداج ثم يتركها حتى تبرد، ثم يفصل الرقبة إن شاء.
والحديث ضعفه الألباني بسبب رجل في إسناده هو عمرو بن عبد الله الصنعاني، وهو صدوق في حديثه لين.(333/6)
تراجم رجال إسناد حديث المبالغة في الذبح
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هناد بن السري أبو السري ثقة، أخرج حديثه البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[والحسن بن عيسى مولى ابن المبارك].
الحسن بن عيسى مولى ابن المبارك ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن ابن المبارك].
عبد الله بن المبارك المروزي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو الذي قال عنه الحافظ في التقريب: ثقة إمام فقيه جواد مجاهد جمعت فيه خصال الخير.
[عن معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن عبد الله].
عمرو بن عبد الله الصنعاني، وهو صدوق في حديثه لين، أخرج حديثه أبو داود.
[عن عكرمة].
عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[زاد ابن عيسى: وأبي هريرة].
ابن عيسى هو شيخ أبي داود الثاني وقد زاد أبا هريرة، أي أن الحسن بن عيسى رواه عن صحابيين: ابن عباس وأبي هريرة، وأما الشيخ الأول لـ أبي داود وهو هناد بن السري فرواه عن صحابي واحد وهو ابن عباس.
وأبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(333/7)
ماجاء في ذكاة الجنين(333/8)
شرح حديث أبي سعيد في ذكاة الجنين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في ذكاة الجنين.
حدثنا القعنبي حدثنا ابن المبارك ح وحدثنا مسدد حدثنا هشيم عن مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الجنين فقال: (كلوه إن شئتم، وقال مسدد: قلنا: يا رسول الله! ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ قال: كلوه إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه)].
أورد أبو داود باب ذكاة الجنين، وهو الذي يكون في البطن، وقيل له: الجنين؛ لأنه استتر في البطن.
والجنين ذكاته ذكاة أمه، أي: إذا ذكيت الشاة وبعدما تركوها حتى بردت سلخوها فوجدوا في بطنها جنيناً، فلا يحتاج إلى أن يذبح ولا يتعين ذبحه، نعم إن وجدوه وفيه حياة ذبحوه، وأما إن وجدوه ميتاً فإنه حلال؛ لأن ذكاة الجنين ذكاة أمه، وذلك أن البهيمة إذا ذكيت فإن التذكية تسري على جميع أجزائها، وهو من أجزائها؛ لكن إن أدرك وفيه حياة مستقرة تعين ذبحه ولا يترك حتى يموت.
قوله: [عن أبي سعيد قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنين؟ فقال: كلوه إن شئتم) معناه أن أكله سائغ وأنه لا بأس به، وهذه الرواية لم تتعرض لقضية الذكاة.
قوله: [وقال مسدد: (قلنا: يا رسول الله! ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين)].
الرواية السابقة عن القعنبي ليس فيها ذكر الذبح، وأما رواية مسدد عن أبي سعيد فإنها ذكرت ذلك.
وقد عبر بالذبح والنحر فقال: (ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة)، لأن النحر يكون للإبل والذبح يكون للغنم والبقر، وكما قلت: يجوز نحر ما يذبح وذبح ما ينحر، لكن الإبل الأصل فيها النحر ويجوز ذبحها، والغنم والبقر الأصل فيها الذبح ويجوز نحرها.
قوله: [(فنجد في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟)] أي: فنجد في بطنها الجنين وقد مات.
قوله: [(كلوه إن شئتم؛ فإن ذكاة الجنين ذكاة أمه)] أي أن ذكاة أمه كافية عن ذكاته، فلا يقال: إنه مات ولم يذك وإنه يكون ميتة؛ لأن ذكاة الأم ذكاة لجميع أجزائها، وتحل جميع أجزائها بتذكيتها، والجنين من أجزائها، فهو كفخذها أو رجلها أو أي جزء من أجزائها، ولذلك فذكاته ذكاة أمه.
وقد ذهب جمهور العلماء إلى مقتضى هذا الحديث، وقال بعض أهل العلم: إن المقصود بقوله: [(إن ذكاة الجنين ذكاة أمه)] أنه يذكى كذكاة أمه، أي: يجب أن يذبح كما تذبح أمه.
وهذا غير صحيح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (كلوه إن شئتم؛ فإن ذكاته ذكاة أمه)، فعلل إباحته وحله بأن ذبح ذكاة أمه تعتبر ذكاة له، وليس معنى الحديث أنه يذكى كما تذكى أمه؛ لأنهم ما سألوه: كيف يذكى الجنين؟ وإنما سألوه هل يؤكل الجنين أو لا يؤكل؟ فقالوا: [(نذبح الشاة فنجد في بطنها الجنين هل نأكله أو نلقيه؟ قال: كلوه إن شئتم؛ فإن ذكاة الجنين ذكاة أمه)]، وهذا تعليل للإذن.(333/9)
تراجم رجال إسناد حديث أبي سعيد في ذكاة الجنين
قوله: [حدثنا القعنبي].
القعنبي هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا ابن المبارك ح وحدثنا مسدد].
ابن المبارك مر ذكره، والحاء للتحول من إسناد إلى إسناد، ومسدد بن مسرهد مر ذكره.
[حدثنا هشيم].
هشيم بن بشير الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجالد].
مجالد بن سعيد، وهو ليس بالقوي، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي الوداك].
هو جبر بن نوف الهمداني صدوق يهم، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي سعيد].
وهو سعد بن مالك بن سنان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور بكنيته وبنسبته وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والإسناد فيه مجالد ولكن له شواهد.(333/10)
شرح حديث جابر في ذكاة الجنين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثني إسحاق بن إبراهيم بن راهويه حدثنا عتاب بن بشير حدثنا عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ذكاة الجنين ذكاة أمه)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(ذكاة الجنين ذكاة أمه)] أي: أنه لا يحتاج إلى أن يذكى إذا وجد ميتاً، ولكن إن وجد حياً أو به حياة فإنه يذكى، وذلك مثل الصيد إذا أصيب بسهم، فإن مات بالإصابة فهو حلال، وإن أدرك وفيه حياة تعين ذبحه وإلا حرم، فهذا من جنسه: إن وجدت فيه حياة ذبح، وإن وجد ميتاً فذكاته ذكاة أمه ويحل أكله ولا يحتاج إلى أن يذبح.(333/11)
تراجم رجال إسناد حديث جابر في ذكاة الجنين
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
محمد بن يحيى بن فارس الذهلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثني إسحاق بن إبراهيم بن راهويه].
وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا عتاب بن بشير].
وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي].
وهو ليس بالقوي، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبي الزبير].
محمد بن مسلم بن تدرس المكي، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله] جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(333/12)
الأسئلة(333/13)
حكم ذبح البهيمة الحامل
السؤال
إذا كنا نعلم أن البهيمة حامل، فهل يجوز لنا أن نذبحها؟
الجواب
يجوز ذبحها، ولكن ذبح الحائل أولى من ذبحها حتى يحصل النسل ويحصل الدر.(333/14)
حكم أكل الجنين
السؤال
قول النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين: (كلوه إن شئتم)، هل يدل على كراهة أكله؟
الجواب
الحديث لا يدل على الكراهة، ولكنه مثل قوله في الوضوء من أكل لحم الغنم: (توضئوا إن شئتم)، وقال في الإبل: (توضئوا).
وإذا كان بعض الناس إذا ذبحوا البهيمة ووجدوا فيها الجنين لا تطيب أنفسهم بأكله، يقال لهم: (ما كرهته فدعه، ولا تحرمه على غيرك)، وهذه قاعدة.
ومن ذلك أن بعض الناس لا يأكل الضب، لكنه ليس بحرام، فيقال: (ما كرهته فدعه، ولا تحرمه على غيرك).(333/15)
حكم ترك التسمية على الذبيحة
السؤال
هل يجوز ترك التسمية على الذبيحة سهواً أو عمداً؟
الجواب
ترك التسمية على الذبيحة رخص فيه بعض أهل العلم سواء كان الترك عمداً أو سهواً، ومن العلماء من رخص فيها إذا تركت سهواً دون العمد، ومن العلماء من منع ذلك سهواً أو عمداً.
والذي يظهر أن السهو ليس فيه إشكال، وإذا تركت عمداً فإن كثيراً من العلماء قالوا بأنها تحل، ولكن جاءت نصوص تحث على ذكر اسم الله، فالذي تدل عليه النصوص أن الذي يتسامح فيه هو السهو والنسيان، سواءً في الذبيحة أو الصيد.(333/16)
ما جاء في أكل اللحم لا يدرى أذكر اسم الله عليه أم لا(333/17)
شرح حديث أكل اللحم لا يدرى ذكر اسم الله عليه أم لا
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما جاء في أكل اللحم لا يدرى أذكر اسم الله عليه أم لا.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد، ح وحدثنا القعنبي عن مالك، ح وحدثنا يوسف بن موسى حدثنا سليمان بن حيان ومحاضر المعنى عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، ولم يذكرا عن حماد ومالك عن عائشة، أنهم قالوا: (يا رسول الله! إن قوماً حديثو عهد بالجاهلية، يأتون بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لم يذكروا؛ أفنأكل منها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سموا الله وكلوا)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: باب ما جاء في أكل اللحم لا يدرى أذكر اسم الله عليه أم لا.
أي: لا يدرى أذكر اسم الله عليه عند الذبح أم لا، والمقصود من هذه الترجمة أنه لا يسأل ولا يتشدد في معرفة هل سمي الله على الذبيحة عند الذبح أو لا، بل يجوز الأكل منها إذا جهل هل التسمية حصلت أو ما حصلت؟ فالأصل أن تؤكل الذبيحة ولا يترك أكلها نتيجة لكون المرء لم يتحقق أنه ذكر اسم الله عليها.
قوله: [(إن أناساً يأتوننا بلحوم وهم حديثو عهد بالجاهلية)] يعني أنهم قد أسلموا، ولكن إسلامهم حديث وعهدهم بالجاهلية قريب.
قوله: [(يأتوننا بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لا)] أي: فقد كانوا في الجاهلية لا يذكرون، فربما أنهم لا زالوا كحالتهم في الجاهلية.
قوله: [(سموا الله وكلوا)]، يدل على أنه لا يلزم السؤال أو أن الإنسان لا يسأل هل ذكر اسم الله أو لم يذكر؟ ولو فتح هذا الباب فيمكن أن يسأل: هل الذابح ممن يحل ذبحه أو لا؟ وهل ذبح بآلة يصح الذبح بها أو لا؟ فتأتي أسئلة لا حاجة إليها، والأصل هو السلامة، ولا يصار إلى التشدد والإتيان بأسئلة لا حاجة إليها، ولهذا أجاب النبي صلى الله عليه وسلم بالجواب الفصل في ذلك، وهو أنهم يأكلون هم ويسمون عند أكلهم، وليست التسمية عند الأكل بدلاً من التي لم يتحقق حصولها عند الذبح؛ لأن الحكم بين بأنه سائغ أن يؤكل، ثم حث على التسمية، كما هو الشأن في أن الآكل تستحب له التسمية.(333/18)
تراجم رجال إسناد حديث أكل اللحم لا يدرى ذكر اسم الله عليه أم لا
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد، ح وحدثنا القعنبي عن مالك].
موسى بن إسماعيل وحماد والقعنبي مر ذكرهم ومالك هو ابن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا يوسف بن موسى].
وهو صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[حدثنا سليمان بن حيان].
وهو أبو خالد الأحمر وهو بالباء وبالياء، وهو صدوق يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومحاضر].
محاضر بن المورع، وهو صدوق له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي.
[المعنى عن هشام بن عروة].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه عن عائشة].
أبوه عروة بن الزبير بن العوام، ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[ولم يذكرا عن حماد ومالك عن عائشة].
يعني أن موسى بن إسماعيل الذي روى عن حماد، والقعنبي الذي روى عن مالك لم يذكرا في الإسناد أنه عن عائشة، وإنما ذكراه عن عروة مرسلاً فقالا: عن عروة أن أناساً إلخ وأما يوسف بن موسى فهو الذي جاء من طريقه ذكر عائشة رضي الله عنها، وأنه مسند متصل مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرسل.(333/19)
العتيرة(333/20)
شرح حديث نبيشة في العتيرة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في العتيرة.
حدثنا مسدد، ح وحدثنا نصر بن علي عن بشر بن المفضل المعنى، حدثنا خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المليح، قال: قال نبيشة رضي الله عنه: (نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب، فما تأمرنا؟ قال: اذبحوا لله في أي شهر كان، وبروا الله عز وجل، وأطعموا، قال: إنا كنا نفرع فرعاً في الجاهلية، فما تأمرنا؟ قال: في كل سائمة فرع تغذوه ماشيتك حتى إذا استحمل -قال نصر -: استحمل للحجيج ذبحته فتصدقت بلحمه -قال خالد -: أحسبه قال: على ابن السبيل؛ فإن ذلك خير)، قال خالد: قلت لـ أبي قلابة: كم السائمة؟ قال: مائة].
أورد أبو داود باباً في العتيرة، والعتيرة هي الذبيحة التي تذبح في أوائل رجب، وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية ويسمونها الرجبية، وكان ذلك في أول الإسلام سائغاً، ثم جاء ما يدل على منعه، حيث جاء أنه: (لا فرع ولا عتيرة)، وأنه يتقرب إلى الله عز وجل بالذبح في جميع أيام السنة، ولا يخص وقت معين وهو أوائل شهر رجب كما كان في الجاهلية، حيث كانوا يذبحونها لآلهتهم في العشر الأول من رجب، فجاء الإسلام بأنها تذبح ويتقرب إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة وبالذبائح، ويتصدق على الفقراء والمساكين ويحسن إليهم باللحم في أي وقت؛ لكن لا يكون ذلك خاصاً برجب.
أورد أبو داود حديث نبيشة بن عبد الله رضي الله عنه وفيه: [(نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب، فما تأمرنا؟)].
قوله: [(فما تأمرنا؟)] أي: هل نبقى على ذلك ونعمل به أو نترك؟ هذا هو مقتضى السؤال، فقال: [(في أي شهر كان)]، يعني ليس ذلك خاصاً برجب، وهذا الذي كان في الجاهلية في رجب لا يصار إليه ولا يتقيد به، وإنما يتقرب إلى الله عز وجل بالذبح في أي وقت.
قوله: [(وبروا الله عز وجل)] أي: اعملوا البر لله عز وجل.
قوله: [(وأطعموا)] يعني: تصدقوا وأحسنوا.
قوله: [(قال: إنا كنا نفرع فرعاً في الجاهلية فما تأمرنا؟)].
الفرع هو ذبح أول نتاج الشاة أو البقرة أو الناقة، رجاء البركة في نسلها، وكانوا يفعلونه في الجاهلية تقرباً لآلهتهم، فجاء الإسلام بجواز ذلك ثم منع بحديث: (لا فرع ولا عتيرة).
قوله: [(في كل سائمة فرع تغذوه ماشيتك حتى إذا استحمل -قال نصر - استحمل للحجيج ذبحته فتصدقت بلحمه)].
قوله: [(في كل سائمة فرع)] أي: ولد، [(تغذوه ماشيتك)] يحتمل أن المعنى أن الماشية تغذيه بالحليب، أو أنك تغذوه كما تغذو ماشيتك، أي تعلفه كما تعلف ماشيتك، وهذا هو الأقرب لما سيأتي من قوله: [(حتى إذا استحمل للحجيج)]، أي: صار أهلاً لأن يحمل عليه، ومعلوم أن هذا لا يكون إلا بالعلف كما فعل في الماشية، وليس ذلك بكون أمه ترضعه؛ لأنه لا يزال صغيراً لا يستطيع الحمل ولا يصلح للركوب.
قوله: [(حتى إذا استحمل)] قال بعض الرواة: [(للحجيج)] الحجيج جمع حاج، أي: أنه يحج عليه ويركب عليه، ويستعمل في الحج وغير الحج.
قال: [(حتى إذا استحمل) قال نصر: (استحمل للحجيج ذبحته فتصدقت به)].
قوله: [قال نصر] هو أحد شيخي أبي داود، وهو نصر بن علي الجهضمي، وهو الذي زاد لفظ: [(للحجيج)] أي: صلح لأن يحمل عليه الحاج أو يحمل عليه في الحج، وأما الشيخ الآخر وهو مسدد فإنما قال: [(حتى إذا استحمل)]، ولم يذكر الحجيج.
قوله: [(ذبحته فتصدقت بلحمه)]، أي حتى إذا بلغ هذا المبلغ وصار أهلاً لأن يحمل عليه ذبحته فتصدقت بلحمه.
قوله: [(قال خالد: أحسبه قال: على ابن السبيل؛ فإن ذلك خير)].
خالد هو الحذاء وقوله: [(أحسبه قال: على ابن السبيل)] يعني: أنه ذكر ذلك بدل ذكر الصدقة المطلقة، فقيد: ذلك التصدق بكونه على ابن السبيل.
قوله: [قال خالد: قلت لـ أبي قلابة: كم السائمة؟ قال: مائة] أي أنه تقدم قوله: [(في كل سائمة فرع)]، ومقدار هذه السائمة مائة.
والمذكور هنا في الحديث لا علاقة له بالزكاة، فإن للزكاة مقادير محددة تخرج بشروط محددة، وإنما هذه صدقة أخرى.(333/21)
تراجم رجال إسناد حديث نبيشة في العتيرة
قوله: [حدثنا مسدد، ح وحدثنا نصر بن علي].
نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي فاسمه واسم أبيه مطابق لاسم جده وأبي جده، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بشر بن المفضل].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا خالد الحذاء].
خالد بن مهران الحذاء، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قلابة] عبد الله بن زيد الجرمي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي المليح].
وهو أسامة بن عمير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال نبيشة].
نبيشة بن عبد الله صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه مسلم وأصحاب السنن.(333/22)
شرح حديث أبي هريرة في نسخ الفرع والعتيرة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن عبدة قال: أخبرنا سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا فرع ولا عتيرة)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(لا فرع ولا عتيرة)] أي: لا فرع ولا عتيرة في الإسلام، أي أن ذلك كان سائغاً في أول الأمر فنسخ بقوله: [(لا فرع ولا عتيرة)]، وأن هذا الذي كان معمولاً به في الجاهلية لا يعمل في الإسلام.(333/23)
تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة في نسخ الفرع والعتيرة
قوله: [حدثنا أحمد بن عبدة].
أحمد بن عبدة الضبي، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا سفيان].
سفيان هو ابن عيينة، وإذا جاء سفيان مهملاً غير منسوب يروي عن الزهري فالمراد به ابن عيينة.
[عن الزهري].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد].
سعيد بن المسيب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
قد مر ذكره.(333/24)
شرح أثر ابن المسيب في معنى الفرع
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سعيد قال: الفرع أول النتاج كان ينتج لهم فيذبحونه].
أورد أبو داود هذا الأثر الذي ينتهي إلى سعيد، وفيه تفسير الفرع بأنه أول النتاج كان ينتج لهم فيذبحونه.
وهذا الأثر يسمونه بالمقطوع، لأن المتن الذي ينتهي إلى التابعي أو من دون التابعي يقال له: مقطوع، وهو غير المنقطع؛ لأن المنقطع من صفات الإسناد والمقطوع من صفات المتن.(333/25)
تراجم رجال إسناد أثر ابن المسيب في معنى الفرع
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق هو ابن همام الصنعاني اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر عن الزهري].
معمر مر ذكره، والزهري مر ذكره.
[عن سعيد].
مر ذكره.(333/26)
شرح حديث عائشة في الفرع
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن يوسف بن ماهك عن حفصة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كل خمسين شاة شاة)].
أورد أبو داود حديث عائشة قالت: [(أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من كل خمسين شاة شاة)] وهذا في الفرع، وقد كان هذا في أول الأمر كما مر، وبعد ذلك نسخ بقوله: (لا فرع ولا عتيرة).(333/27)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة في الفرع
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن عبد الله بن عثمان بن خثيم].
مر موسى وحماد، وأما عبد الله بن عثمان بن خثيم فهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يوسف بن ماهك].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حفصة بنت عبد الرحمن].
حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، وهي ثقة، أخرج لها مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن عائشة].
عائشة مر ذكرها.(333/28)
ذكر أبي داود لتفسير الفرع والعتيرة
[قال أبو داود: قال بعضهم: الفرع أول ما تنتج الإبل، كانوا يذبحونه لطواغيتهم ثم يأكلونه، ويلقى جلده على الشجر، والعتيرة: في العشر الأول من رجب].
ذكر أبو داود رحمه الله هذا التفسير للفرع وهو أنه أول نتاج السائمة، وأنهم يذبحونه ويعلقون الجلد على الشجر، وأن العتيرة تكون في العشر الأول من رجب، وهذا كان في الجاهلية، وفي أول الإسلام ثم نسخ.(333/29)
شرح سنن أبي داود [334]
المولود هبة من الله ونعمة تستحق الشكر، ومن شكر هذه النعمة أن يذبح عنه عقيقة يتصدق من لحمها ويعطي جيرانه، وقد بينت سنة النبي صلى الله عليه وسلم أحكام العقيقة وما يتعلق بها سناً وصفة وزمناً وآداباً.(334/1)
ما جاء في العقيقة(334/2)
شرح حديث أم كرز في العقيقة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في العقيقة.
حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء عن حبيبة بنت ميسرة عن أم كرز الكعبية رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة).
قال أبو داود: سمعت أحمد قال: مكافئتان: أي مستويتان أو مقاربتان].
لما ذكر الإمام أبو داود رحمه الله كتاب الأضاحي ألحق به العقيقة، وجعلها ضمن ذلك الكتاب ملحقة به وإن كانت ليست داخلة في الكتاب، ولكن لها تعلق بالكتاب من جهة أن الأضحية قربة تكون في أيام معينة؛ فكذلك العقيقة هي مشروعة وتكون بمناسبة معينة وبحالة معينة.
وألحق هذا الباب بكتاب الأضاحي ولم يخصص للعقيقة كتاباً اكتفاء بإلحاقها بما يشبهها ويماثلها في الجملة.
واشتقاق العقيقة قيل: إنها من العق وهو القطع، وذلك أن العقيقة تذبح وتقطع رقبتها أو تقطع أمكنة الذبح منها من أجل شكر الله عز وجل على النعمة بالمولود أو المولودة.
والعقيقة هي النسيكة التي تذبح عن المولود عندما يولد، وهي شكر لله عز وجل على النعمة بهذا المولود.
ولما كان هناك تفاوت بين الذكور والإناث جعلت العقيقة والشكر لله عز وجل على الذكر ضعف العقيقة التي تكون للأنثى، فصار للغلام شاتان وللجارية شاة واحدة، وهذه المسألة هي إحدى المسائل الخمس التي تكون النساء على النصف من الرجال فيها، وهي: 1 - مسألة العقيقة.
2 - مسألة الدية.
3 - مسألة الميراث.
4 - مسألة الشهادة.
5 - مسألة العتق من النار بعتق المملوك.
أما الميراث فقال تعالى في حق الأولاد: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، وقال في حق الإخوة الأشقاء أو لأب: {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:176].
وأما بالنسبة للعقيقة فسنتكلم عنها في هذا الباب.
ودية المرأة على النصف من الرجل كما هو معلوم.
وشهادة الرجل تعدل شهادة امرأتين كما جاء في آية الدين في آخر سورة البقرة.
وعتق الذكر يكون فيه فكاك معتقه من النار، وإذا أعتق جاريتين كانتا فكاكه من النار، كما جاء بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعض أهل العلم يقول: إنها واجبة، وبعضهم يقول: إنها من السنن المستحبة، والإنسان الذي يقدر على ذلك لا ينبغي له أن يتأخر أو يتهاون في ذلك، والذي لا يستطيع فـ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
ومن جاءه غلام ذكر وكان يقدر على ذبح شاة ولا يقدر على ذبح شاتين، فله أن ينتظر إلى أن يقدر على الاثنتين، ولا ينبغي أن يستدين إلا إذا كان له وفاء.
وعلى هذا فإن العقيقة جاءت بتمييز الذكور على الإناث، وذلك أن الذكور يتميزون على الإناث، فصار شكر الله عز وجل على النعمة في حقهم أكثر وأعظم.
وقد جاء ذلك في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك حديث أم كرز الكعبية رضي الله عنها الذي أورده المصنف، وفيه: [(عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة)].
قوله: [(مكافئتان)] جاء تفسيرها في بعض الأحاديث، أي: متماثلتان متقاربتان، وجاء توضيح ذلك في بعض الروايات بأنهما مثلان، أي: كل واحدة مثل الأخرى، فهما متماثلتان متشابهتان متقاربتان.(334/3)
تراجم رجال إسناد حديث أم كرز في العقيقة
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا سفيان].
سفيان بن عيينة المكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن دينار].
عمرو بن دينار المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء].
عطاء بن أبي رباح المكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حبيبة بنت ميسرة].
حبيبة بنت ميسرة، وهي مقبولة، أخرج لها أبو داود والنسائي.
[عن أم كرز الكعبية].
أم كرز الكعبية رضي الله عنها، وهي صحابية، أخرج حديثها أصحاب السنن.
[قال أبو داود: سمعت أحمد].
أحمد هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الفقيه المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(334/4)
شرح حديث أم كرز في العقيقة من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه عن سباع بن ثابت عن أم كرز رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أقروا الطير على مكناتها) قالت: وسمعته يقول: (عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة، لا يضركم أذكراناً كنَّ أم إناثاً)].
أورد أبو داود حديث أم كرز من طريق أخرى، وفيه ما في الذي قبله أن الغلام يكون عنه شاتان والجارية شاة واحدة، وفيه أنه يجوز أن تكون ذكراناً وإناثاً، وفي هذا بيان أن الشاة لفظ يطلق على الذكور والإناث وليس خاصاً بالإناث؛ لأنه قال [(لا يضركم أذكراناً كن أم إناثاً)] وذلك في تفسير الشاة وبيان المراد بها.
قوله: [(أقروا الطير على مكناتها)] فيه إشارة إلى ما كانوا يفعلونه في الجاهلية، من أن الواحد منهم إذا أراد سفراً فإنه يزجر الطير حتى يطير، فإذا طار نظر هل يذهب إلى جهة اليمين فيقدم على السفر، أو إلى جهة الشمال فيحجم عن السفر، فأرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن الطير لا تزجر لذلك، لأن ذلك من أعمال الجاهلية التي أبطلها الإسلام، فالطير تقر على مكناتها، أي: الأماكن التي هي مستقرة فيها ولا تزعج ولا تزجر، لأن انتقال الطير لا يجوز أن يعلق عليه شيء، وعلى الإنسان أن يقدم على السفر أو يحجم عنه بناء على ما يرى من المصلحة ولا يكون ذلك مبنياً على مثل هذه الأعمال الجاهلية التي أبطلها الإسلام.(334/5)
تراجم رجال إسناد حديث أم كرز في العقيقة من طريق ثانية
قوله: [حدثنا مسدد عن سفيان عن عبيد الله بن أبي يزيد].
عبيد الله بن أبي يزيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه قيل: إنه صحابي، وقيل: هو من ثقات التابعين، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن سباع بن ثابت].
قيل: صحابي، وقيل: تابعي ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أم كرز].
ن.
وقد مر ذكرها.(334/6)
شرح حديث أم كرز في العقيقة من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن عبيد الله بن أبي يزيد عن سباع بن ثابت عن أم كرز رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عن الغلام شاتان مثلان وعن الجارية شاة).
قال أبو داود: هذا هو الحديث وحديث سفيان وهم].
أورد أبو داود حديث أم كرز رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(عن الغلام شاتان مثلان)] وهذا فيه بيان التكافؤ فيما مضى وأن المقصود بذلك أنهما متماثلتان.
قول أبي داود: [هذا هو الحديث] يعني أن هذه الرواية التي فيها عبيد الله بن أبي يزيد يروي عن أم كرز بدون واسطة هي الصحيحة، وأن الرواية الثانية التي مرت من رواية سفيان المتقدمة وفيها عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه وهم.(334/7)
تراجم رجال إسناد حديث أم كرز من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن أبي يزيد عن سباع بن ثابت عن أم كرز].
وقد مر ذكرهم، وإذا كان قد ثبت أن أباه روى عن سباع، فإنه يمكن أن يكون الحديث قد جاء من طريقين: من طريق عالية ومن طريق نازلة، ومعلوم أن المحدث قد يحصل الحديث أحياناً بطريق نازلة ثم يظفر به من طريق عالية، فيرويه على الوجهين، فلا يكون هناك تفاوت بينهما ولا اختلاف، ولكن أبا داود رجح أن ذكر أبيه وهم وأنه ليس في الإسناد، والمزي لما ذكره في تهذيب الكمال قال: عن عبيد الله بن أبي يزيد عن سباع، وقيل: عن أبيه عن سباع.(334/8)
شرح حديث سمرة في العقيقة والإدماء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا همام حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كل غلام رهينة بعقيقته؛ تذبح عنه يوم السابع، ويحلق رأسه ويدمى) فكان قتادة إذا سئل عن الدم كيف يصنع به قال: إذا ذبحت العقيقة أخذت منها صوفة واستقبلت به أوداجها، ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخيط، ثم يغسل رأسه بعد ويحلق.
قال أبو داود: وهذا وهم من همام: (ويدمى).
قال أبو داود: خولف همام في هذا الكلام، وهو وهم من همام، وإنما قالوا: (يسمى) فقال همام: (يدمى).
قال أبو داود: وليس يؤخذ بهذا].
أورد أبو داود حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه، وفيه: [(كل غلام رهينة بعقيقته)] يعني أنه مرهون ومرتهن بعقيقته، وفسر كونه مرتهناً أن شفاعته لوالده مرتبطة بكونه يذبح هذه العقيقة عنه.
قوله: [(تذبح عنه يوم السابع)] فيه بيان أن الأفضل في ذبحها أن يكون في اليوم السابع من ولادته، ويسمى في ذلك اليوم الذي هو اليوم السابع، وجاء في رواية همام: (ويدمى) وقالوا: إن هذا وهم، والصواب هو ما رواه غير همام عن قتادة أنه: (يسمى) بدل (يدمى)، قالوا: والطفل مطلوب إماطة الأذى عنه، والتدمية لا تزيده إلا أذى، وكانوا في الجاهلية يعملون هذه التدمية، فجاء الإسلام ومنع من ذلك، ولكنه جاء بشيء، وهو أنه يوضع الزعفران على رأسه كما سيأتي عند أبي داود، وهو المناسب.
ثم ذكر أبو داود أن قتادة سئل عن التدمية فقال: تؤخذ صوفة -أي قطعة من الصوف- وتوضع على الدم السائل من الأوداج ثم توضع على يافوخه، وهو مقدم الرأس الذي يكون فيه لين ورقة، ثم يتصلب على مر الأيام حتى يكون مثل بقية الرأس.
قال: توضع عليه حتى يسيل مثل الخيط، وهذا كان في الجاهلية، وإلا فإن الرواة الذين رووه عن قتادة غير همام بن يحيى ذكروا لفظة: (يسمى) وهذا هو المناسب.
والتسمية في اليوم السابع جاء بها الحديث، وجاءت التسمية قبل ذلك كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ولد الليلة لي غلام وسميته باسم أبي إبراهيم)، فهذا يدلنا على أن الأمر في ذلك واسع، وأنه يمكن أن يسمى في اليوم السابع ويمكن أن يسمى قبله، ولا تتعين التسمية في اليوم السابع، ولعل التنصيص على اليوم السابع لأنه الذي تستقر فيه التسمية إذا كان عند الإنسان تردد، فتكون عنده فرصة يختار فيها اسماً مناسباً فيثبت في ذلك الوقت.(334/9)
تراجم رجال إسناد حديث سمرة في العقيقة والإدماء
قوله: [حدثنا حفص بن عمر النمري].
حفص بن عمر النمري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا همام].
همام بن يحيى العوذي، وهو ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سمرة].
سمرة بن جندب رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث هو الذي حصل فيه سماع الحسن من سمرة؛ وسماع الحسن من سمرة فيه ثلاثة أقوال: قيل: إنه سمع منه مطلقاً.
وقيل: لم يسمع منه مطلقاً.
وقيل: سمع منه حديث العقيقة دون غيره، وهذا هو الذي ذكره البخاري.
فسماع الحسن من سمرة لحديث العقيقة صحيح وفي غيره خلاف.(334/10)
الأسئلة(334/11)
حكم العقيقة عن السقط
السؤال
هل يعق عن الغلام إذا مات قبل اليوم السابع، وكذلك السقط؟
الجواب
الذي يبدو أنه يعق عنه وإن مات قبل اليوم السابع، ولو سقط سقطاً تبين فيه خلق الآدمي فينبغي أن يعق عنه.(334/12)
حكم تقدير الأسابيع للعقيقة إذا لم يقدر عليها في اليوم السابع
السؤال
إذا لم يستطع العق يوم السابع، فهل يقدر بالأسابيع إذا قدر بعد ذلك؟
الجواب
هذا التقدير ما ثبت فيه شيء، فهو غير ثابت، أعني أن كونه يقدر بيوم أربعة عشر وإن لم يجد صار إلى واحد وعشرين ورد فيه حديث ضعيف.(334/13)
حكم العقيقة عن النفس بعد البلوغ
السؤال
من علم أن أباه لم يعق عنه، فهل يعق عن نفسه وقد كبر؟
الجواب
الذي يبدو أنه يعق، فلا مانع من ذلك.(334/14)
متى يكون اليوم السابع؟
السؤال
متى يكون يوم السابع؟
الجواب
اليوم الذي حصلت فيه الولادة هو اليوم الأول، فإذا ولد يوم الجمعة الفجر فالسابع هو يوم الخميس.(334/15)
تابع ما جاء في العقيقة(334/16)
شرح حديث سمرة في العقيقة والتسمية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن المثنى حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كل غلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعة ويحلق ويسمى).
قال أبو داود: (ويسمى) أصح، كذا قال سلام بن أبي مطيع عن قتادة وإياس بن دغفل وأشعث عن الحسن قال: (ويسمى)، ورواه أشعث عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ويسمى)].
أورد أبو داود طريقاً أخرى وفيها بدل: (يدمى)، (ويسمى) وهي الصحيحة، وكلمة (يدمى) وهم من همام؛ لأنه أورد الطريقة التالية وبين الذين رووه بلفظ: (ويسمى)،وأن هذه الرواية مقدمة على الرواية التي فيها يدمي.(334/17)
تراجم رجال إسناد حديث سمرة في العقيقة والتسمية
قوله: [حدثنا ابن المثنى].
هو محمد بن المثنى الزمن أبو موسى، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن أبي عدي].
محمد بن أبي إبراهيم بن أبي عدي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد].
سعيد بن أبي عروبة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب].
وقد مر ذكرهم.
[قال أبو داود: (ويسمى) أصح، كذا قال سلام بن أبي مطيع عن قتادة].
سلام بن أبي مطيع ثقة، وفي روايته عن قتادة ضعف أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا أبا داود، فأخرج له في المسائل.
[وإياس بن دغفل وأشعث عن الحسن].
إياس بن دغفل ثقة، أخرج له أبو داود.
وأشعث هذا اسم عدد من الرواة يروون عن الحسن فلا ندري أهو أشعث بن سوار أم أشعث بن عبد الملك الحمراني أم غيرهما؟(334/18)
شرح حديث سلمان بن عامر الضبي في العقيقة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق حدثنا هشام بن حسان عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى)].
أورد أبو داود حديث سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه، وفيه: [(مع الغلام عقيقة)] أي تذبح عنه عقيقة كما مر حديث: (عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة) وكذلك في حديث سمرة: (كل غلام رهينة بعقيقته) وهنا قال: (مع الغلام عقيقة) يعني أنه يشرع في حقه أو يجب في حقه عقيقة.
قوله: [(فأهريقوا عنه دماً)] هو العقيقة، وجاء بيان ذلك أن الغلام له شاتان والجارية شاة واحدة.
قوله: [(وأميطوا عنه الأذى)] أي بحلق رأسه وإزالة كل شيء مما يعلق بجسده من آثار الولادة.(334/19)
تراجم رجال إسناد حديث سلمان بن عامر الضبي في العقيقة
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام بن حسان].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حفصة بنت سيرين].
وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن الرباب].
الرباب بنت صليع الضبية وهي مقبولة، أخرج لها البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن سلمان بن عامر الضبي].
سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.(334/20)
شرح أثر الحسن في معنى إماطة الأذى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن خلف حدثنا عبد الأعلى حدثنا هشام عن الحسن أنه كان يقول: إماطة الأذى حلق الرأس].
أورد المصنف هذا الأثر عن الحسن، وأنه كان يقول: [إماطة الأذى حلق الرأس] أي فمعنى: (وأميطوا عنه الأذى) احلقوا رأسه، وهذا تفسير من الحسن لإماطة الأذى، وهو مقطوع لأنه متن انتهى إلى تابعي، وهو الحسن بن أبي الحسن البصري.(334/21)
تراجم رجال إسناد أثر الحسن في معنى إماطة الأذى
قوله: [حدثنا يحيى بن خلف].
يحيى بن خلف صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا عبد الأعلى].
عبد الأعلى بن عبد الأعلى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام عن الحسن].
هشام بن حسان مر ذكره، والحسن مر ذكره.(334/22)
شرح حديث ابن عباس في عق النبي عن الحسن والحسين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس [(أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً)] وظاهره أن كل واحد عق عنه بكبش، لكن الذي ثبت أنه عق بكبشين عن كل واحد، وهذا مطابق لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من أن عن الغلام شاتان مثلان والجارية شاة.
وقد جاء عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم عق بشاتين عن كل واحد منهما، وجاء هنا أنه ذبح عن كل واحد كبشاً، فتكون رواية الكبشين هي الراجحة وهي المقدمة، وتكون هذه الرواية صحيحة ولكنها شاذة، والصحيح كبشان عن كل واحد، وهو المطابق للروايات الأخرى التي فيها توجيهه صلى الله عليه وسلم بأن يعق عن الغلام بشاتين.
والقضية كما هو معلوم متعلقة بموضوع واحد فإما أنه عق بكبشين وإما بكبش، وليست القصة متعددة أو أن الأمر يقبل التعدد، فليس فيها إلا أن يقال: صحيح وأصح، فيكون الأصح هو المقدم والراجح، وهو أن العق حصل بشاتين وليس بشاة واحدة.(334/23)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في عق النبي عن الحسن والحسين
قوله: [حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو].
هو ابن أبي الحجاج المقعد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الوارث].
عبد الوارث بن سعيد العنبري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أيوب].
أيوب بن أبي تميمة السختياني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
عكرمة مولى ابن عباس، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(334/24)
الأسئلة(334/25)
من الذي يتولى العقيقة
السؤال
من الذي يتولى العقيقة؟
الجواب
الأب هو الذي يتولاها؛ لكن يجوز أن يتولاها غيره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين، وهو أبوهما، لكن علياً هو الأصل، فعق النبي صلى الله عليه وسلم عنهما وهو جدهما وهما من أبنائه، ولكن الذي عليه العقيقة هو الأب، فدل هذا على أنه يمكن أن يعق غير الأب ويقوم مقامه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام مقام علي رضي الله عنه في العق عن الحسن والحسين.(334/26)
كيفية توزيع لحم العقيقة
السؤال
ماذا يفعل بلحم العقيقة؛ هل يوزع نيئاً أو يطبخ؟
الجواب
الذي يبدو أنه يؤكل منها ويتصدق، وسواء وزع مطبوخاً أو نيئاً فلا بأس بذلك، والكل سائغ.(334/27)
حكم الوليمة في العقيقة
السؤال
عندنا من يرى أن الوليمة في العقيقة ودعوة الناس إليها من البدع؟
الجواب
لا يوجد شيء يدل على أن هذا مبتدع، فكون الإنسان يعق ويدعو الناس ويطعمهم ويتصدق جائز، سواء أطعمهم أو جمعهم وأكلوا، والقول أنه من البدع ليس بصحيح، بل هذا سائغ، سواء طبخ اللحم ودعي له من يستحقه من الفقراء والمساكين ومن الأقارب، أو وزع على الأقارب والفقراء والمساكين ولم يطبخ منه شيء، فكل ذلك سائغ.
ولم يثبت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تنزع أعضاء العقيقة وتوزع وإنما يعمل بها كما يعمل بغيرها، ويمكن أن تطبخ ويأتي الناس ويأكلون اللحم، ويمكن أن توزع، فهي مثل الأضحية للإنسان أن يطبخ اللحم ويدعو الفقراء والمساكين ويطعمهم، ويمكن أن يعطيهم لحماً نيئاً يطبخونه في بيوتهم، كل ذلك سائغ ولا بدعة لا في هذا ولا في هذا.(334/28)
حكم عدم التصدق من العقيقة
السؤال
هل يجوز للمرء أن يأكل العقيقة كلها؟
الجواب
لا ينبغي أن يأكلها كلها، بل ينبغي شكر الله عز وجل على المولود ويتصدق منها؛ لأن الشكر يتطلب إعطاء من يستحق.(334/29)
حكم توزيع لحم العقيقة على المصلين
السؤال
عندنا عادة، وهي أنا نوزع من لحوم العقيقة في المسجد على المصلين، فهل هذا الفعل صحيح؟
الجواب
إحضار اللحم إلى المسجد لا ينبغي.(334/30)
تابع ما جاء في العقيقة(334/31)
شرح حديث عبد الله بن عمرو في كراهة اسم العقيقة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي حدثنا داود بن قيس عن عمرو بن شعيب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال، ح وحدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا عبد الملك -يعني ابن عمرو - عن داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه أراه عن جده قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن العقيقة فقال: (لا يحب الله العقوق -كأنه كره الاسم- وقال: من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فلينسك، عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة) وسئل عن الفرع فقال: (والفرع حق، وأن تتركوه حتى يكون بكراً شغزباً ابن مخاض أو ابن لبون فتعطيه أرملة أو تحمل عليه في سبيل الله، خير من أن تذبحه فيلزق لحمه بوبره، وتكفئ إناءك، وتوله ناقتك)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أنه قال: [سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال: (لا يحب الله العقوق -كأنه كره الاسم-)] أي: لأن هذا الاسم يشبه العقوق؛ ولكنه قد جاء هذا اللفظ في كلامه صلى الله عليه وسلم كما مر في الأحاديث: (كل غلام مرتهن بعقيقته)، ومعنى ذلك أنه سائغ ولكن كونه يطلق عليه نسيكة هو الأولى، واسم العقيقة هو الذي اشتهر، ولهذا يؤتى به في كتب الفقه وفي كتب الحديث، ولا يؤتى بنسيكة؛ لأن النسيكة لفظ عام يشمل الأضاحي ويشمل الهدي، واسم العقيقة هو الذي ميزها عن الهدي والأضحية.
قوله: [(وقال: من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فلينسك، عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة)]، وهذا اللفظ يشعر بعدم الوجوب.
قوله: [(وسئل عن الفرع قال: والفرع حق، وأن تتركوه حتى يكون بكراً شغزباً ابن مخاض أو ابن لبون فتعطيه أرملة أو تحمل عليه في سبيل الله؛ خير من أن تذبحه فيلزق لحمه بوبره، وتكفئ إناءك، وتوله ناقتك)].
الفرع هو أول نتاج السائمة، وكانوا في الجاهلية يفعلونه لطواغيتهم، فجاء الإسلام وأقره، وكان قربة لله عز وجل، ولكنه جاء بعد ذلك ما يدل على أنه لا فرع ولا عتيرة في الإسلام.
قوله: [(بكراً شغزباً)] قيل: إن الصحيح فيه (زخرباً) بالزاي في أوله ثم خاء معجمة.
والمعنى: إن تتركوه حتى يكون بكراً عظيماً، خير من أن تذبحوه ولحمه رقيق يلصق بوبره، وإذا فعلتم ذلك يترتب عليه أن أمه يصيبها وله عليه، ثم بعد ذلك تكفئون الإناء الذي يحلب به؛ لأنه إذا كان الولد موجوداً فهي تدر له وترضعه ويأخذ الناس من لبنها، فيكون في ذلك فائدة لهم، وهي أنهم يستمرون في الحلب، فكونهم يتركونه ويغذونه ويأخذون من لبن أمه ما فضل عن حاجة ولدها، ويكون بكراً عظيماً يعطى لأرملة أو لفقير محتاج إليه، أو يحمل عليه في سبيل الله؛ خير من أن يذبح في أول الأمر.
قوله: [(شغزباً ابن مخاض أو ابن لبون)].
ابن المخاض هو الذي له سنة، وابن لبون هو الذي له سنتان.(334/32)
تراجم رجال إسناد حديث عبد الله بن عمرو في كراهة اسم العقيقة
قوله: [حدثنا القعنبي].
عبد الله بن مسلمة بن قعنب، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا داود بن قيس].
وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب].
وهو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[أن النبي صلى الله عليه وسلم].
وعلى هذا يكون الحديث مرسلاً.
[ح وحدثنا محمد بن سليمان الأنباري].
محمد بن سليمان الأنباري صدوق، أخرج حديثه أبو داود.
[عن عبد الملك يعني ابن عمرو].
عبد الملك بن عمرو هو أبو عامر العقدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه].
داود مر ذكره، وعمرو بن شعيب مر ذكره، وأبوه هو شعيب بن محمد بن عبد الله، وهو صدوق أيضاً، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وفي جزء القراءة وأصحاب السنن.
[(أراه عن جده)].
يعني: أظنه عن جده، أي أن هذا غير مجزوم به، وجده هو الصحابي، وإذا كان عن شعيب الذي هو والد عمرو؛ فإنه يكون أيضاً مرسلاً إذا أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه جاء في بعض الروايات كونه مسندا ًومجزوماً به عن جده الذي هو عبد الله بن عمرو.(334/33)
شرح حديث بريدة في العقيقة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت حدثنا علي بن الحسين حدثني أبي حدثنا عبد الله بن بريدة سمعت أبي بريدة رضي الله عنه يقول: كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران].
أورد أبو داود حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أنهم كانوا في الجاهلية إذا ولد ذبحوا له وأخذوا الدم ولطخوه برأسه، فلما جاء الإسلام تركوا هذا الذي كان في الجاهلية، وصاروا يلطخون رأسه بالزعفران الذي هو نوع من الطيب، فكانوا في الجاهلية يلطخونه بشيء قذر، وجاء الإسلام فكانوا يلطخونه بشيء محبوب له رائحة طيبة.(334/34)
تراجم رجال إسناد حديث بريدة في العقيقة
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت].
أحمد بن محمد بن ثابت، ثقة، أخرج حديثه أبو داود.
[حدثنا علي بن الحسين].
علي بن الحسين بن واقد، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[حدثني أبي].
وهو ثقة له أوهام، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الله بن بريدة].
عبد الله بن بريدة بن الحصيب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت أبي بريدة].
بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(334/35)
الأسئلة(334/36)
حكم التصدق بزنة شعر رأس المولود والأذان في أذنه
السؤال
هل يشرع بعد حلق الرأس للمولود التصدق بزنته، وكذلك الأذان في أذنه اليمنى والإقامة في اليسرى؟
الجواب
يشرع أن يتصدق بوزن شعره ورقاً، أما الإقامة فلم تثبت، وأما الأذان فقد جاء في بعض الأحاديث، وكأن حديث الأذان حسنه الألباني في إرواء الغليل، وبلغني أنه رجع عنه فيما بعد، وأنه كان يظن أن له طريقاً أخرى تصلح أن تكون شاهداً، ثم وجدها مماثلة للطريق الموجودة.(334/37)
حكم العقيقة بالبقرة أو البدنة
السؤال
ما حكم العقيقة بالبقرة أو الناقة؟
الجواب
جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت ترى أنه لا تذبح عن المولود بدنة وإنما تذبح شاتان عن الغلام، والذي يبدو -والله أعلم- أن البدنة أنفس من الشاتين وأكثر منهما وأنفع، فالذي يبدو أنه لا بأس بها، وجاء عن بعض الصحابة أنهم فعلوا ذلك، فلا بأس بها.
أما الاشتراك في البدنة عن العقيقة فقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه تحفة المودود في أحكام المولود: "لا يصح الاشتراك فيها، أي العقيقة، ولا يجزئ الرأس إلا عن رأس".
ومعناه أنه لا يشترك في البدنة سبعة، مثل أن يأتي سبعة أشخاص عندهم سبع بنات فيشتركون في بدنة، فلا يشترك فيها كما يشترك في الأضحية والهدي.
وقوله: (ولا يجزئ الرأس إلا عن رأس) معناه أن الذبيحة تكون عن شخص، ولا تكون عن شخصين، بل الرأس عن رأس، سواء كان الرأس من الإبل أو من الغنم؛ لكن الغلام له رأسان من الغنم.
قال: (وهذا مما تخالف فيه العقيقة الهدي والأضحية)؛ لأن الهدي والأضحية تجزئ فيه البقرة عن سبعة والبدنة عن سبعة.
قال: (قال الخلال في جامعه: باب حكم الجزور عن سبعة، أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد أنه قال لـ أبي عبد الله: تعق جزوراً؟ فقال: أليس قد عُق بجزور؟ قلت: يعق بجزور عن سبعة؟ قال: لم أسمع في ذلك بشيء، ورأيته لا ينشط بجزور عن سبعة في العقوق).
أي كونها على سبيل الاشتراك لا تصح.
قال ابن القيم: "لما كانت هذه الذبيحة جارية مجرى فداء المولود كان المشروع فيه دماً كاملاً؛ لتكون نفس فداء نفس، وأيضاً: فلو صح فيها الاشتراك لما حصل المقصود من إراقة الدم عن الولد؛ فإن إراقة الدم تقع عن واحد، ويحصل لباقي الأولاد إخراج اللحم فقط، والمقصود نفس الإراقة عن الولد، وهذا المعنى بعينه هو الذي لحظه من منع الاشتراك في الهدي والأضحية، ولكن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحق وأولى أن تتبع، وهو الذي شرع الاشتراك في الهدايا، وشرع في العقيقة عن الغلام دمين مستقلين لا يقوم مقامهما جزور ولا بقرة، والله أعلم".(334/38)
حكم الترتيب بين العقيقة وحلق رأس المولود
السؤال
هل الترتيب مهم بحيث يذبح أولاً ثم يحلق الرأس؟
الجواب
هذا لا أعلم فيه شيئاً، والأمر في ذلك واسع، فما دام أنها في اليوم السابع فقدم هذا أو أخر هذا، لا بأس.(334/39)
حكم الختان يوم السابع
السؤال
هل يستحب الختان يوم السابع؟
الجواب
لا أذكر شيئاً يدل على أنه يكون في اليوم السابع.(334/40)
سلامة العقيقة من العيوب
السؤال
هل العقيقة يجب أن تتوافر فيها شروط الأضحية من السن والسلامة من العيوب؟
الجواب
نعم، لا بد من هذا.(334/41)
حكم العقيقة قبل اليوم السابع
السؤال
من ذبح العقيقة قبل اليوم السابع هل يجزئه؟
الجواب
الظاهر أنه يجزئه؛ لأن الذبح في اليوم السابع ليس بواجب، بل هو مستحب.(334/42)
حكم ما ذبح بسن أو ظفر
السؤال
إذا ذبح المرء بسن أو ظفر، فهل تعتبر ذبيحته ميتة؟
الجواب
نقل في الفتح كلاماً ومنه: قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: "هذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان قد قرر أن الذكاة لا تحصل بالعظم، وأما الظفر فقيل: نهى عنه لأن الذبح به تعذيب للحيوان ولا يقع به غالباً إلا الخنق الذي ليس على صورة الذبح".
وفيه أيضاً تشبه بالكفار.
ويقول الشيخ البسام في كتابه توضيح الأحكام: "إنه يستثنى من الآلة المحددة السن وجميع العظام، كما يستثنى الظفر، فإنها وإن كانت محددة فإنه لا يجوز الذبح بها ولا تحل الذبيحة بها".
ونقل أن الشيخ عبد الرحمن السعدي قال: "الصحيح أن جميع العظام لا تحل الذكاة بها".(334/43)
كلام الشيخ الألباني عن الفرع والعتيرة
فائدة: قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى بعد أن ذكر أحاديث في الفرع: "هذا وقد أفادت هذه الأحاديث مشروعية الفرع، وهو ذبح أول النتاج على أن يكون لله تعالى، ومشروعية الذبح في رجب وغيره بدون تمييز وتخصيص لرجب على ما سواه من الأشهر، فلا تعارض بينها وبين الحديث المتقدم: (لا فرع ولا عتيرة)؛ لأنه إنما أبطل صلى الله عليه وسلم به الفرع الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه لأصنامهم، والعتيرة وهي الذبيحة التي يخصون بها رجب].
ومر في الحديث عند أبي داود قوله: (اذبحوا لله في كل شهر، وبروا لله، وتصدقوا) وذلك لما سئل عن العتيرة وكونها رجبية، فذكر أن شهر رجب لا يخص بشيء من ذلك.(334/44)
كلام النووي في الذكاة بالسن والظفر
فائدة: قال في العون: قال النووي: "معناه فلا تذبحوا به لأنه يتنجس بالدم، وقد نهيتم عن الاستنجاء بالعظام لئلا تتنجس؛ لكونها زاد إخوانكم من الجن، والحديث فيه بيان أن السن والظفر لا يقع بهما الذكاة بوجه"، وهذا معناه أنه لا تحصل به الذكاة وأنها تكون ميتة.
ثم قال: "وفيه دلالة على أن العظم كذلك، لأنه لما علل السن قال: لأنه عظم؛ فكل عظم من العظام يجب أن تكون الذكاة به محرمة غير جائزة".(334/45)
حكم من نوى الحج مفرداً ثم اعتمر في أشهر الحج
السؤال
جاء رجل للحج بنية الإفراد، ولما وصل في ذي القعدة إلى مكة اعتمر وأكمل عمرته ورجع إلى المدينة، فهل يكون متمتعاً أو مفرداً؟
الجواب
ما دام أنه اعتمر في أشهر الحج وهو في سفر الحج، وإنما جاء للمدينة زائراً ثم يرجع إلى مكة؛ فهو متمتع، وخروجه للمدينة لا يسقط تمتعه، وإنما يسقطه إذا رجع إلى بلده ثم جاء من جديد، وأما إذا اعتمر ولم يرجع إلى بلده فإنه يعتبر متمتعاً، وإذا جاء المدينة فإن شاء فله أن يحرم بعمرة ثانية ليتحلل منها ويبقى في مكة حتى يأتيه الحج، ثم يحرم متمتعاً بالحج، وإن شاء أن يحرم بالحج من المدينة فله ذلك وهو متمتع، لكن كونه يحرم بعمرة ثانية فيكون عنده عمرة ثانية وحج أفضل، وهاتان العمرتان هما العمرتان المشروعتان، لا العمرة التي يتردد الناس فيها بين التنعيم والحرم، فيكون عنده عمرتان مشروعتان جاء بهما من المواقيت.(334/46)
ميقات من اعتمر في أشهر الحج ثم خرج من مكة
السؤال
رجل اعتمر في أشهر الحج ثم ذهب إلى جدة أو خارج الحرم، وفي يوم التروية يريد أن يحج، فمن أين يكون ميقاته؟
الجواب
إذا كان داخل المواقيت فله أن يحرم من المكان الذي هو فيه وله أن يحرم من مكة، وإن كان قد خرج من المواقيت فلا يجوز أن يمر بالميقات إلا وقد أحرم.(334/47)
كيفية زكاة البقر لمن يربيها للبيع
السؤال
رجل يقوم بتربية البقر وتسمينها، ثم يقوم ببيعها وعددها دون النصاب، فكيف يخرج زكاتها؟
الجواب
ما دام أنه يعدها للبيع ويتجر بها، فتكون زكاتها زكاة عروض التجارة، فإذا حال عليها الحول يقومها ويزكيها زكاة عروض التجارة.(334/48)
حكم أكل لحم الوكيرة
السؤال
ما حكم من ذبح وذكر اسم الله، ولكن لم تكن الذبيحة لله، إنما ذبح لأجل بناء بيت جديد أو غير ذلك؟
الجواب
يجوز للإنسان أن يذبح من أجل بناء بيت جديد ويقيم وليمة، وهي ما يسميها الفقهاء بالوكيرة، فهو لم يذبح على أنها أضحية أو صدقة، وإنما ذبح على أنها ذبيحة تذبح في هذه المناسبة، ولا يقال: إنه لم يذبح لله، فقد قال الله: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} [الأنعام:162]؛ لكن الذي دفعه إلى ذلك هو بمناسبة كونه بنى بيتاً وأراد أن يطعم الناس أو يدل الناس على بيته.(334/49)
شرح سنن أبي داود [335]
أباح الله سبحانه وتعالى الصيد لعباده، فلهم أن يصطادوا مما أحل الله لهم، إما بسهامهم ورماحهم ونحوها، وإما بكلابهم وصقورهم المعلمة، ويشترط للصيد ذكر الله عند الإرسال، وأن يصيد الجارح لصاحبه، وغير ذلك من الأمور التي فصلتها السنة النبوية، وشرحها العلماء.(335/1)
اتخاذ الكلب للصيد وغيره(335/2)
شرح حديث أبي هريرة في اتخاذ الكلب للصيد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الصيد.
باب في اتخاذ الكلب للصيد وغيره.
حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (من اتخذ كلباً إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط)].
لما ذكر أبو داود رحمه الله كتاب الأضاحي عقبه بكتاب الصيد، وفي ذلك تناسب؛ لأن كلاً منهما يذبح ويستفاد منه، لكن الصيد لما كان من قبيل المتوحش أفرده بكتاب يخصه فقال: [كتاب الصيد].
والصيد اسم لكل حيوان متوحش سواء كان من ذوات الرجلين كالطيور، أو الأربع كحمر الوحش والغزلان والأرانب وغير ذلك، فهو المتوحش غير المستأنس الذي يألف الناس ويكون معهم كالحيوانات المستأنسة.
والمتوحشة هي التي تنفر من الناس وتهرب منهم، فصار لها أحكام تخصها، وهي أحكام الصيد.
والصيد يطلق على الاصطياد ويطلق على الحيوان المصيد، ومن إطلاقه على الاصطياد ما جاء في الحديث: (إلا كلب صيد) يعني: كلباً يتخذ للاصطياد، وأما إطلاقه على المصيد فمنه قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95]، وقوله: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة:94].
وقد أورد أبو داود باباً في اتخاذ الكلب للصيد وغيره، أي لغير الصيد من الزرع والماشية، هذا المقصود بقوله [وغيره]، ولكنه أورده هنا من أجل أن له تعلقاً بالصيد، فنص على الصيد وأبهم غيره بقوله: [وغيره]، وقد أورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(من اتخذ كلباً إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع، انتقص من أجره كل يوم قيراط)].
والحديث يدل على أنه لا يجوز اتخاذ الكلاب إلا لهذه الأغراض الثلاثة التي وردت في هذا الحديث، وهي كونه للزرع وللماشية وللصيد.
وفيه أن اقتناءها لغير هذه الأمور يترتب عليه انتقاص الأجر، وأنه كل يوم من الأيام ينقص من أجره قيراط، ومعنى هذا أن اقتناءه واتخاذه لغير هذه الأمور يلحق به مضرة وهي انتقاص أجره، ومعلوم أن الإنسان أحوج ما يكون إلى أن يبقي على أجره، فإذا كان اقتناء هذا الحيوان لغير هذه الأغراض فيه هذه العقوبة؛ فإن اللائق بالمسلم أن يبتعد عن اتخاذه إلا لهذه الأغراض التي جاءت في هذا الحديث، وكذلك ما يشبهها أو يلحق بها من اتخاذ الكلاب لمعرفة الأشياء التي يحتاج إلى معرفتها، كالكلاب التي يتعرف بها على المخدرات وعلى الأشياء التي فيها ضرر على الناس، فإذا ترتب على ذلك مصلحة وجربت لذلك؛ فإن ذلك من الأمور التي يحتاج إليها الناس لاكتشاف تلك الأوبئة والأمور المحرمة التي تكشفها عن طريق حاسة الشم التي جعلها الله تعالى فيها.
وقد جاء في الحديث أن الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه كلب، ولما تأخر جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم كان سبب ذلك أنه كان في بيته جرو كلب تحت السرير، فإذاً: من أضرار اتخاذ الكلاب لغير الأغراض المذكورة في الحديث أن البيت لا تدخله الملائكة.
قوله: [(من اتخذ كلباً إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع)].
كلب الماشية هو الذي يكون مع الغنم لحراستها.
وكلب الزرع الذي يكون في البساتين لحراستها ممن يأتي إليها ويحصل منه الاعتداء عليها.
وكلب الصيد هو الذي يتخذ للصيد، وهو الكلب الذي يعلم لذلك، وستأتي أحاديث عديدة تتعلق بالكلاب وما يحل من صيدها وما لا يحل.
قوله: [(انتقص من أجره كل يوم قيراط)].
القيراط مقدار من الأجر الله تعالى أعلم به، ولكن عندما يعرف الإنسان أن في ذلك الاتخاذ نقصاً من أجره؛ فالذي يقتضيه العقل السليم والفهم الصحيح ألا يعرض نفسه لانتقاص أي شيء من أجره ولو كان ذلك المنتقص قليلاً.
وقد جاء في الحديث: (من صلى على الجنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان، قيل: وما القيراط يا رسول الله؟! قال: مثل جبل أحد)، فقدر القيراط هناك بجبل أحد، ولكن لم يقدره هنا.(335/3)
تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة في اتخاذ الكلب للصيد
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
وهو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري المدني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وهم: أبو سلمة بن عبد الرحمن هذا الذي معنا، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
[عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة أحاديث على الإطلاق عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عن أبي هريرة وعن الصحابة أجمعين.(335/4)
شرح حديث عبد الله بن مغفل في قتل الكلاب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يزيد حدثنا يونس عن الحسن عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البهيم)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه مرفوعاً: [(لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا الأسود البهيم)] والبهيم هو الخالص السواد، وقد جاء عن النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم الأمر بقتل الكلاب، ولكنه نهى عن ذلك؛ لأنها أمة من الأمم، وقد خلقها الله تعالى لحكمة، والأمر بقتلها يؤدي إلى إفنائها، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المنع من قتلها أنها أمة من الأمم، والله تعالى أوجدها لحكمة، فلا يصلح أن تفنى ويقضى عليها، ولكنه أرشد إلى قتل نوع منها، وهو الأسود البهيم الخالص السواد، وقد جاء في بعض الأحاديث أنه شيطان، وجاء في بعضها أنه عقور، أي يعقر ويحصل منه إيذاء الناس.(335/5)
تراجم رجال إسناد حديث عبد الله بن مغفل في قتل الكلاب
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يزيد].
وهو ابن زريع، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يونس].
يونس بن عبيد، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
الحسن بن أبي الحسن البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن مغفل].
عبد الله بن مغفل رضي الله عنه، وقد أخرج له أصحاب الكتب الستة.(335/6)
شرح حديث جابر في قتل الكلاب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن خلف حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: (أمر نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتل الكلاب، حتى إن كانت المرأة تقدم من البادية -يعني بالكلب- فنقتله، ثم نهانا عن قتلها، وقال: عليكم بالأسود)].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بقتل الكلاب، فكانوا يقتلونها، حتى إن المرأة تأتي من البادية ومعها كلب، فيعمدون إليه ويقتلونه امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إنه نهى عن ذلك، وقال: (عليكم بالأسود)، وهذا مطابق لما تقدم في الحديث السابق: (لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، ولكن عليكم بالأسود البهيم).
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقتلها، ثم نسخ ذلك بكونه نهاهم عن أن يقتلوها، وأرشد إلى قتل الأسود البهيم.(335/7)
تراجم رجال إسناد حديث جابر في قتل الكلاب
قوله: [حدثنا يحيى بن خلف].
صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا أبو عاصم].
هو الضحاك بن مخلد النبيل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني أبو الزبير].
محمد بن مسلم بن تدرس المكي، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(335/8)
ما جاء في الصيد(335/9)
شرح حديث عدي بن حاتم في شروط الصيد بالكلب والمعراض
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الصيد.
حدثنا محمد بن عيسى حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن همام عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قلت: إني أرسل الكلاب المعلمة فتمسك علي أفآكل؟ قال: إذا أرسلت الكلاب المعلمة وذكرت اسم الله؛ فكل مما أمسكن عليك قلت: وإن قتلن؟ قال: وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها، قلت: أرمي بالمعراض فأصيب، أفآكل؟ قال: إذا رميت بالمعراض وذكرت اسم الله فأصاب فخرق فكل، وإن أصابه بعرضه فلا تأكل)].
أورد أبو داود باباً في الصيد، أي: الاصطياد، وسواء كان ذلك بالآلة التي تكون بيد الإنسان كالسهام، أو بواسطة الكلاب المعلمة، أو بواسطة الطيور المعلمة كالباز ونحوه من الصقور والفهود التي تتخذ للاصطياد؛ فكل هذه من الوسائل التي يتم بها الاصطياد.
ولكن الحيوانات إنما يحل صيدها إذا كانت معلمة، وبشروط وقيود جاءت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد أبو داود حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: [(سألت النبي صلى الله عليه وسلم قلت: إني أرسل الكلاب المعلمة فتمسك علي أفآكل؟ قال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك)] يعني: يشترط أن يكون معلماً، وأن يرسله، وأن يذكر اسم الله عليه، وأن يمسك لصاحبه لا لنفسه؛ فهذه قيود وأمور مطلوبة في الحيوان الذي يصيد كالكلب.
والمعلم هو الذي درب على أنه إذا أرسل انطلق، وإذا زجر ومنع امتنع، وإذا صاد لم يأكل وإنما يترك الصيد لمن أرسله.
قوله: [(فكل مما أمسكن عليك)] يعني أنه إذا كان إمساكها إنما هو من أجلك، ولم تمسك لنفسها، فلك أن تأكل، وأما إذا أمسكته وأكلت؛ فهذا يدل على أنها أمسكت لنفسها ولم تمسك لك، فينتفي حينئذ هذا القيد الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي جاء في القرآن: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] وإذا انتفى لم يحل ما أمسكته.
وأيضاً مع إمساكها لابد أن تكون قد جرحته إن كان قد مات، وإن أمسكته وبقي على قيد الحياة فجاء صاحبها وذبحه الذبح المشروع في الرقبة أو في الحلق أو اللبة فذاك، وأما إن أمسكه ولم يجرحه ولكنه ضربه أو برك عليه ومات بثقله، فإنه لا يحل ويكون ميتة، مثل المتردية والنطيحة، وكذلك إذا لم يجرحه وأدركه صاحبه وبه حياة ولكنه لم يذبحه فإنه يكون ميتة ويكون وقيذاً، أي مثل الذي رمي بحجر أو معراض ومات بسبب الثقل، كما سيأتي أنه إذا أرسل الرمح فأصابه بحده فخزق حل، وإن كان بعرضه -أي بثقله- فإنه لا يحل.
فالكلب إذا أمسك إما أن يجرح وإما أن يمسكه وهو حي ويأتي صاحبه ويذبحه فهذان حلال، وإن أمسكه فضربه أو برك عليه ومات بسبب بروكه عليه أو بسبب ضربه، فإنه يكون ميتة ولا يحل أكله.
قوله: [(قلت: وإن قتلن؟ قال: وإن قلتن، ما لم يشركها كلب ليس منها)].
والمراد بالقتل هنا كونه أدرك وهو ميت مقتول، أما إذا كان أدركه وفيه حياة وذبحه فإنه يحل، وإنما استشكل ما إذا أدركه وهو ميت وفيه جرح قد خرج منه الدم، فإذا كان كذلك فإنه يحل إلا إذا كان معها كلاب أخرى؛ لأنه قد يكون الذي قتله غير كلبه الذي أرسله وسمى عليه؛ فلهذا حرم؛ لأنه لم يكن متحققاً أنه من كلبه، أما لو أدركه وفيه حياة وذبحه فإنه يكون حلاً لذبحه إياه.
فمعنى: [(وإن قتلن)] أي: إذا قتلنه وخرجت روحه وكان ذلك بجرحه، أما إذا كان بدون الجرح وإنما مات بالبروك عليه فإنه لا يحل.
قوله: [(قلت: أرمي بالمعراض فأصيب أفآكل؟ قال: إذا رميت بالمعراض وذكرت اسم الله فأصاب فخرق فكل، وإن أصابه بعرضه فلا تأكل)].
المعراض هو خشبة في رأسها حديدة لها حد أو خشبة في رأسها محدد وإن لم يكن من الحديد، فإذا رمى به ثم دخل هذا الحد في الحيوان وأصابه فإنه يحل بذلك، وإن أصاب بعرضه ومات بسبب الثقل فإنه يكون وقيذاً ولا يحل.(335/10)
تراجم رجال إسناد حديث عدي بن حاتم في شروط الصيد بالكلب والمعراض
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
هو محمد بن عيسى الطباع، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
منصور بن معتمر الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم].
إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن همام].
وهو همام بن الحارث وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عدي بن حاتم].
عدي بن حاتم رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(335/11)
شرح حديث عدي بن حاتم في الصيد بالكلب ما لم يأكل من الفريسة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري حدثنا ابن فضيل عن بيان عن عامر عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قلت: إنا نصيد بهذه الكلاب، فقال لي: إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله عليها، فكل مما أمسكن عليك وإن قتل، إلا أن يأكل الكلب فإن أكل الكلب فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه)].
أورد أبو داود حديث عدي بن حاتم، وفيه ما في الذي قبله إلا أنه قال: [(فإن أكل الكلب فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه) أي: ولم يكن أمسك لك، والقيد الذي حصل به الحل هو أن يكون مما أمسك لك، كما قال الله عليه: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4].
فإذا أكل الكلب من الصيد فإنه لا يحل؛ لأنه يكون معنى هذا أنه أمسك لنفسه ولم يمسك لصاحبه، ومن شرط حله أن يكون إمساكه لصاحبه لا لنفسه.(335/12)
تراجم رجال إسناد حديث عدي بن حاتم في الصيد بالكلب ما لم يأكل من الفريسة
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هناد بن السري أبو السري، ثقة، أخرج حديثه البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا ابن فضيل].
هو محمد بن فضيل بن غزوان، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وكان مما تكلم فيه أن فيه تشيعاً، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمته في مقدمة فتح الباري أنه كان يقول: رحم الله عثمان ولا رحم الله من لا يترحم على عثمان، ومعلوم أن هذا ليس شأن الشيعي الرافضي، وإنما هذا شأن السني؛ لأن الرافضة يسبون عثمان ويشتمونه، فهذه علامة على أنه سليم من هذه الوصمة التي وصم بها.
[عن بيان].
بيان بن بشر الأحمسي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عامر].
عامر بن شراحيل الشعبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عدي بن حاتم].
عدي بن حاتم رضي الله عنه، وقد مر ذكره.(335/13)
شرح حديث عدي في أكل الصيد يوجد ميتاً من الغد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن عاصم الأحول عن الشعبي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا رميت بسهمك وذكرت اسم الله فوجدته من الغد، ولم تجده في ماء ولا فيه أثر غير سهمك فكل، وإذا اختلط بكلابك كلب من غيرها فلا تأكل، لا تدري لعله قتله الذي ليس منها)].
أورد أبو داود حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه ومعناه أنك إذا رميت بسهمك فأصاب صيداً، ولكنه غاب عنك ثم وجدته بعد يوم ولم يكن غارقاً في ماء وليس فيه أثر غير سهمك فكل، وذلك لأنك أرسلت سهمك وذكرت اسم الله عليه فيكون هو الذي قتله، وهذا فيما إذا كان هو نفس الصيد الذي صاده، وأما إذا كان مشتبهاً به وقد يكون غيره فلا يحل له ذلك.
قوله: [(ولم تجده في ماء)]؛ لأنه لو وجده في ماء لكان يمكن أنه مات بسبب الغرق، فيكون قد أصابه السهم ولكنه بقي فيه حياة، فلما غرق خرجت روحه بسبب الغرق.
قوله: [ولا فيه أثر غير سهمك].
أي: لم يكن فيه أثر غير سهمك، لأنك يمكن أن تكون قد أرسلت السهم ثم وجدت فيه أثر كلب مثلاً، وهذا يعني أنه ليس منك، أو وجدت فيه سهماً غير سهمك الذي تعرفه أو تعرف مكان نفوذه فيه؛ لأنك رأيته لما نفذ فيه فوجدته نفس سهمك.
قوله: [(وإذا اختلط بكلابك كلب من غيرها فلا تأكل، لا تدري لعله قتله الذي ليس منها)].
وهذا مثل الذي قبله في الحديث السابق، فإذا وجدت مع كلبك كلاباً أخرى ومعها صيد قد مات فلا تأكل؛ والسبب أنه ربما يكون الذي قتله غير كلبك من الكلاب الأخرى التي لم تسم عليها.(335/14)
تراجم رجال إسناد حديث عدي في أكل الصيد يوجد ميتاً من الغد
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو ابن سلمة بن دينار، ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عاصم الأحول].
عاصم بن سليمان الأحول، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الشعبي عن عدي بن حاتم].
قد مر ذكرهما.
وهنا ذكر الشعبي بنسبته، وفيما مضى ذكره باسمه الذي هو عامر، وهذا من الأمور التي يحتاج إليها في علم المصطلح وفي علم الحديث؛ لأن الإنسان الذي لا يعرف أن الشعبي هو عامر عندما يجد في إسناد ذكر عامر ويجد في إسناد آخر الشعبي يقول: هذا شخص وهذا شخص آخر، فيظن الشخص الواحد شخصين، والذي يعرف أن هذا الذي نسب فقيل له الشعبي هو هذا الذي ذكر باسمه عامر لا يلتبس عليه الأمر.(335/15)
شرح حديث عدي في النهي عن أكل الصيد إذا غرق
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة أخبرني عاصم الأحول عن الشعبي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إذا وقعت رميَّتُك في ماء فغرق فمات فلا تأكل)].
أورد أبو داود حديث عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(إذا وقعت رميتك)] الرمية هنا بمعنى المرمية، وهو الصيد الذي رميته، ووقع في الماء ثم مات وهو في الماء.
قوله: [(فلا تأكل)] لأن موته يمكن أن يكون بسبب الغرق وليس بسبب رميك.(335/16)
تراجم رجال إسناد حديث عدي في النهي عن أكل الصيد إذا غرق
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، ثقة فقيه، وهو أحد الأئمة الأربعة المشهورين من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وأبو داود يروي عنه مباشرة، ولكنه يروي عنه أحياناً بواسطة كما هنا.
[حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة].
يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عاصم الأحول عن الشعبي عن عدي بن حاتم].
وقد مر ذكر الثلاثة.(335/17)
شرح حديث عدي في الصيد بالباز
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله فكل مما أمسك عليك، قلت: وإن قتل؟ قال: إذا قتله ولم يأكل منه شيئاً فإنما أمسكه عليك).
قال أبو داود: الباز إذا أكل فلا بأس به، والكلب إذا أكل كره، وإن شرب الدم فلا بأس به].
قوله: [(ما علمت من كلب أو باز)]، الباز من الطيور التي تتخذ للصيد، والباز والفهد يقال لها: صقر، أي أنها تصيد وتعلم.
قوله: [(ثم أرسلته وذكرت اسم الله فكل مما أمسك عليك)] يعني: إذا كان كل منهما أمسك الصيد لك ولم يمسك لنفسه.
قوله: [(قلت: وإن قتل؟ قال: إذا قتله ولم يأكل منه شيئاً فإنما أمسكه عليك)].
يعني: إذا وجده مقتولاً، أما إذا وجده حياً فإنه يتعين ذبحه، ولا يحل إلا بالذبح في الحلق أو اللبة، وإن وجده مقتولاً والقتل بالجرح فإنه يحل ما لم يأكل، أما إذا أكل منه فإنه لا يحل؛ لأنه يكون أمسكه لنفسه.
والقتل إنما يكون بجرحه كما قدمنا، أما لو كان قتله بثقله فإنه يكون وقيذاً ولا يحل أكله إذا فارق الحياة، وإن أدرك وبه حياة وذبح حل بذبحه.
وهذا الإسناد فيه مجالد بن سعيد وهو ليس بالقوي، والشيخ الألباني قال: إن ذكر الباز فيه منكر، ولكن قد جاء في القرآن قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4]، والجوارح تشمل الكلاب والصقور، وقد جاء عن ابن عباس في تفسيرها أن المقصود بها الطيور والكلاب، وأنها كلها تعلم، وأن ما صيد بواسطتها فإنه يكون حلالاً، فالحديث وإن كان فيه من هو متكلم فيه، إلا أن القرآن دل على ما يشمل الكلاب ويشمل غير الكلاب من الجوارح التي تجرح وتصيد.
قول أبي داود: [الباز إذا أكل فلا بأس به، والكلب إذا أكل كره، وإن شرب الدم فلا بأس به].
الحديث كما هو معلوم جاء فيه: [(مما أمسك عليك)] فإذا أكل الجارح من الصيد سواء كان الكلب أو الباز فإنه يكون قد أمسكه لنفسه، لكن لعل أبا داود إنما قال: الباز إذا أكل فلا بأس به، يعني أنه لا يتعلم إلا بالأكل، وليس مثل الكلب يتعلم بدون أكل.
قوله: [والكلب إذا أكل كره].
يعني أنه إذا أكل فإنما قتل لنفسه.
وقوله: [وإن شرب الدم فلا بأس] يعني أن الدم الذي يسيل إذا شربه الكلب فليس فيه محذور؛ لأن الدم المسفوح لا يحل، فإذا شرب الكلب دماً مسفوحاً يسيل من هذا الصيد فلا يقال: إنه أكل؛ لأنه شرب شيئاً محرماً على الإنسان، وليس للإنسان أن يشرب ذلك الشيء الذي شربه الكلب وهو الدم المسفوح.
ولكن فيما ذكر من التفريق بين الكلب والطير أن هذا لا بأس به وأن هذا يكره غير واضح، لأن القرآن جاء مطلقاً في قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] والضمير يعود على الجوارح مطلقاً، سواء كانت كلاباً أو غير كلاب.
وقوله: [كره] يحتمل أن يكون كراهية تحريم أو تنزيه.(335/18)
تراجم رجال إسناد حديث عدي في الصيد بالباز
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا عبد الله بن نمير].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا مجالد].
مجالد بن سعيد، وهو ليس بالقوي، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن الشعبي عن عدي بن حاتم].
وقد مر ذكرهما.(335/19)
شرح حديث أبي ثعلبة الخشني في أكل صيد الكلب وإن أكل منه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عيسى حدثنا هشيم حدثنا داود بن عمرو عن بسر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صيد الكلب: (إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه، وكل ما ردَّت عليك يداك)].
أورد أبو داود حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه.
قوله: [(إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه)]، يخالف ما جاء في حديث عدي بن حاتم أنه (إذا أكل منه فلا تأكل، فإنما أخشى أن يكون أمسك لنفسه ولم يمسك لك) وهنا يقول: [فكل وإن أكل منه)]، ومعنى هذا أنه حلال سواء أكل أو لم يأكل، ولكن قوله: ((فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ))، وقوله: (إذا أمسك لك) يدلان على أن إباحة الأكل فيما إذا أمسك لصاحبه لا لنفسه، ولهذا قال الشيخ الألباني: إن هذه الزيادة منكرة.
وبعض أهل العلم جمع بين ما جاء في حديث أبي ثعلبة هنا وما جاء في حديث عدي بن حاتم أن حديث عدي بن حاتم محمول على ما إذا أكل منه ابتداء، بمعنى أنه من حين أمسك جعل يأكل، قالوا: ويحمل حديث أبي ثعلبة على ما إذا أمسكه وطال انتظاره لصاحبه وجاع فاحتاج إلى أن يأكل.
والألباني يقول: هذه الزيادة منكرة، والصحيح أنه لا يحل إلا ما أمسك لصاحبه، وأنه إذا أكل لم يحل.
قوله: [(وكل ما ردت عليك يداك)].
أي: ما اصطدته بالرمح وبالسهم، وهو ما أصبته بيديك؛ لأن الصيد يكون باليد ويكون بالكلاب والطيور.(335/20)
تراجم رجال إسناد حديث أبي ثعلبة الخشني في أكل صيد الكلب وإن أكل منه
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى عن هشيم].
محمد بن عيسى الطباع مر ذكره، وهشيم هو هشيم بن بشير الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا داود بن عمرو].
وهو صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود.
[عن بسر بن عبيد الله].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إدريس الخولاني].
واسمه عائذ الله، وقد ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من ثقات التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي ثعلبة الخشني].
أبو ثعلبة الخشني قيل اسمه: جرثوم بن ناشر، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(335/21)
شرح حديث عدي في أكل الصيد يجده بعد يومين أو ثلاثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسين بن معاذ بن خليف حدثنا عبد الأعلى حدثنا داود عن عامر عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! أحدنا يرمي الصيد فيقتفي أثره اليومين والثلاثة، ثم يجده ميتاً وفيه سهمه، أيأكل؟ قال: نعم إن شاء، أو قال: يأكل إن شاء)].
أورد أبو داود حديث عدي بن حاتم أنه قال: [(أحدنا يرمي الصيد فيقتفي أثره اليومين والثلاثة ثم يجده ميتاً وفيه سهمه)].
يعني يصيب أحدنا الصيد فيقتفي أثره اليومين والثلاثة فيجده ميتاً وفيه سهمه.
قوله: (أيأكل؟ قال: نعم إن شاء، أو قال: يأكل إن شاء)] معناه أنه أباحه له صلى الله عليه وسلم وقال: إن شئت فكل وإن شئت فلا تأكل؛ وشرط ذلك كما سيأتي في بعض الروايات ألا ينتن أو يَصِلَّ، ومعلوم أنه إذا مضى عليه الوقت المذكور يتغير أو تخرج منه بعض الرائحة أو النتن، والرسول أباحه ولكنه قال: [(نعم إن شاء)]، ومعنى هذا أنه إن عافته نفسك فالأمر واسع.(335/22)
تراجم رجال إسناد حديث عدي في أكل الصيد يجده بعد يومين أو ثلاثة
قوله: [حدثنا الحسين بن معاذ بن خليف].
الحسين بن معاذ بن خليف ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الأعلى].
عبد الأعلى بن عبد الأعلى، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن داود].
داود بن أبي هند، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عامر عن عدي بن حاتم].
عامر الشعبي عن عدي بن حاتم قد مر ذكرهما.(335/23)
شرح حديث عدي بن حاتم في الصيد وما يشترط فيه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي قال: قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: (سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المعراض فقال: إذا أصاب بحده فكل، وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ، قلت: أرسل كلبي؟ قال: إذا سميت فكل وإلا فلا تأكل، وإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك لنفسه، فقال: أرسل كلبي فأجد عليه كلباً آخر؟ فقال: لا تأكل؛ لأنك إنما سميت على كلبك)].
أورد أبو داود حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: [(سألت النبي عن المعراض، فقال: إن أصاب بحده فكل، وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ)]، ومعناه أنه يكون ميتة؛ لأنه مات بسبب الثقل وبسبب الضربة فيكون مثل الذي رمي بحجر أو نحوه فمات به، فيكون بذلك وقيذاً لا يحل، وإنما الذي يحل هو الذي أصيب بحده وخرج منه الدم.
قوله: [(قلت: أرسل كلبي؟ قال: إذا سميت فكل وإلا فلا تأكل)].
معناه أنك إذا أرسلت كلبك وسميت فكل وإلا فلا تأكل، وهذا يدل على أنه لابد من التسمية، ولابد من كونه أرسله، وأن يكون معلماً، وأن يمسك لك لا لنفسه.
وقال بعض أهل العلم: إنه إذا لم يسم نسياناً فإنه يحل ولا بأس بذلك.
قوله: [(قال: إذا سميت فكل وإلا فلا تأكل، وإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك لنفسه، فقال: أرسل كلبي فأجد عليه كلباً آخر؟ فقال: لا تأكل لأنك إنما سميت على كلبك)].
هذا مثل الذي سبق أن تقدم.(335/24)
تراجم رجال إسناد حديث عدي بن حاتم في الصيد وما يشترط فيه
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي البصري، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن أبي السفر] وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن الشعبي قال: قال عدي بن حاتم].
وقد مر ذكرهما.(335/25)
شرح حديث أبي ثعلبة في أكل صيد الكلب غير المعلم إن ذكي
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري عن ابن المبارك عن حيوة بن شريح قال: سمعت ربيعة بن يزيد الدمشقي يقول: أخبرني أبو إدريس الخولاني عائذ الله قال: سمعت أبا ثعلبة الخشني رضي الله عنه يقول: (قلت: يا رسول الله! إني أصيد بكلبي المعلم وبكلبي الذي ليس بمعلم؟ قال: ما صدت بكلبك المعلم فاذكر اسم الله وكل، وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل)].
أورد أبو داود حديث أبي ثعلبة الخشني وفيه أنه يرسل كلبه المعلم وغير المعلم، فأفتاه في المعلم أن إذا أرسلته وذكرت اسم الله فكل، وأما غير المعلم فإذا أرسلته وأدركته حياً وذبحته فكل، ومعنى هذا أنه لو أمسكه وقتله الكلب فإنه لا يحل لأنه كلب غير معلم، ومن شرط إباحة الصيد من الكلب أن يكون معلماً، قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة:4] فغير المعلم إنما يفيد إذا أمسك وبقي الصيد الذي أمسكه على قيد الحياة، حتى جاء صاحبه ليذبحه ويستفيد منه ويأكله، وأما إن قتله فإنه لا يحل؛ لأنه غير معلم.(335/26)
تراجم رجال إسناد حديث أبي ثعلبة في أكل صيد الكلب غير المعلم إن ذكي
قوله: [حدثنا هناد بن السري عن ابن المبارك].
هناد بن السري مر ذكره، وابن المبارك هو عبد الله بن المبارك المروزي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حيوة بن شريح].
حيوة بن شريح المصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت ربيعة بن يزيد الدمشقي].
ربيعة بن يزيد الدمشقي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني أبو إدريس الخولاني عائذ الله قال: سمعت أبا ثعلبة الخشني].
وقد مر ذكرهما.(335/27)
شرح حديث أبي ثعلبة في أكل الصيد ذكياً وغير ذكي
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المصفى حدثنا محمد بن حرب، ح وحدثنا محمد بن المصفى حدثنا بقية عن الزبيدي حدثنا يونس بن سيف حدثنا أبو إدريس الخولاني حدثني أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا ثعلبة! كل ما ردت عليك قوسك وكلبك -زاد عن ابن حرب المعلم- ويدك فكل؛ ذكياً وغير ذكي)].
أورد أبو داود حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه: [(قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا ثعلبة! كل ما ردت عليك قوسك)].
يعني: ما اصطدته بقوسك، ومعلوم أن صيده بقوسه هو إذا أصاب بحده.
قوله: [(وكلبك المعلم)] يعني بالشروط التي سبق أن تقدمت؛ وهي أن يكون أرسله، وأن يكون ذكر اسم الله عليه، وأن يكون أمسك لصاحبه لا لنفسه.
قوله: [(ويدك)].
أي: ما اصطدته بيدك.
قوله: [(فكل ذكياً وغير ذكي)].
فسر الذكي بأنه أدركته حياً وذكيته، وفسر غير الذكي بما لم تدركه حياً، ولكنه أصابه السهم وجرحه أو أصابه الكلب وجرحه، ومات بسبب ذلك؛ فهذا غير ذكي، بمعنى أنك لم تذكه، وإنما أصيب بالسهم الذي أصابه أو الكلب الذي جرحه، ولم تذكه أنت، فالذكي هو الذي أدركه حياً وذكاه، بأن أمسكه الكلب أو أصابه المعراض أو السهم وأدركه الرجل حياً فذكاه، أو أنه لم يدركه ولم يتمكن من تذكيته، ولكنه مات بسبب جرح الكلب أو سبب خرق السهم.(335/28)
تراجم رجال إسناد حديث أبي ثعلبة في أكل الصيد ذكياً وغير ذكي
قوله: [حدثنا محمد بن المصفى].
محمد بن المصفى صدوق له أوهام، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا محمد بن حرب].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا محمد بن المصفى حدثنا بقية].
بقية هو بقية بن الوليد، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الزبيدي].
وهو محمد بن الوليد الزبيدي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا يونس بن سيف].
وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا أبو إدريس الخولاني حدثني أبو ثعلبة الخشني].
وقد مر ذكرهما.(335/29)
شرح حديث أبي ثعلبة في الصيد وآنية المجوس
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المنهال الضرير حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن أعرابياً يقال له: أبو ثعلبة قال: (يا رسول الله! إن لي كلاباً مكلبة فأفتني في صيدها؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن كان لك كلاب مكلبة فكل مما أمسكن عليك، قال: ذكياً أو غير ذكي؟ قال: نعم، قال: فإن أكل منه؟ قال: وإن أكل منه، فقال: يا رسول الله؛ أفتني في قوسي؟ قال: كل ما ردت عليك قوسك ذكياً أو غير ذكي، قال: وإن تغيب عني؟ قال: وإن تغيب عنك ما لم يَصِلَّ أو تجد فيه أثراً غير سهمك، قال: أفتني في آنية المجوس إن اضطررنا إليها؟ قال: اغسلها وكل فيها)].
أورد أبو داود حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يروي حديث أبي ثعلبة الخشني مفصلاً.
قوله: [(يا رسول الله! إن لي كلاباً مكلبة)].
أي: معلمة.
قوله: [(فأفتني في صيدها)].
أي: إذا صادت فهل يحل لي أكل صيدها أو لا؟ قوله صلى الله عليه وسلم: [(إن كان لك كلاب مكلبة فكل مما أمسكن عليك)].
أي: إذا أرسلتها وذكرت اسم الله عليها كما جاء مبيناً في الروايات الأخرى.
وقوله: [(ذكياً أو غير ذكي؟ قال: نعم)] يعني إذا أدركته حياً وذكيته أو أدركته ميتاً وقد جرحه الكلب فإنك تأكله، سواء أدركت فيه حياة فذكيته أو أدركته وقد مات بسبب جرح الكلب له وكان غير ذكي.
قوله: [(قال: وإن أكل منه؟ قال: وإن أكل منه!)].
وهذا كما عرفنا يحمل على أنه لم يأكل منه ابتداء كما تقدم، وإنما أكل منه بعد انتظار صاحبه وحاجته إلى الأكل، فيكون أمسك لصاحبه، ولكنه احتاج إلى أن يأكل بسبب طول انتظار صاحبه له فأكل.
قوله: [(فقال: يا رسول الله! أفتني في قوسي؟ قال: كل ما ردت عليك قوسك ذكياً أو غير ذكي)].
تأكله ذكياً بمعنى أنك أدركته وفيه حياة وذكيته، أو غير ذكي بأن أصابه سهمك ومات بسبب الإصابة ولم تذكه، فإنه يكون حلالاً، كما تقدم.
قوله: [(أو تجد فيه أثراً غير سهمك)] معناه: أن السهم أو الإصابة ليست منك، وكانت إصابته بسبب غيرك أو وجدت فيه أثر عضة كلب مثلاً؛ فإذا كان الأمر كذلك فلا تأكل منه.
وقوله: [(ما لم يصل)] أي: ما لم تحصل له رائحة، وقيل: إن النهي عما حصلت فيه الرائحة محمول على الكراهة، وإلا فإنه حلال ولو كان فيه رائحة مادام أنه لا يخشى أن يقع لآكله من ورائه ضرر، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أكل إهالة سنخة، أي فيها شيء من التغير في الرائحة.
قوله: [(قال: أفتني في آنية المجوس إن اضطررنا إليها؟ قال: اغسلها وكل فيها)].
معناه أن استعمال آنية الكفار المجوس أو أهل الكتاب الذين يستعملون النجاسات ويأكلون الخنازير والميتة؛ يجوز إذا غسلها الإنسان مما قد يكون علق بها من نجاسة حتى ذهبت بالغسل؛ وهذا إنما يكون في الإناء المستعمل، أما إذا كانت جديدة كالتي تأتي من المصانع، فإنها لا تحتاج إلى أن تغسل؛ لأنهم لم يستعملوها، وإنما الشك في الشيء الذي قد استعمل، وهو الذي يحتاج إلى أن يغسل.(335/30)
تراجم رجال إسناد حديث أبي ثعلبة في الصيد وآنية المجوس
قوله: [حدثنا محمد بن منهال الضرير].
محمد بن منهال الضرير ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حبيب المعلم].
وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب].
وهو صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه شعيب بن محمد، وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وجزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن جده].
جده عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(335/31)
الصيد تقطع منه قطعة(335/32)
شرح حديث: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في صيد قطع منه قطعة.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي واقد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة)].
هذا باب في صيد قطع منه قطعة، أي: فما حكم تلك القطعة التي قطعت من الصيد؟ وهنا أورد الحديث في كتاب الصيد؛ لأن الصيد من جملة ما يندرج تحت الحديث، وليس الحديث خاصاً بالصيد، بل هو عام في الصيد وغيره.
فإذا قطع من الحيوان قطعة سواء كان مستأنساً أو متوحشاً، فإنها تكون حراماً؛ لأن القطعة التي تبان من الحي تعتبر ميتة، ولا تعتبر ذبيحة مباحة، بل هي قطعة انفصلت من حي فكانت ميتة، أي: حكمها حكم الميتة في أنها لا تحل سواء كان ذلك في صيد أو غيره.
وأورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة في كتاب الصيد مع أن الحكم يشمل الصيد وغير الصيد، لأن الغالب أن القطعة التي تقتطع تكون برمي الصيد، فتنقطع قطعة منه ويبقى حياً، فهذه القطعة التي قطعت منه تكون حراماً ولا تحل، وتعتبر ميتة لا يجوز أكلها، هذا هو مقتضى ما تدل عليه الترجمة.
وقد أورد أبو داود حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه: [(ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة)] أي الذي قطع منها وهي حية فهي ميتة؛ لأنها انفصلت من حي فيكون حكمها حكم الميتة، وعلى هذا فالصيد إذا رمي ثم سقط منه قطعة وبقي هو حياً، فهرب أو بقي على قيد الحياة؛ فإن هذه القطعة التي انفصلت منه ميتة، لكن لو أنه رمى الصيد حتى مزقه وتقطع قطعاً ومات بسبب ذلك فالقطع كلها حلال، لأن إزهاق نفسه حصل بتمزيقه وتقطيعه بتلك الرمية، فليس هناك شيء انفصل من حي؛ فيكون مباحاً.
فلو رمي الطير أو الأرنب أو الغزال حتى تفرق قطعاً أو أنه ضربها فقطعها قطعتين وماتت بسبب ذلك القطع، فإن الكل يكون حلالاً.(335/33)
تراجم رجال إسناد حديث: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا هاشم بن قاسم].
هاشم بن قاسم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار].
وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن زيد بن أسلم].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن يسار].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي واقد].
أبو واقد الليثي رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(335/34)
اتباع الصيد(335/35)
شرح حديث ابن عباس في اتباع الصيد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في اتباع الصيد.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني أبو موسى عن وهب بن منبه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال مرة سفيان: ولا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: (من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن)].
معنى اتباع الصيد أن يهوى الإنسان الصيد وينشغل به حتى يتعلق قلبه بالصيد، فالمقصود باتباع الصيد من يشغل نفسه بمتابعة الصيد والسعي وراءه وتحصيله، فيضيع عليه الوقت وهو يتبع الصيد.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(من سكن البادية جفا)]، أي صار من الأعراب الذين هم جفاة، وعندهم غلظ في الطباع، فليس عندهم سهولة وليونة، وإنما عندهم شدة وقسوة وغلظ في الطباع، والمعنى أنه صار عنده جفوة.
قوله: [(ومن اتبع الصيد غفل)] أي: صار عنده غفلة؛ لأنه يضيع وقته في اللهو بالصيد ومتابعته وقطع المسافات وقتل الأوقات في سبيل متابعته، ثم قد يحصل شيئاً، وقد لا يحصل شيئاً فيكون في ذلك غفلة، والمعنى أنه يكون عنده شيء من الغفلة بسبب اتباعه للصيد وافتتانه وتعلقه به، فتجده يقتل الأوقات ويمضي الساعات في متابعة الصيد، وهذا شيء مذموم.
قوله: [(ومن أتى السلطان افتُتن)] أو افتَتن، أي حصلت له فتنة في دينه، وهذا فيما إذا أتى السلطان من أجل تحصيل دنيا، أو من أجل متابعته على ظلم إذا كان ظالماً.
فإتيان السلطان يكون مذموماً إذا كان من أجل تحصيل الدنيا، ومن أجل متابعته وأن يكون معه، وإذا كان ظالماً تجده يحبب له الظلم ويؤيده على الظلم ويساعده عليه، فإن تلك فتنة للإنسان.
وأما إذا أتى السلطان لحاجته أو لأمر يتعلق بمصلحته، أو كان له حق فاحتاج إلى أن يذهب إلى السلطان، وكذلك من ذهب إلى السلطان لنصحه وما إلى ذلك؛ فإن هذا أمر محمود وليس فيه افتتان، بل هذا فيه نصح لولاة الأمور، وهو أمر مطلوب، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم).
وعلى هذا فالدخول على السلطان والإتيان إليه قد يكون محموداً وقد يكون مذموماً، فيكون مذموماً إذا كان المقصود هو الدنيا، أو الرغبة في متابعته، وكان يترتب على ذلك تأييده في أمر لا يسوغ من الظلم أو غير ذلك، ويكون محموداً إذا كان لغير ذلك؛ بأن ذهب إليه من أجل حاجة أو كانت له مظلمة واحتاج إلى أن يذهب إلى السلطان لتخليص مظلمته، أو لنصحه؛ فهذا أمر محمود.(335/36)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في اتباع الصيد
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد القطان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، ثقة فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبو موسى].
أبو موسى يروي عن وهب بن منبه وهو مجهول، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن وهب بن منبه].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة فقد أخرج له في التفسير.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث في إسناده رجل مجهول، ولكن له شاهد من حديث أبي هريرة عند الإمام أحمد وغيره، فيكون ثابتاً لذلك، ويشهد له ما يأتي أيضاً.
[وقال مرة سفيان: ولا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم].
يعني أن سفيان أتى به مرة على أنه مرفوع جزماً، ومرة على أن عنده فيه شكَّاً.(335/37)
شرح حديث أبي هريرة في اتباع الصيد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عيسى حدثنا محمد بن عبيد حدثنا الحسن بن الحكم النخعي عن عدي بن ثابت عن شيخ من الأنصار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى مسدد قال: (ومن لزم السلطان افتتن)، زاد: (وما ازداد عبد من السلطان دنواً إلا ازداد من الله بعداً)].
هذا الحديث عن أبي هريرة في إسناده رجل مجهول، ولكن نحوه في مسند الإمام أحمد بإسناد متصل وليس فيه من هو مجهول، فيكون شاهداً للحديث الأول، وهذا أيضاً يكون شاهداً له، أعني الجملة السابقة التي بمعنى حديث مسدد، التي هي: (من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن).
قوله: [(ومن لزم السلطان افتتن، وما ازداد عبد من السلطان دنواً إلا ازداد من الله بعداً)].
هنا قال: [(من لزم السلطان افتتن)] ففيه ملازمة السلطان، وما تقدم ذكر الإتيان، ومن المعلوم أن الملازمة غير الإتيان، فالملازمة أن يكون موجوداً معه بصفة دائمة، وأما الذي يأتيه فقد يأتيه للحاجة.
وقد كان بعض العلماء يتكلمون في بعض الرواة يقولون: إنه كان يدخل على السلطان، وكان هذا قدحاً ولكنه غير مؤثر؛ لأن الدخول على السلطان قد يكون لحاجته هو أو لأمر يخصه، أو لمظلمة تتعلق به، أو لنصحه، أما إذا كان على الوجه الذي ذكرت في الحديث السابق، وهو طلب الدنيا والإعانة على الظلم؛ فهذا يكون مذموماً.
فتجد في بعض التراجم عندما يذكرون الرجل يقولون: إلا أنه كان يدخل على السلطان أو يأتي السلطان، وهذا لا يؤثر كما ذكرت، وهناك من رجال الكتب الستة من كان كذلك، مثل حميد بن أبي حميد الطويل قال في التقريب: عابوا عليه الدخول على السلطان، وهو من رجال الكتب الستة، ومن الثقات الأثبات.
قوله: [(وما ازداد عبد من السلطان دنوًّا إلا ازداد من الله بعداً)].
معناه فيما إذا كان من أجل مناصرته على الظلم إذا كان ظالماً، أو من أجل تحصيل أمور دنيوية والتكاثر فيها، ولكن الحديث في إسناده رجل مجهول، فهو غير ثابت بهذه الزيادة.(335/38)
تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة في اتباع الصيد
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
محمد بن عيسى الطباع، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا محمد بن عبيد].
محمد بن عبيد الطنافسي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الحسن بن الحكم النخعي].
وهو صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[عن عدي بن ثابت].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شيخ من الأنصار].
هذا يقال له: مبهم؛ لأنه ما ذكر اسمه، فالذي لم يذكر اسمه يقال له: مبهم، فالمبهم أن يقال: رجل أو شيخ أو امرأة أو ما إلى ذلك، أما إذا ذكر اسمه ولم يذكر اسم أبيه وهو يلتبس بغيره، فهذا يقال له: المهمل.
[عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق؛ رضي الله عنه وأرضاه.
[بمعنى مسدد].
يعني بمعنى حديث مسدد الذي مر قبل هذا.(335/39)
ذكر المراد بالسلطان في حديث ذم اتباع الصيد
السلطان هو الوالي الأعظم، وكذلك الأمراء، ونائب السلطان يعتبر سلطاناً؛ لأن من لازم الدخول على الوالي، سواء كان الوالي الأعظم أو نائب الوالي الأعظم، للأغراض التي أشرنا إليها فيما مضى، وهي أن يحصل منه دنيا، أو يناصره أو يؤيده على ظلم أو ما إلى ذلك؛ فهذا هو الذي يذم؛ سواء كان هو الإمام الأعظم أو من نواب الإمام الأعظم.(335/40)
شرح حديث أبي ثعلبة في أكل الصيد إذا غاب ما لم ينتن
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن معين حدثنا حماد بن خالد الخياط عن معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا رميت الصيد فأدركته بعد ثلاث ليال وسهمك فيه، فكله ما لم ينتن)].
أورد أبو داود حديث أبي ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [(إذا رميت الصيد فأدركته بعد ثلاث ليال وسهمك فيه، فكله ما لم ينتن)].
وهذا يدل على أن الصيد إذا أدرك ولو بعد مدة وأثر سهمه فيه فإنه يكون حلالاً ما لم ينتن، أما إذا أنتن فلا ينبغي للإنسان أن يستعمله.
وقد اختلف العلماء: فمنهم من حرمه ومنهم من قال: إن هذا المنع إنما هو للتنزيه.
والتقييد بكونه لم ينتن يدل على أنه لو زاد على ثلاث ليال ولم ينتن فإنه يكون مباحاً، ولو قل عن ثلاث ليال وأنتن لم يكن مباحاً؛ لأنه علق الحكم بكونه ينتن.(335/41)
تراجم رجال إسناد حديث أبي ثعلبة في أكل الصيد إذا غاب ما لم ينتن
قوله: [حدثنا يحيى بن معين].
يحيى بن معين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد بن خالد الخياط].
حماد بن خالد الخياط ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن معاوية بن صالح].
معاوية بن صالح بن حدير، وهو صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير].
وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو كذلك ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي ثعلبة الخشني].
أبو ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(335/42)
الأسئلة(335/43)
حكم قتل الكلب الأسود المختص بالغير
السؤال
هل يجوز لي قتل الكلب الأسود وإن لم يكن ملكاً لي؟
الجواب
إذا كان الإنسان اتخذه لحراسة أو لماشية فليس له أن يقتله، والكلب لا يكون ملكاً له ولا لغيره، فقد قلنا: إنه لا يملك، ولكنه يختص بمن يضع يده عليه.(335/44)
حكم قتل الكلب الأسود
السؤال
هل نقول بسنية قتل الكلب الأسود لأمر النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
نعم، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بقتله وقال: (عليكم بالكلب الأسود).(335/45)
حكم أكل الصيد المقتول بحجر
السؤال
إذا قتلت الطير بحجر، هل يجوز أن آكله؟
الجواب
هذا هو الوقيذ، فالوقيذ هو الذي يرمى بحجر.(335/46)
حكم اتخاذ الكلاب في البيوت
السؤال
ما حكم اتخاذ كلب الحراسة، وذلك إذا كان البيت كبيراً وفيه حوش، أو كان للبيت مزرعة ملحقة به فجاء بالكلب للمزرعة، وهو كذلك يحرس البيت؟
الجواب
إذا كانت المزرعة تابعة للبيت فهذه لا يقال لها: مزرعة، إنما المزرعة ما كانت واسعة، وكانت نائية عن البيوت، أما أن يأتي بالكلب بحجة أنه يوجد زرع أو شيء من النبات بجوار البيت، فغير صحيح.(335/47)
حكم الحج عن المريض بغير إذنه
السؤال
هل يجوز الحج عن المريض الذي لا يرجى برؤه من غير إذنه؟ أي: هل يشترط الإذن في الحج عن الغير؟
الجواب
إذا كان المرء حياً فلابد أن يكون على علم.(335/48)
حكم الإحرام للمتمتع عند الرجوع إلى مكة
السؤال
جئت للحج من بلدي فذهبت إلى مكة واعتمرت، ثم أتيت لزيارة المسجد النبوي؛ فهل يجب علي الإحرام إذا رجعت إلى مكة مع أني لا أريد عمرة ثانية؟
الجواب
يجب عليك الإحرام، فإن أحرمت بعمرة ثانية فهو أولى لك، وإن لم تحرم بالعمرة فإنك تحرم بالحج، فلابد أن تحرم عند مرورك بالميقات، فإن أحرمت بعمرة فهو أولى لك؛ لأنك تحصل عمرتين وحجاً، وإن لم ترد العمرة فأحرم بالحج وأنت متمتع.(335/49)
حكم صيد المحرم للبرمائيات
السؤال
المحرم ممنوع من صيد البر، فما الحكم في الحيوان البرمائي؟
الجواب
ما كان مشتبهاً فقد قال الرسول: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، وقال: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)، فالشيء الذي فيه اشتباه الأولى للإنسان تركه.(335/50)
حكم تكرار العمرة بعد الحج
السؤال
يقول ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: "فالعمرة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعها، عمرة الداخل إلى مكة لا عمرة من كان بها فخرج إلى الحل ليعتمر، ولم يفعل ذلك أحد قط في عهده إلا عائشة رضي الله عنها وحدها من بين سائر من كان معه".
يقول: أرجو إيضاح هذه العبارة، وهل يفهم من هذا أن الذي أصله من خارج مكة ومكث في مكة للدراسة، لا يسن له أن يخرج إلى الحل ليعتمر، وماذا يفعل أهل مكة إذا أرادوا الحج أو العمرة؟
الجواب
أهل مكة إذا أرادوا العمرة يخرجون إلى الحل، وإذا أرادوا الحج يحرمون من منازلهم، والذي يكون ساكناً في مكة وإن لم يكن من أهل مكة حكمه حكم أهل مكة، ولكن الشأن في الذي يأتي حاجاً ثم يأتي بعمرة، ثم يتردد بين التنعيم والكعبة يعتمر مرات كثيرة، هذا هو الذي لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يفعله إلا عائشة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لـ عائشة إلا بعد إلحاح، وقال: (يكفيك طوافك وسعيك عن حجك وعمرتك) ولأنها قارنة، ولكنها رضي الله عنها أرادت أن يحصل لها مثلما حصل لأمهات المؤمنين اللاتي أحرمن وطفن وسعين للعمرة، ثم طفن وسعين للحج، وهي منعها الحيض من أن تطوف وتسعى للعمرة، فأدخلت الحج على العمرة وصارت قارنة.(335/51)
حكم اتخاذ الكلاب لحراسة البيوت
السؤال
ما حكم اتخاذ الكلب للحراسة في البيوت؟
الجواب
لا يجوز ذلك، وهذا يدخل في حديث: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب)؛ لأن الاستثناء جاء في هذه الثلاثة، والبيوت كانت موجودة، وما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إلا كلب حراسة للبيت، بل جاء ما يدل على أن البيت الذي فيه كلب لا تدخله الملائكة.
ولا يقاس ذلك على حراسة الماشية وحراسة الزرع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة) ولم يستثن الرسول صلى الله عليه وسلم غير هذه الثلاثة.(335/52)
حكم بيع الكلب
السؤال
الكلاب التي يجوز اتخاذها، هل يجوز شراؤها وبيعها؟
الجواب
لا يجوز شراؤها ولا بيعها، وإنما يجوز اتخاذها، ومن استغنى عنها تركها لغيره، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثمن الكلب خبيث) فلا تباع الكلاب ولا يكون لها ثمن، ولكن من احتاج إليها أخذها ومن استغنى عنها تركها.
قد يحتج البعض بأنه يأخذ تكاليف التدريب، خاصة في الكلب المتخذ للصيد، وهذا لا يصح، وفائدة التدريب كونه علمه وحصل صيداً بسببه، وكونه علمه لا يقتضي أن يباح ثمنه؛ لأن الكلب أبيح لحاجة، وهو ممنوع من اتخاذه في غيرها، فمن أخذه فهو يعتبر أولى به لاختصاصه به، وأما كونه يجعله من جملة المال المتمول الذي يباع ويشترى فليس كذلك لأن الكلاب ليست من المال الذي يملك، ولكنها تتخذ في الأمور التي وردت بها خاصة.(335/53)
استواء الكلب المعلم وغير المعلم في النجاسة
السؤال
هل الكلب المعلم يختلف عن الكلب غير المعلم من حيث الطهارة والنجاسة؟
الجواب
لا يختلفان، فهما من حيث الحكم بالطهارة والنجاسة سيان؛ ولكن هذا استثني فأبيح اتخاذه من أجل الصيد أو الماشية أو الزرع، وغير ذلك لا يجوز اتخاذه.
وإذا قلنا بالنجاسة فمعلوم أن الكلب إذا ولغ في الإناء يغسل سبع مرات، وسواء في ذلك المعلم وغيره، وإذا عض الصيد فإنه يغسل؛ لكن لا كما يغسل الإناء، فلا يشترط العدد ولا التراب.(335/54)
حكم ما يقطع من البهيمة من الشعر والصوف وهي حية
السؤال
ذكرتم أن ما قطع من حي فهي ميتة، فهل يعم ذلك الشعر ونحوه؟
الجواب
هذا الذي ذكرناه كائن فيما إذا كان المقطوع من اللحم، أما إذا كان شيئاً مما ينبت ويستخلف مرة أخرى مثل الشعر والصوف والوبر، فإن هذا لا يقال: إنه ميتة، ولا يوصف بأنه ميت، بل هذا مباح، وإنما الكلام في العضو يقطع كالرجل واليد والألية والأذن، أو غيرها مما فيه لحم.(335/55)
حكم المقطوع من السمك وهو حي
السؤال
ما حكم المقطوع من السمك وهو حي؟
الجواب
السمك ميتته حلال كما هو معلوم، أي أنه لو وجد ميتاً فهو حلال، فالذي قطع منه يكون حلالاً.(335/56)
شرح سنن أبي داود [336]
يستحب للإنسان أن يوصي بما له وما عليه، لكي يبرئ ذمته من كل الحقوق المالية، وأجاز الشرع لصاحب المال بأن يوصي لغير وارث بالثلث من ماله، واستثني من كل أحكام الوصية الأنبياء؛ إذ لا أموال لهم تورث.(336/1)
ما جاء فيما يؤمر به من الوصية(336/2)
شرح حديث: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الوصايا.
باب ما جاء فيما يؤمر به من الوصية.
حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله حدثني نافع عن عبد الله -يعني ابن عمر - رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)].
أورد أبو داود كتاب الوصايا، والوصايا: جمع وصية، والوصية هي عهد خاص يكون فيما بعد الموت، هذا هو المقصود بالوصية، أن تكون لشيء متعلق بالموت، أو تابع للموت، أو يأتي بعد الموت سواء كان عتقاً أو ثلثاً أو استخلافاً على شيء؛ لأنه كله يتعلق بما بعد الموت.
أما ما يكون في الحياة فلا يدخل في الوصية، لأن المقصود والمراد بها شيء يوصى به لكي ينفذ ويعمل به بعد الموت.
والوصية تطلق على فعل الوصية وعلى الموصى به، يقال: وصية فلان، يعني: هذا الشيء أوصى به فهو موصى به، فيطلق على الفعل وعلى الأمر الموصى به الذي هو موضوع الوصية، والذي عهد به، وهو شيء بعد الموت.
قوله: [باب ما جاء فيما يؤمر به من الوصية].
أي: أن الوصية عند الحاجة إليها وعند وجود ما يقتضيها تكون مطلوبة، لاسيما إذا كان على الإنسان حقوق فإنه يكتب هذه الحقوق التي عليه، حتى إذا مات عرفت الحقوق التي عليه حتى توفى، ويكتب ما له وما عليه، ولكن المهم أن يكتب ما عليه حتى يتخلص من الديون، ومن حقوق الناس، وحتى تعرف وتقضى عنه بعد موته.
والعلماء منهم من قال بوجوب الوصية في حق من كان عنده شيء يريد أن يوصي به، ومنهم من قال: إنها ليست للوجوب وإنما هي على الاستحباب وهم الجمهور، ولكن إذا كان الإنسان عليه حقوق فالوصية فيها متعينة؛ لأن هذا من الطرق التي يتوصل به إلى إبراء الذمة، وإلى التخلص من الديون أو الحقوق التي عليه، ويتعين عليه ذلك ويجب لئلا يكون مفرطاً، ثم تضيع تلك الحقوق فيطالبه بها أصحابها في الدار الآخرة في الوقت الذي ليس فيه إلا الحسنات والسيئات، كما جاء في حديث المفلس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس من لا درهم عنده ولا متاع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وحج، ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، وأخذ مال هذا؛ فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرح عليه، ثم طرح في النار)، فالحقوق التي عليه من ديون أو مظالم ولم يتخلص منها فإنه يوصي بها حتى تعرف، وتوصل الحقوق إلى أصحابها لئلا تثبت عليه ويطالب بها في الدار الآخرة.
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) يعني: أن الذي عليه حق لا ينبغي له أن تمر عليه ليلتان إلا وقد كتب وصيته لئلا يفاجئه الموت، وقد ورد في بعض الأحاديث: (ثلاث ليال)، والمقصود بذلك التقريب، وأنه لا تمضي عليه مدة وجيزة إلا وقد كتب وصيته، قوله: (ليلتين) المقصود من ذلك: أنه عندما يكون في باله أن يوصي فإنه يفكر ويتأمل ويتذكر ما يكون عليه من الحقوق وما يريد أن يوصي به فيوصي به، والمقصود من ذلك: تقليل المدة، وأنه لا يمضي عليه مدة وجيزة إلا وقد كتب وصيته ببيان ما له وما عليه، والمهم بيان ما عليه.
قوله: (ما حق امرئ مسلم) معلوم أن الحكم هنا عام للرجال والنساء، فليس خاصاً بالرجال دون النساء، ولا بالنساء دون الرجال، وإنما هو عام.
والمعنى: ليس من حق المرء المسلم الذي عليه شيء يوصي به أن تمضي عليه ليلتان إلا وقد كتب وصيته.
ومن شروط الوصية: أنها لابد أن تكون مطابقة للشرع، وليس فيها حيف، أو جور، ولا يضر فيها بالورثة أو بأحد من الورثة.
وأما عن وجوب الإشهاد فيها، فالذي يبدو أنه ليس بلازم؛ لأنه لو كتبها بخطه وكان خطه معروفاً فإن ذلك يكون كافياً.(336/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه)
قوله: [حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا يحيى بن سعيد].
مسدد مر ذكره، ويحيى بن سعيد مر ذكره.
[عن عبيد الله].
هو: عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر العمري المصغر وهو ثقة؛ أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني نافع].
نافع مولى ابن عمر وهو ثقة؛ أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله - يعني: ابن عمر -].
عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتنفيذ لما يروي، ومن هذا أنه ما مضى عليه ليلتان إلا ووصيته عنده، وهذا يدل على سرعة مبادرته إلى تطبيق ما جاء به من السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(336/4)
من أحكام الوصية
ما تقدم إذا كان يريد أن يوصي من ماله لأحد من الناس غير الورثة أو لوجوه البر أو ما إلى ذلك، وأما إذا أراد ألا يوصي ويجعل المال كله للورثة فله ذلك.
والوصية -كما سبق- عند الجمهور مستحبة وليست واجبة، فإن أوصى فقد أتى بأمر مستحب، وإن لم يوص فلا شيء عليه.
وله أن يوصي بشيء من ماله من أجل أن يصرف في وجوه البر، وله ألا يوصي، وإن أوصى به فلا شك أن هذا مستحب له؛ لأنه يعود عليه بالأجر، وإن تركه لأولاده إن كانوا بحاجة إليه لأنهم كثيرون والمال قليل فيتركه لهم، ولكل امرئ ما نوى، وقد تكون المصلحة بالوصية، وقد تكون المصلحة في غيرها، على حسب الورثة وحاجتهم، وضعف الورثة وقوتهم؛ لأن الورثة قد يكونون أغنياء كلهم فيوصي والإيصاء طيب، أو يكونون فقراء أو ضعافاً أو صغاراً فإذا ترك الوصية وجعل المال لهم فلكل امرئ ما نوى.
أما عن صيغة الوصية فالمشهور عند سلف هذه الأمة أنهم كانوا يبدءون الوصية بعبارة أو بجملة وهي: (هذا ما أوصى به فلان بن فلان، أوصى بأنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وأن الساعة حق، والجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأوصي بني بأن يتقوا الله، ويصلحوا ذات بينهم، وأوصيهم بما أوصى به إبراهيم ويعقوب بنيه أن لا تموتن إلا وأنتم مسلمون)، جاءت هذه الصيغة وذكرها الشيخ الألباني في إرواء الغليل، وقال: إنها صحيحة أو حسنة، وإن ذلك ثابت عن بعض السلف أنهم كانوا يفتتحون وصاياهم بهذه الجملة.(336/5)
شرح حديث: (ما ترك رسول الله ديناراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد ومحمد بن العلاء قالا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً، ولا درهماً، ولا بعيراً، ولا شاة، ولا أوصى بشيء)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك بعيراً ولا شاة ولا درهماً.
يعني: ما ترك مالاً يورث عنه، ويحتاج إلى أن يوصى به، وأن يكون لأحد دون أحد، لأنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة)، فهو ما ترك شيئاً من المال يوصى به، وأما كونه أوصى بوصايا غير المال فهذا موجود، وكان مما أوصى به صلوات الله وسلامه وبركاته عليه في آخر أيامه عليه الصلاة والسلام، ما جاء عن علي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)، قال علي رضي الله عنه: وهؤلاء الكلمات هن آخر شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعناه: أن علياً رضي الله عنه ما سمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن سمعه يقول: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)، فهذا مما أوصى به في مرض موته وعند وفاته صلى الله عليه وسلم، وقول عائشة: (ولا أوصى بشيء) يعني: مما يتعلق بالمال؛ لأنه جاء عنه: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة)، وهذا يدل على أن الإنسان إذا لم يكن عنده شيء يوصي به فإن الوصية لا حاجة لها.(336/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (ما ترك رسول الله ديناراً)
قوله: [حدثنا مسدد ومحمد بن العلاء].
مسدد مر ذكره، ومحمد بن العلاء بن كريب أبو كريب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قالا: حدثنا أبو معاوية].
أبو معاوية محمد بن خازم الضرير الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
الأعمش سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي وائل].
أبو وائل هو شقيق بن سلمة وهو ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسروق].
مسروق بن الأجدع وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(336/7)
مصارف أموال الأنبياء بعد موتهم
قولها رضي الله عنها: (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً، ولا درهماً، ولا بعيراً، ولا شاة) لا يعارض ما كان له صلى الله عليه وسلم من أراض في خيبر وفدك، فالمقصود: أنه ما ترك شيئاًَ يورث يحتاج إلى أن يوصى به، وما كان له من أموال إنما ينتقل أمرها إلى الخليفة، فهو من يصرفها في الأمور التي كان يصرفها فيها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته بمعنى: أنه ينفق على أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وقرابته؛ ولهذا قال أبو بكر رضي الله عنه: إنما يأكل آل محمد من هذا المال، وذلك في قصة طلب الإرث، فذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة)، ثم قال: إنما يأكل آل محمد من هذا المال.(336/8)
ما جاء فيما لا يجوز للموصي في ماله(336/9)
شرح حديث: (الثلث والثلث كثير)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء فيما لا يجوز للموصي في ماله.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة وابن أبي خلف قالا: حدثنا سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: (مرض مرضاً -قال ابن أبي خلف: بمكة.
ثم اتفقا- أشفى فيه، فعاده رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا رسول الله! إن لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلا ابنتي، أفأتصدق بالثلثين؟ قال: لا، قال: فبالشطر؟ قال: لا، قال: فبالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير، إنك أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة إلا أُجرت بها حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك، قلت: يا رسول الله! أتخلف عن هجرتي؟ قال: إنك إن تخلف بعدي فتعمل عملاً صالحاً تريد به وجه الله لا تزداد به إلا رفعة ودرجة، لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون، ثم قال: اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن مات بمكة)].
أورد أبو داود: [باب فيما لا يجوز للموصي في ماله].
أي: ما لا يجوز للموصى أن يوصي به في ماله، والمراد بيان الشيء الذي لا يجوز أن يفعله من يريد أن يوصي بشيء من ماله أو بماله، وذلك أنه لا يوصي بأكثر من الثلث؛ لأن الوصية بأكثر من الثلث ليست جائزة، وكذلك لا يوصي للوارث لا من الثلث ولا من غير الثلث، فالمقصود من ذلك: بيان الشيء الذي لا يجوز للإنسان أن يوصي به في ماله.
أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه كان مرض بمكة مرضاًً شديداً أشفى فيه وأشرف على الموت، واشتد مرضه، وقوله: [أشفى فيه] كناية عن شدة مرضه، وأنه خشي أن يموت به، ولهذا قال: [إن لي مالاً كثيراً ولا يرثني إلا ابنتي] يعني: لا يرثه بالفرض، وليس معنى ذلك أنه ليس له عصبة فإنه من بني زهرة من قريش، وله أقارب وله عصبة، ولكن في ذلك الوقت ليس له إلا ابنتين، ومعلوم أنه رضي الله عنه عاش ومكث مدة طويلة، وحصل على يديه خير كثير، وفتحت فتوحات على يديه، وكان على إمرة الجيش في القادسية وغير ذلك من الفتوحات التي حصلت على يديه رضي الله عنه وأرضاه، فقد عُمَّر وانتفع به أقوام دخلوا في هذا الدين، وتضرر به آخرون قتلوا وهم كفار في إمارته وفي قيادته لبعض الجيوش في خلافة عمر رضي الله عنه وأرضاه.
(أفأتصدق بالثلثين؟ قال: لا، قال: فبالشطر -أي النصف-؟ قال: لا، قال: فبالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير) معناه: أنه ليس الثلث بقليل؛ لأنه يريد أن يوصي بشيء كثير، فهو لما انتهى إلى الثلث قال: (والثلث كثير) يعني: هذا الذي أذن له في أن يوصي به كثير وليس بقليل.
وهذا يدل على أن الإنسان عندما يوصي بشيء من ماله لا يجوز له الزيادة عن الثلث، وهذا هو الذي أراده المصنف من قوله: [ما لا يجوز للموصي في ماله] بمعنى: أنه لا يجوز له أن يزيد عن الثلث، وإن نقص عن الثلث لا بأس، لكن الذي لا يجوز هو الزيادة على الثلث.
قوله: (إنك أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس).
بين فيه صلى الله عليه وسلم الحكمة من كون الإنسان لا تزيد وصيته عن الثلث إلى الثلثين أو النصف أو ما فوق الثلث، قال: (إنك أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس) يعني: كونك تجعل عندهم شيئاً يغنيهم -سواء كان الذي يرث بالفرض وهما ابنتاه، أو الذي يرث بالتعصيب وهم قرابته الذين يعصبونه- خير من أن تذرهم عالة على غيرهم فقراء، والعائل هو الفقير، قال الله: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:8] يعني: فقيراً فأغناه الله عز وجل، إنك أن تذرهم أغنياء بما تخلفه لهم من المال خيراً من أن تذرهم عالة يسألون الناس بأكفهم، ويمدون أيديهم للناس يستجدون لحاجتهم، ووجود مال لهم يغنيهم عن السؤال خير لك.
(وإنك لن تنفق نفقة إلا أجرت بها، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك) معناه: أن الإنسان حتى في الأمور التي للنفس فيها حظوظ إذا احتسب الأجر عند الله عز وجل فإنه يؤجر على ذلك، بل الأمور الواجبة على الإنسان من النفقات الواجبة من الناس من يحتسب الأجر ويرجو الثواب، ومنهم من يكون غافلاً عن ذلك ولا يفكر، ومن الناس من يمنع الحق الواجب عليه، ولا يخرج إلا عن طريق القاضي أو السلطان، مثل هذا لا يحصل أجراً على النفقة التي ألزم بها من جهة السلطان وهو غير منشرح الصدر لها، والإنسان الذي يؤدي ما هو واجب عليه، وما هو متعلق بحظ نفسه حتى مع أهله وزوجته فإنه يكون مأجوراً على ذلك.
(قلت: يا رسول الله! أتخلف عن هجرتي؟ قال: إنك إن تخلف بعدي فتعمل عملاً صالحاً تريد به وجه الله لا تزداد به إلا رفعة ودرجة).
قال رضي الله عنه: [أتخلف عن هجرتي؟]؛ لأنه كان من المهاجرين، والمهاجرون تركوا أوطانهم لله عز وجل، فهم لا يحبون أن يموتوا في البلد الذي هاجروا منه، وإنما يحبون أن يموتوا في البلد الذي هاجروا إليه، فقال: [أتخلف عن هجرتي؟]، فهو يخشى أن يموت بمكة فيكون مات في البلد الذي هاجر منه، ويحب أن يموت في البلد الذي هاجر إليه، ولهذا جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال في سفر: (اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل وفاتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم)، فهو يريد أن يموت في مكان هجرته، وفي الدار التي هاجر إليها، وقد تحقق ذلك؛ فحصلت له الشهادة، وحصل أن مات في دار هجرته مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكرمه الله بالدفن بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجوار أبي بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فكانوا يكرهون أن يموتوا في الدار التي هاجروا منها وهي مكة.
وهذا عام في كل الذين تركوا أوطانهم، أما في ذلك الزمن فلا هجرة بعد فتح مكة؛ لأنها صارت دار إسلام، ولكن الإنسان إذا هاجر من بلد كافر إلى بلد مسلم فلا شك أن كونه يموت في دار هجرته أحسن من كونه يموت في البلد الذي هاجر منه.
(إنك إن تخلف بعدي فتعمل عملاً صالحاً تريد به وجه الله لا تزداد به إلا رفعة ودرجة).
أخبر صلى الله عليه وسلم أنه إن يخلف ويعيش بعده؛ فإن زيادة عمره يحصل بها زيادة أجر وزيادة ثواب وزيادة عمل، فيحصل رفعة وثواباً عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الإنسان إذا وفق لأن يطول عمره ويحسن عمله فإن ذلك من الخير له، وكونه يطول عمره ويحسن عمله فعلى مر الأيام والسنين يعمل أعمالاً صالحة يؤجر عليها ويثاب.
قوله: (لعلك أن تخلف) يعني: تعيش (فينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون)، وكان أشفى على الموت في ذلك المرض، وقد وقع ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه عاش مدة طويلة، وانتفع به أناس وتضرر به أناس، فأناس دخلوا في الدين الإسلامي على يديه وبقيادة الجيوش التي ذهبت في الجهاد في سبيل الله، ومنهم من مات على الكفر على أيدي المجاهدين في سبيل الله الذين هو على رأسهم؛ فتضرر به أناس وانتفع به أناس كما أخبر بذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، فقد أخبر عن أمر يقع وقد وقع كما أخبر عليه الصلاة والسلام.
[(ثم قال: اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم)].
يعني: كونهم يبقون على ما صاروا عليه من الهجرة، وأن يموتوا في دار هجرتهم، وألا يعودوا إلى البلد الذي هاجروا منه، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الحج يأمر الناس بأن يقيموا ثلاثة أيام ثم ينصرفوا عن دار هجرتهم التي هاجروا منها، إلى الدار التي هاجروا إليها وهي المدينة.
(اللهم أمض لأصحابي هجرتهم) يعني: أنهم يبقون على هجرتهم وأن يموتوا في غير البلد الذي هاجروا منه حتى تتحقق لهم الهجرة.
ثم بعد ذلك قال: (لكن البائس سعد بن خولة).
سعد بن خولة من المهاجرين، قيل: إنه لم يهاجر ومات بمكة، وقيل: إنه هاجر ورجع إلى مكة ومات بها فلم يحصل أن مات في الدار التي هاجر إليها.
ثم قال راوي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص أو الزهري: [يرثي له]؛ لأنه ما حصل له كالذي حصل لغيره من أنه يموت في الدار التي هاجر إليها، بل مات في الدار التي هاجر منها، ومعناه: أنه فاته ما حصل لغيره ممن كملت هجرته ومات في دار هجرته فكان أقل منه.(336/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (الثلث والثلث كثير)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وابن أبي خلف].
عثمان بن أبي شيبة مر ذكره، وابن أبي خلف هو: محمد بن أحمد بن أبي خلف وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا سفيان عن الزهري].
سفيان هو ابن عيينة المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عامر بن سعد].
عامر بن سعد بن أبي وقاص وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو سعد بن أبي وقاص، أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
ومما يلاحظ أن عامر بن سعد هو ابن لـ سعد، وهو يقول: [ليس يرثني إلا ابنتي]، وهذا كان فيما بعد، أما حين أشفى على الموت فلم يكن عنده إلا ابنتين، ولكنه بعد ذلك عاش وولد له.(336/11)
الأسئلة(336/12)
إثم الذين يطعنون في الصحابة
السؤال
من يطعنون في سعد رضي الله عنه هل لهم حظ من قوله صلى الله عليه وسلم: (ويضر بك آخرون)؟
الجواب
لا شك أن لهم نصيباً من هذا، ومعلوم أن هذا لا يختص بـ سعد بل كل من تكلم في الصحابة فإنه يضر نفسه ويجني عليها، كما قال الحافظ ابن حجر لما جاء عند حديث المصراة في فتح الباري، وكان بعض أتباع الأئمة الذين لا يقولون بمقتضى حديث المصراة الذي رواه أبو هريرة قالوا عنه: وأبو هريرة ليس كـ عبد الله بن مسعود في الفقه، وكأنه يغمز له بأنه ليس صاحب فقه كـ ابن مسعود، قال الحافظ ابن حجر: وقائل هذا الكلام إنما آذى نفسه، ومجرد تصوره كاف عن الحاجة إلى بيان فساده.
ولا شك أن كل من يقع في أعراض آحاد المسلمين فإنه قد جنى على نفسه وضر نفسه؛ لأن الوقوع في سلف هذه الأمة وفي خير هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم الواسطة بين الناس وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام الذين نقلوا الكتاب والسنة لا شك أنه من أعظم الجناية من الإنسان على نفسه؛ لأنه يتكلم في خيار الناس، وفي سادات هذه الأمة الذين هم خيرها وأفضلها، ولم يأت أحد بعدهم مثلهم؛ لأن الله تعالى أكرمهم في هذه الحياة الدنيا بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختار الله نبيه للرسالة، واختار له أصحاباً يجاهدون معه، ويتلقون الكتاب والسنة عنه، ويؤدونهما إلى الناس من بعدهم، فهم الواسطة بين الناس وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، وما عرف الناس حقاً ولا هدى إلا عن طريق الصحابة، ومن لم يصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق الصحابة فإنه لا صلة له بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولا علاقة له بالرسول صلى الله عليه وسلم، وصلته بالرسول مبتورة مقطوعة؛ لأن الخير والحق والهدى ما وصل إلى الناس إلا عن طريق الصحابة، والله عز وجل اختاره للرسالة، واختار أصحابة لتحمل الرسالة وتلقيها عنه.
ولهذا قال أبو زرعة الرازي: إذا رأيتم من ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلموا أنه زنديق؛ وذلك أن الكتاب حق، والرسول حق، وإنما أدى إلينا الكتاب والسنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء -أي: الذين يتكلمون في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم- يريدون أن يجرحوا شهودنا، ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة؛ لأن القدح في الناقل قدح في المنقول، فالقاضي إذا جاء عنده شهود يشهدون فالمدعى عليه قدح في الشهود، فهذا الذي شهد به لا يعتبر؛ لأن الشاهد ردت شهادته، ولهذا يقول أبو زرعة: وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة؛ لأن القدح في الناقل قدح في المنقول، فليست القضية قضية أن من تكلم في سعد تضرر، بل من تكلم في آحاد من المسلمين فضلاً عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يضر نفسه.(336/13)
حكم المراثي
السؤال
يقول صاحب العون: [يرثي له] من رثيت الميت مرثية إذا عددت محاسنه، ورثأت بالهمزة لغة فيه، فإن قيل: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراثي) كما رواه أحمد وابن ماجة وصححه الحاكم، فكيف يفعله؟ ف
الجواب
أن المرثية المنهي عنها ما فيه مدح الميت وذكر محاسنه الباعث على تهييج الحزن وتجديد اللوعة، أو فعلها مع الاجتماع لها، أو على الإكثار منها دون ما عدا ذلك، فما رأيكم؟
الجواب
الظاهر أن الحديث ليس من هذا القبيل؛ لأنه قال: [يرثي له]، وما قال: يرثيه، يعني: يتأسف عليه، ويحزن؛ لأنه ما حصل له الذي حصل لغيره، فهذا هو معنى [يرثي له]؛ لأن يرثي له غير كونه يرثيه، فهو هنا يحزن أو يتأسف على الشيء الذي فاته من الخير، فهو بمثابة الفقير الذي فاته الغنى، فيكون هذا فاته ثواب تمام الهجرة.
(والمراد هنا توجعه عليه السلام وتحزنه على سعد؛ لكونه مات بمكة بعد الهجرة منها لا مدح الميت لتهييج الحزن، كذا ذكره القسطلاني).(336/14)
شرح سنن أبي داود [337]
حض الشرع الناس على الصدقة، وجعل أفضلها ما يكون في وقت الصحة في البدن والحرص على المال، وشرع الوصية لما بعد الموت، ويجب أن يكون الوصي أميناً قوياً، وأن يجتهد في عمل كل ما يحفظ مال اليتيم، وإن كان فقيراً فله أن يأكل بالمعروف، وإن كان غنياً فليستعفف.(337/1)
ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية(337/2)
شرح حديث: (أن تصدق وأنت صحيح حريص)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية.
حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله! أي الصدقة أفضل؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح حريص، تأمل البقاء وتخشى الفقر، ولا تُمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في كراهية الإضرار بالوصية] أي: أنه عندما يوصي لا يحصل منه إضرار بأحد، أو قصد لإلحاق الضرر بأحد، وإنما عليه أن يكون عادلاً في وصيته، كما عليه أن يكون عادلاً في جميع تصرفاته.
أورد رحمه الله حديث أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل: أي الصدقة أفضل؟ وهذا يدلنا على حرص أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام على معرفة الأعمال الفاضلة، وحرصهم على معرفة الأفضل، وهذا يدلنا على عنايتهم وحرصهم على معرفة ما هو خير وما هو أفضل من غيره ليأخذوا به وليعملوا به رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبره أن خير الصدقة أن يتصدق الإنسان وهو (صحيح) يعني: في حال صحته لا في حال مرضه، (حريص) في حال حرصه ورغبته، وكونه يأمل الغنى ويخشى الفقر، ويأمل في الحياة ويخشى الفقر؛ لأنه يطمع في الحياة ويرغب فيها، فهو يبقي على ما عنده، وخير الصدقة ما كان وهو في هذه الحال، يعني: كونه يتصدق في حال صحته، وفي حال رغبته في المال، وحرصه عليه؛ لأنه يأمل الحياة ويخشى الفقر، فإذا تصدق وهو في هذه الحال فهذا هو خير الصدقة.
قال: (ولا تمهل) يعني: لا تؤخر حتى إذا مرضت وكادت الروح أن تخرج عند ذلك تفكر في الإنفاق؛ ففي هذه الحال سهل عليه المال ورخص؛ لأنه سينتقل إلى الورثة، فهنا قد يلحق ضرراً بالورثة بأن يعطي عطيات أو يوصي بوصايا، لكن الوصايا كما هو معلوم لا تتجاوز الثلث، وإذا أوصى بشيء زائد عن الثلث فيحتاج الأمر إلى إقرار الورثة، لكن كونه يعطي في حال مرضه وتسمح نفسه وتجود في حال المرض؛ لأنه أيس من الحياة، وكاد أن يفارق الحياة، فقد يدفعه ذلك إلى كونه يضر بالورثة بأن ينفق المال ويتصدق به في حال مرضه بقصد الإضرار، وهذا هو وجه إيراد المصنف هذا الحديث تحت هذه الترجمة، وهي: [باب ما جاء في كراهية الإضرار بالوصية].
قال: (ولا تمهل) يعني: لا تؤخر عن حال صحتك وحال حرصك إلى أن يأتي المرض وتشرف على الموت، وترخص عندك الدنيا، ويرخص عندك المال؛ لأنك لم تعد تطمع في البقاء فيها، فعندها تقول: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان، يعني: يعطي ويتصدق، وسمحت نفسه بالمال، وفي هذه الحال يترتب على ذلك إضرار بالورثة؛ لأنه أنفق المال وحال بينهم وبينه، وهذا يدخل في تصرفات المريض، وتصرف المريض في حال المرض المخوف له أحكام التصرف فيه والإعطاء، وله أحكام تخصه، وحتى التطليق في حال المرض المخوف إن كان طلاقاً بائناً من أجل قصد الحرمان من الإرث قال بعض أهل العلم: إنها ترثه إن كان متهماً بحرمانها، أما إذا كان طلاقاً رجعياً فإن الرجعية زوجة، وتجري عليها أحكام الزوجات، ولا فرق بينها وبينهن ما دامت في العدة، ولكن كونه يطلق طلاقاً بائناً من أجل أن يحرمها، قال بعض أهل العلم: إنه إذا كان تطليقه إياها طلاقاً بائناً من أجل حرمانها من الإرث فإنه يعامل بنقيض قصده، وترث ولا تمنع من الميراث؛ لأن هذا التصرف تصرف في حال مرض الموت، فيعامل بنقيض قصده.(337/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن تصدق وأنت صحيح حريص)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الواحد بن زياد].
عبد الواحد بن زياد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عمارة بن القعقاع].
عمارة بن القعقاع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير].
أبو زرعة بن عمرو بن جرير وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(337/4)
شرح حديث: (لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبي فديك أخبرني ابن أبي ذئب عن شرحبيل عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق بمائة درهم عند موته)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (لأن يتصدق المرء في حياته -يعني: في حال صحته وعافيته- بدرهم خير من أن يتصدق بمائة درهم عند موته) يعني: عندما ييئس من الحياة ويشرف على الموت؛ لأن الأول تصدق بدرهم في حال حرصه على الدنيا، ورغبته في الحياة، وخوفه من الفقر، فإنفاقه درهماً واحداً في حال كون المال عنده غالياً وليس برخيص يحصل فيه الأجر العظيم، وأما إذا أنفق مائة درهم في حال مرضه ويأسه من الحياة، وحال رخص الدنيا والمال عنده؛ فإن ذلك الدرهم أفضل من تلك المائة؛ لأن هذا في حال الرغبة في الحياة، والحرص على المال، وهذا في حال اليأس من الحياة ورخص المال؛ لأنه سيغادر هذه الحياة الدنيا، وإنفاقه قد يكون فيه شيء من الإضرار، وقد يكون ليس فيه إضرار، ولكنه ما فعله إلا لكونه يئس من الحياة.
والحديث في إسناده رجل متكلم فيه، فالحديث ضعيف من أجله.(337/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن أبي فديك].
ابن أبي فديك هو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني ابن أبي ذئب].
ابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شرحبيل].
شرحبيل بن سعد أبو سعد وهو صدوق اختلط بآخره، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود وابن ماجة.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري هو سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث ضعفه الألباني من أجل شرحبيل بن سعد أبو سعد.(337/6)
شرح حديث: (إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبدة بن عبد الله أخبرنا عبد الصمد حدثنا نصر بن علي الحداني حدثنا الأشعث بن جابر حدثني شهر بن حوشب أن أبا هريرة رضي الله عنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية؛ فتجب لهما النا)، قال: وقرأ عليَّ أبو هريرة من هاهنا: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء:12] حتى بلغ: {َذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء:13].
قال أبو داود: هذا -يعني: الأشعث بن جابر - جد نصر بن علي].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل والمرأة ستين سنة في طاعة الله، ثم يحضرها الموت، فيضاران في الوصية، فتجب لهما النار)، ثم قرأ أبو هريرة من قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء:12] حتى بلغ: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء:13]، والمقصود: أن هذا من الإضرار بالوصية.
والحديث ضعفه الألباني من أجل شهر بن حوشب.(337/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة)
قوله: [حدثنا عبدة بن عبد الله].
عبدة بن عبد الله الضبي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[أخبرنا عبد الصمد].
عبد الصمد بن عبد الوارث صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا نصر بن علي الحداني].
نصر بن علي الحداني ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[حدثنا الأشعث بن جابر].
الأشعث بن جابر وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[حدثني شهر بن حوشب].
شهر بن حوشب صدوق كثير الإرسال والأوهام، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[أن أبا هريرة].
أبا هريرة رضي الله عنه مر ذكره في الإسناد السابق.
نصر بن علي ونصر بن علي الحداني صدوق كثير الإرسال والأوهام، أبي داود، وهذا الذي معنا الجد الحداني الجهضمي، أما الحفيد نصر بن علي فهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، والجد صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[قال أبو داود: هذا -يعني: الأشعث بن جابر - جد نصر بن علي].
معناه: أن نصر بن علي الجد يروي عن جده لأمه الأشعث بن جابر.
ومن أوجه المضارة بالوصية: أن يوصي بأكثر من الثلث لشخص من غير الورثة، أو يوصي لأحد من الورثة بالثلث أو بحدود الثلث، فهذا من الإضرار بالوصية.(337/8)
ما جاء في الدخول في الوصايا(337/9)
شرح حديث: (ولا تولين مال يتيم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الدخول في الوصايا.
حدثنا الحسن بن علي حدثنا أبو عبد الرحمن المقري حدثنا سعيد بن أبي أيوب عن عبيد الله بن أبي جعفر عن سالم بن أبي سالم الجيشاني عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي، فلا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم).
قال أبو داود: تفرد به أهل مصر].
أورد أبو داود [باب ما جاء في الدخول في الوصايا] يعني: كون الإنسان يقبل الوصية، أو يطلب أن يكون قائماً بالوصية، والدخول فيها يعني قبولها وكونه يوصى إليه ويقبل، أو يعرض عليه فيقبل، فالمقصود من الدخول: كون الإنسان يصير وصياً، ويقبل أن يكون وصياً، أو يسعى إلى أن يكون وصياً، أو يرغب في أن يكون وصياً.
هذا هو الدخول فيها.
والدخول في الوصية إنما يكون لمن عنده قدرة وأهليه وأمانة وقوة؛ لأن الأمين يحافظ على المال، والقوي يكون عنده قدرة على المحافظة عليه؛ لأنه قد توجد الأمانة مع الضعف، وقد يوجد الضعف مع الأمانة، ولكن إذا اجتمعت القوة والأمانة فذلك الخير.
ولهذا جاء عن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه جعل الأمر شورى في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بينهم سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وكان سعد أميراً لـ عمر على الكوفة، وحصل بينه وبين جماعة من أهل الكوفة شيء من الوحشة، وتكلموا فيه وذموه وعابوه، وشكوه إلى عمر، حتى أنهم تكلموا في صلاته، وهذا يدلنا على أن السلامة من الناس حصولها صعب، فهذا رجل من أهل الجنة يمشي على الأرض، والناس يعلمون أنه من أهل الجنة، ومع ذلك يتكلمون فيه وفي صلاته، وشكوه إلى عمر في صلاته، وزعموا أن رجلاً من أهل الجنة لا يحسن أن يصلي! وهكذا الأشرار والذين عندهم سوء طوية لا يقفون عند حد، ولكنه عزله لما خشي أن يحصل شيء من هؤلاء السفهاء لا تحمد عقباه، فرأى أن المصلحة أن يعزله حتى لا يحصل شيء بسبب هذه الشحناء التي بينهم وبينه، ولكنه عندما اختار هؤلاء الستة، وكان من بينهم سعد خشي أن أحداً يقول: إنه نسي، كيف يعزله من الكوفة ويرشحه للخلافة؟! يعزله من إمارة مدينة، ثم يرشحه للخلافة! فكان من إنصاف وعدل عمر وفضله رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: [إن أصابت الإمارة سعداً فذاك] يعني: فهو أهل لها، [وإن لم تصبه فليستعن به من أمر] يعني: من يكون أميراً يستعين به إذا لم تصله الإمارة.
[فإنني لم أعزله من عجز ولا خيانة] يعني: عن الكوفة.
أورد أبو داود حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا ذر! إني أراك رجلاً ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، فلا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم) يعني: لا تكن أميراً على اثنين أو ثلاثة وذلك لضعفه، ولا يلين مال يتيم أيضاً لضعفه، نعم هو أمين، ولكن فيه ضعف.
وقوله: (أحب لك ما أحب لنفسي) المقصود: كما أني أحب الخير لنفسي أحب الخير لك، ولكن ليس معنى ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يلي أمر أحد، بل هو إمام المسلمين واختاره الله لرسالته، ولكن من الخير لك ألا تلين مال يتيم، وإن كان غيره قد يكون من الخير له أن يلي مال اليتيم، وأن يكون أميراً على أكثر من اثنين حيث يكون عنده الأمانة مع القوة.
إذاً: قوله: (أحب لك ما أحب لنفسي) لا إشكال فيه من ناحية أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريده أن يكون أميراً على اثنين مع أنه إمام المسلمين صلى الله عليه وسلم وهو قدوة المسلمين عليه الصلاة والسلام، فالمقصود من ذلك أنني أحب لك الخير كما أحب الخير لنفسي، وأنت من هذه الجهة لست أهلاً لذلك، فلا تقدمن على الدخول في الوصايا، يعني: أنه لا يقبل أن يكون وصياً لما فيه من ضعف، أما الأمانة فهي موجودة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني أراك ضعيفاً) ثم قال له: (فلا تأمرن على اثنين)، أي: لا يكون أميراً على أحد من الناس، وكذلك أيضاً في حال السفر، فإذا سافر ثلاثة فإنهم يولون واحداً منهم، فلا يكون هو الأمير عليهم وإنما يكون الأمير غيره.
إذاً: الدخول في الوصية أو قبول الوصية، أو كون الإنسان يرغب في أن يكون قائماً بالوصية فيه خطر، فلابد أن يكون عنده القوة مع الأمانة.(337/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (ولا تولين مال يتيم)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا أبو عبد الرحمن المقري].
أبو عبد الرحمن المقري هو عبد الله بن يزيد المقري المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سعيد بن أبي أيوب].
سعيد بن أبي أيوب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن أبي جعفر].
عبيد الله بن أبي جعفر المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم بن أبي سالم الجيشاني].
سالم بن أبي سالم الجيشاني المصري مقبول، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبيه].
أبوه أبو سالم وهو تابعي مخضرم، ويقال: له صحبة؛ أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبي ذر].
أبو ذر جندب بن جنادة رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: تفرد به أهل مصر].
يعني: أن رواته أكثرهم من أهل مصر؛ لأن الأول والثاني والثالث ليسوا من مصر، الذين هم: الحسن بن علي الحلواني وأبو عبد الرحمن المقري المكي وأبو ذر، وأما الباقون فهم من أهل مصر.
والحديث أخرجه مسلم في صحيحه، وأما الراوي الذي طعن فيه الحافظ في التقريب فمردود؛ لأن الحديث أخرجه مسلم، والرجل من رجال مسلم.(337/11)
ما جاء في نسخ الوصية للوالدين والأقربين(337/12)
شرح أثر ابن عباس في قوله تعالى: (إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في نسخ الوصية للوالدين والأقربين.
حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثني علي بن حسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:180]، فكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية الميراث].
أورد أبو داود باب نسخ الوصية للوالدين والأقربين، أي: نسخها بآيات وأحاديث المواريث.
أورد أبو داود الأثر عن ابن عباس في أن قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة:180] الآية، أن الوصية كانت واجبة للوالدين والأقربين، بمعنى: أن الوالدين لهم نصيبهم من الميراث، والأقربين الذين يرثون لهم نصيبهم من الميراث؛ فنسخت تلك آية المواريث، والذين لا يرثون إذا أوصي لهم في حدود الثلث فإن ذلك سائغ، أما إذا كانوا من الورثة فقد أخذوا نصيبهم من الميراث بالفرض الذي فرضه الله عز وجل والذي شرعه الله، سواء كانوا من أهل الفرض أو من أهل التعصيب؛ فنسخت آية المواريث الوصية للوالدين والأقربين، فلا يجوز أن يوصى لوارث، وقد جاء في الحديث: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث).
أما الوصية لغير الوارث من الأقربين غير الوارثين، فهو سائغ في حدود الثلث، والذي يبدو أنه على الجواز لا استحباباً؛ لأنه لو لم يوص فليس عليه شيء في هذا.(337/13)
تراجم رجال إسناد أثر ابن عباس في قوله تعالى: (إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين)
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد المروزي].
أحمد بن محمد المروزي هو أحمد بن محمد بن ثابت بن شبويه وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثني علي بن حسين بن واقد].
علي بن حسين بن واقد صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو ثقة له أوهام أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد النحوي].
يزيد بن أبي سعيد النحوي وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عكرمة].
عكرمة مولى ابن عباس وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(337/14)
ما جاء في الوصية للوارث(337/15)
شرح حديث: (فلا وصية لوارث)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الوصية للوارث.
حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا ابن عياش عن شرحبيل بن مسلم سمعت أبا أمامة رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث)].
أورد أبو داود حديث أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه تحت باب ما جاء في الوصية لوارث، أي: أنها لا تجوز؛ لأن الميراث قد شرعه الله عز وجل وكل يأخذ نصيبه من الميراث؛ فلا يوصى لوارث لا من الثلث ولا من غير الثلث؛ لأن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك لا يجوز بحال لقوله: (لا وصية لوارث)، حتى ولو أجاز الورثة؛ لأن ذلك دخول في شيء منع منه، ولأن هذا فيه إيثار وتقديم لبعض الورثة، ومنهم من أجاز ذلك إذا أجازت الورثة؛ فتصح الوصية بإجازة الورثة.
أورد أبو داود حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث) أي: أعطى كل ذي حق حقه من المواريث التي بينها في كتابه العزيز، وكذلك بينها رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة.
ثم قال: (فلا وصية لوارث) يعني: أنه بعد أن أعطى كل ذي حق حقه من الميراث فلا يوصى للورثة.
وهذا الحديث مما يستدل به بعض الأصوليين على نسخ القرآن بالسنة، وذلك أن قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:180]، حكم ثبت بالكتاب، وقوله: (لا وصية لوارث)، حكم ثبت في السنة، فقالوا: إن هذه الآية نسخت بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث).
والذي يبدو أن القول الأول هو الأولى، وأنه لا يجوز أن يوصى للوارث ولو أجاز ذلك الورثة.
وما جاء نفيه من أنه لا وصية له، يعني: الوصية في حدود الثلث، لكن إذا أوصى بغيره، فإذا أجازه الورثة فلا بأس بذلك، وكما هو معلوم حتى في الحياة فإن التمييز بينهم في العطية لا يجوز، بل يجب التسوية بينهم في العطية، وهنا يوجد تمييز لهم، فالأجنبي له أن يعطيه في حياته، ولكن ليس له أن يعطي أحد أولاده ويحرم الباقين، لكن إذا أعطى واحداً من أولاده يعطي الباقين مثله، ولا عبرة برضاهم أو عدم رضاهم في الحياة وبعد الممات؛ لأنهم حتى لو رضوا فإن النفوس قد لا يوجد فيها ارتياح واطمئنان.(337/16)
تراجم رجال إسناد حديث: (فلا وصية لوارث)
قوله: [حدثنا عبد الوهاب بن نجدة].
عبد الوهاب بن نجدة ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا ابن عياش].
ابن عياش هو إسماعيل بن عياش وهو صدوق يحتج به في روايته عن الشامين، وهذه منها، أخرج له البخاري في رفع اليدين وأصحاب السنن.
[عن شرحبيل بن مسلم].
شرحبيل بن مسلم وهو صدوق فيه لين أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[سمعت أبا أمامة].
أبو أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا سند رباعي، وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(337/17)
ما جاء في مخالطة اليتيم في الطعام(337/18)
شرح أثر سبب نزول قوله تعالى: (ويسألونك عن اليتامى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب مخالطة اليتيم في الطعام.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أنزل الله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152]، و {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء:10] الآية.
انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد؛ فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة:220]، فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه].
أورد أبو داود باب مخالطة اليتيم في الطعام، يعني: أن ذلك سائغ، وأن الإنسان إذا كان عنده يتيم يأكل معه وأراد الولي أن ينفق على اليتيم من مال اليتيم نفسه فإنه يتحرج من ذلك، فله أن يخالطه لكن بحيث يؤخذ من طعام هذا ومن طعام هذا، أو يصرف من نقود هذا ومن نقود هذا كل بحسبه، وكل على قدره، فيؤخذ من اليتيم مقدار ما يستحقه الشخص المفرد، وصاحب البيت ينفق على قدر أهل البيت، ويخلط هذا مع هذا ويشترى الطعام، يعني: تدفع النقود من هذا والنقود من صاحب البيت ثم يشترى الطعام ويطبخ ويأكل الجميع منه، وهذه هي المخالطة، في الأكل، ولما نزل قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10]، عزلوا طعامهم من طعامهم وشرابهم من شرابهم، فصار الطعام لليتيم يعطى منه، وإذا فضل فضلة حبست له حتى يأكلها، أو تنتن فتفسد فلا يستفيد منها لا هو ولا غيره، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة:220] يعني: يعلم الذي عنده إحسان إلى اليتيم، والذي عنده إساءة إلى اليتيم، والذي عنده إصلاح لمال اليتيم، والذي عنده إفساد لمال اليتيم، الله تعالى يعلم ذلك ولا يخفى عليه، ولكن المخالطة لا بأس بها ولا مانع منها، والحرج والمشقة التي تحصل لعزل طعامه من طعامه الله تعالى رفعها وأباح المخالطة، فالمخالطة لا بأس بها ولا مانع منها، والشيء الذي كانوا يفعلونه في الأول سائغ لكن مع العدل، فلا يؤخذ من مال اليتيم إلا على قدر حاجة اليتيم فقط، ويخلط الطعام مع الطعام، ويأكل الجميع من الطعام، ويكون الطعام للجميع، والجميع يستفيدون منه.
وأثر ابن عباس هو في بيان سبب نزول هذه الآية، وأنهم تحرجوا وعزلوا طعامهم من طعامهم، فتعرض للفساد فرخص وأذن لهم بأن يخلطوا طعامهم مع طعامهم وأنزل الله هذه الآية.(337/19)
تراجم رجال إسناد أثر سبب نزول قوله تعالى: (ويسألونك عن اليتامى)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وأخرج له النسائي في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء].
عطاء بن السائب صدوق اختلط، وجرير ممن سمع منه بعد الاختلاط، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.
والحديث في إسناده عطاء بن السائب وقد اختلط، وسماع من سمع منه قبل الاختلاط هو المعتبر، ومن سمع منه بعد الاختلاط فهذا غير معتبر، وجرير ممن سمع منه بعد الاختلاط، والذين سمعوا منه قبل الاختلاط سبعة، أورد الحافظ ابن حجر في آخر ترجمة عطاء بن السائب في تهذيب التهذيب ستة، ويضاف إليهم الأعمش فيكونون بذلك سبعة، وجرير ليس منهم، بل جاء التصريح بأنه سمع منه حديثاً.
والحديث صححه الألباني وابن كثير رحمه الله، وفيه ذكر سبب نزول الآية وهو: أنهم كانوا يتحرجون، وبعد ذلك أذن لهم، والذي يدل عليه الحديث هو مقتضى الآية.
إذاً: سبب نزولها هو هذا الذي كان موجوداً من قبل، والآية صريحة في جواز هذا الذي جاء في هذا الحديث، والحديث صححه الألباني، ولعل له طرقاً أخرى غير الطريق التي فيها جرير عن عطاء بن السائب، والنسائي رواه وفي إسناده من هو من غير السبعة الذين سمعوا قبل الاختلاط مثل جرير.
والذين رووا عن عطاء بن السائب قبل الاختلاط هم: سفيان الثوري وشعبة وزهير وزائدة وحماد بن زيد وأيوب السختياني والأعمش.
راجح السلسلة الصحيحة رقم (660).(337/20)
ما جاء فيما لولي اليتيم أن ينال من مال اليتيم(337/21)
شرح حديث: (كُلْ من مال يتيمك غير مسرف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء فيما لولي اليتيم أن ينال من مال اليتيم.
حدثنا حميد بن مسعدة أن خالد بن الحارث حدثهم حدثنا حسين -يعني المعلم - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم، قال: فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف، ولا مبادر، ولا متأثل)].
أورد أبو داود [باب ما لولي اليتيم أن ينال من مال اليتيم، يعني: هذا الذي يلي مال اليتيم، ويتصرف فيه لمصلحة اليتيم، هل له أن يأخذ شيئاً مقابل هذا العمل الذي يقوم به؟ إذا كان فقيراً فله أن يأكل بالمعروف، وأما إذا كان غنياً فعليه أن يستعفف كما جاء في القرآن: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:6].
(إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم) يعني أنه قائم على شئونه وله مال.
فقال: (كل من مال يتيمك غير مسرف، ولا مبادر، ولا متأثل).
(كل من مال يتيمك) يعني: فيما هو مقابل عملك، معناه: أنك لا تأكل بدون عمل وبدون مقابل حتى تفنيه وتأكله، فمال اليتيم لليتيم، ولكن إذا عملت عملاً في مال اليتيم لمصلحة اليتيم فلك أجرة على هذا، وهذا في حق من يكون فقيراً، أما من كان غنياً فعليه أن يستعفف، ويكون عمله لليتيم مما يرجو به الثواب من الله عز وجل، والله تعالى ميز بين الغني والفقير فقال: (فليأكل بالمعروف)، والحديث أيضاً بين ما يأكله فقال: (كل من مال يتيمك غير مسرف) يعني: في الأكل، بمعنى: لا يتوسع في الأكل.
(ولا مبادر) يعني: مبادر بلوغه، كما قال: {وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء:6] يعني: أنه لا يبادر إلى التصرف في ماله قبل أن يكبر، ثم يذهب عنه المال عندما يبلغ ويسلم له ماله، فلا يصير في يد الولي، فهو ينتهز فرصة وجوده في يده فيبادر إلى الاستفادة منه.
(ولا متأثل) يعني: لا يأخذ قطعة منه فيجعلها رأس مال له أو يجعلها مالاً له، وإنما أبيح له أن يأخذ شيئاً يجعله من جملة ماله ولا يتموله ويتملكه، وإنما يأكل فقط دون أن يتملك، وهذا إذا كان فقيراً.(337/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (كُلْ من مال يتيمك غير مسرف)
قوله: [حدثنا حميد بن مسعدة].
حميد بن مسعدة صدوق، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[أن خالد بن الحارث].
خالد بن الحارث البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حسين -يعني: المعلم -].
حسين المعلم ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده].
عمرو بن شعيب بن محمد، وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ورفع اليدين وجزء القراءة وأصحاب السنن، وجده هو عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو صحابي ابن صحابي، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وأما ما ذكره الخطابي من آثار على أن من أكل من مال اليتيم يؤديه إليه إذا كبر؛ فالصحيح أنه لا يقضيه؛ لأنه أذن له في أكله فأبيح له ولا يقضيه، وهو في مقابل التصرف فيه لمصلحة اليتيم.
قوله: {مَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء:6] المراد به: أنه واجب عليه أن يستعفف، حتى لو قال: أنا صحيح غني، لكني أشتغل في المال فأريد المقابل، لكن الله تعالى أمره بالاستعفاف فعليه أن يستعفف.(337/23)
متى ينقطع اليتم(337/24)
شرح حديث: (لا يتم بعد احتلام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء متى ينقطع اليتم.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا يحيى بن محمد المديني حدثنا عبد الله بن خالد بن سعيد بن أبي مريم عن أبيه عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش أنه سمع شيوخاً من بني عمرو بن عوف ومن خاله عبد الله بن أبي أحمد أنه قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل)].
أورد أبو داود [باب متى ينقطع اليتم] يعني: متى ينتهي اليتم، ويكون الإنسان صار كبيراً تجاوز حد اليتم، ولا يصدق عليه أنه يتيم؟
و
الجواب
بأن يبلغ، والبلوغ يكون بالاحتلام، ويكون بنبات الشعر الخشن حول القبل، ويكون بإتمام خمس عشرة سنة، ولو لم يكن احتلام ولا نبات شعر، هذا هو الذي يكون به البلوغ، وعند ذهاب اليتم وحصول البلوغ يكون الإنسان مكلفاً، ولكن من ناحية التصرف بالمال لابد من الرشد وزوال السفه مع البلوغ؛ لأن الله تعالى قال: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]، فقيد إيصال أموال اليتامى بقيدين: أحدهما: البلوغ، والثاني: الرشد؛ وذلك أنه إذا لم يكن رشيداً كان سفيهاً، ولو كان بالغاً فإنه يضيع المال، ولهذا فإنه يحجر على الشخص من أجل السفه؛ لأن الله تعالى قيد إعطاءه المال بقيدين: البلوغ، وحصول الرشد، وذهاب وزوال السفه، ولهذا يحجر على السفيه في ماله ويعطى منه على قدر حاجته، والباقي يحفظ له.
أورد أبو داود هذا الحديث: (لا يتم بعد احتلام) يعني: الإنسان إذا احتلم خرج من كونه يتيماً؛ لأنه بلغ مبلغ الرجال، أو بلغت المرأة مبلغ النساء، وخرجت من كونها يتيمة، فصارت من أهل التكاليف، وصار القلم الذي كان مرفوعاً يجري بالحسنات والسيئات والمؤاخذة.
(ولا صمات يوم إلى الليل) يعني: كون الإنسان يسكت ويصمت وينذر ذلك، أو يحصل منه الالتزام بالصمت إلى الليل فلا يتكلم، وقوله: (إلى الليل)، لا يعني أنه إذا كان هناك صمت، ولكن قبل الليل أنه يكون سائغاً، ولكن لعل ذلك كان على اعتبار ما كان في الجاهلية أنه يحصل منهم الصمت يوماً كاملاً، فجاء التنصيص إلى الليل لبيان أن هذا من عادة الجاهلية، وأنه لا يسوغ، وأن كون الإنسان يصمت ويمتنع من الكلام ولا يتكلم ولا يذكر الله فليس له ذلك حتى ولو كان إلى قبل الليل.
أما قوله جل وعلا: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26]، فليس فيه دليل، إنما ذاك شيء خاص بها، وهو من شرع من قبلنا.(337/25)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يتم بعد احتلام)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح مر ذكره.
[حدثنا يحيى بن محمد المديني].
يحيى بن محمد المديني صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الله بن خالد بن سعيد بن أبي مريم].
عبد الله بن خالد بن سعيد بن أبي مريم، مستور -بمعنى: مجهول الحال- أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
أبوه مقبول، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن سعيد بن عبد الرحمن بن يزيد بن رقيش].
سعيد بن عبد الرحمن بن يزيد بن رقيش ثقة، أخرج له أبو داود.
[أنه سمع شيوخاً من بني عمرو بن عوف].
هذا مبهم، ولكن فيه المسمى خاله عبد الله بن أبي أحمد، وقد قيل: إنه صحابي، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره جماعة في ثقات التابعين، أخرج له أبو داود.
[قال علي بن أبي طالب].
علي بن أبي طالب رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
وفي إسناد الحديث من هو متكلم فيهم، من قيل فيه: مستور، ومن قيل فيه: صدوق يخطئ، ولكن الحديث له شواهد، وقد ذكر الشيخ الألباني رحمه الله لهذا الحديث شواهد في إرواء الغليل.(337/26)
الأسئلة(337/27)
ضابط السفه
السؤال
ما ضابط السفه؟
الجواب
كونه يبذر ماله ويضيعه، وليس عنده العقل الذي يجعله يحافظ على ماله.(337/28)
كيفية استخراج الثلث من التركة
السؤال
إذا أوصى رجل بالثلث هل يقسم كل شيء مما يملك بالثلث؟
الجواب
يمكن ذلك بقسمة كل شيء، ويمكن بالمعاينة بحيث إنه إذا كان عنده مثلا ً عقار ويعرف الثلث في العمارة، والباقي يعادل الثلثين، وليس بلازم أن كل شيء يخرج منه ثلثه، بل يمكن أن يكون الثلث مشاعاً، ويمكن أن يكون متميزاً، بحيث يعرف أن هذا يساوي كذا، وهذا يساوي كذا، وهذا يساوي كذا، فالثلث يكون متميزاً.(337/29)
حكم الوصية لغير الورثة
السؤال
عندما يوصي المريض لغير الورثة أو لأحد الورثة، هل للموصى له أن يأخذ المال الموصى له في هذه الحالة؟
الجواب
إن كان أكثر من الثلث لغير الورثة فإن هذا يتوقف على إجازة الورثة، وأما الوصية للوارث فلا تجوز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث)، وليس له أن يأخذ، ولا تنفذ الوصية، ويبقى المال للورثة.(337/30)
حكم اختصاص بعض الأبناء بالعطية مقابل الخدمة والرعاية
السؤال
رجل كبير في السن وعنده مال كثير، وأولاده كثيرون لكنهم يعقونه، وبعضهم لا يرد عليه السلام ولا يزوره، ولا يسأل عن والده، وله ولد واحد منهم يبره ويحسن إليه ويخدمه في شيخوخته، فهل يجوز له أن يخص هذا الولد بشيء من المال والحالة هذه؟
الجواب
لا يخصه في الوصية، ولكن يمكن أن يعطيه ويملك مالاً في مقابل خدمته له ومقابل قيامه به في الحياة.(337/31)
حكم الوصية لوارث مقابل الخدمة والرعاية
السؤال
إذا أوصى الرجل لأحد ولديه بقطعة من الأرض لخدمته وعنايته به، فهل يجوز هذا أو لا؟ وإذا لم يجز ذلك فماذا يفعل في هذه القطعة؟
الجواب
إذا أعطاه في الحياة، وكان يستحق مثل ذلك لقيامه به؛ فلا بأس بذلك، لكن الذي ينبغي أن ينجز ذلك في الحياة، والعطية في الحياة سائغة، وكونه يوصي له مقابل عمل لا بأس به، ولا تدخل في الوصية للوارث؛ لأنها مقابل عمل مثل العطية في الحياة، والعطية في الحياة لا تجوز إلا في مقابل عمل، فإذا كانت في مقابل عمل فيجوز ذلك سواء كثر المال أو قل المال، فله أن يعطيه في حياته وله أن يوصي له؛ لأنه ما أوصى له من أجل تمييزه على غيره، وإنما مقابل عمله الذي عمله، فهي مثل الأجرة، وكأنه كان عليه دين ويريد أن يتخلص من هذا الدين، لكن كونه يعطيه في الحياة وينجزه في الحياة هو أولى.(337/32)
حكم من طلق امرأته في مرض ثم شفي منه
السؤال
شخص طلق زوجته طلاقاًَ بائناً في مرض موته بقصد عدم توريثها، ثم برئ من مرضه، فهل تعتبر طالقاً منه؟
الجواب
إذا برئ فلا شك أنها تعتبر طالقاً، والمقصود من الطلاق قد حصل، ولم يلغ الطلاق، ولكن الكلام على النتيجة والغاية التي من أجلها حصل الطلاق؛ أما إذا طلقها في مرض موته، ثم شفي؛ فإنها تبين منه.(337/33)
حكم منع المورث للوارث من الميراث
السؤال
رجل أوصى في مرض الموت فقال: إن ابني فلاناً لا يرث، فما الحكم؟
الجواب
ليس له ذلك؛ لأن الله تعالى هو الذي ورّث، وهو الذي أعطى كل ذي حق حقه، فهو يرثه إلا إن قام به مانع من الموانع المعروفة: الرق، والقتل، واختلاف الدين.(337/34)
حكم الضعيف إن اختير للإمارة
السؤال
إذا كان الشخص ضعيفاً ووضعوه أميراً في سفر، فهل له أن يرفض؟
الجواب
نعم له أن يرفض، ويقول: فلان أولى مني.(337/35)
حكم الوقف بأكثر من الثلث
السؤال
هل يمكن للرجل أن يوقف أكثر من الثلث؟
الجواب
نعم، فإن الوقف في الحياة ليس له حد.(337/36)
حكم الأخذ من مساعدات طلاب العلم
السؤال
إذا كان ولي الأمر يعطي مساعدات مالية لطلاب العلم، فهل الأفضل لي أن آخذ من هذه المساعدات أو أستعفف؟
الجواب
إذا كنت غنياً فاستعففت فلا بأس، وإن كنت بحاجة إليها فخذ، وأما إن كان يعطي كل طالب سواء كان غنياً أو فقيراً وهذا أمر يكون لكل من يقوم بهذا العمل من غير تقييد بالحاجة فله أن يأخذ، وإن استعفف فله أن يستعفف.(337/37)
كتاب الأعلام للزركلي
السؤال
ما رأيكم في كتاب الأعلام للزركلي؟
الجواب
هو كتاب تراجم، لكنه مشتمل على صور، وكتاب كحالة أولى منه.(337/38)
شرح سنن أبي داود [338]
من السبع الموبقات والكبائر المهلكات: أكل مال اليتيم ظلماً، وقد وردت آيات وأحاديث في الترهيب من ذلك، فيجب على ولي مال اليتيم ألا يقرب ماله إلا بالتي هي أحسن، وأن يرجو بقيامه على ماله وجه الله والدار الآخرة.(338/1)
ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم(338/2)
شرح حديثي أبي هريرة وعبيد بن عمير في اجتناب الموبقات
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم.
حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني حدثنا ابن وهب عن سليمان بن بلال عن ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).
قال أبو داود: أبو الغيث سالم مولى ابن مطيع.
حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني حدثنا معاذ بن هانئ حدثنا حرب بن شداد حدثنا يحيى بن أبي كثير عن عبد الحميد بن سنان عن عبيد بن عمير عن أبيه رضي الله عنه أنه حدثه -وكانت له صحبة- أن رجلاً سأله فقال: (يا رسول الله! ما الكبائر؟ فقال: هن تسع -فذكر معناه، زاد-: وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم].
أي: بيان أن ذلك خطير وشديد، وأنه من الكبائر التي حرمها الله عز وجل، وقد جاء في القرآن الكريم بيان خطورته، وكذلك في السنة، وقد جاء في القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10].
وجاء في السنة أحاديث منها هذا الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات) (اجتنبوا) أي: ابتعدوا واحذروا أن تقعوا فيها، ولتكن هي في جانب وأنتم في جانب بحيث لا تقربوها ولا تفعلوا شيئاً منها، وأولها: الشرك بالله عز وجل.(338/3)
عظم ذنب الشرك
الشرك بالله عز وجل هو أظلم الظلم، وأبطل الباطل، وهو الذنب الذي لا يغفره الله عز وجل، وكل ذنب دونه هو تحت مشيئة الله إن شاء عفا عن صاحبه ولم يعذبه وأدخله الجنة، وإن شاء أدخله النار، ولكنه يخرجه منها ويدخله الجنة، ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا من كان كافراً أو مشركاً، فهذا هو الذي يخلد صاحبه في النار، وكل ما دون ذلك من المعاصي وإن كبرت فأمر صاحبها إلى الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] أي: دون الشرك ((لِمَنْ يَشَاءُ))؛ لأنه تحت المشيئة إن شاء غفر الله له ولم يعذبه على ما اقترفه من الكبائر والمعاصي التي هي دون الشرك، وإن شاء عذبه عليها وأدخله النار، ولكنه لا يبقى في النار ولا يخلد فيها كما يخلد الكفار، بل لابد أن يأتي عليه وقت يخرج من النار ويدخل الجنة، فلا يخلد في النار إلا الكفار الذين هم أهلها، ولا سبيل لهم إلى الخروج منها أبداً.
والشرك بالله عز وجل بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، فالله تعالى هو الذي خلق ورزق، وهو الذي يحيي ويميت، فكيف يجعل لله نداً؟! وهذه الأنداد مخلوقة كانت بعد أن لم تكن، فكيف يعبد الإنسان مخلوقاً مثله! أين العقول؟! العبادة إنما تكون لله عز وجل الذي تفرد بالخلق والإيجاد، وهو الذي يجب أن يفرد ويخص بالعبادة، ولا يجعل مع الله شريك في العبادة، بل يجب أن تكون خالصة لوجه الله، كما قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وقال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، فلابد من الإخلاص لله عز وجل، ولابد من إفراد الله بالعبادة، وهذا هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله؛ لأن مقتضاها: ألا يعبد إلا الله، وأن تكون العبادة خالصة لوجه الله، لا شريك له فيها، كما أنه لا شريك له في الخلق والإيجاد والإحياء والإماتة، فلا شريك له في العبادة، بل المتفرد بالخلق والإيجاد هو الذي يجب أن يفرد بالعبادة، ولهذا يأتي كثيراً في القرآن الكريم بيان تفرد الله بالخلق والإيجاد، وأنه هو الذي ينفع ويضر، ويأتي بعد ذلك التنبيه على أن من يكون كذلك فهو الذي يجب أن يعبد وحده لا شريك له، كما قال الله عز وجل: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:60]، ثم قال بعد ذلك: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أي: الذي يتفرد بهذا الخلق والإيجاد هو الذي يجب أن يكون وحده المعبود، فلا يجعل معه آلهة ولا يعبد مع الله غيره، (أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:60] أي: يسوون غير الله بالله.
{أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:61 - 62]، وهكذا يأتي ذكر تفرده بالخلق والإيجاد والتصرف في الكون كيف يشاء، وأنه هو الذي ((يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ))، ويكون المقصود من ذلك الإلزام بأن تكون العبادة لله وحده لا شريك له، ولهذا يقولون: توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية، فمن أقر بالربوبية يلزمه أن يأتي بالألوهية؛ لأنه إذا كان الله هو الخالق وحده، والرازق وحده، وكل ما سواه مخلوق، فكيف يعبد المخلوق؟! وكيف تصرف العبادة للمخلوق الذي كان عدماً فأوجده الله؟! هذا المعدوم الذي أوجده الله يعبد فيكون له نصيب من العبادة أين العقول؟! أين الفهم؟ ولا بد مع إفراد الله بالعبادة أن تكون العبادة مطابقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن كانت على خلاف ذلك كانت من البدع المحرمة التي لا يجوز التعبد لله عز وجل بها؛ لأن الله تعالى يتعبد بما شرع، ولهذا قال بعض أهل العلم في تفسير شهادة أن محمداً رسول الله: هي طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، لا يعبد الله إلا بما شرع عز وجل من الشرع الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا عبد الله، وأخلصت العبادة لله، ولكنها كانت مبنية على بدعة؛ فإنها تكون مردودة على صاحبها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم، وفي لفظ لـ مسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وهو أعم من الذي قبله؛ لأنه يشمل ما إذا كان هو المحدث للعمل الذي عمله مخالفاً للشرع به، أو كان المحدث غيره ولكنه اتبع من أحدثه، فقوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أعم من قوله: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)؛ لأن الأول جزء من الثاني، أي: أن المحدث للعمل الذي عمله، وكذلك الذي لم يحدثه ولكنه تابع المحدث، كل من هؤلاء وهؤلاء الذين عملوا عملاً على غير وفق السنة أعمالهم مردودة عليهم، وهذا هو مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن مقتضى الشهادة بأنه رسول الله أن يتابع، وأن يلتزم بما جاء به عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
إذاً: مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله: ألا يعبد إلا الله، ومقتضى شهادة أن محمداً رسول الله: ألا يعبد الله إلا طبقاً لما شرع رسول الله، كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] فعلامة محبة الإنسان لله عز وجل: أن يكون متبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}، لابد من البينة على الدعوى، وإذا كانت البينة كاذبة تكون الدعوى كاذبة، فإذا قال: إنه يحب الله ورسوله، ولا يطيع الله ورسوله، ولا يعمل بما جاء عن الله ورسوله؛ فهذه الدعوى غير صادقة بل هي كاذبة.
فالدعوى إنما تكون صحيحة إذا قامت البينة عليها، والبينة عليها هي الاتباع، وعلى هذا فلابد من أمرين، وهما: تجريد الإخلاص لله وحده، وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يعبد إلا الله، ولا يعبد الله إلا طبقاً لما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يعبد بالبدع والهوى ومحدثات الأمور، وإنما يعبد بالشرع الذي شرعه الله لرسوله، والذي أنزله الله على رسوله، سواء كان كتاباً أو سنة، هذا هو الذي يتعبد الله به.
ولهذا يلزم علي المسلم أن يكون حريصاً على اتباع الكتاب والسنة، وأن يسأل عما جاء في الكتاب والسنة ليعمل به، وهذا هو الذي قامت عليه الرسالات، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، فكل رسول أرسله الله يدعو قومه الذين أرسل إليهم إلى أن يعبدوا الله وحده وأن يجتنبوا عبادة غيره.
وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ)) أي: أن أي رسول أرسلناه من قبلك نوحي إليه: ((أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)).
إذاً: أظلم الظلم، وأبطل الباطل، وأعظم الذنوب على الإطلاق: الإشراك بالله، وهو صرف حق الله إلى غير الله، كالاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، ودعاء الجن، ودعاء الملائكة، ودعاء الغائبين ممن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، وإنما يسأل الإنسان فيما يقدر عليه، ويطلب من الإنسان الحي ما يقدر عليه، أما أن يطلب من الأموات أشياء، ويطلب من الجن أشياء، ويطلب من الملائكة أشياء، وهذه الأشياء لا يجوز أن تطلب إلا من الله؛ فهذا هو الشرك بالله عز وجل، وإن لم يكن هذا شركاً فما هو الشرك؟! هل الشرك فقط أن يدعى أن السماوات والأرض شارك في خلقهما أحد غير الله؟! لا أحد يقول: إن السماوات والأرض شارك في خلقهما أحد غير الله، والكفار لما بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المتصرف في الكون، ولكنهم مع ذلك كانوا يجعلون معه آلهة أخرى، وتلك الآلهة يزعمون أنها تقربهم إلى الله، والله عز وجل لا يحتاج في عبادته إلى واسطة تكون بينه وبين خلقه، يقول الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، وقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:57]، فالملائكة والأنبياء وغيرهم الذين يدعونهم من دون الله، هؤلاء كلهم يتنافسون في التقرب إلى الله، ويعملون الأعمال التي تقربهم من الله سبحانه وتعالى، فلا يصرف إليهم شيء من العبادة، ولا تصرف العبادة إلا لله عز وجل.
هذا هو الأمر الأول من الأمور السبعة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات).(338/4)
وجوب اجتناب الموبقات من الأعمال
هذه السبع التي أولها الشرك وآخرها قذف المؤمنات كلها من الكبائر، والكبائر كثيرة، وأحسن ما قيل فيها: الكبيرة هي الذنب الذي جعل الله عليه حداً في الدنيا، أو توعد عليه بلعنة أو غضب أو نار أو حبوط عمل، فما كان كذلك فهو من الكبائر، وغيره من الصغائر، وعلى الإنسان أن يجتنب الكبائر ويجتنب الصغائر، ولكن الصغائر إذا لم يصر عليها فإن الأعمال الصالحة تكفرها، قال الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (رمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة، والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهن، ما اجتنبت الكبائر)، فالأعمال الصالحة تكفر الصغائر، ولكن إذا أصر على الصغائر فإنها تلحق بالكبائر؛ لأن الكبائر إذا حصل معها خوف من الله ووجل، وخوف من العقوبات التي تترتب عليها تتضاءل حتى تضمحل وتصبح لا وجود لها، والصغيرة إذا أصر عليها، واستهان بها، ولم يهتم بها الإنسان، ولم يخف من مغبتها؛ تعظم وتضخم حتى تلتحق بالكبائر، ولهذا جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار، فالكبيرة مع الاستغفار تتلاشى وتضمحل، والصغيرة مع الإصرار عليها تضخم وتعظم حتى تلتحق بالكبائر، فلا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار.(338/5)
وجوب اجتناب السحر وبيان خطره
قوله: (والسحر)، السحر هو من أكبر الكبائر، وهو من الكفر، وقد جاء في القرآن بيان أنه كفر، وأن صاحبه ليس له خلاق عند الله عز وجل، وهو: عقد ورقى ينفث فيها، ويحصل بها الضرر بإذن الله عز وجل بهذه الوسيلة المحرمة، والله عز وجل بيده النفع والضر إذا شاء أن يوجد الضر وجد، وإذا شاء أن يسلم منه حصلت السلامة منه، ولكنه عمل محرم، وهو من أكبر الكبائر، وأعظم المصائب، وهو لا يتأتى ولا يحصل إلا عن طريق الكفر، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يعاملون السحرة بالقتل، واعتبروا حدهم القتل.
قوله: (وقتل النفس التي حرم الله) أي: المعصومة التي لا يجوز للإنسان أن يتعدى عليها إلا إذا كان بحق، وذلك بالقصاص، أما في غير ذلك فإن الأصل هو العصمة، ولا يجوز للإنسان أن يقدم على مضرة الإنسان وسفك دمه إلا إذا كان بحق، والحق هو القصاص، فإن قتل عمداً فيقتل قصاصاً، كما قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179].(338/6)
وجوب اجتناب الربا وبيان أنه من الكبائر
قوله: (وأكل الربا)، وهو أن يباع الذهب بالذهب مع التفاضل، كجنيه بجنيهين، أو ذهب رديء بذهب جيد مع اختلاف الوزن؛ لأنه لا بد من التساوي والتقابض في المثلين، فلا فضل الذي هو زيادة هذا على هذا، ولا نسيئة وهو أن يشترى ذهب بذهب ثم يسلم أحدهم ويؤجل الآخر، فلا بد من التماثل، ولا بد من التقابض؛ فلا ربا فضل ولا ربا نسيئة، وربا الفضل: هو الزيادة في أحد العوضين في النوع الواحد كالذهب بالذهب، وربا النسيئة هو التأجيل، بأن يحصل التساوي ولكن بعضه حاضر وبعضه غائب، أو بعض هذا حاضر وبعضه غائب، فلابد أن يكون كله حاضراًَ، وأن يقبض هذا مع هذا، وكذلك الأشياء المتماثلة مثل التمر بالتمر، والشعير بالشعير، والبر بالبر، لا بد من التماثل فيها والتقابض.
فإذا اختلف الجنس بأن بيع ذهب بفضة، أو تمر ببر، فالتفاضل لا بأس به، ولكن لا بد من التقابض، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).
إذاً: التقابض لابد منه في جميع الأحوال، والتماثل لابد منه فيما إذا كانا جنساً واحداً، والتقابض لا بد منه إذا كانا جنساً واحداً، وإذا كانا جنسين فلا بأس بالتفاضل لكن بشرط التقابض.
أما بالنسبة للأثمان فكون الإنسان يشتري تمراً بفضة أو بذهب يجوز، وإن كانت هذه كلها ربوية، إلا أنها لما كانت أثماناً فلا بأس بأن يكون الثمن حاضراً والمثمن غائباً، أو المثمن حاضراً والثمن غائباً، فتعجيل الثمن وتأجيل المثمن -مثل السلم الذي جاء جوازه- لا بأس به.
والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] يكتب؛ لأن الذهب والفضة أثمان، وكذلك الأوراق النقدية أثمان، فلا يقال: إنه جنس بآخر، فلا بد فيه من التقابل.
وأخذ الربا حرام سواء أكل أو أخذ عن طريق الربا، أو بني به بيت، أو اشتريت به سيارة، كل ذلك حرام، ولكنه عبر بالأكل -وإن كانت جميع أوجه الانتفاع ممنوعة ومحرمة- لأن الأكل هو الغالب في الاستعمال بين الناس؛ لأنهم يأكلون من المال الذي يحصلونه، ويعتمدون على المال الذي يحصلونه في القوت، فليس الأمر مقصوراً على الأكل، بل إذا أخذ الربا واشترى به سيارة أو مسكناً أو لباساً فهو حرام، ولكنه عبر بالأكل لأنه أعم وجوه الانتفاع.
قوله: (وأكل مال اليتيم)، المقصود به أن يأخذ الإنسان مال اليتيم سواء اشترى به لباساً أو سيارة أو أي شيء، فصاحبه مرتكب كبيرة، ولكنه عبر بالأكل أيضاً لأنه أعم وجوه الانتفاع، وأكثر وجوه الانتفاع، وإلا فالحكم يعم جميع وجوه الانتفاع.
قوله: (والتولي يوم الزحف) أي: عند التقاء المسلمين بالكفار في سبيل الله، ثم يفر؛ لأن هذا يسبب الهزيمة للمسلمين، وينتج عنه ضعفهم أمام عدوهم.(338/7)
قذف المحصنات الغافلات المؤمنات من الكبائر
قوله: (وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) أي: قذفهن بالزنا، والمحصنات هن العفيفات، والإحصان يأتي ويراد به العفة، ويأتي ويراد به حصول الزواج، ولهذا قال الله عز وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:24] فقوله: ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ)) أي: المتزوجات، ومعنى الآية: أنه لا يجوز للإنسان أن يتزوج بامرأة ذات زوج ((إِلَّا مَا مَلَكَتْ))، فإن المرأة التي تسبى وهي ذات زوج يبطل زواجها بزوجها الأول، فيحل للإنسان أن ينكحها ولو كانت ذات زوج؛ لأن الزواج الأول ذهب، وملك اليمين حل محله، فلا يجوز الزواج بالمحصنات، ويستثنى من ذلك ذات الزوج الكافر التي سبيت وهي كافرة، وسواء بقيت على كفرها أو أسلمت فإنه تنقطع صلتها بزوجها الأول، ويحل لمالكها ومن وقعت في سهمه أن يطأها على اعتبار أنها ملك يمين، كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5 - 6]؛ لأن قضاء الشهوة لا يحل إلا بطريقين اثنين: الأول: الزوجة.
والثاني: الأمة التي يملكها الإنسان، وغير ذلك لا يجوز {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7]، فكل شيء وراء الزوجة وملك اليمين من العدوان، حتى العادة السرية؛ لأنها مما وراء ذلك وداخلة في قوله: ((فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ))، فكل شيء غير الزوجة وملك اليمين محرم، وهو من العدوان.
فالإحصان يأتي بمعنى العفة كما يأتي في القذف، ويأتي بمعنى الزواج والتزوج؛ ولذا فإن الزاني المحصن يرجم وإن لم يكن عنده زوجة حين زنى، ولكنه سبق أن تزوج، واستمتع بالطريق المشروع بالزواج، فيقال له: محصن أو محصنة، لكن الإحصان عندما يأتي فيما يتعلق بالقذف فإن المراد به العفيفات.
وليس المقصود قذف النساء فقط دون قذف الرجال، بل قذف الرجال أيضاً مثل قذف النساء، قذف المحصنين العفيفين مثل قذف العفيفات، ولكنه جاء التعبير بالمحصنات لأن إلصاق هذا العيب بهن أخطر وأشد من إلحاقه بالرجل؛ لأنه يترتب على زنا المرأة إفساد الفراش، وإلحاق الولد بغير أهله، وربما ينتفي منه بلعان، فيكون في ذلك إفساد للفراش واختلاط الأنساب، وأن يكون في البيت من ليس من أهله، فلذلك جاء التنصيص على المحصنات، وإلا فإن المحصنين مثلهن، ولكن لبيان أن قذف النساء أخطر وأعظم لما يترتب عليه من تلويث للفراش، واختلاط الأنساب، وإلحاق من ليس من البيت بأهل البيت بسبب هذه الجريمة، وبسبب هذا الأمر المنكر؛ نص على (المحصنات المؤمنات الغافلات) أي: اللاتي لم يقعن في الريبة، ولا في الأمر المحرم، ومع ذلك تقذف وهي بريئة.
وقوله: (المؤمنات) هذا قيد؛ أي أن هذا الحكم إنما هو في حق العفيفات المؤمنات، وقد عرفنا أن الحكم لا يختص بالنساء وقذفهن، بل قذف الرجال الذين هم عفيفون من الكبائر، كما أن قذف المحصنات من الكبائر.(338/8)
عدم اختصاص الكبائر بما جاء في الحديث
وهذه السبع جاءت في هذا الحديث، ولا يعني ذلك أن الكبائر محصورة فيها، فإن الكبائر أكثر من ذلك، وكل ما جاء من أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن هذا العمل كبيرة فإنه يلحق بها، ولهذا ذكر العلماء أكثر من هذا العدد، أخذوه من الأحاديث ومن الآيات الكريمة، والإمام الذهبي رحمه الله ألف كتاباً في الكبائر أوصل الكبائر فيه إلى سبعين كبيرة، وجعل آخر الكبائر سب الصحابة؛ لأن سب الصحابة من أكبر الكبائر؛ لأن الصحابة هم الذين جاء عن طريقهم الكتاب والسنة، وهم الواسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما عرف الناس حقاً ولا هدى إلا عن طريق الصحابة، والله تعالى اختار نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم للرسالة واختار له أصحاباً أوجدهم في زمانه أكرمهم الله بصحبته، وشرف أسماعهم بسماع حديثه وصوته صلى الله عليه وسلم، ومتع أبصارهم بالنظر إليه؛ فحصل لهم ما لم يحصل للناس، وهم الذين تلقوا الكتاب والسنة، وما عرف الناس كتاباً ولا سنة إلا عن طريق الصحابة، فكبيرة سب الصحابة هي الكبيرة المتممة للسبعين في كتاب الذهبي.(338/9)
شرح الزيادة الواردة في حديث عبيد بن عمير
ثم أورد أبو داود حديث عبيد بن عمير بن قتادة الليثي وفيه زيادة كبيرتين وهما: (وعقوق الوالدين المسلمين) عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، والله تعالى يقرن الإحسان إلى الوالدين بحقه سبحانه وتعالى، وعندما يأتي الأمر بالعبادة يأتي مع ذلك الوصية بالوالدين، قال الله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] أي: وأحسنوا بالوالدين إحساناً، وذلك لأهمية البر بالوالدين، وخطورة عقوقهما؛ لأنهما السبب في وجودك، وهما اللذان تعبا من أجلك حتى بلغت مبلغ الرجال، فإحسانهما عليك عظيم، فإذا قابلت الإحسان بالإساءة فهذا يدل على شدة اللؤم، وعلى خبث الطبع.
قوله: (واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً).
المحرمات في كل وقت وفي كل حين محرمة، ولكنها في المكان المقدس أخطر؛ لأن المعصية في الحرم أشد من المعصية في غير الحرم، لأن المعاصي في الزمان الفاضل والمكان الفاضل أعظم منها في غيره، والمعاصي لا تتضاعف بكمياتها بأن تكون السيئة في الحرم بسيئتين أو ثلاث أو عشر، ولكن السيئة في الحرم أعظم من حيث الكيف، ومن حيث الخطورة، أي أنها تضخم وتعظم، والسيئة في الحرم أعظم من السيئة في غير الحرم؛ لأن من يعصي الله في حماه وفي حرمه ليس كالذي يعصيه في مكان آخر، وإن كان الكل معصية لله عز وجل لكن يزداد الأمر خطورة إذا كان في المكان المقدس.
وكذلك ما يختص بالحرم مثل الصيد فلا يجوز الصيد في الحرم، ولا يجوز قطع الشجر الذي نبت بدون سبب من الناس، أما ما يزرعه الناس لحاجتهم ومصالحهم فلهم أن يقطعوه، فإذا زرعوا زرعاً أو علفاً لبهائمهم فإنهم يقطعون الذي زرعوه ويعلفونه لبهائمهم، ولكن الشجر الذي نبت من دون فعل الآدميين ليس لهم أن يقطعوه.
وقوله: (قبلتكم أحياء وأمواتاً)، هذا يدل على أن الناس عندما يموتون يوجهون إلى القبلة؛ لأنه قال: (قبلتكم أحياء وأمواتاً) أي: في حال حياتكم تتعبدون وتؤدون الصلاة وتتجهون إلى القبلة، وفي حال الموت يوجه الميت إلى القبلة، وعندما يدفن في قبره يكون وجهه إلى القبلة وليس إلى جهة أخرى.(338/10)
تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة في اجتناب الموبقات
قوله: [حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني].
أحمد بن سعيد الهمداني صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن بلال].
سليمان بن بلال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثور بن زيد].
هو ثور بن زيد الديلي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الغيث].
هو سالم مولى ابن مطيع وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(338/11)
تراجم رجال إسناد حديث عبيد بن عمير في اجتناب الموبقات
قوله: [حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني].
إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا معاذ بن هانئ].
وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا حرب بن شداد].
حرب بن شداد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا يحيى بن أبي كثير].
هو يحيى بن أبي كثير اليمامي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الحميد بن سنان].
عبد الحميد بن سنان مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن عبيد بن عمير].
عبيد بن عمير ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من ثقات التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عمير بن قتادة الليثي وهو صحابي، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
والألباني صحح الحديث، فلعل له شواهد.(338/12)
ما جاء في الدليل على أن الكفن من جميع المال(338/13)
شرح حديث استشهاد مصعب بن عمير في أحد وتكفينه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الدليل على أن الكفن من جميع المال.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن خباب رضي الله عنه قال: (مصعب بن عمير رضي الله عنه قتل يوم أحد ولم تكن له إلا نمرة، كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا رجليه خرج رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر)].
أورد أبو داود: باب ما جاء في الدليل على أن الكفن يكون من جميع المال، أي: أن الميت إذا مات فإن كفنه ومئونة تجهيزه مقدمة على كل شيء في ماله، بمعنى: أنه ليس هناك ميراث ولا وصية؛ كل هذه تؤخر، ويكون المقدم هو كفنه وما يلزم لتجهيزه، هذا هو المقصود بالترجمة، فإن كان المال كثيراً فيؤخذ منه، وإن كان المال قليلاً جداً وما يكفي إلا للكفن؛ فإنه يكون للكفن، وليس هناك ميراث ولا وصية؛ لأنه لم يبق لهم مجال؛ لأن الكفن مقدم، ولأن مئونة تجهيزه وستر عورته مقدمة في ماله.
وقد أورد أبو داود حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه أن مصعب بن عمير لما استشهد لم يجدوا له إلا نمرة، إن غطوا بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطوا بها رجليه بدا رأسه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر) أي: غطوه بهذا النبات، واجعلوه غطاء له، فهذا يدل على أن الكفن مقدم؛ لأنهم ما وجدوا له إلا هذا يكفن به، فدل هذا على أن الكفن يؤخذ من أصل المال، وأنه المقدم على غيره، فإن كان المال كثيراً أخذ منه ما يلزم للتجهيز، وإن كان قليلاً لا يكفي إلا للتجهيز أخذ للتجهيز، ولا يقدم عليه أي أمر من المستحقات التي تؤخر.
والشهيد يكفن في ثيابه التي مات فيها، ولا يغسل.(338/14)
تراجم رجال إسناد حديث (غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري وهو ثقة فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي وائل].
هو شقيق بن سلمة وهو ثقة مخضرم مشهور بكنيته، أخرج له أصحاب الكتب الستة، ويأتي ذكره بكنيته كثيراً، وهو مشهور بها، ويأتي ذكره باسمه، ومعرفة كنى المحدثين من أنواع علوم الحديث، وفائدة معرفته: ألا يظن الشخص الواحد شخصين إذا ذكر بكنيته مرة وباسمه مرة، فإن الذي لا يعرف ذلك يظن أن هذا غير هذا، ولكن من يعرف أن أبا وائل كنية لـ شقيق، فإذا وجد شقيقاً في إسناد، ووجد أبا وائل في إسناد آخر يقول: هذا هو هذا، ولا يلتبس عليه ويظنه شخصين مع أنه شخص واحد.
[عن خباب بن الأرت].
هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(338/15)
ما جاء في الرجل يهب الهبة ثم يوصى له بها أو يرثها(338/16)
شرح حديث (قد وجب أجرك ورجعت إليك في الميراث)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يهب الهبة ثم يوصى له بها أو يرثها.
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا عبد الله بن عطاء عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة رضي الله عنه: أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالت: (كنت تصدقت على أمي بوليدة، وإنها ماتت وتركت تلك الوليدة، قال: قد وجب أجرك، ورجعت إليك في الميراث، قالت: وإنها ماتت وعليها صوم شهر، أفيجزئ -أو يقضي- عنها أن أصوم عنها؟ قال: نعم، قالت: وإنها لم تحج، أفيجزئ -أو يقضي- عنها أن أحج عنها؟ قال: نعم)].
أورد أبو داود رحمه الله باباً في الرجل يهب الهبة ثم يوصى له بها أو يرثها، أي: ما الحكم في ذلك؟ وقوله: (الرجل)، ليس المقصود تخصيص الرجال بالذكر، وإنما المقصود أن الكلام يكون مع الرجال غالباً، مع أن سبب الحديث هو امرأة، فهي التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المسألة، فذكر الرجل لأن الخطاب في الغالب يكون للرجال.
فإذا أعطى إنسان عطية، أو وهب هبة لإنسان، ثم مات ذلك الإنسان وورثه المعطي، فإن رجوعها إليه بالميراث أو بالوصية لا بأس به، وهو مأجور على عطيته، ولكن الله تعالى ملكه إياها بأن ورثها أو أوصي له بها حيث جازت الوصية له، أما إذا لم تجز الوصية له كأن يكون وارثاًَ، فإن ذلك لا يسوغ إلا بإجازة الورثة على قول بعض أهل العلم.
وقد أورد أبو داود حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه: أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (إني تصدقت على أمي بوليدة) أي: جارية ملكتها إياها، فماتت، فهي تسأل عن هل ترثها مع أنها هي التي أعطتها؟ (قال: قد وجب أجرك) على الله من أجل العطية والهبة (ورجعت إليك في الميراث) أي بأن ورثتيها، فهذا شأن الأموات إذا ماتوا يرثهم أقرباؤهم.
ولو كان هذا المال الذي ورثه الميت جاء عن طريق الوارث فإن الوارث أحسن إلى الميت بأن أعطاه في حياته تلك العطية، ولما مات فإن الملك ينتقل من المورث إلى الوارث، ولا بأس أن ينتقل مثل ذلك إلى من حصل منه الذي هو المعطي؛ لأنه قال: (قد وجب أجرك) أي: كونك أعطيتها حصل لك الأجر على العطية، ولكن وصلت إليك بالإرث، فإذا تصدق الإنسان بصدقة أو أعطى عطية، ثم مات من تصدق عليه وهو وارث له، أو وهبه؛ فإن ملكه لذلك الذي خرج منه حق وسائغ ولا بأس به، ولكن الذي لا يسوغ هو أن يشتري الإنسان صدقته ممن تصدق عليه؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عمر رضي الله عنه قال: حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه وظننت أنه يبيعه برخص، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تشتره ولو أعطاكه بدرهم)؛ لأن الإنسان إذا تصدق على إنسان ثم جاء ليشتري منه فقد يستحي فلا يأخذ حقه كاملاً؛ لأنه في الأصل محسن إليه، فيكون في ذلك مجاملة، وقد يخجل من أن يعامله معاملة الناس الآخرين، فمنع من هذا، أما إذا وصل إليه عن طريق الميراث أو الوصية والموصى له غير وارث وكان في حدود الثلث، فهذا هو الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (قد وجب أجرك وردها عليك الميراث).
قوله: (قالت: وإنها ماتت وعليها صوم شهر، أفيجزئ أو يقضي أن أصوم عنها؟ قال: نعم)، دل هذا على أن الإنسان إذا مات وعليه صوم، سواء كان ذلك الصوم واجباً بأصل الشرع كصوم رمضان، أو واجباً بإيجاب الإنسان على نفسه كالنذر؛ فإن غيره يصوم عنه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه)، فصوم النذر الإنسان أوجبه على نفسه، وصوم رمضان أوجبه الله عليه، فإذا كان قد أفطر لعذر كالمرض أو السفر، وبعد ذلك شفي من مرضه ولم يحصل منه الصيام، فلوليه أن يقضي عنه، أما إذا كان قد أفطر رمضان لمرض واستمر معه المرض حتى مات؛ فإنه لا قضاء عليه؛ لأنه لم يتمكن من القضاء، أو مرض في رمضان ومات فيه، فإن هذه الأيام التي أفطرها لا قضاء عليه فيها، وإنما القضاء على من تمكن من القضاء بحيث خرج رمضان وشفي بعد رمضان، ولم يحصل منه القيام بالواجب، فهذا هو الذي يقضى عنه.
وقوله: (قالت: وإنها لم تحج أفيجزىء أو يقضي عنها أن أحج عنها؟ قال: نعم).
كذلك أيضاً سألت عن الحج فقالت: (وإنها لم تحج أفيجزئ أن أحج عنها؟ قال: نعم)، فدل هذا على أن الحج أيضاً تدخله النيابة، وأن الإنسان يمكن أن يحج عن غيره.(338/17)
تراجم رجال إسناد حديث (قد وجب أجرك ورجعت إليك في الميراث)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
زهير بن معاوية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن عطاء].
عبد الله بن عطاء صدوق يخطئ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن بريدة].
هو عبد الله بن بريدة بن الحصيب وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(338/18)
الأسئلة(338/19)
حكم لبس ثياب الإحرام من المدينة
السؤال
هل يجوز للحجاج الذين يذهبون من المدينة إلى مكة أن يلبسوا الإحرام من مساكنهم في الفندق؟
الجواب
يجوز ذلك، فإذا أراد الحاج وهو بالمدينة أن يذهب إلى مكة فله أن يستعد للإحرام وهو في منزله حيث يكون على سعة ومهل، فيغتسل ويتجرد من المخيط، ويلبس الإزار والرداء، ويطيب رأسه ولا يطيب ثيابه، ولكنه لا ينوي الإحرام إلا إذا جاء إلى الميقات؛ لأن الإحرام هو النية، وأما لبس الإحرام فليس إحراماً، فالإنسان عندما يلبس إزاره ورداءه وهو في المدينة له أن يغطي رأسه حتى يصل إلى الميقات؛ لأنه ما أحرم إلى الآن، وهذا استعداد للإحرام وليس هو الإحرام؛ لأن الإحرام هو النية، فإذا لبس إزاره ورداءه فله أن يجعل رداءه فوق رأسه لأنه لا يقال له محرم حتى ينوي ويلبي، وعند ذلك لا يغطي رأسه.
إذاً: الاستعداد والتهيؤ للإحرام لا بأس أن يكون من المنزل بالمدينة؛ لأن الماء متوافر والدفء متوافر على راحة ومهل، فيغتسل ويلبس إزاره ورداءه فإذا جاء إلى الميقات ينوي ويلبي.(338/20)
حكم من انتقض وضوءه في طواف الإفاضة
السؤال
كنت حاجاً في سنة من السنوات الماضية، وفي طواف الإفاضة انتقض وضوئي إما في الشوط الثالث أو الرابع، ولكثرة الزحام لم أتمكن من الوضوء، فأكملت الطواف بدون وضوء، فماذا علي؟
الجواب
هذا من سنوات، وكيف لا يسأل الإنسان عن الشيء في وقته حتى يتدارك، وإنما يسأل عنه بعد أن مضى وقت طويل! هذا من الغلط، والإنسان عليه أن يسأل عما أشكل عليه في الحج في وقته؛ لأنه إذا نبه يتدارك، لكن أن يمضي عليه وقت طويل ثم بعد ذلك يسأل فهذا غلط.
أما من انتقض وضوءه في الطواف ولم يتوضأ، فما طاف طواف الإفاضة، وطواف الإفاضة باق في ذمته، ويمكن أن يتدارك الآن ولو مضى على ذلك وقت طويل؛ لأن طواف الإفاضة ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به، فيمكنه أن يأتي به الآن عندما يذهب إلى مكة معتمراً، فبعد أن يطوف ويسعى ويقصر للعمرة يطوف طواف الإفاضة الذي كان عليه فيما مضى، وإن كان متزوجاً وقد وطئ زوجته فإنه يجب عليه أن يذبح شاة؛ لأنه جامع بعد التحلل الأول، لأنه لما حلق رأسه ورمى الجمرة تحلل التحلل الأول، فيبقى عليه التحلل الثاني، فإذا جامع قبل التحلل الثاني فإنه يلزمه أن يذبح شاة في مكة، وتوزع على فقراء الحرم، هذا إن كان متزوجاً، وإن كان غير متزوج فعليه أن يطوف طواف الإفاضة؛ لأنه ركن من أركان الحج، فيأتي به ولو مضى عليه وقت طويل.(338/21)
حال حديث سجود النبي صلى الله عليه وسلم على الحجر الأسود
السؤال
في الحديث الذي صححه الشيخ الألباني رحمه الله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحجر الأسود ويسجد عليه)، فكيف يكون السجود عليه؟
الجواب
لا أعرف صحة السجود عليه، وإنما الذي ثبت وجاء في الأحاديث الكثيرة عنه وعن أصحابه: أنهم كانوا يقبلونه، والسجود إذا ثبت فمعناه: أنه يضع جبهته عليه، هذا إذا ثبت.(338/22)
حكم التلبية ورفع الصوت بها
السؤال
قال صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال)، رواه الخمسة، وصححه الحافظ ابن حجر والألباني، فهل هذا الحديث يدل على وجوب التلبية، وعلى وجوب رفع الصوت بالتلبية لأن الأمر يقتضي الوجوب؟
الجواب
المشهور عند جماعة من أهل العلم أن التلبية ليست من الواجبات، وإنما هي من الأمور المستحبة، والإهلال هو الإحرام، والإنسان عندما يحرم يقول: لبيك عمرة؛ لأنه ينوي ويذكر ما أحرم به، فإن كان معتمراً بعمرة متمتعاً يقول: لبيك عمرة، وإن كان مفرداً يقول: لبيك حجاً، وإن كان قارناً قال: لبيك عمرة وحجة، والإنسان يهل ويرفع صوته ليتبين له ولغيره النسك الذي دخل فيه، ويحصل به التعييناً، فالإهلال هو عندما يدخل في النسك فينوي بقلبه ويتلفظ بلسانه بالشيء الذي نواه؛ لأن الحج فيه أنساك، فكونه ينوي واحداً منها ويظهره قد جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الأعمال الأخرى فلا يجوز التلفظ بنيتها، فلا يقول الإنسان: نويت أن أصلى الظهر أربع ركعات، أو نويت أن أصلي الفجر ركعتين، أو نويت أن أطوف، أو نويت أن أتصدق، أو نويت أن أصلي النافلة؛ فهذا كله لا يجوز، ولكن الحج جاء فيه جواز أن يظهر الإنسان ما نواه ويتلفظ به؛ لأنه ثلاثة أنساك، فيظهر ويبين لنفسه ولغيره النسك الذي دخل فيه.(338/23)
حكم توكيل البنك الإسلامي في ذبح الهدي
السؤال
هل يجوز للحاج أن يودع ثمن الهدي في البنك عوضاً عن أن يذبح بنفسه؟
الجواب
نعم يجوز ذلك؛ لأنك عندما تدفع للبنك الإسلامي للتنمية فهو وكيل عنك، فكأنك أعطيت إنساناً نقوداً وقلت له: اشتره لي ذبيحة واذبحها يوم العيد أو يوم أحد عشر أو اثني عشر أو ثلاثة عشر، فهذا سائغ وجائز، ولا يقال: إن الإنسان قد ساق الهدي، فلا يقال: إن من أحرم بعمرة أو بحج وعمرة يجب عليه الهدي؛ لأن الهدي إنما يجب على القارن والمتمتع، وأما المفرد لا هدي عليه، فالإنسان إذا أعطى البنك لينوب عنه لا يعتبر ساق الهدي، وعليه فلا يحول إحرامه إلى عمرة بأن يفسخ إحرامه بالقران أو الإفراد، فهذا سائغ، والقارن عليه هدي ولا يعتبر بهذا أنه ساق الهدي، فيبقى على إحرامه؛ لأن هذا توكيل، فكأنك وكلت إنساناً يوم العيد أن يشتري لك ذبيحة ويذبحها، ولا بأس بذلك.(338/24)
حكم من نسي التلبية من الميقات
السؤال
من نسي التلبية من الميقات ولم يتذكرها إلا بعد أن ابتعد عنه كيلو تقريباً، ولا يستطيع الرجوع، فما الحكم؟
الجواب
التلبية ليست بلازمة، وإنما المهم هو النية، وكون الإنسان نوى بقلبه الدخول في النسك وإن لم ينطق فإن هذا يكفيه؛ لأن النطق ليس بلازم ولا واجب، وإنما الواجب هو النية التي في القلب، فالإنسان ينوي بقلبه أنه دخل في الإحرام، وعند ذلك يحرم عليه بهذه النية كل ما كان حلالاً له قبل أن ينوي؛ لأن معنى الإحرام: هو الدخول في النسك، وقيل له: إحرام؛ لأن الإنسان بدخوله في النسك حرمت عليه أشياء كانت حلالاً له قبل أن يدخل في النسك، فقد كان يحل له أن يصيد الصيد، -أي: في غير المدينة؛ لأنه لا يجوز الصيد فيها- ويحل له أن يأخذ شاربه، ويقص أظفاره، ويلبس المخيط، ويغطي رأسه، فإذا دخل في النسك حرمت عليه هذه الأمور كلها، فقيل له: إحرام، لأنه حرم عليه بالإحرام أمور كانت حلالاً له قبل أن يدخل في الإحرام.
إذاً: الركن هو الدخول في النسك، وتلفظه بما نواه من حج أو عمرة أو قران ليس بلازم، وإنما اللازم هو الدخول في النسك بقلبه، وإن لم يتلفظ.(338/25)
توحيد الحاكمية داخل في توحيد الربوبية والألوهية
السؤال
هل يصح تقسيم التوحيد إلى أربعة أقسام رابعها توحيد الحاكمية؟
الجواب
هذا ليس بصحيح؛ لأن الحاكمية داخلة في الثلاثة، وليست خارجة عنها؛ لأنها قسم منها، وليست قسيماً لها؛ لأن القسيم معناه غيره، وأما كونه داخلاً فيه فلا يحتاج إلى أن يفرد ويميز مع أنه داخل في غيره، فأنواع التوحيد ثلاثة وهي: الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات.
وتوحيد الحاكمية داخل في الربوبية من جهة أن الحكم لله، والله تعالى هو الذي يحكم، وهو الذي يشرع، وداخل في توحيد الألوهية لأن التنفيذ والتطبيق هو عبادة لله عز وجل، وهذا هو توحيد الألوهية.(338/26)
شرح سنن أبي داود [339]
إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث بينها النبي عليه الصلاة والسلام، ومنها الصدقة الجارية كالوقف ونحوه، فهي مما ينفع الميت بعد موته، كما دلت على ذلك الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.(339/1)
ما جاء في الرجل يوقف الوقف(339/2)
شرح حديث وقف عمر لأرضه التي بخيبر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف.
حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع ح وحدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل ح وحدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أصاب عمر رضي الله عنه أرضاً بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أصبت أرضاً لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فكيف تأمرني به؟ قال: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها، فتصدق بها عمر: أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث: للفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل)، وزاد عن بشر: (والضيف)، ثم اتفقوا: (لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقاً غير متمول فيه)، زاد عن بشر: قال: وقال محمد: (غير متأثل مالاً)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب الرجل يوقف الوقف].
ذكر الرجل هنا لأن الخطاب في الغالب مع الرجال، والنساء كذلك إذا أوقفن الأوقاف فلا فرق بين الرجال والنساء في الأحكام.
والوقف: هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، بمعنى: أن أصل الشيء كالعمارة أو كالبستان أو غير ذلك من الأعيان يوقف، فالأصل يكون محبساً لأعمال يعينها الواقف، ومنفعة وغلة هذا الأصل أو هذه الأعيان أو العين تكون في الجهات الخيرية التي نص عليها الواقف، هذا إن كان الوقف طبقاً للشريعة، أما إذا كان الوقف فيه مخالفة للشريعة فإن ذلك لا يسوغ ولا يجوز صرف الأوقاف في أمور غير مشروعة.
والوقف يكون ناجزاً؛ لأن الواقف إذا وقف خرج من ملكه، وصار مخصصاً للشيء الذي وقف عليه، فلا يباع ولا يورث ولا يوهب، وإنما هو شيء ثابت مستقر يصرف في وجوه الخير التي خصصها وعينها الواقف.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن (عمر رضي الله عنه أصاب أرضاً بخيبر)، ومعنى أصاب أرضاً: أي أنها حصلت له من قسمة السهام من الغنائم والفيء، فحصل عليها بهذا الطريق، وكانت أنفس مال تموله، وأنفس مال حصل له، فجاء يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في التصدق بها، فقال: (أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فكيف تأمرني به؟).
يريد بذلك المال الأرض، لأن الأرض مال، وأنه لم يصب أنفس من هذا المال الذي هو الأرض، فرجع الضمير مذكراً باعتبار المال، وأن هذه الأرض مال لم يصب مالاً أنفس ولا أفضل منه.
قال: (فماذا تأمرني به؟) يستشيره في العمل المشروع أو الفاضل الذي يضع فيه تلك الأرض، أو ذلك المال الذي اعتبره خير مال وصل إليه وتملكه.
(فقال: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها) أي: بثمرتها وبغلتها؛ لأن الأصل إذا حبس معناه أنه لا يتصرف فيه، ولكن المنفعة هي التي تصرف في وجوه الخير التي يعينها الواقف، وبهذا يكون من الصدقات الجارية التي يستمر نفعها، أصولها باقية تثمر وتدر وتغل وتستعمل غلتها وثمرتها في أوجه البر المختلفة التي عينها الواقف، ففي كل سنة تحصل ثمرة أو ما يخرج من وراء هذا الوقف فيوزع على الجهات التي عينها الواقف.
وقوله: (وتصدقت بها) أي: تصدقت بالمنفعة في وجوه الخير، فالأصول باقية والثمرة هي التي تصرف في وجوه الخير.
قوله:.
(فتصدق بها عمر)، أي: جعلها صدقة جارية وهي الوقف، (أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث)؛ لأن الأصل محبس ممنوع من التصرف فيه، وإنما يتصرف في المنفعة بحيث تصرف في وجوه الخير التي عينها، ولو كان الأصل يمكن التصرف فيه لزال، والوقف ثابت ومستقر، ولا يحول إلا إذا تعطلت منافعه، فإذا تعطلت منافعه يمكن أن يباع ويحول إلى وقف آخر ينتفع به، ولا يبقى مهملاً معطلاً لا يستفاد منه؛ لأن المقصود هو المنفعة التي تترتب عليه، فإذا تعطل الوقف فإنه يحول إلى وقف آخر بحيث يباع هذا الذي تعطلت منافعه ثم يحول إلى وقف آخر.
قوله: (لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث)، أي: ليس من قبيل المال الذي يمكن أن يهبه لأحد أو يبيعه، لا الذي أوقفه، ولا الناظر للوقف من بعده، فلا يبيع الأصل ولا يهبه ولا يورث عنه؛ لأنه خرج من ملكه الذي يورث؛ فهو شيء خرج منه ابتغاء وجه الله عز وجل، وخرج منه من حين وقف، فلم يبق في ملكه الذي يتصرف فيه بالبيع والشراء والأخذ والإعطاء، وإنما تؤخذ منفعته وتصرف في وجوه البر والخير التي أرادها الواقف.
قوله: [(للفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل)، وزاد عن بشر: (والضيف)].
هذه وجوه الخير ووجوه البر التي تصرف فيها الغلة والمنفعة لهذا الوقف.
والفقراء: هم المحتاجون، والفقير: هو الذي لا يجد حاجته مطلقاً، أو لا يجد كفايته لمدة سنة.
والفرق بين الفقير والمسكين: أن الفقير والمسكين إذا جمع بينهما في الذكر فرق بينهما في المعنى، وإذا انفرد أحدهما عن الآخر دخل الثاني معه، فإذا جمع بين الفقراء والمساكين كما في قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60]، فسر الفقراء بأنهم الذين لا يجدون شيئاً، والمساكين الذين لا يجدون شيئاً يكفيهم، وهنا قال: الفقراء، ولم يقل: المساكين، فيدخل في ذلك من لم يكن عنده شيء أصلاً أو عنده شيء لا يكفيه، فإنه يستحق الصرف؛ لأن هذين اللفظين من جملة الألفاظ التي إذا جمع بينها في الذكر وزع المعنى عليها، وإذا انفرد أحدهما عن الآخر فالمعنى الذي يوزع عند الاجتماع يسند ويضاف إلى أي واحد منهما.
إذاً: الذي لا يجد شيئاً يكفيه، والذي لا يجد شيئاً أصلاً، يطلق على الفقير إذا ذكر وحده، وإذا ذكر المسكين فيطلق عليه هذا المعنى أيضاً، ولكن إذا قيل: الفقراء والمساكين، حمل الفقراء على الذين لا يجدون شيئاً أصلاً، والمساكين على الذين يجدون شيئاً ولكنه لا يكفيهم.
قوله: (والقربى) أي: قرابة عمر.
(والرقاب) أي: شراء الرقاب وإعتاقها.
(وفي سبيل الله) أي: في الجهاد في سبيل الله؛ لأن المقصود بسبيل الله إذا جاء مقروناً مع غيره كما في آية الزكاة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60] فمعناه: الجهاد في سبيل الله، ويأتي سبيل الله عاماً فيدخل فيه وجوه الخير كلها، لكن عندما يأتي ذكر سبيل الله مقروناً مع غيره كما في آية الصدقات، وكما في الحديث الذي معنا هنا في الوقف؛ فيراد به الجهاد؛ لأنه ذكر الفقراء والقربى والرقاب، والرقاب هي في سبيل الله بالمعنى العام، وكلها مما يراد به وجه الله، ولكن عندما جاء (في سبيل الله) معطوفاً على الفقراء والرقاب وغير ذلك فيراد به الجهاد في سبيل الله.
قوله: (وابن السبيل) هو الذي انقطع به السفر، ونفد زاده، ولم يكن معه شيء، وإن كان غنياً في بلده فإنه يستحق أن يعطى من الوقوف والزكاة.
قوله: [زاد بشر: (والضيف)].
بشر أحد الرواة الذين رووا الحديث، وقد زاد لفظة: (والضيف)، أي أنه يكرم الضيف، ويعطى الضيفان من هذا الوقف.
قوله: [(ثم اتفقوا: لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف)، أي: لا يأكل مسرفاً ومتمولاً، وإنما يأكل بالمعروف.
(ويطعم صديقاً) أي: الوالي وليس الصديق، ومعنى ذلك: أنه لا يتمول، وكذلك لا يعطي الصديق شيئاً يتموله، ولكنه يمكن أن يعطي الفقير شيئاً يكفيه قوتاً وطعاماً، لكن لا يعطيه رأس مال أو شيئاً كثيراً ويحرم غيره.
قوله: [زاد عن بشر: قال: وقال محمد: (غير متأثل مالاً)].
زاد مسدد الذي يروي عن الثلاثة ومنهم بشر قال: (غير متأثل مالاً) أي: هذا الوالي يأكل بالمعروف ولا يتمول ولا يتأثل؛ لأنه في بعض الألفاظ (يتمول) وفي بعضها (يتأثل).(339/3)
تراجم رجال إسناد حديث وقف عمر لأرضه التي بخيبر
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد هو ابن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل].
بشر بن المفضل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا مسدد حدثنا يحيى].
يحيى هو ابن سعيد القطان البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عون].
هو عبد الله بن عون، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر بن الخطاب].
i, الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة وهم: عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[زاد عن بشر: قال: وقال محمد].
قيل: هو محمد بن سيرين؛ لأنه ليس في رجال الإسناد من اسمه محمد، فقيل: لعله محمد بن سيرين أو شخص آخر.(339/4)
شرح حديث وقف عمر لأرضه التي بخيبر من طريق أخرى
حدثنا سليمان بن داود المهري حدثنا ابن وهب أخبرني الليث عن يحيى بن سعيد عن صدقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: نسخها لي عبد الحميد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتب عبد الله عمر في ثمغ فقص من خبره نحو حديث نافع، قال: غير متأثل مالاً، فما عفا عنه من ثمره فهو للسائل والمحروم، قال: وساق القصة، قال: وإن شاء ولي ثمغ اشترى من ثمره رقيقاً لعمله.
وكتب معيقيب وشهد عبد الله بن الأرقم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث: أن ثمغاً وصرمة بن الأكوع والعبد الذي فيه، والمائة سهم التي بخيبر، ورقيقه الذي فيه، والمائة التي أطعمه محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوادي تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها، ألا يباع ولا يشترى، ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم وذوي القربى، ولا حرج على من وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقاً منه].
قوله: (عبد الله) وصف له، أي: أن عمر عبد من عبيد الله رضي الله تعالى عنه، وكانوا يقدمون لذلك بأن يقولوا: عبد الله فلان، أي: أنه من شأنه أنه عبد من عبيد الله، وكثيراً ما يأتي في كلامهم وحديثهم التعبير عنه بأنه عبد، وكذلك عندما يتكلم بالكلام العام يقال: يا عبد الله! وأي واحد يقال له: عبد الله.
وثمغ اسم مكان.
قوله: [(فقص من خبره نحو حديث نافع، قال: غير متأثلٍ مالاً].
أيضاً جاء في بعض الروايات في حديث نافع: متأثل، أي: متمول، أو متملك؛ لأنه خارج عن الإنفاق في المعروف، أو الأكل بالمعروف؛ لأنه إذا أنفق على نفسه أو أكل فهذا لا يعتبر تملكاً.
قوله: [(وما عفا عنه من ثمره فهو للسائل والمحروم)].
يعني: فهو للسائل الذي يسأل ويتعرض للسؤال، وللمحروم الذي لا يسأل، ومعلوم أن الذي لا يسأل ويتعفف أشد حاجة من الذي يسأل، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان، وإنما المسكين الذي لا يجد ما يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه)، هذا هو المسكين حقاً، وإن كان ذاك مسكيناً، لكن هذا أشد مسكنة منه.
قوله: [فما عفا].
أي: فضل وبقي.
قوله: [(وساق القصة، قال: وإن شاء ولي ثمغ اشترى من ثمره رقيقاً لعمله)].
ولي ثمغ له أن يشتري رقيقاً للعمل في الوقف، ولمصالح الوقف، وتدبير شئون الوقف.
قوله: [(قال: وكتب معيقيب وشهد عبد الله بن أرقم)].
أي: كتب الوقف معيقيب، وشهد عليه عبد الله بن أرقم.
قوله: [(بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث)].
هذا ليس هو الوقف، ولكن هذه وصية لمن يليه؛ لأنه كان يلي الوقف هو في حياته، فأوصى إذا حدث به حادث الموت فإنه يلي الأمر من بعده فلان، أو فلان ثم فلان، وهذا يعتبر وصية؛ لأنه بعد الموت، فإذا كان له وقف، وهو ناظر الوقف في حياته، وأراد أن يخص أحداً بالنظر فيه فيعينه، وهذا يطابق قول أمير المؤمنين؛ لأن هذا شيء حصل في خلافته وإمارته، بخلاف الوقف فإنه حصل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذه وصية في الولاية والنظارة.
قوله: [(أن ثمغاً وصرمة بن الأكوع والعبد الذي فيه، والمائة سهم التي بخبير، ورقيقه الذي فيه، والمائة التي أطعمه محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوادي تليه حفصة ما عاشت)].
هذا الذي رأى، وحصلت به الوصية، وكأن هذه الأمور حصل فيها الوقف، ولكن الشأن في الولاية من بعده، وكأنه هو الذي كان يلي ذلك في حياته، فأراد أن يعين الناظر للوقف بعد وفاته، فقال: تليه حفصة ما عاشت.
قوله: [(ثم يليه ذو الرأي من أهلها)].
أي: من أهل عمر الذي يكون موجوداً في ذلك الوقت بعد وفاتها.
قوله: [(ألا يباع ولا يشترى، ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم وذوي القربى، ولا حرج على من وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقاً منه)].
وهذا مطابق للوقف الذي قد حصل من قبل، وهو أنه يكون في هذه الأمور التي ذكرها.
وقوله: (آكل) أي: أطعم غيره، كصديق ونحوه.(339/5)
تراجم رجال إسناد الطريق الأخرى لحديث وقف عمر لأرضه التي بخيبر
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
سليمان بن داود المهري المصري ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني الليث].
هو الليث بن سعد المصري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد الأنصاري المدني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو من صغار التابعين، وهذا يقال له: وجادة، وهو صحيح الوجادة، كما قال الشيخ الألباني رحمه الله؛ لأن يحيى بن سعيد كتبت له نسخة منه، أي: من ذلك الوقف الذي كان موجوداً عند آل عمر وقد أشهد عليه، فهذه نسخة استنسخها من ذلك الوقف، وقد استنسخها من عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله بن عمر، وقال عنه في التقريب: مجهول الحال، أخرج له من أصحاب الكتب الستة أبو داود.
أما عن مكان هذا الوقف، وهل هو باقٍ إلى الآن أم لا؟ فلا أدري عن ذلك، ولعله اشتري به رقيق للعمل به فيما مضى، وكذا أي وقف لا حرج على من وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقاً منه، وقد كان عمر أوقف الأرض مع الرقيق الموجود فيها.(339/6)
ما جاء في الصدقة عن الميت(339/7)
شرح حديث: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة أشياء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الصدقة عن الميت.
حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن حدثنا ابن وهب عن سليمان -يعني: ابن بلال - عن العلاء بن عبد الرحمن أُراه عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة أشياء: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)].
قال المصنف: [باب ما جاء في الصدقة عن الميت].
كون الإنسان يتصدق عن نفسه بصدقة جارية، أو يتصدق عنه غيره بصدقة جارية كل ذلك ينفعه، وكل ذلك يصل إليه، سواء كانت هذه الصدقة هو الذي تصدق بها عن نفسه؛ فإنها تبقى بعد وفاته، وهي من عمله، أو أن إنساناً تصدق عنه بصدقة جارية، أو صدقة غير جارية؛ فإن كل ذلك ينفعه، وقد وردت الأحاديث بأن الصدقة عنه تنفعه، أي أن يتصدق عنه غيره فإنه ينفعه ذلك، كما جاء في الأحاديث التي سيذكر المصنف بعضها.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: من صدقة جارية)، وهي الصدقة التي تصدق بها عن نفسه، وهي دائمة ومستقرة بخلاف المحددة أو المعينة التي ليست مستمرة فإنها تنتهي، كما لو وجد فقيراً فأعطاه مبلغاً من المال فإن هذه صدقة تنتهي بانتهاء المال، ولكن الصدقة الجارية مثل الوقف، مثل صدقة عمر رضي الله عنه، كونه يتصدق بشيء من ماله يبقى فإنه ينتفع به في حياته وبعد وفاته بصفة مستمرة، وما دام الوقف موجوداً فإن الانتفاع حاصل، فهذه صدقة جارية.
قوله: (أو علم ينتفع به)، المقصود بالعلم: العلم الذي يأخذه عنه تلاميذه، ويأخذ عنهم تلاميذهم وهكذا، أو عن طريق كتابة العلم، والمؤلفات النافعة التي يخلفها الإنسان وتبقى بعده سنيناً طويلة، وقد تمكث مئات السنين، فإنه كلما انتفع من هذه المؤلفات منتفع وصل إليه ثوابه، وقد مضى على موته مئات السنين، ولهذا جاء عن ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر أنه قال: إن الكتاب الذي يخلفه الإنسان يعتبر ولده المخلد، كأنه قد خلد ولداً يدعو له، فيكون ذلك الكتاب معناه أنه خالد وأنه باق، وأنه يمكث المدة الطويلة التي يعود عليه فيها نفعه بعد وفاته بمئات السنين، فالعلم الذي يخلفه الإنسان سواء كان عن طريق تعليم التلاميذ، والتلاميذ يأخذ عنهم تلاميذ، وهكذا، ويتسلسل حتى يصل إليه نفعه، ويصل إليه فوائده، وكذلك المؤلفات؛ ولهذا نجد أن هناك من مضى على موتهم مئات السنين، ومع ذلك ذكرهم مخلد، يأتي ذكرهم في المؤلفات، أو في الأسانيد، أو الفتوى، فيقال: قال فلان كذا، وقال فلان رحمه الله كذا، وأفتى فلان بكذا، وروى فلان كذا، فيأتي ذكرهم مع أنه كان في زمانهم أناس كثيرون لا يعرفون عنهم شيئاً لا في حياتهم ولا بعد موتهم، ولكن خلد ذكرهم العلم النافع الذي ورثوه وخلفوه.
قوله: (أو ولد صالح يدعو له) سواء كان ولده من صلبه المباشر أو ممن هو من نسله، وسواء كان من أبنائه أو من بناته؛ لأن هؤلاء كلهم أولاد له، وكلهم أبناء له القريب والبعيد وإن نزل، ابن الابن وإن نزل، كما في الفرائض، إذ كلهم يقال لهم: أبناء، فأولاد البنين وأولاد البنات يعتبرون أولاداً للميت، فإذا دعوا له بدعاء فإن ذلك ينفعه.
وخص من الأولاد الولد الصالح؛ لأن هذا هو مظنة الدعاء، وهو الذي ينفع نفسه وينفع غيره، أما إذا كان فاسداً فلن ينفع نفسه ولا غيره ولا أصله؛ لأنه منصرف عن الدعاء بالكلية، بل قد يحصل منه دعاء عليه، كما جاء في الحديث: (إن من الكبائر أن يسب الرجل والديه، قيل: وكيف يسب الرجل والديه؟! قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)، فقد يتسبب في أن يذكروا بسوء.
إذاً: ذكر الصلاح هنا لأن الصالح هو الذي ينفع نفسه وينفع غيره؛ لأنه هو الذي يشتغل بالدعاء لنفسه ولغيره.
وقد جاءت زيادات في أحاديث، ولكن غالبها أو كلها تفاصيل وجزئيات ترجع للصدقة الجارية، وقد ذكرها بعض أهل العلم، وذكر صاحب عون المعبود أن السيوطي أوصلها إلى إحدى عشرة، وذكر فيها شعراً، وأنه سبقه ابن العماد فأوصلها إلى ثلاث عشرة، وأنه ساق الأحاديث التي وردت فيها، وهي غالباً ترجع إلى جزئيات للصدقة الجارية.(339/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة أشياء)
قوله: [حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن] الربيع بن سليمان المؤذن هو المهري المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب السنن الأربعة.
[حدثنا ابن وهب].
ابن وهب قد مر ذكره.
[عن سليمان -يعني: ابن بلال -].
سليمان بن بلال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن العلاء بن عبد الرحمن].
هو العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي، وهو صدوق ربما وهم، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
قد مر ذكره.(339/9)
الأعمال التي يصل أجرها للميت
اختلف العلماء في الأعمال التي يصل أجرها للميت على قولين: القول الأول: أن كل عمل صالح يصل إلى الميت، قالوا: إن الذي لم يرد يقاس على ما ورد، هذه هي الحجة، وقالوا: إن الأجوبة التي أجاب بها النبي صلى الله عليه وسلم أجاب بها عن أسئلة معينة، سئل عن كذا فأجاب بكذا، قالوا: ولو سئل عن غير ذلك لأجاب بمثله، فهناك أشياء لم يسأل عنها فما جاء فيها جواب، إذاً: يقاس ما لم يذكر على ما ذكر، والعبادات التي لم تذكر تقاس على العبادات التي ذكرت، وهؤلاء يعممون في كل شيء، ويقولون: إن أي قربة فعلها أحد وجعل ثوابها لميت مسلم نفعه ذلك، فيعممون ويقيسون ما لم يرد على ما ورد.
ثانيهما: أنه يقتصر على ما ورد، ولا يزاد عليه، والوارد هو في الصدقة، والحج، والعمرة، والدعاء، والعتق، والصيام إذا كان واجباً؛ لحديث: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه).
والصحيح -والله أعلم-: أن من أراد أن ينفع موتاه فينفعهم في حدود ما ورد، أما القول بأنه سئل عن هذه الأمور التي يصل نفعها، وأنه لم يسأل عن الأشياء الأخرى، ولو سئل عنها لأجاب بمثل ما أجاب؛ فهذا غير مسلم؛ لأنه قد يسأل عن الشيء ولا يجيب، ومما يدل على ذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الوضوء من لحم الإبل، فقال: توضئوا، وسئل عن الوضوء من لحم الغنم، فقال: إن شئتم)، فهل يقال: إنه لو سئل عنه لكان الجواب مثل لحم الإبل؟ لا، بل إن الجواب يختلف، وليس الجواب واحداً، فقد سئل عن شيء فأجاب بجواب، وسئل عن شيء آخر فأجاب بجواب آخر.
فالذي يظهر -والله أعلم- أن هذه المسألة الصواب فيها: أن يقتصر في نفع الأموات على حدود ما ورد، وفي ذلك الخير الكثير لمن أراد أن ينفع الموتى.(339/10)
ما جاء فيمن مات عن غير وصية يتصدق عنه(339/11)
شرح حديث: (أن امرأة قالت يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها ولولا ذلك لتصدقت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء فيمن مات عن غير وصية يتصدق عنه.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: (أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها، ولولا ذلك لتصدقت وأعطت، أفيجزئ أن أتصدق عنها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، فتصدقي عنها)].
أورد أبو داود [باب ما جاء فيمن مات عن غير وصية يتصدق عنه].
أي: من مات ولم يوص فإنه يخرج شيء من ثلث ماله، أو يصرف كذا وكذا من ماله، ويكون ذلك في حدود الثلث -كما هو معلوم- فإنه يتصدق عنه، وينفعه ذلك.
وقد أورد أبو داود في الباب حديث عائشة: (أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: إن أمي افتلتت نفسها) أي: ماتت فجأة.
(ولولا ذلك لتصدقت وأعطت) أي: لولا أنها ماتت فجأة لتصدقت وأعطت وأوصت، ولكن فجأها الأجل وماتت فجأة، (أفيجزئ أن أتصدق عنها؟) وهي تعرف منها أنها ترغب في الخير، وتريد أن تتصدق، ولكن حيل بينها وبين ما تريد بالموت المفاجيء الذي بغتها، ولهذا جاء في الحديث: (ما حق امرئ مسلم عنده شيء يريد أن يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)؛ لئلا يفجأه الأجل فلا يتمكن من الشيء الذي يريد أن يوصي به، فقال: (نعم، فتصدقي عنها)، فهذا يدل على أن الصدقة عن الميت سائغة وأنها تنفعه، والصدقة عن الميت مما وردت به السنة، والأموات ينتفعون بإحسان الأحياء إليهم.(339/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن امرأة قالت يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها ولولا ذلك لتصدقت)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
وهو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن هشام].
هشام بن عروة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين في المدينة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(339/13)
شرح حديث: (إن أمي توفيت أفينفعها إن تصدقت عنها؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن منيع حدثنا روح بن عبادة حدثنا زكريا بن إسحاق أخبرنا عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إن أمي توفيت أفينفعها إن تصدقت عنها؟ فقال: نعم، قال: فإن لي مخرفاً، وإني أشهدك أني قد تصدقت به عنها)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن أمي توفيت، أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم، قال: فإن لي مخرفاً، وإني أشهدك أني قد تصدقت به عنها).
لما أفتاه بأن له أن يتصدق عنها، وأنه ينفعها أن يتصدق عنها، قال: (إن لي مخرفاً)، وهو البستان الذي به ثمر، قال: (وإني أشهدك أني قد تصدقت به عنها) فيكون وقفاً عليها وهي صدقة جارية.
ويحتمل أن يكون بستاناً، أو أن يكون الثمرة التي في البستان.(339/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن أمي توفيت أفينفعها إن تصدقت عنها؟)
قوله: [حدثنا أحمد بن منيع] أحمد بن منيع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا روح بن عبادة].
روح بن عبادة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زكريا بن إسحاق].
زكريا بن إسحاق ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن دينار].
عن عمرو بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
قد مر ذكره.
وهذا الإسناد مسلسل برواة خرج لهم أصحاب الكتب الستة.(339/15)
ما جاء في وصية الحربي يسلم وليه أيلزمه أن ينفذها؟(339/16)
شرح حديث: (إنه لو كان مسلماً فأعتقتم عنه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في وصية الحربي يسلم وليه أيلزمه أن ينفذها؟ حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد أخبرني أبي حدثنا الأوزاعي حدثني حسان بن عطية عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن العاص بن وائل أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة، فأعتق ابنه هشام خمسين رقبة، فأراد ابنه عمرو أن يعتق عنه الخمسين الباقية، فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أبي أوصى بعتق مائة رقبة، وإن هشاماً أعتق عنه خمسين، وبقيت عليه خمسون رقبة، أفأعتق عنه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه لو كان مسلماً فأعتقتم عنه، أو تصدقتم عنه، أو حججتم عنه بلغه ذلك)].
أورد أبو داود باب ما جاء في وصية الحربي يسلم وليه أيلزمه أن ينفذها؟، أي: وصية الحربي هل يلزم وليه المسلم أن ينفذها؟ وأورد فيه أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أن جده العاص أوصى بأن يعتق عنه مائة رقبة، فأعتق عنه ابنه هشام خمسين، فأراد عمرو بن العاص أخوه أن يعتق عن أبيه الخمسين الباقية، فقال حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أفعل ذلك؟ فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله فقال له: (إنه لو كان مسلماً فأعتقتم عنه، أو تصدقتم عنه، أو حججتم عنه بلغه ذلك)] أي: لو كان مسلماً فتصدقتم عنه، أو حججتم عنه، أو أعتقتم عنه لنفعه ذلك، إذ مثل هذه القرب إنما تنفع المسلمين ولا تنفع الكفار؛ لأن الكفار لا ينفعهم أي عمل من الأعمال، لا منهم ولا من غيرهم، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، ولا ينفعهم أن يتصدق عنهم أو يحج عنهم؛ لأنهم من أهل النار الذين يخلدون فيها أبد الآباد، ولا سبيل لهم إلى الجنة، فالكافر لا يتصدق عنه، ولا يحج عنه، ولا يعتق عنه، وهذا الحديث يدل على أن هذه الأمور الثلاثة من الأشياء التي تنفع الميت إذا فعلها له قربيه أو فعلها الحي عنه.(339/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (إنه لو كان مسلماً فأعتقتم عنه)
قوله: [حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد].
العباس بن الوليد بن مزيد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرني أبي].
أبوه ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني حسان بن عطية].
حسان بن عطية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب].
عمرو بن شعيب صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه شعيب بن محمد وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ورفع اليدين وجزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن جده].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(339/18)
ما جاء في الرجل يموت وعليه دين وله وفاء يُستنظر غرماؤه ويرفق بالوارث(339/19)
شرح حديث جابر أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقاً لرجل من يهود
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الرجل يموت وعليه دين وله وفاء، يستنظر غرماؤه ويرفق بالوارث.
حدثنا محمد بن العلاء أن شعيب بن إسحاق حدثهم عن هشام بن عروة عن وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه أخبره (أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقاً لرجل من يهود، فاستنظره جابر فأبى، فكلم جابر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له عليه فأبى عليه، وكلمه رسول الله عليه صلى الله وآله وسلم أن ينظره فأبى).
وساق الحديث].
قوله: [باب في الرجل يموت وعليه دين وعنده وفاء يستنظر غرماؤه ويرفق بالوارث] الغرماء: هم الدائنون، ويرفق بالوارث الذي تولى الأمر من بعده، والذي يطالب بأن يدفع الحق الذي على ميته، وعلى مورثه، وقد جاء في بعض الأحاديث: أنه كان عليه ديون لأشخاص متعددين، فيكون هذا اليهودي من بينهم.
قوله: [فاستنظره جابر فأبى] أي: طلب منه أن ينظره، ويمهله فأبى، فكلم جابر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع له إلى ذلك اليهودي فشفع له، وأمره أن يأخذ ثمر نخله بالذي عليه، فأبى كغيره من الدائنين، وكأن الدائنين ما أرادوا ولا وافقوا أن يأخذوا؛ لأنهم رأوه غير كاف، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا به، وجعل يكيل حتى أوفى جميع الدائنين، وبقي الشيء الكثير ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومباشرته الكيل للدائنين.
قوله: [وساق الحديث] أي: أنه ما ذكر بقيته، ولكن البقية موجودة في الصحيحين وفي غيرهما، وفي الحديث علامة من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم، وهو أنه دعا وصار يكيل من صرة من الطعام حتى استوفى الدائنون حقوقهم، وبقي الشيء الكثير بعد ذلك.(339/20)
تراجم رجال إسناد حديث جابر أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقاً لرجل من يهود
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء] هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن شعيب بن إسحاق] شعيب بن إسحاق ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن هشام بن عروة عن وهب بن كيسان].
هشام بن عروة مر ذكره، ووهب بن كيسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، وأحد السبعة المعرفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(339/21)
الأسئلة(339/22)
وجه استنظار الغرماء في الدين مع وجود الوفاء
السؤال
ما وجه قوله: (يستنظر غرماؤه ويرفق بالوارث)، إن كان يوجد عند الورثة وفاء؟
الجواب
يجوز ذلك إذا كان هذا الشيء الذي وفى به يتطلب وقتاً، مثل الثمرة التي تأتي في وقت معين، فتكون هذه الثمرة فيها الوفاء، ولكن يمكن أن تكون المطالبة أو يكون الاستحقاق في أول وقت خروج الثمرة وبدو طلوعها، فينتظر إلى حين صلاحها، وإلى حين جذها، ثم التوفية من ذلك، والإنظار مطلوب كما هو معلوم سواء كان له وفاء أو لم يكن له وفاء؛ لأن الله يقول: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، إذا كان له وفاء عن حاضر يوفي، أما إذا كان الوفاء سيتأخر، بمعنى: أن الشيء الذي سيوفي منه متأخر فعليه أن ينتظر، وإن لم يكن عنده شيء أصلاً فإنه ينتظر.(339/23)
معنى الحربي
السؤال
ما معنى الحربي؟
الجواب
الحربي: هو غير الذمي، وغير المستأمن، بل هو من الكفار الذين بين المسلمين وبينهم حرب، فليسوا أهل ذمة، وليسوا مستأمنين، وليسوا ذوي عهد.(339/24)
سبب تخصيص عمر حفصة رضي الله عنهما بالنظر على الوقف
السؤال
في وصية عمر رضي الله عنه قال: (تليه حفصة) فلماذا خص حفصة دون بقية الأولاد مثل عبد الله؟
الجواب
الله تعالى أعلم، ولعله رأى المصلحة في ذلك.(339/25)
حكم إهداء القرب والثواب التي لم يرد فيها نص للميت
السؤال
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: إهداء القرب أو ثوابها التي لم يرد فيها نص من الأمور الجائزة غير المشروعة، فما معنى هذا الكلام؟
الجواب
يعني أن هذا شيء مباح؛ لأن الجائز غير المشروع هو المباح الذي يستوي طرفاه، لكن الذي يظهر -والله أعلم- أنه يقتصر على المشروع، ولا يشتغل بغير المشروع.(339/26)
حكم تغيير المنفعة على غير ما حدده الواقف
السؤال
الوقف هو تحبيس الأصل، فهل يجوز تغيير المنفعة على غير ما حدده الواقف إن دعت الحاجة للتغيير؟
الجواب
إذا دعت الحاجة لنقلها إلى منفعة أخرى لكون بعض الأشياء التي حددها لا وجود لها، أو لا يمكن تنفيذها، فإنه يحولها، وذلك مثل الرقاب فإنه لا وجود لها، فإن أراد أن يحول الوقف إلى شيء آخر فيه المصلحة وفيه المنفعة، فيكون هذا من جنس الوقف، ومعلوم أنه إذا تعطلت منافعه فإنه يحول إلى شيء آخر، فكذلك إذا لم توجد المنفعة المعينة وحول إلى منفعة أخرى فلا بأس بذلك، لكن الذي ينبغي أن يكون هناك إطلاق عند الوقف أو عند الوصية في صرفه في وجوه الخير، وينص على أشياء أخرى معينة؛ لأن كونه يذكر أشياء معينة ويعمم في وجوه الخير يجعل الولي أو الوصي بعده في حل وفي سعة أن يتصرف في شيء مأذون له فيه بدون حرج أو تردد، بحيث إنه يقول: في وجوه البر، ولاسيما كذا وكذا، أو: المقدم فيها كذا وكذا، ونحو ذلك.(339/27)
حكم الوقف إذا توقفت الجهة الموقوف عليها
السؤال
إنسان وقف على قبيلة فانقطع نسل هذه القبيلة، فماذا يعمل بالوقف؟
الجواب
إذا كان الوقف قد انقطع عن الجهة التي خصص لهم النفع فإنه يحول إلى جهة أخرى، وهذا ينبغي أن يرجع فيه إلى القاضي؛ لأن الناظر قد لا يكون عنده قدرة ومعرفة، فكون القاضي هو الذي يعين له ويحدد هو الذي ينبغي.(339/28)
حكم منع ذرية البنت من الوقف
السؤال
هل يجوز للواقف أن يشترط أن البنت تأكل ما عاشت، ولا يكون ذلك لذريتها، بعكس الأبناء؟
الجواب
يجوز ذلك؛ لأن البنت وارثة وأولادها غير وارثين، والأبناء وارثون وأبناؤهم وارثون، وهم من جملة الورثة، فله ذلك؛ لأن أبناء أبنائه أبناؤه، وأما أبناء بناته فربما كانوا أبناء لقبيلة أخرى، كما يقول الشاعر: بنوهن بنو أبنائنا وبناتنا أبناؤهن أبناء الرجال الأباعد(339/29)
حكم وقف الشيء المنقول
السؤال
هل يجوز وقف الشيء المنقول مثل الأثاث؟
الجواب
هذا ليس بوقف؛ لأن الوقف تسبيل الأصل وإبقاؤه، وأما الشيء الذي ينتهي ويتلاشى مثل الأثاث فله أن يوقفه في أن يستعمل أو يصرف في وجوه الخير عندما يكون هناك حاجة إليها، مثل السجاد للمساجد، فلا بأس، فهذا أثاث، لكن القطعة في نفسها أصل، والمقصود هو الانتفاع والجلوس عليها، ولكنها منقولة، ليست ثابتة كالبيوت، أو البساتين، أما وقف شيء مثل الأطعمة، فهي مستهلكة، ولا تبقى أعيانها، وهذا مثل النقود عندما يقترض الإنسان نقوداً لا يمكنه أن يردها بأعيانها، وإلا فما الفائدة من القرض؟ لكن يأتي بنقود أخرى مكانها.
فالشيء الذي يستهلك لا يقال: إن عينه باقية أو أصله باق، وهو ليس بوقف.(339/30)
حكم تغيير منفعة الوقف لغير ضرورة
السؤال
هل يجوز للناظر أن يحول منفعة الوقف، كأرض أوقفت لمدرسة فحولها إلى مستشفى؟
الجواب
ليس له ذلك، بل إذا تعطلت المدرسة يحوله إلى مدرسة أخرى، نفس الجهة التي أوقف فيها يجعلها من جنسها، ويجعل الوقف من جنس الوقف الذي ينتقل إليه.(339/31)
حكم الوقف لنادي رياضي
السؤال
رجل أوقف ماله لأجل نادٍ رياضي، ولشراء الأدوات الرياضية، واشتراك اللاعبين! فهل يجوز ذلك؟
الجواب
لا تنفذ هذه الوصية.(339/32)
صيغة الاشتراط في الحج والعمرة
السؤال
كيف يكون الاشتراط في الحج عند الإحرام؟
الجواب
يقول: لبيك عمرة، أو لبيك حجاً، فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني.(339/33)
شرط الحج عن الغير
السؤال
إذا حججت عن والدي، فهل يجزئه ذلك مع أنه لا يزال حياً؟
الجواب
إذا كان مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه، أو كان كبيراً هرماً لا يستطيع السفر فيجوز.(339/34)
كيف يعتمر عن نفسه من يحج عن غيره؟
السؤال
أريد أن أؤدي فريضة الحج لأبي، وأريد أن آتي بعمرة، فهل أستطيع ذلك؟
الجواب
نعم يجوز ذلك، وذلك إذا جئت من بلدك معتمراً عن أبيك، ثم تحج عنه متمتعاً، فإذا دخلت مكة واعتمرت عن أبيك ثم ذهبت إلى المدينة، فعند رجوعك إلى مكة لك أن تعتمر عمرة أخرى، تكون لك أو لأبيك أو لمن تريد، فلك في مثل هذه الصورة أن تعتمر لنفسك أو لغيرك غير العمرة التي اعتمرتها لأبيك.(339/35)
حكم التبرك بذوات الصالحين
السؤال
ما حكم التبرك بذوات الصالحين؟
الجواب
لا يتبرك بذوات أحد؛ لأن البركة من الله عز وجل، والبركة إنما تطلب من الله عز وجل من الوجوه المشروعة، ولم يأت بأن ذوات الأشخاص يتبرك بهم، لا أحياء ولا أمواتاً، فلا يتمسح مثلاً بإنسان من أجل تحصيل البركة، ولا يمسح أي شيء عند قبر من أجل البركة، كل ذلك غير سائغ وغير جائز.(339/36)
النيابة في الحج لا تختص بالأقرباء
السؤال
هل تختص النيابة في الحج بالقريب لقريبه فقط؟
الجواب
لا تختص، فيمكن أن تكون من القريب وغير القريب، وكذلك الإنسان يدعو لقريبه وغير قريبه، وكذلك يتصدق عن قريبه وغير قريبه، كل ذلك جائز.(339/37)
حكم الاستراحة بين أشواط الطواف والسعي للمضطر
السؤال
شخص مريض نصحه الطبيب بعدم الوقوف الطويل والمشي الطويل، ويريد أن يحج، فهل يجوز له أن يفصل بين أشواط الطواف والسعي إن احتاج إلى ذلك، لاسيما إذا تعذر عليه الطواف إلا من سطح المسجد؟
الجواب
مثل هذا ينبغي له أن يطوف راكباً أو محمولاً، والإنسان الذي يطوف ثم يتعب ويجلس بين الأشواط لكي يستريح لا بأس بذلك، لكن إذا كان عليه مضرة في المشي، فليطف راكباً، وليسع راكباً.(339/38)
حكم الجمع بين طواف الإفاضة والوداع
السؤال
هل يمكن الجمع بين طواف الإفاضة وطواف الوداع؟
الجواب
نعم، يمكن أن ينوي الإفاضة ويسافر بعده فيغني عن طواف الوداع؛ لأن المقصود بالوداع أن يكون آخر عهده بالبيت، ومن طاف طواف الإفاضة ثم خرج بعده مباشرة فقد كان آخر عهده البيت، فيجوز ذلك، وهذا من جنس تحية المسجد، فالإنسان إذا دخل المسجد واجتمع عليه سنة راتبة وتحية المسجد، فهما من المستحبات التي يغني بعضها عن بعض، وهنا أركان وواجبات فيغني الركن عن الواجب، لكن لا يجوز أن ينوي طواف الوداع، بل ينوي طواف الإفاضة، وينوي طواف الوداع معه، أو ينوي طواف الإفاضة وحده ثم يسافر بعده؛ لكن أن ينوي الوداع فقط ولا ينوي الإفاضة فقد أتى بالواجب وترك الركن.(339/39)
حكم تنفيذ وصية الذمي
السؤال
ذكرتم أن وصية الحربي لا يلزم تنفيذها، فماذا عن وصية الذمي؟
الجواب
كذلك وصية الذمي؛ لأن السؤال جاء عن الحربي، والحديث جاء في تقييد ذلك بالمسلم، وأن المسلم هو الذي ينفعه أن يتصدق عنه، وأما الحربي والذمي ومن مات كافراً سواء كان حربياً أو ذمياً؛ فإنه لا ينفعه أي عمل، لا منه ولا من غيره.(339/40)
من علامات صلاح الولد دعاؤه لأبيه
السؤال
هل يدل قوله صلى الله عليه وسلم: (أو ولد صالح يدعو له)، على أن من علامات صلاح الابن كثرة دعائه لوالده الميت؟
الجواب
إذا كان الإنسان على صلة بالله عز وجل، ودعاء لله، واتصال بالله عز وجل، ويدعو لنفسه ولغيره؛ لا شك أن هذا من علامات الصلاح.(339/41)
وقوع الربا في الأوراق النقدية
السؤال
الربا نوعان: ربا الفضل والنسيئة، فهل يقع الربا في هذه الأوراق النقدية القرطاسية؟
الجواب
نعم، يقع فيها؛ لأن كل عملة جنس، ولا بد فيها من التقابض، وأما التفاضل فلا بأس به، بمعنى: أن يزيد أحدهما على الآخر، هذا لا بأس به، ولكن يشترط التقابض، فهذا يدفع وهذا يدفع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شيئتم إذا كان يداً بيد)، (كيف شئتم) أي: متفاضلين، لكن لابد أن يكون يداً بيد، وهذا هو التقابض.(339/42)
حكم تحديد الوقف بمدة زمنية
السؤال
هل يجوز لرجل أن يوقف وقفاً لزمن محدد؟
الجواب
الوقف هو تحبيس الأصل ويستمر، ولا يقول: هذا الوقف لمدة سنة، ثم بعد ذلك يرجع إلى ملكه، وإنما له أن يتصدق بالثمرة مثلاً، فيقول: هذه الثمرة أتصدق بها، لكن الوقف هو تحبيس الأصل، أي: أنه لا يباع ولا يتصرف فيه ولا يوهب.
إذاً: له أن يتصدق بالثمرة، ولا يحبس الأصل ولا يوقفه؛ لأن هذا يخالف مصادر الوقف.(339/43)
الصدقة الجارية عن الميت
السؤال
حديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله) هل يدل على أن الدعاء للميت أفضل من الصدقة عنه؛ لأنه قال: (أو ولد صالح يدعو له) ولم يقل: (يتصدق عنه)؟
الجواب
قوله: (صدقة جارية) يدخل فيه أن يفعلها هو أو غيره، فكونه هو نفسه يتصدق بصدقة جارية، أو غيره من بعده يتصدق عنه بصدقة جارية، كل ذلك ينفعه.(339/44)
تمييز المرأة بين الحيض وغيره إذا كانت عادتها مضطربة
السؤال
امرأة تقول: إن عادتها مضطربة، وهذه المرة جاءتها ولكن لم ينزل الدم، بل عرفت ذلك بإدخال القطن فرأت دماً أحمر، وبعد ذلك بيوم جاءت كدرة، ثم بعد ذلك جاءت الصفرة في اليوم الثاني، فهل هذا حيض؟
الجواب
إذا كان هذا في زمن العادة فإن الكدرة والصفرة والحمرة، أو أي لون يحدث في زمن العادة فهو حيض، وإذا كانت تعرف أن عادتها مضطربة وليس لها وقت معين، ولكنها إذا جاءت تأتي على هيئة معينة، وهذه تخالفها، فلا تكون حيضاً.(339/45)
حكم الاجتماع لقراءة القرآن عن الميت
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يجتمع مع أناس ويقرأ القرآن عن ميته؟
الجواب
ليس له ذلك، وليس له أيضاً أن يقرأ القرآن ويهديه لميته؛ لأن هذا مما لم يرد، فيقتصر على ما ورد، ويترك ما لم يرد.(339/46)
حكم تشبيك الأصابع في المسجد
السؤال
متى يحرم تشبيك الأصابع في المسجد؟
الجواب
تشبيك الأصابع في المسجد مكروه، وينبغي للإنسان ألا يفعله، والتشبيك قبل الصلاة هو الممنوع، وأما التشبيك بعد الصلاة فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ذي اليدين أنه صلى بالناس إحدى صلاتي العشي ركعتين، ثم سلم فظن الناس أنها نسخت الصلاة من أربع إلى اثنتين، فسأله ذو اليدين وقال: (يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: لم أنس ولم تقصر، قال: بل قد نسيت، فسأل الناس فقالوا: نعم، صدق ذو اليدين)، ولما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الركعتين اللتين سها فيهما قام واستند إلى خشبة معترضة في المسجد، وشبك بين أصابعه بعد الصلاة، فدل هذا على جواز التشبيك بعد الصلاة.(339/47)
شرح سنن أبي داود [340]
تولى الله قسمة التركات على ما تقتضيه الحكمة، وأعطى كل ذي حق ما يستحقه، والعلم بالمواريث عظيم القدر، وحاجة الناس إليه ماسة، لمعرفة من يرث الميت ومن لا يرثه، وما نصيب كل من يرثه، وكيفية قسمة التركة.(340/1)
ما جاء في تعليم الفرائض(340/2)
شرح حديث: (العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الفرائض.
باب ما جاء في تعليم الفرائض.
حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أخبرنا ابن وهب حدثني عبد الرحمن بن زياد عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادل)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [كتاب الفرائض].
الفرائض جمع فريضة، والمراد بها هنا المواريث التي فرضها الله عز وجل وقدرها في كتابه، وفي سنة رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وأصل الفرائض من الفرض وهو القطع، وكذلك من التقدير، والفرائض فيها قطع، وهو: إعطاء كل من الورثة قطعة قدرت من الشارع، وهو أيضاً تقدير؛ لأن كل واحد قدر له نصيب من الميراث.
أورد أبو داود [باب تعليم الفرائض] ومعناه: الحث على تعليم الفرائض، أي: علم المواريث، وذلك لحاجة الناس إلى ذلك، ولحاجتهم إلى قسمة الميراث، ومعرفة من يرث ومن لا يرث، ومن يحجب ومن لا يحجب، ومن يستحق الميراث ومن لا يستحق، ومن يرث بالفرض ومن يرث بالتعصيب، فالناس بحاجة إلى معرفة هذا العلم، كما أنهم بحاجة إلى معرفة العلوم الأخرى، ولكن مسائل ما بعد الموت من قسمة الميراث، وتوزيعه على من يستحقه تحتاج إلى عناية واهتمام، ولم يثبت في فضل تعلمه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وردت في ذلك أحاديث ضعيفة، منها هذا الحديث الذي أورده أبو داود، وكذلك حديث: (تعلموا الفرائض وعلموها الناس) ولم يثبت في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن حاجة الناس إلى معرفة المسائل الفرضية، وقسمة المواريث ضرورية؛ لكي تقسم المواريث بين الناس، والناس في كل وقت وحين يحتاجون إليها، إذ كل من مات وله مال فإنه يحتاج إلى قسمة ماله، ومعرفة طريقة القسمة، وذلك على ما جاء عن الله وعن رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(340/3)
أنواع العلم
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن عمرو: (العلم ثلاثة) أي: العلم الشرعي، و (أل) هنا للعهد الذهني، فإن الألف واللام تكون للعهد الذهني، وإذا لم تسبق بشيء ترجع إليه الألف واللام يقال لها: العهد الذكري، مثل قول الله عز وجل: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:15 - 16]؛ لأن (الرسول) الثانية ترجع إلى الرسول الأول الذي قبلها، فأل للعهد الذكري.
وتكون (أل) للعهد الذهني، إذا سبقت بشيء معهود في الأذهان، مثل: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] أي: الكتاب المعهود في الأذهان، وهنا العلم أي: العلم الشرعي المعهود في الأذهان.
(ثلاثة) يعني: ثلاثة أشياء وما سواها فهو (فضل) أي: زيادة علم، وإلا فإن الأصول في هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها.
قوله: (آية) يعني: آية من كتاب الله وهو القرآن، (محكمة) أي: غير منسوخة، فحكمها وثابت، فلم يحصل لها نسخ، فيعمل بها بخلاف الآية المنسوخة فإنه لا يعمل بها، لأنها تتلى ويتعبد الله عز وجل بتلاوتها، ولكن لا يتعبد بالعمل بها؛ لأنها قد نسخت، أما الآية المحكمة فإنه يتعبد بتلاوتها، ويتعبد بالعمل بها، فالمحكمة هي التي حكمها باقٍ غير منسوخ، وكذلك المحكمة هي الواضحة الجلية؛ لأن المحكم -هو الواضح الجلي- يطلق في مقابل المتشابه الذي فيه خفاء، وطريقة أهل العلم أنهم يردون المتشابه إلى المحكم، بخلاف أهل الزيغ فإنهم يتبعون المتشابه.(340/4)
وجوب العمل بالقرآن والسنة معاً
قال عليه الصلاة والسلام: (وسنة قائمة) أي: ثابتة مستقرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا فيه إشارة إلى ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنة، ومعلوم أن الوحي قسمان: قرآن وسنة، وكل منهما متعبد بالعمل وبالعلم به، والقرآن يتعبد بالعمل به مع تلاوته، والسنة يتعبد بالعمل بها، والسنة والقرآن بالنسبة للعمل لابد منهما، ولا يميز أو يفرق بينهما؛ كأن يعمل بالقرآن دون السنة، وإنما يجب العمل بالكتاب وبالسنة، والعمل بالسنة عمل بالكتاب؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
ثم أيضاً السنة وحي من الله وليست من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، فكل ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة فهو من عند الله عز وجل، ومما يوضح ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يغفر للشهيد كل شيء -ثم قال: - إلا الدين سارني به جبريل آنفاً) يعني: أن جبريل جاء باستثناء الدين، ومعنى ذلك: أن السنة وحي من الله، إلا أنها وحي غير متعبد بتلاوته، ولكنه متعبد بالعمل به، ولا يمكن أن يقتصر على القرآن دون السنة، ولو اقتصر على القرآن دون السنة فكيف سيدرك الناس الصلوات الخمس ومقاديرها وأوقاتها وأعدادها إذ لا وجود لها في القرآن، إنما توجد في السنة؟! الظهر أربع ركعات، والعصر أربع ركعات، والمغرب ثلاث، والعشاء أربع، والفجر اثنتين، لا وجود لهذا في القرآن، فالذي يزعم أنه لا يعمل إلا بالقرآن فهو كافر بالقرآن والسنة، ومكذب بالقرآن والسنة، فلابد من السنة مع القرآن، وكل منهما يجب العمل به، ورغم أن الصلاة عمود الإسلام إلا أن الناس لا يعلمون كم أعداد الصلوات، ولا كيفيتها إلا بالسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالذي يزعم أنه يأخذ بالقرآن ولا يأخذ بالسنة كافر بالكتاب والسنة في الحقيقة.(340/5)
معنى قوله: (فريضة عادلة)
قال عليه الصلاة والسلام: (وفريضة عادلة) هذه المقولة تحتمل معنيين: إما أن يكون المراد بها الميراث، فهي عادلة في قسمتها؛ لأنها جاءت من عند الله، وجاءت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يراد بها: الفرائض التي فرضها وأوجبها الله على عباده، وهي أيضاً عادلة؛ لأن الأحكام كلها عادلة كما قال الله عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام، عدلاً في الأوامر والنواهي، فالأحكام عادلة، والأخبار صادقة.
إذاً: إما أن يكون المراد بها الفرائض التي هي المواريث، ويكون معنى عادلة، أنها عادلة في قسمتها، وأن قسمتها قسمة عدل؛ لأنها جاءت من عند الله في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويحتمل أن يراد بها ما هو أعم من ذلك، فتدخل في ذلك الفرائض وغير الفرائض، ويكون المقصود بها الأحكام الشرعية، فإنها عادلة وموصوفة بالعدل، كما قال الله عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، فهي صدق في الأخبار، وعدل في الأحكام.
وأبو داود رحمه الله أورد الحديث من أجل كلمة: (عادلة) على المعنى الأول، الذي هو في المواريث، وأن المقصود بذلك العدل في قسمتها.
والحديث غير صحيح؛ لأن فيه رجلين ضعيفين، وهما عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي، وشيخه؛ فهو غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن تعلم الفرائض ومعرفة المواريث لا شك أنه من أهم المهمات، لشدة حاجة الناس إلى ذلك؛ لأنهم بحاجة إلى أن يعطى كل ذي حق حقه، كما قسم الله في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(340/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل)
قوله: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح].
أحمد بن عمرو بن السرح المصري ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أخبرنا ابن وهب].
ابن وهب هو: عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عبد الرحمن بن زياد].
عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي ضعيف، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة.
[عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي].
عبد الرحمن بن رافع التنوخي وهو أيضاً ضعيف، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن عبد الله بن عمرو بن العاص].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أصحاب الكتب الستة.(340/7)
ما جاء في الكلالة(340/8)
شرح حديث: (مرضت فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الكلالة.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان قال: سمعت ابن المنكدر أنه سمع جابراً رضي الله عنه يقول: (مرضت فأتاني النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعودني هو وأبو بكر رضي الله عنه ماشيين، وقد أغمي علي فلم أكلمه، فتوضأ وصبه علي فأفقت، فقلت: يا رسول الله! كيف أصنع في مالي ولي أخوات؟ قال: فنزلت آية المواريث: ((يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)) [النساء:176])].
أورد أبو داود [باب في الكلالة]، والكلالة: هي الميراث لغير الأصول والفروع؛ لأن الذي ليس له أصول ولا فروع، والذي يرث وهو ليس من الأصول ولا من الفروع يقال له: كلالة؛ والأصول والفروع هما عمود النسب، فالعمود الأعلى هو الآباء والأمهات، والعمود من أسفل هو الأبناء والبنات، وأبناء البنين وإن نزلوا، فما كان من غير الأصول والفروع فهو كلالة.
ويقال للميت حينئذ كلالة لأن الورثة أحاطوا به من الجوانب؛ لأنهم ليسوا من أصوله ولا من فروعه، ولكنهم من حواشيه الذين يحيطون به ويلتفون حوله، فميراث هؤلاء يقال له: كلالة، ويكون هذا في حق الإخوة والأخوات مطلقاً سواء كانوا أشقاء أو لأب أو لأم، ويكون أيضاً لأبناء الإخوة الأشقاء، والإخوة لأب، ويكون أيضاً في الأعمام وأبناء الأعمام؛ هؤلاء هم الذين يرثون كلالة؛ لأنهم لا يعتبرون من الأصول أو الفروع، فهم يحيطون بالميت ويحدقون به، ويرثون بهذه الطريقة لأنهم يدلون إلى الميت بأبيه كالإخوة، أو بجده كالأعمام.
ويكون فيهم الإخوة الأشقاء أو لأب وبنوهم، والأخوات كذلك دون أولادهن، والأعمام وبنوهم دون العمات ودون بنات الأعمام، فإنهن لسن من أصحاب الميراث، ويدخل فيهم أيضاً الإخوة لأم دون أولادهم؛ لأن أبناء الإخوة لأم لا ميراث لهم.
وعلى هذا فالإخوة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: إخوة أشقاء وإخوة لأب وإخوة لأم.
فالإخوة لأم من أصحاب الفروض، الواحد منهم يعطى السدس، فإن زادوا أخذوا الثلث، ولا يرثون بالتعصيب، ولا يرثون إلا عند عدم الفرع الوارث والأصل الذكر، وهم: الأب والجد، والابن والبنت، أو ابن الابن أو بنت الابن؛ لأنه ليس لهم ميراث مع الأصول والفروع فهم محجوبون، ولكن إذا لم يوجد أصول ولا فروع يحجبونهم فإنهم يرثون، وميراثهم هو: إن كان واحداً فله السدس، سواء كان ذكراً أو أنثى وإن كانوا اثنين أو أكثر فإنهم شركاء في الثلث سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً أو مختطلين؛ لأنهم يستوي ذكرهم وأنثاهم، فالذكر الواحد له السدس، والأنثى الواحدة لها السدس، وأكثر من واحد سواء كانوا من الذكور الخلص، أو من الإناث الخلص، أو من الذكور والإناث مختلطين فلهم الثلث، وقد جاء ذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12].
أما أولاد الإخوة لأم فإنهم ليسوا من أهل الميراث لا فرضاً ولا تعصيباً.
وأما الإخوة الأشقاء، فإن كانوا ذكوراً وإناثاً، فللذكر مثل حظ الأنثيين، وإن كانوا إخوة لأب ذكوراً وإناثاً فللذكر مثل حظ الأنثيين، وإن كن أخوات شقيقات فلهن الثلثان، وإن كانت واحدة فلها النصف، وكذلك الأخوات لأب إذا كن جمعاً فلهن الثلثان، وإن كانت واحدة فلها النصف.
هذا إذا كن أخوات شقيقات خلص، أو أخوات لأب ليس معهن غيرهن، فإن كن جمعاً من الأخوات الشقيقات والأخوات لأب، فإن الأخوات لأب لا ميراث لهن؛ لأن الأخوات الشقيقات يستغرقن الثلثين الذي هو ميراث الأخوات، وإن كانت أختاً واحدة شقيقة والباقي أخوات لأب واحدة فإنهن يرثن السدس تكملة الثلثين؛ لأن الأخوات لهن الثلثان، فإذا وجدت واحدة من الشقيقات، أخذت النصف، والسدس تكملة الثلثين يكون للأخوات لأب سواء كن جمعاً أو واحدة.
وبنات الإخوة ليس لهن ميراث، وإنما الميراث لبني الإخوة الأشقاء ولأب.
وأما الأعمام فإنهم يأخذون ما أبقت الفروض إن لم يوجد إخوة أشقاء ولا إخوة لأب ولا أبناؤهم، وكذلك إن لم يوجد الفرع الوارث والأصل الذكر الوارث فإن الميراث ينتقل إلى الأعمام، وإن كان الأعمام غير موجودين، انتقل إلى بني الأعمام، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر).
والكلالة نزلت فيها آيتان: الآية الأولى في أول سورة النساء، وهي مع آية الأزواج، وهي خاصة بالإخوة لأم، وطريقة ميراثهم: أن الفرد الواحد منهم له السدس، وإذا كانوا أكثر من واحد فلهم الثلث، سواء كانوا ذكوراً خلصاً، أو إناثاً خلصاً، أو مختلطين من الذكور والإناث، وأولاد الإخوة لأم ليس لهم ميراث مطلقاً.
أما الإخوة الأشقاء والإخوة لأب فقد جاءت فيهم آية الكلالة التي في آخر النساء، وميراث الإخوة الأشقاء والإخوة لأب هو أن الإناث إذا كانت واحدة فلها النصف، وإن كن اثنتين فأكثر فلهما الثلثان، وإذا وجد شقيقات ولأب، فإن الشقيقات إذا كن أكثر من واحدة يحجبن الأخوات لأب، وإن كانت واحدة فقط فالأخوات لأب يأخذن السدس تكملة الثلثين.
وإذا كانوا ذكوراً فقط وكانوا إخوة أشقاء فإنهم يحجبون الإخوة لأب، ويستقلون بالميراث، وإذا لم يوجد الإخوة الأشقاء يرث الإخوة لأب كما يرث الإخوة الأشقاء، فإذا كانوا ذكوراً وإناثاً فللذكر مثل حظ الأنثيين، قال الله عز وجل: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:176]، وعلى هذا فقد جاء في كتاب الله عز وجل في أول سورة النساء وفي آخر سورة النساء بيان ميراث أصحاب الكلالة الذين ليسوا أصولاً ولا فروعاً مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر).(340/9)
فوائد حديث: (مرضت فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني)
قوله: [سمع جابراً رضي الله عنه يقول: (مرضت فأتاني النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعودني هو وأبو بكر رضي الله عنه ماشيين، وقد أغمي علي فلم أكلمه، فتوضأ وصبه علي فأفقت، فقلت: يا رسول الله! كيف أصنع في مالي ولي أخوات؟ قال: فنزلت آية المواريث: ((يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)) [النساء:176])].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه: أنه مرض فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعودانه ماشيين، وهذا فيه: عيادة المريض، سواء بالمشي أو الركوب، وفي الحديث أنهما جاءا ماشيين، وأنه كان أغمي عليه، فما استطاع أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مغمىً عليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم توضأ وأخذ من وضوئه فصبه عليه فأفاق.
وهذا فيه فضل ما مس وتساقط من جسده صلى الله عليه وسلم من الماء، فالصحابة كانوا يتبركون به، ولا شك أن ما لامس جسده مبارك، ويتبرك به، فقد كان الصحابة يفعلون ذلك، وأما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فإنه لا يتبرك بأحد من الناس سواه، ولم يكن الصحابة يتبركون بـ أبي بكر وعمر، وهم خير الناس وأفضلهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث أنه أفاق من إغمائه وقال: إن لي مالاً ولي أخوات فكيف أصنع بمالي؟ فأنزل الله آية الكلالة، أي: الآية التي في آخر النساء: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء:176]، ومعنى هذا: أن أخوات جابر يكون لهن الثلثان -لأنهن أخوات شقيقات- كما جاء في هذه الآية التي هي آية الكلالة التي هي ختام سورة النساء، وكان هذا في مرضه، وكان لا يوجد له إلا أخوات، وقد توفي أبوه، وليس له ولد؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية التي فيها بيان ميراث الأخوات وغير الأخوات من أولاد الأب، وسواء كانوا ذكوراً أو إناثاً أو مختلطين فإن الآية بينت ميراثهم.(340/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (مرضت فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن حنبل الشيباني الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
سفيان هو ابن عيينة المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت ابن المنكدر].
محمد بن المنكدر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنه سمع جابراً].
جابر بن عبد الله الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد من رباعيات أبي داود التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود، أي أن بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أشخاص.(340/11)
ما جاء فيمن كان ليس له ولد وله أخوات(340/12)
شرح حديث: (وإن الله قد أنزل فبين الذي لأخواتك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من كان ليس له ولد وله أخوات.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا كثير بن هشام حدثنا هشام -يعني: الدستوائي - عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: (اشتكيت وعندي سبع أخوات، فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفخ في وجهي، فأفقت، فقلت: يا رسول الله! ألا أوصي لأخواتي بالثلث؟ قال: أحسن، قلت: الشطر، قال: أحسن، ثم خرج وتركني، فقال: يا جابر! لا أراك ميتاً من وجعك هذا، وإن الله قد أنزل فبين الذي لأخواتك، فجعل لهن الثلثين، قال: فكان جابر يقول: أنزلت هذه الآية في: ((يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)) [النساء:176])].
قوله: [باب من كان ليس له ولد وله أخوات] هذا فيه إشارة إلى تفسير الكلالة، وأن المقصود بها: من ليس له ولد، وهذا هو الذي جاء في القرآن: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:176]، وما ذكر الوارث، ولكن العلماء من الصحابة ومن بعدهم اعتبروا أن الكلالة من لا أصل له ولا فرع، أي من ولد له ولا والد، فليس المقصود بالكلالة: من ليس له ولد، بل من ليس له والد ولا ولد، يعني: ليس له وارث من الأصول الذكور؛ لأن الأصول الذكور يحجبون الإخوة، فلا ميراث للإخوة مع وجود الأصول من الذكور بالنسبة للأب بالإجماع، وبالنسبة للجد على خلاف بين أهل العلم.
وعلى هذا فإن المراد بالكلالة من لا فروع له ولا أصول، وكذلك الفروع بالنسبة للذكور فإنهم يحجبون الإخوة، وإذا وجد بنات فإنهن يأخذن نصيبهن والباقي لأولى رجل ذكر، وإذا كان هناك إخوة فإنهم يرثون بعد فرض البنات، وإنما يحجبهم ويحول بينهم وبين الميراث نهائياً الأبناء وأبناء الأبناء، والأب باتفاق والجد على خلاف بين أهل العلم، والصحيح أنه يحجب الإخوة كالأب، فكما أن ابن الابن ابن وإن نزل، فأب الأب أب وإن علا، فيكون حاجباً للإخوة، وهذا هو القول الصحيح في ذلك.
وهنا ذكر المصنف التقييد بالولد؛ لأنه هو الذي جاء في القرآن، {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}، ولكن المقصود به من ليس له ولد وليس له والد، وآية الكلالة التي في آخر النساء فيها إشارة إلى هذا؛ لأن قوله: ((وَهُوَ يَرِثُهَا)) أي: الأخ الشقيق يرث أخته إن لم يكن لها ولد، وإذا كان هناك أب، فإنه يحوز ميراثها، فالكلالة هي من لا والد له ولا ولد.
أورد أبو داود حديث جابر وهو مثل الذي قبله، وفيه: أنه كان عرض أن يوصي لأخواته بالثلث، فقال: (أحسن)، يعني: إليهن، فقال: الشطر، فبعد ذلك تركه، ثم أخبره بأنه لن يموت من مرضه هذا، وأن الله عز وجل قد أنزل قرآناً، وأن لأخواته الثلثان، يعني: فرض الأخوات الثلثين، فقال جابر: إن هذه الآية نزلت في، وهي: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ}، فهي مثل الرواية التي قبلها، على اعتبار أن الأخوات الشقيقات أو لأب يرثن كلالة، وميراثهن إذا كن أكثر من واحدة فهو الثلثان، سواء كن ثنتين أو أكثر.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أحسن) يعني: زد، وهذا كان قبل أن تنزل الفرائض، وبيان الميراث، ولكنه بعدما نزل قال: إن الله أنزل في كتابه ما تستحقه أخواتك، وهو الثلثان، إذاً فلا وصية، وقبل أن ينزل الميراث كانت الوصية موجودة للوالدين والأقربين، ولكن نسخت بعد أن نزلت آيات المواريث، وقد جاء في الحديث (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)، وهذه المحاورة كانت قبل أن ينزل البيان الذي فيه استحقاقهن للميراث، وجاء في السنة أنه لا وصية لوارث.(340/13)
تراجم رجال إٍسناد حديث: (وإن الله قد أنزل فبين الذي لأخواتك)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا كثير بن هشام].
كثير بن هشام هو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا هشام -يعني: الدستوائي -].
هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
أبو الزبير هو: محمد بن مسلم بن تدرس المكي وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما وقد مر ذكره.(340/14)
شرح حديث: (آخر آية نزلت في الكلالة (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (آخر آية نزلت في الكلالة: ((يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)) [النساء:176])].
أورد أبو داود حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: آخر آية نزلت في الكلالة: ((يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ))، ويقال لها: آية الصيف؛ لأنها نزلت في الصيف، وآية الكلالة الأولى آية الشتاء؛ لأنها نزلت في الشتاء، وكما هو معلوم الآية الأولى خاصة بالإخوة لأم، ولهذا جاءت مع الأزواج الذين هم من أصحاب الفروض، ولا يكونون من أصحاب التعصيب بحال من الأحوال، فالأزواج والإخوة لأم أصحاب فروض، ولا يكونون من أصحاب التعصيب بحال من الأحوال، وأما آية الكلالة التي هي آية الصيف، وهي آخر آية: ((يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ))، فإنها في الإخوة الأشقاء، والإخوة لأب، وفيهم من يرث بالفرض، وفيهم من يرث بالتعصيب، فإن الواحدة لها النصف، وإذا وجد معها أخوات من الأب فلهن السدس تكملة الثلثين، وأكثر من واحدة لهن الثلثان، وإذا كان هناك إخوة وأخوات أشقاء أو لأب، فإن للذكر منهم مثل حظ الأنثيين.(340/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (آخر آية نزلت في الكلالة: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم] مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق].
أبو إسحاق الهمداني، وهو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن البراء بن عازب].
البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما وهو صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وهذا أيضاً من الرباعيات ومن أعلى الأسانيد عند أبي داود، فهو يروي عن مسلم بن إبراهيم عن شعبة بن الحجاج عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب.(340/16)
شرح حديث: (تجزيك آية الصيف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا منصور بن أبي مزاحم حدثنا أبو بكر عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا رسول الله! يستفتونك في الكلالة، فما الكلالة؟ قال: (تجزيك آية الصيف)، فقلت لـ أبي إسحاق: هو من مات ولم يدع ولداً ولا والداً؟ قال: كذلك ظنوا أنه كذلك].
أورد المصنف حديث البراء بن عازب: أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أخبرني عن الكلالة، وقيل: إن هذا الرجل هو عمر رضي الله عنه؛ فقال: (تجزيك آية الصيف) يعني: أحاله على آية الكلالة التي في آخر النساء، وهي التي نزلت في الصيف، فالحكم واضح فيها، ولعله لم يوضح له ذلك اكتفاءً بما عنده من العلم والفهم، وأنه يرجع إلى هذه الآية ففيها البيان.
وهذه الآية ذكر فيها الولد ونص عليه، وأما الوالد فإنه يؤخذ من قوله: ((وَهُوَ يَرِثُهَا)) أي: أخته إذا لم يكن لها ولد، فإنه لا يحوز ميراثها إلا إذا لم يكن لها ولد وليس لها أب؛ لأنه لو كان لها أب فإنه ليس للإخوة ميراث بالإجماع، وإنما الخلاف في ميراثهم مع وجود الجد.(340/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (تجزيك آية الصيف)
قوله: [حدثنا منصور بن أبي مزاحم].
منصور بن أبي مزاحم ثقة، أخرج له مسلم وأبي داود والنسائي.
[حدثنا أبو بكر].
أبو بكر بن عياش، وهو ثقة، أخرج له مسلم والبخاري ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب].
مر ذكرهما.
وهذا أيضاً إسناد رباعي.(340/18)
ما جاء في ميراث الصلب(340/19)
شرح حديث: (لابنته النصف ولابنة الابن سهم تكملة الثلثين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في ميراث الصلب.
حدثنا عبد الله بن عامر بن زرارة حدثنا علي بن مسهر عن الأعمش عن أبي قيس الأودي عن هزيل بن شرحبيل الأودي قال: (جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري وسلمان بن أبي ربيعة فسألهما عن ابنة وابنة ابن وأخت لأب وأم؟ فقال: لابنته النصف، وللأخت من الأب والأم النصف، ولم يورث ابنة الابن شيئاً، وائت ابن مسعود فإنه سيتابعنا، فأتاه الرجل فسأله وأخبره بقولهما: فقال: لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، ولكني سأقضي فيها بقضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لابنته النصف، ولابنة الابن سهم تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت من الأب والأم)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة: [باب ما جاء في ميراث الصلب] وهم أبناء الإنسان من صلبه، الذين تفرعوا منه؛ لأن الميت له عمودان، عمود من فوق، وعمود من تحت.
العمود الذي من فوق هم أصوله، والعمود الذي من تحت هم أبناؤه.
وهذه الترجمة تتعلق بميراث فروع الميت، وهم أبناؤه لصلبه، والذين تحدروا منهم، وقد جاء في القرآن الكريم بيان عمودي النسب الذين هم الأبناء والبنات، والأب والأم، فالآية الأولى في النساء: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فإن هذه الآية تتعلق بأصول الميت وفروعه، والله ذكر في القرآن ثلاث آيات، اثنتان في أول النساء، الأولى منهما في عمودي النسب: الآباء والأمهات، والأبناء والبنات، والثانية في الأزواج والإخوة لأم، وهم الذين لا يرثون إلا بالفرض، ولا سبيل لهم إلى التعصيب، وقد جمعهم في آية واحدة هي الآية الثانية، {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء:12]، وفي ختامها: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} [النساء:12]، والآية الثالثة التي في آخر النساء في الإخوة الأشقاء والإخوة لأب.(340/20)
من يأخذ الثلثين من النساء؟
بين الله تعالى في كتابه أنه إذا وجد أبناء للميت ذكور وإناث فللذكر مثل حظ الأنثيين، وإن كانت ابنة واحدة فلها النصف، وإن كن أكثر من واحدة فلهن الثلثان، وإذا كن بنات متفاوتات في الدرجة، كالبنت وبنت الابن، أو البنت وبنات الابن، فهن بنات يدخلن في قول الله عز وجل: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء:11]، أو يمكن أن يقال إن الجميع من أولاد الميت، إلا أنهم متفاوتون، في القرب والبعد، فالذي هو قريب وهي البنت إذا كانت واحدة يكون لها النصف، ثم يعطى السدس لبنات الابن أو لبنت الابن تكملة الثلثين؛ لأنهن لو كن بنات متعددات في درجة واحدة صار لهن الثلثان، وبنات الابن لا شيء لهن؛ لأن الميراث قد استكمل إلا لو وجد أبناء ابن فإنهم يعصبون بنات الابن، فيرث الذكور والإناث على حد سواء.
وإن لم يوجد هناك ذكور من أبناء الأبناء فإن البنات الصبيات قد استغرقن الثلثين، ولم يبق لبنات الابن شيء.
لكن لو لم توجد من البنات إلا واحدة، فإنه يكون قد بقي من ميراث البنات السدس، فهذا السدس يعطى لبنات الابن؛ لأنهن داخلات في أنهن بنات للميت، إلا أن هذه بنت قريبة، وبنت الابن أنزل منها، فالقريبة أعطيت القسم الأكبر وهو النصف، والتي أنزل منها أعطيت ما يكمل الثلثين وهو السدس، وهو ميراث البنات لو كن متعددات، وإن كانوا ذكوراً خلصاً فالمال لهم، ويجوزون جميع الميراث؛ لأنهم عصبة بالنفس، فهم يرثون المال كله.
ثم بعد ذلك جاء في الآية ذكر ميراث الأب والأم، والتفصيل فيه له موضع آخر غير هذا الباب.(340/21)
ميراث البنت مع بنت الابن
في الحديث: أن رجلاً جاء إلى أبي موسى الأشعري وإلى سلمان بن ربيعة وسألهما عن رجل ترك بنتاً وبنت ابن وأختاً لأب وأم فقالا: للبنت النصف، وللأخت النصف، وبنت الابن لا شيء لها، ثم قال: اذهب إلى ابن مسعود فسيتابعنا.
معناه أنه سوف يقول بقولنا، وكأنه وقع في بالهما أن هذا هو الحق، وأن ابن مسعود سيتابعهما، لكن ابن مسعود رضي الله عنه كانت عنده سنة وعلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أبلغه السائل قولهما وأنه سيتابعهما قال: [لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين] يعني: إن تابعتهما، وأنا أعلم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الميراث.
وهما كما هو معلوم قالا باجتهاد، وعلى حسب ما بلغهما من العلم، وهما معذوران، لكن الذي عنده سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بمعذور أن يحيد عنها، وأن يعدل عنها كما قال الإمام الشافعي رحمة الله عليه: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد.
وقوله: [قد ضللت] فيه إشارة إلى أن الفعل على خلاف ما جاء به الشرع، وأن الأخذ بغيره ضلال وخروج عن الجادة، وأكد ذلك بقوله: (وما أنا من المهتدين) يعني: أنه يكون ضالاً غير مهتدٍ.
ثم قال: [ولكن سأقضي فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: لابنته النصف، ولابنة الابن سهم -أي: السدس- تكملة الثلثين].
لأن الثلثين ميراث البنات المتعددات، لكن لما كانت البنات في درجتين ولسن في درجة واحدة، فالتي في الدرجة الأولى -وهي واحدة- أعطيت النصف كاملاً، ثم اللاتي أنزل منها يحزن باقي الثلثين وهو السدس، وهذا كما أنه نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أيضاً يفهم من القرآن، لأنه جعل ميراث البنات الثلثين، ومعلوم أن بنت الابن تعتبر من بنات الميت، ولكن لتفاوتهما جاء في السنة التفريق بينهما، وأن التي في الدرجة الأولى تعطى النصف كاملاً، والتي دونها تأخذ السدس الذي يكمل به الثلثان.(340/22)
أقسام العصبة
قال: [وما بقي فللأخت من الأب والأم].
أي: للأخت الشقيقة، وهذا الذي تأخذه الأخت الشقيقة تأخذه تعصيباً، ويقال له: تعصيب مع الغير؛ لأن التعصيب أقسامه ثلاثة: تعصيب بالنفس، وتعصيب بالغير، وتعصيب مع الغير.
فالعصبة بالنفس هو الذي لا يحتاج لأحد يعصبه كالابن، وكذا الأخ الشقيق والأخ لأب والعم وابن العم، وإذا كان بنون وبنات فهم يرثون للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا ترث البنات بالفرض؛ لأنه لا فرض للبنات مع إخوانهن، بل يقسم المال بين البنين والبنات للذكر مثل حظ الأنثيين، وقد تسقط بنت الابن وترث مع أخيها لو وجد بنتان وبنت ابن وابن ابن، فإن البنتين لهما الثلثان، وابن الابن وأخته أو بنت عمه لهما الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين، وحينئذ يقال لبنت الابن: إنها عصبة بالغير، أي ليست عصبة بنفسها وإنما هي عصبة بغيرها؛ لأن غيرها هو الذي عصبها، وهو الذي جعلها ترث بهذا الوجه، ولو لم يوجد أخوها أو ابن عمها الذي هو ابن الابن فإنها تسقط؛ لأن البنات يستكملن الفرض -الثلثين- لكن لما وجد فرع من الذكور الوارث، فإنه يعصب بنت الابن وترث مع أخيها تعصيباً بالغير.
وأما التعصيب مع الغير فهو ميراث الأخوات مع البنات، وذلك حيث توجد بنات وليس معهن ذكور يعصبونهن ويستوعبون المال معهن، فإذا أخذت البنات فرضهن، فإن الباقي للأخوات الشقيقات أو لأب، وهذا يقال له: تعصيب مع الغير.
إذاً: العصبة بالنفس: هم الذكور من البنين وأبناء البنين، والأب والجد وكذلك الأعمام، وأبناء الأعمام، والإخوة الأشقاء، وأبناء الإخوة الأشقاء، والإخوة لأب وأبناء الإخوة لأب، والمعتق والمعتقة.
والذين يعصبون أخواتهم هم: الابن وابن الابن والأخ الشقيق والأخ لأب، فإن أخواتهم يرثن معهم للذكر مثل حظ الأنثيين، ويقال عن الإناث حينئذ إنهن عصبة بالغير، وهن البنات مع البنين، وبنات البنين مع بني البنين، والأخوات الشقيقات مع الإخوة الأشقاء، والأخوات لأب مع الإخوة لأب.
وأما الأخوات الشقيقات أو لأب إذا كن مع البنات أو بنات الابن، فإنهن عصبة مع الغير، فتأخذ البنات فرضهن سواء كانت واحدة أو اثنتين فأكثر، فيكون لهما الثلثان إذا تعددن، والنصف إذا كانت واحدة، والباقي للأخوات تعصيباً، ومن العصبة مع الغير.(340/23)
تراجم رجال إسناد حديث: (لابنته النصف ولابنة الابن سهم تكملة الثلثين)
قوله: [حدثنا عبد الله بن عامر بن زرارة].
عبد الله بن عامر بن زرارة صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود وابن ماجة.
[حدثنا علي بن مسهر].
علي بن مسهر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
الأعمش هو: سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قيس الأودي].
أبو قيس الأودي هو: عبد الرحمن بن ثروان، وهوصدوق ربما خالف، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن هزيل بن شرحبيل الأودي].
هزيل بن شرحبيل الأودي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن ابن مسعود].
عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهما صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(340/24)
شرح حديث: (أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جئنا امرأة من الأنصار في الأسواف، فجاءت المرأة بابنتين لها فقالت: يا رسول الله! هاتان بنتا ثابت بن قيس، قتل معك يوم أحد، وقد استفاء عمهما مالهما وميراثهما كله، فلم يدع لهما مالاً إلا أخذه، فما ترى يا رسول الله؟ فوالله لا تنكحان أبداً إلا ولهما مال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقضي الله في ذلك، قال: ونزلت سورة النساء: ((يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ)) [النساء:11] الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادعوا لي المرأة وصاحبها؟ فقال لعمهما: أعطهما الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فلك).
قال أبو داود: أخطأ بشر فيه، إنما هما: ابنتا سعد بن الربيع، وثابت بن قيس قتل يوم اليمامة].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: (أن امرأة ثابت بن قيس) والصواب أنها امرأة سعد بن الربيع، كما بين ذلك أبو داود في آخر الحديث؛ لأن ثابت بن قيس بقي إلى ما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، واستشهد يوم اليمامة مع الجيوش التي أرسلها أبو بكر رضي الله عنه لقتال المرتدين.
وفيه: أن امرأة سعد بن الربيع جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: هاتان ابنتا سعد الذي قتل معك يوم أحد، وإن عمهما استفاء مالهما، يعني: اختص بمالهما وأخذ مالهما، ولا ينكحان إلا بمال، فقال: (يقضي الله في ذلك، فأنزل الله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]).
فاستدعى عمهما وقال: (أعطهما الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فلك)؛ لأن عمهما يرث الباقي بعد أخذ الفروض، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)، والفرائض هنا: ثمن للزوجة؛ لوجود الفرع الوارث، والبنتان لهما الثلثان، كما قال الله عز وجل: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء:176].
والأسواف: مكان من الحرم.(340/25)
تراجم رجال إسناد حديث: (أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد هو ابن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا بشر بن المفضل].
بشر بن المفضل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل].
عبد الله بن محمد بن عقيل صدوق في حديثه لين، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله مر ذكره.
وهذا إسناد رباعي.(340/26)
شرح حديث (أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن السرح حدثنا ابن وهب أخبرني داود بن قيس وغيره من أهل العلم عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (أن امرأة سعد بن الربيع رضي الله عنه قالت: يا رسول الله! إن سعداً هلك وترك ابنتين) وساق نحوه.
قال أبو داود: وهذا هو أصح].
أورد أبو داود طريقاً أخرى وفيها بيان أن سعد بن الربيع هو الذي استشهد، وأن الابنتين التي أخذ عمهما المال ولم يبق لهما شيئاً هما ابنتا سعد، ثم بعد ذلك نزل القرآن، ودعا عمهما وأخبره أن له ما بقي بعد الثلثين الذي هو فرض للبنتين، والثمن الذي هو فرض للزوجة، وفيه بيان أن هذا هو الصحيح من جهة أنه هو الذي قتل يوم أحد.
وأما ثابت بن قيس بن شماس في الرواية الأولى فهو خطأ؛ لأن ثابتاً عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم واستشهد في خلافة الصديق رضي الله عنه.
قوله: [حدثنا ابن السرح عن ابن وهب عن داود بن قيس].
ابن السرح وابن وهب مر ذكرهما، وداود بن قيس ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[وغيره من أهل العلم عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله].
عبد الله بن محمد بن عقيل وجابر بن عبد الله مر ذكرهما.(340/27)
شرح أثر: (أن معاذ بن جبل ورَّث أختاً وابنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا قتادة حدثني أبو حسان عن الأسود بن يزيد أن معاذ بن جبل رضي الله عنه ورث أختاً وابنة فجعل لكل واحدة منهما النصف وهو باليمن، ونبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذٍ حي].
هذا الأثر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أنه ورث بنتاً وأختاً إما شقيقة أو لأب، فأعطى كل واحدة منهما النصف، فالبنت أعطاها النصف فرضاً، وأما الأخت فهو تعصيب مع الغير، وذلك في زمن النبوة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي.
فهذا يشعر بأن هذا إما أن يكون حصل في زمن النبوة، ولو كان الحكم بخلاف هذا لنزل القرآن، كما جاء في حديث جابر: [كنا نعزل والقرآن ينزل، ولو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن]، أو أنه إنما قال ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه مبني على علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أيضاً ما في هذا الحديث مطابق لما تقدم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، في أن الأخت ترث مع البنت أو البنات على سبيل التعصيب مع الغير، وليس من قبيل الفرض.
وقوله: [أعطى كل واحدة منهما النصف] ليس معنى ذلك فرضاً؛ لأن الأخت لا يفرض لها مع وجود البنات أو البنت، وإنما يفرض لها مع عدم وجود الفرع الوارث، وعدم وجود الأصل الوارث من الذكور، وإنما المقصود أنه تعصيب، أي: تعصيب مع الغير، فلها الباقي الذي صار نصفاً.(340/28)
تراجم رجال إسناد أثر: (أن معاذ بن جبل ورَّث أختاً وابنة)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل] موسى بن إسماعيل هو التبوذكي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبان].
أبان بن يزيد العطار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبو حسان] أبو حسان الأعرج وهو مسلم بن عبد الله صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الأسود بن يزيد].
الأسود بن يزيد بن قيس النخعي وهو ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معاذ بن جبل] معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(340/29)
الأسئلة(340/30)
وجوب التقابض في المجلس إذا اختلفت أجناس العملات
السؤال
هل يشترط التقابض في المجلس في العملات المختلفة؟
الجواب
نعم.
العملات تعتبر أجناساً، فالتفاضل فيها سائغ، والتقابض لازم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)،: (كيف شئتم) يعني: متفاضلاً، لكن بشرط أن يكون يداً بيد، فلابد من التقابض.(340/31)
شرح حديث: (تخيروا لنطفكم)
السؤال
ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تخيروا لنطفكم؛ فإن العرق دساس)؟
الجواب
هذا الحديث غير ثابت، ومعناه: أن الزوجة تختار من أناس طيبين، ومن أناس خيار، لأنه إذا كان في أصلها سوء فإنه قد يسري على الفروع ما هو موجود في الأصول، وهذا ليس على إطلاقه، والحديث غير ثابت.(340/32)
إرسال حديث الأسود بن يزيد
السؤال
في الحديث الأخير: عن الأسود بن يزيد (أن معاذ بن جبل ورث أختاً وابنة)، هل هذا الحديث في معنى المرسل؛ لأن الأسود قال: ونبي الله يومئذٍ حي؟
الجواب
هذا ليس مرسلاً؛ لأن الأسود بن يزيد مخضرم، وهو يحكي عن معاذ، ولا يحكي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان هذا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن معاذاً كان قاضياً باليمن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.(340/33)
تصويب الوحي لما يجتهد فيه النبي فيخطئ
السؤال
هل يخطئ النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما يرويه عن الله؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم قد يجتهد، ولكنه لا يقر على الشيء الذي يحصل منه وهو خلاف الأولى، كما في قضية أسارى بدر، وغير ذلك مما ورد، بل ينزل الوحي ببيان الصواب.(340/34)
حكم التهرب من دفع الضرائب
السؤال
فرضت علي الدولة ضرائب لمدة سبع سنوات ولم أدفع ذلك، واتصل بي شخص يعمل في الضرائب وقال: ادفع لي مبلغاً من المال لأزيل عنك هذه الأشياء، فهل لي أن أدفع له؟
الجواب
كل هذا شر في شر؛ لأن هذا الذي اتصل ستعطيه من غير حق، وأولئك يأخذون بغير حق.(340/35)
حكم صلاة من يدافعه الأخبثان
السؤال
حديث: (لا صلاة لمن يدافعه الأخبثان)، هل يدل على بطلان الصلاة إذا وجد ذلك؟
الجواب
لا تبطل الصلاة، اللهم إلا إذا وجدت شدة منعت الإنسان أن يأتي بما هو واجب، وبما هو مطلوب، وبما هو متعين؛ فحينئذٍ لا تصح الصلاة، أما إذا أتى بما هو مطلوب فيها، ولكنه كان مشغولاً بهذه المدافعة؛ فإن صلاته تصح.(340/36)
حكم تقسيم التركة قبل الموت
السؤال
عندنا عادة أن الإنسان قبل أن يموت يقسم الأموال للبنين والبنات، من أجل ألا تحدث بينهم مشاكل بعد موته، علماً بأنهم كلهم راضون بهذه القسمة، فهل هذا العمل يعد صواباً؟
الجواب
كون الإنسان يعطي أولاده من ماله في حياته على قدر الميراث لا بأس به، وكل واحد يحصل ميراثه كما شرع الله عز وجل، والمشاكل تحصل فيما إذا اعتدى أحد على أحد، وإلا فإن كل واحد نصيبه معروف ومقدر، والحق سوف يصل إليه.(340/37)
حال حديث: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق)
السؤال
قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة)، رواه أبو يعلى كما في مجمع الزوائد، قال الهيثمي: رجاله ثقات، ما رأيكم؟
الجواب
ما أعرف شيئاً عن صحته، لأن قول الهيثمي: رجاله ثقات، لا يدل على صحته، فقد يكون فيه انقطاع، ولا يكفي في صحته كون جميع رواته ثقات.(340/38)
ابن الابن لا يعصب البنت
السؤال
هل ابن الابن يعصب البنت؟
الجواب
لا، البنت ترث النصف، والباقي لابن الابن، وإنما يعصب أخته أو ابنة عمه.(340/39)
عنعنة أبي الزبير في حديث (اشتكيت وعندي سبع أخوات)
السؤال
مر معنا حديث: (اشتكيت وعندي سبع أخوات فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفخ في وجهي) عن أبي الزبير عن جابر، وأبو الزبير مدلس وقد عنعن، فما حال الحديث؟
الجواب
هذا الحديث عن أبي الزبير يشهد له حديث ابن المنكدر، فهما سواء، وفي حديث ابن المنكدر: (فتوضأ وصبه علي فأفقت)، وفي حديث أبي الزبير: (فنفخ في وجهي فأفقت) والجمع بينهما ممكن.(340/40)
حكم صب زائر المريض من وضوئه على المريض
السؤال
في الحديث: (فتوضأ وصبه علي)، هل فيه: أن من زار المريض فله أن يتوضأ، ويصب الوضوء على المريض؟
الجواب
لا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فيه بركة، ويتبرك بفضل وضوئه، وأما غيره من الناس فلا يتبرك بهم، فإن خير الناس من بعده أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ما كان الصحابة يتبركون بهما، وإنما هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.(340/41)
حكم القطع لأحد بالشهادة
السؤال
قلتم عن ثابت بن قيس أنه استشهد يوم اليمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهل الشهادة لأحد بأنه شهيد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم خاص بالصحابة أم ممتنع على الجميع، والواجب الاستثناء؟
الجواب
الذي يجاهد في سبيل الله، ثم يموت في المعركة الظاهر أنه يستشهد، ولكن الحقيقة علمها عند الله، كما جاء في قصة الرجل الذي كان له نكاية بالعدو، ولا ترك شاذة ولا فاذة إلا وقد أتى عليها للعدو، ثم أثنوا عليه عند النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (هو في النار)، وبعد ذلك تبعه أحد الصحابة ورآه قتل نفسه.(340/42)
موانع الإرث
السؤال
من الأشخاص الذين لا حق لهم في الإرث؟
الجواب
الأشخاص الذين لا حق لهم في الإرث هم من يذكرون في علم الفرائض تحت باب موانع الميراث، وهي: الرق، والقتل واختلاف الدين، فهذه موانع الإرث، فالمسلم لا يرث الكافر، والكافر لا يرث المسلم، والقاتل والرقيق لا يرثان.(340/43)
حكم من لم يبت في مزدلفة
السؤال
أنا لم أبت في مزدلفة، فماذا يجب عليّ؟
الجواب
إذا خرج من مزدلفة قبل نصف الليل فإن عليه فدية، وهي شاة تذبح في مكة، وتوزع على فقراء الحرم.(340/44)
حكم من طلبت الطلاق وتريد الرجوع إلى زوجها
السؤال
امرأة كانت متزوجة من رجل ولها ولد منه، ونتيجة لمرض أصابها كرهته، فطلبت الطلاق منه فطلقها ومعها الولد، وهي الآن تريد أن ترجع إليه، فما الحكم؟
الجواب
لها أن ترجع إذا رغب بها وطلبها، وإذا كانت خرجت من العدة فلا بد من عقد ومهر جديدين.(340/45)
أحكام سلس المذي
السؤال
ما هي أحكام سلس المذي، علماً بأنه يحصل نادراً ولا يشعر به صاحبه؟ وهل هو نجس؟
الجواب
لا شك أنه نجس، ويجب التطهر منه، وهو ينقض الوضوء، وهذا حيث يكون نادراً، وأما إذا كان مستمراً مثل سلس البول، فهذا له حكم آخر، ويتقي الله ما استطاع، ويتوضأ عند ضيق الوقت، ولا يضره ما يخرج منه بعد ذلك.(340/46)
أجر من جلس في مصلاه يذكر الله حتى طلوع الشمس
السؤال
حديث: (من صلى الفجر وقعد في مجلسه يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كان له أجر حجة وعمرة تامة)، هل المقصود: أنه يجب عليه أن يبقى قاعداً في المسجد بعد الصلاة أم أنه من الممكن أن يرجع إلى البيت ويذكر الله فيه؟
الجواب
بل يجلس في المسجد؛ لأنه قال في المسجد؛ لأنه لو ذهب إلى البيت ما حصل الذي جاء في الحديث.(340/47)
أجر المرأة إذا ذكرت الله حتى طلوع الشمس في بيتها
السؤال
إذا كانت المرأة لها أطفال وتحتاج إلى أن تجهزهم للمدارس، فهل يكتب الأجر لها إذا كانت تصلي الفجر ثم تقوم بهذه الأعمال وهي تذكر الله؟
الجواب
إذا كان لها شغل يشغلها عن هذا، ففضل الله واسع، وإذا ذكرت الله عز وجل فهي مأجورة على ذلك، لكن الذي جاء في الحديث هو المسجد، وإن شاء الله لو فعلت المرأة فهي على خير، ولكن لم يرد نص يدل على هذا، ولكن كونها تقوم وتتحرك وتذهب وتأتي، فهذا لا يصدق عليه أنها جلست في مكانها.(340/48)
حكم صلاة الداخل إلى المسجد في وقت الأذان
السؤال
إذا دخلت في وقت الأذان، هل لي أن أجلس أم أنتظر حتى فراغ الأذان؟
الجواب
لا تجلس، بل انتظر حتى يفرغ المؤذن ثم صل ركعتين.(340/49)
حكم حلق اللحية لمعاملة جواز السفر
السؤال
في بلادي للحصول على جواز السفر يفرض علينا حلق اللحية، فإذا أردت الذهاب للعمرة يفرض عليَّ حلقها، فهل أحلقها أو لا أعتمر؟
الجواب
هذا الكلام يحتاج إلى تحقق، هل هو صحيح أو غير صحيح، وأنا أشك في صحته؛ لأن كثيراً من الناس يأتون إلى الحج من مختلف البلاد ولهم لحى، لكن بعض الناس يتخوف، وبعض الناس لهم رغبة في حلقها، وكونه يجد ولو يسيرة يقدم على حلقها! ولكن من يتق الله يجعل له مخرجاً، ولا يقال: إن كل من كان في تلك البلاد لابد لهم من الحلق، ففيهم حليقون، وفيهم ذوو لحى، والإنسان يكون مع أهل الحق، ويكون مع أهل الطاعة، ولا يكون مع أهل المعاصي، وما أظن أنه لا يخرج من تلك البلاد أحد إلا وقد حلق!(340/50)
حكم مصافحة غير المحارم والجلوس معهن
السؤال
لي بنات عم وبنات عمات، وبنت خال، وغيرهن ممن أنا لست لهن محرماً، وهن بالغات يسلمن علي دون تقبيل، وأجلس معهن في حضور محارمهن، فما حكم فعلي هذا؟
الجواب
المصافحة للنساء غير المحارم لا تجوز، وكونهن يكن متكشفات وعندهن أجنبي لا يجوز، ويجب عليهن التستر والاحتجاب، ولا يجلسن مع الرجال، ولا ينبغي أن يكون جلوسكم مع مثل هؤلاء البنات، بل يجب أن تكونوا على حدة، ولا يجلسن مع الرجال، ولو كن متحجبات.(340/51)
حكم التبرك بشباك الحجرة النبوية ومشايخ الحرم
السؤال
نشاهد كثيراً من الزوار يتمسحون بشباك الحجرة، وبمشايخ الحرم وهم خارجون من المحراب، فما توجيهكم؟
الجواب
هذا من الجهل، ومثل ذلك لا يجوز، نعم على المسلم أن يكون محباً للنبي صلى الله عليه وسلم محبة تفوق النفس والمال والولد والوالد والناس أجمعين، ولكن هذه المحبة لا تكون بتمسيح الجدران، وإنما تكون باتباع النبي عليه الصلاة والسلام، والسير على منهاجه، والعمل بسنته، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وأما مسح الجدران والتمسح بالشبابيك وما إلى ذلك فهذا غير صحيح، ولا يجوز الإتيان به؛ لأنه ما جاء عن سلف هذه الأمة، ولو كان خيراً لسبقوا إليه، لأنهم السابقون إلى كل خير، والحريصون على كل خير، وعلى الإنسان أن يكون متبعاً لا أن يكون مبتدعاً، والاتباع يكون بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وتصديق الأخبار، وأن تكون العبادة لله مطابقة للسنة التي جاء بها رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(340/52)
شرح سنن أبي داود [341]
تحل الجدة في المواريث محل الأم فتأخذ فرضها إن عدمت الأم، والجد يحل محل الأب إن عدم، وقد بين العلماء الوارثين وغير الوارثين من الأجداد والجدات.
وعند قسم الميراث يبدأ بأهل الفروض فيعطون حقوقهم ثم العصبات، فإذا لم يوجد أحد من أهل الفروض والعصبات أعطي المال لذوي الأرحام.
والعصبة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عصبة بالنفس وبالغير ومع الغير.(341/1)
ما جاء في الجدة(341/2)
شرح حديث (أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدة السدس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الجدة.
حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عثمان بن إسحاق بن خرشة عن قبيصة بن ذؤيب رضي الله عنه أنه قال: (جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه تسأله ميراثها فقال: ما لك في كتاب الله تعالى شيء، وما علمت لك في سنة نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة رضي الله عنه فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة؛ فأنفذه لها أبو بكر، ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه تسأله ميراثها، فقال: ما لك في كتاب الله تعالى شيء، وما كان القضاء الذي قضي به إلا لغيرك، وما أنا بزائد في الفرائض، ولكن هو ذلك السدس، فإن اجتمعتما فيه فهو بينكما، وأيتكما خلت فهو لها).
حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة أخبرني أبي حدثنا عبيد الله أبو المنيب العتكي عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل للجدة السدس إذا لم تكن دونها أم)].
يقول أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في ميراث الجدة]، الجدة من النساء الوارثات، وهي ممن يرث بالفرض فقط، وليست من أهل التعصيب، وميراثها السدس سواء كانت واحدة أو أكثر من ذلك فإنهن يشتركن في السدس ولا يزدن عليه، والجدات اللاتي يرثن هن: أم الأم التي تدلي بالأم، وأم الأب التي تدلي بالأب، وأم الجد التي تدلي بأب الأب الذي هو الجد، فمن كانت منهن أقرب درجة انفردت بالسدس، وإن تساوين في الدرجة اشتركن به.
ومن شرط إرث الجدة: ألا يوجد أم للميت؛ لأن الجدات إنما يرثن بالأمومة؛ لأنهن من أمهات الميت، فإذا وجدت الأم التي ولدت الميت فإنها تستقل بالميراث، ولا ترث الجدات معها شيء، وإن كانت غير موجودة فإن الجدات يرثن.
والتي ترث من الجدات هي التي تدلي إلى الميت بأمه أو أبيه أو جده من قبل أبيه، وأما أم أبي الأم، فإنها لا ترث، وهي من ذوي الأرحام؛ لأن الجد أبا الأم لا يرث، وأمه لا ترث، وإنما ترث منهن من أدت بوارث سواء كانت أماً، أو أم أم، أو أم أب، أو أم جد، الذي هو أب الأب، ومن انفردت منهن استقلت بالسدس، وإن وجدن وكن متفاوتات في الدرجة فالأقرب منهن تنفرد بالسدس، وإن تساوين في الدرجة، بأن كن: أم أم أم، وأم أم أب، وأم أب أب، فإنهن يشتركن في السدس.(341/3)
مشاورة أهل العلم والتثبت في الأحاديث
أورد أبو داود رحمه الله حديث المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنهما، والحديث هو عن المغيرة بن شعبة، ويوافقه على ذلك محمد بن مسلمة، وذلك أن جدة واحدة من الجدات الوارثات سواء كانت أم الأم أو أم الأب جاءت إلى أبي بكر تسأله الميراث من حفيدها، فـ أبو بكر رضي الله عنه قال: [ما لك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء، ولكن انتظري حتى أسأل الناس] يعني: يسأل الصحابة هل عند أحد منهم سنة يعلمها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن، ومعلوم أن السنن قد تكون عند آحاد الصحابة، ولا يطلع عليها بعض كبار الصحابة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث الحديث في المجلس، وقد يسأل في المجلس عن مسألة فيجيب عليها، فيحضر من يحضر ويغيب من يغيب، فمن حضر يكون عنده علم بها، والذي غاب ليس عنده علم.
فسأل فجاء المغيرة بن شعبة وأخبره بأنه أعطاها السدس، قال: هل معك أحد يشاركك في التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ وليس المقصود من ذلك التردد في قبول رواية الشخص الواحد من الصحابة، وإنما هو زيادة استثبات وتوثق واطمئنان، إذ كثير من الأحاديث إنما تكون عن شخص واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مقبولة ومعول عليها، وفي الصحيحين شيء كثير من هذا، وهذا هو الذي يسمونه الغريب، وهو الذي جاء من طريق واحد يرويه الصحابي، ويرويه عن الصحابي تابعي، وقد يرويه عن التابعي تابع التابعي، وقد يكثر بعد ذلك، وأوضح مثال على هذا حديث: (إنما الأعمال بالنيات) فهو أول حديث من صحيح البخاري، وكذلك آخر حديث في صحيح البخاري: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن)، فإن حديث: (إنما الأعمال بالنيات)، إنما جاء عن عمر، وعمر يروي عنه علقمة بن وقاص الليثي، وعلقمة بن وقاص الليثي يروي عنه محمد بن إبراهيم التيمي، ومحمد بن إبراهيم التيمي يروي عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم بعد ذلك كثر الرواة له عن يحيى بن سعيد الأنصاري، فهو حديث غريب، ما جاء إلا من طريق واحد، والحديث الذي لا يأتي إلا من طريق واحد معتمد وحجة عند العلماء، وكذلك آخر حديث: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن)، رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه عنه أبو زرعة بن جرير بن عبد الله البجلي، ورواه عنه واحد، فهو من غرائب الصحيح، أي: مهما جاء من طريق واحد عن صحابي واحد، والصحابي روي عنه تابعي واحد، وهكذا.
إذاً: ليس المقصود من قول أبي بكر للمغيرة: هل معك أحد؟ عدم قبول روايته إلا إذا وجد له متابع، أو وجد آخر معه، وإنما المقصود بذلك: طلب المزيد من العلم، ومن الآخذين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك المجلس الذي حدث فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فكان محمد بن مسلمة ممن حضر وشهد ذلك.(341/4)
ميراث الجدات إن اجتمعن
قوله: [عن قبيصة بن ذؤيب رضي الله عنه قال: (جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه تسأله ميراثها، فقال: ما لك في كتاب الله تعالى شيء، وما علمت لك في سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فارجعي حتى أسأل الناس، وسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، وقال أبو بكر هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة رضي الله عنه فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر، ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه تسأله ميراثها، فقال: ما لك في كتاب الله تعالى شيء، وما كان القضاء الذي قضي به إلا لغيرك، وما أنا بزائد في الفرائض، ولكن هو ذلك السدس فإن اجتمعتما فهو بينكما، وأيتكما خلت به فهو لها)].
الشاهد: قول المغيرة: (حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس) يعني: أعطى الجدة، فقد كان في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم حينما أعطى الجدة السدس، فسأل: هل معك أحد؟ فقال محمد بن مسلمة مثل ما قال المغيرة، وكل منهما يروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أعطاها السدس.
وقوله: وبعد ذلك: [جاءت الجدة الأخرى] إذا كانت التي جاءت أولاً هي أم الأم، فالتي جاءت أخيراً هي أم الأب، وإن كانت التي جاءت أم الأب، فالتي جاءت الأخرى هي أم الأم، يعني: أن واحدة من الجدات الوارثات قضى لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسدس، وكذلك قضى لها أبو بكر بناءً على ما رواه المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة، وأما عمر رضي الله عنه فلما جاءت الأخرى قال: [ما لك في كتاب الله شيء، والقضاء الذي قضي به إنما هو لغيرك] يعني: لجدة أخرى.
قوله: [وما أنا بزائد في الفرائض] يعني: أنه لن يجعل لها نصيباً معيناً خارجاً عن ميراث الجدة الأولى وهو السدس.
قوله: [ولكن هو السدس، فإن اجتمعتما اشتركتما به، وإن انفردت واحدة منكما أخذته واستقلت به] فيكون هذا من جنس ميراث الزوجات: إذا كانت واحدة انفردت بالثمن، وإن كن ثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً يشتركن في الثمن، فكذلك الجدات، إن انفردت واحدة استقلت به، وإن كن عدداً اشتركن فيه، سواء كانت واحدة أو ثلاثاً.
والحديث من رواية قبيصة بن ذؤيب رضي الله عنه، وهو من صغار الصحابة، وله رؤية، وقيل: إنه ولد عام الفتح، ومعنى ذلك أنه في زمن خلافة أبي بكر رضي الله عنه لم يكن مدركاً وليس مميزاً؛ لأن عمره سيكون حينها أربع سنوات أو قريباً من ذلك، ولكن يحتمل أن يكون أخذه عن المغيرة بن شعبة أو عن محمد بن مسلمة، وأنه علم ذلك فيما بعد، وصورة الحديث صورة المرسل الذي لم يحضره ولم يتحمله، فتكلم فيه بعض أهل العلم وضعفه الألباني، ولكن يحتمل أنه يكون سمعه حكاية من أحد الصحابيين اللذين رويا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحديث بريدة بن الحصيب رضي الله تعالى عنه: أنه أعطى الجدة السدس إذا لم يكن دونها أم يدل على إثبات ميراث الجدة، ويدل أيضاً على أن ميراث الجدة أو الجدات مقيد ومشترط فيه ألا تكون الأم موجودة؛ لأنها إن وجدت فهي التي ترث بالأمومة، وإن كانت غير موجودة فهن يدلين إلى الميت بأنهن من أمهاته، وإن لم يكن من الأمهات المباشرات، وإنما هن أمهات لأمه أو لأبيه أو جده، فيكون الميراث لهن عند فقد الأم، فإن كانت موجودة فإنهن لا يرثن؛ لأنهن يرثن بالأمومة البعيدة التي ليست مباشرة، فإذا وجدت الأمومة القريبة فإنها تمنعهن وتحجبهن.
وحديث بريدة يدل على ذلك، وهذا مثل الجد والأب، فإن الجد لا ميراث له مع وجود الأب، وإنما يرث ميراث الأب عند فقده، وإلا فإنه مع وجوده لا ميراث له.
فكذلك الجدات مع وجود الأم لا ميراث لهن؛ لأنهن يدلين بالأمومة، والأمومة القريبة للأم المباشرة تحجبهن.(341/5)
تراجم رجال إسناد حديث (أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدة السدس)
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عثمان بن إسحاق بن خرشة] عثمان بن إسحاق بن خرشة وثقه ابن معين، وأخرج له أصحاب السنن.
[عن قبيصة بن ذؤيب].
قبيصة بن ذؤيب له رؤية، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن المغيرة بن شعبة].
المغيرة بن شعبة رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ومحمد بن مسلمة].
ومحمد بن مسلمة أيضاً أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وقوله: [حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة].
محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة ثقة، أخرجه له البخاري وأصحاب السنن.
[أخبرني أبي].
عبد العزيز بن أبي رزمة ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي.
[عن عبيد الله العتكي أبو المنيب].
هو صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن ابن بريدة].
ابن بريدة هو عبد الله بن بريدة بن الحصيب، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(341/6)
الجدات الوارثات
الجدات الوارثات هن اللاتي يدلين بالأم وبالأب وبالجد أب الأب، فمن كانت منهن موجودة بمفردها انفردت بالسدس، وإن كن موجودات فإن القربى تحجب البعدى، مثلاً: أم الأم تحجب أم الجد؛ لأنها أقرب منها، وإذا كن في درجة واحدة اشتركن فيه، فأم أم، وأم أم أب، وأم أب أب، في درجة واحدة، فيشتركن في السدس، وأما المدلية بالجد الغير وارث وهو الجد من الأم فإنه لا ميراث لها؛ لأن ابنها غير وارث وهو أبو الأم؛ لأنه من ذوي الأرحام أفأمه كذلك لا ترث, ولكن اللاتي يرثن هن اللاتي يدلين بوارثين.
ومن أهل العلم من قال: إن أم الأب لا ترث مع وجود الأب؛ لأن الأب يحجبها إذا كان موجوداً، ولكن الصحيح أن الذي يحجب الجدات هو وجود الأم وحدها؛ لأنهن يدلين بالأمومة، والأم القربى هي التي تحجبهن، وإذا لم توجد الأم القربى فإنهن يرثن.
هذا هو القول الصحيح.
فأم الأم المراد بها الجدة من جهة الأم وإن علت، مثل أم أم أم، أي المدلية بمحض الإناث، والثانية أم الأب المدلية بمحض الإناث إليه، مثل أم أم أم أب، والثالثة المدلية بمحض الإناث وفي النهاية أب أب، أي: يكون هناك جد, مثل: أم أم أم أب أب، وإن علون وهذا غالباً لا يكون؛ لأنه لا يكون هناك بقاء لتلك الجدات البعيدات، مثل: أم أم أب أب، وأم أم أم أم وأم أم أم أب.
أعني: أن وجود جدة الجدة من أندر النوادر؛ لأن هذا قليل في الناس، أن تكون المرأة جدة جدة، أو الرجل جد جد، ويمكن أن يوجد جد أب فيكون ابن ابنه أباً، ولكن كون ابن ابنه يكون جداً فيكون هو جد الجد هذا نادر.
أما حديث بريدة فإن الألباني ضعفه، ولكن الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام قال: صححه ابن خزيمة وابن الجارود وقواه ابن عدي، وفي إسناده أيضاً هذا الرجل الذي هو صدوق يخطئ، ومعناه: أنه محتمل، وأيضاً الحديث الذي مر يدل عليه.
أما قبيصة فهو من صغار الصحابة الذين لهم رؤية، وليس لهم رواية، وهو من حيث الصحبة معدود في الصحابة، ولكن من حيث الرواية معدود في كبار التابعين.(341/7)
ما جاء في ميراث الجد(341/8)
شرح حديث (إن ابن ابني مات فما لي من ميراثه فقال لك السدس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في ميراث الجد.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا همام عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إن ابن ابني مات فما لي من ميراثه؟ فقال: لك السدس، فلما أدبر دعاه فقال: لك سدس آخر، فلما أدبر دعاه فقال: إن السدس الآخر طعمة).
قال قتادة: فلا يدرون مع أي شيء ورثه، قال قتادة: أقل شيء ورث الجد السدس].
المراد بالجد هو أبو الأب وإن علا بمحض الذكور، وأما الجد من جهة الأم فإنه ليس من الورثة، وإنما هو من ذوي الأرحام فلا ميراث له، وإنما الذي يرث هو الذي يدلي بالأب، وميراثه كميراث الأب في الغالب، وإذا كان الأب موجوداً فليس له شيء.
وإن كان الأب غير موجود فإن الجد يرث في الغالب ميراث ابنه، فإن كان معه أصحاب فروض يفرض له، وإن كان معه أصحاب تعصيب -الأبناء وأبناء الأبناء- يفرض له أيضاً، وإن كان معه أصحاب فروض وبقي شيء في التركة يفرض له السدس، والباقي يأخذه تعصيباً.
أورد أبو داود حديث عمران بن حصين الذي فيه: [أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن ابن ابني مات فما لي من ميراثه؟ فقال: لك السدس.
فلما أدبر دعاه فقال: لك سدس آخر، ثم بعد ذلك قال له: إنه طعمة)، فقيل: إن هذه الصورة إنما تتحقق في وجود ابنتين فأكثر حيث يفرض لهما الثلثان، وليس هناك ابن عاصب للميت لا من أبنائه ولا من بني أبنائه، فترث البنتين الثلثين، والجد له السدس فرضاً، والسدس الباقي يأخذه تعصيباً، ولا يعطى الثلث على أنه فرض ولا على أنه تعصيب.
والتعصيب قد يذهب وقد يتلاشى، لكن السدس هو المستقر.
وقد يفرض للجد وتعول المسألة بالفرض، وأما التعصيب فهو أن يأخذ ما أبقت الفروض، وإذا لم يكن هناك معصب أولى منه فإنه يفرض له والباقي يأخذه بالتعصيب، وهو ممن يرث بالفرض تارة، وبالتعصيب تارة، ويجمع بينهما تارة؛ مثل هذه الصورة التي معنا، فإنها من قبيل كون ميراثه جمع فيه بين الفرض والتعصيب، كما قال (فلما أدبر دعاه، فقال: إن السدس الآخر طعمة).
يعني: أخذه عن طريق التعصيب, ولم يأخذه على أساس أنه فرض؛ لأنه لو قيل هذا فإن الثلث يكون له على سبيل الفرض، وهو لا يفرض له إلا السدس كالأب، أو الاستقلال بالميراث، أو يأخذ ما أبقت الفروض والأب يرث السدس إذا وجد فرع للميت، والباقي لأولاد الميت للذكر مثل حظ الإنثيين، إذا كانوا ذكوراً وإناثاً, وإن كن إناثاً فقط مثل حالة الجد التي جاءت في الحديث؛ يفرض له السدس والباقي يأخذه تعصيباً، فقد ميز له بين السدس الأول والسدس الثاني: أن السدس الأول على سبيل الفرض، والسدس الثاني على سبيل التعصيب.
فالفرض مستقر ثابت للجد ولا يمنعه منه إلا وجود الأب، وأما التعصيب فقد يحصل له وقد لا يحصل، وكما قلت: هو يرث بالفرض تارة وبالتعصيب تارة، ويجمع بينهما تارة كالأب.
[قال قتادة: فلا يدرون مع أي شيء ورثه].
يعني: من كان معه من الورثة، ولكن معلوم أن صورتها تكون بوجود جمع من البنات وليس معهن أخ؛ لأنه لو وجد معهن أخ فإن الجد له السدس والباقي للبنات والابن للذكر مثل حظ الأنثيين، لكن لما كان معه من يرث بالفرض فقط, فرض له السدس، والباقي يأخذه تعصيباً، وهو يتصور في: أن يكون معه ابنتان أو أكثر من الميت، أو بنت وعدد من بنات الابن؛ لأن بنات الابن مع البنت يأخذن السدس تكملة الثلثين؛ لأن ميراث البنات ثلثين، فلما كن متفاوتات في القرب من الميت أخذت القريبة النصف، وللتي أنزل منها درجة ما بقي من الثلثين وهو السدس.
[قال قتادة: أقل شيء ورث الجد السدس].
يعني: ليس هناك شيء أقل من السدس يحصل للجد, بل ليس هناك في المواريث أقل من السدس إلا الثمن، والثمن خاص بالزوجات، فأقل شيء يعطاه الجد السدس وهذا على سبيل الفرض، وقد يحصل أكثر من ذلك بالفرض والتعصيب كما في الصورة التي معنا حيث حصل على أكثر من السدس بالفرض والتعصيب.(341/9)
تراجم رجال إسناد حديث (إن ابن ابني مات فما لي من ميراثه فقال لك السدس)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا همام].
همام بن يحيى العوذي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
الحسن بن أبي الحسن البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمران بن حصين].
عمران بن الحصين صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث فيه الحسن بن أبي الحسن وهو يروي عن عمران وهو مدلس، وقد روى بالعنعنة، وقيل: إنه لم يسمع منه، فيكون منقطعاً، ولكن جاء عن عدد من الصحابة منهم أبو بكر وغيره أنهم اعتبروه أباً، ومعنى ذلك: أنه يرث ميراث الأب ويقوم مقام الأب عند فقد الأب.(341/10)
شرح حديث (ورث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجد السدس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن يونس عن الحسن أن عمر رضي الله عنه قال: (أيكم يعلم ما ورث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجد؟ فقال معقل بن يسار رضي الله عنه: أنا.
ورثه رسول الله صلى الله عليه وسلم السدس، قال: مع من؟ قال: لا أدري، قال: لا دريت! فما تغني إذاً؟)].
أورد أبو داود حديث معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه أن عمر قال: [أيكم يعلم ما ورث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجد؟ فقال معقل بن يسار: أنا.
أعطاه السدس، قال: مع من؟ -يعني: مع مَن من الورثة؟ - فقال: لا أدري، قال: لا دريت! فما تغني إذاً؟].
هذا مثل ما سبق أن أقل شيء ورثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجد السدس، ومعناه: أن ميراثه السدس، وهذا إنما يكون مع وجود من يحوز المال كالأبناء وأبناء الأبناء سواء كانوا منفردين أو معهم أخواتهم، وحاله كحال الأب ومنزلته كمنزلة الأب، ولذا اعتبره بعض الصحابة ومنهم أبو بكر أباً، وأنه يرث ميراث الأب، ويقوم مقام الأب عند فقده إلا في بعض المسائل اليسيرة التي فرقوا فيها بين الأب والجد، مثل مسألة الجد والإخوة؛ فإن الأب يحجبهم بالإجماع، وأما الجد فإنه لا يحجبهم على خلاف, وإن كان الصحيح أنه يحجبهم؛ لأنه بمنزلة الأب، وكما أن ابنَ الابنِ ابنٌ وإن نزل فأبو الأب أبٌ وإن علا، والحكم في هذا واحد.
وهناك فروق يسيرة بين الأب والجد، مثل مسألة العمريتين؛ فوجود الأب يجعل الأم لها ثلث الباقي سواء أخذ الزوج النصف أو الزوجة الربع، وأما إذا كان بدل الأب جدٌّ فإن الأم تأخذ الثلث كاملاً.
والمسألتان العمريتان مثالان للجد عندما يرث بالتعصيب فقط.(341/11)
تراجم رجال إسناد حديث (ورث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجد السدس)
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
وهب بن بقية ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن خالد].
خالد بن عبد الله الطحان الواسطي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يونس].
يونس بن عبيد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن عن عمر].
الحسن مر ذكره، وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مر ذكره.
وعمر هو الذي سأل ومعقل بن يسار هو الذي حدث بذلك، والحسن لم يدرك زمن عمر، ولكن روايته عن معقل بن يسار ثابتة وموجودة في الصحيحين في غير هذا الحديث، وهذا الحديث ليس في الصحيحين، ومعقل بن يسار أخرج له أصحاب الكتب الستة.(341/12)
ما جاء في ميراث العصبة(341/13)
شرح حديث: (اقسم المال بين أهل الفرائض على كتاب الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ميراث العصبة.
حدثنا أحمد بن صالح ومخلد بن خالد -وهذا حديث مخلد وهو الأشبع- قالا: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (اقسم المال بين أهل الفرائض على كتاب الله؛ فما تركت الفرائض فلأولى ذكر)].(341/14)
أقسام العصبة وتعريفها
أورد أبو داود باباً في ميراث العصبة.
العصبة هم الذين يرثون بالتعصيب بالنفس، فهم بأنفسهم عصبة، ويرثون بالتعصيب ولا يفرض لهم، مثل: الأبناء وأبناء الأبناء، ومثل الإخوة الأشقاء والإخوة لأب، ومثل الأعمام وأبناء الأعمام، فهؤلاء لا يرثون إلا تعصيباً ولا فرض لهم، ومعناه: إن كان هناك أصحاب فروض أخذوا ما أبقت الفروض، وإن لم يكن هناك أصحاب فروض استقلوا بالمال ولا يفرض لهم، هؤلاء هم العصبة بالنفس.
والعصبة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: عصبة بالنفس، وعصبة بالغير، وعصبة مع الغير.
فالعصبة بالنفس: هم الذين يرثون عصوبة بأنفسهم وليسوا تبعاً لغيرهم ولا مع غيرهم، وهم ورثة الميت من أصوله وفروعه الذكور؛ لأن الأب والجد من العصبة، إلا أنه يفرض لهما إذا وجد أبناء، وإذا لم يكن هناك ورثة استقل الموجود منهما بالمال، وإن كان هناك أصحاب فروض أخذ ما أبقت الفروض.
فالعصبة بالنفس، هم: الأب، والجد، والابن، وابن الابن، والأخ الشقيق، والأخ لأب، وابن الأخ الشقيق، وابن الأخ لأب، والعم الشقيق، والعم لأب، وابن العم الشقيق وابن العم لأب، والمعتق، وعصبته المتعصبون بأنفسهم، كل هؤلاء يعتبرون عصبة بالنفس، يعني: أنهم يدلون بأنفسهم ويرثون عصوبة بأنفسهم لا تبعاً لغيرهم ولا مع غيرهم.
والعصبة بالغير هن: البنات مع البنين، وبنات الابن مع أبناء الابن، والأخوات الشقيقات مع الإخوة الأشقاء، والأخوات لأب مع الإخوة لأب، فإنهن يرثن معهم عصوبة لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ.
وإن كن مستقلات لا ذكور معهن فالواحدة تأخذ النصف، وأكثر من واحدة يأخذن الثلثين، ولكن حيث وجد إخوانهن معهن صرن من أصحاب التعصيب، ولكن يقال له تعصب بالغير.
وأما العصبة مع الغير: فإنها تكون في ميراث الأخوات مع البنات، وذلك حيث لا يوجد معهن ذكور من جنسهن، فإذا وجد بنات فقط وأخوات شقيقات أو لأب فقط، فإن الشقيقات يرثن ما بقي بعد أخذ البنات نصيبهن، إن كانت البنت واحدة أخذت النصف، وتأخذ الأخت أو الأخوات الشقيقات أو الأخوات لأب النصف الباقي تعصيباً، وإن كن اثنتين فأكثر أخذن الثلثين والثلث الباقي تأخذه الأخت أو الأخوات تعصيباً، وهذا يقال له: تعصيب مع الغير؛ وهذا خاص بالأخوات مع البنات.
فإن الذين يرثون بالتعصيب ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: عصبة بالنفس، وعصبة بالغير، وعصبة مع الغير.(341/15)
الفرائض المقدرة في المواريث
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (اقسم المال بين أهل الفرائض على كتاب الله)، الفرائض أي: المقدرة، وهي النصف والسدس والثمن والربع والثلثان والثلث، والثلثان هما أعلى شيء، ثم النصف، ثم الثلث، ثم الربع، ثم السدس، ثم الثمن، هذه الفروض المقدرة في كتاب الله، ويقولون عنها اختصاراً: الثلثان والنصف ونصفهما ونصف نصفهما، ومعناه: فالنصف نصفه الربع، ونصف الربع الثمن، والثلثان نصفهما الثلث، ونصف الثلث السدس، أو بالعكس يقال: السدس والثمن وضعفهما وضعف ضعفهما.
هذه هي الفروض المقدرة في كتاب الله.
قوله: (اقسم المال بين أهل الفرائض على كتاب الله) يعني: على ما جاء في كتاب الله فمن يستحق الفرض يعطاه.
(وما بقي فلأولى ذكر)، وهذه هي العصوبة، وكونهم يرثون بالتعصيب، يعني: يأخذون ما أبقت الفروض، وهذا من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، فالكلمات قليلة ولكن المعنى واسع؛ لأنه يدخل تحتها كل وارث.
ويضاف إلى قوله: (فلأولى رجل ذكر).
من ترث من النساء بالتعصيب وهي المعتقة، ولا يوجد من يرث بالتعصيب بالنفس من النساء إلا المعتقة، فإنها تحوز الميراث من عتيقها، والرحبي في الرحبية يقول: وليس في النساء طراً عصبه إلا التي منت بعتق الرقبه إذاً: العصبة بالنفس كلهم ذكور وليس فيهم من الإناث إلا المعتقة، ومعلوم أنها تأتي في الآخر، أي عندما لا يوجد العصبة من ذوي النسب يصار إلى الولاء، فيرث المعتق أو المعتقة الميراث كله إذا لم يكن للميت أصحاب فروض، وإن كان له أصحاب فروض فإنهم يأخذون ما أبقت الفروض.
والحافظ ابن رجب رحمه الله لما أضاف إلى الأربعين النووية أحاديث كمل بها الخمسين جعل هذا الحديث من الزيادات التي زادها على الأربعين؛ لكونه من الجوامع، والأحاديث التي جمعها النووي اثنان وأربعون وليست أربعين، لكن يقال لها: أربعون مع حذف الكسر، وابن رجب زاد ثمانية فصارت خمسين، وشرحها في كتاب سماه: جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم.(341/16)
ترتيب العصبات في الميراث
قوله: (فلأولى ذكر)، المقصود به أقرب ذكر، ومعنى هذا: أنه إذا وجد أب وابن فالأب يأخذ فرضه والباقي لأولى رجل ذكر، وأقرب رجل ذكر للميت هو ابنه، فإن لم يوجد الابن ولكن وجد ابن الابن فإنه يأخذ الباقي وهو أولى رجل ذكر.
وإن كان لا يوجد في نسله من الذكور وإن نزلوا ينتقل إلى جهة الأب والجد فإنه يكون الأولى به الأب، وإذا لم يوجد الأب فإنه يكون الجد أولى به.
وإذا لم يوجد الذكور لا من الأصول ولا من الفروع الذين يكونون أولى من غيرهم في عصوبة الميت وفي أخذ ما خلفه ينتقل إلى الإخوة، وهم الذين يدلون إلى الميت بأبيهم ويشاركونه في أبيه، فهم أقرب الناس إلى الميت بعد الأصول والفروع، وهم الإخوة الأشقاء، وإذا لم يوجد أشقاء ووجد إخوة لأب فإن الأمر ينتقل إليهم.
وإذا لم يوجد الإخوة الأشقاء ولا الإخوة لأب ينتقل لأبنائهم، فأبناء الإخوة الأشقاء وإن نزلوا هم المقدمون على أبناء الإخوة لأب.
وإذا لم يوجد أبناء الإخوة الأشقاء انتقل إلى أبناء الإخوة لأب.
وإذا لم يوجد إخوة أشقاء ولا إخوة لأب ولا أبناؤهم ينتقل إلى من شاركوا الميت في جده، وهم الأعمام، لأن الإخوة يشاركونه في أبيه، والأعمام يشاركونه في جده، لأنهم أولاد جده، فيرثه الأعمام الأشقاء، فإذا لم يوجد عم شقيق ينتقل إلى العم لأب.
وإذا لم يوجد أعمام أشقاء ولا لأب فإنه ينتقل إلى أبناء الأعمام الأشقاء، ثم أبناء الأعمام لأب.
إذاً: قوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى ذكر) أولى معناه: أقرب، والقرب يكون بالفروع، ثم بالأصول، ثم بالحواشي، وأقرب الحواشي هم الإخوة الأشقاء، ثم الإخوة لأب، ثم أبناء الإخوة الأشقاء، ثم أبناء الإخوة لأب، وإذا لم يوجد لا هؤلاء ولا هؤلاء انتقل إلى الأعمام الأشقاء، ثم الأعمام لأب، وإذا لم يوجد لا هؤلاء ولا هؤلاء صير إلى أبناء الأعمام الأشقاء، ثم أبناء الأعمام لأب.
وجاء في غير هذه الرواية: (فلأولى رجل ذكر)، فجمع بين الوصفين، والذكورة والرجولة متلازمان، فهذه زيادة وصف، والمقصود من ذلك: أن من يكون أقرب من الرجال الذكور فإنه الذي يستحق الميراث، ولا يراد بذكر الرجل التقييد بالبلوغ وإنما المقصود به الذكورية فقط، فيرث الذكر ولو كان صغيراً جداً.(341/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (اقسم المال بين أهل الفرائض على كتاب الله)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج له البخاري وأبي داود والترمذي في الشمائل.
[ومخلد بن خالد].
مخلد بن خالد الشعيري ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[وهذا حديث مخلد وهو الأشبع].
يعني أنه ساق حديث شيخه الثاني مخلد وهو أشبع، يعني: أتم من حديث الشيخ الأول.
[عن عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن طاوس].
عبد الله بن طاوس بن كيسان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(341/18)
ما جاء في ميراث ذوي الأرحام(341/19)
شرح حديث: (من ترك كلاً فإليَّ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ميراث ذوي الأرحام.
حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن بديل عن علي بن أبي طلحة عن راشد بن سعد عن أبي عامر الهوزني عبد الله بن لحي عن المقدام رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم: (من ترك كلاً فإلي -وربما قال: إلى الله وإلى رسوله- ومن ترك مالاً فلورثته، وأنا وارث من لا وارث له؛ أعقل له وأرثه، والخال وارث من لا وارث له؛ يعقل عنه ويرثه)].
أورد أبو داود باباً في ميراث ذوي الأرحام.
وذوو الأرحام عند الفرضيين هم الذين لا يرثون بفرض ولا بتعصيب، وليس لهم ميراث مقدر ولا غير مقدر، لأن الذين يرثون بالفرض نصيبهم مقدر، والذين يرثون بالتعصيب نصيبهم غير مقدر.
فذوو الأرحام هم الذين لا يرثون لا فرضاً ولا تعصيباً، هذا في اصطلاح الفرضيين, وأما في الشرع وفي اللغة، فإن المقصود بذوي الأرحام الأقارب عموماً، فقول الله عز وجل: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75]، المقصود به عموم الأقارب وليس المقصود به ذوي الأرحام في اصطلاح الفرضيين، فالفرضيون يطلقون هذا على من ليس بوارث لا بالفرض ولا بالتعصيب، مثل الجد أبو الأم وبنت البنت والخال والعمة وهكذا.
والعلماء اختلفوا في توريثهم: فمنهم من قال بتوريثهم، وقد قال بذلك عدد كبير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن العلماء من قال بعدم توريثهم، وإذا وجد مال ليس له وارث بالفرض أو التعصيب فإنه يكون في بيت المال.
ومما يتعلق بذوي الأرحام وتوريثهم: أن أكثر الصحابة على القول بتوريثهم، وممن قال بتوريثهم من الأئمة: أبو حنيفة وأحمد، والذين قالوا بعدم توريثهم: مالك والشافعي , ولما كان صاحب الرحبية على مذهب الشافعي ما أورد في أرجوزته ميراث ذوي الأرحام ولا الرد؛ لأن الشافعية لا يقولون بذلك، وكما هو معلوم فإن كثيراً من المسائل الفرضية متفقة بين الأئمة الأربعة، ولكن مسألتي الرد وذوي الأرحام لا يقول بها الشافعية، ولهذا خلت الرحبية من أبيات تبين ميراث الرد وذوي الأرحام، وكان شيخنا الشيخ عبد الله بن صالح الخليفي رحمة الله عليه قد نظم أبياتاً في الرد وذوي الأرحام تضاف إلى الرحبية، وقد أضيفت إليها في بعض الطبعات؛ لأن الرحبية مشهورة عند الناس، وكثير من طلبة العلم يحفظونها ويقرءونها ويبتدئون بها.(341/20)
الأسئلة(341/21)
ميراث الأعمام من جهة الأم
السؤال
الأعمام من جهة الأم هل يرثون بالتعصيب؟
الجواب
لا يرث إلا الأعمام من جهة الأب، سواء الأشقاء أو لأب.(341/22)
الأخوات مع الشقيقات عصبة مع الإخوة الأشقاء
السؤال
هل للأخوات لأب مع الأخوات الشقيقات تعصيب مع الغير؟
الجواب
لا.
الأخوات الشقيقات عصبة بالغير مع الإخوة الأشقاء، والأخوات لأب مع الإخوة لأب.(341/23)
ميراث الأبوين عند عدم وجود الفرع الوارث
السؤال
كيف يكون ميراث الأبوين إن كان للميت زوج؟
الجواب
أبواه تساويا في الميراث كل واحد له من السدس، قال الله: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:11]، فإذا لم يكن للميت ولد ولم يكن هناك جمع من الإخوة فإن الأم ترث الثلث، والأب يكون له الباقي، وهاتان المسألتان يقال لهما: العمريتان، وهي: إذا وجد زوج وأم وأب، فالزوج له النصف؛ لأنه لا يوجد فرع وارث، والأم لها الثلث في الأصل، لأنه لا يوجد فرع وارث ولا يوجد جمع من الإخوة، لكن لو قيل: لها الثلث لصار الأب له الباقي وهو السدس، فتكون الأم قد أخذت ضعفه، والمعهود أن أي امرأة تكون في طبقة رجل إما أن تساويه وإما أن يأخذ هو ضعفها، فرأى عمر وغيره من الصحابة أن يكون الأبوان مع الزوج كأنهما حازا الميراث، فيشتركان في النصف الباقي بعد نصف الزوج كأن لم يكن هناك أحد سواهما، فإذاً: يكون لها ثلث ما يبقى وهو سدس المال، والأب يكون له الباقي وهو الثلث؛ وكأن الزوج غير موجود.
ولو كان الزوج غير موجود يكون لها ثلث المال، والأب له الباقي ثلثان، فإذا وجد الزوج يأخذ نصيبه ويبقى نصيب الأبوين، فتأخذ الأم ثلث الباقي وكأنه أصل المال، والأب يأخذ الباقي، فعند ذلك تكون المسألة متمشية مع قاعدة الفرائض، ومع ما هو معروف في الفرائض من أن المرأة إما أن تساويه وإما أن تكون أقل منه، ولا تكون أكثر منه.
إذاً: قسمتها إذا كان فيها زوج وأم وأب: للزوج النصف، وللأم ثلث الباقي، وهو في الحقيقة سدس، وللأب الباقي وهو الثلث فالمسألة من ستة، للزوج ثلاثة، وللأم ثلث الباقي واحد، وللأب الباقي اثنان.
وإذا كان في المسألة زوجة وأم وأب، فللزوجة الربع وللأبوين الباقي للأم ثلث الباقي وللأب الباقي، فالمسألة من أربعة، للزوجة الربع واحد، يبقى ثلاثة تأخذ الأم منها الثلث وهو واحد، ويأخذ الأب الباقي وهو اثنان، فتكون الأم قد أخذت الربع فقط.(341/24)
حكم إيجاب الوصية للوارث
السؤال
قانون الأحوال الشخصية في بعض البلدان يفرض ما يسمى بالوصية الواجبة، وهي إعطاء ابن الابن مع الأبناء في حالة وفاة والده قبل جده، فهل لها مستند في الشرع؟
الجواب
ليس لها مستند في الشرع، والوصية الواجبة نسخت، وقد كانت هناك وصية قبل أن توجد المواريث: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:180]، وبعد ما نزلت آية المواريث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)، فلا تجب الوصية لأحد، ولكن ينبغي للأب أن يوصي لشخص لا يرث في حدود الثلث ما هو أقل من الثلث، لكن لا يجب عليه ذلك، لأنه لا يوجد شيء يدل على الإيجاب.(341/25)
حد أبناء الأبناء الوارثين
السؤال
ما هو الحد في الأبناء النازلين الذين يرثون؟
الجواب
لا يوجد تحديد، فيرث ابن الابن وإن نزل.(341/26)
حجب الأعمام بالأبناء
السؤال
إذا وجد الأبناء والأعمام والأجداد فهل يرثون بالسوية؟
الجواب
إذا وجد الأبناء والأعمام والأجداد فالجد يرث السدس والباقي للأبناء، والأعمام محجوبون.(341/27)
حجب العم بالجد
السؤال
إذا وجد الجد والعم فمن يرث منهما؟
الجواب
الجد يحوز الميراث؛ لأنه أولى رجل ذكر؛ فإن وجد أصحاب فروض أخذوا نصيبهم والباقي للجد، وإن لم يوجد أصحاب فروض جاز الجد المال كله، ومعلوم أن الأعمام من الحواشي فلا يرثون إلا عند عدم أصول الميت وفروعه الذكور.(341/28)
حكم الاتصال على النساء من ذوي الأرحام بالهاتف
السؤال
هل يجوز لي أن أسلم على بنت عمي أو بنت خالي بالتلفون، وأسأل عن حالها؟
الجواب
إذا لم يكن هناك محذور وكانت كبيرة فلا بأس بأن تسأل عن حالها، وأما إذا كانت شابة وأنت شاب فينبغي لك الابتعاد عن ذلك.(341/29)
حكم الصلاة على الميت التارك للصلاة
السؤال
هل يصلى على الميت التارك للصلاة كسلاً؟
الجواب
لا يصلى على تارك الصلاة، ومثل هذا كافر خارج من الملة.(341/30)
حكم الاجتهاد مع وجود النص
السؤال
إذا لم يبلغ الصحابي سنة وعمل بخلافها عن اجتهاد، فهل يجوز أن يقال: إنه وقع في بدعة؟
الجواب
لا يقال ذلك؛ لأن الواجب عليه إذا لم يجد نصاً أن يجتهد، وإذا وجد النص فلا اجتهاد مع النص، لكن حيث لم يوجد النص فالاجتهاد لابد منه، وهذا شيء معروف عن الصحابة ومن بعدهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد)، لكن إذا وجد النص فلا اجتهاد، ولا يوجد سوى اتباع النص، لكن حيث لا نص فيلزم الاجتهاد، لهذا فإن المجتهد مأجور إن أصاب وإن أخطأ، فإن أصاب فله أجر على اجتهاده وأجر على إصابته، فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد على اجتهاده وخطؤه مغفور له، وهذا عند الاجتهاد حيث لا نص، أما إذا وجد النص فلا اجتهاد مع نص.(341/31)
شرح سنن أبي داود [342]
أكثر مسائل الفرائض متفق عليها بين أهل العلم، والمسائل المختلف فيها قليلة، ومنها مسألة توريث ذوي الأرحام عند عدم وجود الوارث من العصبة، فمذهب مالك والشافعي عدم توريثهم، ومذهب أبي حنيفة وأحمد توريثهم، على خلاف في طريقة توريثهم.(342/1)
تابع ما جاء في ميراث ذوي الأرحام(342/2)
شرح حديث: (والخال وارث من لا وارث له)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ميراث ذوي الأرحام.
حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن بديل عن علي بن أبي طلحة عن راشد بن سعد عن أبي عامر الهوزني عبد الله بن لحي عن المقدام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من ترك كلاً فإليَّ -وربما قال: إلى الله وإلى رسوله- ومن ترك مالاً فلورثته، وأنا وارث من لا وارث له؛ أعقل له وأرثه، والخال وارث من لا وارث له؛ يعقل عنه ويرثه)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في ميراث ذوي الأرحام].
ذوو الأرحام: هم الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب، أي: ليس لهم فروض مقدرة في كتاب الله، وليسوا من العصبة الذين يأخذون ما أبقت الفروض، أو يستقلون بالمال إذا لم يكن هناك أصحاب فروض, فذوو الأرحام عند الفرضيين هم الذين ليسوا من أهل الفرض والتعصيب، مثل العمة والخالة والخال والجد من جهة الأم وأولاد البنت وأشباه ذلك، كل هؤلاء يقال لهم: ذوو أرحام.
وقد اختلف أهل العلم في ميراث ذوي الأرحام، فمنهم من قال: إنهم يرثون، واستدلوا بهذا الحديث، وفيه: (الخال وارث من لا وارث له)، والخال من ذوي الأرحام، واستدلوا أيضاً بعموم قوله سبحانه وتعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75]، قالوا: المراد به المعنى العام، ولكن المعنى الخاص مندرج تحت المعنى العام؛ فيدخل في ذلك ذوو الأرحام بالمعنى الخاص، وقد ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره، وكذلك ذكره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسيره، أي: أن ذوي الأرحام يدخلون في عموم هذه الآية، لا أن الآية فيهم، وأن المقصود بها هؤلاء الذين هم ذوو أرحام بالمعنى الخاص عند الفرضيين، ولكن لأن أولي الأرحام هم الأقارب عموماً، سواء الذين يرثون بالفرض أو التعصيب، أو الذين لا يرثون لا بفرض ولا بتعصيب.
وبعض أهل العلم ذهب إلى أنهم لا يورثون، وأن المال الذي ليس له وارث لا بالفرض ولا بالتعصيب ينتهي إلى بيت المال، ومما يستدلون به قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث).
والقول بأنهم يرثون هو الأولى؛ لدخولهم في عموم الآية، ولما جاء في ذلك من الأحاديث كحديث الباب، ولأن أقارب الميت أولى من عموم المسلمين؛ ذلك لأن المال ينتهي إلى بيت المال ثم يكون لعموم المسلمين، فإن أقارب الميت أحق وأولى من عموم المسلمين.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك كلاً فإلي)، والمراد بالكل الثقل، أي: الشيء الذي فيه عناء ومشقة، ويدخل في ذلك الدين والأولاد، وقد جاء ذلك مبيناً في الرواية التي فيها: (الدين والضيعة)، والضيعة المقصود بهم الأولاد الذين يحتاجون إلى نفقة، لأنهم إذا تركوا ضاعوا؛ لأن الأولاد يحتاجون إلى الرعاية والعناية والإنفاق.
(فإلي، وربما قال: إلى الله وإلى رسوله) يعني: أن القيام بشئونهم إنما يكون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون ذلك من بيت مال المسلمين، فهو من ينفق عليهم، ويقضي الدين عن المدين.
(ومن ترك مالاً فلورثته) يعني: أن ورثته هم الذين يئول إليهم هذا المال ويحوزونه.
(وأنا وارث من لا وارث له)، أي: إذا لم يكن للميت ورثة فإن بيت المال هو الذي يرثه، وهو الذي يئول إليه المال وينتهي إليه أمره، فالمقصود من ذلك بيت مال المسلمين، لا أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو من يرثه ويكون ماله له، وإنما يكون في بيت مال المسلمين، وينفقه في مصالح المسلمين، فقوله: (وأنا وارث من لا وارث له) معناه: أنه يكون في بيت مال المسلمين ينفق في مصالح المسلمين.
قوله: (أعقل له وأرثه) يعني: أنه إذا كان عليه جنايات أو ما إلى ذلك مما هو لازم له فإنها تدفع عنه، وكذلك يورث عنه المال.
(والخال وارث من لا وارث له) يعني: إذا لم يوجد ورثة من أهل الفرض والتعصيب الذين جاء التنصيص عليهم في الكتاب والسنة، فإن (الخال وارث من لا وارث له)، ومعناه أنه يرثه، وهذا هو محل الشاهد لإيراد الحديث في باب ذوي الأرحام، فإن الخال من ذوي الأرحام.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (والخال وارث من لا وارث له) نص في توريث ذوي الأرحام، والذين قالوا بأنهم لا يرثون قالوا: إن هذا ليس ميراثاً، وإنما هو طعمة وإرفاق وإحسان إلى قريب الميت بإعطائه شيئاً لا على سبيل الإرث وإنما على سبيل الارتفاق والمساعدة والمعاونة.
ومنهم من تأول ذلك بأن قال: هذا إذا كان خالاً هو ابن عم، ولكن هذا لا يستقيم؛ لأن فيه عدم وضوح يصان عنه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، والحديث أطلق ولم يقيد بابن عم، ولو كان ذلك مقصوداً لم تكن حاجة لذكر الخئولة؛ لأنه يكون وارثاً بحكم بنوة العمومة، فلا وجه لذكر الخئولة حينئذ.
قوله: (يعقل عنه ويرثه) أي: كما أنه يرثه يدفع عنه ما يلزمه من عقل ومن جناية تتحملها العاقلة.(342/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (والخال وارث من لا وارث له)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بديل].
بديل بن ميسرة وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن علي بن أبي طلحة].
علي بن أبي طلحة صدوق قد يخطى، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن راشد بن سعد].
راشد بن سعد ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن أبي عامر الهوزني عبد الله بن لحي].
أبو عامر الهوزني عبد الله بن لحي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن المقدام].
هو المقدام بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه البخاري وأصحاب السنن.(342/4)
مقدار ميراث الخال
ميراث الخال وغيره من ذوي الأرحام فيه خلاف؛ فمنهم من قال: يرث ميراث من أدلى به، يعني: أنه ينزل منزلة من يدلي به إلى الميت فيعطى نصيبه لو فُرضَ حيّاً، فالخال مثلاً يدلي إلى الميت بالأم فينزل منزلتها، فيرث نصيبها.
أما الشافعية والمالكية فلا يقولون بالرد ولا بذوي الأرحام، والحنابلة والحنفية يقولون بالرد وبذوي الأرحام، وناظم الرحبية لما كان من الشافعية لم يذكر باباً في الرد ولا باباً في ذوي الأرحام؛ لأنه اقتصر على مذهب الشافعي، وشيخنا عبد الله بن صالح الخليفي رحمة الله عليه قد نظم أبياتاً في الرد وفي ذوي الأرحام، وقد طبعت مع الرحبية وألحقت بها تتميماً للفائدة، قال الشيخ رحمة الله عليه: نزلهم منزلة من أدلوا به إرثاً وحجباً هكذا قالوا به(342/5)
شرح حديث: (والخال مولى من لا مولى له)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن حرب في آخرين، قالوا: حدثنا حماد عن بديل -يعني: ابن ميسرة - عن علي بن أبي طلحة عن راشد بن سعد عن أبي عامر الهوزني عن المقدام الكندي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك ديناً أو ضَيعة فإلي، ومن ترك مالاً فلورثته، وأنا مولى من لا مولى له؛ أرث ماله وأفك عانه، والخال مولى من لا مولى له؛ يرث ماله ويفك عانه)].
هذا مثل الذي قبله لكن من طريق أخرى، وفيه توضيح للذي مر في الرواية السابقة، وأنه من ترك ديناً أو ضيعة، والمقصود بالضيعة: الأولاد الذين هم بحاجة إلى رعاية وعناية، والذين إذا تركوا ضاعوا.
والحديث هو في معنى ما تقدم.(342/6)
تراجم رجال إسناد حديث (والخال مولى من لا مولى له)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[في آخرين].
يعني: هناك آخرون معه يروي عنهم أبو داود ولكنه اكتفى بـ سليمان.
[حدثنا حماد].
حماد بن زيد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بديل عن علي بن أبي طلحة عن راشد بن سعد عن أبي عامر الهوزني عن المقدام].
كل هؤلاء مروا في الإسناد السابق.
وقوله: (أنا أولى بكل مؤمن من نفسه)، وضح المراد منه قوله بعد ذلك: (فمن ترك ديناً أو ضيعة فإلي)، أي: من ترك ديناً أو ضيعة فأنا أقوم بذلك، وأسدد الدين، وأرعى الأولاد الذين تركهم.
وقوله: (ومن ترك مالاً فلورثته، وأنا مولى من لا مولى له)، فسره بعد ذلك بقوله: (أرث ماله وأفك عانه)، وفك العانه مثل العقل الذي مر في الحديث السابق.
[قال أبو داود: رواه الزبيدي عن راشد بن سعد عن ابن عائذ عن المقدام].
الزبيدي هو محمد بن الوليد الزبيدي الحمصي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن راشد بن سعد عن ابن عائذ].
ابن عائذ هو عبد الرحمن بن عائذ وهو ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[ورواه معاوية بن صالح عن راشد قال: سمعت المقدام].
معاوية بن صالح هو ابن حدير، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن راشد عن المقدام].
مر ذكرهم.
[قال أبو داود: يقول: الضيعة معناه: عيال].
هذا تفسير من أبي داود لكلمة الضيعة، وأن المقصود بها العيال والأولاد الذين يحتاجون إلى رعاية ونفقة.(342/7)
شرح حديث: (والخال وارث من لا وارث له) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد السلام بن عتيق الدمشقي حدثنا محمد بن المبارك حدثنا إسماعيل بن عياش عن يزيد بن حجر عن صالح بن يحيى بن المقدام عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أنا وارث من لا وارث له: أفك عانيه، وأرث ماله، والخال وارث من لا وارث له: يفك عانيه، ويرث ماله)].
أورد أبو داود حديث المقدام من طريق أخرى وهو مثل الذي قبله إلا أنه أقصر.
قوله: [حدثنا عبد السلام بن عتيق الدمشقي].
عبد السلام بن عتيق الدمشقي صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا محمد بن المبارك].
محمد بن المبارك ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسماعيل بن عياش].
إسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن الشاميين، وفي روايته عن غيرهم تخليط، وهنا يروي عن شامي، ولكن الشامي مجهول، وكذلك من فوقه اثنان متكلم فيهما: أحدهما لين، والثاني مستور، ولكن الطريقان السابقتان تدلان على ما دل عليه، فهو لم يأت بشيء جديد ولم يستقل بشيء، وإنما هو دال على ما دل عليه ما تقدم، فله أصل ثابت، وهو بمفرده لو لم يأت ما يدل عليه لا يعول عليه لوجود ثلاثة ضعفاء في إسناده.
وإسماعيل بن عياش أخرج له البخاري في رفع اليدين وأصحاب السنن.
[عن يزيد بن حجر].
يزيد بن حجر مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن صالح بن يحيى بن المقدام].
صالح بن يحيى بن المقدام لين، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبيه].
أبوه مستور الحال، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن جده].
هو المقدام وقد مر ذكره.(342/8)
شرح حديث: (أن مولى للنبي مات وترك شيئاً ولم يدع ولداً ولا حميماً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى حدثنا شعبة ح وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن سفيان جميعاً عن ابن الأصبهاني عن مجاهد بن وردان عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: (أن مولى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مات وترك شيئاً، ولم يدع ولداً ولا حميماً، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أعطوا ميراثه رجلاً من أهل قريته).
قال أبو داود: وحديث سفيان أتم، وقال مسدد: قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هاهنا أحد من أهل أرضه؟ قالوا: نعم، قال: فأعطوه ميراثه)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: أن مولى للنبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يدع ولداً ولا حميماً، أي: قريباً، وترك شيئاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطوه رجلاً من أهل قريته).
وفي رواية قال: (هاهنا أحد من أهل أرضه؟ قالوا: نعم، قال: فأعطوه إياه)، وهذا ليس على سبيل الميراث؛ لأن كونه من أهل القرية ومن أهل البلد ليس هذا مما يحصل به الإرث، وإنما أعطي إياه على سبيل الارتفاق والإحسان، وأنه أولى به من عموم المسلمين إذا وصل المال إلى بيت مال المسلمين.(342/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن مولى للنبي مات وترك شيئاً ولم يدع ولداً ولا حميماً)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري وهوثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج وقد مر ذكره.
[ح وحدثنا عثمان بن أبي شيبة].
(ح) للتحول من إسناد إلى إسناد، وعثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، والنسائي فإنه أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا وكيع بن الجراح].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري وهو ثقة فقيه, وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[جميعاً عن ابن الأصبهاني].
هو عبد الرحمن بن عبد الله بن الأصبهاني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجاهد بن وردان].
مجاهد بن وردان صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[عن عروة].
عروة بن الزبير بن العوام وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وليس في الحديث دلالة على ميراث ذوي الأرحام، ويبدو أنه جاء تبعاً، وإلا فهو ليس من ذوي الأرحام، وإنما هو من أهل القرية.
قال أبو داود: [وحديث سفيان أتم].
أي: الطريق التي فيها سفيان الذي يروي عنه وكيع.
[وقال مسدد: قال: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (هاهنا أحد من أهل أرضه؟ قالوا: نعم، قال: فأعطوه ميراثه)].
أي: أن الشيخ الأول قال في روايته: (هاهنا أحد من أهل أرضه؟ قالوا: نعم، قال: فأعطوه ميراثه)، فالفرق بين الطريق الأولى والطريق الثانية هو في العبارة فقط.
وهذا يرجع إلى الإمام، فإذا أراد أن يعطيه من له به علاقة أو ارتباط وإن لم يكن قريباً فعل، وإن أراد أن يجعله في بيت المال ويصرفه في المصارف العامة التي يصرف فيها بيت المال فعل.(342/10)
شرح حديث: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إن عندي ميراث رجل من الأزد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن سعيد الكندي حدثنا المحاربي عن جبريل بن أحمر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل فقال: (إن عندي ميراث رجل من الأزد، ولست أجد أزدياً أدفعه إليه، قال: اذهب فالتمس أزدياً حولاً، قال: فأتاه بعد الحول، فقال: يا رسول الله! لم أجد أزدياًً أدفعه إليه، قال: فانطلق فانظر أول خزاعي تلقاه فادفعه إليه، فلما ولى قال: علي الرجل، فلما جاءه قال: انظر كبر خزاعة فادفعه إليه)].
أورد أبو داود حديث بريدة بن الحصيب، وفيه: (ولست أجد أزدياً أدفعه إليه، قال: التمس أزدياً حولاً) أي: ابحث لمدة سنة ابحث حتى تحصل على أزدي، فقال: إنه لم يجد، فقال: (انظر أول خزاعي تلقاه فادفعه إليه)، وفي لفظ آخر قال: (فلما ولى دعاه ثم قال له: انظر كبر خزاعة فادفعه إليه) أي: أكبر واحد فيهم فأعطه إياه.
وهذا الحديث غير ثابت من أجل جبريل بن أحمر.(342/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إن عندي ميراث رجل من الأزد)
قوله: [حدثنا عبد الله بن سعيد الكندي].
هو عبد الله بن سعيد الكندي الأشج وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا المحاربي].
هو عبد الرحمن بن محمد المحاربي وهو لا بأس به، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جبريل بن أحمر].
جبريل بن أحمر صدوق يهم، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن عبد الله بن بريدة].
هو عبد الله بن بريدة بن الحصيب وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو بريدة بن الحصيب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والإسناد فيه علة أخرى؛ يقول الحافظ في ترجمة المحاربي: لا بأس به وكان يدلس، وقد عنعن هنا، فالعنعنة علة ثانية.(342/12)
شرح حديث: (التمسوا له وارثاً أو ذا رحم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسين بن أسود العجلي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا شريك عن جبريل بن أحمر أبي بكر عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: (مات رجل من خزاعة، فأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بميراثه، فقال: التمسوا له وارثاً أو ذا رحم، فلم يجدوا له وارثاً ولا ذا رحم، فقال: رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أعطوه الكبر من خزاعة)، قال يحيى: قد سمعته مرة يقول في هذا الحديث: (انظروا أكبر رجل من خزاعة)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وفيه: أن ذلك من خزاعة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطوه الكبر)، أي: أعطوه الكبير من خزاعة، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التمسوا له وارثاً أو ذا رحم)، وهذا فيه نص على ميراث ذوي الأرحام لو كان ثابتاً؛ لأنه قال: (وارثاً أو ذا رحم)، لكنه غير ثابت، وإذا ثبت فهو على سبيل الارتفاق وليس من باب الميراث.(342/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (التمسوا له وارثاً أو ذا رحم)
قوله: [حدثنا الحسين بن أسود العجلي].
هو الحسين بن علي بن أسود العجلي، وهو صدوق يخطئ كثيراً، أخرج له أبو داود والترمذي.
[حدثنا يحيى بن آدم].
يحيى بن آدم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شريك].
هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي وهو صدوق، اختلط وساء حفظه لما ولي القضاء، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن جبريل بن أحمر عن ابن بريدة عن أبيه].
فيه جبريل وشريك أيضاً، وابن الأسود، ففيه العلتان: العنعنة وجبريل، حتى وإن كان الأول له متابع فهو عن المحاربي الراوي عن جبريل، وهنا شريك يروي عن جبريل، ولكن يبقى مدار الحديث على جبريل، والعنعنة أيضاً موجودة هناك.
وقد تكلم العلماء على الحديث وضعفوه بهذا، وهناك خلاف في السند، لأن المنذري نسبه إلى النسائي مرسلاً ومسنداً، وهذه علة أخرى فيه.
ويظهر أن فيه زيادات، لكن يبدو أنهما متقاربان إلا أن الأول أزدي والثاني خزاعي.(342/14)
شرح حديث: (أن رجلاً مات ولم يدع وارثاً إلا غلاماً له كان أعتقه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا عمرو بن دينار عن عوسجة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلاً مات ولم يدع وارثاً إلا غلاماً له كان أعتقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل له أحد؟ قالوا: لا، إلا غلاماً له كان أعتقه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ميراثه له)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس: أن رجلاً مات ولم يدع إلا غلاماً عتيقاً، وهو مولى من أسفل، أما المولى من أعلى فهو وارث بلا إشكال، والمولى من أعلى هو المعتق؛ لأنه صاحب النعمة، وهو يرث من أجل النعمة بالولاء عندما لا توجد عصوبة النسب، عند ذلك يصار إلى عصوبة الولاء، والولاء لحمة كلحمة النسب، يعني: يورث به كما يورث بالنسب، ولكنه متأخر عن النسب؛ فلا يأتي إلا بعد انتهاء من يمكن أن يرث من العصبة من جهة النسب.
وهذا إنما ترك مولى معتقاً من أسفل، ومعلوم أن المعتق حصلت له نعمة من المعتق، وقد أحسن إليه، وذلك لا يقتضي أن يكون وارثاً، ولو ثبت الحديث -وهو غير ثابت- لكان محمولاً على ما مر في حديث الرجل من أهل القرية، وأن المقصود به الارتفاق والإحسان لما بينه وبينه من الصلة، فيكون أولى من عموم سائر الناس، فإذا ثبت فليس إعطاؤه على أنه ميراث؛ لأن المولى من أسفل لا يرث.(342/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رجلاً مات ولم يدع وارثاً إلا غلاماً له كان أعتقه)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
وإذا جاء حماد يروي عنه موسى بن إسماعيل وهو مهمل غير منسوب فإنه يراد به حماد بن سلمة وليس حماد بن زيد.
[أخبرنا عمرو بن دينار].
عمرو بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عوسجة].
عوسجة ليس بمشهور، أخرج له أصحاب السنن، والعلماء تكلموا في الحديث من أجل عوسجة، ومنهم من قال: إن رواية عمرو بن دينار عنه لا تصح، وضعفوا الحديث به.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(342/16)
ما جاء في ميراث ابن الملاعنة(342/17)
شرح حديث: (المرأة تحوز ثلاثة مواريث)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ميراث ابن الملاعنة.
حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا محمد بن حرب حدثني عمر بن رؤبة التغلبي عن عبد الواحد بن عبد الله النصري عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (المرأة تحوز ثلاثة مواريث: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عنه)].
أورد أبو داود باب ميراث ابن الملاعنة، وهي التي لاعنها زوجها وكانت حاملاً، وادعى الزوج أنه من زنا، وحصلت الملاعنة، وفرق بينهما، وصار الوالد بريئاً منه فلا ينسب إليه؛ لأنه انتفى منه باللعان، ولكنه مضاف إلى أمه؛ فيكون التوارث بينه وبين أمه؛ لأن نسبه إليها ثابت، وهي أمه وتدعي أنه من زوجها، وزوجها يدعي أنه ليس منه، واللعان فرق بينهما، فأضيف إلى أمه وبرئت منه ساحة الزوج بعد الملاعنة.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فمنهم من قال: إن التوارث بين ابن الملاعنة وبين أمه كما ترث أبناءها الذين لهم أب، ومنهم من قال: إنها تحوز ميراثه وتستقل به، وتكون له بمثابة العصبة؛ لأن العصوبة من جهة الأب ذهبت، ولم يثبت له نسب إلى الأب، فصارت هي بمثابة أبيه وأمه، فصار ميراثها منه مثل ميراث المعتقة التي ترث المال كاملاً وتستقل به.
إذاً: من أهل العلم من قال: إنها ترث ما تستحقه كما ترث أبناءها الذين هم من آباء ثبتت أنسابهم، ومنهم من قال: ترثه كما يرث أصحاب التعصيب، وأنها كالمعتقة، بمعنى: أنها تستقل بالميراث؛ لأن النسب انقطع من جهة الأب فصار النسب من جهة الأم، فصارت بمثابة الأب والأم، فكانت هي المعصبة، فتكون أولى من غيرها، وإذا كان له أبناء أو زوجة فإنهم يرثونه، وعلى هذا القول فإنها تأخذ ما أبقت الفروض، ولا يفرض لها شيء على اعتبار أنها معصبة.
وهذا الحديث بهذا اللفظ يدل على ذلك؛ لأنه قال: (تحوز)، ومعنى ذلك: أنها تستقل بميراث عتيقها، وهذا متفق عليه بلا خلاف: أن المرأة المعتقة تحوز ميراث عتيقها؛ لأنها صاحبة النعمة عليه، وليس في النساء من ترث تعصيباً بالنفس إلا المعتقة، فإنها تحوز جميع الميراث، مع أن العصبة كلهم ذكور، ولكن من النساء من ترث بالتعصيب وهي المعتقة، ولهذا يقول الرحبي: وليس في النساء طراً عصبة إلا التي منت بعتق الرقبة وهي المعتقة؛ فإنها تحوز الميراث.
فالحديث يدل على أنها تحوز ميراث ابنها الذي لاعنت عليه وتستقل به.
قوله: (ولقيطها)، اللقيط هو الذي التقط ولا يعرف أبوه ولا أمه، وإنما التقط من الطريق، وقامت هي بتربيته وتنشئته والإحسان إليه، فتحوز ميراثه، لكن المعروف عند العلماء: أن اللقيط حر، وأنه لا يعرف له نسب، ولا يعرف له ولاء، والإرث إنما يكون بالنسب والولاء، وهذان غير موجودين، فلا تكون وارثة للقيطها، وإن وجد له من يرثه من أولاد أو زوجة فإن ميراثه لهم، وتلك التي أخذته وأحسنت إليه لا تعتبر وارثة له، يقول ابن القيم: لو صح الحديث فإن ميراثها للقيطها له وجه، قال: وإحسانها إليه بكونها التقطته وهو صغير وربته ونشأته فإن هذه النعمة ليست أقل من نعمة عتقه مملوكاً، فإن هذه نعمة عظيمة وتلك نعمة عظيمة، فقال: لو صح الحديث لكان له وجه ولكان القياس أنها ترث.
وقد ضعف الحديث بسبب عمر بن رؤبة التغلبي، وأنكروا عليه رواياته عن عبد الواحد بن عبد الله النصري، وقد روى له أصحاب السنن هذا الحديث فقط، وهو من طريق عبد الواحد، وهو مما أنكر عليه.
واللقيط هو الذي فيه الإشكال، وأما العتيق فبالإجماع أنها تحوز ميراثه، وكذلك الذي لاعنت عليه متفق مع الحديث الذي بعده، لكن الذي انفرد به هذا الحديث هو اللقيط، واللقيط حر ليس لأحد لا من ناحية النسب ولا من ناحية الولاء.(342/18)
تراجم رجال إسناد حديث (المرأة تحوز ثلاثة مواريث)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي].
إبراهيم بن موسى الرازي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن حرب].
هو محمد بن حرب الخولاني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر بن رؤبة التغلبي].
عمر بن رؤبة التغلبي صدوق، ولكن في تهذيب التهذيب أكثر فيه القدح، ولم يوثقه إلا ابن حبان فقد ذكره في الثقات، وفيه أن أحد العلماء قال: لا أعلمه إلا ثقة، وإلا فإن الأكثر ذكروا أنه لا يحتج به.
[عن عبد الواحد بن عبد الله النصري].
عبد الواحد بن عبد الله النصري ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن واثلة بن الأسقع].
واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وقد ضعف الألباني هذا الحديث.(342/19)
شرح حديث: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراث ابن الملاعنة لأمه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمود بن خالد وموسى بن عامر قالا: حدثنا الوليد أخبرنا ابن جابر حدثنا مكحول قال: (جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ميراث ابن الملاعنة لأمه، ولورثتها من بعدها)].
أورد أبو داود هذا الحديث، وهو مرسل عن مكحول: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ميراث ابن الملاعنة لأمه، ولورثتها من بعدها)، وهذا فيه ما في الحديث الذي قبله من جهة أنها تحوز ميراثه؛ لأنه جعله لورثتها من بعدها، ومعناه: أنهم يكونون في مقامها بعدها، أي: إذا لم تكن موجودة فإنه ينتقل ميراثها إلى ورثتها، وإذا كانت موجودة فإنها تحوز الميراث، وهذا يؤيد قول من يقول: إن المرأة الأم تكون عصبة لابنها الذي لاعنت عليه، وتستقل بميراثه، وأن ورثتها لا يرثون إلا إذا لم تكن موجودة، فإن ميراثها حينئذ ينتقل إليهم.(342/20)
تراجم رجال إسناد حديث: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراث ابن الملاعنة لأمه)
قوله: [حدثنا محمود بن خالد].
هو محمود بن خالد الدمشقي وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وموسى بن عامر].
موسى بن عامر صدوق له أوهام، أخرج له أبو داود.
[حدثنا الوليد].
هو الوليد بن مسلم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جابر].
هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا مكحول].
هو مكحول الشامي وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
والحديث مرسل، ولكن الحديث الذي بعده متصل وهو بمعناه، وهو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.(342/21)
شرح حديث: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراث ابن الملاعنة لأمه) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن عامر حدثنا الوليد أخبرني عيسى أبو محمد عن العلاء بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وفيه قوله: مثله، أي: مثل الذي قبله، أي: أن متن هذا الحديث الذي ذكر إسناده ولم يذكر متنه مطابق لمتن الحديث الذي قبله.(342/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراث ابن الملاعنة لأمه) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا موسى بن عامر حدثنا الوليد أخبرني عيسى أبو محمد].
عيسى أبو محمد صدوق، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد وأبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجة.
[عن العلاء بن الحارث].
العلاء بن الحارث صدوق، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب].
هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن الأربعة.
[عن أبيه].
شعيب بن محمد، وهو أيضاً صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة، وأصحاب السنن.
[عن جده].
جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وهم: عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير بن العوام وعبد الله بن عباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(342/23)
الأسئلة(342/24)
اللقيط لا يورث
السؤال
من هو اللقيط؟ وهل يورث أو لا يورث؟
الجواب
اللقيط لا يورث؛ لأنه ليس له نسب وليس له ولاء، وأسباب الميراث: النكاح والنسب والولاء، يقول الرحبي: أسباب ميراث الورى ثلاثة كل يفيد ربه الوراثة وهي نكاح وولاء ونسب ما بعدهن للمواريث سبب فسبب الميراث هو النسب والولاء، وهذا ليس له نسب، وليس له ولاء، إذاً لا يرث ولا يورث، وعلى هذا جمهور أهل العلم.
قال في الحاشية: أما اللقيط فإنه في قول عامة الفقهاء حر، وإذا كان حراً فلا ولاء عليه لأحد، والميراث إنما يستحق بنسب أو ولاء، وليس بين اللقيط وملتقطه واحد منهما، وكان إسحاق بن راهويه يقول: ولاء اللقيط لملتقطه، ويحتج بحديث واثلة، وهذا الحديث غير ثابت عند أهل النقل.
وقال ابن القيم يقول: لو صح الحديث لكان له وجه؛ لأن نعمة الملتقط على اللقيط نعمة عظيمة أو ليست بأقل من نعمة الولاء التي يستحق بها الميراث.(342/25)
الجمع بين تحمل النبي لدين المؤمنين وعدم صلاته على من مات وعليه دين
السؤال
قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا أولى بكل مؤمن من نفسه) أي: أنه يسدد دين المؤمن، فكيف يجمع بين هذا الحديث وبين ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على من مات وعليه دين؟
الجواب
هذا كان في أول الأمر، عندما لم يكن هناك أموال، وبعد أن فتح الله عليه كان يقضي دين الميت من بيت المال.(342/26)
ميراث الملاعنة من ابنها إذا كان له ابن وبنت
السؤال
إذا كان لابن الملاعنة ابن وبنت فكم ترث؟
الجواب
ترث السدس؛ لأن هناك من هو أولى منها وهو الابن.(342/27)
ميراث زوجة وابنة اللقيط
السؤال
توفي لقيط عن زوجة وابنة فيكف تقسم تركته؟
الجواب
الزوجة لها الثمن، والابنة لها النصف، والباقي يكون لبيت المال، أو يرد للبنت على القول بالرد.(342/28)
توريث أهل القرية عند عدم وجود القرابة
السؤال
حديث: أن مولى للنبي صلى الله عليه وسلم مات وترك شيئاً، ولم يدع ولداً ولا حميماً فقال: (أعطوا ميراثه رجلاً من أهل قريته)، فهل يمكن أن الإمام أبا داود أدخله في باب ميراث ذوي الأرحام؛ لأنه أعطى ميراثه أقرب الناس إليه وهم أهل قريته، فمن باب أولى إن وجد ذو رحم فإنه يعطى الميراث؟
الجواب
ذكر القرية يدل على عدم وجود قرابة؛ لأنه قال: (ولا حميماً)، أي: حتى قرابة الرحم لعلها غير موجودة، لكن هذا كما هو معلوم جاء في باب ذوي الأرحام تبعاً، وإعطاؤه كان على سبيل الارتفاق، وليس على سبيل الميراث.(342/29)
سبب إدخال أبي داود حديث: (أعطوا ميراثه رجلاً من أهل قريته) في باب ميراث ذوي الأرحام
السؤال
هل أدخل أبو داود رحمه الله حديث: (أعطوا ميراثه رجلاً من أهل قريته) في باب ميراث ذوي الأرحام لقوله: (لم يدع ولداً ولا حميماً)، لأن لفظة (حميم) تدل على أنه إذا كان له حميم فهو وارث؟
الجواب
كلمة: (حميم) تفيد المعنى العام الذي هو القريب مطلقاً، سواء كان وارثاً بالفرض أو التعصيب أو كان من ذوي الأرحام، فمن هذه الناحية يمكن.(342/30)
ميراث الخال ونحوه إذا انفرد
السؤال
إذا انفرد واحد من ذوي الأرحام كالخال، فهل يرث كل المال؟
الجواب
يرث ميراث من أدلى به.(342/31)
نفقة المتوفى عنها زوجها حال عدتها
السؤال
توفي الزوج وترك زوجته والزوجة لا تجد ما تنفق على نفسها في مدة العدة، فهل يجوز لها أن تأكل من المال الذي تركه زوجها حتى تنتهي العدة؟
الجواب
إذا كان هناك طعام في البيت فلها أن تأكل، وإذا لم يكن هناك طعام فتأكل من نصيبها من الإرث.(342/32)
عمل الولاة بحديث: (ومن ترك كلاً فإلى)
السؤال
قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن ترك كلاً فإليَّ)، هل لا زال باقياً الآن فيكون لأئمة المسلمين؟
الجواب
الذي يبدو أن الحكم مستمر.(342/33)
ميراث الخال
السؤال
كيف يرث الخال ميراث الأم الثلث أو السدس في حالة وجود الفرع الوارث أو جمع من الإخوة؟
الجواب
لا يرث الخال أصلاً مع وجود الفرع الوارث أو الجمع من الإخوة، وإنما يرث إذا عدم من يرث بالفرض ومن يرث بالتعصيب.(342/34)
أحكام الحافظ ابن حجر على الرواة
السؤال
حكم الحافظ على الرواة مثل عوسجة قال عنه الحافظ: ليس بالمشهور، لكن أبا زرعة قال: هو ثقة، وجبريل بن أحمر قال عنه: صدوق يهم، لكن وثقه ابن معين، فهل يقال: إن في أحكامه على الرواة تشدداً؟
الجواب
لا يقال: فيها تشدد، بل يمكن أن يقال: تساهل، فقوله عن راوٍ بأنه صدوق، مع أن ابن معين وثقه، هذا على اعتبار الأقوال الأخرى التي قيلت فيه؛ لأن ابن حجر رحمة الله عليه يحكم على حسب الأقوال التي قيلت فيه، ويخرج منها بنتيجة عادلة، وربما يحكم على ضوء ما رأى ووقف عليه من جملة الأقوال التي قيلت فيه جرحاً أو تعديلاً، وهذا رأيه الخاص؛ لأن الإنسان عندما يأتي إلى تهذيب التهذيب يجد نقول الحافظ ابن حجر عن المزي في الرجل، ثم إذا انتهى مما نقله عن المزي أتى بكلمة: (قلت) فيأتي بإضافات لا توجد عند المزي، فالحد الفاصل بين ما عند المزي وعند ابن حجر من الزيادات كلمة: (قلت)، وهي إضافات ليست في تهذيب الكمال الذي هو الأصل، والقارئ عندما يقرأ هذا الكلام قبل (قلت) وبعد (قلت) يسأل فيقول: ما الرأي عند ابن حجر؟ ما هي النتيجة التي توصل إليها ابن حجر؟ الجواب هو في تقريب التهذيب، لكن في الحقيقة أنه يوجد تساهل، وأحياناً يكون هناك تشدد؛ لأن القارئ إذا رأى بعض التراجم التي نقلها في تهذيب التهذيب يجد أن الحكم ليس قوياً، والقارئ يستطيع أن يعرف هذا بأن ينظر ما قيل في تهذيب التهذيب، فتجده أحياناً يقول عن الراوي: صدوق، مع أنه لم يوثقه إلا ابن حبان فقط.(342/35)
ميراث ابن الملاعنة من أمه
السؤال
إذا ماتت المرأة قبل ابنها الذي لاعنت عليه فهل يرثها؟
الجواب
نعم يرثها.(342/36)
حكم من يفتدي نفسه وماله بدفع مال لجهات مفسدة
السؤال
أنا رجل من الجزائر عندي مصنع وشاحنات فيأتيني الإرهابيون يطلبون المال، ويقولون: أعطنا وإلا فسوف نقتلك أو نحرق المصنع، فهل أنا آثم ومشترك معهم في جرائمهم، علماً بأني أعطيهم المال حفاظاً على حياتي وأموالي؟
الجواب
لست بآثم، لأنك تتخلص بذلك من شرهم أو من قتلك أو من إحراق مصنعك، فلست بآثم، وأنت معذور.(342/37)
زكاة المال عند حولان الحول
السؤال
أنا من الجزائر، وأستلم من البنك عشرة ملايين في الشهر، أي في السنة أستلم مائة وعشرين مليوناً بالعملة الجزائرية، فكيف تكون الزكاة عنها، علماً بأني أستلم هذه المبالغ متفرقة، مرة في أول السنة ومرة في آخرها؟
الجواب
لا أدري كيف يكون الاستلام، وما معنى كون البنك يعطيه هذه المقادير متفرقة، وما وضع المال عند البنك، هل يعطيه قرضاً، أم من مال مرصود له أو محول له أو غيره، لكن الإنسان إذا كان له مال يملكه وحال عليه الحول يزكيه عند حولان الحول.(342/38)
حكم الدراسة في الجامعات المختلطة للرجال والنساء
السؤال
امرأة تعيش في فرنسا، وتدرس هناك في إحدى الجامعات في الطب، وفي هذه الجامعة يمنعونها من لبس النقاب والقفاز، ويسمحون لها فقط بقماش تضعه فوق الشعر، ويوجد اختلاط، وهي تريد أن تأخذ الشهادة وسوف تتخرج بعد عامين، فما حكم دراستها؟
الجواب
لا تجوز لها هذه الدراسة التي فيها اختلاط، وأما في حق الرجال إذا ما وجدوا إلا هذه الجامعة المختلطة فإن الرجل يدرس، ولكن يجب عليه أن يبتعد عن النساء، وأما المرأة فلا تستطيع أن تبتعد عن الرجال، ولو ابتعدت عنهم لحقوها، والرجل يستطيع أن يبتعد عن النساء، فالمرأة لا يجوز لها أن تدرس مثل هذه الدراسة، والرجل إذا كان مضطراً ولم يجد مكاناً ليس فيه اختلاط فيجوز له ذلك، لكن يجب عليه أن يبتعد عن النساء، وهو يستطيع أن يبتعد عن النساء.(342/39)
حكم صلاة النافلة غير الراتبة للمسافر
السؤال
هل للمسافر أن يصلي النوافل غير الرواتب؟
الجواب
نعم، مثل صلاة الضحى وصلاة الليل، كما جاء في الحديث: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتنفل على راحلته أينما توجهت به) يبدأ بالصلاة إلى القبلة ثم يتجه أينما توجهت الراحلة، فهذه النوافل المطلقة جائزة.(342/40)
حكم استخدام حبوب منع الحيض في الحج وفي رمضان
السؤال
ما حكم أخذ حبوب منع الحيض عن أداء فريضة الحج أو الصيام في رمضان؟
الجواب
إذا كان لا يترتب على ذلك مضرة للمرأة في جسمها فلا بأس بذلك.(342/41)
حكم التكبير والتسليم في سجود التلاوة
السؤال
سجود التلاوة هل له تكبير وتسليم؟
الجواب
لا نعلم شيئاً يدل عليه، أما التكبير فهو المشهور، لكن لا نعلم شيئاً ثابتاً يدل عليه، وقد سبق ذكر المسألة والبحث فيها، وأما التكبير فإن بعض أهل العلم قال: يكبر في سجود التلاوة، ولكن لا يوجد ما يدل على هذا، وأذكر أنه ورد في مستدرك الحاكم من طريق عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر المصغر أو من طريق عبد الله المكبر، وبالرجوع إلى المستدرك وجد أنه المكبر، وأيضاً كذلك طلبت من البعض البحث عن نسخ خطية هل هو عبيد الله أو عبد الله، فوجد في النسخ الخطية التي وقف عليها أنه عبد الله، وعبد الله ضعيف لا يحتج به.
وعلى هذا لا نعلم شيئاً يدل على ثبوت التكبير، فالإنسان إذا كان في غير الصلاة فلا يكبر ولا يسلم، أما إذا كان في داخل الصلاة فعليه أن يكبر عند السجود وعند الرفع منه؛ لأنه يدخل تحت عموم قوله: (كان يكبر في كل خفض ورفع)، فإذا كان داخل الصلاة فإنه يكبر عند السجود وعند القيام من السجود.(342/42)
كتب تتحدث عن الأسماء والصفات
السؤال
أرجو أن تدلني على كتاب في الأسماء والصفات؟
الجواب
كتب الأسماء والصفات كثيرة مثل: العقيدة الواسطية والحموية، وشرح الطحاوية أيضاً فيه مواضع تتعلق بالأسماء والصفات، وكتاب الأسماء والصفات للبيهقي وغيره.(342/43)
حكم ما يسمى (الوصية الواجبة)
السؤال
في بلادنا إذا مات الرجل قبل أبيه؛ فإنهم يورثون ابن الرجل هذا من الجد؛ بحكم الوصية الواجبة، فما الحكم؟
الجواب
إذا كان الميت قد أوصى بأن يكون لابن الابن أو أبناء الابن وهم غير وارثين شيء من الثلث، فينفذ ذلك ويصح؛ لأنه غير وارث والوصية له.
وأما كون الوصية واجبة، وأن هذا يجب على الإنسان، فلا يوجد ما يدل عليه، ولا يوجد هناك شيء يدل على إيجاب الوصية لأحد، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث)، وقد كانت الوصية مشروعة وقد جاء القرآن بها، ولكنه بعدما نزلت آيات المواريث نسخت الوصية، فليس هناك وصية واجبة، ولكن كون الإنسان يوصي بثلث ماله أو بشيء من ثلث ماله لمن لا يرث من أقاربه فلا بأس بذلك، أما كونه لازماً.
فليس بلازم وليس بواجب.(342/44)
حكم من تأخر في قراءة الفاتحة عن إمامه حتى رفع من الركوع
السؤال
من صلى مع الإمام من أول الصلاة، وفي أثناء الركعة الثانية انشغل بقراءة الفاتحة فركع الإمام ورفع، والمأموم بدأ بعد ذلك بالركوع، فأدرك الإمام في الرفع من الركوع، فهل تحتسب له هذه الركعة؟
الجواب
تحتسب، وعليه أن يركع ويلحقه.(342/45)
حكم التقليد
السؤال
هل يجوز تقليد العالم؟
الجواب
من عنده معرفة بالحق وتمكن من معرفته، فإنه يجب عليه الأخذ بما ينتهي إليه، والإمام الشافعي رحمة الله عليه يقول: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد.
وأما إذا لم يكن عنده قدرة على معرفة الحق بدليله، فإذا كان عنده من يثق بعلمه ودينه وهو متمكن من ذلك سأله، وإن لم يجد هذا فإنه يقلد ويتبع مذهباً من مذاهب أهل السنة، كمذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، والله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].(342/46)
حكم إعطاء الإخوة من الزكاة
السؤال
هل يجوز أن أعطي إخوتي من الزكاة؟
الجواب
الإخوة يجوز أن تصرف لهم الزكاة إذا كانوا فقراء، لكن ينبغي أن يعلم أن الأقارب لهم حقوق في المال غير الزكاة، فإذا كان المال قليلاً والزكاة قليلة، ولا يتمكن من أن يعطيه من ماله فيعطيه من الزكاة، وهم أولى بها من غيرهم، وأما إذا كان المال كثيراً فالأقارب لهم حقوق غير الزكاة، فلا يجعل الإنسان الزكاة وقاية لماله، فإن بعض الناس يتخلص من الحقوق التي عليه بالزكاة، ويقول: الزكاة ستخرج حتماً، وإذا ما أعطيتهم الزكاة فسأضطر إلى أن أعطيهم من غير الزكاة، فإذا أعطيتهم الزكاة أبقيت على مالي، وهذا لا يجوز، فلا يجوز أن تكون الزكاة وقاية للمال، وهذا مثل من كان له دين على إنسان معسر، فإنه يتقاضى دينه منه بأن يحسبه من الزكاة، فيأخذ ديونه من الفقراء على اعتبار أنها زكاته كان سيدفعها لهم، وهذا أيضاً لا يجوز.
والحاصل: أن القريب له حق من غير الزكاة، فإذا كان المال كثيراً فليعطه من ماله ولا يجعل الزكاة وقاية للمال.
ولا يجوز للإنسان أن يخصم مقدار الزكاة من الدين الذي له على الفقير، ويقول له مثلاً: عندك لي ألف ريال، والزكاة خمسمائة ريال، وقد خصمت عنك خمسمائة، ويبقى عليك خمسمائة؛ لأن هذا معناه: أنه يستوفي ديونه بالزكاة، فبدلاً من أن يعطيها الفقراء والمساكين يجعلها في مقابل ديونهم.(342/47)
حكم إعطاء الزكاة محتاجاً لبناء بيت
السؤال
زوج أختي عنده قطعة أرض، وليس له مال لبنائها، فهل يجوز أن أعطيه من مال الزكاة ليبني هذه القطعة؟
الجواب
مال الزكاة يعطى للفقراء والمساكين، فلا تعطه لأحد يبني به بيتاً، وإذا كنت تريد أن تساعده فساعده من مالك لا من الزكاة.(342/48)
حكم طلب الدعاء من الحجاج العائدين
السؤال
عند رجوعي إلى أهلي يقول لي الناس: ادع الله لنا، فهل يجوز طلب ذلك الحجاج؟
الجواب
ينبغي له أن يقول لهم: ادعوا أنتم لأنفسكم، وإذا قيل له: ادع، فيدعو، لكن يقول لهم: ادعوا لأنفسكم، حتى: لا يتركوا الدعاء ويطلبونه منه فقط.(342/49)
حكم اتخاذ المسبوق إماماً فيما يقضي من صلاته
السؤال
مأموم أدرك مع إمام المسجد الركعة الأخيرة وقام للإتمام، فأتى أناس فصلوا خلفه وهم يعلمون أنه إنما أدرك ركعة واحدة فما حكم صلاتهم خلفه؟
الجواب
المسبوق يجوز أن يكون إماماً فيما يقضي من صلاته.(342/50)
من اعتمر في أشهر الحج وحج فعليه دم التمتع
السؤال
هل العمرة في أشهر الحج مثل شهر شوال فيها هدي لغير سكان مكة؟
الجواب
العمرة التي معها حج فيها هدي إذا وقعت في أشهر الحج، وشهر شوال هو أول أشهر الحج، فإذا تمتع الإنسان بأن أحرم بالعمرة في أشهر الحج وحج فعليه هدي التمتع.(342/51)
حكم من ترك صيام رمضان
السؤال
رجل لم يصم لمدة ثمان سنوات متتالية، فما حكم الشرع فيه الآن؟ الشيخ: ينظر: هل كان يصلي أو لا يصلي؟ فإن كان لا يصلي فلا يقضي، وإن كان يصلي ولم يصم فإنه يصوم ويقضي.(342/52)
حكم خصم الدين عن المدين من مال الزكاة
السؤال
لي خال سلفته مالاً وليس له مال يرد ذلك الدين، هل آخذه من الزكاة؟
الجواب
هذا هو السؤال الذي أجبنا عنه، وقلنا: إنه يشبه الذي يقي ماله بالزكاة بحيث يعطيها لأقاربه، فذلك أيضاً لا يجوز له، ولكن خالك إذا كان فقيراً فأعطه من الزكاة ليأكل، أما أن تخصم حقوقك التي عنده وتجعل الزكاة طريقاً إلى تسديد الديون، فهذا لا يجوز.(342/53)
حكم تحية المسجد في وقت النهي
السؤال
ما حكم تحية المسجد بين صلاة العصر والمغرب؟
الجواب
في ذلك خلاف بين أهل العلم، منهم من قال: إذا دخل المسجد فإنه يصلي في جميع الأوقات ومن ذلك أوقات النهي؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحد المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، قالوا: وهذا عام في جميع الأوقات، وقال بعض أهل العلم: إنه لا يصلي؛ لعموم قوله: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس)، والذي يظهر أنه لا ينكر على من صلى ولا على من جلس.(342/54)
حكم تغيير الوكيل لعين الزكاة
السؤال
هل يجوز لشخص أن يغير وجه الزكاة إذا كان مؤتمناً في توزيعها من نقد إلى أشياء عينية كبر أو أرز؟
الجواب
الذي عليه أن يؤدي الزكاة كما هي، فإذا كانت الزكاة نقوداً فيقسمها نقوداً، وإذا كانت تمراً فيقسمها تمراً، وإذا كانت براً فيقسمها براً، وهكذا.(342/55)
ديانة والد النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما هي الديانة التي كان عليها والد النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
هي ملة عبد المطلب ملة الآباء والأجداد: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23].(342/56)
حال حديث فضل صلاة أربعين صلاة في المسجد النبوي
السؤال
ما صحة حديث فضل الأربعين صلاة في المسجد النبوي؟
الجواب
ورد في ذلك حديث ضعيف لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.(342/57)
حكم مسح الوجه بعد الدعاء
السؤال
هل ننكر على من يمسح وجهه بعد الدعاء؟
الجواب
لم ترد في هذا سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيبين لمن يعمل ذلك أنه ما ثبت في هذا شيء، إنما الثابت هو رفع اليدين، وأما مسح الوجه باليدين بعد الدعاء فقد وردت فيه أحاديث ضعيفة.(342/58)
شرح سنن أبي داود [343]
للإرث أسباب وموانع، ومن موانعه اختلاف الدين، فلا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم، ومن أسبابه الولاء، فيرث المولى المعتِق وعصبَتُه المعتَق، وقد بين العلماء أحكام وتفاصيل ذلك.(343/1)
هل يرث المسلم الكفار(343/2)
شرح حديث (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب هل يرث المسلم الكفار حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب هل يرث المسلم الكفار] هذه الترجمة معقودة في بيان التوارث بين المسلمين والكفار، هل يكون أو لا يكون؟ وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فمنهم من قال: إن الكافر لا يرث المسلم والمسلم يرث الكافر.
ومنهم من قال: لا توارث بين المسلمين والكفار، فالمسلم لا يرث الكافر والكافر لا يرث المسلم.
وجمهور العلماء على القول بعدم التوارث بين المسلمين والكفار، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المتفق على صحته من حديث أسامة بن زيد: (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم).
والقول الثاني: إن المسلم يرث الكافر دون العكس، ويستدلون على ذلك بالقياس على نكاح الكتابيات، فنحن ننكح نساءهم وهم لا ينكحون نساءنا، فإذاً نحن نرث منهم ولا يرثون منا، وكذلك في الحديث: (الإسلام يعلو ولا يعلى)، وكذلك: (الإسلام يزيد ولا ينقص).
والصحيح: أنه لا توارث بين المسلمين والكفار؛ للحديث الصحيح المتفق عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما ما استدل به القائلون بالتوارث فيجاب عنه: بأن القياس لا يعتبر مع النص، إذ لا قياس مع النص، فالنص صريح في أن المسلم لا يرث الكافر، فإذاً لا يجوز أن يقاس كون المسلم يرث الكافر على كون المسلمين يتزوجون الكتابيات دون العكس، فالقياس فاسد؛ لأنه مخالف للنص.
وأما قوله: (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه)، فإن هذا لفظ عام، والحديث الذي منع من ذلك خاص، ثم يحمل حديث: (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه)، على معنى: أن الغلبة والعلو للإسلام، كما قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]، وكون الإسلام يزيد، يعني: بالدخول فيه، ولا ينقص بالارتداد عنه، وكذلك يزيد بفتح البلاد واتساع رقعة البلاد الإسلامية، وذلك بالجهاد في سبيل الله، فهذا من الزيادة والعلو، ومنه قول الله عز وجل: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء:44]، أي أن المسلمين يأخذون بلاد الكفار ويستولون عليها شيئاً فشيئاً فتنقص بلاد الكفار وتزيد بلاد المسلمين، والغلبة للإسلام وأهله، ولهذا قال: ((أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ))، وإنما الغلبة للإسلام وأهل الإسلام حيث فتحوا البلاد، وأخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، واتسعت بلاد المسلمين، وانحسرت بلاد الكفار، وهذا هو أحسن ما قيل في معنى الآية: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء:44]، وعلى هذا فالقول الصحيح: أن المسلم لا يرث الكافر، كما أن الكافر لا يرث المسلم.
وقوله: (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم)، هل الكفار يتوارثون على اعتبار أنهم ملل شتى أو أنهم ملة واحدة؟ وسيأتي الحديث في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي يتعلق بالترجمة هو كون المسلمين لا يرثون الكفار، وهذا هو القول الصحيح الذي دل عليه حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه الذي أورده المصنف: (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم).(343/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا سفيان].
سفيان بن عيينة المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي بن حسين].
علي بن حسين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن عثمان].
عمرو بن عثمان بن عفان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أسامة بن زيد].
أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(343/4)
شرح حديث: (وهل ترك لنا عقيل منزلاً؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه قال: (قلت: يا رسول الله! أين تنزل غداً؟ في حجته.
قال: وهل ترك لنا عقيل منزلاً؟ ثم قال: نحن نازلون بخيف بني كنانة حيث تقاسمت قريش على الكفر -يعني: المحصب- وذاك أن بني كنانة حالفت قريشاً على بني هاشم: ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، ولا يؤووهم).
قال الزهري: والخيف: الوادي].
أورد أبو داود حديث أسامة بن زيد الذي فيه: أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: أين تنزل؟ قال: (وهل ترك لنا عقيل منزلاً؟) يعني: أن عقيل بن أبي طالب لما مات أبو طالب كان كافراً، وكذلك أخوه طالب، وأما علي وجعفر فكانا مسلمين، فلم يرثا أبيهما الكافر، وإنما ورثه أبناؤه الكفار، ولهذا تولى عقيل على الدور التي بمكة والتي خلفها أبو طالب وهي من عبد المطلب فباعها وتصرف فيها، وذلك بحكم أن الكافر ورث الكافر والمسلمون ما ورثوا الكفار، فـ علي وجعفر رضي الله تعالى عنهما كانا مسلمين وأبوهما كافر، وعقيل كان كافراً، وطالب كان كافراً، وعقيل في حال كفره تسلط على الدور وباعها، ثم إنه أسلم بعد ذلك رضي الله عنه ودخل في الإسلام، ولكن حين وفاة أبيه هو الذي ورثه هو وأخوه طالب، وأما علي وجعفر فلم يرثا؛ لأنه لا توارث بين المسلمين والكفار.
(قال: وهل ترك لنا عقيل منزلاً، ثم قال: نحن نازلون بخيف بني كنانة؛ حيث تقاسمت قريش على الكفر -يعني: المحصب-).
وخيف بني كنانة موضع تقاسمت بنو كنانة فيه مع قريش على بني هاشم، بحيث يضيقوا عليهم ويقاطعوهم في المكان الذي حصل فيه التحالف بين الكفار على مقاطعة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم سواءً كانوا من المسلمين أو الكفار الذين ناصروه وأيدوه مثل أبي طالب، فقال: نحن نازلون في هذا المكان، أي: المكان الذي حصل فيه اجتماعهم على الشر، فالرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن ينزل فيه هو وأصحابه لما جاءوا في حجة الوداع، والخيف مكان على سفح جبل وعلى قرب مكان منخفض.
[قال الزهري: والخيف الوادي].
يعني بذلك مكاناً معيناً، وقيل: إن المقصود بالخيف كل ما كان في سفح جبل، وفيه ميول، فأسفله واد وأعلاه مرتفع.(343/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (وهل ترك لنا عقيل منزلاً؟)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد].
وقد مر ذكر الأربعة.(343/6)
شرح حديث: (لا يتوارث أهل ملتين شتى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا يتوارث أهل ملتين شتى)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: (لا يتوارث أهل ملتين شتى)، وبعض أهل العلم قال: المقصود بالملتين: ملة الإسلام والكفر؛ لأن الكفر ملة واحدة، فصارت ملة في مقابل الإسلام، فإذاً الملل ملتان فقط: إسلام وكفر، ولهذا جاء في القرآن عن الكفار أن: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، فالكفر ملة واحدة على اعتبار تعاون الكفار ومعاداتهم المسلمين، فهم في ذلك يد واحدة، وعلى منهج واحد، وعلى طريقة واحدة؛ لأنهم وإن اختلفوا فيما بينهم فهم متفقون على عداء الإسلام، وعلى محاربة الإسلام وأهل الإسلام.
فبعض أهل العلم قال: إن المقصود بالملتين: الإسلام والكفر، ومن أهل العلم من قال: إن المقصود بالملتين: أي ملتين، سواءً كانت ملة الإسلام والكفر، أو ملل الكفر نفسها بحيث لا يرث اليهودي النصراني، والنصراني لا يرث المجوسي، والمجوسي لا يرث الوثني.
وهكذا، وأن التوارث إنما هو في الملة الواحدة بحيث يكون اليهودي يرث اليهودي، والنصراني يرث النصراني، والمجوسي يرث المجوسي، والوثني يرث الوثني، وأما أن يتوارث من هو في ملة من ملة أخرى، فإنه لا توارث لهذا الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتوارث أهل ملتين شتى) أي: مطلقاً أي ملة من الملل، فمقتضاه: أن المسلم لا يرث الكافر، واليهودي لا يرث النصراني، والنصراني لا يرث المجوسي وهكذا؛ لأن المقصود به عموم الملل، والله عز وجل ذكر في القرآن أن الكفر ملل فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج:17]، فعددهم وذكرهم وهم ملل، وإن كانوا متفقين على حرب الإسلام، وأنهم شيء واحد بالنسبة على حرب الإسلام، ولكنهم ملل شتى ومناهج مختلفة، فإذاً لا يرث أهل ملة أهل ملة، الكافر النصراني لا يرث المجوسي، والمجوسي لا يرث اليهودي وهكذا.
وقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال، فعند الإمام الشافعي وأبي حنيفة: أن الكفر ملة واحدة، وأنهم يتوارثون، اليهودي يرث النصراني، والنصراني يرث المجوسي وهكذا.
وعند الإمام مالك رحمة الله عليه ثلاث ملل: اليهودية ملة، والنصرانية ملة، وسائر الملل الأخرى ملة واحدة.
وعند الإمام أحمد: أنهم ملل شتى متعددة مختلفة، فاليهودي لا يرث النصراني، والنصراني لا يرث المجوسي، والمجوسي لا يرث الوثني، وهكذا، فهم ملل شتى مختلفة لا يرث بعضهم من بعض.
وهذا الحديث بعمومه يدل على أنه لا توارث بين الملل المختلفة، وسواءً كان في ذلك بين ملة الإسلام والكفر، أو بين الكفار أنفسهم، أي: أنه لا توارث بينهم، فالمسلم لا يرث، والكافر النصراني لا يرث اليهودي، واليهودي لا يرث النصراني، والنصراني لا يرث المجوسي، وهكذا.
وقد ذكر صاحب ألفية الفرائض التي اسمها: عمدة الفارض، ولها شرح واسع اسمه العذب الفائض في شرح عمدة الفارض في الفرائض، وهي ألفية يذكر فيها مسائل الخلاف، وعندما ذكر هذه المسألة ذكرها بوضوح فقال: والكفر عند الشافعي ملة ووافق النعمان والأجلة وعند مالك ثلاث ملل وملل شتى لدى ابن حنبل ثم قال: وأثر اختلافهم قد ظهرا في كافر من المجوس قبرا فخلف ابناً أولاً مجوسي وثانياً من وثن منحوس وثالثاً أيضاً وقد تنصر اورابعاً هود ثم حضرا فعند أبي حنيفة والشافعي جميع ما خلف بين الأربع يعني: الكفر ملة واحدة، وجميع ما خلف بين الأربعة الملل وهم أولاده الأربعة: مجوسي ويهودي ونصراني ووثني، الأربعة يشتركون لأن الكفر ملة واحدة.
هذا عند أبي حنيفة والشافعي: ومالك ورثه للوثني وللمجوسي باتفاق بين لأن ما عدا اليهود والنصارى ملة، فجعله خاصاً بالوثني والمجوسي، ولم يجعل لليهودي والنصراني شيئاً.
وأحمد ورثه المجوسي للاستوا في ملة الخسيس معناه: أنه قصره على المجوسي؛ لأن الكفر عنده ملل شتى.
والذي يظهر: أن الحديث عام يدخل فيه سائر الملل، فلا يتوارث أهل ملتين شتى، كما جاء في ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.(343/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يتوارث أهل ملتين شتى)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد بن سلمة البصري ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن حبيب المعلم].
حبيب بن ذكوان المعلم صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب].
عمرو بن شعيب صدوق، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وجزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن جده عبد الله بن عمرو].
جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي جليل، وأحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وفي هذا التصريح بالجد، فقد قال: عن جده عبد الله بن عمرو؛ فالجد هو عبد الله وليس محمداً؛ لأنه لو كان محمداً يكون مرسلاً؛ لأنه ليس بصحابي، وقد صح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو وهو متصل، ولهذا قالوا: إذا صح الإسناد إلى عمرو بن شعيب فهو حديث حسن؛ لأنه صدوق وأبوه صدوق، وأحاديثهم من قبيل الحسن، وإنما الإشكال فيما دون ذلك، وفيما قبل عمرو بن شعيب، ولكن إذا استقام الحديث إلى عمرو بن شعيب -مثل هذا الحديث- فإنه يكون من قبيل الحسن.(343/8)
شرح حديث: (الإسلام يزيد ولا ينقص)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن عمرو بن أبي حكيم الواسطي حدثنا عبد الله بن بريدة: أن أخوين اختصما إلى يحيى بن يعمر -يهودي ومسلم- فورث المسلم منهما وقال: حدثني أبو الأسود: أن رجلاً حدثه: أن معاذاً رضي الله عنه حدثه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (الإسلام يزيد ولا ينقص) فورث المسلم].
أورد أبو داود هذا الأثر الذي فيه: أن يحيى بن يعمر اختصم إليه أخوان يهودي ومسلم وأبوهم يهودي، فورث المسلم، وأسند إلى معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإسلام يزيد ولا ينقص)، فالمقصود أنه يزيد بالدخول فيه، ولا ينقص بالارتداد عنه، وذكر عن معاذ أنه ورث المسلم وقدمه على الكافر.
والحديث فيه رجل مجهول في الإسناد وهو غير صحيح، وقوله: (يزيد ولا ينقص)، لفظ مجمل لا يدل على أن المقصود بذلك التوارث، والحكم واضح في الحديث المتفق على صحته: (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم)، فإذاً لا توارث بين المسلمين والكفار، لا المسلمين يرثون الكفار، ولا الكفار يرثون المسلمين، فالحديث غير ثابت؛ لأن فيه رجلاً مجهولاً.(343/9)
تراجم رجال الجمع بين تحمل النبي لدين المؤمنين وعدم صلاته على من مات وعليه دينإسناد حديث: (الإسلام يزيد ولا ينقص)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث].
عبد الوارث بن سعيد العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن أبي حكيم الواسطي].
عمرو بن أبي حكيم الواسطي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن عبد الله بن بريدة].
عبد الله بن بريدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن يعمر].
يحيى بن يعمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو الأسود].
أبو الأسود الدؤلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن رجلاً حدثه].
هذا يقال له: مبهم؛ لأنه غير معروف وغير مسمى، فيقال له: المبهم، وهو علة في الحديث.
[أن معاذاً].
معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(343/10)
شرح حديث: (الإسلام يزيد ولا ينقص) من طريق يحيى بن سعيد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة عن عمرو بن أبي حكيم عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الديلي: أن معاذاً رضي الله عنه أتي بميراث يهودي وارثه مسلم بمعناه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى، وقال: إنه بمعناه، وفيه علة الانقطاع؛ لأن أبا الأسود الديلي روى عن معاذ، وهناك رجل مبهم بينه وبين معاذ، فيكون منقطعاً فلا يحتج به، وحديث: (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم) هو العمدة في هذا الباب، وهو حديث متفق عليه.(343/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (الإسلام يزيد ولا ينقص) من طريق يحيى بن سعيد
قوله: [حدثنا مسدد عن يحيى بن سعيد].
يحيى بن سعيد القطان البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن أبي حكيم عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الديلي عن معاذ].
كل هؤلاء مر ذكرهم.(343/12)
ما جاء فيمن أسلم على ميراث(343/13)
شرح حديث: (كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم له)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن أسلم على ميراث.
حدثنا حجاج بن أبي يعقوب حدثنا موسى بن داود حدثنا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم له، وكل قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب من أسلم على ميراث]، وفيها: أن ما تم تنفيذه في الجاهلية من أحكام، فإنها تبقى على ما هي عليه ولا تغير في الإسلام، وذلك عام فيما يتعلق بالمعاملات، وبالأنساب، وبالأنكحة؛ لأن الإسلام لم يتعرض لما كان في الجاهلية من أنكحة، وهل هو صحيح أو غير صحيح، وإذا كان غير صحيح يصحح، ما تعرض لهذا لا بالنسبة للأنساب ولا للأنكحة كيف تمت؟ ولا للأموال والربا وما إلى ذلك، وكل شيء كان في الجاهلية وحصل تنفيذه في الجاهلية فإنه نافذ، ولكن لما جاء الإسلام وهناك أشياء لم تقسم فهي تقسم على حكم الإسلام، ولا تقسم على ما كان في الجاهلية، وهناك أشياء لا تقر في الإسلام؛ ولها أثر باق مثل: رجل يسلم وعنده أختان، فإنه لا يقر على الجمع بينهما، فيلزمه أن يترك واحدة منهما، ومثل: رجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، فلا يقر على الزيادة على أربع، فيختار أربعاً ويفارق الباقي.
إذاً: الأحكام التي كانت في الجاهلية وتم تنفيذها في الجاهلية تبقى على ما كانت عليه، والأشياء التي أدركها الإسلام فإنه يؤتى فيها بحكم الإسلام، ولكن لا يقر من أعمال الجاهلية ما كان أدركه الإسلام وهو غير مطابق لأحكام الإسلام، كالأمثلة التي أشرت إليها.
قال: (كل قسم حصل في الجاهلية فهو على ما قسم له)، إذا كانوا يقسمون المال في الميراث وغيره على طرق مختلفة فإنه لا يغير ذلك القسم الذي تم في الجاهلية، ولكن إذا أدركه الإسلام فإنه يقسم وفقاً للإسلام، وليس وفقاً لما كان في الجاهلية.
فإذا وجد إنسان كافر، وحصلت القسمة للميراث في حال الكفر، فيبقى على ما هو عليه، أما علاقة الحديث بالترجمة فهي من جهة قسم الميراث.(343/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم له)
قوله: [حدثنا حجاج بن أبي يعقوب].
حجاج بن أبي يعقوب ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا موسى بن داود].
موسى بن داود صدوق له أوهام، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا محمد بن مسلم].
محمد بن مسلم صدوق، يخطئ من حفظه، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن دينار].
عمرو بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الشعثاء].
أبو الشعثاء جابر بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(343/15)
ما جاء في الولاء(343/16)
شرح حديث: (لا يمنعك ذلك فإن الولاء لمن أعتق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الولاء.
حدثنا قتيبة بن سعيد قال: قرئ على مالك وأنا حاضر، قال مالك: عرض علي نافع عن ابن عمر: أن عائشة رضي الله عنهما أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية تعتقها، فقال أهلها: نبيعكها على أن ولاءها لنا، فذكرت عائشة ذاك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لا يمنعك ذلك؛ فإن الولاء لمن أعتق)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في الولاء] يعني: الميراث في الولاء، وأن الولاء من أسباب التوارث، والولاء هو: نعمة على العتيق من المعتق بتخليصه من الرق؛ فيرث المعتق سواءً كان رجلاً أو امرأة، وإذا ذهب صاحب النعمة -المعتق- فإن ورثته العصبة هم الذين يقومون مقامه، ولا يورث الولاء كما يورث المال؛ بأن يكون أصحاب الفروض لهم قسم والباقون لهم قسم، وإنما المعتق يرث بالعصوبة ثم يحل محله من يرث المعتق بالعصوبة، فإذا هلك أو مات عتيق وكان سيده موجوداً سواءً رجلاً أو امرأة فإنه يرث المال من ذلك العتيق، هذا إذا لم يكن له ورثة، أما إذا كان له ابن فهو أحق به؛ لأن الولاء لا يأتي إلا بعد عدم الميراث بالنسب، فإذا مات العتيق وليس له ورثة من صلبه يحوزوا المال؛ فإنه يكون إلى المعتق، وإذا لم يوجد معتق فإن عصبته يحلون محله ويقومون مقامه.
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أنها أرادت أن تشتري جارية، وهي بريرة رضي الله عنها، فاشترط أهلها أن يكون لهم الولاء، معناه: أن تعتقها عائشة، ولكن الولاء يكون لهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنعك ذلك؛ فإن الولاء لمن أعتق)، ليس يتحول باشتراط، أو يأخذه من لا يستحقه، وإنما هذا شيء كالنسب، والذي يحصل منه العتق هو الذي يكون له الولاء وهو شبيه بالنسب، فقال: (لا يمنعك ذلك) أي: أن البيع صحيح، والشرط باطل، فالبيع يتم والشرط يبطل؛ لأن الولاء لمن أعتق لا يكون لغيره؛ لأنه شبيه بالنسب.(343/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يمنعك ذلك فإن الولاء لمن أعتق)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: قرئ على مالك وأنا حاضر].
مالك هو ابن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال مالك: عرض علي نافع].
العرض هو القراءة.
ونافع هو مولى ابن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
ابن عمر هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(343/18)
ميراث المعتق بالولاء
المعتق يرث بعد أصحاب الفروض والعصبة، ويأخذ ما أبقت الفروض، ويستقل بالمال إذا لم يكن ثمة أصحاب فروض؛ لأن شأنه شأن العصبة، والعصبة يأخذون ما أبقت الفروض أو يستقلون بالمال إذا لم يكونوا أصحاب فروض.
ومعنى ذلك: أنه مقدم في الإرث على ذوي الأرحام؛ لأن الأرحام لا يرثون إلا إذا لم يوجد من يرث بالفرض أو التعصيب، والولاء ميراث بالتعصيب، وميراث ذوي الأرحام لا يكون إلا عندما لا يوجد من لا يرث بالفرض ولا بالتعصيب، والذي يرث بالولاء يرث بالتعصيب.
ومما هو معلوم أن عصبة النسب مقدمون على عصبة الولاء، وإنما يكون هذا إذا لم يوجد من يعصبه من حيث النسب، وإذا لم يوجد المعتق فإن عصبته يرثون العتيق.(343/19)
شرح حديث: (الولاء لمن أعطى الثمن وولي النعمة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الولاء لمن أعطى الثمن، وولي النعمة)].
أورد المصنف حديث عائشة رضي الله عنها وهو مثل الحديث الذي قبله، قال: (الولاء لمن أعطى الثمن، وولي النعمة)، أعطى الثمن الذي اشتري به العتيق، يعني: ملكه بالثمن وأعتقه، فالذي أعطى الثمن وولي النعمة أي تفضل بالعتق وأنعم بالعتق هو الذي يكون له الولاء، ولا يكون لشخص آخر ليس له علاقة بالولاء، كالذين اشترطوا أن يكون لهم الولاء؛ لأن الولاء يكون لمن أعتق وأعطى الثمن.(343/20)
تراجم رجال إسناد حديث: (الولاء لمن أعطى الثمن وولي النعمة)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا وكيع بن الجراح].
وكيع بن الجراح الرؤاسي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان الثوري].
سفيان الثوري هو: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
منصور بن المعتمر الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم].
إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأسود].
الأسود بن يزيد بن قيس وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة رضي الله تعالى عنها وهي أم المؤمنين مر ذكرها.(343/21)
شرح حديث: (ما أحرز الولد أو الوالد فهو لعصبته من كان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر حدثنا عبد الوارث عن حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما: أن رياب بن حذيفة تزوج امرأة، فولدت له ثلاثة غِلمة، فماتت أمهم، فورثوها رباعها وولاء مواليها، وكان عمرو بن العاص عصبة بنيها، فأخرجهم إلى الشام فماتوا، فقدم عمرو بن العاص رضي الله عنه ومات مولى لها، وترك مالاً له، فخاصمه إخوتها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أحرز الولد أو الوالد فهو لعصبته من كان)، قال: فكتب له كتاباً فيه شهادة عبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت رضي الله عنهما ورجل آخر، فلما استخلف عبد الملك اختصموا إلى هشام بن إسماعيل أو إلى إسماعيل بن هشام، فرفعهم إلى عبد الملك، فقال: هذا من القضاء الذي ما كنت أراه، قال: فقضى لنا بكتاب عمر بن الخطاب، فنحن فيه إلى الساعة].
أورد أبو داود حديث عمر في أن الولاء يكون للمعتق ولعصبته، وهذا في عصبة المعتق؛ لأن رياب بن حذيفة تزوج امرأة ولدت له ثلاثة وماتت، وأولادها ورثوا عنها رباعها، أي: أملاكها وولاء مواليها، وأن عمرو بن العاص هو عصبتهم، وذهب بهم إلى الشام وماتوا، وأنه كان لها مولى أعتقته وكان له مال، فجاء إخوتها يطالبون أن يكون لهم ولاء هذا الميراث؛ لأن أختهم هي المعتقة، وأنهم ترافعوا إلى عمر رضي الله عنه، وأنه كتب بأن الولاء يكون لأولادها؛ لأن الأولاد مقدمون في العصوبة على الإخوة؛ لأنهم ورثوا مالها وورثوا ولاءها، أي صار لهم ولاؤها بالعصوبة، وأولئك عصوبتهم متأخرة، فعصوبة البنين مقدمة على عصوبة الإخوة كما هو معلوم من النسب وكذلك يكون أيضاً في الولاء، وكتب بذلك عمر على أن الولاء لأولادها وعصوبة أولادها.
[فقال عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أحرز الولد أو الوالد فهو لعصبته من كان)].
فهو لعصبته من كانوا، فإذا كان العصبة من النسب فهم مقدمون، فإذا لم يوجد عصبة من النسب فإنه ينتقل للعصبة من الولاء.
[كتب له كتاباً فيه شهادة عبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت ورجل آخر].
أي: كتب لـ عمرو بن العاص كتاباً فيه شهادة رجال على أن الولاء لهم.
[فلما استخلف عبد الملك اختصموا إلى هشام بن إسماعيل أو إلى إسماعيل بن هشام فرفعهم إلى عبد الملك فقال: هذا من القضاء الذي ما كنت أراه].
ثم أعيدت المخاصمة فيما بعد وعبد الملك بن مروان لما انتهت إليه، قال: هذا من القضاء الذي ما كنت أراه، أي: الذي كنت أراه؛ لأن ما زائدة وليست نافية، فأمضاه على قضاء عمر، وفي هذا: أن العصوبة كما هو معلوم مرتبة، فعصوبة البنين مقدمة على عصوبة الإخوة، وعصوبة الإخوة مقدمة على عصوبة الأعمام وهكذا، وهذا فيه عصوبة البنين مقدمة على عصوبة الإخوة، والحديث الذي مر دال على أن المعتق يرث هو نفسه سواءً كان ذكراً أو أنثى، وأما غير المعتق فإنه لا يورث عنه الولاء بحيث إن أصحاب الفروض يأخذون وأصحاب العصبة يرثون، وإنما يأخذ العصبة فقط دون أصحاب الفروض، وتنتقل من المعتق إلى عصبته المتعصبون بأنفسهم، لا بغيرهم ولا مع غيرهم.
والحديث الأول فيه ميراث المعتق، وهذا الحديث فيه ميراث عصبة المعتق.
ولتوضيح القصة في هذا الحديث، وكيف أن عمرو بن العاص رضي الله عنه كان عصبة بينهما، أقول: لا أدري ما وجه القرابة لكنه كان عصبة كما جاء في الحديث، وعمر كتب له في ذلك كتاباً على أنه هو الذي عصب الأولاد، والأولاد هم الذين عصبوا أمهم عصوبة النسب، فاختصوا من ميراثها بعصوبة الولاء.(343/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (ما أحرز الولد أو الوالد فهو لعصبته من كان)
قوله: [حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الوارث].
عبد الوارث بن سعيد مر ذكره.
[عن حسين المعلم].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده].
وقد مر ذكرهم.
[عن عمر].
عمر رضي الله عنه أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(343/23)
ما جاء في الرجل يسلم على يدي الرجل(343/24)
شرح حديث: (السنة في الرجل يسلم على يدي الرجل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يسلم على يدي الرجل.
حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي وهشام بن عمار قالا: حدثنا يحيى -قال أبو داود: هو ابن حمزة -: عن عبد العزيز بن عمر قال: سمعت عبد الله بن موهب يحدث عمر بن عبد العزيز عن قبيصة بن ذؤيب رضي الله عنه قال هشام: عن تميم الداري رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! وقال يزيد: إن تميماً قال: يا رسول الله! ما السنة في الرجل يسلم على يدي الرجل من المسلمين؟ قال: هو أولى الناس بمحياه ومماته)].
أورد أبو داود: [باب في الرجل يسلم على يدي الرجل] يعني: ماذا يكون بينهما؟ رجل كان سبباً في إسلام رجل، فهذا الذي أسلم على يديه ما علاقته به؟ قال: (هو أولى الناس بمحياه ومماته).
بعض أهل العلم استدل بهذا على أنه يكون وارثاً له؛ لأنه: (أولى الناس بمحياه ومماته)، وبعض أهل العلم قال: إن هذا لا يدل على التوارث، وإنما يدل على أنه أحسن إليه، وهو أولى الناس بمحياه ومماته، وليس ذلك في الميراث، وإنما ببره، وإحسانه، وحفظ ماله وما إلى ذلك، وهو لفظ عام لا يدل على الميراث.
إذاً: لا يقال: إن من أسلم على يدي إنسان يكون وارثاً له، لكنه يكون مولى له من حيث إنه أنعم عليه، ولهذا يقال: المولى يأتي عن طريق الإسلام على يدي إنسان، ويأتي عن طريق الحلف، ويأتي عن طريق العتق، ويكون من أسفل ومن أعلى، والبخاري رحمه الله كان مولى للجعفيين من هذا القبيل؛ لأن أحد أجداده أسلم على يد رجل من الجعفيين، فلهذا يقال له: الجعفي مولاهم، وذلك بنعمة الإسلام، لكن الحديث لا يدل على التوارث، وإنما يدل على الصلة الوثيقة القوية بين الذي كان سبباً في الإسلام، والذي أسلم على يديه، وهو أولى الناس بمحياه ومماته، لكن لا يكون أولى الناس بميراثه.(343/25)
تراجم رجال إسناد حديث: (السنة في الرجل يسلم على يدي الرجل)
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي].
يزيد بن خالد بن موهب الرملي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وهشام بن عمار].
هشام بن عمار صدوق، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن يحيى، قال أبو داود: هو ابن حمزة].
يحيى بن حمزة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد العزيز بن عمر].
عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وهو صدوق يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن موهب].
عبد الله بن موهب وهو ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[عن قبيصة بن ذؤيب].
قبيصة بن ذؤيب له رؤية، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن تميم الداري].
تميم الداري رضي الله عنه، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
وقوله: (يا رسول الله! ما السنة في الرجل؟).
يعني: ما الحال أو الشأن وما صلة الرجل بمن يسلم على يديه؟ قال: (هو أولى الناس بمحياه ومماته).(343/26)
الأسئلة(343/27)
حكم الضم بعد الرفع من الركوع
السؤال
هل وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر بعد الركوع قال به أحد المتقدمين من العلماء؟
الجواب
لا أذكر، لكن للشيخ حمود التويجري رحمه الله كتاب اسمه: تنبيهات على رسالة الألباني في الصلاة، ومنها هذه المسألة، ولعله قال: هي رواية عن الإمام أحمد.
لكن الحديث الذي استدل به القائلون بذلك واضح الدلالة، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان قائماً في الصلاة وضع اليمين على الشمال؛ فإن هذا القيام في الصلاة يكون قبل الركوع وبعد الركوع؛ لأن المصلي له أحوال أربعة لا خامس لها: فهو إما قائم قبل الركوع وبعد الركوع، وإما راكع، وإما ساجد، وإما جالس، والجلوس يكون في التشهد وبين السجدتين، وقوله: (قائماً في الصلاة) يشمل القيام قبل الركوع وبعد الركوع.(343/28)
كيفية تزكية حلي النساء
السؤال
هل يجمع حلي الزوجة والبنات سوياً ويزكى؟
الجواب
لا بل حلي كل واحدة يزكى على حدة إذا بلغ نصاباً فأكثر، وقد يقال: قد تكون هناك مشقة؛ لأن كل واحدة لها حول معين، فهو يريد أن يخرج زكاتها من راتب واحد يجمعه كله ويزكيه في وقت واحد، أو يزكيه من باقي الراتب، أو من المدخر فيما بعد، أو يقال: بدل ما يزكي كل شهر وحال عليه الحول يزكيه في رمضان ويرتاح.
على كل إذا كانت لكل واحدة ذهب متميز نصيبها ويبلغ نصاباً يزكى، وإن نقص فإنه لا يزكى؛ لأنه لو جمع يمكن أن أحدهما لا يستحق أن يزكى مالها ويزكى عنها، فيكون في ذلك نقص على صاحبة الحق، حيث أخرج من مالها وهو ليس مالاً للزكاة.(343/29)
حكم الزوجة إذا رفضت نزع الحائل المانع من الحمل
السؤال
إذا وضعت الزوجة حائلاً لمنع الحمل؛ بحجة تربية الأولاد، فكبر الأولاد ولم تنزع هذا الحائل وترفض ذلك، فهل يجوز للزوج أن يفارقها؟
الجواب
يجوز له، لكن عليه أنه يعمل لإذهاب أو إزالة هذا المانع، وإن أصرت وهو يريد أولاداً فله أن يفارقها، لكن كونه يعمل على إزالة هذا المانع وتبقى الزوجية على ما هي عليه هو الأولى، وله أن يتزوج غيرها عليها.(343/30)
أحكام طلاق المعتدة من الوفاة والرجعية
السؤال
امرأة طلقها زوجها في الصباح ومات في المساء فبأي عدة تعتد بعدة الطلاق أم الوفاة؟
الجواب
الطلقة رجعية، والرجعية تعتبر زوجة، فهي تعتد عدة وفاة، يعني أنها ترث.
وهل عدة الطلاق مثل عدة الوفاة حيث لا تخرج من بيتها، وتتجنب الزينة؟ لا، عدة الطلاق كما هو معلوم المرأة تبقى فيه عند زوجها وتتجمل له؛ لأنها قد تعجبه فيراجعها فينتهي الطلاق، وهو إذا جامعها حصلت له الرجعة، ولهذا تبقى في بيته وتتجمل له، وإن وطئها صار ذلك رجعة.(343/31)
حكم المأمومين إن خالفوا الإمام في سجود التلاوة
السؤال
في صلاة الفجر قرأ الإمام سورة السجدة، ولما سجد الإمام ركع بعض المصلين وبعضهم وقف ولم يسجد حتى قام الإمام من سجدته، فهل يجب عليهم شيء أم أن صلاتهم صحيحة؟
الجواب
من لم يسجد صلاته صحيحة، ولعله فعل ذلك جهلاً منه، أو ذهولاً فصلاته صحيحة؛ لأنه ما حصل منه إلا أنه ما سجد هذا السجود، وأما الذي ركع ثم تبين له الأمر فإنه يرجع إلى القيام ويعتبر ما سجد؛ لأن السجود ذهب، ويرجع إلى ما كان عليه وصلاته صحيحة.
على كل الصلاة صحيحة سواء لمن لم يركع وظل قائماً وكان من حقه أن يسجد، وأما هذا فهو واهم، ظن أنه ركع ولم يسجد، فعلى كل ما دام أنه فات محل السجود فإنه يرجع إلى القيام، وصلاته صحيحة.(343/32)
حكم خطبة الجمعة بدون اللغة العربية
السؤال
في أوروبا القوم لا يجيدون اللغة العربية، فهل يجوز أن نخطب بهم بغير اللغة العربية؟
الجواب
اخطب بالعربية وبغير العربية، ولا تجعلها كلها بالعربية؛ لأنك لو جعلتها كلها بالعربية وهم لا يجيدون العربية صار وجود الخطبة مثل عدمها، والذي يبدو أن حمد الله والثناء عليه وما إلى ذلك يكون بالعربية.(343/33)
حكم الغناء بدون آلات الطرب
السؤال
هل يشرع الغناء بغير آلات الطرب؟
الجواب
لا، الغناء لا يشرع مطلقاً.(343/34)
مقدار القلل الخمس التي لا تحمل الخبث
السؤال
( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث)، ما مقدار القلة؟
الجواب
قيل: إنها قرب كبيرة من قلال هجر.(343/35)
حكم إزالة الوشم طبياً
السؤال
والدتي امرأة كبيرة في السن، كانت في صباها تعيش في البادية وهي لم تتعلم، وخلال تلك الفترة كانوا يتجملون بالوشم في الوجه واليدين، فماذا عليها الآن بعد أن علمت عدم الجواز؟ وهل يجب إزالته طبياً؟
الجواب
إذا كان يزال ولا يلحقها ضرر تفعل هذا، وإذا كان يلحقها ضرر فلا بأس بإبقائه.(343/36)
حكم من صلى إلى غير القبلة جاهلاً
السؤال
انتقلت منذ ستة أشهر إلى بيت جديد، ولقد اكتشفت أنني خلال هذه الفترة كنت أصلي النافلة باتجاه ينحرف قليلاً عن اتجاه القبلة، فماذا أفعل؟ وهل أهلي يعيدون الصلاة؟
الجواب
إذا كان الانحراف يسيراً فلا يؤثر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين المشرق والمغرب قبلة).(343/37)
وقوع الحج عمن حج عنه وكيله بنية أخرى
السؤال
طلبت إحدى النسوة من رجل أن يحج عن أبيها المتوفى والذي لم يحج، فكلف الرجل ابنه ولكن دون أن يخبره أن الحج لأبي المرأة، فنوى الابن الحج عن المرأة نفسها، علماً بأن المرأة قد حجت قبل هذا،
و
السؤال
هل الحج يعتبر لأبي المرأة؛ لأن المرأة نوت ذلك؟ وهل يجوز لهذا الرجل أن يأخذ المال المتفق عليه؟
الجواب
الذي يبدو أنه لأبيها وليس لها؛ لأن الأمر على ما دفعت المرأة له.(343/38)
حكم شراء السيارة وبيعها عن طريق إحدى البنوك في نفس الوقت
السؤال
أنا محتاج إلى مال نقداً، وذهبت إلى إحدى البنوك التي تبيع السيارات بالتقسيط، ثم أنا أبيعها نقداً ويكون الفرق (25ألفاً)، مع العلم أن المؤسسة لا توجد عندها السيارة وإنما قالوا: أي سيارة تريد أن نشتريها ونتملكها بناءً على طلبك ثم نبيعها لك، فهل هذا البيع يعد صحيحاً؟
الجواب
إذا كان البائع الذي سيبيع بالتقسيط يملك السلعة وتدخل في ملكه، وذاك من خياره إن شاء أخذها وإن شاء تركها؛ فله ذلك، وإن كان ملزماً بالشراء فلا يجوز.(343/39)
حكم وقوف الصغار في الصفوف الأولى للصلاة
السؤال
هل يجوز للصغار أن يصفوا في الصفوف الأولى؟
الجواب
إذا كانوا مميزين يجوز ذلك، وإن كانوا غير مميزين فلا يجوز أن يصفوا في الصفوف؛ لأنهم لا يعقلون الصلاة فيقطعون الصفوف.(343/40)
حكم الوضوء من ماء مغصوب
السؤال
هناك خزان ماء مشترك بيني وبين جاري، فيكون عليه الماء في شهر، وعلي في شهر آخر، لكن الماء الذي يأتي به هو لا يشتريه وإنما يأخذه من المدرسة؛ لأنه المدير ولم يصرف له، إنما صرف للمدرسة، فهل عليَّ من حرج في الوضوء من هذا الماء؟
الجواب
لا تمكنه من أن يأخذ الماء المستحق للمدرسة، فيجعله في بيته، وامنعه من ذلك ولا تقره على هذا الشيء؛ لأن هذا عمل لا يجوز، وهو ملك للمدرسة وليس له، وإنما عليك أن تمنعه من هذا، والذي فعلته فيما مضى ليس فيه شيء إن شاء الله، والوضوء صحيح، لكن الإثم للمتعمد لاستعماله.(343/41)
شرح سنن أبي داود [344]
من أحكام المواريث التي نسخها الإسلام: ما كان عليه أهل الجاهلية من توارث بسبب التحالف، وكذا ما كان في أول الإسلام من توارث بين المهاجرين والأنصار دون أهل البادية، وقد ورد النهي عن التحالف الذي يسبب الميراث، أو يكون على باطل أو يدعو إلى باطل.(344/1)
ما جاء في بيع الولاء(344/2)
شرح حديث (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في بيع الولاء.
حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن بيع الولاء، وعن هبته)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في بيع الولاء] أي: في حكمه، وأنه لا يجوز، وسبقت ترجمة في إثبات الولاء، وأنه حق متعلق بالمعتق وبعصبته من بعده، وهذه الترجمة فيها: أن ذلك الحق الذي للمعتق وعصبته ليس شيئاً يدخل فيه البيع والهبة والشراء، وإنما هي صلة وقرابة بين المعتق والمعتق لا يدخلها بيع ولا هبة، وهو شبيه بالنسب، وكما أن النسب لا بيع فيه ولا هبة، فكذلك الولاء لا بيع فيه ولا هبة، وسبق أن مر حديث عائشة في قصة بريرة، وأن أهلها أرادوا أن يكون لهم الولاء، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (إنما الولاء لمن أعتق)، وهذا الحق جاء بسبب النعمة على العتيق بالعتق، وهذه الصلة خاصة ولازمة في حق المعتق وعصبته، ولا يمكن أن توهب، ولا يمكن أن تباع؛ لأنها شبيهة بالنسب.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته)، يعني: أن ذلك لا يجوز ولا يسوغ، وإنما هو حق للمعتق ولعصبته الذين من بعده، وهو كالنسب لا يباع ولا يوهب.(344/3)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري وهو ثقة، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن دينار].
عبد الله بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم.
هذا الإسناد من رباعيات أبي داود؛ لأن أعلى الأسانيد عند أبي داود هي الرباعيات؛ لأن بين أبي داود وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أشخاص، وهم: حفص بن عمر وشعبة وعبد الله بن دينار وعبد الله بن عمر.(344/4)
ما جاء في المولود يستهل ثم يموت(344/5)
شرح حديث (إذا استهل المولود ورث)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المولود يستهل ثم يموت.
حدثنا حسين بن معاذ حدثنا عبد الأعلى حدثنا محمد -يعني: ابن إسحاق - عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذ استهل المولود وُرَّث)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في المولود يستهل ثم يموت] يعني: يصيح ويظهر منه صياح عند نزوله من بطن أمه.
هذا هو الاستهلال، والمقصود من ذلك: أنه إذا ولد حياً حياة مستقرة يستدل عليها بالاستهلال الذي هو رفع الصوت بالبكاء والصياح؛ فإنه يكون وارثاً من جملة الورثة، يعني: إذا مات أبوه وهو في بطن أمه، ثم خرج حياً حياة مستقرة؛ فإنه من جملة الورثة، وإن خرج ميتاً فإنه لا يرث.
وهنا أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إذا استهل المولود ورث)، وفسر الاستهلال بأنه الصياح، وقيل: بأن يوجد منه حياة مستقرة كالعطاس وغير ذلك؛ فإنه في هذه الحالة يرث، وإن خرج ميتاً وسقط ميتاً فإنه لا يرث، وهذا فيه دلالة على أن الحمل يمكن أن يرث، وإذا قسمت التركة قبل الولادة يوقف ما يستحقه، وإن انتظر حتى يولد فإن سقط ميتاً فإنه لا يرث، وإن ولد حياً حياة مستقرة ثم مات أو عاش فإنه يكون وارثاً.(344/6)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا استهل المولود ورث)
قوله: [حدثنا حسين بن معاذ].
حسين بن معاذ ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الأعلى].
عبد الأعلى بن عبد الأعلى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد -يعني: ابن إسحاق -].
محمد بن إسحاق المدني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد بن عبد الله بن قسيط].
يزيد بن عبد الله بن قسيط ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق عن النبي صلى الله عليه وسلم.(344/7)
ما جاء في نسخ ميراث العقد بميراث الرحم(344/8)
شرح أثر (كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب نسخ ميراث العقد بميراث الرحم.
حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت حدثني علي بن حسين عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {وَالَّذِينَ عاقَدت أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33]، كان الرجل يحالف الرجل، ليس بينهما نسب، فيرث أحدهما الآخر، فنسخ ذلك الأنفال، فقال تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75]].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب نسخ ميراث العقد بميراث الرحم].
المقصود بالعقد: الحلف والتعاقد، وكانوا في الجاهلية يتعاقدون ويتحالفون، ويعقدون ذلك بأيمانهم، بمعنى: أنهم يتحالفون، ويكون بينهم حلف على أنه يرثه ويرثه، ويلزمه ما يلزمه، ويكون هو وإياه كالشيء الواحد، ويتوارثون بهذا الحلف.
ثم كان ذلك في أول الإسلام يتوارثون به، ثم بعد ذلك نزلت: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75]، فنسخ الميراثُ بالرحم والقرابة الميراثَ بالحلف والمعاقدة، فصار الميراث بالعقد والحلف منسوخاً، وعاد الميراث للقرابة على حسب ما جاء في الكتاب العزيز والسنة المطهرة من ذكر أصحاب الفروض، وأصحاب التعصيب، أو الأرحام بالمعنى الخاص الذي سبق أن مر عند عدم الوارث.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عباس قال: [كان الرجل يحالف الرجل، ليس بينهما نسب، فيرث أحدهما الآخر].
يعني: هذا من قبيلة، وهذا من قبيلة، فيكون بينهما حلف وعقد على أن يحصل التناصر والتوارث وغير ذلك بسبب هذا الحلف، فكان ذلك في الجاهلية، ثم بقي في الإسلام حتى نسخ بميراث الرحم، وأن الميراث إنما هو للقرابة، فأسباب الميراث هي: قرابة وزوجية وولاء، وأما الإرث بالتحالف فإنه قد نسخ وانتهى، ولم يبق له وجود بعد نسخه في قول الله عز وجل: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75]، والمقصود بها القرابات عموماً، وليس المقصود بها القرابات الذين هم في اصطلاح الفرضيين من لا يرث بفرض ولا بتعصيب، ولكنه كما قال بعض أهل العلم: يشملهم ويندرجون تحته، ويشمل كل قريب، سواء كان يرث بفرض أو تعصيب، أو لا يرث بفرض ولا تعصيب، ولكنه عندما يعدم الوارثون بالفرض والتعصيب يرث ذوو الأرحام؛ كالعمة والخالة والخال وغير ذلك، وقد سبق أن مر الكلام على ميراث ذوي الأرحام في باب عقده المصنف لذلك.(344/9)
تراجم رجال إسناد أثر (كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب)
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت].
أحمد بن محمد بن ثابت المروزي ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثني علي بن حسين].
علي بن حسين بن واقد صدوق يهم، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه ثقة له أوهام، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد النحوي].
يزيد بن أبي سعيد النحوي وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عكرمة].
عكرمة مولى ابن عباس وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(344/10)
شرح أثر (كان المهاجرون حين قدموا المدينة تورث الأنصار دون ذوي رحمه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا أبو أسامة حدثني إدريس بن يزيد حدثنا طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33] قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة تورث الأنصار دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت هذه الآية: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ} [النساء:33] قال: نسختها {وَالَّذِينَ عاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33] من النصر والنصيحة والرفادة، ويوصى له، وقد ذهب الميراث].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: [{وَالَّذِينَ عاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33] قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة تورث الأنصار دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم].
هذه الآية: ((وَالَّذِينَ عاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ))، والقراءة الثانية: ((عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ)).
لما قدم المهاجرون إلى المدينة آخى النبي عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار، فكان المهاجري يرث الأنصاري؛ للأخوة التي بينهما، فلما نزل: ((وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ)) صار الميراث للقرابة، ونسخ ذلك الميراث بالتعاقد أو بالحلف، فكان قوله: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75]، وكذلك: ((وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ))، ناسخاً لقوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33]، فقول ابن عباس رضي الله عنه: [إنما هو من النصر والنصيحة والرفادة ويوصي له وقد ذهب الميراث] يعني: له أن يوصي له في حدود الثلث، والميراث قد نسخ، فصار للقرابات دون تلك الصلة التي كانت بسبب التحالف.
قوله: [فلما نزلت هذه الآية: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ} [النساء:33] قال: نسختها].
[فلما نزلت هذه الآية: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ} [النساء:33] قال: نسختها].
أي: نسخت: ((وَالَّذِينَ عاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ))، فصار الحكم الباقي هو النصرة، والإحسان، والنصيحة، والرفادة التي هي العطية، والوصية له بحدود الثلث، والميراث صار بالقرابات.(344/11)
تراجم رجال إسناد أثر (كان المهاجرون حين قدموا المدينة تورث الأنصار دون ذوي رحمه)
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هارون بن عبد الله الحمال البغدادي ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو أسامة].
أبو أسامة حماد بن أسامة البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني إدريس بن يزيد].
إدريس بن يزيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا طلحة بن مصرف].
طلحة بن مصرف ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.(344/12)
شرح أثر ((والذين عقدت أيمانكم) إنما نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن حين أبى الإسلام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل وعبد العزيز بن يحيى المعنى قال أحمد: حدثنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن داود بن الحصين قال: كنت أقرأ على أم سعد بنت الربيع رضي الله عنها، وكانت يتيمة في حجر أبي بكر رضي الله عنه فقرأت: ((وَالَّذِينَ عاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ))، فقالت: لا تقرأ: ((وَالَّذِينَ عاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ))، إنما نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن حين أبى الإسلام، فحلف أبو بكر ألا يورثه، فلما أسلم أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أن يؤتيه نصيبه.
زاد عبد العزيز: فما أسلم حتى حُمل على الإسلام بالسيف].
أورد أبو داود حديث أم سعد بنت الربيع رضي الله تعالى عنها أن داود بن الحصين قرأ عليها: ((وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ))، قالت: ((وَالَّذِينَ عاقَدَتْ))، معناه: أنها ذكرت أنه لا يقرأ: (عقدت) وإنما (عاقدت)، وهذه القراءة هي التي تعرفها، وإلا فإن: (عقدت) و (عاقدت) كلتيهما من القراءات الثابتة، ولعلها قالت له ذلك بناءً على ما تعرف، وأن الذي تعرفه هو قراءة: (عاقدت)، وفي المصحف: ((وَالَّذِينَ عَقَدَتْ))، وهي إحدى القراءات.
قال: [كنت أقرأ على أم سعد بنت الربيع، وكانت يتيمة في حجر أبي بكر، فقرأت: ((وَالَّذِينَ عاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ))، فقالت: لا تقرأ: ((وَالَّذِينَ عاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ))، إنما نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن حين أبى الإسلام، فحلف أبو بكر ألا يورثه، فلما أسلم أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أن يؤتيه نصيبه].
وهذا الحديث على غير ما سبق فيما يتعلق بالحلف، ونسخ الميراث بالمعاقدة والحلف بآية ذوي الأرحام، وإنما هذا يتعلق بالتوارث بين المسلم والكافر، ومعلوم أن الكافر لا يرث المسلم، وأن المسلمين يتوارثون.
والحديث فيه: أن أم سعد بنت الربيع قالت: إنها نزلت في أبي بكر، وأنه حلف ألا يرثه ابنه عبد الرحمن، وكان كافراً، ثم إنه أسلم بعد ذلك، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤتيه نصيبه، يعني: أنه مسلم ويكون من جملة الورثة، ويكون له نصيب من الميراث.
والحديث ضعفه الألباني، وهو مخالف لما جاء في الأحاديث الأخرى الماضية التي فيها أن الميراث إنما هو بالتحالف، وأنه ليس المقصود اليمين الذي هو الحلف، وإنما المقصود من ذلك العقد الذي يكون بينهم بالنصرة والتأييد والتوارث.
والحديث في إسناده محمد بن إسحاق، وقد روى بالعنعنة وهو مدلس، والذي عيب عليه في الرواية التدليس، وهنا رواه بالعنعنة ومخالفته لما جاء في الأحاديث الأخرى الدالة على أن المقصود بما جاء في الآية: ((وَالَّذِينَ عاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ)) أنه عقد الحلف وليس عقد اليمين بأنه لا يحصل كذا ولا يحصل كذا، مثلما حصل في قصة أبي بكر في أنه حلف أنه لا يرث.
[زاد عبد العزيز: فما أسلم حتى حمل على الإسلام بالسيف].
معناه: أنه ما أسلم إلا بعدما ظهر الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وليس المقصود أنه ألزم بالإسلام، وأنه هدد بالقتل، وإنما المقصود من ذلك أنه دخل مع من دخل بقوة الإسلام.
[قال أبو داود: من قال: (عقدت) جعله حلفاً، ومن قال: (عاقدت) جعله حالفاً، قال: والصواب حديث طلحة: (عاقدت)].
كأن هنا تفريقاً بين (عقدت وعاقدت) وفي الحقيقة أن معناهما واحد، وكلها حلف، والمقصود من ذلك: أن المتعاقدين يضع كل واحد يده بيد الآخر من أجل التعاقد والحلف الذي يكون بينهما، فهذا هو المقصود بالأيمان.
قوله: [فمن قال: (عقدت) جعله حلفاً، ومن قال: (عاقدت) جعله حالفاً] يعني: من القسم واليمين، وفي الحقيقة كلاهما بمعنى الحلف.
قوله: [والصواب حديث طلحة: عاقدت] يعني: الحديث الذي مر عن طلحة بن مصرف.
وكل منهما قراءة صحيحة ثابتة (عاقدت وعقدت)، وكل منهما حلف وليس المقصود الحلف الذي هو اليمين.(344/13)
تراجم رجال إسناد أثر ((والذين عقدت أيمانكم) إنما نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن حين أبى الإسلام)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[وعبد العزيز بن يحيى].
عبد العزيز بن يحيى صدوق ربما وهم، أخرج له أبو داود والنسائي.
[قال أحمد: حدثنا محمد بن سلمة].
محمد بن سلمة الباهلي وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن إسحاق عن داود بن الحصين].
ابن إسحاق مر ذكره.
وداود بن الحصين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أم سعد بنت الربيع].
أم سعد بنت الربيع صحابية صغيرة، أخرج حديثها أبو داود.(344/14)
شرح أثر (فكان الأعرابي لا يرث المهاجر ولا يرثه المهاجر) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن محمد حدثنا علي بن حسين عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا} [الأنفال:72]، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا} [الأنفال:72]، فكان الأعرابي لا يرث المهاجر ولا يرثه المهاجر، فنسختها، فقال تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75]].
ذكر المصنف بعد ذلك حديث ابن عباس في الآية في آخر سورة الأنفال، وقال: إنه كان الأعرابي لا يرث المهاجر، فلما نزلت: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75] نسخت ما سبق، يعني: ذلك الذي كان من التوارث بالهجرة وعدم التوارث بعدمها، ثم صار التوارث بأولي الأرحام سواء حصلت هجرة أو ما حصلت هجرة.
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد عن علي بن حسين عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس].
هذا الإسناد مر ذكره.
وأحمد بن محمد هو: ابن ثابت الذي مر في الإسناد السابق، وكل هؤلاء الرجال مر ذكرهم في إسناد سابق.(344/15)
ما جاء في الحلف(344/16)
شرح حديث (لا حلف في الإسلام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الحلف.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا محمد بن بشر وابن نمير وأبو أسامة عن زكريا عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جبير بن مطعم رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة)].
أورد أبو داود باباً في الحلف، وهو التعاقد والتناصر على شيء، وكان هذا في الجاهلية، وكانوا يعولون على ذلك ويعتمدون عليه، ولما جاء الإسلام وحد بين المسلمين وآخى بينهم، فصاروا بأخوتهم وتأليف الله عز وجل بين قلوبهم أغنى عن تلك الأحلاف، فصاروا إخوة متحابين متآلفين لا يحتاجون إلى ما يحتاجون إليه في الجاهلية من التحالف.
فأورد أبو داود حديث جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه قال: (لا حلف في الإسلام)، أي كالتحالف الذي كان في الجاهلية، (وأيما حلف كان في الجاهلية) يعني: إذا كان من الأشياء المحمودة المرغوبة فإن الإسلام لا يزيدها إلا شدة؛ لأنه جاء بتقوية الصلة والروابط بين الناس، وكل ما كان في الجاهلية مذموماً فإن الإسلام قد نسخه؛ لأنهم كانوا قبل ذلك يتحالفون على أن ينصر أحدهم أخاه سواء كان ظالماً أو مظلوماً، المهم أن واحداً ينصر الآخر على جميع الأحوال، فهذا مذموم.
وأما المعاقدة على النصرة والمؤازرة والإحسان فما كان في الجاهلية وهو غير مذموم، فإن الإسلام زاده شدة، يعني: أن هذه الأواصر والأمور التي كان أهل الجاهلية يتعاملون بها وهي محمودة فإن الإسلام جاء وأثبتها وزادها شدة وقوة؛ لأنه جاء بتثبيت كل ما هو محمود، ومنع كل ما هو مذموم، ولهذا جاء الإسلام وأمور الجاهلية منها ما هو محمود فأقره، ومنها ما هو مذموم فحرمه ومنع منه.
والحاصل: أن قوله: (لا حلف في الإسلام) لا ينافي ما جاء في آخر الحديث؛ لأن المثبت غير المنفي، المنفي هو التحالف على أمور سيئة غير حسنة، ويترتب عليها نصرة الظالم على المظلوم بسبب الحلف والتعاقد، وأما الأمور المحمودة التي كانت في الجاهلية فالإسلام زادها تثبيتاً وزادها قوة وشدة.(344/17)
تراجم رجال إسناد حديث (لا حلف في الإسلام)
وقوله: (لا حلف في الإسلام) يدخل فيه الأحزاب الدعوية.
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا محمد بن بشر].
محمد بن بشر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وابن نمير].
هو: عبد الله بن نمير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأبو أسامة عن زكريا].
أبو أسامة مر ذكره.
وزكريا بن أبي زائدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعد بن إبراهيم].
سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، له رؤية، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن جبير بن مطعم].
جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(344/18)
شرح حديث (حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد قال: حدثنا سفيان عن عاصم الأحول قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: (حالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا، فقيل له: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا حلف في الإسلام؟ فقال: حالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا.
مرتين أو ثلاثاً)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (حالف رسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا)، يريد بالمحالفة المؤاخاة التي حصلت عندما قدم المهاجرون ليس معهم أموال، والأنصار أهل الأموال، فآخى رسول الله عليه الصلاة والسلام بين شخص من المهاجرين وشخص من الأنصار، بحيث يكون معه يسكنه ويطعمه.
ولما آخى بين عبد الرحمن بن عوف وصحابي من الأنصار قال: دلني على السوق، فذهب للسوق وجعل يبيع ويشتري، فالحلف الذي حصل هي المؤاخاة، فقال: إن ذلك كان في دارنا، ومعلوم أن هذه المؤاخاة إنما كانت لمصلحة المهاجرين؛ لأنهم جاءوا بدون أموال وليس لهم مساكن، فصاروا أضيافاً عند الأنصار، وكل واحد يكون معه واحد من المهاجرين.
وقوله: (حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا)، يعني: أن الذي حصل منه صلى الله عليه وسلم هي مؤاخاة لأمر اقتضى ذلك، وأما: (لا حلف في الإسلام) فالمقصود به ما كان في الجاهلية من التحالف على النصرة وأمور غير حسنة، بمعنى: أنه ينصره ولو كان ظالماً، ويكون معه في الخير والشر، والإسلام إنما جاء بتثبيت ما يكون في الخير، وأما ما حصل بين المهاجرين والأنصار فليس من قبيل ما حصل في الجاهلية، وإنما هو من قبيل شيء فيه مصلحة للمهاجرين؛ لأنهم تركوا أموالهم وأوطانهم فصاروا بدون مأوى أو مال يأكلون منه ويلبسون، فالرسول صلى الله عليه وسلم عمل هذه المؤاخاة بينهم، فهذه ثابتة أقرها الإسلام، وأما المنفي فهو غير الشيء المثبت.(344/19)
تراجم رجال إسناد حديث (حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا سفيان].
سفيان هو ابن عيينة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عاصم الأحول].
عاصم بن سليمان الأحول ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث من رباعيات أبي داود، وهي من أعلى الأسانيد عنده.(344/20)
ما جاء في المرأة ترث من دية زوجها(344/21)
شرح حديث (كتب إليَّ رسول صلى الله عليه وسلم أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المرأة ترث من دية زوجها.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً، حتى قال له الضحاك بن سفيان رضي الله عنه: (كتب إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أُورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها)، فرجع عمر].
أورد أبو داود باباً في ميراث المرأة من دية زوجها، يعني: أن الدية من جملة المال الذي يخلفه الميت، وأن حكمها حكم مال الميت، وأنها تورث كما يورث ماله، وأورد أبو داود حديث الضحاك بن سفيان رضي الله عنه، وكان عمر رضي الله عنه يقول: إن الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها، وكأنه اعتبر أن الدية إنما ثبتت الدية بعد الموت، فلم يعتبرها من قبيل المال الذي يورث؛ لأنه ليس مالاً خلفه اكتسبه، وإنما هي شيء حصل بسبب وفاته، فأخبره الضحاك بن سفيان: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها)، فرجع عمر إلى السنة، وإلى ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك ما كان رآه بالاجتهاد والقياس.(344/22)
تراجم رجال إسناد حديث (كتب إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[عن سفيان عن الزهري].
سفيان مر ذكره.
والزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد].
هو سعيد بن المسيب وهو ثقة، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والضحاك بن سفيان هو راوي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب السنن.(344/23)
شرح حديث استعمال الضحاك بن سفيان على الأعراب وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أحمد بن صالح: حدثنا عبد الرزاق بهذا الحديث عن معمر عن الزهري عن سعيد وقال فيه: (وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم استعمله على الأعراب)].
يعني: الضحاك، وهذه إشارة إلى وجه الكتابة، وأنه كتب له على اعتبار أنه استعمله على الأعراب، فكتب له بهذا الكتاب لما كان مستعملاً، وهذا بيان سبب كتابته له، أو المناسبة التي جعلته يكتب له؛ لأنه كان مسئولاً عن الأعراب.
قوله: [قال أحمد بن صالح حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن سعيد].
الزهري وسعيد مر ذكرهما.(344/24)
الأسئلة(344/25)
معنى النصر والنصيحة والرفادة
السؤال
ما معنى النصر والنصيحة والرفادة؟
الجواب
النصر يكون حيث يكون الصاحب مظلوماً أو ظالماً، فإن كان ظالماً يمنعه من الظلم، كما جاء في الحديث: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قال: أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تمنعه من الظلم) يعني: أنه ينصره إن كان مظلوماً ويكون عوناً له، ويسعى في تخليصه من مظلمته، وإن كان ظالماً يسعى في تخليصه من الظلم، ويجعله يترك الظلم ويبتعد عن الظلم.
والنصيحة أن ينصح له بأي وجه من وجوه النصيحة، فينصح له إذا استشاره، ومن النصيحة أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، كل ذلك داخل تحت اسم النصيحة، والنصيحة معنى عام.
والرفادة: العطية والإحسان.(344/26)
حكم التعلم على يد المرأة
السؤال
هل في حديث أم سعد بنت الربيع دليل على جواز القراءة على المرأة والتعلم منها؟
الجواب
نعم.
هذا الحديث يدل على الأخذ عن المرأة، وكذلك يجوز تعليم المرأة، لكن من وراء حجاب.(344/27)
كيفية تقسيم التركة قبل ولادة الحمل
السؤال
كيف تقسم التركة قبل ولادة الحمل؟
الجواب
إذا طلب بعض الورثة أن تقسم التركة، فإنه يقدر ميراث الحمل ويعطون القدر الذي لا يحتاج إلى أن يؤخذ منهم شيء منه فيما بعد، بمعنى: أنه يفترض أنه ذكر، ثم يوقف نصيبه، فإذا كان ذكراً كما افترض أخذ نصيبه، وإذا كان أنثى فإنها تأخذ نصيبها والباقي يرجع للورثة، وهذا موجود في علم الفرائض في باب ميراث الحمل.(344/28)
حال حديث ميراث المرأة من دية زوجها
السؤال
الحديث الأخير هل هو مرسل؛ لأنه عن سعيد بن المسيب قال: كان عمر يقول: الدية على العاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها؟
الجواب
لا.
ليس مرسلاً؛ لأنه يحكي الذي حصل، وأن الضحاك بن سفيان كتب له بذلك.(344/29)
حكم الكلام في الخطبة
السؤال
قوله صلى الله عليه وسلم: (من لغا فلا جمعة له)، متى يبدأ تحريم الكلام؟ ومتى ينتهي؟
الجواب
يحرم الكلام إذا بدأ الخطيب يتحدث إلى أن ينتهي.(344/30)
حكم بيع ما فيه فتنة للمسلمين
السؤال
أنا تاجر وجاءتني عدد من العبايات المطرزة والسادة، وبعضها يلبس على الرأس، وبعضها يلبس على الكتفين، وأنا أبيع بالجملة، ومحتم علي أن أشتري كل هذا العدد، فهل يجوز أن أشتري هذه البضاعة بما فيها من مطرز ومن أشياء تلبس على الكتفين؟
الجواب
ما فيه فتنة وكون النساء تلبسه وفيه مضرة ليس للإنسان أن يتعامل به، والشيء الذي على الكتفين فيه تشبه بالرجال، فلا تلبس المرأة اللبس على الكتفين، وإنما يكون لبسها للعباءة على رأسها وليس على كتفيها.
وبالنسبة للإلكترونيات مثل المسجلات وآلات الحلاقة للشعر وغير ذلك يشتريها جملة، وكونه يشتري هذه الأشياء المباح شراؤها فلا بأس، ولا مانع من أن يشتريها بالجملة أو بالإفراد.
أما آلات الحلاقة فإذا كانت تستعمل في أمر سائغ ما فيه بأس، والحلاق يمكن أن يفعل ما هو مباح ويمكن أن يفعل ما هو محرم، فإذا حلق اللحى فإن فعله محرم، وإذا حلق الرءوس فإن فعله مباح.(344/31)
حكم صلاة راتبة الظهر الأربع بتسليمة واحدة
السؤال
السنة الراتبة قبل الظهر هل أصليها بتسليمتين أو بتسليمة واحدة؟
الجواب
الذي ينبغي للإنسان أن يأتي بها بتسليمتين.(344/32)
حكم الكلام بين الخطبتين
السؤال
هل يجوز الكلام في السكتة بين الخطبتين؟
الجواب
يجوز إذا كان هناك حاجة للكلام.(344/33)
حكم صلاة سنة العصر الأربع بتسليمة واحدة
السؤال
حديث: (رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً)، هل تكون بتسليمة أو تسليمتين؟
الجواب
الأصل هو التسليمتين، لحديث: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى).(344/34)
حكم التطوع بعد صلاة الوتر
السؤال
هل يشرع التطوع بعد صلاة الوتر؟
الجواب
لا يشرع أن يوتر الإنسان ثم يتطوع أو يقصد أن يوتر ثم يتطوع، فالوتر يكون آخر صلاة الليل، وإذا أوتر الإنسان ثم بعد ذلك استيقظ وأراد أن يصلي، فليصل ولا يوتر مرة ثانية.(344/35)
حكم الصلاة على النبي في الخطبة
السؤال
هل يجوز لنا أن نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة إذا ذكر ونأمن على الدعاء؟
الجواب
نعم تؤمن وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره؛ لأن التأمين والصلاة هو متابعة للخطيب، وكون الإنسان متابعاً للخطبة هذا هو المطلوب، وإنما الحديث ما يكون خارجاً عن الخطبة، ويكون مع غيره، وفيه انشغال عن الخطبة، وأما كون الإنسان يؤمن فمعناه أنه مع الإمام، يعني: الإمام يدعو وهو يؤمن، الإمام يذكر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي عليه.(344/36)
دعاء الاستفتاح بعد تكبيرة الإحرام
السؤال
هل يشرع بعد تكبيرة الإحرام القول: (الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً)؟
الجواب
ورد في بعض الروايات أن هذا من أدعية الاستفتاح.(344/37)
حكم الصلاة على النبي
السؤال
هل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة واجبة أم مستحبة؟ وما الدليل؟
الجواب
إذا كان المقصود به في القراءة، وكون الإنسان عندما يقرأ الإمام ويأتي ذكر النبي يصلي عليه، فلا يفعل ذلك، وأما الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام في التشهد الأخير ففيها خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال بركنيتها، ومنهم من قال باستحبابها، والحنابلة يقولون: هي ركن، ويستدلون على ذلك بالحديث الذي ورد: (عرفنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك إذا كنا في صلاتنا؟)؛ لأنه ذكر مع التشهد.(344/38)
شرح مسألتي العمرية في الفرائض
السؤال
نرجو من فضيلتكم شرح المسألة العمرية؟
الجواب
العمرية مسألتان في الفرائض وضابطهما: وجود أحد الزوجين مع الأبوين فقط، مسألة فيها: زوج وأم وأب، ومسألة فيها: زوجة وأم وأب، فالأبوان موجودان في الاثنتين، وفي كل واحدة إما زوج وإما زوجة، فالأم ترث ثلث ما يبقى بعد أخذ الزوج أو الزوجة نصيبه، أما الزوج فله النصف؛ لأنه لا يوجد فرع وارث، وما يبقى بعد ذلك كأنه أصل المال، فتأخذ الأم ثلث ما يبقى والأب يأخذ الباقي، أما ثلث ما يبقى فهو في الحقيقة سدس، أي سهم واحد من ستة أسهم.
ففي العمرية نورث الأبوين بعد الزوج، وكأن المسألة: هلك هالك عن أب وأم، فإن الأم تأخذ الثلث والأب يأخذ الباقي.
ففي مسألة العمريتين بعد أن يأخذ الزوج والزوجة نصيبهما تأخذ الأم الثلث بعد ذلك، وهو في الحقيقة سدس أو ربع، ففي مسألة الزوج تكون من ستة: الزوج له النصف، والأم لها ثلث الباقي، وهو في الحقيقة السدس والباقي للأب، وفي مسألة الزوجة تكون من أربعة: الزوجة لها الربع؛ لأنه لا يوجد فرع وارث يحجبها إلى الثمن، فيبقى ثلاثة، الأم لها ثلث الباقي وهو في الحقيقة ربع، والأب له الباقي.(344/39)
الدليل على أن غير المميز يقطع الصف
السؤال
ما الدليل على أن اصطفاف الصغار في الصف يقطع الصلاة؟
الجواب
إذا كانوا مميزين فاصطفافهم لا يقطع الصف، وأما إذا كانوا غير مميزين فإن وجود أحدهم في الصف كعدم وجوده؛ لأنه غير مصل، بل يلعب ويتحرك ويلتفت ويقوم ويجلس، فوجوده مثل عدمه، وأما إذا كان يميز ويصلي مع الناس فإن الصف يكون فيه مصل.(344/40)
وجوب حفظ اللسان عن أهل العلم
السؤال
انتشر في الآونة الأخيرة قدح بعض طلبة العلم في بعض مشايخ أهل السنة الذين ينافحون عن الحق بألسنتهم وأقلامهم كالشيخ ربيع المدخلي وغيره، بزعم أن هؤلاء المشايخ لم يسلم أحد منهم، وأن الأمة بحاجة إلى أن تأتلف وتتفق وتترك الردود فيما بينها، فما نصيحة فضيلتكم لهؤلاء الشباب؟
الجواب
الواجب هو التناصح والتعاون على البر والتقوى، وأن يحفظ الإنسان لسانه عما يعود عليه بالمضرة، والرد مطلوب إذا كان هناك أمر يقتضي الرد، وأي مانع يمنع من الرد؟! فهل من الحكمة أن المنكر أو الباطل إذا وجد يترك ولا يرد عليه، والذي يرد عليه ينكر عليه؟! هذا لا يسوغ ولا يجوز، بل الرد من النصيحة، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالحاصل: أن الإنسان عليه أن يحفظ لسانه من الكلام الذي يعود عليه بالمضرة، والعالم إذا حصل منه رد في محله فإن هذا من النصيحة، ومما يعود على الناس بالفائدة.(344/41)
حكم مس المصحف للمحدث حدثاً أصغر
السؤال
قال الشوكاني رحمه الله في نهاية بحث مس المصحف: أما المحدث حدثاً أصغر فذهب ابن عباس والشعبي والضحاك وزيد بن علي والمؤيد بالله والهادوية وقاضي القضاة وداود إلى أنه يجوز له مس المصحف، فهل قول ابن عباس والشعبي صحيح؛ لأن الشوكاني لم يذكر السند إليهما؟
الجواب
لا أدري، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يمس القرآن إلا طاهر)، وهذا هو الذي يعول عليه في ذلك.
ولكن تجد هذه الآثار في مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة، ونحوهما.(344/42)
حكم نقل المصحف لمن هو محدث
السؤال
هل يدخل في النهي عن مس المصحف إلا بطهارة نقل المحدث للمصحف من مكان إلى مكان؟
الجواب
كون الإنسان يمسكه بالغلاف وينقله من مكان إلى مكان لا بأس به، وإنما المحذور كونه يفتح المصحف ويلمسه، هذا هو المحظور، وأما كونه يحمله بغلافه فلا بأس به.
ويجوز للمحدث مسك طرف الورقة، ولمس جزء من ورقة المصحف مما ليس فيه قرآن، فالمحذور هو أن يلمس القرآن.(344/43)
حكم الاستدلال بحديث (إذا كنتم ثلاثة في سفر فلتؤمروا أحدكم) على البيعة
السؤال
قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة في سفر فلتؤمروا أحدكم) هل فيه دليل على البيعة، حيث تستدل به الجماعات والأحزاب على ذلك؟
الجواب
وأين ذكر البيعة في هذا الحديث؟! فهل الرسول قال: إن الاثنين يبايعون الثالث؟! لا تشرع بيعة في السفر أبداً، لكن يقال: أنت الأمير، أنت مرجعنا، أما كونهم يبايعونه على كذا وكذا فلا، وإنما يجعلون أحدهم مرجعاً لهم، بحيث إذا أراد أن يذهب يستأذن الأمير، وإذا أرادوا أن ينزلوا يرجعون إلى رأي الأمير، وإذا أرادوا أن يرتحلوا يرجعون إلى رأي الأمير؛ حتى لا تكون الأمور فوضى، وكل واحد يصير إلى رأي، ويختلفون، بل يكون لهم أمير يرجعون إليه، أما البيعة فإنما هي للخليفة والإمام.(344/44)
الجماعات الإسلامية
السؤال
هل تكون الجماعات التي تدعو إلى التوحيد والسنة داخلة في قوله: (لا حلف في الإسلام)، إذا علم أنها على منهج صحيح من عقيدة واتباع، ولا تعقد ولاءها وبراءها لأحد إلا للكتاب والسنة؟ وهل تدخل في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران:104]، وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]؟
الجواب
الأصل أن المسلمين يكونون جماعة واحدة على منهج الكتاب والسنة، وعلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهذا هو الأصل، لكن وجد التفرق كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنه من يعش فسيرى اختلافاً كثيراً)، وقال: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي؟ قال: الجماعة)، وفي لفظ: (من كان على ما أنا عليه وأصحابي)، فالذين هم على هذا المنهج لا يقال: إنهم على حلف، وإنما هم ملتزمون بما جاء في الكتاب والسنة عملاً ودعوة، وإذا وجدت جماعات خرجت عن هذا المسلك وعن هذا المنهج الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فتلك جماعات مختلفة، وهي ممن يتحالف ويتآزر ويتعاون على الشيء الذي التزموه، وذلك الذي التزموه ليس على منهج صحيح، وإذا كانوا على منهج صحيح فليكونوا على ما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة، وهو الالتزام بالكتاب والسنة.
فالحاصل: أن من يلتزم بالكتاب والسنة لا يقال: إنه من أهل الأحلاف، وإنهم يدخلون في حديث: (لا حلف في الإسلام)، بل الحق هو ما كان عليه صدر هذه الأمة، وهو أن يتبع الدليل ويسار على ما كان عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه، أما الذين يأتون بمناهج وبعقائد مخالفة ويتناصرون عليها، ويتعاونون عليها؛ فهؤلاء هم المتعاونون على الإثم والعدوان.(344/45)
أهمية الجرح والتعديل
السؤال
هل الجرح والتعديل خاص بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن هناك بعض الناس يغتاب بعض العلماء، ويقول: هذا من الجرح والتعديل؟
الجواب
الغيبة ليست من الجرح والتعديل، الغيبة كون الإنسان يتحدث عن آخر من غير مصلحة، فهذا من الغيبة المحرمة، والجرح والتعديل ليس خاصاً بالحديث، بل عند القضاة هناك جرح وتعديل وتزكية للشهود الذين يدلي بهم المدعي، والمدعى عليه يجوز له أن يقدح فيهم ويذكر عيوبهم، ويقول مثلاً: مثل هذا لا يصح للشهادة، ولا تحكم علي بشهادته؛ لأنه كذا وكذا.
فالجرح ليس مقصوراً على الحديث، ولكن لا شك أن الحديث وقبوله ينبني على الجرح والتعديل، وكذلك أحكام القضاة تنبني على الجرح والتعديل، وكذلك الأمور الأخرى مثل المشورة يحتاج فيها إلى الجرح والتعديل، كما لو كان الإنسان يريد أن يصاهر إنساناً فيسأل عنه، فالمسئول يذكره بما فيه؛ لأن هذا من النصيحة، والرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءته فاطمة التي طلقها زوجها وبت طلاقها وقالت: إن معاوية وأبا جهم خطباني قال: (أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه)، فالجرح والتعديل ليس خاصاً في الرواية بل يكون في الحكم والقضاء وفي غير ذلك.(344/46)
حكم التوسل إلى الله بأحد خلقه
السؤال
هل مقولة: (الدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه فإن الخلاف فيه فرعي في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة) صحيحة؟
الجواب
لا، ليس ذلك بصحيح، وهذا توسل غير مشروع، والتوسل إنما يكون فيما هو سائغ وفيما هو مشروع.(344/47)
صلة القريب التارك للصلاة بنصحه
السؤال
عندي ذوو رحم تاركون للصلاة، فهل يجب علي صلتهم؟
الجواب
أعظم صلة تكون بينك وبينهم أن تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، وتدعوهم إلى الصلاة، فأنت تأتي إليهم من أجل نصحهم، أو تتصل بهم من أجل نصحهم، لا من أجل أن تبرهم وتحسن إليهم وهم تاركون للصلاة، بل برك لهم بإخراجهم من الظلمات إلى النور، والعمل على هدايتهم، وإصلاح حالهم، وكونهم يكونون من أهل الصلاة، ويحرصون على المحافظة على عمود الإسلام التي هي الصلاة.(344/48)
حكم التسمي بـ عبد الوحيد
السؤال
رجل سمى ابنه عبد الوحيد ظناً أن الوحيد صفة من صفات الله أو من أسمائه، والآن لا يقدر على تغييره بسبب الإجراءات الحكومية، والولد الآن كبير، فهل هذه التسمية صحيحة؟
الجواب
التعبيد كما هو معلوم يكون لأسماء الله، ولا نعرف أن في أسماء الله: الوحيد، ولكنه من باب الإخبار أن الله تعالى وحيد في أفعاله وصفاته ليس له مشارك، والمعنى مفهوم، ويكون من باب الإخبار، وإذا بقي بهذا المعنى فلا بأس.(344/49)
حال حديث (تعلموا العربية وعلموها الناس)
السؤال
ما صحة الحديث: (تعلموا العربية وعلموها الناس)؟
الجواب
لا أعلم حديثاً في هذا.(344/50)
حكم صيام يوم الحادي عشر من محرم
السؤال
الذي لم يصم يوم التاسع من محرم فصام العاشر والحادي عشر، هل فعله صحيح استناداً لحديث: (صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده)، إن صح؟
الجواب
الأولى للإنسان أن يأتي بالتاسع مع العاشر، وإذا لم يأت بالتاسع فإنه يأتي بالحادي عشر مع العاشر؛ لأنه تحصل به المخالفة.(344/51)
معنى مقولة ابن مهدي (سفيان أعلم بالحديث)
السؤال
ما معنى قول عبد الرحمن بن مهدي: سفيان الثوري أعلم بالحديث، والأوزاعي أعلم بالسنة، ومالك أعلم بهما، أي بالحديث والسنة؟
الجواب
المقصود بالسنة هنا ما يتعلق بالعقيدة، واصطلاح السلف أن ما يتعلق بالعقيدة يقال له سنة، ولهذا توجد مؤلفات باسم السنة، مثل: كتاب السنة لـ ابن أبي عاصم، وكتاب السنة للطبراني، وكتاب السنة لـ محمد بن نصر المروزي، فإنها كلها تتعلق بالعقيدة، وأبو داود عقد كتاباً في كتاب السنن اسمه: كتاب السنة، وهو يتعلق بالعقيدة.
ولعل المقصود من ذلك: السنة بالمعنى العام؛ لأن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ما أثر عنه من قول أو فعل أو تقرير خلقي أو خلقي؛ لأنه مرادف للحديث.
إذاً: السنة تطلق إطلاقاً عاماً يشمل الحديث، وتطلق إطلاقاً خاصاً وهو ما يتعلق بالعقيدة، وعلى هذا قد يكون المقصود من قول عبد الرحمن بن مهدي فلان أعلم بالحديث، وفلان أعلم بالسنة، وفلان أعلم بهما جميعاً، يعني: ما يتعلق بالعقيدة وغير العقيدة، أي فلان فيما يتعلق بالعقيدة أكثر علماً، وهذا فيما يتعلق بغيرها أكثر علماً، وهذا جمع بينهما.
هذا هو معناه.(344/52)
حكم الأكل من مال حرام
السؤال
شاب في مقتبل عمره يدرس في السنة الثالثة الثانوية، والذي يصرف عليه هي أمه لكنها تكتسب المال من وجه حرام، وذلك أنها تتعامل مع الجن وتخبر بمغيبات، فهل يجوز له أن يأخذ من مالها وهو محتاج إلى ذلك، أم يأكل من كسب يده خاصة وهو قادر على العمل؛ لكن يترتب على ذلك ترك الدراسة؟
الجواب
الواجب عليه أنه يسعى لتخليص أمه من البلاء الذي وقعت فيه، هذا هو أهم شيء، لا أن يسأل عن المال، وهل يأكل أو لا يأكل؟ وإنما ينبغي أن يهتم بمسألة البلاء الذي وقعت فيه أمه بأن يخلصها من البلاء الذي هي فيه، فعليه أن يسعى في تخليصها، ولا يصلح أن يأكل من هذا المال الحرام، وإنما يمتنع من ذلك، ويبحث عن عمل يجمع بينه وبين الدراسة بحيث يحصل له شيء يستفيد منه، وأما كونه يعول على هذا الأمر المحرم وعلى هذا السحت ويترك أمه على ما هي عليه من الباطل؛ فهذا لا يسوغ ولا يجوز.(344/53)
شرح سنن أبي داود [345]
لابد للناس من أمير يجتمعون عليه، ولابد للأمير من وزراء وأعوان يعينونه على هذه الإمارة، وقد وردت أحاديث كثيرة تتعلق بالإمارة وأعمالها وآدابها وأحكامها، والعمل بما فيه صلاح الحاكم والمحكومين.(345/1)
ما يلزم الإمام من حق الرعية(345/2)
شرح حديث (ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الخراج والإمارة والفيء.
باب ما يلزم الإمام من حق الرعية.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع عليهم، وهو مسئول عنهم، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده، وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده، وهو مسئول عنه، فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: كتاب الخراج والإمارة والفيء، هذه الترجمة لثلاثة أشياء: الأول والأخير يتعلقان بالمال، والثاني يتعلق بالإمارة والولاية.
والخراج يطلق ويراد به المال الذي يأتي مما يصالح عليه الكفار من جزية وغيرها، كما أن الخراج يطلق أيضاً على ما يتفق السيد مع عبده على أن يأتي به من مقدار معين.
والفيء: هو ما يحصل عليه المسلمون من الكفار من غير قتال، فهو ما أوجف الله عز وجل عليهم من غير قتال، والذي يكون بالقتال غنيمة، والذي يكون بدون قتال فيء، وقد تدخل الجزية تحت ما يحصل عليه المسلمون من الكفار من غير قتال.
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة وهي: باب ما يلزم الإمام من حق الرعية، يعني: ما يلزم الوالي والأمير لرعيته، أي: ما يكون عليه من الحقوق لهم، والمقصود من ذلك كونه يعمل ما فيه مصالحهم، وما فيه جلب الخير لهم، ودفع الضر عنهم، وإقامة أمور دينهم ودنياهم؛ لأن الإمارة والخلافة والولاية هي ولاية عامة يقصد بها إقامة الدين ورعاية مصالح الأمة، فيجب أن يكون قائماً بأمور دينهم ودنياهم، ويعمل على ما فيه صلاحهم في دينهم ودنياهم، وعلى ما فيه الخير لهم في دينهم ودنياهم، وهذا هو مجمل حق الرعية على الراعي أو الأمة على الإمام أو المأمورين على الأمير.
والولاية متفاوتة بعضها أوسع من بعض، فالولاية العامة تكون للخليفة الذي يكون مسئولاً عن الرعية، ويعين الأمراء ويعين الولاة على المدن والقرى والأقاليم، ويكون مسئولاً عن الجميع، فكل إمارة وكل ولاية فذلك الوالي مسئول عما استرعاه الله عز وجل، فالإمام يكون مسئولاً عن كامل الرعية، وعن الأمراء الذين يوليهم عن الرعية، وكل أمير مسئول في حدود ولايته عن الجماعة الذين استرعي عليهم، وصار أميراً عليهم، فالإمارة تشمل الإمارة العامة التي تكون للخليفة، ويكون هو المسئول الأول في البلاد، وتشمل الأمراء الذين يعينهم الإمام على النواحي أو المدن أو القرى، فإن كل واحد منهم يقال له: أمير، وكل منهم مسئول في حدود ولايته وإمارته، وبعضها يكون أوسع من بعض، وبعضها أكبر من بعض، فالإمام الأعظم هو المسئول الأول عن الجميع، وكل أمير مسئول عن الناحية التي ولي عليها سواءً كانت إقليماً أو مدينة أو قرية.
أورد أبو داود حديث عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا كلكم راع ومسئول عن رعيته) وهذا لفظ عام فصله بقوله: (فالأمير الذي على الناس راع عليهم، وهو مسئول عنهم)، والأمير يشمل الأمير العام الذي هو الخليفة والمسئول الأول في البلاد، ويشمل الأمراء الذين يعينهم ويوليهم على النواحي والأقاليم والمدن والقرى، فكل واحد من هؤلاء الأمراء مسئول عن رعيته، فالأمير على قرية مسئول على القرية وأهل القرية، والأمير على المدينة كذلك، والأمير على إقليم وناحية كذلك، والذي يكون مسئولاً عن الجميع هو الإمام الأعظم والخليفة.
وقوله: (فالأمير الذي على الناس راع ومسئول عنهم) يشمل من كان خليفة أو كان أميراً على جماعة من الناس في إقليم أو مدينة أو قرية، كل هؤلاء يندرجون تحت لفظ الأمير، وهم مسئولون عن ولايتهم، ومعنى ذلك أنهم مسئولون يوم القيامة عما استرعاهم الله عز وجل عليه، ويلزم كلاً منهم النصح لمن كان والياً عليهم، فيعمل على تحصيل كل خير لهم، ودفع كل شر عنهم، ويعمل على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وكل ذلك من واجبات الإمام ومن واجبات الأمير، فهذا هو واجبه، وهو مسئول عن أداء هذا الواجب يوم القيامة، فهو راع ومسئول عن رعيته.
قوله: (والرجل راع في أهل بيته) هذه ولاية خاصة، فالرجل مسئول عن أهل بيته، وهم رعيته، وهو مسئول عما استرعاه الله من أولاده ونسائه ومن يكون تحت ولايته في بيته، فيجب عليه أن يعمل ما فيه خيرهم في دينهم ودنياهم، بأن ينفق عليهم، ويحسن إليهم، ويعاملهم المعاملة الطيبة، ويعمل على استقامة أمورهم، وعلى قيامهم بأمور دينهم، وكل ذلك مسئول عنه صاحب البيت، وهذه ولاية خاصة، ولهذا له أن يؤدب بيده أبناءه وبناته، وهو من أهل اليد وأهل السلطة والولاية في ذلك، فهو راع ومسئول عن رعيته يوم القيامة، هل أدى ما يجب عليه نحو من ولاه الله عليهم وهم أهل بيته من الإنفاق عليهم، والإحسان إليهم، والقيام بشئون دينهم ودنياهم، وما يتعلق بأمور دينهم ودنياهم؟ فإن أحسن فإنه يحسن لنفسه، وإن أساء فإنه يسيء عليها، ويعاقب على إساءته؛ لإخلاله بما أوجبه الله عليه من رعاية أهل بيته والقيام بشئونهم، وما يصلح أمور دينهم وديناهم.
قوله: (والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم) يعني: مسئولة عن قيامها بما هو واجب عليها في البيت من تدبير أمور البيت على الوجه المشروع، ومن رعاية الأولاد وتربيتهم وتنشئتهم، والإحسان إليهم، فهي مسئولة عن ذلك، ومسئولة عن رعيتها يوم القيامة.
قوله: (والعبد راع في مال سيده ومسئول عن ذلك يوم القيامة) يعني في الشيء الذي جعل تحت ولايته، ووكل إليه سيده القيام به، فهو مسئول عنه، فإن قام به على الوجه المشروع فإنه يسلم يوم القيامة، وإن خان وغير وبدل فإنه يؤاخذ على ذلك يوم القيامة.
قوله: (فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) ختم الحديث بما بدأ به؛ لأنه بدأ بهذا التعميم، ثم فصل ثم ختم بالتعميم، وهذا كله لتأكيد أمر الولاية، وأن كل إنسان مسئول عما ولاه الله عليه، وما جعل إليه، وليس هذا مقصوراً على هذه الأصناف الأربعة، بل يعم كل من يكون مسئولاً عن شيء، ومن يكون والياً على شيء، سواءً كان أميراً أو موظفاً أو ما إلى ذلك، فإنه مسئول عما وكل إليه ومن يكون تحت ولايته من الموظفين.
وهذا الحديث من جوامع كلم الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وفيه الإجمال والتفصيل، أجمل في الأول وفي الآخر، والإجمال في الآخر من باب التأكيد، وفصل في الوسط بأن ذكر أمثلة من الولاة، وهم: الأمير، وصاحب البيت، والمرأة في بيت زوجها، والعبد في مال سيده.(345/3)
تراجم رجال إسناد حديث (ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن دينار].
عبد الله بن دينار وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر].
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد من الرباعيات عند أبي داود، وهي أعلى الأسانيد عند أبي داود رحمه الله.(345/4)
ما جاء في طلب الإمارة(345/5)
شرح حديث (يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في طلب الإمارة.
حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا هشيم أخبرنا يونس ومنصور عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه أنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة، فإنك إذا أعطيتها عن مسألة وكلت فيها إلى نفسك، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها)].
أورد أبو داود باب ما جاء في طلب الإمارة أي: كراهية ذلك، ولا ينبغي أن الإنسان يحرص على الإمارة ويسعى في تحصيلها، ويسعى أن يكون مسئولاً وأميراً أو والياً على أحد من الناس وإن لم يكن أميراً؛ لأن هذا كله مما فيه تبعة كبيرة، ومسئولية عظيمة، والإنسان إذا حرص على شيء ورغب فيه، وسعى جاهداً للحصول عليه، قد لا يوفق في ذلك، ويوكل إلى نفسه، وإذا لم يكن حريصاً على الإمارة أو الولاية، وليس راغباً فيها، وأسندت إليه؛ فذلك مظنة أن يحصل له العون عليها؛ لأنه ما سعى فيها حتى يوكل إليها، وإنما بلي بها وأسندت إليه دون طلب منه.
أورد أبو داود حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: [(يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة فإنك إذا أعطيتها عن مسألة وكلت فيها إلى نفسك)] يعني: لا تطلبها وتسعى إلى أن تكون أميراً (فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها) معناه: أن الإنسان لا يحصل له تسديد وتوفيق في هذه المهمة التي وكلت إليه برغبة منه وبطلب منه، (وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها)؛ لأنه ما شغل نفسه بها، ولا فكر فيها، ولا اجتهد فيها، ولكنه اختير لأن يقوم بهذه المهمة، فيكون ذلك من أسباب عونه وتوفيقه من الله عز وجل، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها)، فالذي يطلب الولاية يكون عنده رغبة في العلو وفي التسلط والتولي والولاية؛ حتى يكون الناس تبعاً له، والذي ما حصل منه السعي من ذلك، ويتخوف ويخشى من المسئولية والتبعة؛ فإنه إذا أسندت إليه يكون ذلك من أسباب عونه وتسديده، وكونه يخاف يجعله يجتهد في الإصلاح وفي القيام بالواجب حتى لا يحصل له ضرر يوم القيامة؛ لكونه يجازى على ما يحصل منه من إخلال ومن تقصير.
وأيضاً جاء في الحديث: (من تواضع لله رفعه الله).
هذا التوجيه من النبي الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه فيه بيان أن طلب الإمارة يأتي بالمضرة، وقد لا يوفق الإنسان في مهمته، والإنسان الذي أعطي الإمارة من غير مسألة يعان على ذلك، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعطي الإمارة من يطلبها لئلا يوكل إليها، ويعطيها من لا يطلبها كما سيأتي في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه.(345/6)
تراجم رجال إسناد حديث (يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة)
قوله: [قال: حدثنا محمد بن الصباح البزاز].
محمد بن الصباح البزاز ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشيم].
هشيم بن بشير الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا يونس ومنصور].
يونس بن عبيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ومنصور بن زاذان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
الحسن بن أبي الحسن البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن سمرة].
عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(345/7)
شرح حديث (إن أخونكم عندنا من طلبه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن إسماعيل بن أبي خالد عن أخيه عن بشر بن قرة الكلبي عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: (انطلقت مع رجلين إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتشهد أحدهما ثم قال: جئنا لتستعين بنا على عملك، وقال الآخر مثل قول صاحبه، فقال: إن أخونكم عندنا من طلبه، فاعتذر أبو موسى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: لم أعلم لما جاءا له، فلم يستعن بهما على شيء حتى مات)].
أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه جاء ومعه اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبا الولاية؛ فقال عليه الصلاة والسلام: (إن أخونكم عندنا من طلبه) يعني: من طلب الولاية، وهذا اللفظ جاء في هذه الرواية، وقد جاء الحديث في الصحيحين وفي غيرهما بغير هذا اللفظ، وليس فيه ذكر الخيانة، ولكنه لم يولهما، وقد ولى أبا موسى الأشعري الذي ما طلب الولاية.
وفي الصحيحين أن أبا موسى جاء ومعه اثنان من الأشعريين وهو بينهما، واحد عن يمينه وواحد عن شماله حتى وصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فطلب كل واحد منهما الإمارة، فـ أبو موسى أراد أن يدافع عن نفسه وخشي أن يظن أن مراده مرادهم، فقال: إنني ما علمت بالشيء الذي أراداه، يعني ما علم بالشيء الذي كان في أنفسهما، وهو ما طلباه من النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا لا نولي هذا الأمر أحداً طلبه)، وولى أبا موسى الأشعري ولم يولهما.
فالحديث ثابت في مجيء أبي موسى ومعه اثنان، وأنهما طلبا الولاية، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يولهما وولاه، وأما قوله: (إن أخونكم عندنا من طلبه) فهذا جاء في هذه الرواية من هذا الطريق، وفيه مخالفة لرواية الثقات الذين رووه بدون ذلك، فهي من قبيل رواية الضعيف المخالف للثقات، فيكون هذا اللفظ من قبيل المنكر؛ لأن مخالفة الضعيف للثقة يسمى منكراً، ومخالفة الثقة لمن هو أوثق منه يسمى شاذاً، وهذا من قبيل مخالفة الضعيف للثقة؛ لأن إسماعيل بن أبي خالد يروي عن أخيه، وأخوه مبهم غير معلوم، وله عدة إخوة يروي عنهم.(345/8)
تراجم رجال إسناد حديث (إن أخونكم عندنا من طلبه)
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
وهب بن بقية الواسطي ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا خالد].
خالد بن عبد الله الطحان الواسطي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسماعيل بن أبي خالد].
إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أخيه].
أخوه غير معروف.
[عن بشر بن قرة].
بشر بن قرة الكلبي صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبي بردة].
أبو بردة بن أبي موسى الأشعري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي موسى الأشعري].
أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس رضي الله تعالى عنه، وهو مشهور بكنيته ونسبته، وهو صحابي جليل، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(345/9)
الأسئلة(345/10)
حكم طلب الرئاسة الدينية
السؤال
الإمارة المراد بها هنا الدنيوية، لكن الرئاسة الشرعية الدينية ما حكم طلبها؟
الجواب
القضاء رئاسة شرعية، وهي مثلها، فلا يطلب الإنسان القضاء.
أما طلب الإنسان أن يكون إماماً من أجل أن يحافظ على الصلاة أو من أجل أن يعتني بالقرآن أو من أجل أن ينفع الناس بالتدريس فهذا لا بأس به.(345/11)
وجه طلب يوسف لجعله على خزائن الأرض
السؤال
ما هو الجمع بين طلب يوسف عليه الصلاة والسلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] وبين النهي عن طلب الإمارة؟
الجواب
يجوز طلب الإمارة إذا تعين ذلك على الإنسان، وعلم من نفسه أنه قادر على القيام بذلك، ويوسف هو رسول الله عليه الصلاة والسلام وليس كغيره، وإذا تعين على الإنسان أن يقوم بهذا الأمر، وأنه إذا أسند إلى أحد غيره قد يسيء فيه؛ فطلبه يكون له وجه.(345/12)
حكم طلب الترشيح في الانتخابات البرلمانية
السؤال
ما حكم ما يفعله بعض الإسلاميين من ترشيح أنفسهم في الانتخابات البرلمانية؟
الجواب
لا شك أنه من طلب الإمارة، (ولكل امرئ ما نوى)، لكن في الغالب يكون رغبة في العلو، ورغبة في السلطة والولاية.(345/13)
الضرير يولى(345/14)
شرح حديث (استخلف ابن أم مكتوم على المدينة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الضرير يولى.
حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا عمران القطان عن قتادة عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استخلف ابن أم مكتوم رضي الله عنه على المدينة مرتين)].
أورد أبو داود باب الضرير يولى، يعني: ولاية خاصة، كأن يكون أميراً على قرية أو مسئولاً في غيبة الأمير، هذا هو المقصود من تولية الضرير، وذلك سائغ، وبعض أهل العلم قال: إن المقصود به إمامة الصلاة بالناس، ولكن الذي يظهر هو ما ذكره ابن عبد البر أنه ولاه عدة مرات لغير الصلاة، وليس مرتين فقط، وهذا يدل على أن هذا سائغ وجائز ولا بأس به.
قوله: (استخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم على المدينة مرتين) يعني: في حال غيبته، ولا وجه لمن قال: لا يجوز للأعمى أن يقضي، بل له ذلك.(345/15)
تراجم رجال إسناد حديث (استخلف ابن أم مكتوم على المدينة)
قوله: [حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي].
محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي بكسر الراء المهملة المشددة، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الرحمن بن مهدي].
عبد الرحمن بن مهدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عمران القطان].
عمران بن داور القطان وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(345/16)
اتخاذ الوزير(345/17)
شرح حديث (إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في اتخاذ الوزير.
حدثنا موسى بن عامر المري قال: حدثنا الوليد حدثنا زهير بن محمد عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه)].
أورد أبو داود باباً في اتخاذ الوزير، يعني: أن الأمير لابد له من يعينه ويؤازره ويشد أزره، ويتحمل معه المسئولية، ويكون له عوناً على القيام بالواجب، فلابد للأمير من وزير، ولابد له ممن يساعده ويعينه ويشد أزره في مهمته التي تولاها.
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: (إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق) يعني: صادقاً في قوله وعمله.
(إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه) يعني يذكره الشيء الذي ينساه مما هو واجب عليه، ومما هو مطلوب منه، وإن كان ذاكراً يكون عوناً له على القيام بهذه المسئولية، والقيام بتنفيذ هذه المهمة التي هو ذاكر لها، ولكنه بحاجة إلى من يعينه عليها.
قوله: (وإذا أراد الله بالوزير غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه) يعني يجعله يبقى على عماه وعلى غفلته وعلى إهماله وتضييعه، وإن ذكر لم يعنه، وقد يخذله، ويكون سبباً في الحيلولة بينه وبين أن ينفذ الشيء الواجب عليه، بأن يفت في عضده، ويسوفه، ويأتي بالأمور التي تجعله لا ينفذ ذلك الشيء الواجب عليه.(345/18)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق)
قوله: [حدثنا موسى بن عامر المري].
موسى بن عامر المري صدوق له أوهام، أخرج له أبو داود.
[حدثنا الوليد].
الوليد بن مسلم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير بن محمد].
زهير بن محمد التميمي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن القاسم].
عبد الرحمن بن القاسم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(345/19)
العرافة(345/20)
شرح حديث (أفلحت يا قديم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في العرافة.
حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا محمد بن حرب عن أبي سلمة سليمان بن سليم عن يحيى بن جابر عن صالح بن يحيى بن المقدام عن جده المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضرب على منكبه ثم قال له: أفلحت يا قديم! إن مت ولم تكن أميراً ولا كاتباً ولا عريفاً)].
أورد أبو داود (باب في العرافة) والعرافة: مأخوذة من التعريف، يعني: كون الإنسان يصير مسئولاً عن جماعة يعرف بهم، ويكون واسطة بين الأمير وبينهم، ويعرفون بواسطته، قيل له: عريف؛ لكونه يرجع إليه في معرفة الأشخاص الذين يوكل إليه ما يتعلق بشئونهم، وإذا كانت هناك أمور يبلغها إياهم، وإذا كانت هناك أمور مطلوبة منهم يكون هو المسئول.
وقد جاء في السنة ما يدل على العرافة، ففي الصحيحين أو في أحدهما في قصة حنين وسبي هوازن، أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد قسمة الغنائم والسبي جاء وفد هوازن إلى النبي صلى الله عليه وسلم تائبين، وطلبوا منه أن يرد عليهم السبي والمال، فالرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يجيبهم إلى ما طلبوا، فجمع الناس وقال: (إن إخوانكم جاءوا تائبين، وقد طلبوا أن يرد عليهم سبيهم، فمن أعطيناه من السبي وأراد أن يطيب فليفعل، ومن أراد أن يحتفظ بحقه فإنا نعوضه من أول شيء يفيء الله علينا) يعني: أن السبي الذي قسم أراد أن يسترجعه، ومن سامح وتنازل عن حقه سقط حقه، ومن احتفظ بحقه ولم يرد أن يتنازل عن حقه من السبي فإنه يعوضه النبي صلى الله عليه وسلم من أول شيء يحصل، (فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: طيبنا طيبنا، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: ما نعرف من طيب ممن لم يطيب، فاذهبوا حتى يأتي إلينا عرفاؤكم، فجاء إليه العرفاء بعد ذلك وقالوا: إنهم طيبوا) يعني: أن كل شخص مسئول عن جماعة جاء وقال: إن جماعته الذي هو مسئول عنهم موافقون على التنازل، فهذا فيه دليل على مشروعية اتخاذ العرفاء الذين يكونون مسئولين عن بعض الجيش أو بعض الناس، وهم مثل الذين يسمون في هذا الزمان: شيوخ القبائل، فكل شيخ قبيلة يكون مسئولاً أمام الوالي عن جماعته والتعريف بهم، ومعرفة من هو من القبيلة ممن ليس من القبيلة.
أورد المصنف حديثاً عن المقدام بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب على منكبه ثم قال له: أفلحت يا قديم! إن مت ولم تكن أميراً، ولا كاتباً، ولا عريفاً)] قديم يعني تصغير مقدام بحذف الزوائد، والحديث لم يثبت، ففيه رجل ضعيف، ولو صح لكان في حق من يكون ظالماً، فيعين غيره على الظلم عندما يكون كاتباً أو عريفاً، أو أميراً.(345/21)
تراجم رجال إسناد حديث (أفلحت يا قديم)
قوله: [حدثنا عمرو بن عثمان].
عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير الحمصي وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا محمد بن حرب].
محمد بن حرب الحمصي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة سليمان بن سليم].
أبو سلمة سليمان بن سليم وهو ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[عن يحيى بن جابر].
يحيى بن جابر وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن صالح بن يحيى بن المقدام].
صالح بن يحيى بن المقدام وهو لين، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن جده المقدام بن معد يكرب].
المقدام بن معد يكرب صحابي رضي الله عنه، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
آفة هذا الحديث صالح بن يحيى، لم يوثقه إلا ابن حبان، ومع ذلك قال: ثقة يخطئ، يعني: مع كونه ذكره في الثقات قال: إنه يخطئ، وأيضاً ذكره في طبقة أتباع التابعين، وعلى هذا يكون فيه انقطاع.(345/22)
شرح حديث (إن العرافة حق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا غالب القطان عن رجل عن أبيه عن جده: (أنهم كانوا على منهل من المناهل فلما بلغهم الإسلام جعل صاحب الماء لقومه مائة من الإبل على أن يسلموا فأسلموا، وقسم الإبل بينهم، وبدا له أن يرتجعها منهم، فأرسل ابنه إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال له: ائت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقل له: إن أبي يقرئك السلام، وإنه جعل لقومه مائة من الإبل على أن يسلموا فأسلموا، وقسم الإبل بينهم، وبدا له أن يرتجعها منهم، أفهو أحق بها أم هم؟ فإن قال لك: نعم أو لا، فقل له: إن أبي شيخ كبير وهو عريف الماء، وإنه يسألك أن تجعل لي العرافة بعده، فأتاه فقال: إن أبي يقرئك السلام، فقال: وعليك وعلى أبيك السلام، فقال: إن أبي جعل لقومه مائة من الإبل على أن يسلموا فأسلموا وحسن إسلامهم، ثم بدا له أن يرتجعها منهم، أفهو أحق بها أم هم؟ فقال: إن بدا له أن يسلمها لهم فليسلمها، وإن بدا له أن يرتجعها فهو أحق بها منهم، فإن هم أسلموا فلهم إسلامهم، وإن لم يسلموا قوتلوا على الإسلام، فقال: إن أبي شيخ كبير وهو عريف الماء، وإنه يسألك أن تجعل لي العرافة بعده، فقال: إن العرافة حق ولابد للناس من العرفاء، ولكن العرفاء في النار)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن رجل غير معروف، لا هو ولا ابنه ولا ابن ابنه، وهو يتعلق بالعرافة كما ترجم له المصنف، وفي آخره قال: (إن العرافة حق) يعني: أن الحاجة إليها قائمة وموجودة، ولابد للناس منها.
قوله: (وإن العرفاء في النار) معنى ذلك لو صح: إذا ما قاموا بالواجب عليهم أو انحرفوا في مهمتهم، فإن ذلك من أسباب دخولهم النار، لكن الحديث غير ثابت، وأما اتخاذ العرفاء، وأن الناس لابد لهم من عرفاء فهذا ثابت كما تقدم.
قوله: [عن رجل عن أبيه عن جده: أنهم كانوا على منهل من المناهل] يعني: على ماء يستقون منه ويشربون.
قوله: [فلما بلغهم الإسلام جعل صاحب الماء لقومه مائة من الإبل على أن يسلموا] يعني دفعها لهم ليسلموا فأسلموا، ثم بعد ذلك بعث ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: إنني قد دفعت لهم هذا المقدار من الإبل على أن يسلموا، وإنني أردت أن أسترجعها، فهل أنا أحق بها أم هم؟ ثم إن أجابك فأخبره أن والدي شيخ كبير، وهو العريف على الماء، وأنه يسألك أن تجعل لي العرافة من بعده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العرافة حق، ولابد للناس من العرفاء، والعرفاء في النار)، وهذا هو محل الشاهد من إيراد الحديث، وهو غير ثابت، ولو ثبت فإن المقصود من ذلك الذي يخون في ولايته، وفي مسئوليته، ويأتي بشيء على خلاف الحقيقة وعلى خلاف الواقع، فإن ذلك من أسباب دخوله النار.
وما جاء في هذا الحديث من أنه قال: (إن أردت أن تسلمها لهم فأمضها، وإن أردت أن تسترجعها فأنت أحق بها) فيه دليل على أن الشيء الذي يعطى للإنسان على أمر واجب لا يستحقه؛ لأن هذا الشيء مطلوب منه ومتعين عليه، فهو لا يحتاج إلى أن يعطى شيء مقابله، مثل كون الإنسان يعطى مالاً على أن يصلي، فالصلاة واجبة ولا تحتاج إلى أجرة، وكذلك الدخول في الإسلام لازم ومتعين، وإذا دخلوا في الإسلام سلموا من النار، والمصلحة لهم والفائدة تعود عليهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم جعل الأمر إليه، إن أراد أن يسترجع استرجع، وإن أراد أن يترك ترك.(345/23)
تراجم رجال إسناد حديث (إن العرافة حق)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا بشر بن المفضل].
بشر بن المفضل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا غالب القطان].
غالب القطان وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رجل عن أبيه عن جده].
هذا الرجل مبهم، وأبوه كذلك، وجده كذلك.(345/24)
لابد من العريف
الشيخ الألباني رحمه الله صحح حديثاً بلفظ: (لابد من العريف، والعريف في النار) في صحيح الجامع، فلابد من عريف، وكونه في النار يحمل على ما إذا خان، ولم يؤد الواجب الذي أوجب الله عليه، وأما إذا قام بالواجب الذي أوجبه الله عليه، فذلك من أسباب سعادته وفلاحه ونجاته، وليس من أسباب دخوله النار.(345/25)
جواز إعطاء المؤلفة قلوبهم ليسلموا
في هذا الحديث اتفاق حصل على إعطائهم الإبل على أن يسلموا، وهذا له أن يرجع ما أعطاهم، وأما إذا أعطاهم ترغيباً لهم في الإسلام، وما قال: بشرط أن يسلموا؛ فلا بأس، وإعطاء المؤلفة قلوبهم ليس من هذا القبيل؛ لأنه يعطيهم من أجل أن يتألفهم ويستميلهم، وأما هذا فأعطاهم وكأنه ثمن للإسلام ومقابل الإسلام.(345/26)
اتخاذ الكاتب(345/27)
شرح أثر (السجل كاتب كان للنبي عليه الصلاة والسلام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في اتخاذ الكاتب.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا نوح بن قيس عن يزيد بن كعب عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (السجل كاتب كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي باب اتخاذ الكاتب، فالأمير والوالي لابد له من كاتب يتولى الكتابة له للجهات التي يريد، والنبي صلى الله عليه وسلم كان له كتاب يكتبون له الوحي وغير الوحي مثل الرسائل التي كان يبعث بها إلى الملوك والرؤساء.
أورد أبو داود أثراً عن ابن عباس قال: (السجل كاتب كان للنبي صلى الله عليه وسلم) أي: أن هذا اسم كاتب للنبي عليه الصلاة والسلام، والحديث غير صحيح، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له كاتب اسمه السجل، وليس في الصحابة صحابي يقال له: السجل، فالحديث غير ثابت، ولكن اتخاذ الكاتب لابد منه، ويحتاج إليه الوالي.(345/28)
تراجم رجال إسناد أثر (السجل كاتب كان للنبي عليه الصلاة والسلام)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا نوح بن قيس].
نوح بن قيس وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد بن كعب].
يزيد بن كعب وهو مجهول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن عمرو بن مالك].
عمرو بن مالك وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري في خلق أفعال العباد وأصحاب السنن.
[عن أبي الجوزاء].
أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(345/29)
الأسئلة(345/30)
حال حديث (أفلحت يا قديم)
السؤال
حديث المقدام بن معد يكرب أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب على منكبه ثم قال له: (أفلحت يا قديم!)، ذكرتم أن التضعيف بسبب صالح بن يحيى بن المقدام، والشيخ الألباني رحمه الله ذكر علة أخرى وهي: الانقطاع؟
الجواب
قد أشرت إلى هذا، وذكرت أن ابن حبان قال: إنه في طبقة أتباع التابعين، وعلى هذا فيكون فيه انقطاع.(345/31)
تدليس الوليد بن مسلم
السؤال
حديث: (إذا أراد الله بالأمير خيراً) فيه الوليد بن مسلم يدلس تدليس التسوية، وقد صرح بالتحديث عن شيخه ثم عنعن، قال: حدثنا زهير بن محمد عن عبد الرحمن بن القاسم، فلماذا صحح الحديث؟
الجواب
الأصل عدم التدليس حتى يعرف، وليس كل إسناد فيه الوليد وفيه عنعنة من فوق شيخه يقدح فيه، فإن كثيراً من رواياته ثابتة ومحتج بها وفيها العنعنة فيما فوق شيخه.(345/32)
قضاء الدين من بيت المال
السؤال
نقل الشيخ عبد الله البسام حفظه الله عن الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه أنه قال: إذا مات أحد المسلمين وعليه دين فعلى ولي الأمر قضاؤه من بيت المال كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، الرجاء منكم التكرم بتوضيح هذا الكلام، وهل هو على إطلاقه سواءً كان له إرث أو ليس له إرث؟
الجواب
الذي يبدو أنه ليس على إطلاقه، والمراد به الإنسان الذي ما عنده سداد، وأما من خلف مالاً فإن الدين مقدم على الوصية والميراث قال الله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12].(345/33)
شرح سنن أبي داود [346]
جاءت الشريعة بما فيه صلاح الدين والدنيا، ومن ذلك السياسة الشرعية لإصلاح الرعية، وجلب كل مصلحة لهم، ودرء كل مفسدة عنهم، وقد جاءت أحاديث كثيرة اعتمد عليها العلماء في بيان معالم السياسة الشرعية من الاستخلاف والبيعة وأرزاق العمال والسعاية على الصدقة ونحو ذلك.(346/1)
السعاية على الصدقة(346/2)
شرح حديث: (العامل على الصدقة بالحق كالغازي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في السعاية على الصدقة.
حدثنا محمد بن إبراهيم الأسباطي حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد رضي الله عنه عن رافع بن خديج رضي الله عنه أنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: العامل على الصدقة بالحق كالغازي في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في السعاية على الصدقة، الساعي على الصدقة هو العامل على الصدقة، فيكون من العاملين عليها الذين يذهبون إلى أصحاب المواشي أو إلى أصحاب الزروع فيأخذون الصدقة منهم، هذا يسمى سعاية على الصدقة، وقد جاء في القرآن الكريم ذكر مصارف الزكاة وأن منهم: {الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة:60]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث العمال على الصدقة لأخذها وجبايتها، فهي من الأعمال التي جاء بها الإسلام، والعمال يذهبون إلى أصحاب المواشي على مياههم ويأخذون الصدقة منهم، ولا يكونون في جانب ويطلبون من أصحاب الأموال أن يسوقوا أغنامهم ومواشيهم إليهم، بل يذهبون لأخذها منهم على مياههم.
وفي هذا العمل أجر مع الاحتساب والنية الطيبة، فإنه يعمل على إبراء ذمم أصحاب الأموال الذين تؤخذ منهم الزكاة ثم توصل إلى الفقراء الذين هم محتاجون إليها، ولا شك أن هذا عمل فيه مصلحة وفائدة، وفيه أجر عظيم لمن فعل ذلك محتسباً.
أورد أبو داود حديث رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (العامل على الصدقة بحق كالغازي في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته)؛ لأن العامل على الصدقة يخرج في مهمة، ويأتي الناس على مياههم، ويأخذ الزكوات منهم، وكذلك يذهب إلى أصحاب الزروع لخرصها ثم بعد ذلك لجبايتها، فهو كالغازي في سبيل الله حتى يرجع، ومعناه: أن له أجراً وثواباً، وكل منهما خرج من بيته ليؤدي هذه المهمة العظيمة، الغازي ليجاهد في سبيل الله، وهذا ليأخذ الأموال من الذين تجب، عليهم وهم أصحاب الأموال، ثم يعمل على إيصالها إلى من يستحقها، فالحديث يدل على فضل هذا العمل.
وقوله: (العامل على الصدقة بالحق) يعني: يكون عمله وفقاً للشرع، وليس فيه هضم لحقوق الفقراء بأن يتسامح مع أصحاب الأموال، ولا أن يظلم أصحاب الأموال بأن يأخذ شيئاً فوق ما يجب عليهم، بل يأخذ الحق الواجب على أصحاب الأموال؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: (فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أجابوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم) يعني: لا تأخذ كرائم الأموال النفيسة العزيزة، فلا يأخذ خيار المال وإنما يأخذ من الوسط، ثم أخبر عليه الصلاة والسلام أن أخذ كرائم الأموال ظلم، وأن من أخذت منه قد يدعو عليه، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب فقال: (واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
إذاً: قوله: (بالحق) يعني: أن يقوم بالواجب فلا يظلم الفقراء ولا يظلم الأغنياء، لا يظلم الأغنياء بأن يأخذ منهم أكثر مما هو واجب وفوق ما هو واجب، ولا يظلم الفقراء بأن يبخسهم حقهم فيأخذ لهم دون الواجب، وإنما يأخذ ما هو واجب فيبرئ ذمة الغني، ويوصل إلى الفقير حقه دون نقص.(346/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (العامل على الصدقة بالحق كالغازي)
قوله: [حدثنا محمد بن إبراهيم الأسباطي].
محمد بن إبراهيم الأسباطي صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الرحيم بن سليمان].
عبد الرحيم بن سليمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عاصم بن عمر بن قتادة].
عاصم بن عمر بن قتادة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمود بن لبيد].
محمود بن لبيد صحابي صغير، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن رافع بن خديج].
رافع بن خديج رضي الله عنه وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(346/4)
شرح حديث: (لا يدخل الجنة صاحب مكس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شماسة عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يدخل الجنة صاحب مكس)].
أورد أبو داود حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة صاحب مكس)، وصاحب المكس فسر بأنه الذي يأخذ من سلع الناس ومن الأشياء التي يبيعونها، والمكس هو النقص؛ سمي بذلك لأنه ينقصهم ويأخذ منهم شيئاً لا يجب عليهم، فيكون ذلك مكساً أي: نقصاً في حقهم، وهذا ظلم لهم.
وقيل: إن المقصود من ذلك: أنه يأخذ منهم زيادة على الزكاة، فيأخذ شيئاً غير واجب يختص به الساعي، وهذا ظلم، ولعل هذا هو وجه إيراد أبي داود لهذا الحديث في باب السعاية؛ لأن السعاية حق، وأخذ الأجرة على ذلك سائغ، وقد جاء في القرآن ما يدل عليه، وكذلك جاء في السنة ما يدل عليه، والمكس أن يأخذ العامل شيئاً غير الواجب لنفسه أو للدولة، وهذا ظلم وغير سائغ وغير جائز.
ولعل إيراد الحديث في هذا الباب من أجل أن السعاية قد تكون بحق وقد تكون بباطل، فإذا كانت بحق فإن ذلك أخذ لما هو واجب، والذي عليه الواجب يكون أدى ما عليه، والساعي قام بما يجب عليه، فلم يظلم الأغنياء بأن يأخذ أكثر مما يجب عليهم، ولم يظلم الفقراء بأن يأخذ من الأغنياء شيئاً أقل مما هو واجب عليهم، ولا يأخذ شيئاً أكثر من ذلك، لا لنفسه ولا للدولة؛ لأنه يكون بذلك ظالماً لمن أخذ منهم.
هذا الحديث ضعفه الألباني، ولعل ذلك من أجل محمد بن إسحاق، فإنه مدلس وقد عنعن.(346/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يدخل الجنة صاحب مكس)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن سلمة].
محمد بن سلمة الباهلي ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد بن أبي حبيب].
يزيد بن أبي حبيب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن شماسة].
عبد الرحمن بن شماسة ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عقبة بن عامر].
عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(346/6)
تفسير ابن إسحاق لصاحب المكس
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبد الله القطان عن ابن مغراء عن ابن إسحاق قال: الذي يعشر الناس يعني: صاحب المكس].
أورد المصنف هذا الأثر عن ابن إسحاق وفيه تفسيره للمكس، قال: الذي يعشر الناس أي: يأخذ العشر من أموالهم ظلماً بدون حق، هذا تفسير ابن إسحاق لصاحب المكس في قوله في الحديث المتقدم: (لا يدخل الجنة صاحب مكس).
وهذا الأثر يقال له: مقطوع في علم المصطلح؛ لأن الإسناد الذي ينتهي إلى من دون الصحابي يقال له: مقطوع، وإذا كان ينتهي إلى الصحابي يقال له: موقوف، وإذا كان ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له: مرفوع، والمقطوع من صفات المتون بخلاف المنقطع فإنه من صفات الأسانيد، يقال: إسناده منقطع إذا كان في رجال الإسناد سقوط راوٍ أو أكثر، وأما المقطوع فهو الإسناد الذي انتهى إلى من دون الصحابي.(346/7)
تراجم رجال إسناد تفسير ابن إسحاق لصاحب المكس
قوله: [حدثنا محمد بن عبد الله القطان].
محمد بن عبد الله القطان مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن ابن مغراء].
هو عبد الرحمن بن مغراء وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن ابن إسحاق].
محمد بن إسحاق مر ذكره.(346/8)
الأسئلة(346/9)
وجه جعل باب السعاية في هذا الكتاب
السؤال
أليس حق باب السعاية على الصدقة أن يكون في كتاب الزكاة؟
الجواب
في كتاب الزكاة ذكر المصنف السعاة، ولكن ذكر هذا هنا من أجل الولاية والإمارة؛ لأن الساعي يعتبر أميراً ووالياً، وقد ذكر السعاة في كتاب الزكاة من جهة ذهاب العمال وإرسال العمال لأخذ الزكاة، وأنهم يذهبون إليهم على مياههم، ولا يكونون في جانب ويسوقون الناس إليهم، أو يطلبون الناس أن يأتوا إليهم، بل هم يذهبون إلى الناس، فهذا الباب له علاقة بكتاب الزكاة، وله علاقة بكتاب الإمارة من جهة أن هذه ولاية من جملة الولايات.(346/10)
حكم أخذ المكس من الكفار
السؤال
الخطابي يقول: فأما العشر الذي يصالح عليه أهل العهد في تجاراتهم إذا اختلفوا إلى بلاد المسلمين فليس بمكس؟
الجواب
نعم؛ لأن الحديث فيمن يأخذ العشر من أموال المسلمين، وأما أهل الكتاب والكفار إذا مروا بديار المسلمين وأخذ منهم شيء على ذلك؛ فلا بأس به، وليس خاصاً بأخذ العشر، ولكنه غالباً يؤخذ العشر، ولهذا قال ابن إسحاق: الذي يعشر الناس أي: يأخذ العشر منهم.(346/11)
حكم الضرائب والجمارك
السؤال
ما حكم الضرائب والجمارك؟
الجواب
الضرائب هي نفس المكس، ولا يجوز للتاجر أن يكذب على أصحاب الضرائب، ولكنه إذا استعمل التورية فلا شك أن هذا سائغ، وأيضاً الجمارك مكس لا تجوز.(346/12)
الخليفة يستخلف(346/13)
شرح حديث: (لم يستخلف رسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الخليفة يستخلف.
حدثنا محمد بن داود بن سفيان وسلمة قالا: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال عمر: إني لا أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يستخلف، وإن أستخلف فإن أبا بكر رضي الله عنه قد استخلف، قال: فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر فعلمت أنه لا يعدل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحداً، وأنه غير مستخلف].
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب الخليفة يستخلف، يعني: يختار خليفة يلي الأمر من بعده، وهذه طريقة صحيحة، فـ أبو بكر رضي الله عنه استخلف عمر، وفي ذلك مصلحة، وهي قطع الأطماع والتطلع إلى تحصيل الولاية، حتى لا يكون هناك تنافس على الحصول عليها، وهي من الطرق الشرعية التي فعلها أبو بكر رضي الله عنه وهو خليفة راشد، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ).
فـ أبو بكر استخلف عمر، واختاره للخلافة من بعده، واعتبر ذلك من أعظم حسنات أبي بكر؛ لأنه اختار للناس رجلاً عظيماً حصل على يديه الخير الكثير، حيث فتحت الفتوحات، واتسعت رقعة البلاد الإسلامية، وقضي على الدولتين العظميين في ذلك الزمان: دولة الفرس ودولة الروم، وأنفقت كنوز كسرى وقيصر ملكي الفرس والروم في سبيل الله، وذلك على يد الفاروق رضي الله عنه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن كنوزهما ستنفق في سبيل الله، وقد تم ذلك في عهد الفاروق رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
وأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لما طعن الطعنة التي نال بها الشهادة قيل له: ألا تستخلف يا أمير المؤمنين؟! يعني: تختار خليفة من بعدك، فقال: إن لم أستخلف فلم يستخلف رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإن أستخلف فقد استخلف أبو بكر؛ لأنه اختاره للخلافة، قال ابن عمر: فعلمنا أنه حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يعدل عما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يستخلف بنص على أن الخليفة بعدي فلان، ولكن جاءت عنه نصوص واضحة جلية تدل على أن أبا بكر هو الأولى والأحق بالخلافة من بعده، ومن هذه النصوص أنه اختاره للصلاة بالناس في مرض موته، وروجع في ذلك وفي كل مرة يراجع فيها يقول: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، ولهذا قال عمر رضي الله عنه يوم السقيفة: رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ديننا أفلا نرتضيك لأمر دنيانا؟ وأوضح دليل يدل على أن أبا بكر هو الأحق بالأمر من بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام الحديث الذي في الصحيح: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ عائشة: (ادعي لي أباك وأخاك لأكتب كتاباً؛ فإني أخشى أن يتمنى متمن أو يقول قائل)، ثم إنه ترك الكتابة عليه الصلاة والسلام وقال: (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر) يعني: لا حاجة للكتابة، فالذي أريده سيحصل، وسيتفق المسلمون على اختيار أبي بكر، وقد أبى الله إلا أبا بكر وأبى المسلمون إلا أبا بكر.
إذاً: اختيار أبي بكر تم باتفاق الصحابة، وتحقق بذلك ما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم من قوله: (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر).
وعمر رضي الله عنه وأرضاه بعدما قال ما قال توسط فلم يترك الأمر نهائياً دون أن يكون له فيه رأي، ولم يعين شخصاً بعينه يكون خليفة من بعده كما فعل أبو بكر، فجعل الأمر في ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو عنهم راض، وهم من العشرة المبشرين بالجنة، وهم: عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، وقد بقي من العشرة المبشرين بالجنة في ذلك الوقت: سعيد بن زيد بن نفيل ابن عم عمر، ولكنه ما جعله معهم، وجعل الأمر في ستة سواه، وكان من بينهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقد كانت له قصة مع أهل الكوفة، حيث كان أميراً على الكوفة لـ عمر، وحصل بينه وبين بعض سفهاء أهل الكوفة شيء حتى صاروا يتكلمون فيه ويقدحون فيه ويذمونه مع أنه من أهل الجنة، فهو رجل يمشي على الأرض وهو من أهل الجنة ومع ذلك ما سلم من أذى السفهاء! فـ عمر رضي الله عنه عزله لئلا يحصل من هؤلاء السفهاء شيء لا تحمد عاقبته في حقه، كأن يعتدي عليه أحد؛ لأنه بلغ بهم البغض ما بلغ، فرأى أن من المصلحة أن يعزله، ولكنه لما اختاره من الستة خشي أن يقول قائل: كيف يعزله عن الكوفة ويرشحه للخلافة؟ فقال رضي الله عنه: إن أصابت الإمارة سعد فذاك -يعني فهو أهل لها- وإن لم تصبه فليستعن به من أمر، فإنني لم أعزله من عجز ولا خيانة، والعجز والخيانة تسوغان العزل؛ لأن العاجز تنفلت الأمور من بين يديه وتصير الأمور فوضى، والإنسان الذي عنده قوة وخيانة يضع الأمور في غير مواضعها، فنوه بشأنه، وبين أن سبب عزله كان لخوف أن يلحق به ضرر، ولم يكن لأمر يرجع إلى سعد، فهو قوي أمين، وليس بعاجز ولا خائن، وهو أهل للإمارة، ولذلك اختاره من بين هؤلاء الستة، ثم إنهم اجتمعوا وانتهى الأمر إلى أن اختير عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، فصار ثالث الخلفاء الراشدين الهاديين المهديين.
والحاصل أن الخليفة له أن يستخلف، وهذه طريقة شرعية، والطرق الشرعية في الوصول إلى الولاية ثلاث: هذه واحدة منها.
والثانية: اتفاق أهل الحل والعقد، ومثالها: بيعة أبي بكر، فإنها تمت باتفاق أهل الحل والعقد من كبار المهاجرين والأنصار.
والطريقة الثالثة: التغلب والقهر يعني: كون الإنسان يصل إلى السلطة بالقوة والغلبة، كما حصل من انتقال السلطة من الأمويين إلى العباسيين، فإن تولي أبي العباس السفاح إنما كان بالقهر والغلبة، وانتزاع الملك من بني أمية، ومع ذلك اعتبر ذلك ولاية شرعية، والناس سمعوا له وأطاعوا.
فهذه هي الطرق الثلاث الشرعية التي يكون بها الوصول إلى السلطة.(346/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (لم يستخلف رسول الله)
قوله: [حدثنا محمد بن داود بن سفيان].
محمد بن داود بن سفيان مقبول، أخرج له أبو داود.
[وسلمة].
سلمة بن شبيب وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم].
سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[عن عمر].
عمر رضي الله تعالى عنه، وهو أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين الهاديين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام في حقه: (ما سلكت فجاً -يا عمر - إلا وسلك الشيطان فجاً غير فجك).(346/15)
ما جاء في البيعة(346/16)
شرح حديث: (كنا نبايع النبي على السمع والطاعة ويلقننا فيما استطعت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في البيعة.
حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (كنا نبايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة ويلقننا: فيما استطعت)].
أورد أبو داود باباً في البيعة، أي: البيعة للوالي والسلطان، وأنه يبايع على السمع والطاعة، ومعلوم أن السمع والطاعة في المعروف لغير الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يحصل منه إلا ما هو معروف؛ لأنه معصوم عليه الصلاة والسلام، وأما غيره فليس بمعصوم؛ ولهذا جاء في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، فإنه أعاد الفعل أطيعوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يعده مع ولاة الأمور، ما قال: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم، وإنما قال: ((أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ))، فأعاد الفعل مع الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يعده مع ولاة الأمور؛ لأن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم هو أمر من الله، وهو مبلغ عن الله، وهو معصوم، لا يأمر إلا بما هو حق، أما ولاة الأمور فليسوا بمعصومين، فقد يأمرون بمنكر، وينهون عن معروف، ولهذا كانت الطاعة في حقهم في حدود طاعة الله ورسوله، وطاعتهم ليست مطلقة كطاعة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وإنما هي مقيدة فيما هو طاعة لله ولرسوله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف)، وقال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الله).
كان الصحابة يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، وكان يلقنهم أن يقولوا: (فيما استطعت) يعني: أبايعك على السمع والطاعة، فيقول: (فيما استطعت) يعني: قل: فيما استطعت، وهذا من كمال نصحه وشفقته على أمته عليه الصلاة والسلام.
وفيه أن الإنسان لا يبايع مبايعة مطلقة، فقد يحصل شيء يعجز عنه، ولكنه إذا قيد ذلك بقوله: فيما استطعت فيكون بذلك أتى بالشيء الذي يسلم به، وتكون بيعته في حدود طاقته، وفي حدود ما يستطيع؛ ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، وقد قال الله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
أورد أبو داود حديث ابن عمر: (أنهم كانوا يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يلقنهم: فيما استطعت) يعني يقول لكل واحد منهم: قل: فيما استطعت، فعندما يقول: أبايعك على السمع والطاعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يلقنه كلمة: (فيما استطعت)، حتى يضيفها إلى قوله: أبايعك على السمع والطاعة، وأما غير الرسول صلى الله عليه وسلم فيبايع على السمع والطاعة بالمعروف، يعني: فيما هو طاعة لله وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة.(346/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (كنا نبايع النبي على السمع والطاعة ويلقننا فيما استطعت)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن دينار].
عبد الله بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
عبد الله بن عمر مر ذكره.
وهذا الإسناد من الرباعيات، وهي أعلى الأسانيد عند أبي داود.(346/18)
شرح حديث: (ما مس رسول الله يد امرأة قط)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب حدثني مالك عن ابن شهاب عن عروة: (أن عائشة رضي الله عنها أخبرته عن بيعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النساء، قالت: ما مس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يد امرأة قط إلا أن يأخذ عليها، فإذا أخذ عليها فأعطته قال: اذهبي فقد بايعتك)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء، فبيعته صلى الله عليه وسلم للرجال أن يضعوا أيديهم بيده عندما يبايعونه، وأما النساء فلا يضع يده في أيديهن، وإنما يبايعهن بالكلام، ولهذا قالت عائشة: (ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة) يعني: امرأة أجنبية، وإنما كان إذا أخذ العهد أو البيعة يقول: (اذهبي فقد بايعتك)، فكان صلى الله عليه وسلم يبايع النساء كلاماً لا مساً، ولهذا قالت عائشة: (ما مس رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة) يعني: عند البيعة، وإنما كان يبايعهن بالكلام، وهن يتكلمن مبايعات، ويكون جواب النبي صلى الله عليه وسلم للواحدة منهن: (قد يايعتك).
ولا يجوز للرجال أن يصافحوا النساء الأجنبيات، ولا يمسوهن لا بحائل ولا من غير حائل، حتى لو كان هناك حائل من قفاز أو من وراء العباءة أو من وراء قماش؛ لأن هذه مصافحة ولو كانت من وراء حائل؛ لأن الذي يريد الشر يمكن مع المصافحة أن يغمزها ليشعر بالسوء، فالبعد عن ذلك هو الواجب وهو المتعين، فليس للرجل أن تمس يده يد امرأة أجنبية أو يمس جسم امرأة أجنبية، اللهم إلا إذا كان هناك ضرورة علاج أو ما إلى ذلك، فهذا شيء آخر.
والمصلحة في اتباع الشرع والتقيد بما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا اعتاد الناس عادات سيئة فعليهم أن يتركوا ما اعتادوه من السوء، وأن يصيروا إلى الطهر والخير الذي في اتباع السنة.
قوله: [(ما مس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يد امرأة قط إلا أن يأخذ عليها)].
هذا الاستثناء منقطع يعني لكن أن يأخذ عليها البيعة فتقول: أبايعك على كذا وكذا فيقول: (قد بايعتك).
قوله: [فإذا أخذ عليها فأعطته قال: (اذهبي فقد بايعتك)].
أي: إذا أخذ عليها العهد فأعطته البيعة وقالت: أبايعك على كذا وكذا، كما قال الله: {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ} [الممتحنة:12]، فيقول: (قد بايعتك).(346/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (ما مس رسول الله يد امرأة قط)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن وهب].
عبد الله بن وهب ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه الإمام، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب عن عروة].
ابن شهاب مر ذكره، وعروة هو ابن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(346/20)
شرح حديث: (لم يبايع رسول الله صغيراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا سعيد بن أبي أيوب حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد عن جده عبد الله بن هشام رضي الله عنه، وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذهبت به أمه زينب بنت حميد رضي الله عنها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: (يا رسول الله! بايعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هو صغير، فمسح رأسه)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن هشام رضي الله عنه، وهو صحابي صغير، جاءت به أمه إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وقالت: (بايعه يا رسول الله! فقال: إنه صغير) يعني: ليس من أهل البيعة، والبيعة إنما تؤخذ على البالغين المكلفين الذين يلتزمون بالشيء ويلزمهم الوفاء، وأما الصغير فمرفوع عنه القلم، ومسح على رأسه لطفاً وتلطفاً وإحساناً وشفقة منه عليه الصلاة والسلام.(346/21)
تراجم رجال إسناد حديث: (لم يبايع رسول الله صغيراً)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة].
عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الله بن يزيد].
عبد الله بن يزيد المقري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سعيد بن أبي أيوب].
سعيد بن أبي أيوب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد].
أبو عقيل زهرة بن معبد وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن جده عبد الله بن هشام].
عبد الله بن هشام وهو صحابي صغير، أخرج له البخاري وأبو داود.(346/22)
أرزاق العمال(346/23)
شرح حديث: (من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في أرزاق العمال.
حدثنا زيد بن أخزم أبو طالب حدثنا أبو عاصم عن عبد الوارث بن سعيد عن حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)].
أورد أبو داود باباً في أرزاق العمال، وهم الولاة، فالوالي الذي يولى على ناحية أو على سعاية أو غير ذلك يقال له: عامل، والعمال يعطون في مقابل عمالتهم وعملهم، وما يأخذونه من غير ذلك فهو غلول يعني: خيانة، بل يأخذون ما يفرض لهم وما يقدر لهم، وما يأخذونه سوى ذلك فإنه غلول.
أورد أبو داود حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً) يعني: مقابل عمله، (فما أخذ بعد ذلك فهو غلول) يعني: خيانة يأتي به يوم القيامة كما قال الله: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161]، يحمله على ظهره إن كان بعيراً له رغاء، وإن كان بقرة لها خوار، وإن كان شاة تيعر.(346/24)
تراجم رجال إسناد حديث: (من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً)
قوله: [حدثنا زيد بن أخزم أبو طالب].
زيد بن أخزم أبو طالب ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو عاصم].
هو الضحاك بن مخلد النبيل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الوارث بن سعيد].
عبد الوارث بن سعيد العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حسين المعلم].
حسين المعلم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن بريدة].
عبد الله بن بريدة بن الحصيب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(346/25)
شرح حديث عمر: (عملت على عهد رسول الله فعملني)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا ليث عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن بسر بن سعيد عن ابن الساعدي رضي الله عنه أنه قال: (استعملني عمر رضي الله عنه على الصدقة، فلما فرغت أمر لي بعمالة فقلت: إنما عملت لله، قال: خذ ما أعطيت فإني قد عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعملني)].
أورد أبو داود حديث عمر رضي الله عنه: أن ابن الساعدي ولاه عمر على الصدقة، فلما أعطاه عمالة يعني: مقابل عمله قال: إنما عملت لوجه الله يعني: لا أريد شيئاً، فقال: (خذ، فإني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملني) يعني: أعطاني عمالة، وهذا يدل على أن الإنسان إذا فعل أمراً وهو يرجو الثواب في ذلك، وأعطي أجراً، فهو خير، ويكون هذا من الثواب المعجل الذي يعجله الله لصاحبه في الدنيا قبل الآخرة، والله تعالى ذكر في القرآن أن العاملين لهم نصيب في أسهم الصدقة فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60]، ثمانية أصناف، ومنهم: العاملون عليها.
قوله: [استعملني عمر على الصدقة] يعني: جعلني عاملاً على جبايتها وأخذها.
قوله: [فلما فرغت أمر لي بعمالة].
يعني: لما انتهى من العمل أمر له بعمالة يعني: بسهم مقابل هذه السعاية والعمل الذي عمله وقام به.
وقوله: [فقلت: إنما عملت لله].
يعني: أرجو ثواب الله.
قوله: [(فقال: خذ ما أعطيت، فإني قد عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملني)].
يعني: أعطاني عمالة.(346/26)
تراجم رجال إسناد حديث عمر: (عملت على عهد رسول الله فعملني)
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
أبو الوليد الطيالسي هشام بن عبد الملك وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ليث].
ليث بن سعد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بكير بن عبد الله].
بكير بن عبد الله بن الأشج وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بسر بن سعيد].
بسر بن سعيد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن الساعدي].
ابن الساعدي هو عبد الله بن عمرو، وهو صحابي، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن عمر].
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وقد مر ذكره.
قال في عون المعبود: إن هذا الحديث من الأسانيد التي اجتمع فيها أربعة من الصحابة، والمقصود الإسناد الذي عند البخاري؛ لأن هذا الحديث عند البخاري في إسناده أربعة من الصحابة يروي بعضهم عن بعض وهم: السائب بن يزيد وحويطب بن عبد العزى وابن الساعدي وعمر، وأما هنا فلا يوجد إلا صحابيان وهما: ابن الساعدي وعمر.(346/27)
شرح حديث: (من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن مروان الرقي حدثنا المعافى حدثنا الأوزاعي عن الحارث بن يزيد عن جبير بن نفير عن المستورد بن شداد رضي الله عنهما أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً، قال: قال أبو بكر: أخبرت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق)].
أورد أبو داود حديث المستورد بن شداد رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً) قيل: إن المقصود بهذا أنه في مقابل عمله، وأنه يتزوج في مقابل عمله، وكذلك يتخذ مسكناً في مقابل عمله، ويتخذ خادماً في مقابل عمله، وقيل: المقصود من كونه يتخذ مسكناً أنه إذا ذهب إلى مهمة يهيئ له المسكن، يسكن ويرتفق به، وكذلك يهيئ له خادم، فإنه يمكن من ذلك، ولكن ما يتعلق بالزوجة لا يستقيم إلا على المعنى الأول الذي هو كونه مقابل عمالته، ومن رزقه يحصل الزوجة ويحصل المسكن ويحصل الخادم.
قوله: [(قال أبو بكر: أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق)].
قيل: لعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي قال هذا.(346/28)
تراجم رجال إسناد حديث: (من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة)
قوله: [حدثنا موسى بن مروان الرقي].
موسى بن مروان الرقي مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا المعافى].
المعافى بن عمران وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي فقيه الشام ومحدثها، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن الحارث بن يزيد].
الحارث بن يزيد وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن جبير بن نفير].
جبير بن نفير وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن المستورد بن شداد].
المستورد بن شداد رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.(346/29)
الأسئلة(346/30)
معنى قوله: (من اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق)
السؤال
أليس المقصود: (من اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق) أن له أن يأخذ من مال الزكاة ما يحصل به زوجة أو خادماً أو مسكناً، وليس له غير ذلك، وهذا أمر مستثنى من الغلول؟
الجواب
هذا لا يتعلق بالزكاة، وإنما هذا في الولاية، وكونه يأخذ من مال الدولة إنما يكون في حدود هذه الأشياء، أي: يحل له أن يأخذ مما في تصرفه من بيت المال.(346/31)
العم من الرضاع
السؤال
بنت رضعت من زوجتي، فهل لإخواني أن يظهروا عليها؟
الجواب
الرضيع إذا رضع من امرأة فإنه يكون ابناً لها، وأخاً لجميع أولادها ولو كانوا من عدة أزواج، وأيضاً يكون ابناً لصاحب اللبن، وأخاً لجميع أولاده ولو كانوا من عدة زوجات، وإخوة صاحب اللبن يعتبرون أعمامه من الرضاع، فهذه البنت إخوة صاحب اللبن يعتبرون أعماماً لها من الرضاعة، وهم من محارمها.(346/32)
حكم قول: ما لي في السماء إلا الله
السؤال
هل يجوز أن يقال: مالي في السماء إلا الله، وما لي في الأرض إلا أنت؟
الجواب
لا يصلح هذا الكلام، فلا يعتمد على الله وعلى غيره، وإنما الاعتماد كله على الله عز وجل، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله، وليس حالاً في المخلوقات، وإنما مباين لها، على العرش استوى، ولكن مثل هذه العبارة ليست سليمة.(346/33)
حكم المسابقات
السؤال
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) ما الذي يجوز من المسابقات التي تعد لها الجوائز، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا سبق)؟
الجواب
هذه الثلاثة الأمور فيما يتعلق بالخيل، وفيما يتعلق بالإبل، وفيما يتعلق بالرمي، وكل هذه من وسائل الجهاد، وأما غيرها من المسابقات فهي من قبيل الجعل، من فعل كذا فله كذا، فالذي تميز على غيره فإنه يستحق ذلك، وهو من قبيل الجعالة، وليس من قبيل المسابقة التي جاء حصرها على هذه الأمور الثلاثة؛ لأنها من وسائل الحرب.(346/34)
حكم ملامسة يد الممرضة
السؤال
إنني ممرض في المستشفى، وكثيراً ما تلامسني يد الممرضة عند العمل بغير قصد، فما الحكم؟
الجواب
الواجب عليك الابتعاد عن ذلك، وأن تكون في جهة والممرضة في جهة، والممرضة تكون للنساء وأنت للرجال.(346/35)
معنى قوله: (لا يدخل الجنة صاحب مكس)
السؤال
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة صاحب مكس)، هل هو على ظاهره؟
الجواب
( لا يدخل الجنة) ورد في أحاديث صحيحة كثيرة مثل: (لا يدخل الجنة قتات) أي: نمام، وليس المقصود من ذلك أنه يكون كافراً مخلداً في النار، وأنه لا سبيل له إلى الجنة، وإنما يحمل على الوعيد وشدة التخويف، ويحمل أيضاً على أنه لا يدخلها مع أول من يدخلها، وإنما إذا شاء الله يعذبه في النار وأهل الجنة في الجنة منعمون، ولكنه بعد دخوله النار لا يخلد فيها كما يخلد الكفار، بل لابد أن يخرج منها ويدخل الجنة، ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين لا سبيل لهم إلى الخروج منها، ولا سبيل لهم إلى دخول الجنة.(346/36)
حكم طاعة الأمير في السفر
السؤال
إمارة السفر هل يلزم الطاعة فيها؟ والذي يخالف الأمير هل يعد آثماً شرعاً؟
الجواب
نعم، فإمارة السفر المقصود منها اتباع الأمير، وإذا عصي الأمير فلا شك أنه حرام، فمن عصاه يكون آثماً، وإلا فهما فائدة الإمارة إذا كان لا يسمع ولا ويطاع؟! فيبقون بدون إمارة، وكل يركب رأسه، وكل واحد ينفذ ما يريد، ولا يرجع إلى الأمير! لكن هذه الإمارة ليس فيها بيعة، ولا يقال للأمير في السفر: أبايعك على السمع والطاعة، وعلى كتاب الله وسنة رسوله، وإنما المقصود من ذلك أن يكون لهم مرجعاً يرجعون إليه.(346/37)
حكم إعطاء بعض المال لعمال الضرائب
السؤال
هل للرجل أن يدفع بعض المال لعمال الضرائب لكي يتخلص من الضرائب؟
الجواب
هذا كله شر؛ لأن هذا المال يكون رشوة لهم.(346/38)
حكم العمل في الضرائب
السؤال
من يعمل في الضرائب من قبل ولي الأمر هل يدخل في هذا الوعيد: (لا يدخل الجنة)؟
الجواب
لا شك، ويجب على الإنسان ألا يدخل في أمر محرم، ويبحث له عن عمل سائغ، والأمر المحرم لا يقدم عليه ولو كان من جهة ولي الأمر.(346/39)
لزوم بيعة من استخلفه الإمام
السؤال
إذا استخلف الإمام أحداً بعده هل تلزم بيعته بمجرد الاستخلاف؟
الجواب
نعم تلزم.(346/40)
شرح سنن أبي داود [347]
من المقاصد الكلية التي جاءت الشريعة بحفظها: الأموال، فقد شرعت أحكاماً كثيرة في سبيل حفظ أموال الناس، وعدم التعدي عليها بالباطل، لا سيما الأموال العامة، فحرمت الشريعة هدايا العمال، وبينت كيفية قسمة الفيء.(347/1)
هدايا العمال(347/2)
شرح حديث: (ما بال العامل نبعثه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في هدايا العمال.
حدثنا ابن السرح وابن أبي خلف لفظه قالا: حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم استعمل رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبية -قال ابن السرح: ابن الأتبية - على الصدقة، فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي! ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدى له أم لا؟ لا يأتي أحد منكم بشيء من ذلك إلا جاء به يوم القيامة، إن كان بعيراً فله رغاء، أو بقرة فلها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه ثم قال: اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: (باب في هدايا العمال) والعمال هم الموظفون الذين لهم أعمال يحتاج الناس إليهم في أعمالهم، فالهدايا التي تهدى إليهم حرام لا تجوز، وهي من الغلول، ولا يجوز لهم أخذها، ولا يجوز دفعها إليهم؛ وذلك لما يترتب على دفعها لهم من كون المدفوع إليه يحابي الدافع، فقد يعطيه شيئاً لا يستحقه، أو يقدمه على غيره، أو يتساهل في حق من لا يعطيه هدية ويساعد ويقدم من يدفع له هدية، وقد جاء حديث بلفظ: (هدايا العمال غلول) أي: هي من الخيانة وعدم الأمانة.
أورد أبو داود حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فلما جاء وأتى بالصدقات التي جباها وأخذها من أصحابها قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي.
والذي يظهر أنه رأى أن ذلك لا بأس به؛ لأنه شيء أهدي إليه، فظن أنه سائغ، ولهذا ذكره وقال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، وليس بخيانة؛ لأنه لو أخذه خيانة لأخفاه، ولكنه أظهره وميزه وقال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فميز بين الشيء الذي أخذه من الناس زكاة واجبة عليهم، والشيء الذي أهدي إليه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس وقال: (ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي، ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدى له أم لا؟) يعني: هذه الهدية ما حصلت من أجل شخصه، وإنما من أجل عمله ووظيفته، ومن أجل أن يحصل المهدي شيئاً من المهدى إليه بأن يعطيه شيئاً لا يستحقه أو يخفف عنه أو يأخذ منه شيئاً أقل من الشيء الواجب عليه أو ما إلى ذلك من الأمور التي قد يريدها بعض الناس من الهدية.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان من هديه أنه إذا حصل شيء يخطب الناس ويبين الحكم حتى يعرفه الجميع، ولا يكون خاصاً بالشخص الذي حصلت له القصة، وإنما يستفيد هو وغيره، وكان لا يسميه ولا يعينه، وإنما يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، مثلما جاء في قصة بريرة لما اشترط أهلها أن الولاء لهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس وقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟)، فهذا هديه وهذه طريقته صلى الله عليه وسلم؛ ليحصل بذلك إفادة الجميع، ومعرفة الجميع بالأحكام الشرعية، فيكون في ذلك تنبيه لصاحب القصة، وأن فعله لا يسوغ، وكذلك غيره يعلم الحكم الشرعي، وأنه لا يسوغ.
ثم قال: (ألا جلس في بيت أمه أو أبيه لينظر هل يهدى إليه أم لا؟)، فإن هذه الهدية جاءته من أجل عمله ومن أجل وظيفته، ومن أجل سعايته، وقد يكون من أجل محاباة، ومن أجل تحصيل مآرب من وراء هذه الهدية.
ثم قال: (لا يأتي أحد منكم بشيء من ذلك إلا جاء به يوم القيامة) يعني: لا يأخذ شيئاً من هذا إلا جاء يوم القيامة يحمله، ويكون ذلك فضيحة له على رءوس الأشهاد، فيحمل هذا الذي أخذه وغله وخان فيه، (إن كان بعيراً فله رغاء، وإن كان بقرة لها خوار، وإن كان شاة تيعر)، وهذه أصوات هذه الحيوانات؛ تنبيهاً على أنه يأتي بها يوم القيامة كما كانت في الدنيا، وأن ذلك يكون فضيحة له على رءوس الأشهاد.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه فقال: (اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟) يعني: بلغهم هذه الأحكام الشرعية التي يلزمهم أن يأخذوا ويلتزموا بها، وأن يبتعدوا عن هذا الذي يعود عليهم بالمضرة.
وقوله: [(أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استعمل رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبية)].
فيه اتخاذ العمال للسعاية وجباية الزكوات، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث العمال، وقد بعث عمر على الصدقة كما في الحديث المتفق عليه الذي فيه: (منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس).
قوله: [(وقال ابن السرح: ابن الأتبية)].
ذكر أبو داود الحديث عن شيخين ابن السرح وابن أبي خلف، وقال عند الثاني: وهذا لفظه، أي: لفظ ابن أبي خلف، ولما كان لفظ ابن أبي السرح يخالف لفظ ابن أبي خلف أشار إلى ذلك.
قوله: [(على الصدقة)].
هي: جباية الزكاة.
قوله: [(فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي، ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدى له أم لا؟ لا يأتي أحد منكم بشيء من ذلك إلا جاء به يوم القيامة، إن كان بعيراً فله رغاء، أو بقرة فلها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه)].
هذا ضرب أمثلة لما تكون فيه الخيانة، ولما يكون فيه الشيء الذي يؤخذ من غير استحقاق، وإلا فإن الأمر أعم من ذلك، ولعل البعث إنما كان على زكوات المواشي؛ لأنه ذكر هذه الأنواع الثلاثة التي هي المواشي: الإبل، والبقر، والغنم، وهذه هي التي تزكى، وكذلك غيرها مثلها، والإنسان إذا كان مسئولاً عن شيء أو عاملاً على شيء أو مؤتمناً على شيء وخان فيه وأخذ شيئاً لا يستحقه فإنه يأتي به يوم القيامة على هذا الوجه الذي بينه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ويكون ذلك فضيحة له على رءوس الأشهاد يوم القيامة، ومن الرشوة ما يعطى باسم البخشيش، فهي نفس الرشوة.
قوله: (ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه ثم قال: اللهم هل بلغت؟)، وهم يسمعون، وهذا من كمال نصحه ومن كمال بيانه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: (عفرة إبطيه) يعني بياضهما.(347/3)
تراجم رجال إسناد حديث (ما بال العامل نبعثه)
قوله: [جدثنا ابن السرح].
أحمد بن عمرو بن السرح وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وابن أبي خلف].
محمد بن أحمد بن أبي خلف وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا سفيان].
سفيان بن عيينة المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي حميد].
أبو حميد الساعدي هو المنذر، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(347/4)
عدم ذكر اسم المخالف عند الرد على خطئه إلا في بعض الحالات
الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يذكر أسماء المخالفين، وإنما كان يشير إلى الوصف فيقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، فيكون في ذلك فائدة للشخص الذي حصلت له القصة ولغيره ممن لم يفعل شيئاً من ذلك، فيكون الحكم قد أظهر وعرفه الناس في الخطبة على المنبر.
وأما الردود على الأقوال الفاسدة فلا بأس من ذكر المبتدع حتى يحذر منه؛ لأن هذا فيه ابتداع في الدين، وفيه مخالفة لما جاءت به السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، كالذي يؤلف كتاباً فيه أمور منكرة، فيؤلف كتاب في الرد عليه؛ لأن الباطل ظهر فالحق لابد أن يظهر، وأما الأمور الخفية والفردية التي تحصل من شخص، فذكر الشخص لا حاجة إليه، وقد تكون المصلحة في عدم ذكره، والمهم هو التنبيه على الخطأ، فإذا نبه على الخطأ دون أن يسمى فإنه يستفيد وغيره يستفيد.
وهذا الحديث يدل على أن الأحكام الشرعية تبين للعامة، وأنها تبين على المنبر، وتبين في الخطب، وتبين على الملأ، وصعود المنبر ليس خاصاً بخطبة الجمعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يصعد على المنبر في أحوال وفي مناسبات غير خطبة الجمعة.(347/5)
غلول الصدقة(347/6)
شرح حديث أبي مسعود (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم ساعياً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في غلول الصدقة.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن مطرف عن أبي الجهم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: (بعثني النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساعياً ثم قال: انطلق أبا مسعود! ولا ألفينك يوم القيامة تجيء وعلى ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته، قال: إذاً لا أنطلق، قال: إذاً لا أكرهك)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: (باب في غلول الصدقة) والحديث الأول فيه هدايا العمال وهي غير الصدقة، وإنما تعطى لمن ولي على الصدقة، وهنا ذكر غلول الصدقة يعني: كونه يأخذ شيئاً من الصدقة يختص به ويخون؛ لأن الحديث الأول فيمن أهدي له بسبب عمالته، وهذه الترجمة تتعلق بالأخذ من الصدقة أي: أن الإنسان يؤتمن على شيء فيخون، ويأخذ شيئاً منه.
والغلول هو الخيانة، وكل من خان في شيء يعتبر غالاً فيه، حيث أخذ شيئاً لا يستحقه، سواء كان أمانة عنده أو تحت ولايته ثم يأخذه لنفسه، وغلول الصدقة يعني الأخذ من الصدقة شيئاً يختص به، ويخفيه ويخون فيه.
أورد أبو داود حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمله على الصدقة وقال: (انطلق أبا مسعود! لا ألفينك تأتي يوم القيامة وعلى رقبتك بعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته).
أي: انطلق يا أبا مسعود! في هذه المهمة لجباية الصدقة.
قوله: (ولا ألفينك تأتي يوم القيامة) أي: لا أجدنك تأتي يوم القيامة وعلى ظهرك بعير قد غللته من إبل الصدقة.
قوله: (غللته) يعني: أخذته واختصصت به، واختلسته من الصدقة لتتموله، وهذا يدل على أن الإنسان يأتي بما غل يوم القيامة، ويكون ذلك فضيحة له على رءوس الأشهاد والعياذ بالله.
قوله: [(قال: إذاً لا أنطلق)] يعني أنه لا يقدم على هذا العمل؛ لأنه يخشى أن تحصل منه مخالفة، ويترتب عليها هذا الإثم العظيم.
وهذا يدل على ما كان عليه أصحاب الرسول صلوات الله وسلامه وبركاته عليه ورضي الله عنهم وأرضاهم من الخشية من الوقوع في الأمور المحرمات، وأن الواحد قد يترك الشيء لما يخشى أن يترتب عليه، وإن كان غير متحقق وغير متيقن من وقوعه في الإثم لكن كانوا يبتعدون عن ذلك خوفاً أن يترتب على ذلك هذا الأمر الخطير، وما يتبعه من الإثم العظيم، وهو كونه يأتي بهذا الذي غله يوم القيامة يحمله على رقبته فيكون ذلك فضيحة له.
قوله: [(قال: إذاً لا أكرهك)].
يعني: لا ألزمك أن تقوم بهذه المهمة، فالأمر إليك، إن شئت أن تذهب ذهبت، وإن شئت أن تترك فأنا لا أكرهك ولا ألزمك.(347/7)
تراجم رجال إسناد حديث أبي مسعود (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم ساعياً)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مطرف].
مطرف بن طريف وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الجهم].
أبو الجهم سليمان بن الجهم وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي مسعود الأنصاري].
أبو مسعود الأنصاري هو عقبة بن عمرو الأنصاري وهو صحابي رضي الله تعالى عنه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بكنيته أبي مسعود، وأحياناً قد يتصحف أبو مسعود إلى ابن مسعود، وهو عبد الله بن مسعود الصحابي المشهور بنسبته ابن مسعود، وهذا مشهور بكنيته أبي مسعود، وقد حصل التصحيف بين هذا وهذا في بلوغ المرام في حديث أبي مسعود: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، فإنه جاء عن ابن مسعود وهو أبو مسعود وليس ابن مسعود.(347/8)
ما يلزم الإمام من أمر الرعية والحجبة عنهم(347/9)
شرح حديث (من ولاه الله شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيما يلزم الإمام من أمر الرعية والحجبة عنهم.
حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي حدثنا يحيى بن حمزة حدثني ابن أبي مريم أن القاسم بن مخيمرة أخبره أن أبا مريم الأزدي رضي الله عنه أخبره قال: دخلت على معاوية رضي الله عنه فقال: ما أنعمنا بك أبا فلان! وهي كلمة تقولها العرب، فقلت: حديثاً سمعته أخبرك به، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من ولاه الله عز وجل شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره).
قال: فجعل رجلاً على حوائج الناس].
أورد أبو داود هذه الترجمة: (باب فيما يلزم الإمام من أمر الرعية والحجبة عنهم) أي: أن عليه أن يقوم بما يعود عليهم بالخير، وتحصيل ما ينفعهم، ودفع ما يضرهم، وكذلك لا يحتجب عنهم، وإذا لم يتمكن من البروز لهم فعليه أن يقيم من يقوم مقامه في رعاية مصالحهم، وقضاء حوائجهم، وتدبير أمورهم.
أورد أبو داود حديث أبي مريم الأزدي رضي الله تعالى عنه أنه جاء إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فقال: ما أنعمنا بك! وهذا يحتمل أن يكون تعجباً يعني: ما أعظم النعمة التي حصلت لنا بمجيئك! فيكون بها إظهار السرور بهذه الزيارة وبهذا القدوم إليه.
ويحتمل أن يكون المعنى: أي نعمة حصلت لنا بمجيئك؟ يعني: أنها نعمة عظيمة، فقال أبو مريم: حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني أنه جاء من أجل أن يذكره ويعظه، ويسمعه حديثاً سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلق بالوالي، وأنه لا يحتجب عن الناس، وإنما يظهر للناس ويقضي حوائجهم، ويقوم بما يلزم لأمورهم، وإذا كان لا يتمكن لكثرة أشغاله ولعدم تمكنه من أن يكون مع الناس دائماً وأبداً فإنه ينيب من يثق به ممن يقوم بالنيابة عنه في قضاء مصالح الناس ورعاية مصالحهم.
قوله: [سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ولاه الله عز وجل شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم)].
الخلة والفقر والحاجة متقاربة في المعنى، ومعنى ذلك أنه لا يكون على اتصال بهم من أجل القيام بقضاء حوائجهم، وسد خلتهم، وما إلى ذلك مما هم بحاجة إليه، فإن الله تعالى يجازيه بأن يكون كذلك دون خلته وحاجته وفقره، فالجزاء من جنس العمل، فكما أنه يعامل الناس هذه المعاملة فالله تعالى يعاقبه بهذه العقوبة.
فـ معاوية رضي الله عنه وأرضاه تنبه وجعل من يقوم بذلك، فجعل رجلاً على حوائج الناس، يعني: يتولى هذه المهمة نيابة عنه.
وهذا يدل على ما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من التناصح، ومن الحرص على إفادة الغير، وعلى مناصحة ولي الأمر.
ويدل أيضاً على مبادرة معاوية رضي الله عنه إلى تنفيذ هذا الشيء الذي ذكره به هذا الصحابي الذي نصحه وذكره بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل من يقوم مقامه في قضاء حوائج الناس.(347/10)
تراجم رجال إسناد حديث (من ولاه الله شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم
قوله: [حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي].
سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي صدوق يخطئ، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا يحيى بن حمزة].
يحيى بن حمزة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني ابن أبي مريم].
يزيد بن أبي مريم الدمشقي وهو لا بأس به، أخرج له البخاري وأصحاب السنن، ولا بأس به عند ابن حجر بمعنى صدوق.
[عن القاسم بن مخيمرة].
القاسم بن مخيمرة وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي مريم الأزدي].
أبو مريم الأزدي قيل: هو عمرو بن مرة الجهني، صحابي، أخرج له أبو داود والترمذي.(347/11)
شرح حديث (ما أوتيكم من شيء وما أمنعكموه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أوتيكم من شيء وما أمنعكموه إن أنا إلا خازن أضع حيث أمرت)].
أورد أبو داود رحمه الله هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أوتيكم من شيء ولا أمنعكموه، إنما أنا خازن) يعني: إنما أنفذ ما أمرت به.
وهذا مثل الحديث الذي جاء عن معاوية: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) وفي آخره قال: (وإنما أنا قاسم والله المعطي)، فهذا من جنسه قال: (أنا خازن) يعني: أحفظ الشيء وأضعه حيث أمرت أن أضعه، ولهذا قال: (ما أوتيكم من شيء ولا أمنعكموه) يعني: ليس هذا إلي وإنما أنا خازن، والله تعالى هو الذي يعطي فأنا أنفذ وأعطي ما أمرني الله عز وجل، وهذا مطابق للجزء الأول من الترجمة وهو قوله: ما يلزم الراعي من أمر الرعية؟ يعني: كونه يعطيهم ويحسن إليهم.(347/12)
تراجم رجال إسناد حديث (ما أوتيكم من شيء وما أمنعكموه)
قوله: [حدثنا سلمة بن شبيب].
سلمة بن شبيب ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن همام بن منبه].
همام بن منبه وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.(347/13)
صحيفة همام بن منبه
هذا الحديث من صحيفة همام بن منبه التي جاءت بإسناد واحد، وفي أولها: هذا ما حدثنا به أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول هذه الصحيفة: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة)، ثم يأتي بأحاديث بين كل حديث وحديث عبارة: (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهي تشتمل على مائة وأربعين حديثاً تقريباً.
وقد أوردها الإمام أحمد في مسنده، وقد طبعت هذه الصحيفة -صحيفة همام - مستقلة، والبخاري رحمه الله أخذ منها أحاديث، ومسلم أخذ منها أحاديث، واتفق البخاري ومسلم على إخراج أحاديث منها، مع أنها بإسناد واحد، وهذا يبين لنا أن البخاري ومسلماً ما التزما أن يستوعبا كل الصحيح؛ لأنهما لو استوعباه لأتوا بالصحيفة كلها من أولها إلى آخرها، وهي ثابتة عندهم، ولهذا انتقى منها مسلم أحاديث، والبخاري انتقى منها أحاديث، واتفقا في أحاديث، وانفرد كل منهما بأحاديث، ولو كانا التزما إخراج كل شيء صحيح لأتيا بهذه الصحيفة كلها من أولها إلى آخرها، وهذا مما يوضح أن البخاري ومسلماً رحمة الله عليهما إنما أتيا بجملة كبيرة من الأحاديث الصحيحة، لا أنهما قصدا استيعاب الأحاديث الصحيحة، فهما لم يلتزما بذلك، ولم يفعلا ذلك.
والبخاري وأبو داود عندما يرويان من الصحيفة يأتيان بالإسناد إلى آخره ثم يأتيان بالقطعة التي يريدانها بعد نهاية الإسناد، مع أن الحديث الذي يوردانه ليس في أوله: هذا ما حدثنا به أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه العبارة في أول الصحيفة فقط.
أما مسلم رحمة الله عليه فله عناية بالمحافظة على الألفاظ، وله طريقة خاصة، حيث يسوق الإسناد فإذا جاء عند قوله: هذا ما حدثنا به أبو هريرة عن محمد رسول الله، يقول مسلم: فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا؛ حتى يبين بأن المتن ليس تابعاً للإسناد، وإنما توجد أحاديث بين هذا المتن وهذا الإسناد، وهذا اللفظ يدل بأن هناك أشياء متروكة؛ لأن قوله: فذكر أحاديث إشارة إلى تلك الأحاديث التي جاءت بعد الإسناد، ثم يأتي بالقطعة التي يريد ذكرها، وهي محل الشاهد.(347/14)
شرح أثر عمر (ما أنا بأحق بهذا الفيء منكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء عن مالك بن أوس بن الحدثان رضي الله عنه أنه قال: ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً الفيء فقال: ما أنّا بأحق بهذا الفيء منكم، وما أحد منا بأحق به من أحد، إلا أنا على منازلنا من كتاب الله عز وجل وقسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالرجل وقدمه، والرجل وبلاؤه، والرجل وعياله، والرجل وحاجته].
أورد أبو داود هذا الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (ما أنا بأحق بهذا الفيء منكم) يعني: إنما هو لي ولكم.
(وما أحد منا أحق به من أحد) يعني: ليس أحد يختص به دون أحد، لا أنا ولا غيري، وإنما هو للجميع، ولكن التفاوت بين الناس على حسب ما جاء في كتاب الله من التفضيل والتمييز، وكذلك القسم على حسب الأحوال.
(فالرجل وقدمه) يعني: كونه له سبق في الإسلام فيقدم على غيره، ويعطى أكثر من غيره.
(والرجل وبلاؤه) يعني: كونه يبلي بلاءً حسناً في الإسلام.
(والرجل وعياله) يعني: كونه عنده عيال كثيرون يحتاج إلى أن ينفق عليهم؛ فيزاد في عطائه من أجلهم.
(والرجل وحاجته) يعني: يعطى على قدر حاجته، ومعنى هذا أنهم يتفاوتون في العطاء، ولا يكونون كلهم على حد سواء، فالشخص الذي بمفرده غير الشخص الذي عنده عشرة أولاد، فإن هذا يحتاج إلى أكثر مما يحتاج إليه هذا، وهذا يتعلق بالقسم الأول من الترجمة، وهو ما يلزم الإمام في حق الرعية، وهو أن يعطيهم ويعدل بينهم، وله تعلق بالباب الذي بعده وهو قسمة الفيء.
قوله: [ذكر عمر بن الخطاب يوماً الفيء].
الفيء هو ما يحصل للمسلمين من أموال الكفار من غير قتال وجهاد؛ لأنه إذا كان بجهاد يسمى غنيمة ويخمس، وأما الفيء فإنه لا يخمس، وإنما كله يكون في مصالح المسلمين.
قوله: [إلا أنا على منازلنا من كتاب الله عز وجل وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم].
يعني: أنهم على منازلهم في التفضيل كما قال الله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100]، وقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر:8]، ثم بعد ذلك قال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر:9]، ثم قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]، والفيء يقسم على حسب أحوال الناس من حيث العيال، ومن حيث البلاء الحسن في الإسلام، ومن حيث القدم والسبق.(347/15)
تراجم رجال إسناد أثر عمر: (ما أنا بأحق بهذا الفيء منكم)
قوله: [حدثنا النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن سلمة].
محمد بن سلمة الباهلي ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن عمرو بن عطاء].
محمد بن عمرو بن عطاء ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مالك بن أوس بن الحدثان].
مالك بن أوس بن الحدثان له رؤية، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر].
عمر رضي الله عنه أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(347/16)
قسم الفيء(347/17)
شرح حديث (بدأ بالمحررين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قسم الفيء.
حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء قال: حدثنا أبي قال: حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم: (أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما دخل على معاوية رضي الله عنه فقال: حاجتك يا أبا عبد الرحمن؟! فقال: عطاء المحررين، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أول ما جاءه شيء بدأ بالمحررين)].
أورد أبو داود (باب قسم الفيء)، أي: قسمته وتوزيعه بين الناس، وقد مر في الأثر الذي قبل هذا عن عمر أنه يكون على حسب القدم والبلاء الحسن، وعلى كثرة العيال، وعلى الحاجة، وما إلى ذلك، وهنا ذكر قسمة الفيء، وهو يقسم في مصالح الناس عموماً، ولا يختص به أحد دون أحد.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه دخل على معاوية فقال: حاجتك يا أبا عبد الرحمن؟! يعني ما هي حاجتك؟ أو ما الذي تريده؟ فقال: (عطاء المحررين، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما جاءه شيء بدأ بالمحررين).
والمحررون قيل: هم المعتقون الذين حصلت لهم الحرية بعد الرق؛ وذلك لأنهم لما كانوا أرقاء لا يعطون شيئاً؛ لأن نفقة المملوك واجبة على سيده، فيرزق سيده ويكون هو من جملة من يعول، والعطاء لسيده لا له؛ لأنه ملك لسيده، وما يملكه ملك لسيده، ولكنه إذا حرر وأعتق وكان غير مدون في الديوان -بسبب أن الديوان فيه الأحرار المنفقون على غيرهم- فإذا حصل لهم العتق فإنهم يعطون؛ لأنهم صاروا مسئولين عن أنفسهم، وقبل العتق كان غيرهم مسئولاً عنهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أول ما يعطي هؤلاء المحررين الذين كان يعولهم غيرهم ثم بعد ذلك صاروا عائلين لأنفسهم.
وعمر رضي الله عنه وأرضاه هو أول من دون الدواوين، وكتب أسماء الناس في سجلات وفي دواوين، بحيث يرجع إليها في العطاء وإثبات من أخذ ومن لم يأخذ.
وقيل: إن المقصود بالمحررين الذين يسعون في الحرية مثل المكاتبين الذين كوتبوا على أن يأتوا بمال ثم يكونوا أحراراً.
والحديث يشمل هذا وهذا؛ لأن الإعطاء من الفيء يكون لمن حصلت له الحرية وصار عائلاً لنفسه، ومن كان مكاتباً يطالب بمال من أجل أن يصل إلى الحرية، فإنه يعطى من الفيء ما يمكنه من تحرير نفسه.(347/18)
تراجم رجال إسناد حديث (بدأ بالمحررين)
قوله: [حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء].
هارون بن زيد بن أبي الزرقاء صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا هشام بن سعد].
هشام بن سعد وهو صدوق له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن زيد بن أسلم].
زيد بن أسلم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر].
عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(347/19)
شرح حديث (أتي بظبية فيها خرز فقسمها للحرة والأمة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عيسى حدثنا ابن أبي ذئب عن القاسم بن عباس عن عبد الله بن نيار عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بظبية فيها خرز فقسمها للحرة والأمة)، قالت عائشة: كان أبي رضي الله عنه يقسم للحر والعبد].
أورد أبو داود هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بظبية) المقصود بها وعاء فيه خرز.
(وقسمه على الحرة والأمة) لأن هذا مما يستعمله النساء، وإلا فإن الفيء لا يختص بالنساء، بل هو للرجال والنساء، ولكنه لما كان شيئاً من شأن النساء، ومما يختص بالنساء، قسمه بين النساء، بين الحرة والأمة؛ لأن الخرز مما يتجمل ويتزين به النساء.
قالت: (وكان أبي يقسم للحر والعبد) تعني: أنه كان يسوي بين الأحرار والعبيد، وأنه يعطي هؤلاء ويعطي هؤلاء، ويحتمل أنه كان يعطي العبيد من أجل تخليصهم من الرق.(347/20)
تراجم رجال إسناد حديث (أتي بظبية فيها خرز فقسمها للحرة والأمة)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي].
إبراهيم بن موسى الرازي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا عيسى].
عيسى بن يونس بن أبي إسحاق ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن أبي ذئب].
محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن القاسم بن عباس].
هو القاسم بن عباس بن محمد بن معتب بن أبي لهب الهاشمي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن نيار].
عبد الله بن نيار وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عروة عن عائشة].
مر ذكرهما.(347/21)
شرح حديث (أعطى الآهل حظين وأعطى العزب حظاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عبد الله بن المبارك ح وحدثنا ابن المصفى حدثنا أبو المغيرة جميعاً عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا أتاه الفيء قسمه في يومه، فأعطى الآهل حظين، وأعطى العزب حظاً، زاد ابن المصفى: فدعينا، وكنت أدعى قبل عمار رضي الله عنه، فدعيت فأعطاني حظين، وكان لي أهل، ثم دعي بعدي عمار بن ياسر فأعطى له حظاً واحداً)].
أورد أبو داود حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه الفيء قسمه في يومه، يعني: لا يؤخره، وكان عند إعطائه يميز بين الناس، فالآهل يعطيه حظين، والعزب الذي ليس عنده أهل يعطيه حظاً واحداً.
وهذا الحديث فيه أن القسمة ليست بالتساوي بين الأفراد، وهو مثل ما جاء عن عمر: الرجل وبلاؤه، الرجل وقدمه، الرجل وعياله، الرجل وحاجته.(347/22)
تراجم رجال إسناد حديث (أعطى الآهل حظين وأعطى العزب حظاً)
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن المبارك].
عبد الله بن المبارك المروزي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحدثنا ابن المصفى].
محمد بن المصفى وهو صدوق له أوهام، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا أبو المغيرة].
هو عبد القدوس بن حجاج وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[جميعاً عن صفوان بن عمرو].
صفوان بن عمرو وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير].
عبد الرحمن بن جبير بن نفير وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عوف بن مالك].
عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(347/23)
الأسئلة(347/24)
حكم السترة للمصلي
السؤال
ما حكم اتخاذ المصلي للسترة؟
الجواب
العلماء اختلفوا في حكم السترة، منهم من قال: بوجوبها، وجمهور العلماء على أنها مستحبة وليست بواجبة، ولكن ينبغي أن يصلي الإنسان إلى سترة حتى ولو كانت مستحبة.(347/25)
الإنكار في مسائل الخلاف
السؤال
القاعدة التي تكرر على الألسنة: (لا إنكار في مسائل الخلاف) هل هي صحيحة؟
الجواب
هذه القاعدة ليست صحيحة؛ لأن بعض المسائل الخلاف فيها موجود، لكن بعض الأقوال تكون مبنية على رأي، وبعضها يكون مبنياً على دليل، ولا شك أن الدليل إذا وجد فيجب على من بلغه العمل به، وقد يكون ذلك الذي لم يقل به أنه ما بلغه الحديث، أو بلغه من وجه لم يصح، فإذا ثبت أنه صحيح فلا يجوز لأحد مخالفته كما قال الإمام الشافعي: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائن من كان، فإذا كان أحد القولين ليس عليه دليل، وإنما هو مبني على قياس أو على اجتهاد، مع أن القول الثاني مبني على نص؛ فإن الأخذ بالنص متعين، وعلى من يكون عنده علم بذلك أن ينبه غيره ممن ليس عنده علم ذلك، فالتنبيه على ما ثبت في الحديث هو المطلوب وهو الذي ينبغي.
والمسائل الخلافية حصلت الأقوال فيها بسبب الاجتهاد، فإذا وجد النص فلا اجتهاد مع النص كما يقولون، لكن حيث لا نص يكون الاجتهاد، ولكن إذا وجد نص يجب الانصياع إليه والصيرورة إليه.
والمسائل التي لا نص فيها الأمر فيها واسع؛ لأنه ليس قول أحد أولى من غيره، اللهم إلا أن يكون أحد القولين قال به صحابي أو قال به جمهور الصحابة أو ما إلى ذلك من الأشياء التي يرجح بها حيث لا نص.(347/26)
حكم المماطلة
السؤال
ما حكم من اقترض مالاً للزواج ثم لم يرد هذا القرض بعدما منّ الله عليه باليسر؟
الجواب
هذا مماطل، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني ظلم)، وقال: (لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته) (يحل عرضه) يعني: بأن يقول: ظلمني وأخر علي حقي، (وعقوبته) يعني: كونه يحبس حتى يدفع أو يلتزم بالدفع.(347/27)
وجوب المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة
السؤال
هل يشترط في الغسل من الجنابة المضمضمة والاستنشاق؟
الجواب
نعم، فلا بد من المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة وكذلك في الوضوء، ومن ترك ذلك وقد صلى الفرائض وكان يجهل هذا، فليحسن في المستقبل، ولا يلزمه أن يعيد ما مضى.(347/28)
حكم قبول الهدية من الطلاب
السؤال
أنا معلم في المرحلة الابتدائية، ويهدي إلي بعض الطلاب هدايا فأمتنع من قبولها، فهل امتناعي هذا صحيح؟
الجواب
امتناعك صحيح؛ لأن المعلم موظف، وفي الحديث: (هدايا العمال غلول).(347/29)
حكم الإهداء للمدرس
السؤال
بعضهم يقول: أنا أهدي للمدرس بعدما ينتهي من تدريسي، وذلك إذا انتقلت إلى مرحلة أخرى، فما الحكم؟
الجواب
لا يصلح؛ لأن مثل هذا قد يكون له أخ أو قريب عند هذا الأستاذ فيحابيه.(347/30)
حكم إقامة شركات الأدوية ولائم للأطباء
السؤال
هناك مجموعة من الأطباء يقيمون اجتماعاً دورياً معه حفل عشاء، والعشاء تقيمه شركات الأدوية من أجل الإعلان عن أدويتها، مع العلم أنه لا يوجد إلزام للأطباء بكتابة دواء يخص شركة معينة، ولا أحد يعلم ماذا يكتب الطبيب، فما حكم الأكل من هذا العشاء؟
الجواب
هذا داخل في هدايا العمال.(347/31)
حال حديث (هدايا العمال غلول)
السؤال
يقول الأخ: (هدايا العمال غلول) رواه أحمد وأبو يعلى، قال الحافظ في الفتح: هو من رواية إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وإسماعيل في غير الشاميين مخلط، فهل هذا الحديث له إسناد صحيح؟
الجواب
صححه الألباني وذكر له شواهد.(347/32)
حكم أخذ الموظف لمال الانتداب مع عدم سفره للانتداب
السؤال
رجل يعمل في الدفاع المدني، وله رئيس أراد أن يكافئه على جده ونشاطه في العمل، فسجل له انتداباً إلى الرياض لمدة معينة، فهل يجوز له أن يأخذ هذا المال العائد كبدل انتداب مع أنه لم يذهب؟
الجواب
لا يجوز، وليس للإنسان أن يأخذ شيئاً جعل في مقابل عمل وهو لم يعمل، بل الواجب أن يأخذ إذا عمل، وأما بدون عمل فلا يجوز له ذلك، وكونه حصل منه جد وقيام بالواجب فإن ذلك ينفعه في الدنيا والآخرة، وذلك من أسباب سعادته ونجاحه في الدنيا والآخرة.(347/33)
حكم إعطاء الموظف هدية لتيسير المعاملة
السؤال
ما حكم إعطاء الموظف هدية إذا كان لن يعمل إلا بالهدية، وإلا عرقل المعاملة؟
الجواب
هذا يجب أن يفصل من العمل ويجلس في بيته، أو يبحث له عن عمل آخر، ولا يكون على طريق الناس وعلى مصالح الناس، كيف لا يعمل إلا بالهدية أو بالرشوة! فهذا جالس ليأخذ أموال الناس بالباطل، وكأن وظيفته أخذ أموال الناس بالباطل! وهذا من أسباب الابتلاء بالرشوة، فإذا رشاه شخص طمع في ذلك من جميع الناس، وهذا خائن لا يجوز أن يبقى في العمل.(347/34)
حكم الحناء للرجال
السؤال
هل يجوز للرجل أن يستعمل الحناء للحاجة؟
الجواب
إذا كان للعلاج فلا بأس، وأما أن يتجمل بالحناء في يديه فلا، فإن الحناء للنساء وليس للرجال.(347/35)
شرح سنن أبي داود [348]
النبي عليه الصلاة والسلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم في حياتهم وبعد مماتهم، وقد جاء بما فيه صلاح الناس في دينهم ودنياهم، ومن ذلك أنه كان يقضي دين من مات ولم يترك وفاءً، وكان يكفل اليتامى، وكان يقسم الأرزاق بين المسلمين مما أفاء الله عليه ومن الغنائم.(348/1)
أرزاق الذرية(348/2)
شرح حديث: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في أرزاق الذرية.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن جعفر عن أبيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في أرزاق الذرية، أي: الأولاد الصغار الذين هم غير مكتسبين، ويحتاجون إلى من ينفق عليهم، والمقصود من ذلك رزقهم من بيت المال إذا مات والدهم، ولم يخلف لهم مالاً، فإنهم يرزقون من بيت المال، وهذا هو المقصود من هذه الترجمة في هذا الباب الذي هو: كتاب الإمارة والخراج والفيء.
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من ترك مالاً فلأهله) يعني: لورثته، ولا يكون لبيت المال.
وقوله: (ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي) يعني: من ترك ديناً وليس له مال، فإنه يكون قضاؤه من بيت المال، وكذلك من ترك ضياعاً، وهذا هو محل الشاهد من إيراد الحديث في هذه الترجمة، والمقصود بالضياع: الأولاد الذين لو تركوا لضاعوا، وهم بحاجة إلى رعاية فقال: (إلي وعلي) يعني: أنه يقوم بدفع ذلك الدين من بيت المال، ويقوم بالإنفاق على الذرية من بيت المال.(348/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جعفر].
جعفر بن محمد بن علي بن الحسين وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
محمد بن علي بن الحسين وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو الصحابي الجليل أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(348/4)
شرح حديث: (من ترك مالاً فلورثته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك كلاً فإلينا)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة: (من ترك مالاً فلورثته) أي: يرثه ورثته، ولا يكون إلى بيت المال، (ومن ترك كلاً فإلينا) الكل يراد به: الدين والذرية، وقد سبق أن مر حديث في كتاب المواريث بهذا المعنى، فمن ترك ديناً وضيعة -وهم الأولاد الذين هم بحاجة إلى رعاية، ولو تركوا لضاعوا- فقضاء دينه ورزق ذريته من بيت المال.(348/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (من ترك مالاً فلورثته)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عدي بن ثابت].
عدي بن ثابت ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي حازم].
هو سلمان الأشجعي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.(348/6)
شرح حديث: (أنا أولى بكل مؤمن من نفسه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول: (أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فأيما رجل مات وترك ديناً فإلي، ومن ترك مالاً فلورثته)].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما وهو مثل الذي قبله إلا أنه ما ذكر فيه الضيعة والضياع وإنما فيه: (ومن ترك ديناً فإلي) يعني: هو الذي يسدد دينه، وهذا الحديث مختصر، وليس فيه ذكر محل الشاهد في أرزاق الذرية، والرواية السابقة التي هي من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر فيها التنصيص على الذرية.(348/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (أنا أولى بكل مؤمن من نفسه)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله مر ذكره.(348/8)
خطورة الدين
في أول الأمر كان النبي عليه الصلاة والسلام يمتنع عن الصلاة على الميت المدين، ولعل هذا بسبب عدم وجود شيء يسدد منه أو أنه كان يفعل ذلك من أجل التحذير من الدين، ومن أجل أن ينفر الناس من الدين، حتى لا يتساهلوا في أمر الدين؛ لأن الإنسان إذا عرف خطورته وعظم شأنه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من الصلاة على من عليه دين؛ يكون ذلك سبباً في نفرة الناس من التهاون بالدين، وقد جاء في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يغفر للشهيد كل شيء ثم قال: إلا الدين سارني به جبريل آنفاً)، وهذا يدلنا على خطورة الدين.
هذا، ويوجد فرق بين إلي وعلي في الحديث، فإلي يعني: أمرهم إلي والقيام بشئونهم إلي، وعلي يعني: أتحمل ما يلزمهم من المئونة.(348/9)
متى يفرض للرجل في المقاتلة؟(348/10)
شرح حديث: (أجاز ابن عمر في الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب متى يفرض للرجل في المقاتلة.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى حدثنا عبيد الله أخبرني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة: متى يفرض للرجل في المقاتلة؟ يعني: متى يكون فرضه فرض المقاتلين، ويعطى مثلما يعطى المقاتلون؟ والمقصود أن ذلك يكون إذا بلغ، فإنه يكون حكمه حكم البالغين، فإذا كان مكلفاً بالغاً فإنه يكون حكمه حكم المقاتلة، ويفرض له كما يفرض لهم؛ لأنه صار من أهل الجهاد ومن أهل القوة والقتال، وإذا كان لم يبلغ فإنه لا يكون حكمه حكم المقاتلين.
أورد أبو داود حديث ابن عمر: (أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكان ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، وعرض عليه يوم الخندق وعمره خمس عشرة سنة فأجازه) يعني: اعتبره من جملة المجاهدين الذين يمكنون من القتال، ويكون لهم نصيب من الغنيمة على حسب أحوالهم، بالنسبة للفارس وبالنسبة للراجل.
وفي هذا الحديث حذف بعض السنة؛ لأن غزوة أحد كانت سنة (3)، وغزوة الخندق كانت سنة (5) من الهجرة.
وفي هذا الحديث دليل على أن البلوغ يكون بخمس عشرة سنة، وقد يكون قبل ذلك إذا وجد الاحتلام من الذكر أو الأنثى، أو وجد الحيض من الأنثى، وكذلك أيضاً إذا نبت الشعر الخشن حول القبل كما جاء في قصة بني قريظة وقتل من كان أنبت دون من لم يكن أنبت، ولكن إذا لم يحصل شيء من هذا قبل بلوغ خمس عشرة سنة، فإنه يكون بالغاً بمرور هذه المدة من الزمن.(348/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (أجاز ابن عمر في الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى].
أحمد بن حنبل مر ذكره، ويحيى هو ابن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبيد الله].
عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر العمري المصغر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني نافع].
نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(348/12)
كراهية الافتراض في آخر الزمان(348/13)
شرح حديث: (خذوا العطاء ما كان عطاء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كراهية الافتراض في آخر الزمان.
حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثنا سليم بن مطير شيخ من أهل وادي القرى قال: (حدثني أبي مطير: أنه خرج حاجاً حتى إذا كان بالسويداء إذا أنا برجل قد جاء كأنه يطلب دواءً وحضضاً، فقال: أخبرني من سمع رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع وهو يعظ الناس ويأمرهم وينهاهم، فقال: يا أيها الناس! خذوا العطاء ما كان عطاءً، فإذا تجاحفت قريش على الملك، وكان عن دين أحدكم فدعوه)].
أورد أبو داود (باب كراهية الافتراض في آخر الزمان) يعني: أخذ ما يفرض من العطاء، ولما ذكر فيما مضى الأخذ من العطاء وأنه يكون لمن جاء في الأحاديث، ذكر هذه الترجمة في الترك وعدم الأخذ من العطاء، فقال: كراهية الافتراض في آخر الزمان، والمقصود من ذلك إذا كان أخذ العطاء يترتب عليه مضرة على الإنسان في دينه، ويكون رشوة على أمر يتعلق بالدين بحيث يتنازل أو يقدم على شيء محرم لا يسوغ من أجل العطاء، فإذا كان ذلك فعلى الإنسان أن يمتنع من أخذه، هذا هو المقصود من الترجمة.
قوله: [أخبرني من سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع وهو يعظ الناس ويأمرهم وينهاهم فقال: (يا أيها الناس! خذوا العطاء ما كان عطاءً)].
هذا من جملة ما كان يعظ النبي صلى الله عليه وسلم ويذكر به في حجة الوداع.
وقوله: (ما كان عطاءً) يعني: ما دام أنه على وجه لا محذور فيه، يعني: كما كان يؤخذ فيما مضى.
قوله: [(فإذا تجاحفت قريش على الملك وكان عن دين أحدكم فدعوه)].
يعني: إذا حصل الاختلاف والتنازع على الملك وتحصيله، (وكان -أي: العطاء- على دين أحدكم فدعوه) يعني: إذا كان العطاء في مقابل الدين أو في مقابل التهاون في أي شيء من أمر الدين، أو كون الإنسان يتنازل عن شيء واجب عليه من أجل هذا المال الذي أعطي إياه؛ فعند ذلك يترك، ولا يجوز الإقدام عليه وأخذه.
وهذا الحديث ضعيف غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه ثلاث علل: فيه رجل لين الحديث، ورجل مجهول الحال، ورجل مبهم لا يعرف.
قوله: [حدثنا سليم بن مطير شيخ من أهل وادي القرى].
يعني: شيخ من أهل وادي القرى، ووادي القرى بين المدينة والشام من جهة الشمال.
قوله: [حدثني أبي مطير أنه خرج حاجاً حتى إذا كان بالسويداء: إذ أنا برجل قد جاء].
أبوه هو مطير، فـ مطير بدل من أبي، وقوله: بالسويداء هو موضع.
قوله: [إذا أنا برجل قد جاء كأنه يطلب دواءً وحضضاً].
الحضض هو: نوع من الدواء، وهذا الرجل هو المبهم الذي حدث عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم.(348/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (خذوا العطاء ما كان عطاء)
قوله: [حدثنا أحمد بن أبي الحواري].
أحمد بن أبي الحواري ثقة، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثنا سليم بن مطير].
سليم بن مطير لين الحديث، أخرج له أبو داود.
[حدثني أبي مطير].
مطير بن سليم وهو مجهول الحال، أخرج له أبو داود.
[عن رجل أنه سمع].
هذا رجل غير معروف.
[أخبرني من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم].
هذا صحابي غير معروف، وقد جاء في بعض الروايات أنه يقال له: ذو الزوائد، ولا يعرف اسمه.(348/15)
متابعة محمد بن يسار لأحمد بن أبي الحواري
[قال أبو داود: ورواه ابن المبارك عن محمد بن يسار عن سليم بن مطير].
ابن المبارك هو: عبد الله بن المبارك ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ومحمد بن يسار صدوق، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد والنسائي، وأبو داود لم يخرج له، وهنا ذكره في إسناد معلق وليس في حديث متصل.
وسليم بن مطير مر ذكره.(348/16)
شرح حديث: (إذا تجاحفت قريش على الملك فيما بينها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هشام بن عمار حدثنا سليم بن مطير من أهل وادي القرى عن أبيه أنه حدثه قال: سمعت رجلاً يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع فأمر الناس ونهاهم ثم قال: (اللهم هل بلغت؟ قالوا: اللهم نعم، ثم قال: إذا تجاحفت قريش على الملك فيما بينها، وعاد العطاء -أو كان- رشاً فدعوه)، فقيل: من هذا؟ قالوا: هذا ذو الزوائد صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورضي الله عنه].
هذا الطريق فيه تسمية الصحابي الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وهو ذو الزوائد، ولا يعرف اسمه، وإنما يعرف بهذا اللقب، وحديثه أخرجه أبو داود.
قوله: (إذا تجاحفت قريش على الملك فيما بينها وعاد العطاء أو كان رشاً فدعوه) هذا مثل الذي قبله: (خذ العطاء ما كان عطاءً فإذا كان على دين أحدكم فدعوه) يعني: إذا كان العطاء من أجل التنازل عن شيء من أمر الدين بأن يوافق الإنسان على أمر لا يسوغ، فعليه أن يترك هذا العطاء؛ لأنه يكون رشاً: جمع رشوة، وذلك إذا صار في مقابل كون الإنسان يأتي بشيء يخل بدينه بأن يوافق على أمر باطل أو يحسن أمراً باطلاً أو ما إلى ذلك مما فيه نقص في دين الإنسان.(348/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا تجاحفت قريش على الملك فيما بينها)
قوله: [حدثنا هشام بن عمار].
هشام بن عمار صدوق، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا سليم بن مطير عن أبيه قال: سمعت رجلاً يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم].
سليم بن مطير عن أبيه مر ذكرهما.
وقال هنا: سمعت رجلاً، وفي الرواية السابقة قال: سمعت رجلاً يحدث عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم.(348/18)
تدوين العطاء(348/19)
شرح حديث: (إعقاب بعض الغزية بعضاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في تدوين العطاء.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم -يعني ابن سعد - حدثنا ابن شهاب عن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري أن جيشاً من الأنصار كانوا بأرض فارس مع أميرهم، وكان عمر رضي الله عنه يعقب الجيوش في كل عام، فشغل عنهم عمر، فلما مر الأجل قفل أهل ذلك الثغر، فاشتد عليهم وتواعدهم وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا عمر! إنك غفلت عنا وتركت فينا الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إعقاب بعض الغزية بعضاً].
أورد أبو داود (باب في تدوين العطاء) يعني: أن أهل الأعطيات الذين يعطون من الفيء يكتبون ويسجلون في ديوان حتى يعرف كل واحد منهم واستحقاقه، ووصوله إليه أو عدم وصوله إليه، وهذا إنما يتأتى بالكتابة والتدوين، وعمر رضي الله عنه هو أول من دون الدواوين، وذلك أنه في زمانه رضي الله عنه كثرت الفتوحات وكثر الغزو، واتسعت رقعة البلاد الإسلامية، وكثر المجاهدون، فصار الأمر يحتاج إلى التدوين حتى يعرف الجيوش، ومن يرسل، ومن يؤخر، ومن يقدم.
أورد أبو داود حديث جماعة من الأنصار أنهم كانوا في زمان عمر على ثغر من الثغور، وكان يعقب الجيوش بمعنى أنهم يجلسون مدة ثم يرسل أناساً مثلهم يقومون مقامهم ويعود الأولون، فكان من عمر رضي الله عنه أن غفل أن يرسل أناساً مكانهم، وانتهى الأجل ولم يرسل إليهم أحداً، فجاءوا وتركوا المكان فغضب عليهم عمر وتوعدهم وهم من الصحابة، فقالوا: إنك غفلت عنا وتركت الذي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في إعقاب الجيوش، والمدة التي خصصت لنا قد أكملناها، ولم يأت الذين يخلفوننا ويقومون مقامنا؛ فرجعنا.
ووجه إيراد الحديث في الترجمة أن هذا إنما يعرف عن طريق الديوان، يعني: كونه يذهب أناس ويأتي أناس، فهذا معناه أنهم مسجلون ومدونون، فهؤلاء لهم هذه النوبة ويجلسون كذا شهر، ثم يأتي مكانهم غيرهم ويبقون لمدة كذا شهر، فهذا هو وجه إيراد الحديث في الترجمة من جهة تدوين العطاء.
وقوله: وتواعدهم أي: هددهم ووبخهم.
والثغر هو المكان الذي يكون على حدود بلاد المسلمين، ويكون فيه أناس يرابطون ويسدون ذلك الثغر حتى لا يتسلل الأعداء إلى بلاد المسلمين، فيكونون مرابطين في تلك الثغور يدافعون ويحمون بلاد المسلمين من أن يتسلل إليها أعداؤهم.(348/20)
تراجم رجال إسناد حديث: (إعقاب بعض الغزية بعضاً)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إبراهيم -يعني ابن سعد -].
إبراهيم بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن شهاب عن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري].
ابن شهاب مر ذكره، وعبد الله بن كعب بن مالك ثقة، ويقال: له رؤية، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم].(348/21)
شرح أثر كيفية قسمة عمر للفيء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمود بن خالد حدثنا محمد بن عائذ حدثنا الوليد حدثنا عيسى بن يونس حدثني فيما حدثه ابن لـ عدي بن عدي الكندي أن عمر بن عبد العزيز كتب: أن من سأل عن مواضع الفيء فهو ما حكم فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فرآه المؤمنون عدلاً موافقاً لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه)، فرض الأعطية للمسلمين، وعقد لأهل الأديان ذمة بما فرض عليهم من الجزية، لم يضرب فيها بخمس ولا مغنم].
أورد أبو داود هذا الأثر عن عمر بن عبد العزيز يحكي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقال: من سأل عن مواضع الفيء يعني: المصاريف التي يصرف فيها.
فإنه كما حكم به عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فرآه المؤمنون عدلاً موافقاً لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي: من سأل عن مواضع الفيء فجوابه أنه ما حكم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه، (فرآه المؤمنون عدلاً) يعني: هذا الذي حصل من عمر هو عدل من عمر، وهو موافق لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه) فهذا الذي حصل من عمر رضي الله عنه فيه سداد وتوفيق وإلهام، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أحد من أمتي فإنه عمر).
ومعلوم أن عمر رضي الله عنه وأرضاه حصل منه أمور عديدة يقال لها: موافقات عمر، وهي أنه يشير على النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر فينزل القرآن مطابقاً لما أشار به، ومن ذلك: اتخاذ مقام إبراهيم مصلى، وكذلك حجب نسائه صلى الله عليه وسلم، وكذلك عدم أخذ الفدية من أسارى بدر، وهي أمور متعددة حصل فيها موافقته للصواب، بحيث يشير على النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر فينزل الوحي مطابقاً لما أشار به عمر.
وكذلك أيضاً بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فإنه يرى الرأي ويجتهد الاجتهاد الذي يكون مطابقاً للحق، ومطابقاً لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة ذلك أنه لما ذهب إلى الشام في زمن خلافته، وكان الطاعون قد وقع في الشام، ففي أثناء الطريق لقيه أبو عبيدة وأمراء الأجناد، فقال له بعضهم: يا أمير المؤمنين! إن الطاعون وقع في الشام فلا تدخل بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطاعون فتعرضهم للفناء والموت، وبعضهم قال: ادخل ولا تفر من قدر الله، فكان من عمر رضي الله عنه أن طلب المهاجرين فجاءوا واستشارهم وانقسموا قسمين: بعضهم يقول: ادخل، وبعضهم يقول: لا تدخل، وارجع، ثم طلب الأنصار واستشارهم وانقسموا قسمين، بعضهم يقول: ارجع، وبعضهم يقول: لا ترجع، ثم اجتهد ورأى أن يرجع وقال: إني مصبح على ظهر يعني: إذا أصبحت فسأركب بعيري وأرجع إلى المدينة، وكان أبو عبيدة رضي الله عنه من الذين يرون الدخول وعدم الرجوع فقال له: أتفر من قدر الله يا أمير المؤمنين؟! فقال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نفر من قدر الله إلى قدر الله.
وكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه معهم ولكنه كان غائباً في حاجة، ولما رجع وعلم بالذي حصل قال: عندي علم فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا وقع الطاعون وأنتم في بلد فلا تخرجوا فراراً منه، وإذا وقع وأنتم لستم فيه فلا تدخلوا عليه)، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فسر؛ لأن اجتهاده وقع مطابقاً لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا الذي قاله عمر بن عبد العزيز رحمه الله عليه هو متفق مع ما جاء في الحديث الصحيح: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أحد من أمتي فإنه عمر)، وهذه النصوص التي ذكرتها هي شواهد على تسديده وإلهامه، وأن الحق يجري على لسانه وقلبه، ولكن هذا لا يعني أن كل مسألة يكون فيها خلاف فإن الحق يكون مع عمر، فقد يكون خلاف بينه وبين غيره ويكون الحق مع غيره، وذلك مثل مسألة الجد والإخوة، فـ أبو بكر رضي الله عنه يرى أن الجد يحجب الإخوة، وعمر يرى أنه يشارك الإخوة، وقول أبي بكر رضي الله عنه هو الأوضح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)، ومعلوم أن الجد في جهة الأصول، والإخوة في جهة الحواشي، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (وما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)، فإذا أخذ أصحاب الفروض فروضهم فمعنى ذلك أن الجد هو الأولى، وأن الإخوة لا يشاركونه، وهذا هو الذي يدل عليه هذا الدليل، ولكن كما هو معلوم فإن كثيراً من المسائل يكون الحق فيها مع عمر، ولكن لا يعني ذلك أن كل مسألة خلافية يكون الحق فيها مع عمر دون القول الآخر الذي يقابله.
وهذا الذي فعله عمر من وضع الأعطيات على الوضع الذي رآه هو عدل مطابق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الحق يجري على لسان عمر) فهذا الذي فعله قد سدد فيه وألهم ووفق.
قوله: [فرض الأعطية للمسلمين، وعقد لأهل الأديان ذمة بما فرض عليهم من الجزية].
فرض الأعطية للمسلمين وكان ذلك بتدوين دواوين، ليعرف من أعطي ومن لم يعط، وكل الناس عند التوزيع يرجعون إلى هذه السجلات التي فيها أصحاب هذه الأعطيات.
وعقد لأهل الأديان ذمة بما فرض عليهم من الجزية، أي: أنهم يبقون في ذمة المسلمين، ويؤدون الجزية التي أوجبها الله تعالى عليهم.
قوله: [لم يضرب فيها بخمس ولا مغنم] أي: الجزية لم يضرب فيها بخمس ولا مغنم، وإنما هي كلها في مصالح المسلمين، لا تخمس، ولا تكون غنيمة، وإنما هي مال أفاءه الله عز وجل على المسلمين، فيكون في مصالحهم عموماً.(348/22)
تراجم رجال إسناد أثر كيفية قسمة عمر للفيء
قوله: [حدثنا محمود بن خالد].
محمود بن خالد الدمشقي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا محمد بن عائذ].
محمد بن عائذ وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا الوليد].
الوليد بن مسلم الدمشقي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عيسى بن يونس].
عيسى بن يونس بن أبي إسحاق وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني ابن لـ عدي بن عدي الكندي].
ابن لـ عدي بن عدي الكندي مبهم غير معروف، أخرج له أبو داود.
[عن عمر بن عبد العزيز].
عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه ورحمه، وهو الخليفة المعروف المشهور، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر].
عمر تقدم ذكره.
وهذا السند فيه انقطاع؛ لأن عمر بن عبد العزيز ما أدرك عمر، فالحديث ضعيف، فيه علة الانقطاع، وفيه علة الإبهام في الابن الذي ذكر في الإسناد.(348/23)
شرح حديث: (إن الله وضع الحق على لسان عمر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا محمد بن إسحاق عن مكحول عن غضيف بن الحارث عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن الله تعالى وضع الحق على لسان عمر يقول به)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به) يعني: يقول بالحق، وهو مثل قوله: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون)، وهذا يدل على أن الذي فعله حق، والناس حمدوا ذلك فيه، وأقروه عليه، واعتبروا ذلك من محاسنه، ومن أعماله المجيدة، حيث دون الدواوين، وفرض للناس العطاء، ويعطي الرجل وقدمه، والرجل وعياله، والرجل وبلاؤه.(348/24)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن الله وضع الحق على لسان عمر)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
زهير بن معاوية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن مكحول].
مكحول الشامي وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن غضيف بن الحارث].
غضيف بن الحارث مختلف في صحبته، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي ذر].
هو جندب بن جنادة رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(348/25)
الأسئلة(348/26)
مناسبة أثر إعقاب عمر للجيوش لباب تدوين العطاء
السؤال
لم أفهم مناسبة الحديث الأول للباب: كان عمر يعقب الجيوش في كل عام، والباب هو في تدوين العطاء؟!
الجواب
أنا ذكرت أن محل الشاهد هو كون عمر رضي الله عنه يناوب بين الجيوش في المرابطة، وهذا لا يكون إلا عن طريق التدوين، ومعلوم أن هؤلاء المرابطون لهم أعطيات.(348/27)
عدم إتمام الصفوف الأولى في صلاة الجنازة
السؤال
هل يجوز أن تصلى صلاة الجنازة في مكان الدرس مع أن الصفوف الأمامية فارغة؟
الجواب
إذا كان الذهاب إلى الصفوف الأولى سيؤدي إلى فوات الصلاة فلا بأس، ولكن إذا أمكن إتمام الصفوف الأولى، وكان المكان قريباً، ولا يفوت التقدم أكثر الصلاة فإنه يتقدم إليها، والصفوف ينبغي أن تتصل في الجنازة وغير الجنازة.(348/28)
حكم الأناشيد الإسلامية
السؤال
هل يجوز الاستماع إلى الأناشيد التي تحث على الجهاد في فلسطين، علماً بأن هذه الأناشيد من غير دف بل هي أبيات شعرية بصوت الرجال؟
الجواب
الأناشيد التي يكون فيها اهتمام وعناية بالأصوات، وعشق للأصوات -لاسيما إذا كانت عن طريق مجموعة- فإن الاشتغال بذلك لا فائدة من ورائه، والاشتغال بما في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي فيها ذكر الجهاد وذكر ما يجب أن يكون عليه المسلمون تغني وتكفي عن الاشتغال بمثل هذه الأناشيد الجديدة التي حدثت في هذا الزمان، والتي فتن بها كثير من الناس في هذا الزمان.(348/29)
حكم الجهاد في فلسطين
السؤال
هل يجوز أن نذهب لنجاهد في فلسطين؟
الجواب
كما هو معلوم أن الجهاد الآن في فلسطين إنما هو دفاع عن النفس، والذي يحصل في فلسطين من النكاية بالمسلمين وإزهاق نفوس المسلمين والإضرار بالمسلمين أعظم مما يكون بالنسبة لليهود، (ولكل امرئ ما نوى).(348/30)
الدعاء يرد القدر
السؤال
هل الدعاء يغير المكتوب؟
الجواب
الله تعالى هو الذي يعلم ما كتبه في اللوح المحفوظ، والقدر سر الله عز وجل ولا يعلمه الناس، وما يعرف الإنسان ماذا قدر له وماذا كتب له، ولكنه مأمور بأن يعمل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، لكن جاء في الحديث: (لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)، وليس معنى ذلك أن المكتوب يغير ويبدل، وإنما المقصود أن الله عز وجل قدر السبب والمسبب، فقدر شيئاً يحصل بوجود شيء، فقدر أن من أسباب دفع الضرر والسلامة من الضرر الدعاء، وأن من أسباب طول العمر البر، وليس معنى ذلك أن الإنسان يكتب عمره ثم لما بر غُيِّر عمره وزيد في عمره، وقبل ذلك كان مكتوباً أقل من ذلك، فالعمر المقدر واحد، لكن الله تعالى شاء أن يكون عمره طويلاً، وأن يكون من أسبابه البر، وليس معنى ذلك أن عمره كان أربعين سنة، ولكنه لما بر غُيِّر وصار ستين أو سبعين، فالمكتوب لا يغير، والعمر مقدر ومحدد، وسبق به القضاء والقدر، ولكن الله تعالى شاء أن يكون هذا عمره طويلاً لذلك السبب الذي هو البر.(348/31)
الإلحاح في الدعاء
السؤال
هل الدعاء بإلحاح من أسباب الاستجابة؟
الجواب
لا شك أن من أسباب قبول الدعاء كون الإنسان يلح في الدعاء، ولا يستبطئ الإجابة، ولا يقول: دعوت ودعوت فلم يستجب لي، وإنما يكثر من الدعاء، ويستمر في الدعاء، ولا يترك الدعاء من أجل أنه ما حصل له ما يريد.(348/32)
المسجد الذي أسس على التقوى
السؤال
ما المسجد الذي أسس على التقوى قباء أو المسجد النبوي؟
الجواب
كل منهما أسس على التقوى، أما مسجد قباء فقد جاء ذلك في القرآن، وأما مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء ذلك في السنة، فكل منهما متصف بهذا الوصف، وكل منهما أسس على التقوى من أول يوم، ونظير هذا قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، فإن هذه الآية جاءت في سياق الكلام مع أمهات المؤمنين، فهن داخلات فيها بنص القرآن، وقد جاء في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما نزلت الآية جمع علياً وفاطمة والحسن والحسين وجعل عليهم كساء وقال: هؤلاء أهلي)، فهؤلاء من أهله وممن يدخل في هذه الآية كما جاء في السنة، وأمهات المؤمنين جاء في القرآن كونهن من أهل بيته الذين يريد الله أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيراً، وهذا مثل قصة مسجد قباء ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، يعني ذكر قباء جاء في القرآن، وذكر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جاء في السنة، وأمهات المؤمنين جاء دخولهن في أهل البيت في القرآن، وجاء في السنة أنهم علي وفاطمة والحسن والحسين، ولا يعني ذلك أنهم كل أهل بيته، وإنما هم من أخص أهل بيته، ومن أولى أهل بيته بالدخول في الآية، لا أن أهل بيته هم وحدهم فقط، فإن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم كثيرون، وهم كل من كان مسلماً من أولاد عبد المطلب، فأعمامه المسلمون وبنو أعمامه وبنات أعمامه كل هؤلاء من أهل بيته صلى الله عليه وسلم.(348/33)
وجوب الصدق في الوظيفة
السؤال
أنا موظف حكومي أحاول أن أصدق دائماً في كتابة وقت حضور الدوام والانصراف، وهذا سبب لي حرج مع الزملاء والمدير في العمل، ونقلت إلى مكان يبعد ثلاثين كيلو متر عن العمل الأول، فهل أساير المدير والزملاء في كتابة الوقت حتى لا أتضرر، لا سيما وأني إذا بقيت في المكان الذي أنا بعيد فيه أحرم من درس الحديث؟
الجواب
الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً)، وكون الإنسان يصدق ويلتزم بالصدق فإن ذلك من أسباب ظفره بما يريد من خير الدنيا والآخرة.(348/34)
حكم الإنصات وقت خطبة الجمعة لمن كان يمشي إلى المسجد
السؤال
إذا بدأ الخطيب بخطبة الجمعة وكان الرجل يمشي في الطريق إلى المسجد، فهل يجب عليه الإنصات؟
الجواب
لا يجب عليه الإنصات؛ لأنه غير موجود في المسجد وإنما هو في الطريق، ويمكنه في الطريق أن يتحدث مع غيره، لكن إذا دخل في الساحات فقد دخل في المسجد فليس له أن يتكلم.(348/35)
على الولاة قضاء ديون الموتى
السؤال
قوله صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه دين فعلي)، هل هذا الحكم باقٍ إلى الآن على ولاة الأمر؟
الجواب
نعم الحكم باق، وذلك في الدين الذي استدانه الإنسان في مباح أو لأمر يقتضيه، أما إذا كان الإنسان متلاعباً أو عنده إقدام على أشياء من غير ضرورة، فهذا قد يكون من الحكمة ألا يتحمل عليه شيء؛ لأن الإنسان إذا عرف أنه سيسدد عنه قد لا يبالي بالدين، ولكن إذا كان استدان لحاجة عياله أو ما إلى ذلك، فإنه يسدد عنه.(348/36)
حكم من أعطي هدية على العمل الدعوي
السؤال
من أعطي هدية مقابل ما يقوم به من عمل دعوي، هل تعتبر من هدايا العمال؟
الجواب
إذا كان صاحب وظيفة فهو من العمال، وإذا كان غير موظف فهو ليس من العمال، ولكن كونه يدعو الناس، ولا يأخذ شيئاً منهم إذا أعطوه، فلا شك أن هذا هو الذي ينبغي، وإن أخذ شيئاً فلا بأس، فهو لا يعتبر موظفاً وليس بيده شيء يمكن أن يحابي وأن يقدم ويؤخر.(348/37)
أيهما أفضل الصلاة في مسجد قريب من المسجد النبوي من أول ركعة أم الصلاة في المسجد النبوي مع فوات بعض الركعات
السؤال
أيهما أفضل: من أدرك الصلاة من أولها في مسجد حيه أو من يأتي إلى المسجد النبوي ولو فاتته بعض الركعات؟
الجواب
الأفضل أن يأتي مبكراً للمسجد النبوي ولا يفوته شيء، هذا هو الأفضل، وإذا ما أمكن هذا فإنه يصلي في مسجد حيه حتى يدرك الصلاة من أولها.(348/38)
حكم التعداد السكاني
السؤال
ما حكم التعداد السكاني؟ وهل يستدل على جوازه بكتابة عمر للدواوين؟
الجواب
كتابة الدواوين هو لحصر أصحاب الأعطيات، وليس من باب تعداد السكان، لكن لا بأس بالتعداد السكاني من أجل مصلحة أو من أجل فائدة، وقد جاء في حديث صححه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة: (أحصوا علي كل نفس مؤمنة).(348/39)
أثر: (ما من مسلم إلا وهو على ثغر من ثغور الإسلام)
السؤال
( ما من مسلم إلا وهو على ثغر من ثغور الإسلام، فإياك إياك أن يؤتى الإسلام من قبلك) هل هذا حديث؟
الجواب
هذا أثر عن بعض السلف، وأظنه عن الزهري أو غيره، وهو موجود في كتاب السنة لـ محمد بن نصر المروزي.(348/40)
الإثابة على الهدية
السؤال
من كان يعمل عملاً دعوياً وأعطي هدية، هل الأفضل أن يأخذ الهدية ويكافئ عليها أو يردها، وقد يترتب على الرد ما يترتب؟
الجواب
كونه يأخذها ويكافئ عليها أحسن، ولكن هذا إذا كان غير موظف يستطيع أن يقدم ويؤخر، وإنما إذا كان محتسباً أو موظفاً لا يقدم ولا يؤخر.(348/41)
حكم رفع اليدين عند قيام المؤتم لقضاء ما فاته من الصلاة
السؤال
من فاتته ركعة من الصلاة وقام لإتمامها، هل يرفع يديه بعد القيام من التشهد؟
الجواب
لا يرفع يديه، ويقوم بتكبير بلا رفع لليدين.(348/42)
ذكر دعاء دخول المسجد من أبواب الساحات
السؤال
هل يذكر الإنسان دعاء الدخول إلى المسجد النبوي إذا دخل من الأبواب التي في الساحات؟
الجواب
نعم؛ لأن الساحات الآن من المسجد.(348/43)
قول عمر يا سارية الجبل
السؤال
ما حقيقة قول عمر رضي الله عنه على المنبر: يا سارية! الجبل؟
الجواب
هذا يعتبر من الكرامات لـ عمر رضي الله عنه إذا كان قد ثبت، وأن الله تعالى كشف له ذلك حال لقاء المجاهدين العدو، فأمرهم أن ينحازوا إلى الجبل، وكان ذلك في صالحهم، لكن لا أدري ما صحته.(348/44)
شرح سنن أبي داود [349]
الأنفال لله ورسوله يحكمان فيها بما شاء الله ورسوله، وقد أحل الله لرسوله من الغنائم أن يصطفي لنفسه منها شيئاً، وقد نقل العلماء ما اصطفاه رسول الله عليه الصلاة والسلام لنفسه من الأموال، وقد بين أن ما يتركه صدقة، وأنه لا يورث كما يورث غيره.(349/1)
صفايا رسول الله من الأموال(349/2)
شرح حديث: (لا نورث ما تركنا صدقة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في صفايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأموال.
حدثنا الحسن بن علي ومحمد بن يحيى بن فارس المعنى قالا: حدثنا بشر بن عمر الزهراني قال: حدثني مالك بن أنس عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان رضي الله عنه قال: أرسل إلي عمر رضي الله عنه حين تعالى النهار فجئته فوجدته جالساً على سرير مفضياً إلى رماله، فقال حين دخلت عليه: يا مال! إنه قد دف أهل أبيات من قومك، وإني قد أمرت فيهم بشيء فاقسم فيهم قلت: لو أمرت غيري بذلك فقال: خذه، فجاءه يرفأ، فقال: يا أمير المؤمنين! هل لك في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم؟ قال: نعم، فأذن لهم فدخلوا، ثم جاءه يرفأ فقال: يا أمير المؤمنين! هل لك في العباس وعلي رضي الله عنهما؟ قال: نعم، فأذن لهم فدخلوا، قال العباس: يا أمير المؤمنين! اقض بيني وبين هذا -يعني علياً - فقال بعضهم: أجل يا أمير المؤمنين! اقض بينهما وأرحهما.
قال مالك بن أوس: خيل إلي أنهما قدما أولئك النفر لذلك، فقال عمر رحمه الله: اتئدا، ثم أقبل على أولئك الرهط فقال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا نورث ما تركنا صدقة)؟ قالوا: نعم.
ثم أقبل على علي وعباس رضي الله عنهما فقال: أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا نورث ما تركنا صدقة)؟ فقالا: نعم.
قال: فإن الله خص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخاصة لم يخص بها أحداً من الناس، فقال الله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر:6]، وكان الله أفاء على رسوله بني النضير، فوالله ما استأثر بها عليكم ولا أخذها دونكم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ منها نفقة سنة أو نفقته ونفقة أهله سنة، ويجعل ما بقي أسوة المال.
ثم أقبل على أولئك الرهط فقال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون ذلك؟ قالوا: نعم، ثم أقبل على العباس وعلي رضي الله عنهما فقال: أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمان ذلك؟ قالا: نعم.
فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجئت أنت وهذا إلى أبي بكر تطلب أنت ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر رحمه الله: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا نورث ما تركنا صدقة)، والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق، فوليها أبو بكر، فلما توفي أبو بكر قلت: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وولي أبي بكر فوليتها ما شاء الله أن أليها، فجئت أنت وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد فسألتمانيها فقلت: إن شئتما أن أدفعها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تلياها بالذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يليها فأخذتماها مني على ذلك، ثم جئتماني لأقضي بينكما بغير ذلك، والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنها فرداها إلي.
قال أبو داود: إنما سألاه أن يكون يصيره بينهما نصفين، لا أنهما جهلا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا نورث ما تركنا صدقة)، فإنهما كانا لا يطلبان إلا الصواب، فقال عمر: لا أوقع عليه اسم القسم، أدعه على ما هو عليه].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأموال، يريد أبو داود رحمه الله من هذه الترجمة ما اصطفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبقاه دون أن يقسم من الأموال، وذلك في الأموال الثابتة التي يستغل ريعها مع بقاء أصلها، وهي الأراضي.
وكل ما أورده أبو داود هنا يتعلق بشيء ثابت، وقوله: من الأموال، يريد به هذا المعنى، وهناك اصطفاء في غير الأموال بغير هذا المعنى، وهو الاصطفاء في السبي، كما حصل لـ صفية رضي الله تعالى عنها حيث اصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، ولكن الترجمة هنا يراد بها ما يتعلق بالأموال، والمقصود من ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أبقاه دون أن يقسم ودون أن يباع، وإنما يستفاد من ثمنه مع بقاء أصله، بحيث يستفاد من غلته ومن ثمرته، وليس معنى ذلك أنه خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه بمثابة المال الذي يملكه، فإن المقصود من ذلك أنه أبقاه لينفق على نفسه منه وعلى أهل بيته، وما يبقى يكون في مصالح المسلمين، والمقصود بكونه من الصفايا أنه بقي واستفيد منه بصفة مستمرة، ولم يقسم ويوزع بين الناس، ولم يبع ويتصرف في قيمته، وإنما بقيت أصوله ويستفاد من غلته وثمرته على مر السنين.
أورد أبو داود حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فيما يتعلق بما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم من أرض بني النضير، وهي مما أفاؤه الله على رسوله من غير قتال كما قال الله عز وجل: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر:6]، وهذه الأموال أبقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق منها على أهله قوت سنة، وذلك القوت كان ينتهي في وقت قريب؛ لكثرة بذله صلى الله عليه وسلم وجوده وإحسانه، فلا يبقى في بيته شيء مما كان يدخره لمدة السنة؛ لأنه كان ينتهي قبل ذلك؛ لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجود والكرم والبذل والإحسان صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وما بقي بعد ذلك ينفقه في مصالح المسلمين.
أورد أبو داود هذا الحديث الطويل الذي فيه أن مالك بن أوس بن الحدثان دعاه عمر رضي الله عنه ليأتي إليه وذلك بعدما ارتفع النهار، فجاء إليه وقال: إنه دفت دافة من قومك، وإني قد أمرت لهم بشيء فأعطهم إياه ووزعه عليهم، والمقصود بالدافة: الذين جاءوا يدفون مسرعين يريدون الإحسان والعطاء لما حصل لهم من فقر وحاجة، فطلب مالك بن أوس أن يعفيه من ذلك، حتى لا يتحمل الأمانة، فقال: خذه، وليس فيه أنه أعفاه، وإنما أمره بأخذه، والذي يظهر أنه هو الذي تولى ذلك؛ لأنه ما جاء شيء يفيد بأن عمر اختار غيره وأسنده إلى غيره.
ويرفأ هو الذي كان على الباب يخبر بمن يستأذن فقال: هل لك -يا أمير المؤمنين- في عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد، وهم من العشرة المبشرين بالجنة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فدخلوا عليه، ثم بعد ذلك جاء يخبره عن علي والعباس رضي الله عنهما وأنهما يستأذنان، فدخلا عليه، وكانت بينهما خصومة، فقال العباس: يا أمير المؤمنين! اقض بيني وبين هذا يعني: علياً رضي الله تعالى عنه وأرضاه، والذين جاءوا من قبل قالوا: اقض بينهما وأرحهما يا أمير المؤمنين! قال مالك: فيخيل لي أنهما قدموهم ليكونوا عوناً لهم على أن يحقق عمر رضي الله عنه الذي يريده علي والعباس؛ لأنهم قالوا: اقض بينهما وأرحهما.
فقال عمر: ائتدا يعني: تمهلا وانتظرا، فقبل أن يذكر الجواب فيما طلبا أراد أن يمهد لذلك، وأن يبين ما حصل فيما مضى فيما بينه وبينهما.(349/3)
الأنبياء لا يورثون
قوله: [ثم أقبل على أولئك الرهط فقال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا نورث ما تركنا صدقة)؟ قالوا: نعم.
].
أي: أقبل عمر رضي الله عنه على هؤلاء الرهط الأربعة الذين هم: عثمان وعبد الرحمن وسعد والزبير رضي الله تعالى عنهم، فقال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنا لا نورث ما تركنا صدقة)؟ قالوا: نعم.
وهذا الحديث يدل على أن الأنبياء لا يورثون، فلا يورث عنهم المال؛ لأنهم ما جاءوا لجمع المال وتوريثه لأقربائهم، وإنما جاءوا بالحق والهدى لهداية البشر، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، فهذا هو ميراثهم، وهو ميراث مبذول لكل من أراده، ولكل من وفقه الله لأن يحصل العلم النافع المستمد من الكتاب والسنة، ولهذا جاء في الحديث: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر)، فهم ما جاءوا لجمع المال وتحصيله ثم كونهم يخلفونه وراءهم ليرثه أقرباؤهم، فالله تعالى لم يجعل الأنبياء كغيرهم من الناس الذين يورث عنهم المال، فما يخلفونه يكون صدقة ولا يكون ميراثاً لأقربائهم، قال بعض أهل العلم في تعليل ذلك: أصحاب الأموال بعض الأقرباء يتمنى أن يموتوا ليرثوهم، وهذا إذا حصل بالنسبة للأنبياء يكون خطيراً في حق من يتمنى ذلك، فصارت شريعة الله عز وجل في حق رسله أنه لا يورث عنهم المال، وإنما يورث عنهم العلم النافع الذي به الهداية للصراط المستقيم، والخروج من الظلمات إلى النور.
ثم التفت إلى علي والعباس رضي الله تعالى عنهما وقال: أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك؟ فقالا: نعم.
يعني: أنهما يعلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا لا نورث، ما تركناه صدقة).
ثم قال: [فإن الله خص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخاصة لم يخص بها أحداً من الناس، فقال الله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر:6]].
قوله تعالى: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ)) يعني: من يهود بني النضير، فإن الأموال التي تركوها أخذها المسلمون بلا قتال، وإنما هي فيء، والفيء لا يخمس، وإنما يكون على نظر الإمام يصرفه في مصالح المسلمين، والرسول صلى الله عليه وسلم كان ينفق على نفسه وأهله من هذا المال ويدخر من ذلك قوت سنة، ثم الباقي يكون أسوة المال الذي يكون في بيت المال، أي: يصرف في مصالح المسلمين، فهو لم يدخره له ولم يملكه، وإنما هو محبوس دون أن يوزع ودون أن يباع، وإنما ينفق على نفسه منه صلى الله عليه وسلم وعلى أهله لمدة سنة، وما وراء ذلك فإنه ينفقه في سبيل الله أسوة سائر الأموال التي تكون في بيت المال.
ثم إن عمر رضي الله عنه بعد أن ذكر ما يتعلق بكون الأنبياء لا يورثون وبعد أن أقر الرهط الذين حضروا عنده، وكذلك علي والعباس رضي الله تعالى عنهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إنا لا نورث ما تركناه صدقة)، بعد ذلك ذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أبقى هذا المال ولم يقسمه أنه ما اختص به دون الناس، وإنما كان يأخذ منه نفقته ونفقة أهله سنة، والباقي أسوة المال يصرفه في مصالح المسلمين ويقسمه في مصارف بيت المال صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ثم سأل الرهط الأربعة هل يعلمون ذلك؟ فأقروا بذلك، وسأل علياً والعباس رضي الله عنهما هل يعلمان ذلك؟ فأقرا بذلك، ثم قال عمر رضي الله عنه: إن الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته قام بهذا المال على هذا الوجه، وهو الإنفاق منه على أهله، والباقي أسوة المال، وإن أبا بكر رضي الله عنه لما قام مقامه قال: أنا ولي الأمر من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأتصرف في هذا المال الذي خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يتصرف فيه، وإن علياً رضي الله عنه جاء يطلب ميراث زوجته فاطمة ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء العباس يطلب ميراثه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أبا بكر قرأ عليهم الحديث الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وهو قوله: (إنا لا نورث ما تركناه صدقة).
ثم إن عمر رضي الله عنه لما توفي أبو بكر قام بالأمر من بعده، وقام بصرف المال الذي كان يصرفه أبو بكر وفقاً لما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عمر رضي الله عنه يصرفه مدة من خلافته على هذا النحو، ثم إن علياً والعباس رضي الله تعالى عنهما جاءا إليه وهما متفقان وأمرهما جميع، وطلبا منه أن يدفع هذه الأموال لهما ليقوما بصرفها وفقاً لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرفها، فأخذ عليهم العهد أن يقوما بذلك على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إنه دفعه إليهما، فصارا يقومان بذلك، ثم إنه حصل منهما ما جاء في هذا الحديث بحضور هؤلاء الرهط، أن يقسم بينهما النظارة على هذه الأموال، وأن يجعل كل واحد منهما على قسم من هذه الأموال، وعمر رضي الله عنه وأرضاه أراد أن تبقى على ما كانت عليه، وهما لما طلبا أن يتوليا ذلك ولاهما جميعاً، وصارت النظارة لهما مجتمعين، ولم يوافق على قسمة هذه الأموال بينهما بحيث يتولى هذا على شيء وهذا على شيء، وإنما تبقى كما كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولاها واحد أو أكثر على طريقة واحدة وعلى منهج واحد بحيث يكون التوزيع للجميع من واحد سواء الخليفة أو من طلبا أن يقوما بهذا الأمر، وجعلت النظارة لهما مجتمعين، ولم يوافق عمر رضي الله عنه على أن يقسم هذا المال بينهما؛ لأنه لو قسم المال بينهما لظن على مر السنين والدهور أن المال الذي بيد العباس ميراثه، والذي بيد علي ميراث زوجته، ولكنه لما بقي مال واحد يتصرف فيه الناظر تصرفاً واحداً زال ذلك الاحتمال الذي يخشى من قسمة المال بينهما.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يورث لورثه زوجاته أمهات المؤمنين، ولكان لهن الثمن، وسيأتي حديث فيه أنهن أردن أن يرسلن عثمان بن عفان إلى أبي بكر ليعطيهن الثمن من هذه الأموال.
وفي هذا الحديث جاء علي يطلب ميراث زوجته فاطمة رضي الله تعالى عن الجميع، وجاء العباس يطلب ميراثه من النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يورث فإن الزوجات يكون لهن الثمن، وللبنت النصف، والباقي للعم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)، والعباس كان أقرب قريب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته؛ لأنه عمه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عم الرجل صنو أبيه) أي: مثل أبيه.
قوله: [فجئت أنت وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد فسألتمانيها فقلت: إن شئتما أن أدفعها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تلياها بالذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يليها، فأخذتماها مني على ذلك، ثم جئتماني لأقضي بينكما بغير ذلك].
المقصود بقوله: بغير ذلك أي: قسمتها بينهم على أن يتولى هذا النظارة على النصف، وهذا على النصف، وهذا هو المقصود بالذي يختصمون فيه، لا أنهما يريدان الميراث؛ لأنهما يعرفان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا لا نورث)، وقد سبق أنهما أقرا بذلك، وبينا أنهما يعلمان ذلك، وإنما الشيء الجديد الذي جاءا من أجله هو قسمة النظارة بينهما، بحيث يكون هذا له الإشراف على النصف، وهذا له الإشراف على النصف، وقد أوضح هذا أبو داود رحمه الله بعد الحديث، وبين أن المقصود من مجيئهما إنما هو قسمة النظارة بينهما، لا أن المقصود من ذلك طلب الميراث.
قوله: [والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنها فرداها إلي].
يعني: بغير الذي كنت دفعته إليكما على أن تقوما بصرفها طبقاً لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرفها دون قسمة حتى تقوم الساعة، والمقصود ساعته يعني حتى يموت؛ لأن من مات فقد قامت قيامته وقامت ساعته، وليس المقصود من ذلك قيام الساعة آخر الدنيا؛ لأن قوله: لا أقضي بينكما حتى تقوم الساعة يعني: ما دمت حياً، والساعة أحياناً يراد بها قيام الساعة التي تكون في نهاية الزمان، والتي يموت فيها من كان حياً في نهاية الدنيا، وعند ذلك يتساوى الذين ماتوا من قديم الزمان والذين ماتوا في آخر الزمان، وأحياناً يراد بقيام الساعة الموت.(349/4)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا نورث ما تركنا صدقة)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[ومحمد بن يحيى بن فارس].
محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس الذهلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا بشر بن عمر الزهراني].
بشر بن عمر الزهراني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني مالك بن أنس].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مالك بن أوس بن الحدثان].
مالك بن أوس بن الحدثان له رؤية، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر].
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بكر].
أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عبد الله بن عثمان أبي قحافة التيمي خير هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفضل الأمم وخير الأمم أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وخير هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين، وحديث أبي بكر عند أصحاب الكتب الستة.(349/5)
تابع شرح حديث: (لا نورث ما تركنا صدقة)
قول مالك بن أوس: [أرسل إلي عمر حين تعالى النهار فجئته فوجدته جالساً على سرير مفضياً إلى رُماله].
رِماله أو رُمالِه يعني: على سرير ليس عليه فراش، وإنما كان جسده مفضياً إلى رماله وهي الحبال التي تكون بين الخشب، ويجلس عليها الذي يجلس على السرير، والمعنى أنه لم يكن عليه فراش.
قوله: [فقال حين دخلت عليه: يا مال].
هذا ترخيم، يعني: يا مالك، حذفت الكاف، واللام تكسر أو تضم يا مالُ أو يا مالِ.
قوله: [فجاءه يرفأ].
يرفأ هذا هو الحاجب الذي يكون على الباب، ويخبر عمر بمن يستأذن، واتخاذ الوالي البواب أو الحاجب ليعرف من يأتي يستأذن؛ حتى يأذن أو لا يأذن أمر سائغ؛ لأنه قد يكون مشغولاً، وقد يكون هناك ما هو أهم من ذلك.
والفيء منه شيء يقسم، وشيء يبقى، والذي يبقي يستفاد من غلته هو المقصود بكونه من الصفايا.
وهذا الحديث يتعلق بأموال بني النضير التي قال الله عز وجل فيها: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ)) أي: من اليهود ((فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ)) يعني: هذا لا يطلب قسمته كما تقسم الغنائم؛ لأن الغنائم تقسم على الغانمين، فيكون لهم أربعة أخماس، والخمس الباقي يصرف في الأصناف التي ذكرها الله في سورة الأنفال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41]، أما الفيء فهو إلى الإمام له أن يقسمه، وله أن يبقيه، وله أن يتصرف فيه بما يراه في مصالح الناس، ويكون للإمام نصيب في الفيء، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ من الفيء ما يكفيه وأهله لمدة سنة، وهذا النصيب باق لذرية النبي صلى الله عليه وسلم.(349/6)
طريق آخر لحديث: (لا نورث ما تركنا صدقة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبيد قال: حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن الزهري عن مالك بن أوس بهذه القصة قال: وهما -يعني علياً والعباس رضي الله عنهما- يختصمان فيما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من أموال بني النضير.
قال أبو داود: أراد ألا يوقع عليه اسم قسم].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهو كما تقدم إلا أن فيه إشارة إلى أن هذه الأموال من يهود بني النضير.(349/7)
تراجم رجال إسناد الطريق الآخر لحديث: (لا نورث ما تركنا صدقة)
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد].
يحتمل أن يكون محمد بن عبيد بن حساب أو محمد بن عبيد المحاربي، وكل منهما روى عن محمد بن ثور، ومحمد بن عبيد بن حساب ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وأما المحاربي فهو صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا محمد بن ثور].
محمد بن ثور، ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن مالك بن أوس].
مر ذكرهما.(349/8)
شرح حديث: (كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وأحمد بن عبدة المعنى أن سفيان بن عيينة أخبرهم عن عمرو بن دينار عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خالصاً ينفق على أهل بيته).
قال ابن عبدة: ينفق على أهله قوت سنة، فما بقي جعل في الكراع وعدة في سبيل الله عز وجل، قال ابن عبدة: في الكراع والسلاح].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، قال عمر: [(كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب)].
الإيجاف: هو الإسراع.
قال: [(كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خالصاً ينفق على أهل بيته)].
يعني: اصطفاها بأن تبقى ينفق على أهل بيته منها، وما بقي جعله في الكراع والعدة في سبيل الله، والكراع هو الخيل، والعدة أي: للجهاد في سبيل الله.
[قال ابن عبدة: ينفق على أهله قوت سنة].
يعني: أحد الشيخين -وهو أحمد بن عبدة -قال: ينفق على أهله قوت سنة، وقال الشيخ الأول: ينفق على أهل بيته.
[قال ابن عبدة: في الكراع والسلاح].
يعني: أنه ساقه على لفظ ابن أبي شيبة، ثم ذكر الفروق بين لفظ رواية: ابن أبي شيبة وبين ابن عبدة.(349/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[وأحمد بن عبدة].
أحمد بن عبدة الضبي ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن سفيان بن عيينة].
سفيان بن عيينة المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن دينار].
عمرو بن دينار المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن مالك بن أوس عن عمر].
مر ذكرهم.(349/10)
شرح حديث: (هذه لرسول الله خاصة قرى عرينة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أخبرنا أيوب عن الزهري قال: قال عمر رضي الله عنه: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ)) قال الزهري: قال عمر: هذه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، قرى عرينة فدك وكذا وكذا، {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:7 - 10]، فاستوعبت هذه الآية الناس فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق، قال أيوب: أو قال: حظ، إلا بعض من تملكون من أرقائكم].
أورد أبو داود حديث عمر من طريق أخرى، وفيه أنه قال: [{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:6]، قال الزهري: قال عمر: هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة قرى عرينة فدك وكذا وكذا].
هذه أماكن أخرى غير ما تقدم من ذكر بني النضير، وكل هذه من الأموال التي بقيت يستفاد من غلتها، وينفق رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهله منها، والباقي يوضع في سبيل الله عز وجل.
ثم ذكر مصارف الفيء وأنه يكون في الأمور الخمسة التي ذكر الله في آية سورة الحشر، ثم ذكر بعد ذلك المهاجرين والأنصار ثم قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]، وهذه الآية الأخيرة استوعبت جميع الناس؛ لأنها تتعلق بكل من جاء بعد المهاجرين والأنصار ممن يستغفر لهم، ويسأل الله عز وجل ألا يجعل في قلبه غلاً لهم، وأنه لا يستثنى من ذلك إلا الأرقاء الذين هم مملوكون تابعون لأسيادهم، فهم ينفق عليهم أسيادهم، ولو أعطوا لصار ذلك الذي يعطونه ملكاً لأسيادهم.
وهذه الآيات الثلاث: آية في المهاجرين، وآية في الأنصار، وآية في الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار ممن يستغفر لهم ويسأل الله عز وجل ألا يجعل في قلوبهم غلاً لهم، أي: أن قلوبهم وألسنتهم سليمة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاء عن مالك بن أنس رحمة الله عليه أنه قال: إن هذه الآية تدل على أن الرافضة لا نصيب لهم في الفيء؛ لأنهم ليسوا من الأصناف الثلاثة؛ لأن الآية التي جاءت بعد ذكر المهاجرين والأنصار وصف الله عز وجل أهلها المستحقين للفيء أنهم يستغفرون للذين سبقوهم بالإيمان من المهاجرين والأنصار، ويسألون الله ألا يجعل في قلوبهم غلاً لهم.
قوله: [إلا بعض من تملكون من أرقائكم] قيل: إن المقصود بالتبعيض الكل، أي: الذين تملكون من أرقائكم، وقيل: المقصود أن بعض الأرقاء أعطوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا التبعيض يراد به أن منهم من أعطي ومنهم من لم يعط.(349/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (هذه لرسول الله خاصة قرى عرينة)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا إسماعيل بن إبراهيم].
إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا أيوب].
أيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن عمر].
والزهري مر ذكره، وعمر أيضاً مر ذكره، والزهري من صغار التابعين لم يدرك عمر رضي الله عنه، ولكن الحديث صححه الألباني للشواهد، وإلا ففيه انقطاع.(349/12)
شرح حديث: (كانت لرسول الله ثلاث صفايا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هشام بن عمار حدثنا حاتم بن إسماعيل قال: ح وحدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني عبد العزيز بن محمد ح وحدثنا نصر بن علي قال: حدثنا صفوان بن عيسى، وهذا لفظ حديثه؛ كلهم عن أسامة بن زيد عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان رضي الله عنه قال: (كان فيما احتج به عمر رضي الله عنه أنه قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث صفايا: بنو النضير وخيبر وفدك، فأما بنو النضير فكانت حبساً لنوائبه، وأما فدك فكانت حبساً لأبناء السبيل، وأما خيبر فجزأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أجزاء: جزأين بين المسلمين، وجزء نفقة لأهله فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين)].
أورد أبو داود حديث مالك بن أوس بن الحدثان قال: [(كان فيما احتج به عمر رضي الله عنه أنه قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا)].
يعني: كان فيما احتج به عمر في كون الرسول صلى الله عليه وسلم خلف شيئاً وأبقاه، وأنه يصرف في سبيل الله عز وجل إلا ما كان يأخذ منه لأهله نفقة سنة.
قوله: [(فأما بنو النضير فكانت حبساً لنوائبه)] يعني: ما ينوبه من المناسبات التي تحتاج إلى بذل وعطاء، فإنه ينفق منها في سبيل الله عز وجل، يعني: للجهاد وللسلاح وللكراع ولإعطاء المحتاجين.
قوله: [(وأما فدك فكانت حبساً لأبناء السبيل)].
يعني: ينفق على أبناء السبيل منها.
قوله: [(وأما خيبر فجزأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء: جزأين بين المسلمين، وجزء نفقة لأهله، فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين)].
يعني: وما حصل من خيبر جزأه ثلاثة أجزاء: جزءان للمسلمين، وجزء ينفق على نفسه وأهله منه، وما بقي فإنه يجعله في المهاجرين في سبيل الله، الذين هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقت التي كانت فيه الهجرة قبل أن تفتح مكة، فكان يعطيهم منه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والمقصود أنهم أشد حاجة من غيرهم في الإعطاء، وإلا فإنه كان يعطي المهاجرين والأنصار جميعاً.(349/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (كانت لرسول الله ثلاث صفايا)
قوله: [حدثنا هشام بن عمار].
هشام بن عمار صدوق، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا حاتم بن إسماعيل].
حاتم بن إسماعيل صدوق يهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: ح وحدثنا سليمان بن داود المهري].
سليمان بن داود المهري المصري ثقة، أخرج أبو داود والنسائي.
[أخبرنا ابن وهب].
عبد الله بن وهب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عبد العزيز بن محمد].
عبد العزيز بن محمد الدراوردي وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: ح وحدثنا نصر بن علي].
نصر بن علي الجهضمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا صفوان بن عيسى].
صفوان بن عيسى وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[وهذا لفظ حديثه].
أي: لفظ حديث صفوان؛ لأنه ذكره من عدة طرق، ولكنه ساقه على الطريق الأخيرة من هذه الطرق.
[كلهم عن أسامة بن زيد].
أسامة بن زيد الليثي وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الزهري عن مالك بن أوس الحدثان].
مر ذكرهما.(349/14)
شرح حديث: (أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني قال: حدثنا الليث بن سعد عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها أخبرته أن فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أرسلت إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال، وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حالها التي كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأبى أبو بكر رضي الله عنه أن يدفع إلى فاطمة رضي الله عنها منها شيئاً)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر رضي الله عنه تطلب ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم من فدك وما بقي من خمس خيبر وما كان في المدينة من أموال بني النضير، وسبق أن مر أن علياً رضي الله عنه جاء يطلب ميراث زوجته، فلعل المقصود أنها طلبت من علي أن يطلب ذلك؛ فـ أبو بكر رضي الله عنه قال: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا نورث، ما تركنا صدقة)، وقال: إنما يأكل آل محمد من هذا المال يعني: أنهم ينفق عليهم من هذا المال الذي هو الخمس والفيء الذي يفيء الله عز وجل، ثم ذكر أنه لا يغير شيئاً كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ينفق على آل محمد من هذا المال والباقي يصرفه في سبيل الله كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، وقد قال: (ما تركناه صدقة).
وأبى أن يدفع لها المال على أساس أنه ميراث، ولكنه يعطيها ويعطي غيرها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي أهل بيته، فكان آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم يأكلون من هذا لمال ويعطون من هذا المال، ولا تحل لهم الصدقة اكتفاءً بما كانوا يعطون من الأموال التي هي غنيمة وفيء.(349/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها)
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني].
يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الليث بن سعد].
الليث بن سعد المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عقيل بن خالد].
عقيل بن خالد بن عقيل المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير].
ابن شهاب مر ذكره، وعروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(349/16)
طريق أخرى لحديث: (أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن عثمان الحمصي حدثنا أبي قال: حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال: حدثني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته بهذا الحديث قال: (وفاطمة رضي الله عنها حينئذ تطلب صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، قالت عائشة رضي الله عنها: فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة، وإنما يأكل آل محمد في هذا المال -يعني: مال الله-، ليس لهم أن يزيدوا على المآكل أو على المأكل)].
أورد أبو داود حديث عائشة من طريق أخرى وهو مثل الذي تقدم.(349/17)
تراجم رجال إسناد الطريق الأخرى لحديث: (أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها)
قوله: [حدثنا عمرو بن عثمان الحمصي].
عمرو بن عثمان الحمصي صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا أبي].
وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا شعيب بن أبي حمزة].
شعيب بن أبي حمزة الحمصي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري حدثني عروة عن عائشة].
مر ذكر الثلاثة.(349/18)
طريق ثالثة لحديث: (أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حجاج بن أبي يعقوب حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني عروة أن عائشة رضي الله عنها أخبرته بهذا الحديث قال فيه: (فأبى أبو بكر رضي الله عنه عليها ذلك، وقال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ، فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس رضي الله عنهم فغلبه علي عليها، وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر وقال: هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه وأمرهما إلى من ولي الأمر، قال: فهما على ذلك إلى اليوم)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها من طريق أخرى وفيه أن علياً والعباس دفع إليهما عمر ما يتعلق بالمدينة، وأن ما كان من مال خيبر وفدك فإنه بقي بيده رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ومعلوم أن كلاً من الثلاثة مصيرها واحد، ولكن هذا هو الذي جعله بأيدي علي والعباس رضي الله تعالى عنهما، والباقي بقي في يد الخليفة والوالي يصرفه في مصالح المسلمين.
قوله: إني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ.
يعني: أن أزيغ عن الحق؛ لأنه ما أخذ بما أخذ به رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولم يسلك المنهج الذي كان عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام، إذا فعل خلاف ما كان عليه رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(349/19)
تراجم رجال إسناد الطريق الثالثة لحديث: (أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها)
قوله: [حدثنا حجاج بن أبي يعقوب].
حجاج بن أبي يعقوب ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد].
يعقوب بن إبراهيم بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبي].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن صالح].
صالح بن كيسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب أخبرني عروة عن عائشة].
مر ذكر الثلاثة.(349/20)
تابع صفايا رسول الله من الأموال(349/21)
شرح حديث: (صالح رسول الله أهل فدك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبيد حدثنا ابن ثور عن معمر عن الزهري في قوله: (((فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ)) [الحشر:6] قال: صالح النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل فدك وقرى قد سماها لا أحفظها، وهو محاصر قوماً آخرين، فأرسلوا إليه بالصلح، قال: ((فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ)) [الحشر:6] يقول: بغير قتال).
قال الزهري: وكانت بنو النضير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خالصاً لم يفتحوها عنوة، افتتحوها على صلح، فقسمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين لم يعط الأنصار منها شيئاً إلا رجلين كانت بهما حاجة].
سبق أن مرت جملة من الأحاديث تحت هذا الباب: باب صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأموال، وعرفنا أن المقصود من ذلك: ما يتعلق بالأراضي والنخيل وغير ذلك من الأشياء الثابتة التي لم تقسم وتوزع على الناس، وإنما بقيت أصولها ثابتة محبسة، وثمرتها وغلتها تصرف في المصارف التي يراها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أورد أبو داود هذا الحديث الذي هو مرسل عن الزهري في قوله: {فما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:6] قال: (صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل فدك وقرى وقد سماها لا أحفظها) يعني: قرى أخرى مع فدك.
قوله: [(وهو محاصر قوماً آخرين)].
قيل: إنها خيبر أو بعض خيبر.
قوله: [(فأرسلوا إليه بالصلح)].
يعني: يطلبون منه أن يصالحوه.
قوله: [(قال: {فما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:6] يقول: بغير قتال)].
هذا تفسير لقوله: (فما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) يعني: من غير قتال، وإنما حصلت بالرعب والخوف الذي جعل الأعداء يستسلمون ويصالحون.
قوله: [قال الزهري: وكانت بنو النضير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خالصاً لم يفتحوها عنوة، افتتحوها على صلح].
يعني: صارت فيئاً يصرف في مصالح المسلمين ولا تخمس؛ لأنها ليست من الغنائم.
قوله: [فقسمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين، لم يعط الأنصار منها شيئاً إلا رجلين كانت بهما حاجة].
قسمها بين المهاجرين؛ لأنهم أصحاب حاجة، ولأنهم تركوا أموالهم وبلادهم وخرجوا منها لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما الأنصار فكان عندهم أموال، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار أول ما قدموا المدينة.
وقوله: (ولم يعط الأنصار إلا اثنين كانت بهما حاجة) ومعنى هذا أنها ليست للمهاجرين خاصة، وإنما هي للمهاجرين والأنصار.
والحديث مرسل؛ لأن الزهري من صغار التابعين.(349/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (صالح رسول الله أهل فدك)
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد حدثنا ابن ثور].
يحتمل أن يكون ابن حساب أو يكون المحاربي، وابن حساب ثقة، والمحاربي صدوق، وقد مر ذكرهما قريباً في هذا الباب.
وابن ثور هو محمد بن ثور ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(349/23)
شرح حديث: (إن رسول الله كانت له فدك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن الجراح حدثنا جرير عن المغيرة قال: جمع عمر بن عبد العزيز بني مروان حين استخلف فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت له فدك، فكان ينفق منها ويعود منها على صغير بني هاشم، ويزوج منها أيمهم، وإن فاطمة رضي الله عنها سألته أن يجعلها لها فأبى، فكانت كذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى مضى لسبيله، فلما أن ولي أبو بكر رضي الله عنه عمل فيها بما عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، حتى مضى لسبيله، فلما أن ولي عمر رضي الله عنه عمل فيها بمثل ما عمل لسبيله، ثم أقطعها مروان ثم صارت لـ عمر بن عبد العزيز، قال عمر -يعني ابن عبد العزيز -: رأيت أمراً منعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة رضي الله عنها ليس لي بحق، وأنا أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت يعني: على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال أبو داود: ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة وغلته أربعون ألف دينار، وتوفي وغلته أربعمائة دينار ولو بقي لكان أقل].
أورد أبو داود هذا الحديث، وهو مرسل، وفيه: [جمع عمر بن عبد العزيز بني مروان حين استخلف، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له فدك، فكان ينفق منها ويعود منها على صغير بني هاشم، ويزوج منها أيمهم].
يعود منها على صغير بني هاشم، يعني: اليتامى، ويزوج أيمهم أي: من لم يكن ذا زوج سواء كان رجلاً أو أنثى.
قوله: [وإن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى].
أي: فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيها إياها.
قوله: [فكانت كذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى مضى لسبيله].
يعني كانت كذلك على النحو الذي ذكر أنه ينفق على صغيرهم ويزوج أيمهم، ثم بعد ذلك ولي الخلافة أبو بكر، وقام بالأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقي صرف ذلك على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كذلك في زمن عمر رضي الله عنه، ثم أقطعها مروان بن الحكم، قالوا: والذي أقطعها له عثمان بن عفان، قالوا: وهذا مما عابوه عليه، وتكلموا فيه، لكن هذا الحديث غير ثابت؛ لأنه مرسل، فالإقطاع المذكور في هذا الحديث لا يكون ثابتاً.
قوله: [ثم صارت لـ عمر بن عبد العزيز].
لأنه حفيد مروان.
قوله: [قال عمر -يعني ابن عبد العزيز -: فرأيت أمراً منعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة رضي الله عنها ليس لي بحق].
يعني: أن فاطمة طلبت أن تكون فدك لها، فأبى ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال: فهو ليس لي بحق، فأعاده على ما كان عليه في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: أنه صار ينفق منه على صغير بني هاشم، ويزوج أيمهم، ويصرف في المصارف التي كان يصرف فيها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود: ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة وغلته أربعون ألف دينار، وتوفي وغلته أربعمائة دينار، ولو بقي لكان أقل].
يعني: أنه كان يصرف على نفسه من ماله ومن غلته التي كانت عنده قبل أن يتولى الخلافة، وأنه مات وغلته أربعمائة، ولو بقي لكان أقل، يعني: أنها كانت تتناقص؛ لأنه كان ينفق على نفسه منها، وهذا ليس متعلقاً بفدك، وإنما متعلق بماله هو، وأنه كان ينقص لأنه كان ينفق على نفسه منه.(349/24)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن رسول الله كانت له فدك)
قوله: [حدثنا عبد الله بن الجراح].
عبد الله بن الجراح صدوق، يخطئ أخرج له أبو داود والنسائي في مسند مالك وابن ماجة.
[حدثنا جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المغيرة].
المغيرة بن مقسم الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر بن عبد العزيز].
عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه، الخليفة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وقد توفي وعمره أربعون سنة، ولم يكن من المعمرين، ولكن له الشهرة العظيمة والمنزلة الرفيعة والمحبة في نفوس المسلمين.(349/25)
شرح حديث: (إن الله إذا أطعم نبياً طعمة فهي للذي يقوم من بعده)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا محمد بن الفضيل عن الوليد بن جميع عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: (جاءت فاطمة رضي الله عنها إلى أبي بكر رضي الله عنه تطلب ميراثها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: فقال أبو بكر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن الله عز وجل إذا أطعم نبياً طعمة فهي للذي يقوم من بعده)].
أورد أبو داود حديث أبي الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه قال: (جاءت فاطمة إلى أبي بكر تطلب ميراثها منه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عز وجل إذا أطعم نبياً طعمة فهي للذي يقوم من بعده) يعني: أنه هو الذي يقوم بها كما كان يقوم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: أنه ينفق على نفسه منها، وكذلك ينفق منها على أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين.(349/26)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن الله إذا أطعم نبياً طعمة فهي للذي يقوم من بعده)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا محمد بن الفضيل].
محمد بن الفضيل بن غزوان صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الوليد بن جميع].
الوليد بن جميع وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبي الطفيل].
أبو الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو آخر الصحابة موتاً، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وقد جاء أن أبا بكر رضي الله عنه ذهب إلى فاطمة واسترضاها، وأنها رضيت، وما يذكر أن علياً غضب لغضبها، ولم يبايع إلا بعد موتها بستة أشهر، فغير صحيح، بل هو بايع كما بايع الناس من البداية، وما ذكر من مبايعته بعد ذلك تجديد للبيعة، وليس أصل البيعة.(349/27)
شرح حديث: (لا تقتسم ورثتي ديناراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا تقتسم ورثتي ديناراً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة).
قال أبو داود: مؤنة عاملي يعني أكرة الأرض].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقتسم ورثتي ديناراً)، وهذا إشارة إلى الحد الأدنى، يعني: لا يرثون شيئاً، ديناراً فما فوقه.
قوله: [(ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة)] يعني: الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق منه على نسائه وينفق منه على العمال الذين يحرثون الأرض أو الولاة الذين يلون الأمر من بعده، فما سوى ذلك فإنه صدقة يصرف في مصارف المسلمين وفي المصارف العامة، كما تقدم أنه كان ينفق على نفسه وعلى أهله قوت سنة، وما فضل عن ذلك فإنه يصرفه في سبيل الله.
[قال أبو داود: مؤنة عاملي يعني: أكرة الأرض].
أكرة الأرض هم من الذين يشتغلون في الأرض ويحرثون فيها، فإنهم يعطون أجرتهم من ريعها، وقيل: إن المقصود بذلك الخليفة ومن يلون الأمر، فإنه ينفق عليهم من الفيء الذي هو في بيت المال أو يئول إلى بيت المال.(349/28)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تقتسم ورثتي ديناراً)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزناد].
أبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعرج].
الأعرج هو عبد الله بن هرمز المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق.(349/29)
شرح حديث: (كل مال النبي صدقة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن مرزوق أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري قال: (سمعت حديثاً من رجل فأعجبني، فقلت: اكتبه لي، فأتى به مكتوباً مذبراً: دخل العباس وعلي على عمر رضي الله عنهم -وعنده طلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد رضي الله عنهم- وهما يختصمان، فقال عمر لـ طلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كل مال النبي صلى الله عليه وآله وسلم صدقة إلا ما أطعمه أهله وكساهم، إنا لا نورث؟ قالوا: بلى، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينفق من ماله على أهله ويتصدق بفضله، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوليها أبو بكر سنتين فكان يصنع الذي كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم ذكر شيئاً من حديث مالك بن أوس].
أورد أبو داود حديث أبي البختري عن رجل، وهذا الرجل قيل: هو مالك بن أوس بن الحدثان الذي سبق أن مر في أول الباب، والقصة هي نفس القصة السابقة، وذكر المصنف الحديث هنا مختصراً وأحال عليه فقال: بمثل حديث مالك بن أوس أي: الذي تقدم في أول الباب، والحافظ ابن حجر قال: لعله مالك بن أوس بن الحدثان.
قوله: [(سمعت حديثاً من رجل فأعجبني، فقلت: اكتبه لي فأتى به مكتوباً مذبراً)] يعني: معتناً بكتابته بخط واضح.
قوله: [(دخل العباس وعلي على عمر -وعنده طلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد - وهما يختصمان، فقال عمر لـ طلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كل مال النبي صلى الله عليه وآله وسلم صدقة إلا ما أطعمه أهله وكساهم، إنا لا نورث؟ قالوا: بلى)].
وهذا كما تقدم في أول الباب في حديث مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر رضي الله تعالى عنه، وفيه التفصيل لما جرى في مجلس عمر بحضور هؤلاء الرهط الأربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الاختلاف بين العباس وعلي حول التولية التي ولاهما عمر مجتمعين، ثم إنه حصل اختصامهما، وسبق أن مر أن المقصود من وراء الاختصام هو أن تقسم النظارة بينهما، وأن يكون كل واحد منهما مسئولاً عن نصف ذلك الذي ولي بينهما جميعاً، وأن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: إنه لا يفعل ذلك، بل يستمر الأمر على ما كان عليه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن قاما بها مجتمعين وإلا رداها إليه ليقوم بتصريفها كما كان يصرفها قبل أن يعطيهما إياها؛ وذلك وفقاً لما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان يفعله أبو بكر رضي الله تعالى عنه.(349/30)
تراجم رجال إسناد حديث: (كل مال النبي صدقة)
قوله: [حدثنا عمرو بن مرزوق].
عمرو بن مرزوق ثقة له أوهام، أخرج له البخاري وأبو داود.
[أخبرنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن مرة].
عمرو بن مرة الهمداني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي البختري].
أبو البختري هو سعيد بن فيروز، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت حديثاً من رجل].
قيل: هو مالك بن أوس بن الحدثان.
[عن عمر].
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(349/31)
شرح حديث: (لا نورث ما تركنا فهو صدقة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (إن أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما فيسألنه ثمنهن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت لهن عائشة: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا نورث ما تركنا فهو صدقة؟!)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته أردن أن يرسلن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه إلى أبي بكر رضي الله عنه؛ ليطلبن ثمنهن من ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لا نورث ما تركناه صدقة)؟ فيحتمل أنهن لم يعلمن ولكن أرادت هي أن تخبرهن بالذي قال ويحتمل أن يكن قد علمن ذلك، ولكنهن نسين، فذكرتهن بذلك عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها.(349/32)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا نورث ما تركنا فهو صدقة)
قوله: [حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عروة].
عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(349/33)
طريق أخرى لحديث: (لا نورث ما تركنا فهو صدقة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا إبراهيم بن حمزة حدثنا حاتم بن إسماعيل عن أسامة بن زيد عن ابن شهاب بإسناده نحوه، (قلت: ألا تتقين الله؟! ألم تسمعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا نورث ما تركنا فهو صدقة، وإنما هذا المال لآل محمد لنائبتهم ولضيفهم، فإذا مت فهو إلى ولي الأمر من بعدي؟)].
أورد أبو داود حديث عائشة من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، وأن هذا المال الذي كان بيده صلى الله عليه وسلم ليس موروثاً عنه، وإنما ينفق على نفسه منه فيما ينوبه ويعروه، وأنه إذا توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام فإن الأمر فيه يئول إلى من يلي الأمر من بعده، ليصرفه وفقاً لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرفه، وهذا هو الذي حصل من أبي بكر رضي الله عنه، فإنه لما ولي الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بصرفه وفقاً لما كان يصرفه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عن أبي بكر.
وولي الأمر له أن ينفق على نفسه منه، وقد سبق في الحديث: (ومؤنة عاملي) قيل: المقصود به الخليفة والولاة الذين يلون الأمر، والفيء عام لا يصرف في مصارف الخمس فقط، وإنما يصرف في مصارف المسلمين عموماً، ويأخذ منه الوالي.(349/34)
تراجم رجال إسناد الطريق الأخرى لحديث: (لا نورث ما تركنا فهو صدقة)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
محمد بن يحيى بن فارس الذهلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا إبراهيم بن حمزة].
إبراهيم بن حمزة صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا حاتم بن إسماعيل].
حاتم بن إسماعيل وهو صدوق يهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أسامة بن زيد].
أسامة بن زيد الليثي، وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن شهاب بإسناده].
وقد مر.(349/35)
شرح سنن أبي داود [350]
الفيء يصرف في مصالح المسلمين، ومن مصارفه ذوو القربى، وهم قرابة النبي عليه الصلاة والسلام من بني هاشم وبني المطلب، فلهم حق في الفيء، لا سيما وهم لا يأخذون من الزكاة، وإعطاؤهم حقهم من الفيء واجب، وهو داخل في تذكير النبي عليه الصلاة والسلام أمته بأهل بيته رضي الله عنهم.(350/1)
مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى(350/2)
شرح حديث (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى.
حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الله بن المبارك عن يونس بن يزيد عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب قال: أخبرني جبير بن مطعم رضي الله عنه (أنه جاء هو وعثمان بن عفان رضي الله عنه يكلمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما قسم من الخمس بين بني هاشم وبني المطلب، فقلت: يا رسول الله! قسمت لإخواننا بني المطلب ولم تعطنا شيئاً، وقرابتنا وقرابتهم منك واحدة؟! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، قال جبير: ولم يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من ذلك الخمس كما قسم لبني هاشم وبني المطلب قال: وكان أبو بكر رضي الله عنه يقسم الخمس نحو قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير أنه لم يكن يعطي قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعطيهم، قال: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعطيهم منه وعثمان بعده)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي (باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى)، مواضع قسم الخمس أي: خمس الغنيمة؛ لأن الغنيمة -وهي ما يحصل في الجهاد- يقسم أخماساً: أربعة أخماس للغانمين والخمس الخامس يكون في المصارف التي ذكرها الله في آية الأنفال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41]، فهذه مصارف الخمس، وفيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم له في ذلك نصيب، وذوي قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم فيها نصيب، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (جعل رزقي تحت ظل رمحي) يعني: أن رزقه يكون من الغنيمة ومن الفيء الذي يفيئه الله عز وجل على المسلمين، ولهذا كان هذا أفضل المكاسب وأجل المكاسب، وهو الذي منه رزق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذوو القربى هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم بنو هاشم وبنو المطلب من أبناء عبد مناف؛ لأن عبد مناف هو الأب الرابع للرسول صلى الله عليه وسلم، وأولاده أربعة هم: هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس، هؤلاء هم أولاد عبد مناف، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعطي بني هاشم وبني المطلب، وما كان يعطي بني عبد شمس وبني نوفل شيئاً من الخمس، فجاء عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه -وهو من بني عبد شمس- وجبير بن مطعم -وهو من بني نوفل- يسألان النبي صلى الله عليه وسلم عن كونه أعطى بني المطلب ولم يعط بني عبد شمس ولا بني نوفل مع أن الكل في القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء؛ لأن الجميع أولاد عبد مناف، أما بنو هاشم فالأمر فيهم واضح؛ لأنهم الذين منهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الشيء الذي راجعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه هو كون بني المطلب مثل بني عبد شمس وبني نوفل، وليس بينهم وبينهم فرق، فكلهم يلتقون مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف.
فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إنا وبنو المطلب شيء واحد)، ومعنى ذلك أنه أعطاهم كما أعطى بني هاشم من الخمس، وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام لهم السبب في إعطاء بني المطلب تبعاً لبني هاشم؛ وذلك لأنهم تحالفوا معهم، وناصروهم، وكانوا معهم في الجاهلية وفي الإسلام؛ فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم كما أعطى بني هاشم، ولم يعط هؤلاء؛ لأنهم ما كانوا مثلهم.
وفي هذا الحديث بيان لذوي القربى، وأن العموم الذي جاء في القرآن في قوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال:41]، قد بينت السنة أن المقصود به بنو هاشم وبنو المطلب، وهاشم نسله محصورون في نسل ابنه عبد المطلب، والمطلب هو أخو هاشم، وقد أعطى بني المطلب تبعاً لبني هاشم.
إذاًَ: ذو القربى لفظ مطلق يشمل بني هاشم وبني المطلب وغيرهم، بل قد جاء في صحيح البخاري في تفسير قول الله عز وجل: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] أن المقصود منها -كما جاء عن ابن عباس - قرابة قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام يطلب منهم أنهم إن لم يساعدوه ويعينوه فلا يؤذوه؛ لما بينه وبينهم من القرابة، وإنما يخلون بينه وبين الناس.
وذوو القربى بينهم الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وأن المراد بهم في الآية بنو هاشم وبنو المطلب، وبنو هاشم هم الأصل، وبنو المطلب ألحقوا بهم؛ لأنهم آزروهم وناصروهم، وكانوا معهم في الجاهلية والإسلام.
ثم ذكر أن أبا بكر رضي الله عنه قام بالأمر بعده، ولم يكن يعطي بني هاشم ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعطيهم، ولعل السبب في ذلك -والله أعلم- أن الغلة لم تكن مثلما كانت أولاً، وأنها نقصت فنقص الإعطاء على حسب النقص الذي قد حصل، ولما كانت الغلة كثيرة كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم شيئاً كثيراً، ولما قلت الغلة فإن كلاً ينقص نصيبه منها على حسب النقص وعلى حسب السهام التي تعطى للناس.
قوله: [وكان عمر بن الخطاب يعطيهم منه وعثمان بعده].
يعني: يعطي بني هاشم وبني المطلب من الخمس، ومن أجل ذلك لم تحل لهم الزكاة اكتفاء بما يعطون من خمس الغنائم، فمنعوا من الزكاة؛ لأنه وجد ما يغنيهم، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب له في فضل آل البيت وحقوقهم أنه إذا لم يعطوا من الخمس ومن بيت المال، فإنه يجوز أن يعطوا من الزكاة؛ لأن المانع من ذلك أنهم يعطون من غيرها أي: من الغنائم والفيء، فإذا لم يعط لهم هذا الحق فيجوز أن يعطوا من الزكاة.(350/3)
تراجم رجال إسناد حديث (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة].
عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري، ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الرحمن بن مهدي].
عبد الرحمن بن مهدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن المبارك].
عبد الله بن المبارك المروزي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يونس بن يزيد].
يونس بن يزيد الأيلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب].
الزهري مر ذكره، وسعيد بن المسيب ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني جبير].
جبير بن مطعم النوفلي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(350/4)
شرح حديث (لم يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من الخمس شيئاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن عمر حدثنا عثمان بن عمر قال: أخبرني يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: حدثنا جبير بن مطعم رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من الخمس شيئاً كما قسم لبني هاشم وبني المطلب) قال: وكان أبو بكر رضي الله عنه يقسم الخمس نحو قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، غير أنه لم يكن يعطي قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما كان يعطيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان عمر يعطيهم ومن كان بعده منه].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله.(350/5)
تراجم رجال إسناد حديث (لم يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من الخمس شيئاً)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر حدثنا عثمان بن عمر].
عثمان بن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن جبير].
قد مر ذكرهم جميعاً.(350/6)
شرح حديث (إنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا هشيم عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: أخبرني جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (لما كان يوم خيبر وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سهم ذي القربى في بني هاشم وبني المطلب، وترك بني نوفل وبني عبد شمس، فانطلقت أنا وعثمان بن عفان حتى أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم للموضع الذي وضعك الله به منهم، فما بال إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وقرابتنا واحدة؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنما نحن وهم شيء واحد، وشبك بين أصابعه صلى الله عليه وآله وسلم)].
أورد أبو داود حديث جبير بن مطعم من طريق أخرى، وهو مثلما تقدم.(350/7)
تراجم رجال إسناد حديث (إنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا هشيم].
هشيم بن بشير الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: أخبرني جبير بن مطعم].
قد مر ذكر الثلاثة.(350/8)
تفسير السدي لذي القربى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حسين بن علي العجلي حدثنا وكيع عن الحسن بن صالح عن السدي في ذي القربى قال: هو بنو عبد المطلب].
أورد أبو داود هذا الأثر عن السدي في تفسير ذوي القربى، وأنهم بنو عبد المطلب، وبنو عبد المطلب هم بنو هاشم؛ لأن هاشم بن عبد مناف ليس له نسل إلا من جهة ابنه عبد المطلب، فقوله: بنو عبد المطلب يعني: بنو هاشم، وهذا فيه عدم ذكر بني عبد المطلب، وحديث جبير بن مطعم الذي تقدم بين أن ذوي القربى الذين يعطون هم بنو هاشم وبنو المطلب؛ لأنهم كانوا معهم في الجاهلية والإسلام، ولم يفارقوهم في جاهلية ولا إسلام، فيكون هذا التفسير بياناً لقرابة الرسول صلى الله عليه وسلم القريبة، وأما من يعطون فقد بينهم الحديث الذي مر عن جبير بن مطعم رضي الله عنه.
قوله: [حدثنا حسين بن علي العجلي].
حسين بن علي العجلي، صدوق يخطئ كثيراً، أخرج له أبو داود والترمذي.
[حدثنا وكيع].
وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن بن صالح].
الحسن بن صالح بن حي وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن السدي].
السدي هو إسماعيل بن عبد الرحمن، وهو صدوق يهم، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.(350/9)
شرح أثر عمر في سهم ذوي القربى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة قال: حدثنا يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني يزيد بن هرمز أن نجدة الحروري حين حج في فتنة ابن الزبير أرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما يسأله عن سهم ذي القربى ويقول: لمن تراه؟ قال ابن عباس: لقربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قسمه لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان عمر رضي الله عنه عرض علينا من ذلك عرضاً رأيناه دون حقنا فرددناه عليه، وأبينا أن نقبله].
أورد أبو داود هذا الحديث عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نجدة الحروري سأل ابن عباس عن سهم ذوي القربى، قال: لمن تراه؟ قال: لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قسمه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مر في حديث جبير أنه قسمه بين بني هاشم وبني المطلب.
قوله: [وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضاً رأيناه دون حقنا فرددناه عليه، وأبينا أن نقبله].
ولعل السبب -كما ذكرت سابقاً- أن هذا النقص بسبب نقص الغلة.(350/10)
تراجم رجال إسناد أثر ابن عباس في سهم ذوي القربى
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عنبسة].
عنبسة بن خالد الأيلي، وهو صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود.
[حدثنا يونس عن ابن شهاب أخبرني يزيد بن هرمز].
مر ذكرهما، ويزيد بن هرمز هو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[أن نجدة الحروري حين حج في فتنة ابن الزبير أرسل إلى ابن عباس].
الحروري يعني: أنه من الخوارج، نسبة إلى الحرورية الذين كانوا في حروراء عندما خرجوا على علي رضي الله عنه وقاتلهم، وكان ابن عباس هو الذي أرسله علي لمناقشتهم ولبيان ضلالهم.(350/11)
شرح أثر علي (ولاني رسول الله خمس الخمس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عباس بن عبد العظيم حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا أبو جعفر الرازي عن مطرف عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: (ولاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمس الخمس فوضعته مواضعه حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحياة أبي بكر وحياة عمر رضي الله عنهما، فأتي بمال فدعاني فقال: خذه فقلت: لا أريده، قال: خذه فأنتم أحق به، قلت: قد استغنينا عنه، فجعله في بيت المال)].
أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه أنه قال: (ولاني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس الخمس فوضعته مواضعه حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك في زمن أبي بكر، وفي زمن عمر، فأتي بمال فدعاني فقال: خذه، فقلت: لا أريده، قال: خذه فأنتم أحق به، قلت قد استغنينا عنه، فجعله في بيت المال).(350/12)
تراجم رجال إسناد أثر علي (ولاني رسول الله خمس الخمس)
قوله: [حدثنا عباس بن عبد العظيم].
عباس بن عبد العظيم العنبري ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا يحيى بن أبي بكير].
يحيى بن أبي بكير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو جعفر الرازي].
أبو جعفر الرازي، وهو صدوق سيئ الحفظ، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن مطرف].
مطرف بن طريف وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن أبي ليلى].
عبد الرحمن بن أبي ليلى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي].
علي رضي الله عنه أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهاديين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
هذا الحديث فيه أبو جعفر الرازي، قال عنه الحافظ: صدوق سيئ الحفظ، وقد ضعفه الألباني، ولعله من أجل أبي جعفر الرازي هذا.(350/13)
شرح أثر علي (اجتمعت أنا والعباس وفاطمة وزيد بن حارثة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير حدثنا هاشم بن البريد قال: حدثنا حسين بن ميمون عن عبد الله بن عبد الله عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (سمعت علياً رضي الله عنه يقول: اجتمعت أنا والعباس وفاطمة وزيد بن حارثة رضي الله عنهم عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله! إن رأيت أن توليني حقنا من هذا الخمس في كتاب الله عز وجل فأقسمه حياتك كي لا ينازعني أحد بعدك، قال: ففعل ذلك، قال: فقسمته حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم ولانيه أبو بكر رضي الله عنه حتى إذا كانت آخر سنة من سني عمر رضي الله عنه فإنه أتاه مال كثير فعزل حقنا ثم أرسل إلي فقلت: بنا عنه العام غنى، وبالمسلمين إليه حاجة؛ فاردده عليهم، فرده عليهم ثم لم يدعنا إليه أحد بعد عمر، فلقيت العباس بعدما خرجت من عند عمر فقال: يا علي! حرمتنا الغداة شيئاً لا يرد علينا أبداً، وكان رجلاً داهياً)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، مع زيادة تفصيل وتوضيح.
وقوله: وكان رجلاً داهياً، أي: عنده فطنة وحذق ودهاء.(350/14)
تراجم رجال إسناد أثر علي (اجتمعت أنا والعباس وفاطمة وزيد بن حارثة)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير].
ابن أبي شيبة مر ذكره، وابن نمير هو عبد الله، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هاشم بن البريد].
هاشم بن البريد وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا حسين بن ميمون].
حسين بن ميمون لين الحديث، أخرج له أبو داود والنسائي في مسند علي.
[عن عبد الله بن عبد الله].
عبد الله بن عبد الله صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي].
مر ذكرهما.(350/15)
الأسئلة(350/16)
معنى قوله (فغلبه علي على الصدقة)
السؤال
ما معنى قوله: فدفعها عمر إلى علي وعباس رضي الله عنهم فغلبه علي عليها؟
الجواب
كأن علياً رضي الله عنه كان يتصرف في ذلك الذي جعل إليهما، فأنكر عليه العباس بأنه يتصرف بلا موافقته، فجاء يشتكيه، وليس معنى ذلك أنه غلبه عليها بمعنى أنه انتزعها منه، ولم يعد له فيها نصيب، وقد جعل ذلك عمر إليهما جميعاً، ولكن لعله رأى أنه يتصرف في بعض الأشياء أو يعطي في بعض الأشياء دون أن يرجع إلى العباس، لا أنه انتزعها من العباس، والعباس ما بقي بيده شيء، ولا بقي متصرفاً.(350/17)
معنى قوله (فرأيت أمراً منعه رسول الله فاطمة ليس لي بحق)
السؤال
ما معنى قول عمر بن عبد العزيز قوله: (فرأيت أمراً منعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة رضي الله عنها ليس لي بحق)؟
الجواب
جاء في أول الحديث: أن فاطمة طلبته أن يعطيها فدك، فالرسول صلى الله عليه وسلم أبى أن يعطيها، ثم جاء في الآخر: أن مروان أقطع ذلك الشيء، ومروان هو جد عمر بن عبد العزيز، فآل الأمر إليه، فأعاده إلى ما كان عليه في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الحديث غير ثابت؛ لأنه مرسل.(350/18)
إرضاء أبي بكر لفاطمة
السؤال
هل هناك دليل على إرضاء أبي بكر رضي الله عنه لـ فاطمة رضي الله عنها؟
الجواب
ورد أنه استأذن عليها، فقالت لـ علي: هل تأذن؟ فقال: نعم؛ فدخل واسترضاها بكلام جميل ورضيت.(350/19)
جواز نسخ برامج الكمبيوتر لغير التجارة
السؤال
نقل عنكم أنكم أجزتم نسخ برامج الحاسب الآلي لمن يستخدمها لنفسه لا للتجارة فهل هذا صحيح؟
الجواب
الذي يبدو -والله أعلم- أنه إذا كان فيها غلاء فاحش، وصاحبها طلب فيها أشياء فيها مغالاة، فلا بأس بذلك إذا كان الإنسان يريد أن يستفيد منها فقط، لا أن يتجر؛ لأن المحذور هو التجارة.
لكن ليس له أن يقسم وهو كاذب، لكن إذا كانت المسألة ما فيها قسم، فيمكنه أن يستنسخ بسبب المغالاة، فمثلاً: أول ما ظهر كتاب معجم ألفاظ الحديث النبوي كان يباع بخمسة آلاف، وبعد ذلك صور وصار يباع بثلاثمائة ريال فقط.(350/20)
حكم تخصيص علي بالدعاء بلفظ (عليه السلام)
السؤال
يمر معنا في المتون عند ذكر علي عليه السلام أو فاطمة عليها السلام، فما تعليقكم؟
الجواب
هذا من عمل النساخ، وليس من عمل المؤلفين، وقد ذكر هذا ابن كثير رحمه الله عند تفسير قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، فقال: إن هذا من عمل بعض نساخ الكتب عندما يمر عليه علي يقول: عليه السلام، قال ابن كثير: وإلا فالأصل أن يعامل جميع الصحابة معاملة واحدة، وهو الترضي عنهم، فيقال: رضي الله عنه.(350/21)
شرح حديث (إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة حدثنا يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه أخبره أن أباه ربيعة بن الحارث وعباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما قالا لـ عبد المطلب بن ربيعة وللفضل بن العباس رضي الله عنهم أجمعين: (ائتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقولا له: يا رسول الله! قد بلغنا من السن ما ترى وأحببنا أن نتزوج، وأنت -يا رسول الله- أبر الناس وأوصلهم، وليس عند أبوينا ما يصدقان عنا، فاستعملنا -يا رسول الله- على الصدقات فلنؤدي إليك ما يؤدي العمال، ولنصب ما كان فيها من مرفق، قال: فأتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ونحن على تلك الحال فقال لنا: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا والله لا يستعمل منكم أحداً على الصدقة، فقال له ربيعة: هذا من أمرك، قد نلت صهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم نحسدك عليه، فألقى علي رداءه ثم اضطجع عليه فقال: أنا أبو حسن القرم، والله لا أريم حتى يرجع إليكم ابناكما بجواب ما بعثتما به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال عبد المطلب: فانطلقت أنا والفضل إلى باب حجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى نوافق صلاة الظهر قد قامت، فصلينا مع الناس ثم أسرعت أنا والفضل إلى باب حجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يومئذ عند زينب بنت جحش رضي الله عنها، فقمنا بالباب حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ بأذني وأذن الفضل ثم قال: أخرجا ما تصرران، ثم دخل فأذن لي وللفضل فدخلنا فتواكلنا الكلام قليلاً ثم كلمته أو كلمه الفضل -قد شك في ذلك عبد الله - قال: كلمه بالأمر الذي أمرنا به أبوانا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساعة ورفع بصره قبل سقف البيت حتى طال علينا أنه لا يرجع إلينا شيئاً حتى رأينا زينب تلمع من وراء الحجاب بيدها تريد ألا تعجلا، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمرنا، ثم خفض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه فقال لنا: إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد، ادعوا لي نوفل بن الحارث، فدعي له نوفل بن الحارث فقال: يا نوفل أنكح عبد المطلب، فأنكحني نوفل، ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ادع لي محمية بن جزء، وهو رجل من بني زبيد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استعمله على الأخماس، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لـ محمية: أنكح الفضل، فأنكحه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قم فأصدق عنهما من الخمس كذا وكذا)، لم يسمه لي عبد الله بن الحارث].
سبق أن مر معنا جملة من الأحاديث تحت باب مواضع قسم الفيء وسهم ذي القربى، وهذا الحديث الذي أورده المصنف عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب هو من جملة هذه الأحاديث التي تتعلق ببيان مصرف الخمس، وفيه أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر محمية بن جزء أن يدفع صداقاً لكل من الفضل بن العباس ولـ عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب من الخمس، وقد كان هذا الذي دعاه ليمهرهما وليدفع الصداق عنهما هو المسئول عن ذلك.
والحديث في أوله أن العباس بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وأحدهما عم النبي صلى الله عليه وسلم والثاني ابن عمه؛ أرسلا ولديهما عبد المطلب بن ربيعة والفضل بن العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليطلبا منه أن يوليهما على عمل من أعمال الصدقات؛ حتى يحصلا عمالة مقابل عملهما على الصدقة ليتزوجا، فذهبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بعد الصلاة، فسبقوه إلى باب حجرته، وكان عند زينب رضي الله عنها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم واستأذناه ودخلا عليه وأخبراه بقصدهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الصدقة أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) وطلب من نوفل بن الحارث أن يزوج عبد المطلب، وطلب من محمية أن يزوج الفضل.
ثم طلب من محمية وهو المسئول عن الأخماس أن يدفع المهر والصداق عن كل منهما من الخمس، وهذا هو محل الشاهد من الترجمة، ففيه بيان مصرف الخمس، قيل: إن هذا من الخمس الخاص به صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنه من سهم ذوي القربى الذي هو خمس الخمس، فإن الفضل بن العباس وعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث من ذوي القربى.
وابن ربيعة بن الحارث اسمه عبد المطلب، وقد كان هذا الاسم في الإسلام، وهو صحابي، والرسول صلى الله عليه وسلم ما غير اسمه، وقد غير أسماء كثيرة معبدة لغير الله، ولم يغير اسم عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث؛ ولهذا قال ابن حزم في كتابه مراتب الإجماع: أجمعوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله حاشا عبد المطلب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغير اسم عبد المطلب بن ربيعة الذي معنا في هذا الإسناد، فدل على أن التسمية بعبد المطلب جائزة، ولكن الأولى عدم ذلك، وأن يسمى الطفل بالأسماء الكثيرة التي لا شبهة فيها، وكون الرسول صلى الله عليه وسلم أقر هذه التسمية دال على الجواز.
وفي الحديث دلالة على كون الإنسان يسعى لتحصيل الرزق ولتحصيل المال والاكتساب من أجل الزواج وغير الزواج؛ لأن هذين الرجلين جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبان منه العمل، وأن يوليهم على الصدقات -يعني: على جبايتها وللسعاية فيها- من أجل أن يحصلا مالاً يتزوجان به؛ لأنهما بلغا سن الزواج.
وفي قولهما: (وليس لأبوينا ما يصدقاننا) دليل على أن الأب عليه أن يزوج ابنه، وذلك أنهما أخبرا بأنه ليس عندهما شيئ يزوجانهما به، ولو كان عندهما شيء لحصل التزويج، ولم يكونا بحاجة إلى أن يسعيا هذا المسعى ويطلبا هذا المطلب، فدل على أن الإنسان يزوج من بلغ حد الزواج من أولاده إذا تمكن من ذلك، وهذا من قبيل النفقة، ولا يقال: إنه من قبيل الهبة والعطية، وأنه إذا أعطاه ما يتزوج به يرصد لكل واحد من الأولاد الصغار والكبار مثل ذلك، بل هذا من قبيل النفقة، وكل شيء يكون في وقته، فإذا بلغ هذا زوجه، وإذا بلغ الذي بعده حد الزواج زوجه، وإذا بلغ الثالث بعده حد الزواج زوجه، وهكذا، ولا يرصد لكل واحد منهم مبلغاًَ من المال يعادل ذلك المال الذي زوج به أحدهم، بل إن المهور قد تختلف من وقت إلى وقت، وقد يزوج هذا بمقدار معين، ويزوج هذا بمقدار معين، وهذا يعتبر من قبيل النفقة، وليس من قبيل الهبة والعطية التي يلزم فيها التسوية بين الأولاد، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة النعمان بن بشير أنه قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم).
قوله: [(وأنت يا رسول الله أبر الناس وأوصلهم)].
يعني: أوصلهم للرحم، ونحن من قرابتك.
قوله: [(وليس عند أبوينا ما يصدقان عنا، فاستعملنا يا رسول الله على الصدقات، فلنؤد إليك ما يؤدي العمال، ولنصب ما كان فيها من مرفق)].
يعني: من الشيء الذي نرتفق به، ونستعين به على الزواج.
قوله: [(فأتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ونحن على تلك الحال فقال لنا: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا والله لا يستعمل منكم أحداً على الصدقة)].
حضر علي رضي الله تعالى عنه المحاورة التي جرت بين العباس وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وبين ابنيهما، وإرسالهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن يجعلهما من السعاة ومن العاملين على الصدقات ليحصلا مالاً يتزوجان به، وعلي رضي الله عنه عنده علم بأن آل البيت لا يولون على الصدقة، فقال: إن النبي لا يفعل ذلك؛ لأن أهل البيت ليس لهم نصيب في الصدقة، لا من ناحية صرفها عليهم، ولا من ناحية توليتهم عليها لجبايتها؛ لأن العامل على الزكاة يأخذ من الصدقة، والصدقة أوساخ الناس، وهي لا تصلح لمحمد ولا لآل محمد، وإنما يعطون من خمس الغنيمة، ويعطون من الفيء، وأما الصدقات فإنهم لا يعطون منها، لا من أجل قضاء حوائجهم وفقرهم، ولا من أجل سعايتهم؛ لأن العاملين عليها من مصارف الزكاة، والزكاة أوساخ الناس، والرسول صلى الله عليه وسلم جعل آل بيته لا يكون لهم نصيب فيها، ولا تحل لهم الصدقة.
قوله: [(فقال له ربيعة: هذا من أمرك، قد نلت صهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم نحسدك عليه)].
يعني: هذا شيء منك وأنت ظفرت بشيء لم يظفر به غيرك، ونحن لم نحسدك عليه.
قوله: [(فألقى علي رداءه ثم اضطجع عليه فقال: أنا أبو حسن القرم)].
يعني: هذا الكلام الذي قلته لكم عن علم، وأنا سأنتظر الجواب الذي يأتيان به من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم أن الجواب سيكون أنهما من آل البيت، وآل البيت لا تحل لهم الصدقة.
وقوله: أنا أبو حسن القرم، الأصل في (القرم) الفحل من الحيوان، ويراد به من يكون سيداً، ومن يكون له رأي ومعرفة، وكانت النتيجة أن كان الجواب م(350/22)
تراجم رجال إسناد حديث (إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عنبسة].
عنبسة بن خالد الأيلي وهو صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود.
[حدثنا يونس].
يونس بن يزيد الأيلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي].
عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي، له رؤية، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث].
عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وهو صحابي، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي.(350/23)
تابع شرح حديث (إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس)
قسم علي رضي الله عنه أنه سيبقى حتى يرجعا بالجواب، لا يدل على أنهم كانوا حول المسجد قريبين من المسجد، ولعله قال ذلك قبل الظهر بوقت طويل، وكان يتوقع أنهما سيذهبان سريعاً قبل إقامة الصلاة.
وقوله: (حتى رأينا زينب تلمع من وراء الحجاب بيدها) هذا لا يدل على أن اليدين ليستا بعورة، ولا يلزم من ذلك أنها مكشوفة، فالأصل أن تكون يدها مغطاة.
قوله: [(قد بلغنا من السن ما ترى)].
يعني: أنهما بلغا سن الزواج.
وتزويج الأب لأبنائه إذا كان موسراً الظاهر أنه على الوجوب إذا كانوا لا يقدرون على الزواج، والواجب زوجة واحدة، لأن المقصود أن يعفهم ويحصل لهم الإعفاف، وتزويجهم من باب النفقة لا العطية؛ لأنه لو كان من قبيل العطية للزم التسوية بين الصغير والكبير، فيرصد للصغار مبالغ بمقدار ما زوج الكبير، ولكن الزواج من باب النفقة وهي تختلف، فمثلاً الولد الذي في الابتدائي ليس مثل الذي في الثانوي في النفقة، ولا ينفق على هذا مثلما ينفق على هذا، وقد يحتاج الولد إلى سيارة فيعطيه سيارة، وإذا كبر الثاني يعطيه سيارة، وهكذا، وهذا من قبيل النفقة.(350/24)
شرح سنن أبي داود [351]
لقد بين الله تبارك وتعالى حقارة هذه الدنيا ومتاعها، وبين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك هذا المعنى وجعله واقعاً ملموساً في حياته صلى الله عليه وسلم، فما ادخر شيئاً لنفسه، بل كان يقسم الفيء والغنائم وحتى خمسه للفقراء والمساكين، وقد ربى النبي أصحابه وكذا ابنته فاطمة على هذا المعنى، وأوصاهم بما هو خير لهم من هذه الدنيا الزائلة، وقد كان صلى الله عليه وسلم أجود من الريح المرسلة، لا يرد أحداً سأله، ولا يمنع عطائه ممن منعه، ولا يداهن في الحق أحداً، فهو القرآن الذي يمشي على الأرض.(351/1)
تابع مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى(351/2)
شرح حديث قصة قتل حمزة لشارفي علي
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة بن خالد حدثنا يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني علي بن حسين أن حسين بن علي أخبره: (أن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطاني شارفاً من الخمس يومئذ، فلما أردت أن أبني بـ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورضي الله عنها واعدت رجلاً صواغاً من بني قينقاع أن يرتحل معي، فنأتي بإذخر أردت أن أبيعه من الصواغين فأستعين به في وليمة عرسي، فبينا أنا أجمع لشارفي متاعاً من الأقتاب والغرائر والحبال، وشارفاي مناخان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار؛ أقبلت حين جمعت ما جمعت فإذا بشارفي قد اجتبت أسنمتهما، وبقرت خواصرهما، وأخذ من أكبادهما؛ فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر، فقلت: من فعل هذا؟! قالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار، غنته قينة وأصحابه فقالت في غنائها: ألا يا حمز للشرف النواء، فوثب إلى السيف فاجتب أسنمتهما، وبقر خواصرهما، وأخذ من أكبادهما، قال علي: فانطلقت حتى أدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده زيد بن حارثة رضي الله عنه، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لقيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك؟ قال: قلت: يا رسول الله! ما رأيت كاليوم، عدا حمزة على ناقتي فاجتب أسنمتهما، وبقر خواصرهما، وها هو ذا في بيت معه شرب، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه فارتداه ثم انطلق يمشي واتبعته أنا وزيد بن حارثة حتى جاء البيت الذي فيه حمزة، فاستأذن فأذن له، فإذا هم شرب، فطفق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة ثمل محمرة عيناه، فنظر حمزة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم صعد النظر فنظر إلى ركبتيه، ثم صعد النظر فنظر إلى سرته، ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه، ثم قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟ فعرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه ثمل، فنكص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عقبه القهقرى فخرج وخرجنا معه)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه الذي فيه أنه عند استعداده للزواج بـ فاطمة رضي الله تعالى عنها كان عنده شارف حصل عليه يوم بدر من الغنائم، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم شارفاً من الخمس، والشارف: هو المسن من الإبل الذي يحمل عليه، ومحل الشاهد من إيراد هذا الحديث في باب مواضع قسم الفيء وسهم ذي القربى هو كونه أعطاه شارفاً من الخمس.
وكان يستعد للزواج بـ فاطمة رضي الله عنهما فأناخهما عند باب رجل من الأنصار، وكان يستعد للذهاب ليأتي بإذخر عليهما؛ من أجل أن يبيع ذلك على الصواغين، ويكون ما يحصله من القيمة وليمة لزواجه من فاطمة رضي الله تعالى عنها.
ولما جمع واستعد وتهيأ ولم يبق إلا أن يذهب على هذين البعيرين، جاء وإذا أسنمتهما قد جبت، وخواصرهما قد بقرت، وأخرجت أكبادهما، فرأى منظراً هاله، فتألم وتأثر من سوء المنظر، وهذان الشارفان كان سيعمل عليهما لتحصيل المال الذي يجعله وليمة ثم وجدهما قد صارا على هذه الحال، فقال: من فعل هذا؟ قالوا: حمزة، وهو شرب مع جماعة، يعني: قد شربوا الخمر، وهذا قبل أن تحرم الخمر.
فذهب إلى رسول صلى الله عليه وسلم، فرأى رسول الله وجهه قد تغير متأثراً فسأله فقال: قد حصل كذا وكذا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه وذهب ومعه زيد بن حارثة حتى جاءوا إلى ذلك البيت، فاستأذن فأذن له، فوجد حمزة، وظن أنه صاح، فجعل يلومه، وحمزة قد ثمل وقد سكر، فنظر إلى ركبته ثم إلى سرته ثم إلى وجهه ثم قال: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟ قال هذا لكون عقله غير موجود، وهذا من مفاسد ومساوئ الخمر، فهي تجعل الإنسان بدون عقل، فكيف يسعى من أعطاه الله تعالى عقلاً إلى إذهابه وإزالته بشربه الخمر! ولهذا قيل لها: أم الخبائث؛ لأنها تؤدي إلى كل الخبائث، إلى القتل وإلى الزنا، بل قد يكون الزنا في المحارم والأقارب؛ لأن العقل قد فقد، وهذا من مساوئ الخمر، وابن الوردي له قصيدة لامية جميلة في الأخلاق والآداب، ومن جملة ما يقول فيها: واترك الخمرة إن كنت فتى كيف يسعى في جنون من عقل فالرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى حمزة كذلك رجع القهقرى؛ لأنه ما دام سكران فقد يحصل منه تصرف يسوء، كأن يفتك بهم أو يؤذيهم؛ فرجع القهقرى لكون الخطاب ليس له مجال مع فاقد العقل.
قوله: [(فلما أردت أن أبني بـ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واعدت رجلاً صواغاً من بني قينقاع يرتحل معي فنأتي بإذخر)].
يبني بها يعني: يدخل عليها، بأن تزف إليه ويكون الدخول والالتقاء بين الزوج والزوجة.
والصواغ هو الذي يصوغ الذهب أو الفضة أو يعمل في الأشياء التي يتجمل بها، وقد كان هذا الصواغ من اليهود.
والإذخر نبت طيب الرائحة، وكان الصواغون يتخذونه للوقود، وكان يستعمل أيضاً في سقف البيوت، ويستعمل أيضاً في المقابر حيث يكون بين اللبنات.
قوله: [(أردت أن أبيعه من الصواغين فأستعين به في وليمة عرسي)].
أي: أبيعه على الصواغين، وهذا فيه مشروعية الوليمة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ عبد الرحمن بن عوف لما تزوج: (أولم ولو بشاة).
قوله: [(فبينا أنا أجمع لشارفي متاعاً من الأقتاب والغرائر والحبال)].
الأقتاب جمع قتب، وهو ما يوضع على ظهر البعير بحيث يربط به الحمل أو يكون عليه الراكب، والحبال من أجل أن يحزم بها الإذخر الذي يريد أن يجمعه، ويأتي به محمولاً على هذين الشارفين.
والغرائر جمع غرارة، وهي الوعاء الذي يكون فيه الزاد الذي يتزوده الراكب.
قوله: [(فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر)].
يعني أن هذا المنظر ساءه، فهو منظر مهول مفزع ومفجع.
قوله: [(قالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب، وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار)].
يعني: السبب الذي جعله يفعل هذا الفعل أنه سكران فاقد عقله، وكان أيضاً سبب ذلك القينة التي كانت تغنيهم، وذكرت الشارفين، وحرضت عليهما في غنائها، فبادر حمزة إلى نحرهما وإلى بقر بطونهما وإلى جب أسنمتهما.
قوله: [(غنته قينة وأصحابه فقالت في غنائها: ألا يا حمز للشرف النوى)].
يعني: يا حمزة أو يا حمز من باب الترخيم، للشرف، أي: هذه الإبل، النوى: السمينة، وتتمة البيت قولها: وهن معقلات في الفناء يعني: تحثه على أن يأتي بشيء يأكلونه من هذه الشرف، فبادر وفعل هذا الفعل في حال سكره، وكان ذلك قبل أن تحرم الخمر.
وفيه أن الغناء له أثر مثل الخمر فقد يهيج ويؤثر، ولعله يؤثر على السكران أكثر، ولعل هذا أيضاً قبل تحريم الغناء.
والسكران يضمن، كما أن البهيمة إذا تركت وأتلفت شيئاً يضمن صاحبها، وكذلك المجنون والصغير، وليس في الحديث ذكر تضمين حمزة، فلعله حصل التسامح معه.(351/3)
تراجم رجال إسناد حديث قصة قتل حمزة لشارفي علي
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة بن خالد حدثنا يونس حدثنا ابن شهاب أخبرني علي بن حسين].
علي بن حسين هو زين العابدين علي بن حسين بن علي بن أبي طالب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وأبوه هو الحسين بن علي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن علي].
علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهو رابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(351/4)
شرح حديث (سبقكن يتامى بدر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب حدثني عياش بن عقبة الحضرمي عن الفضل بن الحسن الضمري أن أم الحكم أو ضباعة ابنتي الزبير بن عبد المطلب حدثته عن إحداهما أنها قالت: (أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبياً فذهبت أنا وأختي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فشكونا إليه ما نحن فيه، وسألناه أن يأمر لنا بشيء من السبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سبقكن يتامى بدر، ولكن سأدلكن على ما هو خير لكن من ذلك: تكبرن الله على إثر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين تكبيرة، وثلاثاً وثلاثين تسبيحة، وثلاثاً وثلاثين تحميدة، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير).
قال عياش: وهما ابنتا عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم].
أورد أبو داود رحمه الله حديث ضباعة أو أم الحكم ابنتا الزبير بن عبد المطلب، وهما ابنتا عم النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بن عبد المطلب، أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه سبي، وذهبت هاتان المرأتان مع ابنته فاطمة رضي الله تعالى عن الجميع يطلبن منه أن يعطيهن من يخدمهن، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (سبقكن يتامى بدر) يعني: اليتامى أولى منكم، وأرشدهن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذكر يكون فيه عون لهن بإذن الله، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يحقق لهن ما كن يردن من إعطائهن الخدم؛ لكون إعطاء اليتامى والمستحقين ممن هو مقدم في العطاء أولى، ولكنه صلى الله عليه وسلم أرشدهن إلى هذا الذكر الذي يكون فيه عون بإذن الله على القوة والنشاط، وبه يحصل الاستغناء عن الخادم.(351/5)
تراجم رجال إسناد حديث (سبقكن يتامى بدر)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب].
أحمد بن صالح مر ذكره، وعبد الله بن وهب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عياش بن عقبة الحضرمي].
عياش بن عقبة الحضرمي وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن الفضل بن حسن الضمري].
الفضل بن حسن الضمري، وهو صدوق، أخرج له أبو داود.
[عن أم الحكم أو ضباعة].
أم الحكم صحابية، أخرج لها أبو داود، وأختها ضباعة هي صاحبة حديث الاشتراط في الحج، الذي فيه: (أن محلي حيث حبستني) وهي ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، وهي صحابية أخرج لها أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن إحداهما].
يعني: واحدة منهما تروي عن الأخرى.(351/6)
شرح حديث (اتقي الله يا فاطمة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن خلف حدثنا عبد الأعلى عن سعيد -يعني الجريري - عن أبي الورد عن ابن أعبد قال: (قال لي علي رضي الله عنه: ألا أحدثك عني وعن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورضي الله عنها وكانت من أحب أهله إليه؟ قلت: بلى، قال: إنها جرت بالرحى حتى أثر في يدها، واستقت بالقربة حتى أثر في نحرها، وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم خدم فقلت: لو أتيت أباك فسألتيه خادماً، فأتته فوجدت حداثاً، فرجعت، فأتاها من الغد فقال: ما كان حاجتك؟ فسكتت فقلت: أنا أحدثك يا رسول الله جرت بالرحى حتى أثرت في يدها، وحملت بالقربة حتى أثرت في نحرها، فلما أن جاءك الخدم أمرتها أن تأتيك فتستخدمك خادماً يقيها حر ما هي فيه قال: اتق الله يا فاطمة، وأدي فريضة ربك، واعملي عمل أهلك، فإذا أخذت مضجعك فسبحي ثلاثاً وثلاثين، واحمدي ثلاثاً وثلاثين، وكبري أربعاً وثلاثين، فتلك مائة فهي خير لك من خادم قالت: رضيت عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم)].
أورد المصنف رحمه الله حديث علي رضي الله عنه وأرضاه أن فاطمة رضي الله عنها حصل لها شيء من التعب والنصب في عملها في البيت، حيث قد حصل ليديها التأثر من الطحن بلرحى، ولنحرها من الاستقاء بالقربة، واغبرت ثيابها من الكنس، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه سبي، فأمر فاطمة أن تذهب لتطلب منه أن يعطيها خادماً، فذهبت ووجدت عنده حداثاً -أي: أناساً يتحدثون- فرجعت، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليها في منزلها، وسألها عن حاجتها التي جاءت من أجلها، فاستحيت وسكتت، فأخبره علي رضي الله عنه بخبرها، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشدها عند نومها أن تحمد الله عز وجل ثلاثاً وثلاثين، وتسبح الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبر أربعاً وثلاثين، فذلك خير لها من خادم، فرضيت بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحديث في إسناده من هو متكلم فيه، ولكن ما يتعلق بالأمر بالتسبيح والتحميد والتكبير عند النوم ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وكانت من أحب أهله إليه).
أي: إلى رسول صلى الله عليه وسلم.(351/7)
تراجم رجال إسناد حديث (اتقي الله يا فاطمة)
قوله: [حدثنا يحيى بن خلف].
يحيى بن خلف صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا عبد الأعلى].
عبد الأعلى بن عبد الأعلى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد -يعني الجريري -].
سعيد الجريري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الورد].
وهو مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي.
[عن ابن أعبد].
هو علي بن أعبد وهو مجهول، أخرج له أبو داود، والنسائي في مسند علي.
[عن علي رضي الله عنه].
علي أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادي المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(351/8)
تابع شرح حديث (اتقي الله يا فاطمة)
يقول الخطابي: فيه من الفقه أن المرأة ليس لها أن تطالب زوجها بخادم كما لها أن تطالبه بالنفقة والكسوة، وإنما لها عليه أن يكفيها الخدمة، وقوله الأخير غير واضح، فالخدمة في البيت تقوم بها المرأة، وهذا هو الذي أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فاطمة في هذا الحديث، والنساء في البيوت يقمن بما يتعلق بالبيوت من إعداد الطعام وتربية الأولاد، وإذا كانت هناك حاجة وضرورة تلجئ إلى خادم فينبغي له أن يحقق لها ما تريد، والقيام بشئون البيت هو من الأمور اللازمة على المرأة، والتي يتعين عليها أن تقوم بها.
والشاهد من الحديث للترجمة كونها طلبت من هذا السبي خادماً، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يعطها لقوله في الحديث المتقدم: (سبقكن يتامى بدر) فهو يقدم من يكون أشد حاجة، وقد أرشدها إلى شيء يحقق لها ما تريد، ويحصل لها بذلك العون والإعانة من الله عز وجل.
وقد تكون طلبت من الحق أكثر مما لها من الفيء.(351/9)
طريق أخرى لحديث (اتقي الله يا فاطمة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن علي بن الحسين بهذه القصة قال: (ولم يخدمها)].
أورد المصنف طريقاً آخر للحديث المتقدم، وفيه: (ولم يخدمها) يعني: ما حقق رغبتها، ولكنه علمها شيئاً يكون به قوة لها، وذلك خير لها من خادم، والحديث رجاله ثقات، ولكنه فيه انقطاع بين علي بن الحسين وعلي؛ لأن روايته عنه مرسلة.(351/10)
تراجم رجال إسناد الطريق الأخرى لحديث (اتقي الله يا فاطمة)
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد المروزي].
أحمد بن محمد المروزي ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي بن الحسين].
علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[بهذه القصة].
يعني: بالقصة التي تقدمت في إسناد الحديث السابق، وهذا الإسناد لا يقوي الذي قبله؛ لانقطاعه، ولكن قضية التكبير والتحميد والتسبيح ثابتة.(351/11)
شرح حديث (لو كنت جاعلاً لمشرك دية جعلت لأخيك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عيسى حدثنا عنبسة بن عبد الواحد القرشي قال: أبو جعفر -يعني ابن عيسى: - كنا نقول: إنه من الأبدال قبل أن نسمع أن الأبدال من الموالي قال: حدثني الدخيل بن إياس بن نوح بن مجاعة عن هلال بن سراج بن مجاعة عن أبيه عن جده مجاعة رضي الله عنه: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يطلب دية أخيه قتلته بنو سدوس من بني ذهل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لو كنت جاعلاً لمشرك دية جعلت لأخيك، ولكن سأعطيك منه عقبى، فكتب له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمائة من الإبل من أول خمس يخرج من مشركي بني ذهل، فأخذ طائفة منها وأسلمت بنو ذهل، فطلبها بعد مجاعة إلى أبي بكر رضي الله عنه، وأتاه بكتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكتب له أبو بكر باثني عشر ألف صاع من صدقة اليمامة: أربعة آلاف براً، وأربعة آلاف شعيراً، وأربعة آلاف تمراً، وكان في كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـ مجاعة: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي لـ مجاعة بن مرارة من بني سلمى: إني أعطيته مائة من الإبل من أول خمس يخرج من مشركي بني ذهل عقبة من أخيه)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن مجاعة بن مرارة رضي الله تعالى عنه: (أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب دية أخيه قتلته بنو ذهل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت جاعلاً لمشرك دية لجعلتها لأخيك، ولكن سأعطيك عقبى) أي: يعوضه عن هذه الدية من أول خمس يخرج من مشركي بني ذهل، وهم هؤلاء الذين قتلوا أخاه، وهذا محل الشاهد من إيراد الحديث للترجمة: أنه أعطاه من الخمس ما يقابل دية أخيه عقبى، أي: عوضاً عن الدية، فأراد أن يعطيه هذا تأليفاً له ولقومه، والخمس يصرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يراه.
فأخذ طائفة منها ثم إنها أسلمت تلك القبيلة التي وعده بأن يعطيه من خمسها، فجاء إلى أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه اثني عشر ألف صاع من صدقة اليمامة مجزأة: أربعة آلاف بر، وأربعة آلاف شعير، وأربعة آلاف تمر.
والحديث غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيه من هم مقبولون، يعني: لا تصح روايتهم إلا عند المتابعة، ولم يرو لهم إلا أبو داود، ولا توجد متابعة لهم، فالحديث غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.(351/12)
تراجم رجال إسناد حديث (لو كنت جاعلاً لمشرك دية جعلت لأخيك)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
محمد بن عيسى الطباع، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا عنبسة بن عبد الواحد].
عنبسة بن عبد الواحد، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود.
قال محمد بن عيسى تلميذه: كنا نعده من الأبدال قبل أن نعلم أن الأبدال من الموالي.
الأبدال وردت فيهم أحاديث ضعيفة غير ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: هم ثلاثون أو أربعون من الموالي، وكل هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي ثبت: (إن الله تعالى يبعث في كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد دينها)، وأما ذكر الأبدال فلم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: كنا نعده من الأبدال قبل أن نعلم أنه من الموالي قيل: إن المقصود بالموالي هنا الأسياد والمقدمون، يعني كنا نعده من الموالي قبل أن نعلم أنه من الموالي، أي: قبل أن نعرف نسبه وأنه من قريش، وأنه ذو نسب رفيع.
وقيل: المقصود بالموالي: غير العرب، وهذا كما في صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه: أنه كان له أمير على مكة، فجاء الأمير إلى عمر فقال له: من وليت على أهل مكة؟ قال: وليت عليهم ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: رجل من الموالي، قال: وليت عليهم مولى؟! قال: يا أمير المؤمنين! إنه عالم بكتاب الله، عارف بالفرائض، فقال رضي لله تعالى عنه: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين).
[حدثني الدخيل بن إياس بن نوح بن مجاعة].
هو مستور بمعنى: مجهول الحال، أخرج له أبو داود.
[عن هلال بن سراج بن مجاعة].
هلال بن سراج بن مجاعة مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
قيل: له رؤية، أخرج له أبو داود.
[عن جده مجاعة].
مجاعة صحابي، أخرج له أبو داود.
فهؤلاء الأربعة كلهم أخرج لهم أبو داود، وأحدهم مستور، والثاني مقبول، والمستور هو مجهول الحال، وعلى هذا فالحديث غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.(351/13)
الأسئلة(351/14)
التسبيح بعد الفريضة
السؤال
قوله صلى الله عليه وسلم: (على إثر كل صلاة) هل المراد الفرض أو النفل؟
الجواب
هذا الذكر يؤتى به بعد الفرائض وليس بعد النوافل.(351/15)
جواز التسمي بعبد المطلب
السؤال
لماذا استثني عبد المطلب من تحريم التعبيد لغير الله؟
الجواب
الذي يظهر -والله أعلم- أن الأسماء التي غيرها النبي صلى الله عليه وسلم كانت غالباً معبدة للأصنام، مثل عبد العزى، فغيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما هذا فما غيره؛ لأنه ليس فيه تعبيد لصنم، ولكن الأولى عدم التسمية به، وإن كانت التسمية به جائزة.(351/16)
التعفف عن الزكاة مع الحاجة إليها
السؤال
قوله صلى الله عليه وسلم عن الصدقة: (إنما هي أوساخ الناس)، هل يتعفف الإنسان عن الزكاة ولو كان محتاجاً إليها؟
الجواب
إذا كان محتاجاً إليها وليست محرمة عليه فله أن يأخذها، ولكن آل البيت الله تعالى شرفهم، وجعل لهم هذه المنزلة، وقد عوضوا عنها بشيء يخصهم وهو إعطاؤهم من الخمس سهم ذي القربى؛ ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا لم يعطوا من الخمس، وكانوا بحاجة إلى الصدقة؛ فإن لهم أن يأخذوها؛ لأن الشيء الذي منعوا منها بسببه غير موجود فلهم أن يأخذوها عند الضرورة أو الحاجة.(351/17)
حكم بيع العطور النسائية في بلد أكثر نسائه متبرجات
السؤال
ما حكم بيع عطور النساء في بلد النساء فيه أكثرهن متبرجات؟
الجواب
بيع الطيب سائغ، وكون المرأة تفعله على وجه محرم فإن هذا شيء آخر، والإنسان له أن يبيع الشيء الذي يجوز بيعه، ولا يمنع من بيع الشيء الذي أحل الله تعالى بيعه.(351/18)
حكم من زوج أولاده واعتبر ذلك ديناً عليهم
السؤال
أب زوج بعض أبنائه، وكان يعتبر ما أعطاهم من مال دين عليهم، فهل له أن يسامح بعضهم، علماً بأن بعضهم قد سدد ما عليه من دين؟
الجواب
كان ينبغي له ألا يجعل ذلك ديناً، وإنما يجعل ذلك إحساناً منه عليهم.(351/19)
حكم الزواج بفتاة لا يرغب فيها الأب
السؤال
أريد امرأة للزواج، ولكن أبي رفض ذلك؛ لأنه لا يحب هذه المرأة، فما قولكم؟
الجواب
اجتهد في تحسين العلاقة بينك وبين أبيك، وإذا كانت هذه المرأة دينة ومستقيمة وهي صالحة لك فاحرص على إقناعه وإرضائه.(351/20)
شرح سنن أبي داود [352]
كان للنبي عليه الصلاة والسلام سهم يدعى الصفي، إن شاء عبداً، وإن شاء أمة، وإن شاء فرساً، يختاره من رأس الغنيمة قبل أن تخمس، وكان يضرب له بسهم مع المسلمين وإن لم يشهد المعركة، وهذا حق له أعطاه الله إياه عليه أفضل الصلاة والتسليم.(352/1)
سهم الصفي(352/2)
شرح أثر الشعبي: (كان للنبي عليه الصلاة والسلام سهم يدعى الصفي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في سهم الصفي.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن مطرف عن عامر الشعبي أنه قال: (كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم سهم يدعى الصفي، إن شاء عبداً، وإن شاء أمة، وإن شاء فرساً يختاره قبل الخمس)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة: باب في سهم الصفي، والمقصود بسهم الصفي: أنه شيء للنبي صلى الله عليه وسلم يختص به، يأخذه من الغنيمة قبل أن تقسم، إن شاء فرساً، وإن شاء سيفاً، وإن شاء عبداً أو أمة، هذا يقال له: الصفي، ومعناه: أنه يصطفيه.
وقد سبق باب صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأموال، وكان يتعلق بالأراضي، وهذا يتعلق بالأشياء المنقولة.
وقد أورد المصنف أثراً عن عامر بن شراحيل الشعبي أنه قال: (كان للنبي صلى الله عليه وسلم سهم يدعى الصفي، إن شاء عبداً، وإن شاء أمة، وإن شاء فرساً يختاره قبل الخمس)، يعني: من أصل الغنيمة، ثم بعد ذلك تخمس الغنيمة، وهذا الحديث مرسل؛ لأن عامر الشعبي من التابعين، وقد أخبر بشيء حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو غير متصل بل منقطع، والمرسل غير حجة؛ لأنه يحتمل أن يكون الساقط صحابياً أو تابعياً، وعلى فرض أنه تابعي يحتمل أن يكون ضعيفاً أو يكون ثقة، فلأجل احتمال كونه تابعياً ضعيفاً رد المرسل، ولو كان الساقط صحابياً لم يذكر اسمه فلا إشكال؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم المجهول فيهم في حكم المعلوم؛ ولكن الإشكال في احتمال أن يكون من غيرهم، وهو إما أن يكون ثقة وإما أن يكون ضعيفاً، فهذا هو الذي يؤثر في الحديث.(352/3)
تراجم رجال إسناد أثر الشعبي: (كان للنبي عليه الصلاة والسلام سهم يدعى الصفي)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مطرف].
هو مطرف بن طريف، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عامر الشعبي].
هو عامر بن شراحيل الشعبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(352/4)
شرح أثر محمد بن سيرين: (كان يضرب له بسهم مع المسلمين وإن لم يشهد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عاصم وأزهر قالا: حدثنا ابن عون قال: سألت محمداً عن سهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصفي قال: كان يضرب له بسهم مع المسلمين وإن لم يشهد، والصفي يؤخذ له رأس من الخمس قبل كل شيء].
أورد المصنف هذا الأثر عن محمد بن سيرين وهو قريب من معنى أثر عامر بن شراحيل، يقول ابن عون: سألت محمداً عن سهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصفي قال: كان يضرب له بسهم مع المسلمين وإن لم يشهد، أي: وإن لم يشهد الغزوة؛ وذلك لأن الله عز وجل قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]، ففيه حق للرسول صلى الله عليه وسلم شهد أو لم يشهد، وكذلك ذوو القربى لهم حق سواء شهدوا أو لم يشهدوا.
قوله: (والصفي يؤخذ له رأس من الخمس قبل كل شيء) يعني: أنه يؤخذ من الخمس، وليس من أصل الغنيمة.(352/5)
تراجم رجال إسناد أثر محمد بن سيرين: (كان يضرب له بسهم مع المسلمين وإن لم يشهد)
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
محمد بن بشار هو الملقب بـ بندار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة، وهو من صغار شيوخ البخاري الذين روى عنهم البخاري، وكانت وفاته قبل وفاة البخاري بأربع سنوات، فـ البخاري توفي سنة (256)، ومحمد بن بشار توفي سنة (252)، ومثله في الوفاة في هذه السنة، وكونه من شيوخ أصحاب الكتب الستة: محمد بن المثنى، وكذلك يعقوب بن إبراهيم الدورقي، فهؤلاء الثلاثة من شيوخ أصحاب الكتب الستة وماتوا في سنة واحدة، وهي سنة (252).
[حدثنا أبو عاصم].
هو الضحاك بن مخلد النبيل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأزهر].
هو أزهر بن سعد السمان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا ابن عون].
هو عبد الله بن عون، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سألت محمداً].
هو محمد بن سيرين وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وهذا الأثر مثل الذي قبله، فالإسناد صحيح إلى عامر وإلى محمد بن سيرين، ولكن كل منهما مرسل.(352/6)
شرح أثر قتادة: (كان رسول الله إذا غزا كان له سهم صاف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمود بن خالد السلمي حدثنا عمر -يعني ابن عبد الواحد - عن سعيد -يعني ابن بشير - عن قتادة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا غزا كان له سهم صاف يأخذه من حيث شاءه، فكانت صفية رضي الله عنها من ذلك السهم، وكان إذا لم يغز بنفسه ضرب له بسهمه ولم يخير].
أورد أبو داود أثراً عن قتادة، وهو مرسل أيضاً كالذي قبله، إلا أن الإسناد إليه فيه من هو ضعيف.
قوله: (كان إذا غزا كان له سهم صاف) أي: خالص له، يأخذه من حيث شاء، سواء كان فرساً أو عبداً أو أمة، وكانت صفية رضي الله عنها من ذلك السهم، أي: كانت من الصفي.
قوله: (وكان إذا لم يغز بنفسه ضرب له بسهمه ولم يخير)، أي: أن هذا صفي يأخذه إذا حضر، وأما إذا لم يحضر فإن له سهمه الذي هو خمس الخمس، ولم يخير، وفي بعض الروايات: ولم يختر، أي: لم يكن له شيء يختاره من الصفي كما لو كان حاضراً.
والوالي لا يحل محل النبي صلى الله عليه وسلم، فليس له أن يصطفي، فهذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، سواء في الصفايا الثابتة كالأراضي، أو المنقولة كالعبيد والسيوف ونحوها، لكن للوالي أجرته على عمالته، فيأخذ الخليفة رزقه من الفيء بقدر ما يقيت نفسه وأهله، وليس له أن يختار شيئاً يختص به كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يختص بالصفايا.(352/7)
تراجم رجال إسناد أثر قتادة: (كان رسول الله إذا غزا كان له سهم صاف)
قوله: [حدثنا محمود بن خالد السلمي].
محمود بن خالد السلمي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا عمر -يعني ابن عبد الواحد -].
عمر بن عبد الواحد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن سعيد -يعني ابن بشير -].
هو سعيد بن بشير الدمشقي، وهو ضعيف، أخرج له أصحاب السنن.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(352/8)
شرح أثر عائشة: (كانت صفية من الصفي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا نصر بن علي قال: حدثنا أبو أحمد قال: أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كانت صفية رضي الله عنها من الصفي)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كانت صفية من الصفي) أي: مما أصطفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم واختص به.(352/9)
تراجم رجال إسناد أثر عائشة: (كانت صفية من الصفي)
قوله: [حدثنا نصر بن علي].
هو نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو أحمد].
هو محمد بن عبد الله الزبيري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقد قال الحافظ: ثقة يخطئ في حديث الثوري، وهنا يروي عن الثوري.
[أخبرنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عروة بن الزبير، وهو ثقة فقيه من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(352/10)
شرح حديث اصطفاء رسول الله لصفية يوم خيبر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سعيد بن منصور حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن الزهري عن عمرو بن أبي عمرو عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (قدمنا خيبر فلما فتح الله تعالى الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي رضي الله عنها، وقد قتل زوجها وكانت عروساً، فاصطفاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه، فخرج بها حتى بلغنا سد الصهباء حلت فبنى بها)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه لما فتحت خيبر اصطفى الرسول صلى الله عليه وسلم صفية، وكان زوجها قتل يوم خيبر، وهي حديثة عهد بعرس، ولما بلغوا مكاناً في الطريق يقال له: سد الصهباء حلت -أي: طهرت من حيضة- بنى بها؛ لأن الأمة تستبرأ بحيضة، وليس لها عدة لحق الزوج، وإنما تستبرأ بحيضة حتى يعرف أنها غير حامل، فلما طهرت من الحيض دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.(352/11)
تراجم رجال إسناد حديث اصطفاء رسول الله لصفية يوم خيبر
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن الزهري].
يعقوب بن عبد الرحمن الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن عمرو بن أبي عمرو].
عمرو بن أبي عمرو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد من رباعيات أبي داود التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود.(352/12)
شرح حديث: (صارت صفية لدحية ثم لرسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (صارت صفية رضي الله عنها لـ دحية الكلبي رضي الله عنه ثم صارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم)].
أورد المصنف حديث أنس بن مالك أن صفية كانت لـ دحية بن خليفة الكلبي، وأنها بعد ذلك صارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن دحية طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أمة، فأمره أن يأخذ واحدة، فاختار صفية، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تصلح إلا له، فأمر دحية أن يتركها ويأخذ غيرها، فاصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، وصارت من أمهات المؤمنين، حيث أعتقها وجعل عتقها صداقها رضي الله عنها وأرضاها.(352/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (صارت صفية لدحية ثم لرسول الله)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا حماد بن زيد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد العزيز بن صهيب].
عبد العزيز بن صهيب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه مر ذكره، وهذا أيضاً إسناده رباعي.(352/14)
شرح حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى صفية بسبعة أرؤس من دحية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن خلاد الباهلي حدثنا بهز بن أسد حدثنا حماد أخبرنا ثابت عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (وقع في سهم دحية رضي الله عنه جارية جميلة، فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبعة أرؤس، ثم دفعها إلى أم سليم تصنعها وتهيئها -قال حماد: وأحسبه قال:- وتعتد في بيتها: صفية بنت حيي)].
أورد المصنف حديثاً عن أنس أن صفية كانت في سهم دحية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أذن له أن يأخذ جارية من السبي، فأخذها، ثم اشتراها منه بسبعة أرؤس، قيل: ليس المقصود هو الشراء، ولكنه أمره أن يتركها ويأخذ مكانها، فزاده حتى بلغ ما أعطاه بدلها سبعة أرؤس ليرضيه عن تلك التي أخذها، وليس معنى ذلك أنه ملكها ثم اشتراها منه، وإنما أمره أن يتركها وعوضه مكانها، ولكنه زاده على المقدار الذي حصل له من قبل وهو الواحدة.
قوله: [(ثم دفعها إلى أم سليم تصنعها وتهيئها)].
أم سليم هي أم أنس، ومعنى تهيئها: أن تعدها لأن يدخل عليها صلى الله عليه وسلم، وقوله: (وتعتد في بيتها) المقصود به الخباء؛ لأنهم كانوا مسافرين، فأمرها أن تكون معها مرافقة لها، وتكون معها في خبائها حتى تطهر من الحيض، وهو استبراء للرحم، وليس عدة؛ لأن المرأة لا عدة عليها من زوجها الكافر، وإنما تستبرأ بحيضة حتى يطمأن أن رحمها بريء من الحمل، وهذا شأن الإماء إذا سبين، فإنهن يستبرأن بحيضة، ولا علاقة لأزواجهن بهن، سواء كانوا أحياء أو أمواتاً، والله عز وجل يقول: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:24] أي: ذوات الأزواج لا يحل لكم نكاحهن، ولكن يستثنى من ذلك الإماء، فإنهن يحللن لكم وإن كن ذوات أزواج، فإنه لا علاقة لأزواجهن بهن بعد أن سبين، فالفراق يحصل بسبيهن، ولكن الذي يجب هو استبراء أرحامهن، فتستبرأ الأمة بحيضة حتى يعلم براءة رحمها من أن يكون فيه ولد.(352/15)
تراجم رجال إسناد حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى صفية بسبعة أرؤس من دحية
قوله: [حدثنا محمد بن خلاد الباهلي].
محمد بن خلاد الباهلي ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا بهز بن أسد].
هو بهز بن أسد العمي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا ثابت عن أنس].
هو ثابت بن أسلم البناني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأنس بن مالك مر ذكره.(352/16)
شرح حديث: (جمع السبي بخيبر فجاء دحية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا داود بن معاذ حدثنا عبد الوارث ح وحدثنا يعقوب بن إبراهيم المعنى قال: حدثنا ابن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس رضي الله عنه قال: (جمع السبي -يعني بخيبر- فجاء دحية رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! أعطني جارية من السبي، قال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية بنت حيي رضي الله عنها، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا نبي الله! أعطيت دحية -قال يعقوب:- صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير! -ثم اتفقا- ما تصلح إلا لك، قال: ادعوه بها، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: خذ جارية من السبي غيرها، وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعتقها وتزوجها)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه لما جمع السبي طلب دحية بن خليفة جارية، فقال: (خذ جارية)، فأخذ صفية، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنها شريفة في قومها، وأنها لا تصلح إلا له، فجاء بها، وقال لـ دحية: (خذ غيرها) ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها وجعل عتقها صداقها، وكانت من أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها.(352/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (جمع السبي بخيبر فجاء دحية)
قوله: [حدثنا داود بن معاذ].
داود بن معاذ ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الوارث].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا يعقوب بن إبراهيم].
ح هي للتحول من إسناد إلى إسناد، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي ثقة، وهو الذي ذكرت قريباً أنه من صغار شيوخ البخاري، وأنه شيخ لأصحاب الكتب الستة، وأنه مات هو وبندار ومحمد بن المثنى في سنة واحدة، وهي سنة اثنتين وخمسين ومائتين.
[حدثنا ابن علية].
هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، المشهور بـ ابن علية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد العزيز عن أنس].
قد مر ذكرهما، وهذا الإسناد من الرباعيات؛ لأن الطريقين فيهما رجلان ثم يلتقيان عند عبد العزيز بن صهيب عن أنس.(352/18)
شرح حديث كتاب رسول الله إلى بني زهير بن أقيش
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا قرة قال: سمعت يزيد بن عبد الله قال: (كنا بالمربد، فجاء رجل أشعث الرأس بيده قطعة أديم أحمر فقلنا: كأنك من أهل البادية؟ فقال: أجل، قلنا: ناولنا هذه القطعة الأديم التي في يدك، فناولناها فقرأناها فإذا فيها: من محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني زهير بن أقيش، إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسهم الصفي؛ أنتم آمنون بأمان الله ورسوله، فقلنا: من كتب لك هذا الكتاب؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنه النمر بن تولب رضي الله تعالى عنه، وهو عن يزيد بن عبد الله بن الشخير قال: (كنا في المربد) وهو موضع في البصرة.
قوله: [(كأنك من أهل البادية)].
يعني: لكونه أشعث الرأس.
قوله: [(قلنا: ناولنا هذه القطعة الأديم)].
الأديم هو الجلد، وكان مكتوباً عليها هذا النص من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جماعة من العرب.
والشاهد منه: ما جاء في آخره من ذكر الخمس من المغنم وسهم النبي صلى الله عليه وسلم من الصفي، وهذا يشبه ما جاء في حديث وفد عبد القيس الذي فيه: (وأن تؤدوا خمس ما غنمتم)، وفيه أيضاً ذكر الصفي، وهو محل الشاهد للترجمة.(352/19)
تراجم رجال إسناد حديث كتاب رسول الله إلى بني زهير بن أقيش
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو أكبر شيخ روى عنه أبو داود؛ لأنه توفي سنة اثنتين وعشرين ومائتين وهو من صغار التاسعة، وقد أدرك قرة بن خالد وهو من السادسة، ومسلم بن إبراهيم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا قرة].
هو قرة بن خالد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت يزيد بن عبد الله عن رجل].
هو يزيد بن عبد الله بن الشخير، وهو أخو مطرف بن عبد الله بن الشخير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وهذا الرجل قيل: إنه النمر بن تولب، وهو صحابي، أخرج له أبو داود والنسائي.(352/20)
الأسئلة(352/21)
حكم الاهتزاز عند تلاوة القرآن
السؤال
إذا كان من عادة اليهود الاهتزاز وقت تلاوة التوراة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم؛ فما حكم من يفعل ذلك عند قراءة القرآن؟
الجواب
لاشك أن هذا من التكلف، وبعض الناس يتحرك من أجل أن يحصل في الصوت شيء من الترجيع بسبب هذه الحركة، كما يحصل من بعض المتكلفين في القراءة حيث يجعل يديه في أذنيه عندما يقرأ، ويحرك رأسه يميناً ويساراً، والذين حوله يقولون: الله الله! يعني: تعجبهم هذه القراءة.
أما القول بأن الاهتزاز من فعل اليهود فليس هذا حديثاً ولا أثراً عن الصحابة، وإنما هو قول بعض العلماء، لكن إذا ثبت أن هذا من عادتهم، وأن هذا موجود فيهم، ونقله من يعرف أحوالهم؛ فلا شك أنه يكون فيه تشبه بهم.(352/22)
المجددون لهذا الدين
السؤال
يبعث الله في رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، فهل هو واحد أو أكثر؛ لأن بعض الناس يقول: يبعث الله مجددين في الفقه، ومجددين في العقيدة، ومجددين في غير ذلك؟
الجواب
لفظ الحديث عام، فيمكن أن يكون المجددون عدداً أو واحداً، وبيان أمور الدين سواء فيما يتعلق بالتفسير أو فيما يتعلق بالحديث أو فيما يتعلق بالفقه لا شك أنه كله من بيان الحق، ومن نشر الحق وإظهاره.(352/23)
حكم طلاق الحائض
السؤال
هل يقع الطلاق على من طلق زوجته وهي حائض أو نفساء أو في طهر جامعها فيه؟
الجواب
يقع الطلاق.(352/24)
حكم الطلاق ثلاثاً
السؤال
من قال لزوجته: أنت طالق ثلاثاً، فهل تعتبر واحدة؟
الجواب
إذا كان بهذا اللفظ: أنت طالق ثلاثاً، فتعتبر واحدة؛ لحديث ابن عباس.(352/25)
حكم التغني بالقرآن
السؤال
ما حكم من تغنى بالقرآن؟
الجواب
إذا كان المقصود التغني الذي جاء في الحديث -وهو القراءة المجودة بدون تكلف- فهذا محمود، وأما إذا كان المقصود أن يجعله من باب الغناء؛ فهذا لا يجوز، وفاعله على خطر.(352/26)
حكم الاقتباس من القرآن في الشعر
السؤال
ما حكم الاقتباس من القرآن في الشعر؟
الجواب
إذا كان فيه استهزاء فلاشك أنه كفر، أما أن يأتي بكلمات من القرآن في ضمن الشعر فلا بأس.(352/27)
حكم الكذب لأجل الدعوة
السؤال
ما رأيكم فيمن يقول: الكذب جائز لأجل الدعوة؛ قياساً على الإصلاح بين الاثنين إذا تنازعا؟
الجواب
الكذب يؤثر في قبول الدعوة، وإذا عرف عن الداعية الكذب فلا يطمأن إلى دعوته.(352/28)
حكم إزالة الشعر من الوجنتين
السؤال
هل يجوز للرجل الذي في وجهه شعر كثير حتى في وجنتيه زيادة على اللحية أن يزيله؟
الجواب
على الإنسان ألا يجعل الموس يقرب من وجهه؛ لأنه إذا قربه إلى وجهه قضى على كل الشعر.(352/29)
الدعاء لإمام المسلمين
السؤال
هل صح عن أحد من العلماء أنه قال: لو علمت أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للإمام؟
الجواب
جاء هذا عن الإمام أحمد والفضيل بن عياض، فكل منهما قال: لو كان لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان؛ وذلك لأن السلطان إذا صلح صلحت الرعية، وكان في صلاحه الخير الكثير، من جهة نصره الحق، والقضاء على الأمور المنكرة، وقد ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الحسبة.(352/30)
شرح سنن أبي داود [353]
اليهود هم من غضب الله عليهم لخبث قلوبهم، وفساد أعمالهم، وقد عاملهم نبي الرحمة بالحسنى عندما هاجر إلى المدينة، ولكنهم قلبوا له الأمور، ونقضوا العهود والمواثيق، فكان جزاؤهم أن قتل بعضهم وأخرج بعضهم من المدينة، وما ظلمهم ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم.(353/1)
إخراج اليهود من المدينة(353/2)
شرح حديث كتابة النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المسلمين واليهود في المدينة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة؟ حدثنا محمد بن يحيى بن فارس أن الحكم بن نافع حدثهم قال: أخبرنا شعيب عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه -وكان أحد الثلاثة الذين تيب عليهم- (كان كعب بن الأشرف يهجو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويحرض عليه كفار قريش، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قدم المدينة وأهلها أخلاط منهم المسلمون والمشركون يعبدون الأوثان، واليهود، وكانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فأمر الله عز وجل نبيه بالصبر والعفو، ففيهم أنزل الله: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [آل عمران:186] الآية.
فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم سعد بن معاذ رضي الله تعالى أن يبعث رهطاً يقتلونه، فبعث محمد بن مسلمة رضي الله عنه، وذكر قصة قتله، فلما قتلوه فزعت اليهود والمشركون، فغدوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: طرق صاحبنا فقتل، فذكر لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يقول، ودعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يكتب بينه وبينهم كتاباً ينتهون إلى ما فيه، فكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبينهم وبين المسلمين عامةً صحيفة)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة؟ أي: الكيفية التي حصل بها إخراجهم، ومعلوم أنهم قد أجلوا من المدينة، ومنهم من ذهب إلى خيبر، ومنهم من ذهب إلى الشام.
وقد أورد أبو داود حديث كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه، وكان أحد الثلاثة الذي تيب عليهم أي: الذين خلفوا في غزوة تبوك، وأنزل الله تعالى فيهم قرآناً يتلى بعد أن ذكر توبته على المهاجرين والأنصار {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة:117] ذكر التوبة على الثلاثة الذين خلفوا وهم: كعب بن مالك وصاحباه، ولم يكونوا منافقين ولا معذورين، فهجرهم النبي صلى الله عليه وسلم خمسين ليلة، وأنزل الله عز وجل توبته عليهم، وقد نجاهم الله تعالى بالصدق، وأنزل الله عز وجل فيهم الآية: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118]، وبعدها قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] أي: كونوا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم صادقون، والذين نجاهم الله تعالى بالصدق.
ذكر كعب بن مالك أن كعب بن الأشرف -وهو من كبار اليهود في المدينة من بني النضير- كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذيه، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال لـ سعد بن معاذ سيد الأوس: (ابعث من يقتل كعب بن الأشرف)؛ وذلك لإيذائه الرسول صلى الله عليه وسلم وسبه، فأرسل محمد بن مسلمة وقتله، وقد مر في كتاب الجهاد قصة قتله.
والرسول صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان فيها أخلاط من أهل الكتاب من اليهود وهم من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، والمسلمون من الأوس والخزرج، والمشركون الذين بقوا على شركهم وعلى عبادتهم للأوثان، وكانوا متمالئين مع اليهود، وأنزل الله عز وجل فيهم: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران:186]، وأمر الله عز وجل نبيه أن يصبر، وبعد أن قتل كعب بن الأشرف جاء اليهود إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وقالوا: إنه طرق صاحبنا -أي: طرق بليل- وقتل، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكتب بينه وبينهم عهداً يلتزمون به، وينتهون إلى ما كتب فيه، ويعتمدونه، فكتب صحيفة صلح بين المسلمين وبينهم، ولكنهم بعد ذلك نقضوا العهد، وأرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بإلقاء صخرة عليه وهو جالس تحت جدار، وبعد ذلك حصل إجلاؤهم من المدينة.
وهذا بالنسبة لبني النضير، وأما بنو قريظة فإنهم بقوا على العهد حتى جاء الأحزاب من مكة وغيرها لقتال الرسول صلى الله عليه وسلم، فصاروا معهم، فنقضوا بذلك العهد، ولما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ذهب إلى بني قريظة.
وأما بنو قينقاع فإنهم أول من أُخرج من المدينة قبل بني النضير وقبل بني قريظة.(353/3)
تراجم رجال إسناد حديث كتابة النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المسلمين واليهود في المدينة
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
محمد بن يحيى بن فارس الذهلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[أن الحكم بن نافع حدثهم].
هو أبو اليمان الحكم بن نافع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا شعيب].
شعيب بن أبي حمزة الحمصي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن].
عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبيه].
أي: عن جده كعب بن مالك، وهو الذي تيب عليه، وأما عبد الله والد عبد الرحمن بن كعب فإنه تابعي وليس بصحابي، وعبد الرحمن روى عن جده كما روى عن أبيه، ورواية أبيه تكون مرسلة، ولكنه هنا قال: وكان من الذين تيب عليهم، فالمقصود به الجد الذي هو كعب بن مالك، فالرواية إنما هي عن الجد كعب بن مالك، والجد يقال له: أب.
وكعب بن مالك رضي الله عنه هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(353/4)
شرح حديث: (يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مصرف بن عمرو الأيامي حدثنا يونس -يعني ابن بكير - حدثنا محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً يوم بدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع، فقال: يا معشر يهود! أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً، قالوا: يا محمد! لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله عزوجل في ذلك: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران:12]، قرأ مصرف إلى قوله: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران:13] ببدر (وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} [آل عمران:13])].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قصة اليهود، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قاتل المشركين في بدر ونصره الله عز وجل عليهم جمع اليهود في سوق بني قينقاع، وهم طائفة من اليهود، ومنهم عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه، وقال لهم: (أسلموا قبل أن يصيبكم مثلما أصاب قريشاً) فقالوا: يا محمد! لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، يعني: ليس عندهم خبرة ومعرفة في الحروب، إنك إن قاتلتنا لعرفت أننا الناس، أي: الذين لا يوقف في وجوهنا، وتحصل منا النكاية بمن يقاتلنا.
فأنزل الله عز وجل في ذلك: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:12].
قوله: [(قرأ مصرف إلى قوله: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران:13] ببدر)].
هذا تفسير للآية، وأن المقصود بذلك ما حصل بين المسلمين وكفار قريش في بدر.
وهذا الحديث غير ثابت؛ لأن في إسناده رجلاً مجهولاً وهو محمد بن أبي محمد.(353/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً)
قوله: [حدثنا مصرف بن عمرو الأيامي].
مصرف بن عمرو الأيامي ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا يونس يعني ابن بكير].
يونس بن بكير وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني محمد بن أبي محمد].
محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت وهو مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن سعيد بن جبير وعكرمة].
سعيد بن جبير وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وعكرمة هو مولى ابن عباس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(353/6)
شرح حديث: (من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مصرف بن عمرو حدثنا يونس قال ابن إسحاق: حدثني مولى لـ زيد بن ثابت قال: حدثتني ابنة محيصة عن أبيها محيصة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه، فوثب محيصة على شبيبة رجل من تجار يهود كان يلابسهم فقتله، وكان حويصة إذ ذاك لم يسلم، وكان أسن من محيصة، فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول: يا عدو الله! أما والله لرب شحم في بطنك من ماله)].
أورد أبو داود حديث محيصة بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه)، فوثب محيصة إلى رجل من اليهود من تجارهم يقال له: شبيبة فقتله، وكان حويصة أخوه لم يسلم، وكان أكبر من محيصة، فجعل يضرب أخاه الذي أسلم لأنه قتل شبيبة، ويقول: يا عدو الله! أما والله لرب شحم في بطنك من ماله.
يعني: إنك أكلت منه كثيراً إما أعطاه إياه أو عن طريق الشراء، وإن جسمك نبت على شيء من ماله.
وقوله: كان يلابسهم أي: يختلط بهم.
وهذا الحديث أيضاً غير ثابت؛ لأن فيه ذلك الرجل المبهم الذي هو مولى زيد بن ثابت، وفيه أيضاً ابنة محيصة، وهي مجهولة لا تعرف.(353/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه)
قوله: [حدثنا مصرف بن عمرو عن يونس عن ابن إسحاق عن مولى لـ زيد بن ثابت عن ابنة محيصة].
ابنة محيصة قال الحافظ: لا تعرف، أخرج لها أبو داود.
[عن محيصة].
محيصة رضي الله عنه، صحابي، أخرج له أصحاب السنن.(353/8)
شرح حديث: (يا معشر يهود أسلموا تسلموا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد قال: أخبرنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (بينما نحن في المسجد إذ خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: انطلقوا إلى يهود، فخرجنا معه حتى جئناهم فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فناداهم فقال: يا معشر يهود! أسلموا تسلموا.
فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم! فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أسلموا تسلموا.
فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذلك أريد، ثم قالها الثالثة: اعلموا أنما الأرض لله ورسوله، وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم)].
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر يهود! أسلموا تسلموا) يعني: إذا أسلمتم حصلت لكم السلامة، وهذا فيه ترغيب لهم في الإسلام، وأنه يحصل لهم السلامة إذا أسلموا، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مكاتبته للملوك يأتي بهذه العبارة، كما جاء في أول حديث هرقل: (أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن أبيت فإنما عليك إثم الأريسيين)، ففيه ترغيب وترهيب، وأنه يحصل لهم بالإسلام السلام والأمن على أنفسهم وعلى أموالهم وعلى ذراريهم ونسائهم.
قوله: (ذلك أريد) يعني: أنه قد أقام عليهم الحجة، وأنه قد بلغهم الشيء الذي أمر بتبليغه، وإذا حصل منه بعد ذلك عقوبة لهم من إجلاء أو قتال أو ما إلى ذلك فإنه قد سبق أن دعاهم إلى الإسلام، وأمرهم أن يسلموا لتحصل لهم السلامة.
قوله: [(ثم قال الثالثة: اعلموا أنما الأرض لله ورسوله، وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض)].
يعني: الحكم في الأرض لله ورسوله، وهو يريد أن يجليهم منها إذا لم يسلموا.
قوله: (فمن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه)].
يعني: الشيء الذي يريد أن يبيعه يبيعه، والشيء الذي يريد أن ينقله معه يحمله معه.
وهذا الحديث فيه ذكر أنه يريد أن يجليهم، وفيه ذكر أبي هريرة، وأبو هريرة إنما أسلم عام خيبر، وهذا يفيد بأن هذا وقع بعد خيبر، ومعلوم أن اليهود كلهم قد أجلوا قبل خيبر إلى خيبر وإلى الشام، فيحمل حديث أبي هريرة هذا على بقايا بقيت من اليهود في المدينة، وكان ذلك بعد أن رجع من خيبر؛ لأن أبا هريرة إنما أسلم عام خيبر.
يقول الخطابي: أخذ بعضهم من هذا الحديث: أن بيع المكره في حق واجب عليه ماض لا رجوع فيه، وهذا مأخوذ من قوله: (فليبعه)؛ لأنهم سيخرجون، وإذا أرادوا أن يبيعوا شيئاً فليبيعوه، وبيعهم ليس باختيارهم، وإنما هم مضطرون، فهذا من جنس بيع المكره.(353/9)
تراجم رجال إسناد حديث (يا معشر يهود أسلموا تسلموا)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا الليث].
الليث بن سعد المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن أبي سعيد].
سعيد بن أبي سعيد المقبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه] وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(353/10)
خبر النضير(353/11)
شرح حديث (لقد بلغ وعيد قريش بكم المبالغ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في خبر النضير.
حدثنا محمد بن داود بن سفيان حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي ومن كان يعبد معه الأوثان من الأوس والخزرج -ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر-: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم.
فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقيهم فقال: لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقتلوا أبناءكم وإخوانكم، فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم تفرقوا، فبلغ ذلك كفار قريش، فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون، وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا، ولايحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء -وهي الخلاخيل-، فلما بلغ كتابهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجمعت بنو النضير بالغدر فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حبراً، حتى نلتقي بمكان المنصف، فيسمعوا منك؛ فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك، فقص خبرهم.
فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالكتائب فحصرهم، فقال لهم: إنكم والله لا تأمنون عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه، فأبوا أن يعطوه عهداً فقاتلهم يومهم ذلك، ثم غدا الغد على بني قريظة بالكتائب وترك بني النضير ودعاهم إلى أن يعاهدوه فعاهدوه فانصرف عنهم، وغدا على بني النضير بالكتائب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، فجلت بنو النضير، واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها، فكان نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة أعطاه الله إياها وخصه بها فقال: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:6] يقول: بغير قتال، فأعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثرها للمهاجرين، وقسمها بينهم، وقسم منها لرجلين من الأنصار وكانا ذوي حاجة، لم يقسم لأحد من الأنصار غيرهما، وبقي منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي في أيدي بني فاطمة رضي الله عنها)].
أورد أبو داود خبر بني النضير وهم طائفة من اليهود الذين كانوا في المدينة، وفيه: أن كفار قريش كتبوا إلى المشركين وعبدة الأوثان في المدينة الذين منهم عبد الله بن أبي بن سلول كتاباً قبل غزوة بدر، أما بعد غزوة بدر ظهر النفاق، وكان من لم يدخل الإيمان في قلبه يظهر الإيمان ويبطن الكفر، وهم في الدرك الأسفل من النار، قال الله عنهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14].
وكان هذا قبل غزوة بدر، فأرادوا أن يقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم بين لهم أن هذا كيد من قريش، وأنها تريد من وراء ذلك أن يقتلوا أقاربهم؛ لأنهم من قبيلتي الأوس والخزرج الذين كانوا في المدينة، ولكنهم كانوا يعبدون الأوثان، وفيهم من دخل في الإسلام، وفيهم من بقي على كفره.
وبعد غزوة بدر ونصر الله عز وجل رسوله على كفار قريش، كتبت قريش إلى اليهود الذين في المدينة يطلبون منهم أن يقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم إن لم يقاتلوه فإنهم سيأتون إليهم ويقاتلونهم ويسبون نساءهم.
قوله: [(فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون)].
أهل الحلقة يعني: أهل السلاح، وهذا ثناء عليهم لتحريضهم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنها الدروع؛ لأنها تكون فيها حلق، والحصون هي: الأماكن المحصنة التي يتحصنون بها.
قوله: [(وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء وهي الخلاخيل)].
وهذه كناية أنه لا يحول بيننا وبين سبي نسائكم شيء، يعني: يهددونهم بأنهم سيأتون إليهم ويقاتلونهم ويسبون نساءهم.
قوله: [(فلما بلغ كتابهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجمعت بنو النضير بالغدر، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حبراً حتى نلتقي بمكان المنصف فيسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك فقص خبرهم)].
مكان المنصف يعني: في وسط الطريق بين منازلنا وبين منازلك، يعني في مكان منصف متوسط بيننا وبينك.
فأجمعت بنو النضير بالغدر بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الكلام من الغدر بالرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(فقص خبرهم)].
يوجد شيء محذوف، والمعنى: علم أنهم أرادوا أن يقتلوه صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالكتائب فحصرهم)].
الكتائب: جمع كتيبة، وهي الجيوش.
قوله: [(فقال لهم: إنكم والله لا تأمنون عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه، فأبوا)].
يعني: لا يحصل لكم الأمان إلا بعهد يكون بيني وبينكم.
قوله: [(فقاتلهم يومهم ذلك، ثم غدا الغد على بني قريظة بالكتائب)].
كأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قاتل بني النضير ذهب إلى بني قريظة حتى يجعل بينه وبينهم عهداً لئلا ينصروهم ويتعاونوا معهم على قتاله، فذهب إليهم وحصل بينه وبينهم العهد ثم رجع إلى هؤلاء فقاتلهم.
قوله: [(فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء)].
يعني: حاصرهم حتى نزلوا على أنهم يجلوا عن المدينة ويخرجوا منها.
قوله: [(فجلت بنو النضير واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها)].
أي: خرجوا وحملوا على الإبل ما تحمله من أمتعة بيوتهم وخشبها وأبوابها.
قوله: [(فكان نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة)].
لأنه فيء، فهم نزلوا على أن يجلوا ويتركوا أرضهم، ويحملوا الشيء الذي تحمله إبلهم، وبقيت الأراضي فيئاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث حيث شاء، فكان ينفق على أهله منها، والباقي يضعه في مصالح المسلمين.
قوله: [(فأعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثرها للمهاجرين وقسمها بينهم)].
أعطى النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها للمهاجرين؛ لأنهم بحاجة إليها؛ لأنهم تركوا بلادهم وخرجوا من أموالهم، وصاروا عند إخوانهم ضيوفاً في المدينة، ولم يعط الأنصار شيئاً، وإنما أعطى اثنين منهم كان بهما حاجة.
وهذا يفيد بأن الفيء للجميع، ولكنه قدم المهاجرين لحاجتهم، ولأنهم خرجوا من ديارهم وأموالهم، وأما الأنصار فهم في بلادهم وعندهم أموالهم.(353/12)
تراجم رجال إسناد حديث (لقد بلغ وعيد قريش بكم المبالغ)
قوله: [حدثنا محمد بن داود بن سفيان].
محمد بن داود بن سفيان مقبول، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك].
الزهري مر ذكره، وعبد الرحمن بن كعب بن مالك ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم].
هو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والمجهول منهم في حكم المعلوم.(353/13)
شرح حديث: (أن يهود النضير وقريظة حاربوا رسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن يهود النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأجلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني النضير وأقر قريظة ومن عليهم، حتى حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين إلا بعضهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمنهم وأسلموا، وأجلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يهود المدينة كلهم بني قينقاع وهم قوم عبد الله بن سلام، ويهود بني حارثة، وكل يهودي كان بالمدينة)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن يهود النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير أولاً وأقر بني قريظة؛ لأنهم عقدوا عهداً مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقاتل بني النضير حتى وافقوا على أن يجلوا عن المدينة، وبقيت بنو قريظة حتى جاءت الأحزاب التي تريد أن تقاتل النبي صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك نقضت بنو قريظة العهد، وصاروا مع الأحزاب، وبعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة الأحزاب -وهي الخندق- أمر بأن يذهب إلى بني قريظة، وحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، فحكم بقتل المقاتلة، وسبي الذراري والنساء، وقسم أموالهم بين المسلمين.
قوله: [(حتى حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين إلا بعضهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمنهم وأسلموا)].
يعني: بعض بني قريظة لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأمنهم وأسلموا، فلم يحصل لهم ما حصل لإخوانهم.(353/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن يهود النضير وقريظة حاربوا رسول الله)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج].
ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن موسى بن عقبة].
موسى بن عقبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(353/15)
الأسئلة(353/16)
مجددو هذا العصر
السؤال
من هم في نظركم مجددو هذا القرن؟
الجواب
لا شك أن منهم الشيخ ابن باز رحمة الله عليه، والشيخ الألباني كذلك، والشيخ ابن عثيمين كذلك، فكل واحد منهم تنطبق عليه أوصاف المجددين.(353/17)
حكم الاغتيالات
السؤال
حادثة قتل كعب بن الأشرف، وحديث: (من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه)، هل هو دليل على جواز الاغتيالات للكفار؟
الجواب
حديث: (من ظفرتم) غير ثابت، وأما كعب بن الأشرف فإنه كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وقتله كان بإذنه عليه الصلاة والسلام، فلا يدل على أن من أراد أن يغتال فعل، وإنما هذا يكون بأمر الإمام.(353/18)
التعامل مع الحزبيين
السؤال
هذا رجل يسأل ويقول: له أبناء عم من الإخوان المسلمين، وهم متعصبون، وقد بين لهم الحق مرات عديدة وأصروا على ما هم فيه، وسببوا له مشاكل كثيرة مع والده، حيث كادوا له حتى كاد والده أن يخرجه من البيت، ويمنعه من الذهاب إلى المسجد، ويكذبون على أبيه، فهل يذهب هذا الرجل إلى أبناء عمه ويزورهم؟ وكيف يتعامل معهم، مع العلم بأنهم يحذرون الناس منه، ويقولون: هو تكفيري وهابي؟
الجواب
إذا كان ذهابه إليهم لينصحهم وليدعوهم وليستفيدوا منه فليفعل، وإذا لم يكن كذلك فإنه لا يذهب إليهم.(353/19)
بنو إسرائيل
السؤال
من هم بنو إسرائيل؟
الجواب
إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ومعنى إسرائيل عبد الله، وكل من اليهود والنصارى من بني إسرائيل، وقد خوطب النصارى كما قال الله عن عيسى في سورة الصف: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف:6].(353/20)
حكم وقف بعض الكتب
السؤال
هل للشخص أن يوقف بعض كتبه التي لا يقرأ فيها حالياً؟
الجواب
له أن يوقف كتبه كلها أو بعضها، ويمكن أن يستفيد من القراءة منها بعد أن يوقفها ويكون مثل غيره، مثل عثمان رضي الله عنه عندما أوقف البئر على المسلمين وكان يشرب منها ويجعل دلوه مع دلاء المسلمين.(353/21)
حكم لبس الكرفتة
السؤال
هل من التشبه بالكفار لبس الكرفته؟
الجواب
لا شك أن لبسها من التشبه بالكفار، وكان يسميها الشيخ حماد رحمة الله عليه: الغل الذي يكون في الرقبة.(353/22)
شرح سنن أبي داود [354]
فتح المسلمون بعض حصون خيبر عنوة، وبعضها صلحاً، وقد أقرهم النبي عليه الصلاة والسلام فيها ما شاء المسلمون؛ ليقوموا بإصلاح الأرض والنخل، ويعطوا نصف ما يخرج منها، ثم أجلاهم منها عمر رضي الله عنه.(354/1)
ما جاء في أرض خيبر(354/2)
شرح حديث: (قاتل أهل خيبر فغلب على النخل والأرض وألجأهم إلى قصرهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في أرض خيبر.
حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء قال: حدثنا أبي قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر قال: أحسبه عن نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاتل أهل خيبر فغلب على النخل والأرض وألجأهم إلى قصرهم فصالحوه على أن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة، ولهم ما حملت ركابهم على ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد، فغيبوا مسكاً لـ حيي بن أخطب، وقد كان قتل قبل خيبر، وكان احتمله معه يوم بني النضير حين أجليت النضير، فيه حليهم، قال: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـ سعية: أين مسك حيي بن أخطب؟ قال: أذهبته الحروب والنفقات، فوجدوا المسك، فقتل ابن أبي الحقيق وسبى نساءهم وذراريهم وأراد أن يجليهم، فقالوا: يا محمد! دعنا نعمل في هذه الأرض ولنا الشطر ما بدا لك، ولكم الشطر، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطي كل امرأة من نسائه ثمانين وسقاً من تمر، وعشرين وسقاً من شعير)].
أورد أبو داود هذه الترجمة (باب ما جاء في أرض خيبر) يعني: كيف كانت وكيف آلت إلى المسلمين؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما فتحها أراد اليهود أن يبقوا فيها ليحرثوها ويعملوا فيها، ولهم النصف مقابل عملهم، والنصف الآخر يدفع للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأجابهم إلى ذلك.
قوله: [(أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاتل أهل خيبر فغلب على النخل والأرض وألجأهم إلى قصرهم)].
يعني: أنهم تحصنوا في القصور، والنخل والأرض غلب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(فصالحوه على أن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة)].
الصفراء أي: الذهب، والبيضاء أي: الفضة، والحلقة أي: السلاح.
قوله: [(ولهم ما حملت ركابهم)].
مثل ما حصل لبني النضير لما حملوا ما تحمله الإبل.
قوله: [(على ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً)].
يعني: من هذه الأشياء التي هي الصفراء والبيضاء والحلقة.
قوله: [(فغيبوا مسكاً لـ حيي بن أخطب)].
مسكاً أي: جلداً فيه حلي لـ حيي بن أخطب الذي قتل قبل خيبر، وكان من بني النضير الذين جلوا من المدينة.
قوله: [(فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـ سعية: أين مسك حيي بن أخطب؟ قال: أذهبته الحروب والنفقات)].
قيل: سعية هو عم حيي، والمعنى: نفد بسبب الحروب والنفقات، وبعد ذلك وجدوا الجلد وافتضح كذبهم.
قوله: [(وسبى نساءهم وذراريهم وأراد أن يجليهم، فقالوا: يا محمد! دعنا نعمل في هذه الأرض ولنا الشطر ما بدا لك، ولكم الشطر)].
يعني: دعنا نعمل في هذه الأرض، ولنا الشطر المدة التي تريد.
قوله: [(وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطي كل امرأة من نسائه ثمانين وسقاً من تمر وعشرين وسقاً من شعير)].
يعني: أنه كان ينفق على نسائه قوت السنة من هذه الغلة والثمرة التي هي من نخل وزرع أرض خيبر.
وهذا الحديث فيه إثبات المساقاة والمزارعة؛ لأنهم يعملون في الزرع وفي حرث الأرض وفي سقي النخل؛ لأن المزارعة تتعلق بالأرض وزرعها، والمساقاة تتعلق بسقي الأصول التي هي النخل الموجود، فالمساقاة والمزارعة جائزة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عامل اليهود بهذه المعاملة، وهي شبيهة بالمضاربة المجمع عليها، وهذه مختلف فيها، ولكن الصحيح أن حكمها واحد، فالمضاربة تتعلق بالعمل بالنقود، بحيث يكون النقود من شخص والعمل من شخص، والمساقاة والمزارعة من هذا القبيل، فالأرض من شخص والعمل من شخص، ولا يجعل مقدار معين يأخذه أحد الطرفين والباقي للآخر؛ لأن هذا فيه غرر وجهالة.
ولكن إذا كان بالنسبة بأن يكون لأحدهما نصف أو ثلث أو ثلثين أو ربع أو ثلاثة أرباع فهذا شيء جائز، ويشتركون في القليل والكثير منه.(354/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (قاتل أهل خيبر فغلب على النخل والأرض وألجأهم إلى قصرهم)
قوله: [حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء].
هارون بن زيد صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد بن سلمة].
حماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبيد الله بن عمر].
عبيد الله بن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن ابن عمر].
قد مر ذكرهما.(354/4)
شرح أثر إجلاء عمر ليهود خيبر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي عن ابن إسحاق قال: حدثني نافع مولى عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر قال: (أيها الناس! إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان عامل يهود خيبر على أنا نخرجهم إذا شئنا، فمن كان له مال فليلحق به، فإني مخرج يهود؛ فأخرجهم)].
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر على أن يخرجهم المسلمون متى شاءوا، وعمر رضي الله عنه وأرضاه في هذا الأثر بين أنه سيخرجهم، وطلب من كل من له مال أن يلحق به حتى يأخذه منهم، وحتى يقوم بالعمل فيه بعد جلائهم من خيبر، بحيث يقوم به ويتسلمه منهم ويقوم بشئونه.
وهنا عمر بين مستنده في إخراجهم، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم ما شئنا، وعمر رضي الله عنه عزم على إجلائهم، ولكنه طلب من الناس أن يتسلموا أموالهم منهم، فمن كانت له قطعة من الأرض أو بستان فإنه يلحق به ويأخذه منهم.(354/5)
تراجم رجال إسناد أثر إجلاء عمر ليهود خيبر
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يعقوب بن إبراهيم].
يعقوب بن إبراهيم بن سعد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبي].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن إسحاق].
وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني نافع].
نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[عن عمر].
عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين الهاديين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه.(354/6)
شرح حديث: (أقركم فيها على ذلك ما شئنا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني أسامة بن زيد الليثي عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (لما افتتحت خيبر سألت يهود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقرهم على أن يعملوا على النصف مما خرج منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أقركم فيها على ذلك ما شئنا، فكانوا على ذلك، وكان التمر يقسم على السهمان من نصف خيبر، ويأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخُمُس، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أطعم كل امرأة من أزواجه من الخُمُس مائة وسق تمراً، وعشرين وسقاً من شعير، فلما أراد عمر إخراج اليهود أرسل إلى أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهن: من أحب منكن أن أقسم لها نخلاً بخرصها مائة وسق فيكون لها أصلها وأرضها وماؤها، ومن الزرع مزرعة خرص عشرين وسقاً فعلنا، ومن أحب أن نعزل الذي لها في الخمس كما هو فعلنا)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر طلب منه اليهود أن يقرهم على أن يعملوا في أرض المسلمين بنصف ما يخرج منها، فقال عليه الصلاة والسلام: (أقركم فيها على ذلك ما شئنا) يعني: أن تحرثوا وتقوموا بسقي الأشجار وزرع الأرض على أن لكم الشطر ولنا الشطر، وذلك المدة التي نشاء، فإذا أردنا إخراجكم فإنا نخرجكم، وقد أخرجهم عمر رضي الله عنه في زمن خلافته، وهذا هو المستند الذي استند عليه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
[(وكان التمر يقسم على السهمان من نصف خيبر، ويأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخمس)].
يعني: كل من له سهم يأخذ نصيبه، والنبي صلى الله عليه وسلم له الخمس أي: خمس الخمس؛ لأنها غنيمة، فكان النصف الذي يخص المسلمين من ثمرة الأرض زرعاً وتمراً يكون للمسلمين، والباقي الذي هو النصف الثاني لليهود، ويؤخذ هذا كل سنة.
قوله: [(وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أطعم كل امرأة من أزواجه من الخمس مائة وسق تمراً، وعشرين وسقاً شعيراً)].
وقد مر أنه ثمانون وسقاً من التمر، وهنا قال: مائة وسق، ولعل المسألة تقريبية، وبعضهم قال هذا، وبعضهم قال هذا.
قوله: [(فلما أراد عمر إخراج اليهود أرسل إلى أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهن: من أحب منكن أن أقسم لها نخلاً بخرصها مائة وسق فيكون لها أصلها وأرضها وماؤها ومن الزرع مزرعة خرص عشرين وسقاً فعلنا)].
أي: أن عمر رضي الله عنه لما أراد إجلاء اليهود شاور أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يعطى لهن من نفقة السنة، فخيرهن أن يبقين على ما كن عليه بحيث يقتطع لهن من الثمرة هذا المقدار أو أن يجعل لهن من النخل بمائة وسق تمراً، ومن الأرض خرص عشرين وسقاً بقدر ما كن يعطين من التمر والشعير.(354/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (أقركم فيها على ذلك ما شئنا)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
سليمان بن داود المهري المصري ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا ابن وهب].
عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني أسامة بن زيد الليثي].
أسامة بن زيد الليثي وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن نافع عن عبد الله بن عمر].
قد مر ذكرهما.(354/8)
شرح حديث: (غزا خيبر فأصابها عنوة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا داود بن معاذ حدثنا عبد الوارث ح وحدثنا يعقوب بن إبراهيم وزياد بن أيوب أن إسماعيل بن إبراهيم حدثهم عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزا خيبر فأصابها عنوة، فجمع السبي)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا خيبر فأصابها عنوة -يعني: فتحها عنوة- فجمع السبي) ومعناه: أنه قسم على الغانمين، وهذا يدل على أن أرض خيبر فتحت عنوة، وقد جاء في بعض الأحاديث ما يدل على أن بعضها فتح صلحاً، وقال الخطابي: خيبر هي بساتين وقرى، وبعضها فتح صلحاً، وبعضها فتح عنوة، وما فتح صلحاً يكون فيئاً، وما فتح عنوة يكون غنيمة.
وبعض أهل العلم قال: إنها فتحت عنوة، وكلها غنيمة، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم عاملهم على أن يكون لهم نصفها في مقابل عملهم، ولو فتحت صلحاً لبقيت في أيديهم، ولكن الذي أعطوا منها هو مقابل عملهم، ولهذا طلبوا الإقرار والبقاء على أن يعملوا فيها ولهم الشطر، قالوا: فهذا يدل على أنها فتحت عنوة، وأن المسلمين غنموها، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قسم بعضها وأبقى بعضها لنوائبه وفي المصالح التي يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصرف فيها كما سيأتي في بعض الروايات.
وأرض خيبر أخذت عنوة، والحصار حصل على حصونهم، ففتحت بعض الحصون، ثم نزلوا على أن يمن عليهم والذرية تسبى، ثم صاروا يعملون للمسلمين في هذه البساتين.(354/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (غزا خيبر فأصابها عنوة)
قوله: [حدثنا داود بن معاذ].
داود بن معاذ ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الوارث].
عبد الوارث بن سعيد العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا يعقوب بن إبراهيم].
يعقوب بن إبراهيم الدورقي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وزياد بن أيوب].
زياد بن أيوب وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[أن إسماعيل بن إبراهيم حدثهم].
إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد العزيز بن صهيب].
عبد العزيز بن صهيب وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذان الطريقان في الأول نزول وفي الثاني علو؛ لأن الأول إسناده خماسي، والثاني رباعي.(354/10)
شرح حديث: (قسم رسول الله خيبر نصفين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن قال: حدثنا أسد بن موسى حدثنا يحيى بن زكريا حدثني سفيان عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه قال: (قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيبر نصفين: نصفاً لنوائبه وحاجته، ونصفاً بين المسلمين، قسمها بينهم على ثمانية عشر سهماً)].
أورد أبو داود حديث سهل بن أبي حاتم رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم أرض خيبر نصفين: نصفاً لنوائبه وحاجته، ونصفاً بين المسلمين) وهذا يدل على ما قاله الخطابي: إن فتح خيبر منها ما هو صلح، ومنها ما هو عنوة، فالذي فتح صلحاً هو النصف الذي قسم بين المسلمين، والذي حصل عنوة هو الذي بقي لحاجة النبي صلى الله عليه وسلم ونوائبه.
وابن القيم يقول: كلها فتحت عنوة، ولم يكن في أرض خيبر صلح، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قسم نصفها في مصارف الغنيمة، والنصف الثاني أبقاه لينفق منه في حاجته ونوائبه وفي المصالح العامة التي يراها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعلى هذا التقسيم إن فتحت عنوة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أبقى بعضها وقسم بعضها، وإن فتحت صلحاً فالذي أبقى هو ما فتح صلحاً، واعتبر من الفيء، والذي قسم هو الذي فتح عنوة.
قوله: [قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيبر نصفين: نصفاً لنوائبه وحاجته، ونصفاً بين المسلمين، قسمها بينهم على ثمانية عشر سهماً].
يعني: النصف الذي قسمه جعله على ثمانية عشر سهماً، وكان كل سهم فيه مائة شخص، وهي قسمت على أهل الحديبية وكانوا ألفاً وأربعمائة على القول الصحيح، وقيل: ألف وخمسمائة، وسيأتي عند أبي داود: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم قسمها على أهل الحديبية وكانوا ألفاً وخمسمائة، وكانت ثمانية عشر سهماً، وكان فيهم ثلاثمائة فارس) أي: فكان لكل فارس سهمان: سهم له، وسهم لفرسه، على أساس أن الفرس له سهم واحد، لكن هذا مخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الفارس له ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه).
لكن على القول الذي جاء في الرواية الضعيفة التي فيها أنهم ألف وخمسمائة، وأن فيهم ثلاثمائة فارس، فيكون للشخص سهم، ولفرسه سهم، ولكن هذا غير صحيح؛ لأن الذي ثبت بالنسبة للفرسان أن الشخص له سهم، وفرسه له سهمان، ويقول ابن القيم: إن أهل الحديبية ألف وأربعمائة، والفرسان منهم كانوا مائتين، وعلى هذا يستقيم الحساب، فستمائة توزع على مائتين، فيكون للفارس سهم، ولفرسه سهمان.(354/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (قسم رسول الله خيبر نصفين)
قوله: [حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن].
الربيع بن سليمان المؤذن هو المرادي المصري، ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[حدثنا أسد بن موسى].
أسد بن موسى الملقب: أسد السنة، وهو صدوق يغرب، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والنسائي.
[حدثنا يحيى بن زكريا].
يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني سفيان].
سفيان الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن سعيد].
يحيى بن سعيد الأنصاري المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بشير بن يسار].
بشير بن يسار وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهل بن أبي حثمة].
سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(354/12)
طريق أخرى لحديث: (قسم رسول الله خيبر نصفين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حسين بن علي بن الأسود أن يحيى بن آدم حدثهم عن أبي شهاب عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار أنه سمع نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: -فذكر هذا الحديث- قال: (فكان النصف سهام المسلمين وسهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعزل النصف للمسلمين لما ينوبه من الأمور والنوائب)].
هذا الحديث مثل الذي قبله.(354/13)
تراجم رجال إسناد الطريق الأخرى لحديث: (قسم رسول الله خيبر نصفين)
قوله: [حدثنا حسين بن علي بن الأسود].
صدوق يخطئ كثيراً، أخرج له أبو داود والترمذي.
[أن يحيى بن آدم حدثهم].
يحيى بن آدم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي شهاب].
هو عبد ربه بن نافع وهو صدوق يهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم].
وقد مر ذكرهم، وهنا ذكر نفراً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.(354/14)
شرح حديث (قسم خيبر على ستة وثلاثين سهماً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حسين بن علي حدثنا محمد بن فضيل عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار مولى الأنصار عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما ظهر على خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهماً، جمع كل سهم مائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين النصف من ذلك، وعزل النصف الباقي لمن نزل به من الوفود والأمور ونوائب الناس)].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى، وهو مثل ما تقدم إلا أنه ذكر أن كلاً من النصفين ثمانية عشر سهماً، فثمانية عشر سهماً لألف وأربعمائة، والنصف الثاني وهو ثمانية عشر سهماً لنوائب الرسول صلى الله عليه وسلم وما يحصل من الأمور التي يحتاج إلى الصرف فيها في مصالح المسلمين.(354/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (قسم خيبر على ستة وثلاثين سهماً)
قوله: [حدثنا حسين بن علي حدثنا محمد بن فضيل].
حسين بن علي هو ابن الأسود مر ذكره، ومحمد بن فضيل بن غزوان صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم].
مر ذكر يحيى وبشير.(354/16)
طريق أخرى لحديث (قسم خيبر على ستة وثلاثين سهماً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن سعيد الكندي حدثنا أبو خالد -يعني سليمان - عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار قال: (لما أفاء الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهماً، جمع كل سهم مائة سهم، فعزل نصفها لنوائبه وما ينزل به، الوطيحة والكتيبة وما أحيز معهما، وعزل النصف الآخر فقسمه بين المسلمين الشق والنطاة وما أحيز معهما، وكان سهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أحيز معهما)].
أورد أبو داود الحديث عن بشير مرسلاً، وهو مطابق لما تقدم، ولكن فيه تفصيل ذكر للأماكن التي بقيت، والأماكن التي قسمت غنيمة للمسلمين.
والوطيحة والكتيبة أسماء مواضع، وما أحيز معهما، يعني: المواضع الأخرى التي ما سماها.(354/17)
تراجم رجال إسناد الطريق الأخرى لحديث (قسم خيبر على ستة وثلاثين سهماً)
قوله: [حدثنا عبد الله بن سعيد الكندي].
عبد الله بن سعيد الكندي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو خالد يعني سليمان].
هو سليمان بن حيان الملقب بـ الأحمر، وهو صدوق يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار].
قد مر ذكرهما.(354/18)
طريق ثالثة لحديث: (قسم خيبر على ستة وثلاثين سهماً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن مسكين اليمامي حدثنا يحيى بن حسان حدثنا سليمان -يعني ابن بلال - عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أفاء الله عليه خيبر قسمها ستة وثلاثين سهماً جمع، فعزل للمسلمين الشطر ثمانية عشر سهماً، يجمع كل سهم مائة، النبي صلى الله عليه وسلم معهم له سهم كسهم أحدهم، وعزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمانية عشر سهماً -وهو الشطر- لنوائبه وما ينزل به من أمر المسلمين، فكان ذلك الوطيح والكتيبة والسلالم وتوابعها، فلما صارت الأموال بيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لم يكن لهم عمال يكفونهم عملها؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اليهود فعاملهم)].
هذا الحديث مثل ما تقدم، وقوله: ستة وثلاثين سهماً جمع أي: جمعها جميعاً، وهذا حديث مرسل.(354/19)
تراجم رجال إسناد الطريق الثالثة لحديث: (قسم خيبر على ستة وثلاثين سهماً)
قوله: [حدثنا محمد بن مسكين اليمامي].
محمد بن مسكين اليمامي وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا يحيى بن حسان].
يحيى بن حسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا سليمان يعني ابن بلال].
سليمان بن بلال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار].
قد مر ذكرهما.(354/20)
شرح حديث: (قسمت خيبر على أهل الحديبية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عيسى حدثنا مجمع بن يعقوب بن مجمع بن يزيد الأنصاري قال: سمعت أبي يعقوب بن مجمع يذكر لي عن عمه عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري عن عمه مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه -وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن- قال: (قسمت خيبر على أهل الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ثمانية عشر سهماً، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة، فيهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهماً)].
أورد أبو داود حديث مجمع بن جارية رضي الله عنه وفيه: أن خيبر قسمت على أهل الحديبية، وقد قال الله عز وجل: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح:20] يعني: التي في خيبر، وقسمها عليهم ثمانية عشر سهماً، وكانوا ألفاً وخمسمائة، وكان فيهم ثلاثمائة فارس، والفارس أعطي سهمين: سهم له وسهم لفرسه، وهذا الحديث سبق أن مر في كتاب الجهاد، ولكن الأحاديث التي صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعطى الفارس ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه، وهذا الحديث يخالف تلك الأحاديث، وسبق أن أبا داود قال: الأول أصح، وهو الذي فيه ثلاثة أسهم، وهذا الحديث في إسناده راو مقبول، فهو حديث ضعيف.
والصحيح أن أهل الحديبية كانوا ألفاً وأربعمائة؛ لأن فيهم ثلاثة أقوال: قيل: ألف وأربعمائة، وقيل: ألف وخمسمائة، وقيل: ألف وثلاثمائة، وأصحها الوسط الذي هو ألف وأربعمائة.
والفرسان ذكر هنا أنهم ثلاثمائة، وابن القيم قال: إنهم مائتان، وأن ستمائة سهم تكون للمائتين، للفارس سهم، ولفرسه سهمان، لكن ما أدري ما هو دليل ابن القيم على كون الفرسان مائتين.(354/21)
تراجم رجال إسناد حديث: (قسمت خيبر على أهل الحديبية)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
محمد بن عيسى ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا مجمع بن يعقوب بن مجمع بن يزيد الأنصاري].
وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[سمعت أبي يعقوب].
وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن عمه عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري].
قيل: له رؤية، وقيل: إنه ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن عمه مجمع بن جارية الأنصاري].
مجمع بن جارية الأنصاري صحابي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة.(354/22)
شرح حديث (بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حسين بن علي العجلي].
حدثنا يحيى -يعني ابن آدم - حدثنا ابن أبي زائدة عن محمد بن إسحاق عن الزهري وعبد الله بن أبي بكر وبعض ولد محمد بن مسلمة قالوا: (بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحقن دماءهم ويسيرهم ففعل، فسمع بذلك أهل فدك فنزلوا على مثل ذلك، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة؛ لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب)].
هذا الحديث مرسل وفيه: بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحقن دماءهم ويسيرهم ففعل أي: حقن دماءهم وأجلاهم، ولكنه أبقاهم بعد ذلك.(354/23)
تراجم رجال إسناد حديث (بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا)
قوله: [حدثنا حسين بن علي العجلي هو ابن الأسود الذي مر ذكره.
[حدثنا يحيى بن آدم].
يحيى بن آدم مر ذكره.
[حدثنا ابن أبي زائدة].
ابن أبي زائدة أيضاً مر ذكره.
[عن محمد بن إسحاق].
مر ذكره.
[عن الزهري].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعبد الله بن أبي بكر].
عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وبعض ولد محمد بن مسلمة].
هؤلاء مجهولون، وهذا الحديث مرسل.(354/24)
شرح حديث: (افتتح بعض خيبر عنوة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الله بن محمد عن جويرية عن مالك عن الزهري أن سعيد بن المسيب أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم افتتح بعض خيبر عنوة].
هذا أثر عن ابن المسيب أن الرسول صلى الله عليه وسلم افتتح بعض أرض خيبر عنوة، وسبق في حديث أنس: (أنه افتتح خيبر عنوة) يعني: فتحها كلها عنوة، وهذا يؤيد ما سبق عن الخطابي أنه قال: فتح بعضها صلحاً وبعضها عنوة.(354/25)
تراجم رجال إسناد حديث: (افتتح بعض خيبر عنوة)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
مر ذكره.
[حدثنا عبد الله بن محمد].
عبد الله بن محمد بن أسماء وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن جويرية].
جويرية هو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن سعيد بن المسيب].
الزهري مر ذكره، وسعيد بن المسيب ثقة من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث أيضاً مرسل.(354/26)
قول الزهري في فتح خيبر
[قال أبو داود: وقرئ على الحارث بن مسكين وأنا شاهد: أخبركم ابن وهب قال: حدثني مالك عن ابن شهاب: أن خيبر كان بعضها عنوة وبعضها صلحاً، والكتيبة أكثرها عنوة وفيها صلح.
قلت لـ مالك: وما الكتيبة؟ قال: أرض خيبر، وهي أربعون ألف عذق].
هذا الحديث عن ابن شهاب مرسل، وهو مثل مرسل ابن المسيب الذي مر، وفيه أن بعض أرض خيبر فتح عنوة وبعضها صلحاً.
وفيه أن الكتيبة -وهي موضع- أكثرها فتح عنوة، وفيها ما فتح صلحاً.
قوله: [وهي أربعون ألف عذق].
عذق يعني: نخلة؛ لأن العَذق بالفتح هو النخلة، والعِذق هو القنو.(354/27)
تراجم رجال إسناد قول الزهري في فتح خيبر
[قال أبو داود: وقرئ على الحارث بن مسكين وأنا شاهد].
هذا يسمونه العرض، يعني: كونه يقرأ على الشيخ ويعبر عنه بأخبرنا، إذا كان مما قرئ على الشيخ وهو يسمع.
وهنا قال: قرئ على الحارث بن مسكين وأنا شاهد يعني: وأنا أسمع، فهذا من العرض على الشيخ، والرواية هذه صحيحة معتبرة، ويعبر عنها غالباً بأخبرنا.
والحارث بن مسكين ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي، وهو الذي كان بينه وبين النسائي وحشة، وكان يروي عنه بقوله: قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع.
[أخبركم ابن وهب].
ابن وهب مر ذكره.
[حدثني مالك عن ابن شهاب].
مر ذكرهما.(354/28)
طريق أخرى لقول الزهري في فتح خيبر وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن السرح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال، ونزل من نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال].
أورد المصنف هذا الأثر عن الزهري، وهو مثل ما تقدم أنه افتتح خيبر عنوة بعد القتال، ونزل من نزل على الجلاء بعد القتال، والجلاء هو الخروج منها، ولكنهم بقوا لحاجة المسلمين إليهم حتى يعملوا في أرضها.
قوله: [حدثنا ابن السرح].
أحمد بن عمرو بن السرح ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد].
يونس بن يزيد الأيلي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
مر ذكره.
وهذا الحديث مرسل.(354/29)
شرح حديث: (خمس رسول الله خيبر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن السرح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: خمس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيبر، ثم قسم سائرها على من شهدها ومن غاب عنها من أهل الحديبية].
أورد المصنف هذا الأثر عن الزهري قال: خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض خيبر، ثم قسم سائرها على من شهدها ومن غاب عنها من أهل الحديبية؛ لأنه جاء في القرآن أن أهل الحديبية وعدوا بخيبر، قال الله: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح:20].
وغزوة الحديبية كانت في السنة السادسة وخيبر في السنة السابعة، وصلح الحديبية سماه الله تعالى فتحاً فقال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]؛ لأنه ترتب عليه الخير الكثير للمسلمين، وأعطاهم الله عز وجل هذه الغنيمة التي وعدهم الله بها في قوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح:20] وهي خيبر.(354/30)
تراجم رجال إسناد حديث: (خمس رسول الله خيبر)
قوله: [حدثنا ابن السرح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب].
مر ذكرهم جميعاً.(354/31)
شرح أثر عمر: (لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرحمن عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه قال: لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيبر].
أورد أبو داود هذا الأثر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، والمقصود من هذا أن عمر رضي الله عنه رأى أن الأراضي المفتوحة لا تقسم، وإنما تبقى وقفاً يستفيد منها المسلمون جميعاً؛ لأنها لو قسمت لأخذها الذين قسمت عليهم، ولم يبق لمن يأتي بعدهم شيء، ولكنها إذا بقيت واستفيد من غلتها في كل عام فإنها تكون للمسلمين على مر العصور والدهور، بخلاف ما لو قسمت على الحاضرين فإنه لا يبقى شيء لمن جاء بعدهم، والرسول صلى الله عليه وسلم قسم أرض خيبر وأبقى بعضها كما عرفنا.(354/32)
تراجم رجال إسناد أثر عمر: (لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
مر ذكره.
[حدثنا عبد الرحمن].
عبد الرحمن بن مهدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه].
مالك مر ذكره، وزيد بن أسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأبوه أسلم العدوي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر].
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وقد مر ذكره.(354/33)
الأسئلة(354/34)
كيفية قسمة خيبر
السؤال
هل النصف الذي للمسلمين من أرض خيبر يقسم خمسة أخماس: أربعة للغانمين والخمس الباقي يقسم خمسة أخماس: أحدها للنبي صلى الله عليه وسلم والأربعة الباقية للأصناف المذكورة في الآية: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال:41]؟
الجواب
لا، وقد مر أن النصف يقسم بين المسلمين، ومر في بعض الروايات: أن الرسول صلى الله عليه وسلم له سهم كالمسلمين، وأما النصف الثاني فإنه يكون وقفاً للنوائب.(354/35)
عدد الفرسان في غزوة خيبر
السؤال
ما هو القول الراجح في عدد الفرسان في غزوة خيبر؟ وعلى القول بأنهم ثلاثمائة كيف يصح التقسيم إذا قلنا: للفارس ثلاثة أسهم؟
الجواب
كونهم ألفاً وخمسمائة لا يستقيم تقسيمه لثمانية عشر سهماً، وإنما يستقيم على القول الذي جاء في الحديث، وفيه أن الفارس له سهمان: سهم له، وسهم لفرسه، ولكن هذا غير صحيح؛ لأن الحديث في إسناده رجل مقبول وهو يعقوب والد مجمع، والصحيح أن الفارس له ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه، وهو صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأهل بيعة الرضوان كانوا ألفاً وأربعمائة، وإذا جعل عدد الفرسان مائتين يستقيم التقسيم، ومعناه أن اثنا عشر سهماً تكون للراجلين، ويبقى ستة أسهم للمئتي فارس، لكل فارس سهم لنفسه، وسهمان من أجل فرسه، وهذا على القول الذي ذكره ابن القيم من أن أهل بيعة الرضوان كانوا ألفاً وأربعمائة، والفرسان مائتان، فيكون لكل فارس سهم واحد له، وسهمان لفرسه، فتكون ستمائة سهم للفرسان، ويبقى اثنا عشر سهماً للراجلين، وهم ألف ومائتان، كل سهم يشترك فيه مائة منهم.
وحديث مجمع بن جارية ضعفه الألباني في كتاب الجهاد، وحسنه في هذا الكتاب، وقد قال أبو داود: حديث أبي معاوية أصح، والعمل عليه، وأرى الوهم في حديث مجمع أنه قال: ثلاثمائة فارس، وكانوا مائتي فارس، فقد سبق ابن القيم أبو داود في كون الفرسان مائتي فارس.(354/36)
لم تقسم خيبر إلا على الفاتحين وأعطي غيرهم من غير إسهام
السؤال
جاء في كتب السير: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يشهد معنا خيبر إلا من شهد البيعة، فما خرج معه إلا أصحاب الحديبية).
الجواب
هذا الحديث من نقل أهل السير وقد يكون بدون إسناد، ولكن والظاهر أنها قسمت عليهم، وأن الغنائم خاصة بهم، وقد جاء في بعض الأحاديث أن أناساً جاءوا بعد فتح خيبر مثل جعفر بن أبي طالب ومن جاء معه من الحبشة، وأعطاهم من خيبر، ولعله أعطاهم من النصف الثاني الذي أعده للنوائب والضيوف ومن نزل بهم.(354/37)
حكم الأناشيد الإسلامية
السؤال
ظهرت الأناشيد الإسلامية بصور متعددة، وإنتاج فني لها، وتصوير للمنشد بالفيديو وهو ينشد على البحر أو على الرمال، وأصبحت فرق شبابية مخصصة للأناشيد تقوم بالإنشاد في المناسبات كالزواجات والاحتفالات، بل ويربى عليها في بعض حلق تحفيظ القرآن يومياً، ويعمل لها مهرجانات موسمية للتنافس فيها، فما حكم هذه الأناشيد؟
الجواب
الأناشيد هذه من الأشياء الجديدة، والغالب فيها عشق الأصوات والاستمتاع بالأصوات، وليس الاهتمام بالمعاني، وهي محدثة، وتشغل عما هو خير منها من الاشتغال بالقرآن والحديث وما يعود على الناس بالنفع؛ ولهذا فترك هذه الأناشيد وعدم الاشتغال بها هو الذي يليق بالإنسان وينبغي له، وهذا التطور الذي حصل لها مما يؤكد تركها وعدم الالتفات إليها.(354/38)
حكم جعل الرحلات من أساليب الدعوة
السؤال
اتخذ البعض الرحلات والزيارات طريقة لدعوة الشباب إلى الهداية والاستقامة على الدين، فما حكم هذه الوسائل في الدعوة؟
الجواب
هذا على حسب الذي يدعون إلى الله عز وجل، فإذا كانوا مستقيمين فعملهم طيب، وإذا كانوا غير مستقيمين فعملهم سيئ.(354/39)
تخصيص الاجتماع في يوم مع صلاة ركعتين
السؤال
لاحظت على أصدقائي شيئاً يحتاج إلى وقفة، وهو تخصيص يوم في الشهر للاجتماع، ثم يصلي كل واحد ركعتين، ثم يبدأ كل واحد بقول الشهادة ثم التكبير ثم يبدءون بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدد لا حدود له لمدة ساعة أو ساعتين أو ثلاث، ويكون بعد ذلك وليمة عشاء؟
الجواب
هذا من محدثات الأمور.(354/40)
شرح سنن أبي داود [355]
من أهم أحداث السيرة النبوية فتح مكة، فهو الفتح الأكبر، وبعده دخل الناس في دين الله أفواجاً، وفي هذا الحدث العظيم دروس كثيرة، وعبر عديدة، قد بينها أهل العلم رحمهم الله تعالى.(355/1)
ما جاء في خبر مكة(355/2)
شرح حديث: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في خبر مكة.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الفتح جاءه العباس بن عبد المطلب بـ أبي سفيان بن حرب رضي الله عنهما؛ فأسلم بمر الظهران، فقال له العباس: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر فلو جعلت له شيئاً؟ قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: (باب ما جاء في خبر مكة) أي: في فتحها وكيف عامل النبي صلى الله عليه وسلم أهلها، وكيف صنع بأرضها، وأورده في كتاب الفيء من أجل أن مكة فتحت عنوة، والرسول صلى الله عليه وسلم منّ على أهلها، واعتبرهم طلقاء، ولم يغنم شيئاً من أموالهم، وإنما ترك أموالهم لهم، وهذا يدل على أن الإمام له أن يقسم الأراضي أو الأموال التي يغنمها كما حصل في خيبر، وله أن يمن على أهلها دون أن يأخذ شيئاً من أموالهم كما حصل في مكة.
أورد أبو داود حديث ابن عباس أن العباس بن عبد المطلب جاء بـ أبي سفيان فأسلم بمر ظهران، وهو موضع قريب من مكة، وهو الذي يقال له: وادي فاطمة، ويقال له: جموم، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فلو ذكرته؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه داره فهو آمن) يعني: أن أهل مكة إذا وضعوا السلاح وتركوا المقاتلة واستسلموا ودخلوا بيوتهم أو المسجد أو دار أبي سفيان فإنهم آمنون، والرسول صلى الله عليه وسلم أمن أهل مكة كلهم إلا نفراً قليلاً جداً منهم ابن خطل الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (من وجده فليقتله وإن كان متعلقاً بأستار الكعبة).
وقول العباس: إنه يحب الفخر يعني: يحب الذكر، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم نص عليه وقال: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) فنص عليه وإن كان داخلاً تحت قوله: من دخل داره فهو آمن، فالنبي صلى الله عليه وسلم راعى هذا الجانب وذكر أبا سفيان بالنص.
والصحيح أن مكة فتحت عنوة لا صلحاً.(355/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل واليوم والليلة.
[حدثنا يحيى بن آدم].
يحيى بن آدم الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن إدريس].
عبد الله بن إدريس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة].
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(355/4)
شرح حديث: (لما نزل رسول الله بمر الظهران)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عمرو الرازي حدثنا سلمة -يعني ابن الفضل - عن محمد بن إسحاق عن العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لما نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمر الظهران قال العباس: قلت: والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش، فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: لعلي أجد ذا حاجة يأتي أهل مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه، فإني لأسير إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، فقلت: يا أبا حنظلة! فعرف صوتي، فقال: أبو الفضل؟ قلت: نعم.
قال: مالك فداك أبي وأمي؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناس.
قال: فما الحيلة؟ قال: فركب خلفي، ورجع صاحبه، فلما أصبح غدوت به على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم، قلت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر فاجعل له شيئاً قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه داره فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، قال: فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهو مثل الذي قبله إلا أن فيه إيضاح كيف جاء العباس بـ أبي سفيان، وكيف التقى به، وأنه أسلم.(355/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (لما نزل رسول الله بمر الظهران)
قوله: [حدثنا محمد بن عمرو الرازي].
محمد بن عمرو الرازي، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة.
[حدثنا سلمة يعني ابن الفضل].
سلمة بن الفضل وهو صدوق كثير الخطأ، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة في التفسير.
[عن محمد بن إسحاق عن العباس بن عبد الله بن معبد].
ابن إسحاق مر ذكره، والعباس بن عبد الله بن معبد ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن بعض أهله].
قال الحافظ: يحتمل أن يكون عكرمة وأن يكون إبراهيم بن معبد أو شخصاً ثالثاً، وكل منهم صدوق، وهذا الإبهام لا يؤثر؛ لأن الحديث الذي قبله شاهد له؛ لأنه بمعناه.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.(355/6)
سبب ترك تقسيم مكة
مكة فتحت عنوة، والنبي عليه الصلاة والسلام عفا عنهم، وقال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، فمن عليهم، والإمام له أن يقسم وله أن يعفو ويمن، والنبي عليه الصلاة والسلام ترك نساءهم وصبيانهم وأموالهم فلم يغنم منها شيئاً، ولا يقال: هذا خاص بمكة، بل لو رأى الإمام المصلحة أن يعفو ويتنازل عن الغنائم فلا بأس بذلك، وحق المقاتلين من الغنائم يسقط إذا رأى الإمام المصلحة في ترك تقسيمها.(355/7)
شرح حديث: (لم يغنموا يوم الفتح شيئاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن الصباح حدثنا إسماعيل -يعني ابن عبد الكريم - حدثني إبراهيم بن عقيل بن معقل عن أبيه عن وهب بن منبه قال: (سألت جابراً رضي الله عنه: هل غنموا يوم الفتح شيئاً؟ قال: لا)].
أورد أبو داود حديث جابر: (أنه سئل: هل غنموا يوم الفتح شيئاً؟ قال: لا) يعني: أنه من عليهم، ولم يأخذ شيئاً من أموالهم، ولم يسب نساءهم وذريتهم، وإنما من عليهم وقال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).(355/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (لم يغنموا يوم الفتح شيئاً)
قوله: [حدثنا الحسن بن الصباح].
الحسن بن الصباح صدوق يهم، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا إسماعيل يعني ابن عبد الكريم].
صدوق، أخرج له أبو داود وابن ماجة في التفسير.
[حدثني إبراهيم بن عقيل بن معقل].
صدوق، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
هو صدوق، أخرج له أبو داود.
[عن وهب بن منبه].
وهب بن منبه وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة في التفسير.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(355/9)
شرح حديث: (لما دخل مكة سرح الزبير)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا سلام بن مسكين حدثنا ثابت البناني عن عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما دخل مكة سرح الزبير بن العوام وأبا عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد على الخيل رضي الله عنهم، وقال: يا أبا هريرة! اهتف بالأنصار.
قال: اسلكوا هذا الطريق فلا يشرفن لكم أحد إلا أنمتموه، فنادى مناد: لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من دخل داراً فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن.
وعمد صناديد قريش فدخلوا الكعبة فغص بهم، وطاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصلى خلف المقام ثم أخذ بجنبتي الباب فخرجوا فبايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة سرح الزبير بن العوام وأبا عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد على الخيل).
يعني: أرسلهم على الخيل عند فتح مكة.
قوله: [(وقال: يا أبا هريرة! اهتف بالأنصار)].
إنما خص الأنصار لأنهم ليسوا من أهل مكة، بخلاف المهاجرين فإنهم من أهل مكة، وأقرباؤهم في مكة، فقد يكون عندهم شيء من الرأفة بهم، بخلاف الأنصار فإنه لا قرابة بينهم، وهم سيكونون أشد نكاية بأهل مكة إذا قاتلوا ولم يستسلموا وينقادوا، وهذا وجه تخصيص الأنصار في الأمر بمناداتهم.
قوله: [(قال: اسلكوا هذا الطريق، فلا يشرفن لكم أحد إلا أنمتموه)].
يعني: قتلتموه، وجعلتموه يلتصق بالأرض ميتاً.
قوله: [(فنادى مناد: لا قريش بعد اليوم)].
معناه: يريد أن يفتك بهم ويستأصلهم ما دام أنه من أشرف لهم فإنهم يقتلونه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أمّن من دخل بيته أو المسجد، ولم يؤاخذهم عليه الصلاة والسلام، بل من عليهم وقال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [(فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من دخل داراً فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن)].
يعني: أي دار سواء داره أو دار غيره.
قوله: [(وعمد صناديد قريش فدخلوا الكعبة فغص بهم)].
صناديد قريش هم: كبار قريش وزعماؤهم، وقوله: فغص بهم يعني: غص بهم البيت لكثرتهم وازدحامهم فيه، ولعلهم دخلوا الكعبة ليحصل لهم الأمان وهم الكبار والزعماء، فالرسول صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت وصلى خلف المقام ثم وقف على جانبتي الباب فخرجوا وبايعوه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه على الإسلام.(355/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (لما دخل مكة سرح الزبير)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سلام بن مسكين].
سلام بن مسكين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا ثابت البناني].
ثابت بن أسلم البناني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن رباح الأنصاري].
عبد الله بن رباح الأنصاري وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق.(355/11)
قول أحمد في فتح مكة
[قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل سأله رجل قال: مكة عنوة هي؟ قال: أيش يضرك ما كانت؟ قال: فصلح؟ قال: لا].
يعني: على أي حالة فتحت فإن الرسول صلى الله عليه وسلم من على أهلها، ولم يسب ولم يغنم صلى الله عليه وسلم.(355/12)
ما جاء في خبر الطائف(355/13)
شرح حديث: (سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في خبر الطائف.
حدثنا الحسن بن الصباح حدثنا إسماعيل -يعني ابن عبد الكريم - حدثني إبراهيم -يعني ابن عقيل بن منبه - عن أبيه عن وهب قال: (سألت جابراً رضي الله عنه عن شأن ثقيف إذ بايعت قال: اشترطت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك يقول: سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: (باب ما جاء في خبر الطائف) يعني: فتحه، وكيف كان حال أهله، فذكر حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: أنه لما أسلمت ثقيف اشترطت أنها لا تتصدق ولا تجاهد، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا).
ومعنى ذلك: أنه علم أنه سيحصل منهم ذلك، ولكنهم في الحال لا يجب عليهم الجهاد، والزكاة لا تجب عليهم إلا بعد مرور سنة، والجهاد لا يكون إلا عند الحاجة إليه والدعوة إليه، وهم في حال بيعتهم ليس عليهم شيء من هذا ولا هذا، ولكونه صلى الله عليه وسلم علم أنهم سيجاهدون وسيتصدقون إذا أسلموا لم يمنعهم أن يدخلوا في الإسلام بهذه الطريقة، بل وافقهم على ذلك لما علمه أنهم سيجاهدون وسيتصدقون، ومن المعلوم أن هذا من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو اشترط أحد ألا يتصدق أو لا يعمل شيئاً من أعمال الإسلام لا يقر على ذلك، والرسول عليه الصلاة والسلام قد أطلعه الله أنهم سيحصل لهم ذلك بعد دخولهم الإسلام، فلم يشأ النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتلهم وأن ينابذهم إن لم يحصل منهم ذلك؛ لما أطلعه الله عز وجل عليه من أنهم سيحصل منهم ذلك بعد دخولهم في الإسلام.(355/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا)
قوله: [حدثنا الحسن بن الصباح حدثنا إسماعيل -يعني ابن عبد الكريم - قال: حدثني إبراهيم -يعني ابن عقيل بن منبه - عن أبيه عن وهب عن جابر].
كل هؤلاء مر ذكرهم.(355/15)
شرح حديث: (لا خير في دين ليس فيه ركوع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن علي بن سويد -يعني ابن منجوف - حدثنا أبو داود عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: (أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم، فاشترطوا عليه ألا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لكم ألا تحشروا ولا تعشروا، ولا خير في دين ليس فيه ركوع)].
أورد أبو داود حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: (إن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم) بحيث يروا الصحابة يخشعون في صلاتهم، فيكون في ذلك رقة لقلوبهم، وتليين لها.
قوله: [(فاشترطوا عليه ألا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبوا)].
معناه: أنهم لا يحشرون للجهاد والقتال وهو الذي مر في الحديث السابق، ولا يؤخذ من أموالهم العشر أو نصف العشر زكاة.
(ولا يجبوا) أي: لا يصلون، فالتجبية هي الركوع، فالرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم ألا يحشروا ولا يعشروا، قال: (ولا خير في دين لا ركوع فيه) يعني: الصلاة ما وافقهم على تركها؛ وذلك لأن الصلاة تكون في الحال وليست متأخرة كالزكاة، فإنها لا تجب إلا بعد مضي حول، وفي هذه الفترة يحصل منهم التفكر في الإسلام فيزكون، وكذلك الجهاد إذا مضت فترة سيحصل أن يدعوا للجهاد فيجاهدون، ولكن الصلاة هي في اليوم والليلة خمس مرات، وليس زمنها متأخراً وإنما هي حاضرة.
والحديث في إسناده ضعف؛ لأنه من رواية الحسن عن عثمان بن أبي العاص وهو لم يسمع منه، ولكن ما يتعلق بالصدقة والجهاد مر ذكرهما في الحديث الذي قبل هذا، وهو صحيح، وذلك لأن زمنهما متأخر، والله أطلع نبيه أنهم سيتصدقون وسيجاهدون إذا أسلموا.(355/16)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا خير في دين ليس فيه ركوع)
قوله: [حدثنا أحمد بن علي بن سويد يعني: ابن منجوف].
أحمد بن علي بن سويد بن منجوف صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبو داود].
هو سليمان بن داود الطيالسي ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن حماد بن سلمة].
حماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن حميد].
حميد بن أبي حميد الطويل وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
الحسن بن أبي الحسن البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عثمان بن أبي العاص].
عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه وهو صحابي، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.(355/17)
ما جاء في حكم أرض اليمن(355/18)
شرح حديث كتاب رسول الله لعك ذي خيوان
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في حكم أرض اليمن.
حدثنا هناد بن السري عن أبي أسامة عن مجالد عن الشعبي عن عامر بن شهر رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت لي همدان: هل أنت آت هذا الرجل ومرتاد لنا، فإن رضيت لنا شيئاً قبلناه، وإن كرهت شيئاً كرهناه؟ قلت: نعم، فجئت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرضيت أمره وأسلم قومي، وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الكتاب إلى عمير ذي مران قال: وبعث مالك بن مرارة الرهاوي إلى اليمن جميعاً، فأسلم عك ذو خيوان قال: فقيل لـ عك: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخذ منه الأمان على قريتك ومالك، فقدم وكتب له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله لـ عك ذي خيوان، إن كان صادقاً في أرضه وماله ورقيقه فله الأمان وذمة الله وذمة محمد رسول الله، وكتب خالد بن سعيد بن العاص)].
أورد أبو داود (باب في حكم أرض اليمن) وأورد حديث عامر بن شهر رضي الله عنه قال: خرج رسول صلى الله عليه وسلم يعني: بعث بالرسالة، وظهر أمره وانتشر حتى وصل إلى اليمن، فقالت همدان لـ عامر بن شهر: هل أنت آت هذا الرجل ومرتاد فإن رضيت لنا شيئاً قبلناه، وإن كرهت شيئاً كرهناه؟ يعني: إن رضيت لنا أن نتبعه فعلنا ذلك، وإن كرهت فإنا نكره، فقال: إنه يفعل، وقولهم: ومرتاد يعني: تستطلع الخبر وتأتي بالنتيجة، والمرتاد هو الرائد، ومنه قولهم: إن الرائد لا يكذب أهله.
قوله: (فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضيت أمره وأسلم قومي) لأنهم علقوا هذا على كونه يرضى بما يشاهده من النبي صلى الله عليه وسلم، فرضي فأسلموا بناء على قولهم: فإن رضيت شيئاً رضيناه، فأسلموا ورضوا بالدين الذي رضيه هذا الرائد الذي أرسلوه رائداً لهم.
قوله: [(وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الكتاب إلى عمير ذي مران قال: وبعث مالك بن مرارة الرهاوي إلى اليمن جميعاً)].
إلى اليمن جميعاً يعني: جميع مخاليف اليمن.
وهذا الحديث ضعيف؛ لأن في إسناده من هو متكلم فيه.(355/19)
تراجم رجال إسناد حديث كتاب رسول الله لعك ذي خيوان
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هناد بن السري أبو السري ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي أسامة].
أبو أسامة حماد بن أسامة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجالد].
مجالد بن سعيد وهو ليس بالقوي، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن الشعبي].
الشعبي عامر بن شراحيل وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عامر بن شهر].
وهو صحابي، أخرج له أبو داود.(355/20)
شرح حديث: (يا أخا سبأ لابد من صدقة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن أحمد القرشي وهارون بن عبد الله أن عبد الله بن الزبير حدثهم قال: حدثنا فرج بن سعيد قال: حدثني عمي ثابت بن سعيد عن أبيه سعيد -يعني ابن أبيض - عن جده أبيض بن حمال رضي الله عنه: (أنه كلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصدقة حين وفد عليه فقال: يا أخا سبأ! لابد من صدقة.
فقال: إنما زرعنا القطن يا رسول الله! وقد تبددت سبأ ولم يبق منهم إلا قليل بمأرب، فصالح نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم على سبعين حلة بز من قيمة وفاء بز المعافر كل سنة عمن بقي من سبأ بمأرب، فلم يزالوا يؤدونها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن العمال انتقضوا عليهم بعد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما صالح أبيض بن حمال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحلل السبعين، فرد ذلك أبو بكر رضي الله عنه على ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى مات أبو بكر، فلما مات أبو بكر رضي الله عنه انتقض ذلك وصارت على الصدقة)].
أورد أبو داود حديث أبيض بن حمال رضي الله عنه، والحديث ضعيف؛ ففيه رجلان مقبولان لا يحتج بهما إلا عند المتابعة.
قوله: [عن أبيض بن حمال: (أنه كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقة حين وفد عليه، فقال: لابد من الصدقة)].
هو جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليتنازل عن الصدقة وتترك كما في قصة في ثقيف، فقال: يا أخا سبأ! لابد من صدقة.
فقال: إنما زرعنا القطن، ومعلوم أن القطن ليس فيه زكاة؛ لأنه ليس من الثمار، وإنما هو قطن يتخذ ملابس.
قال: وقد تبددت سبأ، ولم يبق منهم إلا قليل بمأرب يعني: قد تفرقوا ولم يبق منهم إلا قليل، ومعناه أنه ما يحصل منهم إلا شيء قليل، فصالحوه على سبعين حلة، والحلة إزار ورداء، ولو صح هذا الحديث فيحمل على أنها زكاة عروض تجارة.
قوله: [(فلم يزالوا يؤدونها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن العمال انتقضوا عليهم بعد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما صالح أبيض بن حمال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلل السبعين)].
يعني: أنهم مانعوا من هذا الذي اتفق عليه، ولم يرضوا أن يدفعوا هذا المقدار فقط.
قوله: [(فرد ذلك أبو بكر رضي الله عنه على ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات أبو بكر، فلما مات أبو بكر رضي الله عنه انتقض ذلك وصارت على الصدقة)].
يعني: هذا الشيء الذي كان يؤخذ منهم صار على الصدقة أي: على مقدارها وعلى نسبتها بدون كمية يصالح عليها ويتفق عليها، لكن الحديث ضعيف.(355/21)
تراجم رجال إسناد حديث: (يا أخا سبأ لابد من صدقة)
قوله: [حدثنا محمد بن أحمد القرشي].
محمد بن أحمد القرشي قال الحافظ: يحتمل ثلاثة أشخاص كل منهم صدوق.
[وهارون بن عبد الله].
هارون بن عبد الله الحمال البغدادي ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن الزبير].
عبد الله بن الزبير الحميدي المكي ثقة، أخرج له البخاري ومسلم في المقدمة وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة في التفسير، وهذا أول شيخ روى عنه البخاري في صحيحه حديث: (إنما الأعمال بالنيات).
[حدثنا فرج بن سعيد].
فرج بن سعيد وهو صدوق، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثني عمي ثابت بن سعيد].
ثابت بن سعيد وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبيه سعيد بن أبيض].
وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن جده أبيض بن حمال].
أبيض بن حمال رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب السنن.(355/22)
الأسئلة(355/23)
حكم دخول الكافر المسجد
السؤال
هل في الأحاديث السابقة دليل على جواز دخول الكفار للمسجد؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم أدخل الكافر المسجد كما في قصة ثمامة في الحديث الصحيح ثم بعد ذلك أسلم.(355/24)
ذم صفة الفخر
السؤال
ذكر في الحديث أن أبا سفيان رضي الله عنه يحب الفخر، فهل هذه الصفة محمودة أو مذمومة؟
الجواب
صفة الفخر مذمومة، والتواضع هو المحمود، وهذا شيء كان في الجاهلية معروف فيه، ولكنه بعدما جاء الإسلام فإنه كغيره من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم صاروا على أحسن حال وعلى خير حال رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.(355/25)
زكاة القطن
السؤال
ما حكم زكاة القطن؟
الجواب
لا زكاة عليه إلا إذا كان للتجارة، فعروض التجارة فيها زكاة.(355/26)
حكم تأمين السفارات
السؤال
بعض الكتاب استدل بحديث من دخل دار أبي سفيان فهو آمن على تأمين دور السفارات اليوم، فهل يستقيم الاستدلال؟
الجواب
لا يستقيم الاستدلال، ودار أبي سفيان إنما نص عليه لقول العباس: إنه يحب الفخر، وإلا فدخول دار أبي سفيان يدخل في عموم قوله: (من دخل داراً فهو آمن)، ويجب تأمينهم.(355/27)
حال حديث: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)
السؤال
الشيخ الألباني رحمه الله يضعف قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) في تعليقه على فقه السيرة، فما قولكم؟
الجواب
على كل المن عليهم ثابت، فلم يحصل عليهم سبي ولا غنيمة كما قال جابر: لم يغنموا شيئاً.(355/28)
حكم ركعتي الطواف
السؤال
ما حكم ركعتي الطواف؟
الجواب
صلاة ركعتين بعد الطواف خلف المقام مستحبة وليست واجبة.(355/29)
حكم إسلام الكفار بعد فتح المسلمين لبلادهم
السؤال
لو فتح المسلمون أرض كفار؛ فأعلن الكفار إسلامهم، فهل تسبى نساؤهم، وتؤخذ أموالهم، وتوزع أراضيهم؟
الجواب
هم يدعون إلى الإسلام أولاً قبل القتال، فإذا أسلموا فلا حاجة لقتالهم، كما جاء في حديث علي عندما أعطاه الراية وقال: (ثم ادعهم إلى الإسلام) فالدعوة إلى الإسلام تكون قبل القتال.(355/30)
حكم قول العصمة لله وحده
السؤال
ما حكم قول: العصمة لله وحده؟
الجواب
الله عز وجل هو الذي يعصم ومنه العصمة، لكن قول: الله عز وجل له العصمة أو هو معصوم، غير مستقيم، ولكن كلامه فيه العصمة، ومن أخذ بكلام الله عز وجل وبما جاء عن الله في كتابه وسنة رسوله فقد اعتصم، ولا يقال عن الله: معصوم، ولكن كلامه معصوم، فأخباره صادقة، وأحكامه عادلة، ومن أخذ به سعد في الدنيا وفي الآخرة، ومن أعرض عنه خسر الدنيا والآخرة.(355/31)
كتاب رجال حول الرسول
السؤال
ما رأيكم في كتاب: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ خالد محمد خالد؟
الجواب
هو كتاب فيه خلط.(355/32)
دعاء الاستفتاح لا يشرع في صلاة الجنازة
السؤال
ما هي الصلوات التي لا يقرأ فيها دعاء الاستفتاح؟
الجواب
صلاة الجنازة لا يقرأ فيها دعاء الاستفتاح.(355/33)
حرمة دخول الكفار المسجد الحرام
السؤال
هل يجوز إدخال اليهود والنصارى عموماً إلى مكة إذا كان هناك مصلحة لكي يروا المشاعر؟
الجواب
هذه ليست مصلحة، بل فيها مفسدة وتشويه لصورة المسلمين.(355/34)