الشهوة لا تنقض الوضوء بخلاف المذي
السؤال
هل الشهوة تنقض الوضوء ولو غلب على الظن أن المذي لم يخرج؟
الجواب
الذي ينقض الوضوء هو المذي، وأما إذا وجد شهوة وما خرج مذي فلا ينتقض الوضوء.(280/16)
حكم بناء دورات المياه في ساحة المسجد
السؤال
ذكرتم حفظكم الله أن ساحة المسجد تعد من المسجد، ولكن الإشكال في وجود دورات المياه في هذه الساحة، والمسجد ينبغي أن ينزه عن ذلك؟
الجواب
دورات المياه خارجة عن المسجد، وما عداه يكون مسجداً، ودورات المياه ليست من المسجد، ولو كانت تحيط بها الساحات، وكما هو معلوم لها مكان معين في البدروم، والناس ينزلون إليها، ومن نزل إليها خرج من المسجد.(280/17)
حكم من قدم من سفر مفطراً فجامع زوجته وهي حامل مفطر
السؤال
إذا قدم الرجل من السفر وهو مفطر، فجامع زوجته في نهار رمضان؛ لأنها حامل ولا تصوم، فهل عليه شيء؟
الجواب
لا يجوز له أن يجامع إذا وصل من السفر؛ لأنه إذا قدم يمسك عن الأكل والشرب وعن الجماع الذي كان مباحاً له في السفر؛ لأنه وصل إلى الحضر فوجب عليه الإمساك، ومعنى هذا أنه ارتكب أمراً محرماً في وقت الصيام، وكان مرخصاً له قبل أن يقدم من أجل السفر، وبعد ما جاء فإن حرمة الشهر موجودة، وليس للإنسان أن يجامع.(280/18)
حكم إفطار الحامل والمرضع
السؤال
ما الحكم إذا أفطرت الحامل والمرضع خوفاً على أنفسهما أو على ولديهما؟
الجواب
يقول في عون المعبود: والحامل والمرضع تفطران إبقاء على الولد ثم تقضيان وتطعمان من أجل أن إفطارهما كان من أجل غير أنفسهما، وممن أوجب على الحامل والمرضع القضاء مع الإطعام مجاهد والشافعي وأحمد.
وقال مالك: الحبلى تقضي ولا تكفر؛ لأنها بمنزلة المريض، والمرضع تقضي وتكفر.
وقال الحسن وعطاء: تقضيان ولا تطعمان كالمريض، وهو قول الأوزاعي والثوري، وإليه ذهب أصحاب الرأي.
يعني: فيه خلاف، لكن هذا القول الأول الذي هو قول مجاهد والشافعي وأحمد أنهما تقضيان وتطعمان؛ لأن الإفطار ليس من أجل ضعفهما أو من أجل مرضهما، وإنما هما في صحة وعافية، ولكنهما أفطرا من أجل غيرهما.(280/19)
دليل حرمة الاستمناء في رمضان
السؤال
إن مبطلات الصوم توقيفية على الدليل، وعليه فالاستمناء لا يبطل الصوم؛ لعدم ورود الدليل، فما رأيكم؟
الجواب
الدليل موجود وهو حديث: (يدع شهوته وطعامه من أجلي) وإخراج المني شهوة، والاستمناء حرام في رمضان وغير رمضان، ولكنه في رمضان أشد، ويفسد به الصيام، ولكن لا كفارة فيه؛ لأن الكفارة إنما هي في الجماع فقط.(280/20)
حكم من جامع أهله قبل الفجر حتى الأذان فنزع
السؤال
شخص جامع أهله ظاناً أنه بقي شيء من وقت الليل، فسمع الأذان فامتنع من فعله وترك، فهل عليه شيء من الكفارة؟
الجواب
إذا جامع في الليل، وأذن وهو في الجماع ونزع فليس عليه شيء.(280/21)
حكم أكل المرأة المكرهة على الجماع في نهار رمضان
السؤال
هل على المرأة المكرهة في الجماع الإمساك أم لها أن تفعل المفطرات؟
الجواب
عليها الإمساك، وليس للإنسان أن يأكل في نهار رمضان، المسافر قبل أن يصل له أن يأكل، وإذا وصل وجب عليه أن يمسك بقية اليوم إلى المغرب، وكذلك الناس لو لم يبلغهم الشهر إلا بعد طلوع الفجر يجب عليهم الإمساك، ويقضون.(280/22)
حكم الكفارة لمن أفطر عامداً
السؤال
هل يقاس على الجماع من أفطر متعمداً بغير الجماع فتجب عليه الكفارة؟
الجواب
لا تجب الكفارة إلا في الجماع فقط.(280/23)
حكم من ترك صيام رمضان خمسة عشر عاماً
السؤال
رجل لم يصم حتى بلغ الثلاثين سنة، فكان يفطر قبل ذلك في رمضان، فهو يسأل الآن بعد التوبة، هل عليه أن يقضي خمسة عشر شهراً؟
الجواب
هل كان يصلي أو لا يصلي؟ إن كان لا يصلي فلا يقضي، وإن كان من المصلين فعليه القضاء.(280/24)
حكم من جامع في صيام التطوع
السؤال
ما حكم من جامع وهو صائم صوم تطوع؟
الجواب
صوم التطوع لا تجب فيه كفارة، وإنما الكفارة في صوم رمضان، بل لو جامع وهو يقضي فإنه لا تجب عليه كفارة؛ لأن الكفارة إنما هي لحرمة الشهر.(280/25)
حكم من جامع ناسياً
السؤال
ما حكم من جامع ناسياً؟
الجواب
من جامع ناسياً فيه خلاف بين أهل العلم: منهم من ألحقه بالأكل والشرب ناسياً، وقال: إنه لا كفارة عليه، ولا قضاء عليه.
وبعض أهل العلم يقول: إن الجماع يختلف عن الأكل والشرب؛ لأن الجماع يكون من طرفين، وإذا نسي أحدهما يذكره الآخر، وأما الأكل فإنه ليس فيه إلا طرف واحد يجد طعاماً فيأكله، وليس عنده أحد.
وأيضاً الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه الرجل وقال: هلكت، ما سأله: أنت متعمد أم ناس؟ بعض أهل العلم قال بأن عليه الكفارة؛ لأن الرسول ما استفصل.
والذي يبدو أن فيه الكفارة؛ لأنه يختلف عن الأكل والشرب.(280/26)
حكم من أفطر عشرة أيام من رمضان بالجماع
السؤال
رجل تزوج في أول يوم من رمضان وأفطر عشرة أيام بالجماع، فما الحكم؟
الجواب
أعوذ بالله! كل يوم عليه فيه كفارة؛ لأن الإفساد في كل يوم، فلو كان الجماع المتعدد في يوم واحد لكانت كفارة واحدة؛ لأن الإفساد وقع ليوم واحد، لكن إذا أفسد عشرة أيام فعليه عشر كفارات.(280/27)
كيفية صيام المرأة لكفارة رمضان مع تخلل أيام حيضها
السؤال
كيف تصوم المرأة التي قد جامعها زوجها وهي راضية شهرين متتابعين مع أنها تحيض في كل شهر؟
الجواب
إذا كانت لا تستطيع العتق فإنها تصوم، والأيام التي هي معذورة فيها لا تحتسب، يعني: تأتي بالستين يوماً بدون الأيام التي أفطرتها، فإذا انتهى حيضها تعود إلى الصيام حتى تكمل ستين يوماً.(280/28)
كراهة الانشغال بالنوافل عن الفرائض
السؤال
هل يجوز لمن عليه صوم قضاء أن يصوم النوافل؟
الجواب
الإنسان يؤدي الفرض قبل النفل، فالفرض مقدم على النفل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل) يعني: بعد الفرائض، ويقول بعض الأكابر كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري: من شغله الفرض عن النفل فهو معذور.(280/29)
ظاهر حديث عائشة ترك النوافل من الصيام إلى شعبان
السؤال
هل حديث عائشة يدل على أنها ما كانت تصوم حتى النوافل إلى أن يأتي شعبان فتقضي ما عليها من رمضان؟
الجواب
هذا الذي يبدو، وهو ظاهر كلامها؛ لأنها كانت تؤخر ذلك لمكان رسول الله منها ويمكن أنها كانت تصوم بعض الأيام إذا كان النبي يصوم، فمعناه: أنه يبقى عليها شيء تقضيه في شعبان.
لكن لا يقدم النفل على الفرض أبداً، وإنما يؤتى بالدين أولاً، ثم يؤتى بالنفل.
وفي شهر شوال يكثر السؤال عن صيام الست من شوال، وكون الإنسان يصوم الست قبل ما يصوم القضاء، وليس بصحيح أن الإنسان يصوم ستاً من شوال قبل أن يصوم القضاء، وإنما عليه أن يقضي ثم يصوم الست؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال) والذي عليه قضاء يعتبر ما صام رمضان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال) يعني: أدى الفرض ثم أتى بالنفل الذي هو الست من شوال، فليس للإنسان أن يتطوع بصيام الست من شوال قبل قضاء ما عليه من رمضان، بل يقضي الفرض أولاً ويبادر به، ثم يأتي بصيام الست من شوال.(280/30)
قضاء رمضان لا يلزم فيه التتابع
السؤال
امرأة تقول: في رمضان الماضي كنت حاملاً، فنصحتني الطبيبة بأن أفطر خوفاً على الجنين، فأفطرت تسعة أيام، وحتى اليوم لم أقض هذا الدين، وأنا الآن أرضع، وأخاف إذا صمت أن ينقطع الحليب عن ولدي،
السؤال
هل يمكنني أن أقضي هذه الأيام متفرقة، بأن أصوم يوماً وأفطر يوماً، أم لا بد من التتابع؟
الجواب
يمكن التفريق، وقضاء رمضان لا يلزم فيه التتابع، بل يمكن أن يصومه متفرقاً؛ لأنه قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185]، وهذا مطلق يصلح فيه التتابع والتفريق.(280/31)
حكم من دخل عليه رمضان ولم يصم الذي قبله
السؤال
إذا دخل رمضان الثاني ولم يصم رمضان الأول فماذا يفعل؟
الجواب
يصوم بعد ذلك ويطعم عن كل يوم مسكيناً.(280/32)
حكم من جامع في صيام قضاء رمضان
السؤال
إذا جامع الرجل زوجته في صيام، وكان هذا الصيام قضاء لصوم واجب، فهل تجب عليه الكفارة؟
الجواب
لا تجب، وإنما تجب بالجماع في نهار رمضان، وأما إذا صام قضاء رمضان في شوال أو في محرم أو في صفر وجامع فيه، فإنه لا كفارة عليه.(280/33)
حكم دفع الأجرة لشخص يصوم قضاء عن الميت
السؤال
إذا دفع الولي مالاً لأحد لكي يصوم عن موليه، فهل يجوز ذلك؟
الجواب
لا يصلح بذل المال من أجل الصيام؛ لأن هذا العمل مبني على المؤاجرة، مثل الاستئجار على قراءة القرآن وإهدائه للأموات، وما إلى ذلك من الأمور والعبادات، أقول: مثل هذا لا يصلح، ولكن كونه يدفع لمن يحج؛ لأن الحج يتطلب نفقات، ويتطلب مشقة فلا بأس بذلك، وأما الصوم فإنه لا يصلح فيه المؤاجرة.(280/34)
حكم ساحات المسجد
السؤال
إذا خرجت من باب الصديق بعد صلاة المغرب، ودخلت من باب آخر لأصل إلى الدرس، فهل يعتبر أني خرجت من الحرم فأحتاج إلى أن أصلي ركعتين؟
الجواب
ما خرجت؛ لأن الساحات هي من المسجد، بعدما وجد السور فإن الساحات داخلة في المسجد.(280/35)
حكم طواف الوداع في العمرة
السؤال
هل للعمرة طواف وداع؟
الجواب
بعض أهل العلم قال بذلك، والذي يظهر أن الإنسان ينبغي له أن يودع، ولكن إن خرج غير مودع فليس عليه شيء، وليس كالحج، فالحاج لو خرج غير مودع فعليه فدية، وأما العمرة إن خرج غير مودع ليس عليه شيء، لكن ينبغي له أن يودع، وبعض أهل العلم قال بوجوبها كالحج، لكن لا نعلم شيئاً واضحاً يدل على الوجوب؛ لأن الأحاديث التي وردت إنما هي في الحج.(280/36)
حكم من ترك أعمال الجوارح باستثناء الصلاة مع تلفظه بالشهادتين
السؤال
من ترك أعمال الجوارح باستثناء الصلاة مع تلفظه بالشهادتين ووجود أصل الإيمان القلبي هل يكفر أو لا؟
الجواب
بعض الأعمال التي هي غير الصلاة جاء ما يدل على أن تركها تهاوناً لا يحصل به الكفر، كالزكاة جاء في الحديث الصحيح المشهور أن الرجل الذي عنده ذهب وفضة لا يؤدي زكاتها أنها يحمى عليها في نار جهنم، ويكوى بها جنبه وظهره إلى آخره.
وجاء: (أنه إذا كان صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر إذا مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيري سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) فقوله: (إما إلى الجنة وإما إلى النار) يدل على أنه لا يكون كافراً بذلك، وأما بالنسبة للصلاة فقد جاءت بها الأحاديث، والإنسان لا يترك الأشياء الواجبة؛ لأن كون الإنسان يترك الأمور الواجبة عليه هذا ضعف في إيمانه ويقينه.(280/37)
حكم من تبايعا خارج المسجد وتقابضا فيه
السؤال
تبايع اثنان خارج المسجد، ولم تحصل المقابضة إلا في المسجد؟
الجواب
كون الإنسان يوفي ديناً عليه ويعطي نقوداً لشخص آخر يقضي بها دينه لا بأس بذلك.
وهذا الفعل المذكور في السؤال لا بأس به؛ لأن البيع والشراء كان متفقاً عليه خارج المسجد، أما أخذ الدين أو رده في المسجد فلا بأس بذلك.(280/38)
كتاب مباحث في علوم القرآن للقطان
السؤال
سائل يسأل عن كتاب مباحث في علوم القرآن؟
الجواب
مباحث في علوم القرآن للشيخ مناع القطان رحمه الله لا أذكره تماماً، لكنه فيه فوائد، أما كونه سليماً وليس عليه ملاحظات فليس عندي علم.(280/39)
حكم من اشترى سيارة ثم باعها لينتفع بثمنها
السؤال
ما حكم شراء السيارة بالتقسيط، ومن ثم بيعها للانتفاع بثمنها؟
الجواب
الإنسان لا ينبغي له أن يحمل نفسه ديوناً من أجل أن يأتي بمشروع أو يأتي بتجارة، أو يعمل له عملاً من أعماله أو ما إلى ذلك، لأن الدين أمره خطير، وقد جاء في الحديث: أن الشهيد يغفر له كل شيء، ثم جاء استثناء الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سارني به جبريل آنفاً).(280/40)
شرح سنن أبي داود [281]
فرض الله سبحانه وتعالى الصيام على العباد، وكلفهم به على قدر استطاعتهم، ولذا عذر المريض حتى يبرأ، والمسافر حتى يقيم، وأمر الكبير أن يطعم عن كل يوم مداً، وحث الشارع على صيام بعض الأيام الفاضلة كيوم عرفة وعاشوراء، والإثنين والخميس، ونهى عن صيام بعض الأيام لحكمة، كإفراد يوم الجمعة أو السبت، عيد الفطر والأضحى، وصيام الدهر.(281/1)
متى يفطر المسافر إذا خرج؟(281/2)
شرح حديث (أترغب عن سنة رسول الله؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب متى يفطر المسافر إذا خرج.
حدثنا عبيد الله بن عمر قال: حدثني عبد الله بن يزيد ح وحدثنا جعفر بن مسافر حدثنا عبد الله بن يحيى المعنى حدثني سعيد -يعني ابن أبي أيوب - وزاد جعفر والليث قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب أن كليب بن ذهل الحضرمي أخبره عن عبيد قال جعفر: عبيد بن جبر قال: (كنت مع أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان فرفع، ثم قرب غداؤه، قال جعفر في حديثه: فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة قال: اقترب، قلت: ألست ترى البيوت؟ قال أبو بصرة: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال جعفر في حديثه: فأكل)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب متى يفطر المسافر إذا خرج.
يعني: إذا كان صائماً ثم خرج فمتى يفطر؟ هل يكمل صومه ذلك اليوم الذي بدأ به، أو أنه يمكن أن يفطر في أثناء ذلك اليوم الذي خرج في أوله أو في أثنائه؟ هذا هو مراد الترجمة، والحكم في هذا هو كالحكم في القصر، والإتيان برخص السفر، وأن الإنسان إذا غادر البلد وفارق البيوت والعمران -وإن كان يراها- فإنه يأخذ برخص السفر من فطر وقصر للصلاة، فيبدأ بالترخص من حين ما يغادر البلد، والنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع خرج من المدينة وقد صلى بها الظهر، ونزل في الميقات الذي هو ذي الحليفة وقصر فيه، فصلى العصر قصراً، وهي قريبة من المدينة، فإذاً: إذا خرج الإنسان من البلد وإن كان يرى البيوت فإنه يبدأ بالإتيان برخص السفر التي هي الفطر والقصر، هذا هو الحكم، ويدل له ما أورده أبو داود من حديث أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه.
كذلك أيضاً ما جاء في القرآن، وهو قول الله عز وجل: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101] ((وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ)) يعني: إذا بدأ الضرب في الأرض، وإذا خرج من البلد فإنه يكون بدأ في الضرب في الأرض، فمعنى ذلك أن له أن يأخذ برخص السفر من حين يبدأ بالسفر، وقد أورد أبو داود حديث أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه.
قوله: [(كنت مع أبي بصرة الغفاري صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان)].
يعني: سافروا في سفينة من الفسطاط -وهي مكان في مصر يقال له: الفسطاط- وجاء في بعض الأحاديث أنه متجه إلى الإسكندرية، وهذا كما هو معلوم يكون في نهر النيل.
قوله: [(فرفع)].
قيل: فرفع، يعني: فرفع هو ومن معه بمعنى: أنهم دفعوا وتحركوا، وفي بعض الروايات: فدفع، وفي بعضها: فدفعنا، يعني: أنهم تحركوا وانطلقوا في السفينة، وأن السفينة تحركت في البحر.
قوله: [(ثم قرب غداؤه) قال جعفر في حديثه: (فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة)].
قوله: (فقرب إليه غداؤه) هذا قاله بعض الرواة، وقال جعفر الذي هو أحد شيوخ أبي داود: (فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة) أي: المائدة التي تقدم للأكل، (فلم يجاوز البيوت) معناه: أنه جاوزها، ولكنه قريب منها؛ ولهذا قال: إنك ترى البيوت.
قوله: [(قال اقترب: قلت: ألست ترى البيوت؟)].
أبو بصرة يقول لـ عبيد بن جبر: اقترب يعني: كل، فقال: (ألست ترى البيوت) يعني: معناه أننا لا زلنا قريبين من البلد.
قوله: [(قال أبو بصرة: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)].
يعني: أن الإنسان إذا دخل في السفر أو بدأ في السفر فإن له أن يترخص، ويدل له كما ذكرت الآية: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101] والضرب في الأرض إنما يكون بالبدء بالسفر.
قوله: [قال جعفر في حديثه: فأكل].
أي: الذي هو عبيد بن جبر.
والحديث دال على ما ترجم له، وهو أن المسافر له أن يترخص من حين يغادر العمران، ولكن -كما أسلفت- فيما يتعلق بالصوم في السفر الأولى أنه ينظر في ذلك إلى حال الإنسان، فإن كان عليه مشقة فالأولى له أن يفطر، وإن لم يكن عليه مشقة فالأولى له أن يصوم حتى لا يحمل نفسه ديناً قد يثقل عليه أداؤه والقيام به.(281/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أترغب عن سنة رسول الله؟)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر].
عبيد الله بن عمر القواريري، ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثني عبد الله بن يزيد].
عبد الله بن يزيد هو المقرئ المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا جعفر بن مسافر].
جعفر بن مسافر صدوق ربما أخطأ، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا عبد الله بن يحيى].
عبد الله بن يحيى لا بأس به، أخرج له البخاري وأبو داود.
[المعنى حدثني سعيد -يعني ابن أبي أيوب -].
سعيد بن أبي أيوب، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وزاد جعفر: والليث].
يعني: أن في رواية جعفر الطريق الثانية الرواية عن شيخين، يعني: عبد الله بن يحيى يروي عن اثنين: عن سعيد بن أبي أيوب والليث.
وأما الطريق الأولى التي هي طريق عبيد الله بن عمر فليس فيها الليث، وإنما هي عن سعيد بن أبي أيوب فقط.
[حدثني يزيد بن أبي حبيب].
هو يزيد بن أبي حبيب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن كليب بن ذهل الحضرمي].
كليب بن ذهل الحضرمي مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن عبيد قال جعفر: عبيد بن جبر].
الشيخ الأول قال: عبيد فقط، ولم ينسبه، وأما الثاني: وهو جعفر بن مسافر شيخ أبي داود فإنه نسبه فقال: عبيد بن جبر، وهو فيه كلام.
وذكره يعقوب بن سفيان في الثقات، وقال ابن خزيمة: لا أعرفه.
وأخرج له أبو داود، فهو إما صحابي، وإما أنه ثقة.
[كنت مع أبي بصرة الغفاري].
أبو بصرة الغفاري رضي الله عنه وهو حميل بن بصرة بن وقاص، وهو صحابي أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والنسائي.(281/4)
قدر مسيرة ما يفطر فيه(281/5)
شرح حديث (إن قوماً رغبوا عن هدي رسول الله وأصحابه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قدر مسيرة ما يفطر فيه.
حدثنا عيسى بن حماد أخبرنا الليث -يعني ابن سعد - عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن منصور الكلبي: (أن دحية بن خليفة خرج من قرية من دمشق مرة إلى قدر قرية عقبة من الفسطاط، وذلك ثلاثة أميال في رمضان، ثم إنه أفطر وأفطر معه ناس، وكره آخرون أن يفطروا، فلما رجع إلى قريته قال: والله لقد رأيت اليوم أمراً ما كنت أظن أني أراه، إن قوماً رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، يقول ذلك للذين صاموا، ثم قال عند ذلك: اللهم اقبضني إليك)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: [باب قدر مسيرة ما يفطر فيه].
يعني: المسافة التي سيقطعها والتي هو متجه إليها والتي هي غايته وسينتقل إليها من البلد الذي هو فيه، يعني: هل تكون طويلة أو قصيرة؟! هذا هو المقصود من الترجمة؛ معناه: سيمشي من مكان كذا إلى مكان كذا فهل يفطر أو لا يفطر؟ ومعلوم أن الحكم إنما هو مناط بالسفر، وأن أحكام السفر متعلقة باسم السفر، فما يقال له سفر هو الذي تتعلق به الأحكام، وما لا يقال له سفر فإنه لا تتعلق به الأحكام، والمسافة القليلة التي لا يعتبر فيها الإنسان مسافراً حكمه فيها حكم المقيم وليس المسافر، وأما المسافة التي يطلق عليها اسم السفر هي التي يترخص فيها المسافر، يعني: إذا بدأ بذلك السفر متجهاً إلى تلك الجهة التي يعتبر الذهاب إليها سفراً، أما إذا كان المكان قريباً ولا يعتبر سفراً فإن هذا حكمه حكم الإقامة، وحكمه حكم البلد، ولا يعتبر الإنسان مسافراً.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديثاً ضعيفاً عن دحية بن خليفة الكلبي رضي الله تعالى عنه أنه خرج من قرية على مقدار ما بين الفسطاط وقرية عقبة، والمسافة قصيرة تبلغ ثلاثة أميال، فأفطر وأفطر معه بعض الناس، وبعض الناس توقفوا وامتنعوا ورأوا أن يصوموا، ثم إنه بعد ذلك أبدى تأثره وتألمه من هذا الصنيع، وقال: إنهم رغبوا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم اقبضني إليك، والحديث ضعيف ليس بثابت، ولا يصح، وكونه قال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو غير ثابت، وإذا قيل: (سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم) فحكمه حكم الرفع، لكن الشاهد في ثبوته، فهو غير ثابت ولا يحتج به، ويكون الأمر على هذا إنما هو متعلق بالسفر، فما يقال له سفر يحصل فيه الترخص سواءً كان في الفطر أو القصر أو الجمع أو غير ذلك، وما لم يكن كذلك فإنه لا يترخص فيه.(281/6)
تراجم رجال إسناد حديث (إن قوماً رغبوا عن هدي رسول الله وأصحابه)
قوله: [حدثنا عيسى بن حماد].
هو عيسى بن حماد، الملقب زربة المصري، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أخبرنا الليث -يعني ابن سعد -].
هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير].
يزيد بن أبي حبيب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وأبو الخير: هو مرثد بن عبد الله اليزني المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور الكلبي].
هو منصور بن سعيد أو ابن زيد الكلبي، وهو مستور، ومستور بمعنى: مجهول الحال، أخرج له أبو داود، وهو أيضاً مصري.
[أن دحية بن خليفة].
هو دحية بن خليفة الكلبي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج له أبو داود، ودحية بن خليفة هذا هو الذي كان جبريل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم على صورته.
فيكون الإسناد كله مصريون إلا دحية فإنه كان في الشام في قرية يقال لها: قرية المزة، وهي التي منها أبو الحجاج المزي، وهي في طرف دمشق.
وما بين جدة إلى مكة بعض أهل العلم يعده سفراً، ولكن أمور السفر ينبغي أن يحتاط فيها، فإذا تردد الإنسان فعليه العمل بحديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).(281/7)
شرح أثر (أن ابن عمر كان يخرج إلى الغابة فلا يفطر ولا يقصر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا المعتمر عن عبيد الله عن نافع أن ابن عمر كان يخرج إلى الغابة، فلا يفطر ولا يقصر].
أورد هذا الأثر عن ابن عمر أنه كان يذهب إلى الغابة، وهي قريبة من المدينة في الشمال منها، وكان يذهب إليها فلا يقصر ولا يفطر، يعني لا يترخص؛ لأن هذا لا يعتبر سفراً.(281/8)
تراجم رجال إسناد أثر (أن ابن عمر كان يخرج إلى الغابة فلا يفطر ولا يقصر)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسهرد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا المعتمر].
هو المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر العمري المصغر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن ابن عمر].
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(281/9)
من يقول صمت رمضان كله(281/10)
شرح حديث (لا يقولن أحدكم إني صمت رمضان كله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من يقول: صمت رمضان كله].
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن المهلب بن أبي حبيبة حدثنا الحسن عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يقولن أحدكم: إني صمت رمضان كله وقمته كله) فلا أدري أكره التزكية أو قال: لا بد من نومة أو رقدة؟!].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب من يقول: صمت رمضان كله].
يعني: هل ذلك يصلح أو لا يصلح؟ هل ينبغي ذلك أو لا ينبغي؟ والمقصود من ذلك أنه إذا كان الإخبار إخباراً بالواقع، وأنه وفق لصيام رمضان كله، فهذا لا بأس به، وأما إذا كان المقصود به التزكية فهذا هو الذي كرهه من كرهه، والحديث الذي أورده أبو داود هنا ضعيف لا يحتج به، وليس بثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه إذا كان الإنسان أخبر عن كونه صام رمضان، وأنه وفق لصيامه ولإكماله، وأن ذلك قد حصل منه، فهذا لا بأس به، وأما إذا كان لغاية تزكية النفس والتبجح وما إلى ذلك فهذا الأولى تركه، ولكن الحديث الذي ورد غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(لا يقولن أحدكم: إني صمت رمضان كله وقمته كله) فلا أدري، أكره التزكية].
يعني: قاله أحد الرواة، ولا يدري أكره كونه يزكي نفسه بهذا الكلام.
قوله: [أو قال: لا بد من نومة أو رقدة].
أو أنه كلام غير مطابق للواقع؛ لأنه يكون فيه شيء من النقص، بمعنى: أنه إذا قال: قمته كله فليس معناه: أنه قام الليل كله من أوله إلى آخره، إذ لا بد من رقدة ولو شيئاً قليلاً، فيكون فيه عدم مطابقة للواقع، يعني: فيه احتمال تزكية واحتمال أن فيه عدم مطابقة للواقع، فهو يقول: قمته كله، وهو ما قامه كله، بل حصل له رقاد وارتياح.(281/11)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يقولن أحدكم إني صمت رمضان كله)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المهلب بن أبي حبيبة].
المهلب بن أبي حبيبة صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا الحسن].
هو الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بكرة].
أبو بكرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو نفيع بن الحارث، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث فيه الحسن وهو مدلس.(281/12)
شرح سنن أبي داود [282]
صوم التطوع من الأعمال الفاضلة التي يرجو بها فاعلها الأجر الجزيل والثواب العظيم من رب العالمين، إلا أن هناك أياماً نهى الشرع الحنيف عن صيامها لكونها أيام أكل وشرب، وقد رخص الله لعباده فيها التمتع والتوسيع على أنفسهم وأهليهم، وهذه الأيام هي العيدان وأيام التشريق ويوم الجمعة.(282/1)
ما جاء في صوم العيدين(282/2)
شرح حديث (أن رسول الله نهى عن صيام هذين اليومين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في صوم العيدين.
حدثنا قتيبة بن سعيد وزهير بن حرب وهذا حديثه قالا: حدثنا سفيان عن الزهري عن أبي عبيد قال: (شهدت العيد مع عمر فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن صيام هذين اليومين، أما يوم الأضحى فتأكلون من لحم نسككم، وأما يوم الفطر ففطركم من صيامكم)].
أورد أبو داود باب في صوم العيدين.
يعني: حكم ذلك، أي: أن صومهما لا يجوز، ويجب أن يكون الإنسان مفطراً فيهما؛ وذلك لأن عيد الأضحى عيد فيه ذبح الهدي والأضاحي، وقد شرع للناس أن يأكلوا من الهدي والأضاحي فلا ينشغلوا بالصيام عن الأكل من هذا النسك الذي جعلت له هذه الأيام، التي هي يوم العيد وثلاثة أيام بعده وهي أيام التشريق، فيكون الإنسان بصيامه معرضاً عن هذه الضيافة وعن هذه النعمة وعن هذا النسك الذي شرعه الله تعالى في هذه الأيام.
وأما يوم الفطر فإنه على اسمه، ومن شأنه أن يكون الإنسان فيه مفطراً، لا أن يكون صائماً، فليس هو عيد الصيام، وإنما هو عيد الفطر؛ لأنه الفطر من رمضان، وأيضاً فيه تمييز، وذلك أن اليوم الذي قبله من رمضان، وأيام رمضان كلها تصام، وهذا اليوم يجب إفطاره بحيث يكون الإنسان في هذا العيد مفطراً من رمضان.
وحديث عمر رضي الله عنه فيه أنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة ثم قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام هذين اليومين، أما يوم الأضحى فتأكلون من لحم نسككم)].
هذا التعليل للإفطار في العيدين؛ لأن الأضحى تأكلون فيه من لحم نسككم.
قوله: [(وأما يوم الفطر ففطركم من صيامكم)].
يعني: صمتم فأفطرتم، فلا يجوز أن تواصلوا الصيام وأن تصوموا يوم العيد، بل يجب عليكم أن تفطروا يوم العيد، وفي صنيع عمر هذا دليل على أن الخطيب يأتي بما يناسب الحال؛ لأنه هنا بين حكم صوم العيدين وهو في خطبة العيد، يعني: في هذه الخطبة بين هذا الحكم فدل هذا على أن الخطب تبين فيها الأحكام المتعلقة بها، بأن يبين ما يتعلق بالفطر ويبين ما يتعلق بالأضحى وهكذا!(282/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله نهى عن صيام هذين اليومين)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وزهير بن حرب].
زهير بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[وهذا حديثه].
أي: حديث الشيخ الثاني زهير.
[حدثنا سفيان].
سفيان هو ابن عيينة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عبيد].
أبو عبيد هو سعد بن عبيد الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: شهدت العيد مع عمر].
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، الصحابي الجليل، أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(282/4)
شرح حديث (نهى رسول الله عن صيام يومين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم الأضحى، وعن لبستين: الصماء، وأن يحتبي الرجل في الثوب الواحد، وعن الصلاة في ساعتين: بعد الصبح وبعد العصر)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يومين: يوم الفطر ويوم الأضحى) يعني: يومي العيدين نهى عن صومهما، (وعن لبستين: اشتمال الصماء والاحتباء) واشتمال الصماء: هو أن يلف جسده بثوب واحد بحيث يجمع جميع جسده ويداه داخلة تحت هذا الثوب الذي لف نفسه فيه، فيكون كالصخرة الصماء، فلو حصل له حاجة ما استطاع أن يخرج يديه إلا بانكشاف العورة، فهذه يقال لها: اشتمال الصماء.
والاحتباء: هو أن يجلس على مقعدته وينصب ساقيه وليس عليه شيء آخر غيره، ثم يلفه على ظهره وركبتيه، فتكون عورته من فوق مكشوفة لا يغطيها شيء؛ لأنه ليس عليه ما في إلا الثوب الذي يحتبى به فجعله على ظهره وعلى ساقيه، فيكون فرجه مكشوفاً من جهة العلو، فنهى عن هاتين اللبستين، (وعن الصلاة في ساعتين: بعد العصر وبعد الفجر)، النهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس.(282/5)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى رسول الله عن صيام يومين)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا وهيب].
هو وهيب بن خالد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عمرو بن يحيى].
هو عمرو بن يحيى المازني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه] وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري هو سعد بن مالك بن سنان الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(282/6)
صيام أيام التشريق(282/7)
شرح حديث (فهذه الأيام التي كان رسول الله يأمرنا بإفطارها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب صيام أيام التشريق.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن يزيد بن الهاد عن أبي مرة مولى أم هانئ: (أنه دخل مع عبد الله بن عمرو على أبيه عمرو بن العاص فقرب إليهما طعاماً فقال: كل، فقال: إني صائم فقال عمرو: كل، فهذه الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرنا بإفطارها، وينهانا عن صيامها).
قال مالك: وهي أيام التشريق].
أورد أبو داود باباً في صوم أيام التشريق، وأيام التشريق هي: الأيام الثلاثة التي بعد يوم عيد الأضحى، الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، ويقال لها: أيام التشريق؛ لأنهم كانوا يقددون اللحم -لكثرته- ويذرون عليه الملح، ثم يجعلونه في الشمس لييبس؛ فيدخرونه ويأكلونه فيما بعد، وهو ما يسمى بالقديد، فقيل لها: أيام التشريق؛ لأنه يشرق فيها اللحم، ويقال لها: أيام منى، ويقال لها: الأيام المعدودات، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203] التي هي أيام منى، ويوم العيد ليس من الأيام المعدودات؛ لأن الأيام المعدودات هي الثلاثة، والتعجل في اليومين يوم الحادي عشر والثاني عشر، وليس العيد منها بحيث يكون الحادي عشر هو الثاني، وإنما اليوم الحادي عشر هو الأول، ويوم العيد غير محسوب، فأورد أبو داود حديث عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، أن ابنه عبد الله وأبو مرة مولى أم هانئ دخلا على عمرو بن العاص رضي الله عنه وكان في أيام التشريق، فقدم طعاماً فقال: كل، قال: إني صائم، فقال عمرو: (كل، فهذه الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بإفطارها وينهانا عن صيامها)].
أمر بالفطر ونهى عن الصيام، ولا يرخص في صيامها إلا لمن لم يجد الهدي كما ثبت في الصحيح عن بعض الصحابة أنه قال: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لا يجد الهدي، يعني: في الثلاثة الأيام في الحج، فقد رخص له، وغيره لا يرخص له، فهو يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله إذا كان متمتعاً أو قارناً.
أما غير ممن وجد الهدي فإن عليه أن يكون مفطراً ولا يجوز أن يصوم أيام التشريق.
قوله: [قال مالك: وهي أيام التشريق].
يعني: هذه الأيام التي حصل فيها المحاورة.(282/8)
تراجم رجال إسناد حديث (فهذه الأيام التي كان رسول الله يأمرنا بإفطارها)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن الهاد].
يزيد بن الهاد هو يزيد بن عبد الله بن الهاد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي مرة مولى أم هانئ].
أبو مرة مولى أم هانئ ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، واسمه يزيد.
وعمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(282/9)
شرح حديث (يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا وهب حدثنا موسى بن علي ح وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن موسى بن علي والإخبار في حديث وهب قال: سمعت أبي أنه سمع عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب)].
أورد أبو داود حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب)].
وكما هو معلوم فإن الحجاج الأولى لهم أن يكونوا مفطرين في هذه الأيام كلها حتى يوم عرفة، ويجوز الصيام ولكن الأولى الإفطار، والنبي صلى الله عليه وسلم كان مفطراً ولم يكن صائماً في حجته، وكان الصحابة رضي الله عنهم تكلموا فيما بينهم هل الرسول صائم أو مفطر؟ فكان من ذكاء أم الفضل بنت الحارث الهلالية زوجة العباس وأم أولاده وأخت ميمونة بنت الحارث أن قالت: أنا أبين لكم هل هو صائم أو غير صائم، فأخذت قدحاً من لبن وقالت: ناولوه إياه، وكان على راحلته، فأخذه وشرب والناس يرون، فعرفوا أنه مفطر صلى الله عليه وسلم، والإفطار في يوم عرفة كما أنه اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم، فيه أيضاً تقوٍ على العبادة، وكون ذلك اليوم الذي ساعته عظيمة، وهو يوم عظيم ما رؤي الشيطان أدحر ولا أخزى منه في ذلك اليوم، يكون عند الإنسان نشاط وقوة إذا كان مفطراً، أما إذا كان صائماً يصير عنده كسل، فيكون ذلك شاغلاً له، فالأولى في حقه أن يكون مفطراً لا أن يكون صائماً، أما غير الحجاج فإن صيام يوم عرفة أفضل صيام التطوع، كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية، والسنة الآتية).
وكون عرفة يوم عيد لا شك أنه يوم عظيم، وفيه الأثر الذي جاء عن عمر رضي الله عنه: أن رجلاً من اليهود قال: إن آية نزلت عليكم لو أنزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: إني أعرف ذلك اليوم، وفي أي مكان.
وهو عيد للمسلمين، لكنه عيد يصام فيه لغير الحجاج، فإنه ما جاء ما يدل على صيامهم له.(282/10)
تراجم رجال إسناد حديث (يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا وهب].
هو وهب بن جرير بن حازم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا موسى بن علي].
هو موسى بن علي بن رباح، وهو صدوق ربما أخطأ، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[ح وحدثنا عثمان بن أبي شيبة].
هو عثمان بن أبي شيبة الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فقد خرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن موسى بن علي].
موسى بن علي عن أبيه.
[والإخبار في حديث وهب].
يعني: كونه تصريح بالسماع الذي في الرواية.
[قال: سمعت أبي].
الذي هو علي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[أنه سمع عقبة بن عامر].
هو عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(282/11)
النهي أن يخص يوم الجمعة بصوم(282/12)
حديث (لا يصم أحدكم يوم الجمعة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب النهي أن يخص يوم الجمعة بصوم.
حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يصم أحدكم يوم الجمعة، إلا أن يصوم قبله بيوم أو بعده)].
أورد أبو داود حديث هذه الترجمة: [باب النهي أن يخص يوم الجمعة بصوم].
يعني: من بين الأيام، بحيث يعمد إليه فيخصه ويصومه وحده، هذا جاء النهي عنه.
قوله: [(إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده)].
بحيث يكون مضافاً إليه، أما أن يفرد ويخص بالصيام مع أنه عيد للمسلمين في الأسبوع فلا، ويوم الجمعة يقال له: يوم عيد، كما جاء في صحيح البخاري عن عثمان رضي الله عنه أنه وافق يوم عيد الفطر يوم جمعة فخطب وقال: اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان، يعني: عيد الأسبوع وعيد السنة.
عيد الأسبوع الذي هو الجمعة، وعيد السنة الذي هو عيد الفطر، اجتمعا في يوم واحد، فجاءت الأحاديث بالنهي عن إفراده؛ لأنه يوم عيد، فإذا أفرد فمعناه أنه قصد صيام ذلك اليوم الذي هو يوم عيد، فكانت السنة ألا يصام إلا ومعه غيره: (إلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده) وقد جاء في ذلك أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حديث أبي هريرة: (لا يصم أحدكم يوم الجمعة، إلا أن يصوم قبله بيوم أو بعده)].
(قبله) الذي هو الخميس (أو بعده) الذي هو السبت.(282/13)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يصم أحدكم يوم الجمعة)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية].
أبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
هو أبو صالح ذكوان السمان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنه وأرضاه، وهو أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً.(282/14)
النهي أن يخص يوم السبت بصوم(282/15)
شرح حديث (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب النهي أن يخص يوم السبت بصوم.
حدثنا حميد بن مسعدة حدثنا سفيان بن حبيب ح وحدثنا يزيد بن قبيس من أهل جبلة حدثنا الوليد جميعاً عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر السلمي عن أخته وقال يزيد: الصماء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة، أو عود شجرة فليمضغه) قال أبو داود: وهذا الحديث منسوخ].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب النهي عن أن يخص يوم السبت بصوم].
يعني: فيها إشارة إلى أن النهي الذي ورد إنما هو للتخصيص، ومع ذلك يقول أبو داود: إنه منسوخ، وعلى القول بأنه منسوخ يمكن أن يصام حتى مع الإفراد، وصيام يوم السبت جاء فيه هذا الحديث.
قوله: [الصماء].
هي أخت عبد الله بن بسر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم).
يعني: كون الإنسان يصوم فرضاً، سواء فرضه على نفسه كما في النذر، أو فرضه الله عليه كما لو كان عليه قضاء.
قوله: [(وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة)].
اللحاء: هو القشرة التي تكون على العود، والتي تكون هي من أسباب بقاء العود، وإذا ذهبت القشرة كان ذلك سبباً في ذهابه؛ ولهذا يقول الشاعر: ويبقى العود ما بقي اللحاء.
قوله: [(إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه)].
يعني: وليفطر ولا يكون صائماً، وقد اختلف في صيام يوم السبت، فمن العلماء من منع ذلك لهذا الحديث الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من رأى أن النهي إنما هو لإفراده، وليس لصيام غيره معه، بل إن صيام غيره معه جاء ما يدل عليه، ومن ذلك الحديث الذي مر: (لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله بيوم وبعده بيوم) واليوم الذي بعده هو السبت، فأذن بصيام يوم الجمعة ومعه اليوم الذي بعده، واليوم الذي بعده هو السبت، وكذلك حديث جويرية الذي سيأتي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة قال: أصمت أمس؟ -أي: الخميس- قالت: لا، قال: أتريدين أن تصومي غداً؟ قالت: لا، قال: فأفطري) معناه: أن النهي إنما هو عن إفراده، وأما إذا صيم ومعه غيره، فإن ذلك لا بأس به.
وقال بعض أهل العلم: إن هذا منسوخ، وإنه يجوز إفراده، وقد ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري ورجح أنه يصام ولو كان مفرداً، وحكى قول أبي داود أنه منسوخ، وقال: ناسخه الحديث الذي ورد: (أنه ما مات حتى كان أكثر صيامه السبت والأحد، وقال: إنهما عيد لأهل الكتاب، وإننا نريد أن نخالفهم).
وذكر أموراً عديدة ذكرها في مخالفة أهل الكتاب وهذا منها، وهو يرجح أنه منسوخ كما قال أبو داود، ويرى أن هذا فيه مخالفة لأهل الكتاب؛ لأن ذلك اليوم هو من أعيادهم، فيكون شَرَع مخالفتهم، لكن كونه جاء هذا النهي فإن المناسب أن يكون النهي عن إفراده بالصوم، يعني: كونه يفرد بالصوم، أما إذا صيم ومعه غيره فإن ذلك لا بأس به، والحافظ ابن حجر ذكر أنه ألف في ذلك كتاباً سماه: القول الثبت في صيام يوم السبت.
وذكر فيه الأمور التي حصلت فيها المخالفة، وهو يقرر ويثبت أن النهي عن صوم يوم السبت منسوخ، وأنه يجوز إفراده بالصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه ما يدل على ذلك مخالفةً لأهل الكتاب، فذكر ذلك في الجزء العاشر صفحة ثلاثين واثنين وستين.(282/16)
تراجم رجال إسناد حديث (لاتصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم)
قوله: [حدثنا حميد بن مسعدة].
هو حميد بن مسعدة البصري، وهو صدوق، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا سفيان بن حبيب].
سفيان بن حبيب ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[ح وحدثنا يزيد بن قبيس من أهل جبلة].
يزيد بن قبيس من أهل جبلة، وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا الوليد].
هو الوليد بن مسلم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[جميعاً عن ثور بن يزيد].
هو ثور بن يزيد الحمصي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن خالد بن معدان].
خالد بن معدان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن بسر السلمي عن أخته].
عبد الله بن بسر السلمي، وهو صحابي صغير، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأخته الصماء أخرج لها أصحاب السنن.(282/17)
ما جاء في الرخصة في صيام يوم السبت(282/18)
شرح حديث جويرية (أن النبي دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الرخصة في ذلك.
حدثنا محمد بن كثير حدثنا همام عن قتادة ح وحدثنا حفص بن عمر حدثنا همام حدثنا قتادة عن أبي أيوب قال حفص: العتكي عن جويرية بنت الحارث: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة، فقال: أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: تريدين أن تصومي غداً؟ قالت: لا، قال: فأفطري)].
أورد أبو داود الرخصة في ذلك، يعني: في صيام يوم السبت، وأورد فيه حديث أم المؤمنين جويرية بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها، أنه دخل عليها رسول الله عليه الصلاة والسلام وهي صائمة يوم الجمعة، فقال: (أصمت أمس؟ -أي الخميس- قالت: لا، قال: هل تريدين أن تصومي غداً؟ قالت: لا، قال: فأفطري) معناه: أن يوم الجمعة لا يجوز صومه، وهو مثل ما جاء في حديث أبي هريرة المتقدم: (لا تصوموا يوم الجمعة إلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده) فكونه قال لها: (هل تريدين أن تصومي غداً؟) أي: السبت، يدل على أن صيام يوم السبت جائز، وليس بمقصور على الفرض.
وبعض أهل العلم قال: إن قوله: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) استثني منه شيئان: استثناء متصل، واستثناء منفصل، فالاستثناء المتصل هو الفرض، والاستثناء المنفصل هو أن يصام مع غيره، يعني: ليس مفرداً، فيكون هذا النهي استثني منه الفرض، وهو استثناء متصل، واستثني منه أن يصام ومعه غيره وهو استثناء منفصل.(282/19)
تراجم رجال إسناد حديث جويرية (أن النبي دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا همام].
هو همام بن يحيى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا حفص بن عمر].
هو حفص بن عمر ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا همام حدثنا قتادة عن أبي أيوب].
همام وقتادة مر ذكرهما، وأبو أيوب اسمه: يحيى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن جويرية بنت الحارث].
جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(282/20)
توهين ابن شهاب لحديث النهي عن صيام يوم السبت
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الملك بن شعيب حدثنا ابن وهب قال: سمعت الليث يحدث عن ابن شهاب، أنه كان إذا ذكر له أنه نهي عن صيام يوم السبت، يقول ابن شهاب: هذا حديث حمصي].
أورد أبو داود هذا الأثر عن ابن شهاب أنه كان إذا ذكر له النهي عن صيام يوم السبت قال: هذا حديث حمصي، وفي هذه الكلمة توهين له، وقيل: إن التوهين يتعلق بـ خالد بن معدان فإنه ثقة يرسل، وأيضاً تلميذه الذي هو ثور بن يزيد، قالوا: إنه يرى القدر، فالتوهين من أجل هذين، وهذان الراويان حديثهما معتبر، ولكن إما أن يكون منسوخاً كما قال الحافظ ابن حجر أو أنه ليس بمنسوخ ولكنه يصام ومعه غيره.(282/21)
تراجم رجال إسناد أثر توهين ابن شهاب لحديث النهي عن صيام يوم السبت
قوله: [حدثنا عبد الملك بن شعيب].
هو عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الليث عن ابن شهاب].
الليث مر ذكره، وابن شهاب مر ذكره.(282/22)
أثر الأوزاعي (ما زلت له كاتماً حتى رأيته انتشر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان حدثنا الوليد عن الأوزاعي قال: ما زلت له كاتماً حتى رأيته انتشر.
يعني: حديث عبد الله بن بسر هذا في صوم يوم السبت.
قال أبو داود: قال مالك: هذا كذب].
أورد أبو داود هذا الأثر عن الأوزاعي أنه قال: ما زلت له كاتماً، يعني: كأنه غير معتبر ولا معتمد عنده، فكان لا يريد أن يحدث به؛ لأنه لا يرى ما دل عليه.
وقال مالك: هذا كذب.
والكلمة هذه يمكن أن يكون المقصود منها أن فيها خطأ؛ لأن الكذب يأتي في بعض المواضع ويراد به الخطأ، لعل المقصود بذلك أنه خطأ، وليس المقصود بذلك أنه مكذوب وأنه موضوع، وإنما الكذب يأتي أحياناً في عباراتهم أنه بمعنى الخطأ.(282/23)
تراجم رجال إسناد أثر الأوزاعي (ما زلت له كاتماً حتى رأيته انتشر)
قوله: [حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان].
محمد بن الصباح بن سفيان صدوق، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثنا الوليد عن الأوزاعي].
الوليد مر ذكره، والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، فقيه الشام ومحدثها، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(282/24)
الأسئلة(282/25)
توجيه قول شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه لا مزية للسلام على النبي عند بيته ولا للصلاة عليه
السؤال
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الرد على الإخنائي في صفحة مائتين وثلاثة وستين إلى مائتين وخمسة وستين: ففي مسند أبي يعلى عن علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها، فنهاه، فقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتخدوا بيتي عيدًا، ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم) فهذا علي بن الحسين زين العابدين وهو من أجل التابعين علماً وديناً، حتى قال الزهري: ما رأيت هاشمياً مثله، وهو يذكر هذا الحديث بإسناده ولفظه، وهذا يقتضي أنه لا مزية للسلام عند بيته، كما لا مزية للصلاة عليه عند بيته، بل قد نهى عن تخصيص بيته بهذا وهذا.
نرجو منكم توضيح كلام شيخ الإسلام هذا من قوله: وهذا يقتضي أنه لا مزية للسلام؟
الجواب
معناه أنه لا يكون الأمر متوقفاً على كون الإنسان يأتي عند القبر ويسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما في أي مكان صلى وسلم فإن الملائكة تبلغه، كما جاء في نفس الحديث: (لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) أي: بواسطة الملائكة، والذي يظهر أن الملائكة، تبلغه سواء كان عند القبر أو بعيداً من القبر؛ لأن كل ذلك يكون بتبليغ الملائكة وإيصالهم ذلك إليه، وكذلك الحديث الآخر: (إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام).
والصلاة المقصود بها: الدعاء له صلى الله عليه وسلم، يعني: كونه يصلي عليه، أي: يدعو له مثل السلام عليه، وليس المقصود: الصلاة ذات الركوع والسجود؛ لأنه قال: (فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) وفي بعض الروايات: (تسليمكم يبلغني حيث كنتم) فهذا هو معنى، كون الإنسان يصلي عليه أو يسلم عليه سواءً عند بيته أو في أي مكان فإن الملائكة تبلغه ذلك.
وعلى هذا فإن الزيارة على أساس أن الإنسان يأتي إلى قبر النبي ويسلم عليه أفضل لكن بدون تكرار؛ لأن قوله: (لا تتخذوا قبري عيداً) يعني: المقصود منه التردد.(282/26)
ضابط الشرك الأصغر عند السعدي والتعليق عليه
السؤال
قال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في القول السديد في مقاصد التوحيد صفحة (54): فإن حد الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده أن يصرف العبد نوعاً أو فرداً من أفراد العبادة لغير الله، فكل اعتقاد أو قول أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع، فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص، وصرفه لغيره شرك وكفر، فعليك بهذا الضابط للشرك الأكبر الذي لا يشذ عنه شيء، كما أن حد الشرك الأصغر هو: كل وسيلة وذريعة يتطرق منها إلى الشرك الأكبر من الإرادات والأقوال والأفعال التي لم تبلغ رتبة العبادة، فعليك بهذين الضابطين للشرك الأكبر والأصغر، فإنه مما يعينك على فهم الأبواب السابقة واللاحقة من هذا الكتاب، وبه يحصل لك الفرقان بين الأمور التي يكثر اشتباهها والله المستعان.
أرجو توضيح ضابط الشرك الأصغر، وكيف نفرق بينه وبين البدع؟
الجواب
هذا الضابط غير واضح فيما يتعلق بالشرك الأصغر، وأنه كل وسيلة؛ لأن هناك وسائل لا تعتبر شركاً ولكنها تؤدي إلى الشرك، ولكن الشرك الأصغر مثل الحلف بغير الله؛ لأن فيه تعظيم غير الله، لكنه لا يصل إلى حد الشرك الأكبر، اللهم إلا إذا اعتقد أن هذا الذي يحلف به أعظم من الحلف بالله، أو أنه يكون مساو للحلف بالله، فهذا يكون شركاً أكبر، أما مجرد كونه يعظم ويحلف به، ويقول: وفلان! وحياتي! أو والنبي! والكعبة وما إلى ذلك من الألفاظ التي هي من الشرك الأصغر، نعم هي صرف شيء لغير الله عز وجل لا ينبغي أن يصرف إلا لله عز وجل، لكن أن تكون كل وسيلة من الوسائل شركاً أصغر، فهذا ليس بواضح.(282/27)
حكم كشف المرأة عن وجهها في الطواف
السؤال
هل المرأة إذا اعتمرت تكشف عن وجهها أو تحتجب في الطواف؟
الجواب
بالنسبة للطواف تحتجب؛ لأن الرجال موجودون أمامها ومعها، ولا يخلو المطاف من الطائفين من الرجال الأجانب، فعليها أن تغطي وجهها، وإنما تكشف وجهها إذا لم يكن عندها رجال، مثلما جاء عن عائشة: (أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فكن يكشفن عن وجوههن، فإذا حاذاهن الركبان أسدلت إحداهن خمارها على وجهها، فإذا تجاوزوها كشفت خمارها عن وجهها).(282/28)
مسافة القصر والفطر في الشرع
السؤال
حدد لنا مسافة القصر والفطر بالكيلو متر؟
الجواب
المشهور عند بعض العلماء أنها سبعون أو ثمانون كيلو متراً أو قريب من ذلك، يعني: ما كان في هذا الحدود فهو الذي فيه الاحتياط، وبعض أهل العلم يرى أنها أقل من ذلك، ولكن: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).(282/29)
حكم من يصوم يوماً ويفطر يوماً ووافق صيامه يوم السبت
السؤال
من كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ووافق يوم الصيام يوم السبت، فهل يصوم أو يترك؟
الجواب
الذي يبدو أنه لا بأس أن يصوم لأن هذا شيء معتاد، ولو أنه صام الخميس والأربعاء متتابعة وأفطر يوم السبت قد يكون أولى، ولكن يبدو أنه لا بأس به.(282/30)
شرح سنن أبي داود [283]
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر لما فيه من الغلو والمشقة على النفس، وتضييع حقوق وواجبات أخرى، وأرشد صلى الله عليه وسلم إلى صيام أشهر أخرى كالأشهر الحرم وشعبان، وقد كان صلى الله عليه وسلم يصوم غالب شعبان، فهذه مواسم لمن أراد التزود من عبادة الصيام.(283/1)
ما جاء في صوم الدهر تطوعاً(283/2)
شرح حديث (ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في صوم الدهر تطوعاً.
حدثنا سليمان بن حرب ومسدد قالا: حدثنا حماد بن زيد عن غيلان بن جرير عن عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله! كيف تصوم؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله، فلما رأى ذلك عمر قال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً، نعوذ بالله من غضب الله ومن غضب رسوله، فلم يزل عمر يرددها حتى سكن غضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله! كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: لا صام ولا أفطر -قال مسدد: لم يصم ولم يفطر أو ما صام ولا أفطر.
شك غيلان - قال: يا رسول الله! كيف بمن يصوم يومين ويفطر يوماً؟ قال: أويطيق ذلك أحد؟ قال: يا رسول الله! فكيف بمن يصوم يوماً ويفطر يوماً؟ قال: ذلك صوم داود، قال: يا رسول الله فكيف بمن يصوم يوماً ويفطر يومين؟ قال: وددت أني طوقت ذلك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله، وصيام عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصوم يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في صوم الدهر تطوعاً].
يعني: هل هو سائغ أو غير سائغ؟ صيام الدهر جاء ما يدل على منعه وذلك في بعض الأحاديث، ومنها: ما أورده أبو داود هنا، وذلك أن صوم الدهر فيه مشقة على الإنسان، وكونه يقصر في الأمور الأخرى الواجبة عليه، يعني: فيما يتعلق بالصلاة والنوافل، وما يتعلق بحقوق الأهل، وما يتعلق بحقوق من له حقوق عليه، فإن استمرار الصيام يلحق الضرر بجسمه، ويعيقه عن الإتيان بالأمور التي عليه أن يأتي بها، هذا هو التعليل للمنع منه، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه أحاديث تدل على أن الإنسان إذا عمل بها فإنه يحصل له ثواب صوم الدهر، وتفضيل ذلك أن صيام ثلاثة أيام من كل شهر -والحسنة بعشر أمثالها- وصيام رمضان وإتباعه بست من شوال يكون كصيام الدهر، فإنه يحصل الأجر للسنة كلها بهذا العمل، وأما كونه يصوم الدهر كله فإن هذا يترتب عليه المحاذير التي أشرت إليها آنفاً.
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: كيف تصوم يا رسول الله؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: من هذا السؤال، وكان ينبغي له أن يقول: كيف أصوم؟ يعني: هو نفسه يسأل عن صيامه، وماذا ينبغي له أن يفعله في الصيام؟ وأما أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تصوم؟ فهذا هو الذي غضب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغضبه عليه الصلاة والسلام إما لأن هذا الشخص قد يتقال عمله صلى الله عليه وسلم، ويحصل منه عمل كثير يلحقه به مضرة ومشقة، مثل قصة الثلاثة الذين جاءوا وسألوا عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أعماله، فكأنهم تقالوها، فقالوا لبعضهم: الرسول صلى الله عليه وسلم غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأما نحن فنحتاج إلى عمل، فقال بعضهم: (أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أقوم الليل فلا أنام، وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما علم بخبرهم قال: أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له، أما إني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) وسنته صلى الله عليه وسلم هي صيام وإفطار، وصلاة ونوم، وتزوج للنساء، فمثل هذا السؤال يمكن أن يبنى عليه أن يتقال العمل، أو يحاول أن يلزم نفسه بما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم فيعجز عن ذلك، مثلما جاء في قضية الوصال، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يواصل لما نهى الصحابة عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، قال: (إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى) كما مر بنا الحديث قريباً.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يوقفهم على مشقة ذلك الشيء الذي أرادوه فواصل بهم في آخر الشهر يومين أو ثلاثة، وقال: (لو تأخر الشهر لزدتكم) كالمنكل لهم، فهذا السؤال إما أن يترتب عليه كون الإنسان يلزم نفسه بشيء يشق عليه مثل الوصال ولا يستطيعه، أو أنه يتقال العمل فيلزم نفسه بشيء قد يطيقه في الحال ولكنه يشق عليه مع الاستمرار ومع طول الزمن، ومع مضي الأيام يلحقه بذلك مضرة ومشقة، فالرسول صلى الله عليه وسلم غضب لذلك، وعندما غضب قال عمر رضي الله عنه: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وجعل يرددها حتى سكن غضبه صلى الله عليه وسلم، وغضبه صلى الله عليه وسلم إنما هو للشفقة على أمته، والرفق بها، والحرص على ألا يحصل لها شيء يلحقها فيه مضرة ومشقة، وهذا من كمال نصحه صلى الله عليه وسلم لأمته، وأنه رءوف رحيم بها، كما وصفه الله عز وجل بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] وهذا الذي قاله عمر رضي عنه جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث العباس بن عبد المطلب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذاق طعم الإيمان من رضي الله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً) وجاء في الدعاء عند الأذان: (رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً) وجاء في أدعية الصباح والمساء: (رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً) وهذه الأمور الثلاثة التي جاءت في هذه الأحاديث هي الأمور التي يسأل عنها في القبر؛ لأن العبد يسأل في قبره عن ربه، ودينه، ونبيه، وهذه الأمور الثلاثة هي التي بنى عليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه كتابه الأصول الثلاثة وأدلتها، وهي: الأول: معرفة العبد ربه.
الثاني: معرفة العبد دينه.
الثالث: معرفة العبد لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
فهذا الكتاب المختصر المفيد العظيم لا يستغني عنه الخاص والعام، ولا العامي ولا طالب العلم؛ لأنه مبني على هذه الأمور الثلاثة التي هي مدار السؤال في القبر: سؤال الإنسان عن ربه، ودينه، ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يستغني طالب العلم عن هذا الكتاب الصغير الحجم العظيم الفائدة القليل المبنى، الواسع المعنى، وهو كتاب مشتمل على الأمور الثلاثة التي جاءت في الحديث، والتي جاءت في كلام عمر رضي الله عنه وأرضاه هنا، والتي بقي يرددها حتى سكن غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(283/3)
التحذير من صيام الدهر واستحباب الاقتصار على ما يطاق من العمل
قوله: [(قال: كيف بمن يصوم الدهر كله؟)].
انتقل السائل إلى هذا
السؤال
كيف بمن يصوم الدهر كله؟ وهذا يبين أو يدل على أن السائل عنده جانب يعني: الزيادة أو الإكثار من العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جاء عنه أنه قال: (عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا) وقال عليه الصلاة والسلام (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)، وقال: (أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل) ويقال في الحكم: (قليل تداوم عليه خير من كثير تنقطع عنه) وقد يجد الإنسان في نفسه النشاط في بعض الأوقات، فيقدم ويلزم نفسه بشيء، ثم بعد ذلك يندم أنه ألزم نفسه بشيء عجز عنه، كما جاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه كان كثير العبادة والصيام، ولكنه بعد ذلك جاء عنه أنه تمنى أن يكون أخذ بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالصيام وبقراءة القرآن، والحد الذي حده له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحاصل أن الإنسان قد يجد في نفسه نشاطاً فيلزم نفسه بشيء، ثم يقصر فيما التزم به، أو يعجز عن الالتزام به، ولكنه كونه يحافظ على الشيء ولو كان قليلاً هذا هو الذي يعود عليه بالمصلحة، وهو الذي فيه الإبقاء على الشيء وبالمداومة عليه وإن كان قليلاً، والمداومة على الشيء ولو كان قليلاً يكون الإنسان على صلة بالله دائماً؛ لأن الموت إذا جاءه يأتيه وهو ملازم للعبادة ولو كانت قليلة، أما إذا نشط في بعض الأحيان وأكثر ثم أهمل في بعض الأوقات فقد يأتيه الموت وهو في وقت الإهمال؛ ولهذا قيل لـ بشر الحافي: إن أقواماً يجتهدون في رمضان فإذا خرج تركوا، قال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان.
قوله: [(قال: كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: لا صام ولا أفطر)].
يعني: لم يصم ولم يفطر؛ لأنه ما حصل منه الصيام الذي يحصل معه الإتيان بالأمور الواجبة (ولا أفطر) يعني: ولا حصل منه الارتياح في الإفطار الذي يتمكن من أداء العبادات.
وقيل: إنه دعاء عليه، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم فيمن ينشد الضالة قال: (لا ردها الله عليك) يعني: دعاء عليه بأن لا يرد الله تعالى عليه ضالته التي ينشدها في المسجد، وكذلك ما جاء في القبر من قول الملكين: (لا تليت ولا دريت).
يعني: قيل: إنه دعاء عليه، فقوله: (لا ردها الله عليك) مثل قوله: (لا صام ولا أفطر) يعني: دعاء عليه بأنه ما حصل له ذلك الشيء الذي يعود عليه بالخير.
قوله: [قال مسدد: (لم يصم ولم يفطر) أو (ما صام ولا أفطر) شك غيلان].
يعني: مسدد الذي هو أحد الشيخين شك في أنه: (لم يصم ولم يفطر) أو (لا صام ولا أفطر) وأما الشيخ الثاني الذي هو سليمان بن حرب فإنه قال: (لا صام ولا أفطر) يعني: بدون شك، وأما هذا شك: هل قال هذه الكلمات كما قال سليمان بن حرب أو قال كلمة أخرى، وهي: (لم يصم ولم يفطر).
قوله: [(قال: يا رسول الله! كيف بمن يصوم يومين ويفطر يوماً؟ قال: أويطيق ذلك أحد؟)].
يعني: معناه يصوم ثلثي الدهر، فسأله عن صيام الدهر، ثم سأله عن صيام ثلثيه، يعني: يصوم من الشهر عشرين يوماً ويترك عشرة قال: (أويطيق ذلك أحد؟) يعني: هناك مشقة في الاستمرار على ذلك، أما كونه يطيقه في شهر أو في شهرين فهذا وارد، لكن مع الدوام والاستمرار وطول الحياة فإن في ذلك مشقة.
قوله: [(قال: يا رسول الله! فكيف بمن يصوم يوماً ويفطر يوماً؟ قال: ذلك صوم داود)].
يعني: هو خير الصيام كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: حين يصوم يوماً ويفطر يوماًً فإن في ذلك ارتياحاً وصياماً، وليس صياماً مستمراً لا راحة معه، ولا إفطاراً مستمراً لا صيام معه، وإنما صوم يوم وإفطار يوم.
قوله: [(فكيف بمن يصوم يوماً ويفطر يومين؟ قال: وددت أني طوقت ذلك)].
يعني: يصوم عشرة أيام من الشهر، وكون الإنسان يلازم على صيام عشرة أيام فهو يصوم ثلث الدهر، قال: (وددت أني طوقت ذلك) قيل: معناه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لانشغاله بأهله وضيوفه، وبأعماله وبالناس يجعله لا يصوم هذا المقدار باستمرار.
وقيل: إن المقصود بذلك أمته.(283/4)
بيان النبي للأيام التي يستحب صيامها
قوله: [ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث من كل شهر)].
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى ما ينبغي أن يفعل فقال: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، الحسنة بعشر أمثالها، فيكون الإنسان كأنه صام الدهر؛ لأن كل يوم عن عشرة أيام، والحسنة بعشر أمثالها، فيكون صام ثلاثين يوماً في رمضان وكل يوم عن عشرة أيام، فإذا صام من كل شهر ثلاثة أيام يكون قد صام ستة وثلاثين يوماً، وكل يوم بعشرة أيام، وعلى اعتبار أن الأشهر كاملة، والحسنة بعشرة أمثالها، فيكون بذلك له أجر صيام الدهر، مثلما جاء في فرض الصلوات خمسين صلاة ثم خفضت إلى خمس صلوات، ثم قال الله عز وجل: (هن خمس في العمل وخمسون في الأجر)؛ لأن الحسنة بعشرة أمثالها، والصلاة عن عشر صلوات، واليوم عن عشرة أيام، وهنا يكون كأنه صام الدهر.
وكما سيأتي في الحديث: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر) أو (فكأنما صام الدهر) لأن رمضان بثلاثين يوماً، فيكون المجموع مع شوال ستة وثلاثين يوماً والحسنة بعشر أمثالها، فإذا صام رمضان وستاً من شوال، وصام ثلاثة أيام من كل شهر يكون بذلك كأنه صام الدهر مرتين، وحصل أجر صيام السنة مرتين؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها.
قوله: [(ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله، وصيام عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده)].
ويوم عرفة هو يوم من أيام السنة، وهو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، وصيامه يستحب لغير الحجاج، وأما الحجاج فالأولى في حقهم أن يكونوا مفطرين لا أن يكونوا صائمين، وإنما الفضل في الصيام في حق من كان في غير عرفة وليس من الحجاج، فالحجاج بحاجة إلى أن يتقووا على الدعاء والذكر في ذلك اليوم، والصوم قد يحصل لهم معه كسل يحول بينهم وبين الإتيان بذلك الدعاء والابتهال إلى الله عز وجل في تلك الساعات النفيسة العظيمة التي ينزل الله عز وجل ويباهي بأهل الموقف الملائكة.
قوله: [(إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده)] يعني: هذا يدل على أن أفضل يوم يصام تطوعاً هو يوم عرفة، وذلك لغير الحجاج.
والتكفير إنما هو تكفير الصغائر، وأما الكبائر فإنها تحتاج إلى التوبة حتى تكفرها، أما أن يكون الإنسان مصراً على الكبائر ومداوماً عليها، ثم يصوم يوماً في السنة ويقول: هذا ينهي كل ما تقدم، فهذا لا بد فيه من التوبة؛ ولهذا يقول الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31].
ويقول صلى الله عليه وسلم: (الجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) فهذا التقييد بقوله: (ما اجتنبت الكبائر) يدل على أن التكفير إنما هو للصغائر، وإذا صامه مع توبة نصوح، فإنه يكفر الكبائر والصغائر، أما صيام مع الإصرار على الكبائر وعدم التوبة منها فهذا لا يحصل منه تكفير الكبائر.
قوله: [(وصوم يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)].
وهذا يدل على فضل صيام يوم عاشوراء، ولكنه يضاف إليه يوم آخر حتى يسلم من المشابهة لليهود، فيصوم يوماً قبله أو يوماً بعده، والأولى أن يصوم يوماً قبله؛ لأن الأحاديث وردت بذلك، حديث قال صلى الله عليه وسلم: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع) فهذا يدلنا على أنه يصام معه، ولكن كما جاء في الحديث هنا: (أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية) وهذا يدل على فضله، وأنه مثل يوم عرفة في الفضل؛ فعرفة يكفر السنة الماضية والآتية، وهذا يكفر السنة الماضية.(283/5)
تراجم رجال إسناد حديث (ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[قالا: حدثنا حماد بن زيد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن غيلان بن جرير].
غيلان بن جرير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن معبد الزماني].
عبد الله بن معبد الزماني ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي قتادة].
هو أبو قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(283/6)
شرح حديث (أرأيت صوم يوم الإثنين ويوم الخميس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا مهدي حدثنا غيلان عن عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة رضي الله عنه بهذا الحديث زاد: (قال: يا رسول الله! أرأيت صوم يوم الإثنين ويوم الخميس؟ قال: فيه ولدت وفيه أنزل علي القرآن)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، حديث أبي قتادة، وأنه فيه زيادة: أنه سئل عن صوم يوم الإثنين والخميس فقال: (فيه ولدت، وفيه أنزل علي القرآن) وهذا في يوم الإثنين لا في يوم الخميس، وقيل: إن زيادة الخميس وهم؛ لأن الذي فيه ولادته وفيه إنزال القرآن عليه -أي: البدء في إنزال القرآن عليه- كان يوم الإثنين، وهذا يدلنا على فضل صيام يوم الإثنين، وأما صيام يوم الخميس فقد جاءت أحاديث أخرى تدل على صيام الإثنين والخميس، وأن الأعمال تعرض فيهما على الله عز وجل، وأنه صلى الله عليه وسلم يحب أن يعرض عمله وهو صائم، وقد جاء ما يدل على صوم الإثنين والخميس أحاديث عديدة، ولكن كونه يعلل بأنه يوم ولد فيه وأنزل عليه فيه القرآن هذا يدلنا على فضل صيام يوم الإثنين.
ثم إن بعض الذين فتنوا بالموالد يستدلون على إقامة مولد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، وفي الحقيقة هذا الحديث ليس فيه دليل لهم؛ لأنهم في المولد لا يصومون، وإنما يأكلون الأطعمة ويتنافسون فيها، ويكثرون من أنواع الطعام، وهو خلاف ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(ذاك يوم ولدت فيه)] معناه: من أراد أن يحصل منه احتفاء بذلك اليوم فإن الطريق إلى ذلك بأن يصومه؛ لأنه يوم ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن فيه، أما أن يجتمع الناس فيه للتلاوة وقول المدائح وغيرها فهذا من الأمور المحدثة المبتدعة التي ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، ولم تأت فيها سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فعلها الصحابة الكرام ولا التابعون ولا أتباع التابعين، ومضت ثلاثمائة سنة كاملة لا يوجد شيء اسمه الاحتفال بالموالد، حتى جاء الرافضة العبيديون الذين حكموا مصر في القرن الرابع فأحدثوا بدعة الموالد، وقبل إحداث الرافضة العبيديين لها في القرن الرابع لم يكن لها وجود؛ ولهذا الكتب التي ألفت في تلك الحقبة وفي تلك الأزمان لا ذكر للموالد فيها أبداً لا مضافة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا إلى خلفائه الراشدين، ولا الصحابة أجمعين، ولا التابعين ولا أتباع التابعين.
فلو قال قائل: النصارى يحتفلون بميلاد عيسى، ونحن أولى أن نحتفل بميلاد محمد صلى الله عليه وسلم.
فنقول له: نحن مأمورون بمخالفة أهل الكتاب، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) فهذا تنفير لنا عن متابعتهم والأقتداء بهم، وإنما أمرنا بأن نقتدي بما جاء عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فالمولد بدعة في الدين ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، والرسول صلى الله عليه وسلم بين للناس كل ما أمر بتبليغه، ولم يكن من ذلك هذه البدعة التي ابتدعها الرافضة العبيديون، وقلدهم من قلدهم فيها إلى هذا اليوم، ومنذ ذلك الوقت والناس بين فاعل لها ومنكر لها، ولكن قال عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) وهؤلاء الخيار لا وجود لهذا العمل عندهم أبداً، بل هو من محدثات الأمور، والنبي صلى الله عليه وسلم محبته يجب أن تكون في قلب كل مسلم، وفوق محبة كل محبوب بعد الله سبحانه وتعالى، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله) ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم تابعة لمحبة الله، ويجب أن تكون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم في قلب كل مسلم أعظم من محبته لنفسه، ومحبته لأبيه وأمه وابنه وبنته، وزوجته وصديقه وأقاربه، والناس أجمعين، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) لماذا؟ لأن نعمة الهداية إلى الصراط المستقيم نعمة الخروج من الظلمات إلى النور، هي أعظم وأجل نعمة، لا يساويها نعمة ولا يماثلها نعمة، أعظم نعمة أنعم الله تعالى بها على المسلمين أن هداهم للإسلام، وهذه النعمة ساقها الله للناس على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإذاً: محبته يجب أن تكون أعظم من محبة الأب والأم والابن والبنت وسائر الناس أعظم من محبته لأصوله وفروعه وكل من له به علاقة، بل ومن سائر الناس أجمعين، فهذه هي المحبة التي يجب أن تكون، لكن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بإقامة الموالد أو بالتمسح بالجدران والشبابيك لا يصح، بل محبته صلى الله عليه وسلم باتباعه، وهناك آية في القرآن يسميها بعض العلماء: آية الامتحان والاختبار، وهو أن من يدعي محبة الله ورسوله فعليه أن يقيم البينة، ومعلوم أن البينات لا بد منها في الدعاوى، فكون إنسان يدعي على إنسان مالاً فمجرد الدعوى لا يثبت له بها الحق أبداً حتى يقيم البينة، والبينة شهود عدول أو اعتراف المدعى عليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لو أعطي الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) فكذلك في أمور الدين كمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم لا بد فيها من إقامة البينة على أن العبد محب للرسول صلى الله عليه وسلم، فما هي البينة؟ البينة هي اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الآية هي قول الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، هذه آية الامتحان والاختبار، وهي أن من يدعي محبة الله ورسوله عليه أن يقيم البينة، والبينة هي اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، أما أن تكون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم مجرد دعاوى وغلو، ثم يعصى الرسول صلى الله عليه وسلم ويخالف، ويعبد الله فيما ابتدع مما لم يكن جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا يجوز، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) وقال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وبعض الناس يمكن أن يقول: إن الإنسان الذي يفعل هذا قصده طيب، والإنسان يؤجر على قصده ونيته، والإنسان هو على خير ما دام قصده طيباً، فلو أنه فعل أمراً ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم يشفع له حسن قصده.
نقول: هذا كلام غير صحيح؛ لأنه لا بد مع حسن القصد أن يكون العمل مطابقاً للسنة؛ لأن العمل الذي يقبل عند الله لا بد فيه من أمرين اثنين: الأول: أن يكون خالصاً لوجه الله.
الثاني: أن يكون مطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن فقد شرط الإخلاص رد على صاحبه، وإن فقد شرط الاتباع رد على صاحبه، ودليل رده على صاحبه إذا فقد شرط الإخلاص قول الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] ودليل رد العمل إذا كان غير مطابق للسنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) متفق عليه، وفي لفظ لـ مسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
فإذاً: لا بد من الأمرين: إخلاص، ومتابعة، لا بد من تجريد الإخلاص لله وحده، ولا بد من تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو مقتضى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأن مقتضى أشهد أن لا إله إلا الله الإخلاص، ومقتضى أشهد أن محمداً رسول الله اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والسير على نهجه، وأن يكون العمل مطابقاً لسنته صلى الله عليه وسلم.
ومما يوضح أن حسن القصد لا يكفي ما جاء في الصحيح عن أحد الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أنه في يوم عيد الأضحى ذبح أضحيته قبل الصلاة؛ لأنه يعلم أن الناس بحاجة إلى اللحم، وأنهم مشتهون للحم، فأراد أن تذبح أضحيته قبل الصلاة وتطبخ فإذا جاء الناس من المصلى وإذا اللحم قد طبخ، فتكون أضحيته أول ما يؤكل منها، فيقدمها للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صنع قال: (شاتك شاة لحم)؛ لأنها ما وقعت في الوقت المحدد؛ لأن الذبح لا يكون إلا بعد صلاة العيد بعد أن يرجع الناس من المصلى، وقبل أن يخرجوا المصلى لا يذبحون، ولو ذبحوا ما أجزأهم ذلك، فهذا الصحابي قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (شاتك شاة لحم) فكان قصده طيباً وحسناً، ولا إشكال في حسن القصد هذا، لكن العمل لما وقع غير مطابق للسنة لم يعتبر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (شاتك شاة لحم) يعني: مثل الذبيحة التي تذبح في أي يوم من السنة للأكل، وأما أيام الذبح والنحر فهي أربعة: يوم العيد- عيد الأضحى - وثلاثة أيام بعده التي هي أيام التشريق.
نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري نقلاً عن بعض أهل العلم قال: وفي هذا دليل على أن العمل لا يعتبر إلا إذا وقع مطابقاً للسنة، ولا يكفي حسن قصد الفاعل.
يعني: إن العمل لا يعتبر إلا إذا كان مطابقاً للسنة ولو كان قصد صاحبه حسناً، وليس معناه: أنه يصير سنة وإن كان بدعة، والرسول صلى الله عليه وسلم بين للصحابي أن شاته شاة لحم.
الدليل الثاني على ذلك: أن أبا عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جاء إلى أناس في المسجد متحلقين وكل واحد منهم معه حصى، وفي كل حلقة واحد يقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ثم يقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، ثم يقول كبروا مائة، فيكبرون مائة، وعند ذلك وقف على رءوسهم أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقال: ما هـ(283/7)
تراجم رجال إسناد حديث (أرأيت صوم يوم الإثنين ويوم الخميس)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا مهدي].
هو مهدي بن ميمون، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا غيلان عن عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة].
وقد مر ذكرهم.(283/8)
شرح حديث (ألم أحدث أنك تقول: لأقومن الليل ولأصومن النهار؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب وأبي سلمة عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (لقيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ألم أحدث أنك تقول: لأقومن الليل، ولأصومن النهار؟ قال: أحسبه قال: نعم يا رسول الله! قد قلت ذلك، قال: قم ونم، وصم وأفطر، وصم من كل شهر ثلاثة أيام، وذاك مثل صيام الدهر، قال: قلت: يا رسول الله! إني أطيق أكثر من ذلك، قال: فصم يوماً وأفطر يومين، قال: فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فصم يوماً وأفطر يوماً، وهو أعدل الصيام، وهو صيام داود، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا أفضل من ذلك)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه وقال: ألم أحدث أنك تقول: لأصومن النهار، ولأقومن الليل؟) قال: الرواي: أحسبه قال: نعم، الرسول أخبر بهذا، ولكنه سأله عن هذا الخبر الذي أخبر به، هل هو صحيح أو غير صحيح؟ قال: (ألم أحدث) ما قال له: إنك تقول كذا وكذا؛ لأنه قد يكون في الخبر شيء، فهذا يدل على الاحتياط والتثبت في الأخبار، وأنه لا يكفي مجرد نقل الأخبار، وأن يعول عليها دائماً وأبداً، فقد تكون الأخبار فيها وهم، وقد يكون فيها زيادة أو نقصان، وقد يكون فيها سهو أو خطأ، ولذا يقال: وما آفة الأخبار إلا رواتها.
يعني: كثيراً ما تكون آفة الأخبار من رواة الأخبار، بأن يكون فيها خلل ونقص، فالرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: (ألم أحدث) أراد أن يتثبت وأن يتحقق، وهل هذا الخبر الذي بلغه صحيح أو لا؟ (فقال: نعم) يعني: هذا الذي أخبرت به صحيح، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صم وأفطر، وقم ونم) يعني: لا تصم صياماً مستمراً، ولا تصل صلاة مستمرة، وإنما اجمع بين هذا وهذا، وهذا مطابق لهديه صلى الله عليه وسلم، كما جاء في قصة الثلاثة قال: (أما إني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام) فأرشده صلى الله عليه وسلم إلى أن الإنسان يصوم ويفطر ويصلي وينام، ولا يتعب نفسه ويشق عليها.
قوله: [(قم ونم، وصم وأفطر، وصم من كل شهر ثلاثة أيام)].
أرشده إلى أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، ويفطر سبعة وعشرين يوماً.
قوله: [(وذلك مثل صيام الدهر)].
لأنه إذا صام ثلاثة أيام من كل شهر، وكل يوم بأجر عشرة أيام؛ حصل له أجر صيام السنة؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها.
قوله: [(قلت: يا رسول الله! إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فصم يوماً وأفطر يومين)].
معناه: يصوم عشرة أيام من ثلاثين يوم، فبدلاً من ثلاثة أيام انتقل إلى عشرة أيام.
قوله: [(فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فصم يوماً وأفطر يوماً، وهو أعدل الصيام، وهو صيام داوو)].
فأشار إلى أمرين: كونه أعدل الصيام، وكونه صيام نبي الله داود عليه الصلاة والسلام.
قوله: [(قال: إني أطيق أفضل من ذلك قال: لا أفضل من ذلك)].
يعني: لا أفضل من كون الإنسان يصوم يوماً ويفطر يوماً، فعندما يصوم الإنسان يوماً ويفطر يوماً فهو يصوم نصف الدهر، ومع ذلك فيه مشقة عليه، ولهذا جاء عن ابن عمرو رضي الله عنه: أنه كان يتمنى أن يكون أخذ بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ألزم نفسه بالشيء الذي التزمه أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه لما كبر وشق ذلك عليه كان يتمنى أن يكون أخذ بالرخصة التي رخص له بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لكونه فارق النبي صلى الله عليه وسلم على أمر ألزم نفسه به، واصل وداوم على ذلك الشيء، وإن كان فيه مشقة عليه رضي الله تعالى عنه وأرضاه.(283/9)
تراجم رجال إسناد حديث (ألم أحدث أنك تقول لأقومن الليل وأصومن النهار؟)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن المسيب وأبي سلمة].
ابن المسيب هو سعيد بن المسيب، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم؛ لأن الإسناد فيه اثنان وكل منهما من الفقهاء السبعة، إلا أن واحداً متفق على عده في الفقهاء السبعة وهو سعيد بن المسيب، والثاني: مختلف في عده فيهم وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
[عن عبد الله بن عمرو بن العاص].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(283/10)
شرح سنن أبي داود [284]
الأشهر الحرم أربعة أشهر، ثلاثة منها متتابعة وهي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، وشهر منفرد وهو رجب الفرد، والصيام من الأعمال الفاضلة في هذه الأشهر، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم تخصيص المحرم من بين هذه الشهور بمزيد فضل ومزية وأن صيامه أفضل الصيام بعد رمضان.(284/1)
ما جاء في صوم أشهر الحرم(284/2)
شرح حديث (صم من الحرم واترك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في صوم أشهر الحرم.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سعيد الجريري عن أبي السليل عن مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها: (أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم انطلق، فأتاه بعد سنة وقد تغيرت حاله وهيئته، فقال: يا رسول الله! أما تعرفني؟ قال: ومن أنت؟ قال: أنا الباهلي الذي جئتك عام الأول، قال: فما غيرك وقد كنت حسن الهيئة؟ قال: ما أكلت طعاماً منذ فارقتك إلا بليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لم عذبت نفسك؟ ثم قال: صم شهر الصبر، ويوماً من كل شهر، قال: زدني فإن بي قوة، قال: صم يومين، قال: زدني، قال: صم ثلاثة أيام قال: زدني، قال: صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك، وقال بأصابعه الثلاثة فضمها ثم أرسلها)].
أورد أبو داود صوم الأشهر الحرم، والأشهر الحرم أربعة وهي: رجب وحده ليس متصلاً بشهر حرام، وشهر ذي الحجة، وشهر قبله وشهر بعده، أي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ثلاثة مسرودة وواحد منفرد؛ ولهذا يقال لرجب: الفرد؛ لأنه منفرد عن الأشهر الحرم في أثناء السنة، والأشهر الباقية متصلة، والأشهر الحرم ما جاء فيها شيء يخصها فيما يتعلق بعمل خاص بها، ومنها شهر رجب، وجاء فيه هذا الحديث الذي هو عن عم مجيبة الباهلية أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سنة من السنوات، ثم جاءه بعد سنة وإذا هو قد تغير ونحل وضعف، فقال للرسول: أتعرفني؟ قال: من أنت؟ قال: أنا الباهلي الذي لقيتك عام الأول، قال: ما الذي غيرك؟ يعني: هيئته تغيرت، قال: منذ فارقتك ما أكلت طعاماً إلا بليل، معناه: دائماً يصوم النهار، فقال: (لم عذبت نفسك؟) يعني: كونه جاء قبل في هيئة حسنة وشكل طيب، وبعد ذلك صار ناحلاً ضعيفاً هزيلاً متعباً، وهو سؤال إنكار! قوله: [قال: (صم شهر الصبر ويوماً من كل شهر)].
الذي هو شهر رمضان، فهذا فرض فرضه الله على عباده، وقيل له شهر الصبر، لأن فيه حبس النفس عما تشتهي.
قوله: [(ويوماً من كل شهر، قال: زدني فإن بي قوة، قال: صم يومين قال: زدني، قال: صم ثلاثة أيام، قال زدني، قال: صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك)].
يعني: صم بعضها وأفطر بعضها.
قوله: [(وقال بأصابعه الثلاث فضمها ثم أرسلها)].
يعني: إشارة إلى أنه يصوم ثلاثة أيام، ويترك ثلاثة أيام، وقيل في معناه: أنه يصوم ثلاثة ثم يترك ثلاثة، ثم يصوم ثلاثة.
والحديث ضعفه الألباني، لكن لا أدري ما وجه تضعيفه، والحديث فيه لاضطراب من ناحية مجيبة، هل هو رجل أو امرأة؟ وإذا كان تعليله بالاضطراب فقد جاء على أوجه كثيرة، وأما ما عداه فالرجال معروفون.(284/3)
تراجم رجال إسناد حديث (صم من الحرم واترك)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل مر ذكره.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة وقد مر ذكره، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سعيد الجريري].
هو سعيد بن إياس الجريري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي السليل].
أبو السليل هو ضريب بن نقير، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن مجيبة الباهلية].
مجيبة الباهلية قيل: هي صحابية أخرج لها أبو داود والنسائي.
[عن أبيها أو عمها].
عن أبيها أو عمها.
قال البغوي وابن مندة: اسمه عبد الله بن الحارث الباهلي، وعلى كل حال: إذا كان صحابياً فلا إشكال، ولكن الشأن في الاضطراب الذي جاء في الراوي وهو مجيبة هل هو اسم رجل أو اسم امرأة؟ وهل هو عن أبيه أو عن عمه؟ على أوجه مختلفة.(284/4)
ما جاء في صوم المحرم(284/5)
شرح حديث (أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في صوم المحرم.
حدثنا مسدد وقتيبة بن سعيد قالا: حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم، وإن أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة من الليل) لم يقل قتيبة: شهر، قال: رمضان].
أورد أبو داود: باب صوم المحرم، والمحرم من الأشهر الحرم، وقد جاء ما يدل على فضل الصيام فيه، وأن أفضل الصيام بعد رمضان الصيام في شهر الله المحرم، فهذا يدل على فضل الصيام فيه، ولا يقال له: شهر محرم، وإنما يقال له: الشهر المحرم، بالألف واللام.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم، وإن أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة من الليل).
وهذا يدلنا على فضل صلاة الليل، وأنها أفضل الصلاة بعد المفروضة، ومن أهل العلم من قال: إن الحديث يدل على أنها أفضل من غيرها مطلقاً، وبعضهم قال بتفضيل السنن الرواتب التي هي تابعة للصلوات، والتي هي قبل الصلوات أو بعدها، والحديث دال على فضل قيام الليل، وأن شأنه عظيم.(284/6)
تراجم رجال إسناد حديث (أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم)
قوله: [حدثنا مسدد وقتيبة بن سعيد].
مسدد مر ذكره، وقتيبة بن سعيد، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قالا: حدثنا أبو عوانة].
أبو عوانة هو وضاح بن عبد الله اليشكري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بشر].
أبو بشر هو جعفر بن إياس بن أبي وحشية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد بن عبد الرحمن].
هو حميد بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(284/7)
شرح حديث (أن رسول الله كان يصوم حتى نقول لا يفطر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا عيسى حدثنا عثمان -يعني ابن حكيم - قال: (سألت سعيد بن جبير عن صيام رجب؟ فقال: أخبرني ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عثمان بن حكيم قال: (سألت سعيد بن جبير عن صيام رجب، فقال: أخبرني ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم حتى نقول: لا يفطر)].
يعني: سئل سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه عن صيام رجب، فروى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم حتى نقول: لا يفطر، وكان يفطر حتى نقول: لا يصوم) معناه: أنه ليس ثابتاً على مقدار معين من الشهر، بل أحياناً يصوم الشهر حتى نقول: يكمله، وأحياناً يفطر حتى نقول: لا يصومه، ومعنى ذلك أنه أحياناً يصوم منه كثيراً، وأحياناً يصوم منه قليلاً، وهذا الجواب عن هذا السؤال ليس فيه شيء يدل على أن رجب يصام أو لا يصام، وإنما شأنه شأن غيره؛ ولهذا أتى بالجواب العام الذي يشمله ويشمل غيره، فأخبر عن صيام النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يصوم من الأشهر حتى نقول: لا يفطر، وأحياناً يفطر حتى نقول: لا يصوم ورجب لأنه لم يأت فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه إذا عومل معاملة الشهور بأن يكون الإنسان ملازماً على شيء في أيام الشهور فرجب واحد منها، يعني: لو كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، أو يصوم الإثنين والخميس من كل شهر، فرجب يكون واحداً منها، فليس فيه شيء يدل على صيامه ولا على إفطاره، ولكن الشأن أن حكمه حكم سائر الشهور، اللهم إلا ما جاء فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يميز على غيره كشعبان والمحرم وست من شوال، وهكذا.(284/8)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله كان يصوم حتى نقول لا يفطر)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى].
هو إبراهيم بن موسى الرازي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عيسى].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عثمان -يعني ابن حكيم -].
عثمان بن حكيم ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
قال: [سألت سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحابه الكرام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ليس فيه شيء يتعلق بالترجمة؛ لأن الترجمة للمحرم، وليس فيه شيء يخص المحرم، ولكن لما كان السؤال عن رجب، ورجب من الأشهر الحرم أخبر عن الشيء الذي كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم في الأشهر، وكذلك أيضاً يقال في محرم كغيره: أن الرسول كان يصوم حتى يقال: لا يفطر، أو يفطر حتى يقال: لا يصوم.(284/9)
ما جاء في صوم شعبان(284/10)
شرح حديث (كان أحب الشهور إلى رسول الله أن يصومه شعبان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في صوم شعبان حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن عبد الله بن أبي قيس سمع عائشة رضي الله عنها تقول: (كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبان ثم يصله برمضان)].
أورد أبو داود صوم شعبان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الصيام منه، وجاء في بعض الأحاديث أنه ما استكمل شهراً إلا رمضان، وجاء هنا أنه كان يصوم شعبان ويصله برمضان، والأحاديث الدالة على أنه لم يستكمل شهراً إلا رمضان تدل على عدم إكماله شعبان، ولكن كونه يصوم كثيراً منه فإنه يعطي الأكثر حكم الكل، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يكمل صيام شهر من الشهور غير رمضان كما جاء في الحديث الذي مر: (كان يصوم حتى نقول: لا يفطر، ثم يفطر حتى نقول: لا يصوم) وهذا شأنه صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبان)].
قيل: لأن شهر شعبان يكون قبل رمضان، وأنه قد يكون حصل له شواغل في بعض الشهور الماضية فيستدرك في شعبان، وقيل: لأنه يسبق رمضان فيكون صيامه كالسنن الرواتب في الصلوات التي تكون قبلها، كما أن صيام الست من شوال بعد رمضان كالسنن الرواتب البعدية، فيكون اتصال رمضان بما قبله وما بعده، والله تعالى أعلم.
قوله: [(ثم يصله برمضان)].
معناه: أنه يصوم رمضان بعده، لكن كما عرفنا أن الاستكمال لم يكن ثابتاً عن رسول الله، وما جاء من كونه يصومه كله يكون محمولاً على الغالبية وعلى الأكثر.(284/11)
تراجم رجال إسناد حديث (كان أحب الشهور إلى رسول الله أن يصومه شعبان)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن حنبل هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرحمن بن مهدي].
هو عبد الرحمن بن مهدي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معاوية بن صالح].
هو معاوية بن صالح بن حدير، وهو صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن أبي قيس].
عبد الله بن أبي قيس ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[سمع عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(284/12)
شرح سنن أبي داود [285]
صيام النوافل من الأمور التي حض عليها الشرع الحنيف ورتب عليها الأجر الجزيل، ومن الأيام التي تصام تتنفلاً ستة أيام من شوال، ويستحب فيها التعجيل لورود الأمر النبوي بإتباع رمضان بها، ومما يستحب صيامه من الأيام يوما الخميس والإثنين.(285/1)
ما جاء في صوم شوال(285/2)
شرح حديث (صم رمضان والذي يليه وكل أربعاء وخميس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في صوم شوال.
حدثنا محمد بن عثمان العجلي حدثنا عبيد الله -يعني ابن موسى - عن هارون بن سلمان عن عبيد الله بن مسلم القرشي عن أبيه رضي الله عنه قال: (سألت أو سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صيام الدهر، فقال: إن لأهلك عليك حقاً، صم رمضان والذي يليه، وكل أربعاء وخميس، فإذاً أنت قد صمت الدهر)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في صوم شوال].
شهر شوال جاء فيه صيام الست من شوال، وهذا ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، وأما صيام شوال، وصيام الأربعاء والخميس الذي جاء فيه الحديث فهذا لا يصح وغير ثابت، وإنما الثابت هو صيام ست من شوال، وما جاء فيه من ذكر صيام الدهر، (أن لأهلك عليك حقاً) هذا ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أورد أبو داود رحمه الله في هذه الترجمة حديث عبيد الله بن مسلم القرشي عن أبيه رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام الدهر فقال: إن لأهلك عليك حقاً)].
فهذا ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصيام الدهر يضعف ولا يمكن من إيصال الحقوق إلى أهلها سواءً أهله أو أقاربه.
قوله: [(صم رمضان والذي يليه)].
الذي هو شوال.
قوله: [(وكل أربعاء وخميس)].
الأربعاء ما ثبت فيه شيء، والخميس ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام الإثنين والخميس في أحاديث كثيرة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصيام شوال بأكمله ما ثبت فيه شيء، وهذا الحديث لا يحتج به، فهو حديث ضعيف؛ لأن فيه من هو مقبول لا يحتج به إلا عند المتابعة، وليس هناك ما يشهد لذلك في صيام شوال وصيام الأربعاء، وإنما الذي ثبت هو صيام ست من شوال كما سيأتي.
قوله: [(فإذاً أنت قد صمت الدهر)].
يعني: إذا فعلت كذا وكذا تكون بذلك صمت الدهر، ولكن الثابت أن الإنسان إذا صام ثلاثة أيام من كل شهر فهو كمن صام الدهر كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما كون الإنسان يصوم شوالاً ويصوم الأربعاء والخميس، ويكون بذلك صام الدهر، فهذا الحديث لم يثبت.(285/3)
تراجم رجال إسناد حديث (صم رمضان والذي يليه وكل أربعاء وخميس)
قوله: [حدثنا محمد بن عثمان العجلي].
محمد بن عثمان العجلي ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا عبيد الله -يعني ابن موسى -].
عبيد الله بن موسى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هارون بن سلمان].
هارون بن سلمان لا بأس به، ولا بأس به بمعنى صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عبيد الله بن مسلم القرشي].
عبيد الله بن مسلم القرشي مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبيه].
وهو صحابي أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
والحافظ يرجح أنه مسلم بن عبيد الله؛ ولهذا ذكره في التقريب في مسلم بن عبيد الله.
[قال أبو داود: وافقه زيد العكلي وخالفه أبو نعيم قال: مسلم بن عبيد الله].
قوله: [وافقه زيد العكلي].
هو زيد بن حباب العكلي، وهو صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[وخالفه أبو نعيم].
أبو نعيم هو الفضل بن دكين الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: مسلم بن عبيد الله].
ومسلم بن عبيد الله هو الذي رجحه الحافظ وهو الذي ذكر ترجمته في التقريب بهذا الاسم الذي هو مسلم بن عبيد الله، وأما عبيد الله بن مسلم فهو مقلوب.(285/4)
ما جاء في صوم ستة أيام من شوال(285/5)
شرح حديث (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في صوم ستة أيام من شوال.
حدثنا النفيلي حدثنا عبد العزيز بن محمد عن صفوان بن سليم وسعد بن سعيد عن عمر بن ثابت الأنصاري عن أبي أيوب رضي الله عنه صاحب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر)].
أورد أبو داود باب صيام ست من شوال، وستة أيام من شوال صيامها ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء في بعض الروايات عند النسائي تفصيل ذلك بأنه إذا صام رمضان فيكون يقابل عشرة أشهر، وإذا صام ستاً من شوال يقابل شهرين، فيكون صام ثلاثمائة وستين يوماً؛ لأن اليوم عن عشرة أيام، والحسنة بعشر أمثالها، وهذا يوضح ما جاء في الحديث: (شهرا عيد لا ينقصان) وقد سبق أن المقصود بذلك أنه إن كان ناقصاً فهو كامل في الأجر والثواب؛ ولهذا جاء التفصيل بأن رمضان يعادل عشرة أشهر، وستاً من شوال تعادل صوم شهرين، وقد يكون الشهر تسعة وعشرين يوماً، فيكون ناقصاً، ولكنه قال: (لا ينقصان) يعني: في الأجر، وإن حصل النقص في العدد بأن يكون تسعة وعشرين يوماً فإن الأجر فيه كامل، ويكون كأنه صام ثلاثين يوماً، وهذا الذي جاء في هذا الحديث يبين هذا الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (شهرا عيد لا ينقصان).
ثم إن صيام ست من شوال أورد أبو داود فيه حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: (من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر).
يعني: يشبه صيام الدهر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، واليوم عن عشرة أيام، كما أن قوله: (من صام رمضان وأتبعه بست من شوال) يدل على أن الإنسان لا يأتي بصيام الست إلا بعدما يؤدي القضاء الذي عليه؛ لأنه لا يقال للإنسان إنه صام رمضان إلا إذا أدى ما عليه سواءً الفرض أو قضاء الفرض، يعني: لو أن أحداً كان عليه شيء من رمضان فيبدأ بالفرض قبل النفل ويشتغل به؛ ولهذا قوله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه) لأن من لم يصم ما عليه من رمضان لا يقال: صام رمضان بل رمضان باق في ذمته، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال) دال على أن المقصود بذلك من أدى ما عليه من الفرض في وقته وليس عليه قضاء، وإن كان عليه شيء من رمضان فعليه أن يبدأ بقضاء رمضان ثم يصوم ستاً من شوال، ولا يتشاغل بالفرض عن النفل، وقد قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قال بعض الأكابر: من اشتغل بالفرض عن النفل فهو معذور، ومن اشتغل بالنفل عن الفرض فهو مغرور.
قوله: (ثم أتبعه بست من شوال) يدل على أن المبادرة إلى صيامها بعد العيد هو الأولى؛ لأن هذا هو الذي يقتضيه الإتباع في قوله: (ثم أتبعه بست من شوال)، ولكن إن لم يفعل فإن الشهر كله وقت وزمن لها، ولكن لا يؤخرها عن شوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بست من شوال) فهو في حدود شوال، يعني: من صام أثناء الشهر يكون حصل منه المطلوب، ولكن الأولى أن يبادر إلى الصيام بعد العيد إذا أمكنه ذلك؛ لأن هذا هو الذي يتحقق به الإتباع، ولكنه إذا لم يفعل وأتى بها سواءً كانت مجتمعة أو متفرقة فإن ذلك يحصل به المقصود، ثم إن كون الإنسان يصوم ستاً من شوال هذه بمثابة السنة الراتبة بعد الفريضة، وقد جاء في الحديث أن التطوع يكمل به الفرض إذا لم يكن أتمه وإذا كان في نقص، كما سبق أن مر بنا الحديث في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو بمنزلة الراتبة في صلاة الفريضة، ثم أيضاً كون الإنسان يأتي بصيام هذه الست يدل على رغبته في الطاعة ومحبته للصوم؛ لأنه أتى بالطاعة التي هي الصيام في رمضان، ثم بعد ذلك أتى بالتطوع، ويدلك كذلك على أنه لا يودع الصيام بانتهاء شهر الصيام، وإنما يصوم تطوعاً لله عز وجل، والله تعالى قد قال في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).(285/6)
تراجم رجال إسناد حديث (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال)
قوله: [حدثنا النفيلي].
النفيلي هو عبد الله بن محمد بن نفيل النفيلي، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد العزيز بن محمد].
هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن صفوان بن سليم].
صفوان بن سليم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وسعد بن سعيد].
سعد بن سعيد صدوق سيئ الحفظ، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن، وهذا هو أخو يحيى بن سعيد الأنصاري المدني، وهو أخو عبد ربه بن سعيد الأنصاري المدني، فهم ثلاثة إخوة، ولكن المعروف والمتميز فيهم والمتقدم هو يحيى بن سعيد الأنصاري المدني الذي هو من صغار التابعين، وهو شيخ مالك، وكثيراً ما يروي عنه الإمام مالك، وهو راوي أول حديث في صحيح البخاري الذي هو: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه عن عمر بن الخطاب علقمة بن وقاص الليثي وهو من كبار التابعين، ورواه عن علقمة بن وقاص الليثي محمد بن إبراهيم التيمي وهو من أوساط التابعين، ورواه عنه يحيى بن سعيد الأنصاري المدني وهو من صغار التابعين.
[عن عمر بن ثابت الأنصاري].
عمر بن ثابت الأنصاري ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي أيوب].
هو أبو أيوب الأنصاري، وهو خالد بن زيد رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور بكنيته وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(285/7)
كيف كان يصوم النبي صلى الله عليه وسلم؟(285/8)
شرح حديث (كان رسول الله يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كيف كان يصوم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان)].
أورد أبو داود رحمه الله باب كيف كان يصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يعني: في النفل، والمقصود من إيراد هذه الترجمة بيان فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه كان في بعض الأشهر يكثر من الصيام حتى يقال: لا يفطر، ومعناه: أنه يكمل الشهر، وفي بعضها: (يفطر حتى يقال: لا يصوم) فهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا وهذا، وأما قوله فقد جاء في أحاديث كثيرة صوم كذا وصوم كذا وصوم كذا، ولكن فعله الذي تحكيه عائشة رضي الله عنها أنه كان يصوم حتى يقولوا: لا يفطر، ومعناه: أنه يريد أن يكمل الشهر، وكان يفطر حتى يقولوا: لا يصوم، معناه: أنه يكمل الشهر غير صائم، ثم يصوم، ومعنى ذلك: أنه لا يخلي شهراً من صيام، ولكنه أحياناً يكون كثيراً، وأحياناً يكون قليلاً، ثم بينت مثالاً للكثير وأنه لم يستكمل شهراً إلا رمضان، وهذا بيان منها أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أكمل شهراً متطوعاً، ولكنها أخبرت بأنه أكثر ما كان يصوم في شعبان، وهذا يبين لنا ما تقدم من أنه يصوم شعبان كله، وأن المقصود به الغالبية والأكثر، كما جاء في هذا الحديث: (وأنه كان أكثر ما يصوم في شعبان) ولم يكن يستكمل شهراً إلا رمضان، ومعنى هذا: أن ما جاء عنها في بعض الروايات عن شعبان أنه يصومه ويصله برمضان أن هذا محمول على الغالب، وليس معنى ذلك أنه قد استكمله كما في هذا الحديث الذي جاء عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها.(285/9)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله].
أبو النضر مولى عمر هو سالم بن أبي أمية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة بن عبد الرحمن].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين.(285/10)
شرح حديث (كان يصومه إلا قليلاً بل كان يصومه كله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه زاد: (كان يصومه إلا قليلاً، بل كان يصومه كله)].
أورد المصنف حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أنه كان يصومه إلا قليلاً، بل كان يصومه كله) وهذا إشارة إلى كثرة ما كان يصوم فيه، ولكن ما جاء أنه لم يكن يستكمل شهراً إلا رمضان دال على أنه لا يستكمل صيام أي شهر من الشهور.(285/11)
تراجم رجال إسناد حديث (كان يصومه إلا قليلاً بل كان يصومه كله)
[حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو ابن سلمة بن دينار، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن عمرو].
محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة عن أبي هريرة].
أبو سلمة مر ذكره، وأبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(285/12)
ما جاء في صوم الإثنين والخميس(285/13)
شرح حديث (إن أعمال العباد تعرض يوم الإثنين ويوم الخميس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في صوم الإثنين والخميس.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا يحيى عن عمر بن أبي الحكم بن ثوبان عن مولى قدامة بن مظعون عن مولى أسامة بن زيد (أنه انطلق مع أسامة إلى وادي القرى في طلب مال له، فكان يصوم يوم الإثنين ويوم الخميس فقال له مولاه: لم تصوم يوم الإثنين ويوم الخميس وأنت شيخ كبير؟ فقال: إن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصوم يوم الإثنين ويوم الخميس، وسئل عن ذلك فقال: إن أعمال العباد تعرض يوم الإثنين ويوم الخميس)].
أورد أبو داود صيام الإثنين والخميس، وهذان اليومان قد جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باستحباب صيامهما، وجاء في ذلك أحاديث منها حديث أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما هذا الذي أورده المصنف أنه كان مولاه قد سافر معه إلى وادي القرى، وهو واد تابع للمدينة في الشمال منها، وهو الذي سار فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذهب إلى تبوك، وهو الذي فيه الحديقة التي خرصها رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة وقال: إذا رجعنا فأخبرينا بالنتيجة، فلما رجعوا وإذا الواقع مطابق لما خرصه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث صحيح وقد سبق أن مر.
وأسامة سافر معه مولاه، وكلمة (مولى) تأتي من الأعلى ومن الأسفل، فيقال للسيد أو المعْتِق: مولى، ويقال للعبد أو المعْتَق: مولى، ولهذا يقولون: من أنواع علوم الحديث معرفة الموالي من أعلى ومن أسفل؛ لأنه قد يكون مولىً لأنه سيد، وقد يكون مولىً لأنه عتيق قد يكون منْعِماً وهو السيد، وقد يكون منْعَماً عليه وهو المعتق، فيقال: مولى من أعلى ومولى من أسفل، فيقال: مولى فلان، يعني: أنه مولى من أسفل، وفلان مولى فلان، يعني: مولاه من أعلى، والولاء يكون أيضاً بغير العتق، فيكون بالحلف، ويكون بالدخول في الإسلام، مثل البخاري رحمة الله عليه كان الجعفي مولاهم؛ لأن أحد أجداده أسلم على يد واحد من الجعفيين، فكان جده ينسب ويقال له: الجعفي مولى، والبخاري كذلك يقال له: الجعفي مولى، وكان الولاء ولاء إسلام على يديه، وكان ولاء عتق، وهو من أعلى ومن أسفل.
سافر معه مولاه إلى وادي القرى وكان في طلب مال له أي مال لـ أسامة بن زيد رضي الله عنه، وكان يصوم الإثنين والخميس، فقال له مولاه: لماذا تصوم وأنت شيخ كبير؟ يصوم تطوعاً في السفر وهو شيخ كبير، فقال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الإثنين ويوم الخميس، ويقول: إن هذه الأعمال تعرض فيهما على الله عز وجل)، وجاء في بعض الأحاديث: (وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم) والحاصل أن الإثنين والخميس من الأيام المستحب صيامها كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(285/14)
تراجم رجال إسناد حديث (إن أعمال العباد تعرض يوم الإثنين ويوم الخميس)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان].
موسى بن إسماعيل مر ذكره، وأبان بن يزيد العطار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا يحيى].
يحيى هو ابن أبي كثير اليمامي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر بن أبي الحكم بن ثوبان].
عمر بن أبي الحكم بن ثوبان صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن مولى قدامة بن مظعون].
مولى قدامة بن مظعون يقال له: أبو عبد الله، أخرج له أبو داود والنسائي في المبهمات.
وعلق أبو الأشبال: كذا في جميع الأصول التي عندي وفي التهذيبين هو: أبو عبيد الله راجع عون المعبود.
وفي عون المعبود قال: إنه مجهول، وكذلك الذي يروي عنه.
[عن مولى أسامة بن زيد].
مولى أسامة بن زيد هذا ما وجدت له ترجمة، وفي عون المعبود قال: إنه مجهول، لكن الجهالة لا تؤثر؛ لأن فضل صيام الإثنين والخميس جاء في أحاديث عديدة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون له شواهد.
[عن أسامة].
هو أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حبه وابن حبه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: كذا قال هشام الدستوائي عن يحيى عن عمر بن أبي الحكم].
هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ويحيى وعمر بن أبي الحكم مر ذكرهما.(285/15)
شرح سنن أبي داود [286]
حث النبي صلى الله عليه وسلم على صيام أيام معلومة، كصيام الإثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وأيام ذي الحجة، وصيام يوم عاشوراء، لما في صيامها من مضاعفة الأجور وتكفير السيئات، فضلاً من الله سبحانه وتعالى ورحمة بعباده، وفتحاً لباب الصالحات والتنافس في الخيرات.(286/1)
ما جاء في صوم العشر(286/2)
شرح حديث (كان رسول الله يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في صوم العشر.
حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن الحر بن الصياح عن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر أول اثنين من الشهر والخميس)].
أورد أبو داود صيام العشر، أي: عشر ذي الحجة، ولكن المقصود التسع، وقد اشتهرت بهذا الاسم تغليباً، وإلا فإن اليوم العاشر يوم العيد، ولا يجوز صيامه بحال من الأحوال؛ لأنه يحرم صوم العيدين وأيام التشريق، وأيام التشريق لم يرخص في أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي، أما العيدان فلا يجوز صيامهما بحال من الأحوال، بل يجب إفطارهما.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على صيام العشر، وجاء حديث عام يشمل الصيام وغير الصيام، وجاء حديث في ترجمة أخرى بخلاف ذلك يعني: في الإفطار في أيام العشر، ولكن صيام العشر قربة من أفضل القربات، وداخل تحت عموم حديث: (ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشر).
قوله: [(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة)].
يعني: العشر من ذي الحجة ما عدا يوم العيد.
قوله: [(ويوم عاشوراء)].
هو العاشر من شهر المحرم، وسيأتي له ترجمة مستقلة.
قوله: [(وثلاثة أيام من كل شهر أول إثنين من الشهر والخميس)].
يعني: أنه يبدأ بأول إثنين من الشهر، ثم الخميس وفي بعض الروايات: (والخميسين) يعني: إثنين واحد وخميس مرتين، فتكون ثلاثة أيام من كل شهر، وجاء في بعض الأحاديث ما يدل على أنه ينبغي أن تكون الثلاثة أيام البيض التي هي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، والثلاثة أيام من كل شهر جاءت في أحاديث عديدة، وهي مما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك على سبيل الإجمال، وبعضها على سبيل التفصيل مثل ما جاء في هذا الحديث قوله: (أول إثنين من الشهر والخميس) ومما جاء في ذلك حديث أبي هريرة المتفق على صحته: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام)، ومثله حديث أبي الدرداء الذي أخرجه مسلم في صحيحه قال: (أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاث: ركعتي الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أرقد).(286/3)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو عوانة].
هو أبو عوانة وضاح بن عبد الله اليشكري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحر بن الصياح].
الحر بن الصياح ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن هنيدة بن خالد].
هنيدة بن خالد مذكور في الصحابة، وقيل: هو من الطبقة الثانية التي هي طبقة كبار التابعين، وحديثه أخرجه أبو داود والنسائي.
[عن امرأته].
قال الحافظ: لم أقف على اسمها وهي صحابية، أخرج لها أبو داود والنسائي.
[عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم].
والمبهم في الصحابة أو المجهول غير المعين لا يؤثر.
والحديث هذا مروي عن حفصة وعن أم سلمة، وأخرجه النسائي عن هنيدة بإسناده فروى عنه كما ذكره أبو داود، وروي عنه عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وروي عنه عن أمه عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى كل: أي واحدة منهما سواءً علمت أو جهلت يحصل المقصود بها، فإن الصحابة كلهم عدول، والمجهول منهم في حكم المعلوم.(286/4)
شرح حديث (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن أبي صالح ومجاهد ومسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني: أيام العشر، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء) فهذا يدلنا على عظم شأن العمل في الأيام العشر، وأبو داود رحمه الله أورده تحت صيام العشر، مستدلاً به على أن الصيام من جملة الأعمال الصالحة، وأنه من بين الأعمال الصالحة التي تدخل تحت هذا الفضل العظيم: (ما من أيام العمل الصالح فيها) والصوم منها، وهذا وجه إيراد أبي داود له في ترجمة صيام العشر، يعني: يدخل في ذلك الصيام، ولكن الصيام كما هو معلوم للتسع؛ لأن العاشر هو يوم العيد، فهذا يدلنا على فضل العمل في تلك الأيام التي هي عشر ذي الحجة، ثم وضح بيان عظم أجرها لما قالوا له: (يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء) معنى ذلك: أنه قتل واستشهد وماله ذهب، وهذا يدلنا على عظم أجر العمل في هذه العشر، والحديث رواه البخاري في صحيحه كما رواه غيره.(286/5)
تراجم رجال إسناد حديث (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فأخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأعمش].
الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
هو أبو صالح السمان، واسمه: ذكوان ولقبه: السمان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومجاهد].
هو مجاهد بن جبر المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومسلم البطين].
هو مسلم بن عمران البطين، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(286/6)
ما جاء في فطر العشر(286/7)
شرح حديث (ما رأيت رسول الله صائماً العشر قط)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في فطر العشر.
حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صائماً العشر قط)].
أورد أبو داود الفطر في العشر الذي هو ضد الصيام، يعني: ذكر سابقاً صيام العشر وهنا ذكر فطر العشر، وقد أورد فيه أبو داود حديث عائشة أنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً العشر قط) معناه: أنه يكون مفطراً، وهو يخالف ما تقدم من إرشاده لصوم الشعر وصومه لها، والحديث الأول فيه أنه كان يصوم التسع، والحديث الثاني من قوله يشمل الصيام وغير الصيام، حيث فيه بيان فضل التقرب إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة، ويدخل فيه الصيام كما أشار إلى ذلك أبو داود في إيراده الحديث في الترجمة، ثم أورد أبو داود ترجمة في الفطر الذي هو عكس ما تقدم، ويجمع بين ما تقدم وبين ما جاء في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يكون ذلك كان في سفر، أو أنه كان في بعض الأحيان موجوداً ولكنه ما شوهد ذلك منه، وما جاء عنه من القول الدال على فضل الأعمال الصالحة في العشر ومنها الصيام، وكذلك أيضاً من كونه يصوم يدل على فضل صيامه وعلى استحباب صيامه، وكون الإنسان يصومه هو الأولى من كونه لا يصوم؛ لأن ما جاء عن عائشة يحتمل أن يكون كان في سفر، وأنها ما شاهدته وغيره شاهده، فالذي روى الحديث الأول أحد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، إما حفصة وإما أم سلمة، فإذاً: هي أخبرت حسب علمها، وغيرها أخبر حسب علمه، والمثبت مقدم على النافي.(286/8)
تراجم رجال إسناد حديث (ما رأيت رسول الله صائماً العشر قط)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن إبراهيم].
مسدد وأبو عوانة مر ذكرهما وإبراهيم هو ابن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأسود].
هو الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، وهو ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقد مر ذكرها.(286/9)
ما جاء في صوم يوم عرفة بعرفة(286/10)
شرح حديث (أن رسول الله نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في صوم يوم عرفة بعرفة.
حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حوشب بن عقيل عن مهدي الهجري حدثنا عكرمة قال: كنا عند أبي هريرة رضي الله عنه في بيته فحدثنا: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: [باب في صوم يوم عرفة بعرفة] يعني: للحجاج، كونهم يكونون واقفين بعرفة، ثم يصومون يوم عرفة.
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة) وهذا الحديث يدل على أنه لا يصام يوم عرفة للحجاج الذين هم واقفون بعرفة، وإنما يكونون مفطرين لأمرين: اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه كان مفطراً ولم يكن صائماً.
كذلك التقوي على العبادة في ذلك اليوم؛ لأن الصوم يضعف ويجلب الكسل للإنسان، فالأفضل له أن يكون نشيطاً قوياً حتى يستعمل تلك الساعات في الدعاء والابتهال والاستغفار والإقبال على الله عز وجل، ولا يعرض نفسه للكسل والخمول بالصوم، والحديث يوجد من تكلم فيه، فيه بأن من هو مقبول لا يحتج بحديثه إلا عند المتابعة، وأما الإفطار فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان مفطراً.
فإذاً: الأولى للإنسان أن يكون مفطراً، لكن لو صامه لا يقال: إنه حرام؛ لأنه ليس هناك شيء يدل على النهي إلا هذا الحديث، وهو حديث غير صحيح.(286/11)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حوشب بن عقيل].
حوشب بن عقيل ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن مهدي الهجري].
مهدي الهجري مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: كنا عند أبي هريرة].
أبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي وقد مر ذكره.(286/12)
شرح حديث أم الفضل (أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صوم رسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن أبي النضر عن عمير مولى عبد الله بن عباس: (عن أم الفضل بنت الحارث أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشرب)].
أورد أبو داود حديث أم الفضل بنت الحارث الهلالية رضي الله تعالى عنها وأرضاها، واسمها لبابة وهي زوجة العباس، وأم أولاده، وهي أم الفضل، وأكبر أولادها وأولاده الفضل رضي الله تعالى عنهم أجمعين، أورد أبو داود حديثها هنا، وهو أن الصحابة تماروا يعني: تكلموا، هل الرسول صائم أم هو مفطر؟ يعني: تحدثوا في هذا، هل هو صائم أم هو مفطر؟ فكان من ذكائها رضي الله عنها وأرضاها أنها أرادت أن تبين للناس بالفعل، فأخذت قدحاً من لبن وقالت: ناولوه إياه، فناولوه إياه وكان راكباً على دابته، واقفاً بعرفة فشرب والناس يرونه، فعرف الناس أنه مفطر، فكان هذا كما يقال: الجواب ما ترى لا ما تسمع، يعني: أم الفضل رضي الله عنها أرادت أن يكون الجواب ما يشاهده الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب اللبن ولا يرده، فأعطوه إياه فشربه صلى الله عليه وسلم والناس يرون، فعرفوا أنه مفطر، فهذا يدلنا على أن الأولى والأفضل في حق الواقفين بعرفة أن يكونوا مفطرين اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً ليتقووا على الدعاء والذكر في ذلك اليوم العظيم.(286/13)
تراجم رجال إسناد حديث أم الفضل (أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صوم رسول الله)
قوله: [حدثنا القعنبي عن مالك].
مر ذكرهما.
[عن أبي النضر عن عمير مولى عبد الله بن عباس].
أبو النضر مر ذكره وعمير مولى عبد الله بن عباس ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أم الفضل بنت الحارث].
أم الفضل هي لبابة بنت الحارث الهلالية، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(286/14)
ما جاء في صوم يوم عاشوراء(286/15)
شرح حديث (كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في صوم يوم عاشوراء.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: (كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة وترك عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: [باب في صوم يوم عاشوراء] ويوم عاشوراء هو يوم العاشر من شهر الله المحرم، وكان يوماً معظماً عند اليهود، وكذلك قريش كانوا يصومونه في الجاهلية، والنبي صلى الله عليه وسلم صامه معهم في الجاهلية قبل أن ينزل عليه الوحي، وكان صلى الله عليه وسلم يتعبد ويتحنث قبل أن يبعث، وهذا من تعبده وتحنثه، واختلف كيف كان يتعبد ويتحنث؟ وقد ذكر الحافظ ابن حجر أقوالاً عديدة في الشيء الذي كان يتعبد به، منها: أنه كان يتعبد على دين إبراهيم، وذكر الأقوال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وأنا أشرت إليها في الفوائد المنتقاة من فتح الباري، وكتب أخرى ذكرت الموضع الذي ذكر فيه الأقوال، ومن تعبده صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث أنه كان يصوم يوم عاشوراء، ولما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، وجاء في بعض الأحاديث أنه وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال: (ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأهلك فرعون وقومه، فصامه شكراً لله، فنحن نصومه.
فقال عليه الصلاة والسلام: نحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه).
ثم إنه بعد ذلك أرشد إلى مخالفة اليهود في الصيام، بأن يصام معه يوم قبله أو يوم بعده، والأحاديث جاءت واضحة جلية في صيام التاسع مع العاشر، واختلف العلماء: هل كان صيامه قبل أن يفرض رمضان واجباً أم أنه كان مستحباً؟ فمن العلماء من قال بأنه كان فرضاً، وأنه لما فرض رمضان ترك وجوبه وبقي على الاستحباب، ومنهم من قال: إنه على الاستحباب من أصله إلا أنه كان متأكداً أكثر، ثم بعد ذلك بقي على التأكد، ولكنه ليس كالأول.
فصيامه من آكد الصيام وأفضله، بل هو أفضل يوم يصام بعد يوم عرفة؛ لأنه قد جاء في الحديث أن صيام عرفة يكفر السنة الماضية والآتية، وأما يوم عاشوراء فيكفر السنة الماضية، وهذا يدل على فضله وعلى عظم شأن صيامه.(286/16)
تراجم رجال إسناد حديث (كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن هشام بن عروة].
عبد الله بن مسلمة ومالك مر ذكرهما، وهشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه عروة بن الزبير، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة قد مر ذكرها.(286/17)
شرح حديث (هذا يوم من أيام الله فمن شاء صامه ومن شاء تركه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى عن عبيد الله قال: أخبرني نافع عن ابن عمر قال: (كان عاشوراء يوماً نصومه في الجاهلية، فلما نزل رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هذا يوم من أيام الله، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (كان عاشوراء يوماً نصومه في الجاهلية فلما نزل رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا يوم من أيام الله فمن شاء صامه، ومن شاء تركه) وهذا مثل الحديث الذي تقدم عن عائشة رضي الله عنها.
قوله: [(يوم من أيام الله)].
يوم من أيام الله التي لها شأن ومنزلة.(286/18)
تراجم رجال إسناد حديث (هذا يوم من أيام الله فمن شاء صامه ومن شاء تركه)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى].
مسدد مر ذكره، ويحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر المصغر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: أخبرني نافع عن ابن عمر].
نافع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(286/19)
شرح حديث (نحن أولى بموسى منكم وأمر بصيامه)
قال رحمه الله تعالى: [حدثنا زياد بن أيوب حدثنا هشيم حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء فسئلوا عن ذلك، فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون، ونحن نصومه تعظيماً له، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نحن أولى بموسى منكم، وأمر بصيامه)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس، وفيه بيان الوجه في كون النبي صلى الله عليه وسلم صام عاشورا وأمر بصيامه لما قدم المدينة، وأنه وجد اليهود يصومونه، وأنهم لما سئلوا عن ذلك، قالوا: إنه يوم أنجى الله فيه موسى وقومه، فكانوا يصومونه تعظيماً له، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (نحن أحق وأولى بموسى منكم) فصامه وأمر بصيامه، ولكن لكون العمل هذا لأهل الكتاب، وقد جاءت الشريعة بمخالفة أهل الكتاب في أمور كثيرة؛ لذلك أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى صيام يوم معه حتى تحصل المخالفة، إذ هم يقتصرون على صيام يوم عاشوراء، وهو أراد أن يضيف إليه غيره، وجاء في بعض الأحاديث: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع).(286/20)
تراجم رجال إسناد حديث (نحن أولى بموسى منكم وأمر بصيامه)
قوله: [حدثنا زياد بن أيوب].
زياد بن أيوب ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو بشر].
أبو بشر هو جعفر بن إياس بن أبي وحشية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن جبير عن ابن عباس].
سعيد بن جبير وابن عباس مر ذكرهما.(286/21)
ما روي أن عاشوراء اليوم التاسع(286/22)
شرح حديث (فإذا كان العام المقبل صمنا يوم التاسع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما روي أن عاشوراء اليوم التاسع.
حدثنا سليمان بن داود المهري حدثنا ابن وهب قال: أخبرني يحيى بن أيوب أن إسماعيل بن أمية القرشي حدثه أنه سمع أبا غطفان يقول: سمعت عبد الله بن عباس يقول: (حين صام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم عاشوراء وأمرنا بصيامه قالوا: يا رسول الله! إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فإذا كان العام المقبل صمنا يوم التاسع، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب ما روي أن عاشوراء اليوم التاسع] وهذه الترجمة على قول بعض أهل العلم أن المراد بعاشوراء التاسع، ولكن عاشوراء هو اليوم العاشر؛ لأن الاسم يدل على المسمى، وبعضهم قال: قوله: التاسع إنما هو مضاف إلى العاشر لا أنه عوض عنه أو بدل منه بحيث يترك العاشر ويصام التاسع، فكان يصوم عاشوراء وقال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع) يعني: ليس المقصود من ذلك أنه هو المراد وحده دون أن يضاف إليه غيره، بل هو مضاف إلى غيره وهو العاشر، وبهذا تحصل المخالفة لليهود.(286/23)
تراجم رجال إسناد حديث (فإذا كان العام المقبل صمنا يوم التاسع)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
هو سليمان بن داود المهري المصري، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا ابن وهب].
هو ابن وهب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يحيى بن أيوب].
يحيى بن أيوب صدوق ربما أخطأ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن إسماعيل بن أمية القرشي].
إسماعيل بن أمية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنه سمع أبا غطفان].
أبو غطفان اسمه: السعد بن طريف أو مالك المري، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[سمعت عبد الله بن عباس].
عبد الله بن عباس قد مر ذكره.(286/24)
شرح حديث ابن عباس: (إذا رأيت هلال المحرم فاعدد فإذا كان يوم التاسع فأصبح صائماً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى -يعني ابن سعيد - عن معاوية بن غلاب ح وحدثنا مسدد حدثنا إسماعيل قال: أخبرني حاجب بن عمر جميعاً، المعنى عن الحكم بن الأعرج قال: (أتيت ابن عباس وهو متوسد رداءه في المسجد الحرام، فسألته عن صوم يوم عاشوراء، فقال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد، فإذا كان يوم التاسع فأصبح صائماً، فقلت: كذا كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم يصوم؟ فقال: كذلك كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم يصوم)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه كان متوسداً رداءه في المسجد الحرام فسئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد، فإذا جاء اليوم التاسع فصم أو فأصبح صائماً).
قوله: [(فقلت: كذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصوم؟)].
يعني: هو مطابق للترجمة من جهة صوم التاسع، ولكن الرسول كان يصوم العاشر، وقال: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)، يعني: مضموماً إلى العاشر، وابن عباس لعله يريد بذلك أن الإنسان يصوم التاسع ثم يصوم العاشر، وأنه يصبح صائماً اليومين اللذين هما العاشر والتاسع، العاشر لأنه الأصل، والتاسع من أجل المخالفة لليهود، فلما سئل: هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، هكذا كان النبي يفعل، يعني: يحمل على أنه ما أرشد إليه وما أخبر به حيث قال: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع) إذاً: هديه صلى الله عليه وسلم أن يصوم التاسع ويصوم العاشر، وليس المقصود به أن العاشر يهمل ويخص الصيام بالتاسع، فهو مثل الذي قبله، حيث قال: (إذا كان العالم المقبل صمنا) أي: مضموماً إلى العاشر، وهنا قال: (أصبح صائماً)، يعني: صم التاسع والعاشر.(286/25)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس: (إذا رأيت هلال المحرم فاعدد فإذا كان يوم التاسع فأصبح صائماً)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى -يعني ابن سعيد -عن معاوية بن غلاب].
مسدد ويحيى بن سعيد مر ذكرهما، ومعاوية بن غلاب ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[ح وحدثنا مسدد حدثنا إسماعيل].
إسماعيل هو ابن إبراهيم المشهور بـ ابن علية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني حاجب بن عمر].
حاجب بن عمر ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي.
[عن الحكم بن الأعرج].
الحكم بن الأعرج ثقة ربما وهم، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن ابن عباس].
ابن عباس قد مر ذكره.(286/26)
ما جاء في فضل صوم عرفة(286/27)
شرح حديث (أن أسلم أتت النبي فقال صمتم يومكم هذا؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في فضل صومه.
حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن عبد الرحمن بن مسلمة عن عمه: (أن أسلم أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: صمتم يومكم هذا؟ قالوا: لا، قال: فأتموا بقية يومكم واقضوه)].
قال أبو داود: يعني: يوم عاشوراء].
أورد أبو داود باباً في فضل صوم عاشوراء، وأورد فيه حديث عبد الرحمن بن مسلمة عن عمه أن أسلم -وهي قبيلة من العرب- جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في يوم عاشوراء فقال: (أصمتم يومكم هذا؟ قالوا: لا.
قال: فأتموا بقية يومكم واقضوه) يعني: أمسكوا عن الأكل واقضوا يوماً مكانه، قالوا: فهذا يدل على فضل صيامه، لكون النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإمساك وأمر بالقضاء، ومعناه: أنه قد فات عليهم، وأنهم يمسكون بقية اليوم عن الأكل، وأنهم يقضون مكان ذلك اليوم، فهذا يدل على فضله.
[قال أبو داود: يعني: يوم عاشوراء] يعني: هذا اليوم الذي جاءوا فيه، فالترجمة في بيان فضله، والحديث دال على هذا الفضل، ولكن الحديث غير صحيح، والذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كونه يكفر السنة الماضية.
وهذا الحديث في إسناده من هو متكلم فيه، وهو: عبد الرحمن بن مسلمة.(286/28)
تراجم رجال إسناد حديث (أن أسلم أتت النبي فقال صمتم يومكم هذا؟)
قوله: [حدثنا محمد بن المنهال].
محمد بن المنهال ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سعيد].
هو سعيد بن أبي عروبة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن مسلمة].
عبد الرحمن بن مسلمة مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي، يقال: عبد الرحمن بن مسلمة أو ابن سلمة ويقال: ابن المنهال بن سلمة.
[عن عمه].
ويقال اسم عمه: مسلمة صحابي، وأبو الأشبال قال: يحتمل أن يكون صحابياً أخرج له أبو داود والنسائي، وهذه علة ثانية كون الصحبة لم تتحقق.(286/29)
الأسئلة(286/30)
حكم من يقول السلفيون في هذا الزمان أهل سنة وليسوا أهل جماعة
السؤال
ما رأيكم في مقولة من يقول: السلفيون في هذا الزمان أهل سنة وليسوا أهل جماعة؛ لأنهم من أشد الناس تفرقاً؟
الجواب
هذا كلام متناقض؛ لأن أهل السنة هم الجماعة، والسنة والجماعة متلازمتان، وكتب العقائد فيها عقيدة أهل السنة والجماعة، مثل العقيدة الطحاوية، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قيل: من يا رسول الله؟ قال: الجماعة) وفي لفظ: (من كان على ما أنا عليه وأصحابي).
فقوله: (من كان على ما أنا عليه وأصحابي) يدل على اتباع السنة، واتباع ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ووصفهم بأنهم جماعة ثم كونه يقول: إنهم أهل سنة وإنهم ليسوا جماعة هذا كلام غير صحيح؛ لأن أهل السنة هم الجماعة، والجماعة وأهل السنة والطائفة المنصورة والفرقة الناجية؛ كل هذه الصفات لفرقة واحدة، وهم من هم على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكونه يصير هناك شيء من الاختلاف والتنافر لأمور دنيوية أو لأمور أخرى هذا لا يؤثر على الاتفاق في العقيدة وعلى ما كان عليه سلف الأمة، فإذا وجد شيء من ذلك لا يقال: إن هذا يقتضي أن يفرق بين السنة والجماعة، وأن السنة شيء والجماعة شيء، بل أهل السنة هم الجماعة، والجماعة هم أهل السنة، وعقائد أهل السنة فيها ذكر السنة والجماعة معاً فلا يقال: إن هذا شيء وهذا شيء آخر.(286/31)
معنى المنهج وضابطه الصحيح
السؤال
نسمع الآن كثيراً من طلبة العلم يقولون: فلان ليس على المنهج، والجماعة الفلانية ليست على المنهج، وفلان خرج عن المنهج، ونحن لا ندري ما المقصود بكلمة المنهج؟! بل هي كلمة محدثة، ثم قال: أنا عندي لا يصح استعمال هذه الكلمة؟
الجواب
لكل منهجه ولكلٍ طريقته، وطريقته: الشيء الذي يخصه، فمنهج أهل السنة والجماعة في العقيدة والعمل: اتباع الكتاب والسنة، وتقديم النصوص، واتهام العقول، والتعويل على النقول، وأما غيرهم من الفرق المخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة فهم يعولون على العقول، ويتهمون النقول، فإذاً المنهج: هو الطريقة، ومنهج أهل السنة والجماعة في العقيدة: هو اتباع النقول والتعويل عليها، والعقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، وأما أصحاب البدع فلهم مناهج أخرى تخصهم، وهم غالباً يتفقون على أن العقول تقدم ويعول عليها، والنقول تتهم، وإذا كان الحديث في العقيدة جاء من طريق فرد أو من طريق آحاد قالوا: ظني الثبوت فلا يعول عليه في العقيدة.
وإذا كان النص قطعي الثبوت كأن يكون في القرآن أو يكون في السنة المتواترة قالوا: قطعي الثبوت ولكنه ظني الدلالة؛ لأنهم يعولون على العقول ويتهمون النقول، فكلمة (المنهج) معناها: أن لكل منهم منهجاً، فأهل السنة لهم منهج، وأهل البدع لهم مناهج، ولكل منهج، فإذا أضيف المنهج إلى جماعة معينة يعرف المنهج، فمنهج أهل السنة هو: اتباع النصوص والتعويل على ما كان جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا قيل: منهج الجماعة الفلانية، فمعناه: طريقتهم أنهم يعولون على كذا وكذا في العقيدة، وفي العمل، وفي التعامل مع الناس، وهو منهج وضعوه لأنفسهم، وطريقة وضعوها لأنفسهم، وغالباً -كما قلت- هم أصحاب البدع، والذين هم ليسوا على منهج أهل السنة والجماعة والعقول كما هو معلوم متفاوتة، فبأي عقل يوزن الكتاب والسنة؟! وعند أهل السنة العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب واسع اسمه: درء تعارض العقل والنقل، يعني: هما متفقان، ولكن العقول تابعة للنقول، أما أهل البدع فالنقول عندهم تابعة للعقول، ولهذا يقول بعض أصحاب البدع في عقائدهم: وكل لفظ أوهم التشبيها أوله أو فوض ورم تنزيها يعني: هذا هو منهج هؤلاء في عقيدتهم، وعندهم أن كثيراً من الصفات توهم التشبيه؛ لأنهم لو أثبتوها ظنوا أنها لا تثبت إلا على وجه يشابه المخلوقين.
فإذاً: كلمة (المنهج) هي كلمة مطلقة، ولكنها تتحدد بالإضافة.(286/32)
شرح سنن أبي داود [287]
بين النبي صلى الله عليه وسلم أحكام وآداب الصيام سواء كان فرضاً أو تطوعاً، ومن هذه الأحكام تبييت النية من قبل الفجر في صيام الفرض، وإذا نوى من أول النهار في التطوع جاز له ذلك، ومن دعي إلى الوليمة وهو صائم فيفعل ما أرشده إليه النبي صلى الله عليه وسلم.(287/1)
ما جاء في صوم يوم وفطر يوم(287/2)
شرح حديث (أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في صوم يوم وفطر يوم.
حدثنا أحمد بن حنبل ومحمد بن عيسى ومسدد، والإخبار في حديث أحمد قالوا: حدثنا سفيان قال: سمعت عمراً قال: أخبرني عمرو بن أوس، سمعه من عبد الله بن عمرو قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، كان ينام نصفه ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يفطر يوماً ويصوم يوماً)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في صوم يوم وفطر يوم].
أي: حكم صيام ذلك، وأن ذلك من الأمور المستحبة، وأنه من صيام التطوع السائغ، حيث يكون الإنسان قادراً على ذلك، أما إذا كان يشق عليه فإنه يأتي بما أمكنه الإتيان به دون ذلك، وإذا أتى بثلاثة أيام من كل شهر وحافظ عليها كما أرشد إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الحسنة بعشرة أمثالها، واليوم عن عشرة أيام، ويكون ذلك كصيام الدهر، كما جاءت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وإذا كان يطيق أن يصوم يوماً ويفطر يوماً ولا مشقة عليه، ولا يلحق به ضرر، ولا يحصل بذلك تقصير في واجب وفي أمور أخرى مطلوبة منه فيما يتعلق بحق الله وحقوق الناس، فهذا الصيام هو أحب الصيام إلى الله، كما روى ذلك عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود -يعني: صلاة الليل- كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه) يعني: الثلث الذي يسبقه نصف ويعقبه سدس.
معناه: الخمس الرابع، والخمس الخامس من السدس الرابع، والسدس الخامس من الأسداس الستة، سدس أخير وسدسان قبله، وثلاثة أسداس في الأول، وهذا فيما يتعلق بصلاة الليل (وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً) وقد بين صلى الله عليه وسلم أن هذا أحب الصيام إلى الله، وأن هذه أحب الصلاة إلى الله، وفي هذا إثبات محبة الله عز وجل، وأن الله تعالى متصف بالمحبة، وأن ما يحبه الله يتفاوت، فمنه ما يكون محبوباً، ومنه ما يكون أحب.(287/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، الإمام الفقيه، المحدث المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ومحمد بن عيسى].
محمد بن عيسى هو الطباع، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[ومسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[والإخبار في حديث أحمد].
يعني: الذي قال: حدثني أو أخبرنا هو عن أحمد، وأما غيرهم فليس فيه التحديث وإنما هو بـ (عن).
[حدثنا سفيان].
هو: سفيان بن عيينة المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت عمراً].
هو عمرو بن دينار المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عمرو بن أوس].
عمرو بن أوس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعه من عبد الله بن عمرو].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(287/4)
كيفية معرفة ثلث الليل
وحساب الليل يكون من بعد صلاة العشاء؛ لأنه ينام نصف الليل يعني: بعد صلاة العشاء، فيحسب من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، فنصفه يكون نوماً، ثم بعد ذلك يكون ثلثه، ويمكن أن يكون المراد منه الغروب، لكن المقصود أن النصف هو ما بعد صلاة العشاء؛ لأن النوم قبل صلاة العشاء جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على كراهيته، فكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها؛ لأن ذلك يؤدي إلى النوم عن صلاة العشاء.
قوله: [قالوا: حدثنا سفيان قال: سمعت عمراً قال: أخبرني عمرو بن أوس سمعه من عبد الله بن عمر].
إما أن المقصود أن الذي صرح بالتحديث هو أحمد والباقون ما قالوا: حدثنا، أو أن المقصود في رواية سفيان عن عمرو بن دينار حيث أنه صرح بالتحديث بقوله: حدثنا عمرو بن دينار، فيمكن أن يكون المقصود به؛ لأن سفيان مدلس، ولكن معروف أنه لا يدلس إلا عن ثقات، ويمكن أن يكون المقصود به سفيان، أو أن المراد به روايتهم ولكن المقصود بالإخبار أنه عن أحمد الذي هو الأول: التحديث، والتحديث يقال له: إخبار.
فوجود كلمة (الإخبار) هنا فيه تصريح بالسماع، وقضية التصريح بالعنعنة لا يؤثر إلا عن المدلس، وأما الذي لا يدلس فعنعنته تكون اتصالاً، ولكن هذا يأتون به من أجل المحافظة على الألفاظ، وبيان من صرح بالتحديث ومن لم يصرح بالتحديث.(287/5)
ما جاء في صوم الثلاث من كل شهر(287/6)
شرح حديث (كان رسول الله يأمرنا أن نصوم البيض)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في صوم الثلاث من كل شهر.
حدثنا محمد بن كثير حدثنا همام عن أنس أخي محمد عن ابن ملحان القيسي عن أبيه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرنا أن نصوم البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، وقال: هن كهيئة الدهر)].
أورد أبو داود باب صيام الثلاث من كل شهر، وقد ورد في صيامها وفي الوصية بها أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها: حديث أبي هريرة المتفق على صحته: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: ركعتي الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أنام).
وحديث أبي الدرداء في صحيح مسلم: (أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاث: ركعتي الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أرقد) وجاءت أحاديث تبين هذه الثلاث وتحددها، وتبين كيف يؤتى بها، فمما جاء في ذلك أنها تصام في أيام البيض، وهي: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، التي هي في منتصف الشهر، والتي هي ليالي الإبدار، ويقال لها: البيض؛ لأن الليل يكون فيها منيراً مضيئاً.
قوله: [(كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرنا أن نصوم البيض)].
قوله: [(ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، وقال: هن كهيئة الدهر)].
هذا تحديد وتعيين للأيام البيض، قوله: [(هن كهيئة الدهر)] يعني: صيام هذه الثلاثة الأيام سواء جعلت في نصف الشهر أو جعلت في أي يوم من الشهر في أوله أو في آخره أو في وسطه، أو بعضها في أوله، وبعضها في وسطه، وبعضها في آخره، كل ذلك يعتبر صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وهو كصيام الدهر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، واليوم عن عشرة أيام، فإذا صام من كل شهر ثلاثة أيام فكأنه صام الدهر؛ لأن اليوم بعشرة أيام.(287/7)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله يأمرنا أن نصوم البيض)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا همام].
هو همام بن يحيى العودي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس أخي محمد].
هو أنس بن سيرين أخو محمد بن سيرين، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن ملحان القيسي].
ابن ملحان القيسي هو عبد الملك بن قتادة بن ملحان، وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبيه].
وهو قتادة بن ملحان رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.(287/8)
شرح حديث (كان رسول الله يصوم -يعني من غرة كل شهر- ثلاثة أيام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو كامل حدثنا أبو داود حدثنا شيبان عن عاصم عن زر عن عبد الله قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم -يعني: من غرة كل شهر- ثلاثة أيام)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم من غرة كل شهر، يعني: من أوله ثلاثة أيام، وهذا فيه بيان أن الثلاثة الأيام من كل شهر ليست ثابتة مستقرة في وقت معين، بل جاء ما يدل على صيامها في أول الشهر، أو في وسط الشهر الذي هو الأيام البيض، وجاء أنها تكون في الإثنين والخميس، يعني: إثنين وإثنين وخميس أو خميس وخميس وإثنين، فجاء صيامها على أوجه مختلفة، وجاء أنه ما كان يبالي من أي الشهر كان يصوم الثلاثة الأيام من كل شهر، فهذا يدلنا على أن الأمر فيها واسع، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها وجوه متنوعة، ولكن كون الإنسان يحرص على أن تكون هي أيام البيض فهو أولى، حتى يحافظ عليها ولا ينساها، لأنه إذا لم يجعل لها وقتاً محدداً قد يتشاغل عنها، وقد يخرج الشهر وهو ما أتى بها، لكن إذا جعلها في الأيام البيض فإنه يتعاهدها ويتحراها، وإذا صامها من أول الشهر كما في هذا الحديث فيكون قد بادر.(287/9)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله يصوم -يعني من غرة كل شهر- ثلاثة أيام)
قوله: [حدثنا أبو كامل].
هو أبو كامل الجحدري، وهو فضيل بن حسين، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبو داود].
أبو داود هو: سليمان بن داود الطيالسي، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا شيبان].
شيبان هو ابن عبد الرحمن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عاصم].
هو عاصم بن أبي النجود، وهو ابن بهدلة، وهو صدوق له أوهام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وروايته في الصحيحين مقرونة، أي: أنه روي عنه وعن غيره.
[عن زر].
هو زر بن حبيش، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(287/10)
من قال الإثنين والخميس(287/11)
شرح حديث (كان رسول الله يصوم ثلاثة أيام من الشهر الإثنين والخميس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من قال: الإثنين والخميس.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن عاصم بن بهدلة عن سواء الخزاعي عن حفصة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم ثلاثة أيام من الشهر: الإثنين والخميس، والإثنين من الجمعة الأخرى)].
أورد أبو داود باب من قال: الإثنين والخميس، يعني: أن الثلاثة الأيام من كل شهر تكون إثنين وخميس وإثنين.
فقوله: [(الإثنين والخميس والإثنين من الجمعة الأخرى)].
معناه: أنه يأتي بها في أسبوعين، أسبوع فيه إثنين وخميس، والأسبوع الثاني يصير فيه الإثنين، فيكون الإثنين جاء مرتين، وبينهما خميس، فيكون الإثنين والخميس من الأسبوع، ثم الإثنين في الأسبوع الثاني، فيكون بذلك قد جمع بين أمرين: صام ثلاثة أيام من كل شهر، واختار اليومين المفضلين اللذين تعرض فيهما الأعمال على الله عز وجل.(287/12)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله يصوم ثلاثة أيام من الشهر الإثنين والخميس)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عاصم بن بهدلة].
عاصم بن بهدلة مر ذكره.
[عن سواء الخزاعي].
سواء الخزاعي مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن حفصة].
حفصة رضي الله تعالى عنها أم المؤمنين، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(287/13)
شرح حديث أم سلمة: (كان رسول الله يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زهير بن حرب حدثنا محمد بن فضيل حدثنا الحسن بن عبيد الله عن هنيدة الخزاعي عن أمه قالت: (دخلت على أم سلمة رضي الله عنها فسألتها عن الصيام، فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر أولها الإثنين والخميس)].
أورد أبو داود حديث أم سلمة رضي الله عنها (أنها سألتها أم هنيدة بن خالد عن الصيام فقالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر، أولها الإثنين والخميس).
أولها الإثنين والخميس، يعني: إما أن تكون أولها الإثنين ثم الخميس ثم الإثنين، أو أن أولها الخميس، بمعنى: أنه يبدأ بواحد من هذه الأيام التي ترفع فيها الأعمال إلى الله عز وجل وهي: الإثنين والخميس.(287/14)
تراجم رجال إسناد حديث أم سلمة: (كان رسول الله يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر)
قوله: [حدثنا زهير بن حرب].
زهير بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا محمد بن فضيل].
هو محمد بن فضيل بن غزوان، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الحسن بن عبيد الله].
الحسن بن عبيد الله ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن هنيدة الخزاعي].
هو هنيدة بن خالد الخزاعي، وهو معدود في الصحابة، وحديثه أخرجه أبو داود والنسائي.
[عن أمه].
وهي صحابية، أخرج لها أبو داود والنسائي.
[عن أم سلمة].
وهي هند بنت أبي أمية رضي الله عنها، وهي أم المؤمنين، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(287/15)
من قال لا يبالي من أي الشهر(287/16)
شرح حديث (ما كان رسول الله يبالي من أي أيام الشهر كان يصوم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من قال: لا يبالي من أي الشهر.
حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن يزيد الرشك عن معاذة قالت: (قلت لـ عائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم، قلت: من أي شهر كان يصوم؟ قالت: ما كان يبالي من أي أيام الشهر كان يصوم)].
أورد أبو داود باب من قال: لا يبالي من أي الشهر.
يعني: الثلاثة الأيام لا يبالي من أي أيام الشهر سواء صامها من أوله أو وسطه أو آخره، فليس لها مكان معين، ووقت معين، ويجوز أيضاً أن تكون مجتمعة، وأن تكون متفرقة، فأورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن معاذة العدوية سألتها: (أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم.
قلت: من أي شهر كان يصوم؟ قالت: لا يبالي من أي أيام الشهر كان يصوم).
يعني: أحياناً يصوم من أوله، وأحياناً من وسطه، وأحياناً من آخره، وليس هناك تقييد وتحديد، ولكنه جاء عنه كما عرف أنه كان في أول الشهر، وجاء عنه في وسط الشهر، وهذا يدل على أن هذه من الأمور السائغة.(287/17)
تراجم رجال إسناد حديث (ما كان رسول الله يبالي من أي أيام الشهر كان يصوم)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث].
عبد الوارث بن سعيد العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد الرشك].
هو يزيد بن أبي يزيد الرشك، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معاذة].
هي معاذة العدوية، وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(287/18)
الاختلاف في صيام ثلاثة أيام من كل شهر اختلاف تنوع لا تضاد
والكلام هنا عن الثلاثة الأيام من كل شهر فلا يظهر أنها غير الأيام البيض بحيث يكون المجموع في الشهر ستة أيام، وإنما المقصود أن الثلاثة الأيام أحياناً تكون البيض، وأحياناً تكون في أول الشهر، وأحياناً تكون في الآخر، وأحياناً يكون بعضها في الأول وبعضها في الآخر، فلا يقال: إنها ستة أيام؛ لأنها كلها ثلاثة، لكن هذه الثلاثة أين مكانها؟ جاء أن لها مكاناً، وجاء أنها مطلقة.(287/19)
النية في الصيام(287/20)
شرح حديث (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب النية في الصيام.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب قال: حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أيوب عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له)].
أورد أبو داود رحمه الله النية في الصيام، والنية في الصيام تكون للفرض، ولما هو واجب، ولما هو تطوع، والفرض يدخل فيه رمضان، أو قضاء رمضان، أو النذر، أو الكفارة، فكل هذه لا بد أن تكون النية فيها موجودة قبل الفجر، وأن يدخل في الصيام من أوله وقد نواه، وأن تكون جميع أجزاء النهار قد وجدت فيها النية من أول الصيام إلى آخره، هذا بالنسبة للفرض، أما بالنسبة للنفل فإنه يجوز أن يؤتى بالنية من وسط النهار أو من أثناء النهار بحيث أنه يقوم من نومه ما كان يريد صياماً ثم بعد ذلك يريد أن يصوم، فله أن ينوي، وتنعطف النية على النهار كله؛ لأنه لم يأكل، وهذا خاص في النافلة، وقد جاء في ذلك بعض الأحاديث كما سيأتي، وكذلك للإنسان بالنسبة للنفل أن يقطعه إذا بداله ذلك، وإن كان الأولى له أن يكمل الصيام، لكن إذا احتاج أن يقطعه له أن يقطعه.
قوله: [(من لم يجمع الصيام قبل الفجر)].
أي: يعزم على أن يصوم، وأن يكون ذلك قبل طلوع الفجر.
قوله: [(فلا صيام له)] بمعنى: أنه لو لم يبلغه دخول الشهر إلا في النهار فعليه أن يمسك بقية النهار وعليه القضاء، وإذا كان الخبر جاءه قبل طلوع الفجر، فإنه ينوي من حين طلوع الفجر، ولهذا فالفرض لابد فيه من وجود النية في جميع أجزاء الصيام من أوله إلى آخره، فلا يصلح أن تأتي في أثنائه فتنوي الصيام، بل لابد أن تكون موجودة من أوله، فمن لم يجمع الصيام من الليل فلا صيام له، يعني: فلا يصح صومه، وهذا إنما هو محمول على الفرض؛ لأن النفل قد جاء ما يدل على أنه يمكن أن يكون بنية من النهار.
وأما رمضان فالإنسان يأتي بالنية من أول ما يدخل الشهر، فينوي أنه صائم جميع أيام الشهر، وفي كل يوم ينوي لذلك اليوم عندما يتسحر لذلك اليوم، ولهذا قال بعض أهل العلم: إنه ينوي من أول الشهر، وأيضاً يجدد النية كل يوم، وبعضهم قال: إنه يكفي لذلك نية من أول الشهر وإن لم يجددها في كل يوم، ولكن كونه يأتي بها وينوي أنه سيصوم رمضان الذي أمامه، وفي كل ليلة أيضاً ينوي أنه يصوم تلك الليلة، لكن لو أن إنساناً نام بعد صلاة العصر ولم يستيقظ إلا بعد الفجر من اليوم الثاني فهل يقال: إنه لا صيام له؛ لأنه ما نوى من الليل؟ الذي يظهر أن صيامه صحيح؛ لأنه موجود عنده العزم على أنه يصوم، وكونه نام ولم يستيقظ إلا بعد طلوع الفجر فإنه يواصل ويكون بذلك صام هذا اليوم.(287/21)
تراجم رجال إسناد حديث (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عبد الله بن وهب].
عبد الله بن وهب ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني ابن لهيعة].
هو عبد الله بن لهيعة المصري، وهو صدوق، احترقت كتبه فتغير حفظه، ورواية العبادلة الأربعة هي أعدل من غيرها، والعبادلة الأربعة هم: عبد الله بن لهيعة وعبد الله بن مسلمة وعبد الله بن يزيد المقري وعبد الله بن المبارك، وأيضاً قتيبة بن سعيد، فهؤلاء ممن رووا عنه قبل احتراق كتبه، فتكون روايتهم معتبرة، وهذه الرواية عبد الله بن وهب، وهو أحد الأربعة عن عبد الله بن لهيعة.
أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[ويحيى بن أيوب].
يحيى بن أيوب هنا مقرون معه وليس منفرداً، وهو يحيى بن أيوب المصري، وهو ربما أخطأ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم].
عبد الله بن أبي بكر بن حزم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
ابن شهاب هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم بن عبد الله].
هو سالم بن عبد الله بن عمر، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وقد مر ذكره.
[عن حفصة].
أخته حفصة رضي الله تعالى عنها أم المؤمنين، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(287/22)
شرح حديث: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له) موقوفاً وتراجم رجاله
[قال أبو داود: رواه الليث وإسحاق بن حازم أيضاً جميعاً عن عبد الله بن أبي بكر مثله، ووقفه على حفصة معمر والزبيدي وابن عيينة ويونس الأيلي كلهم عن الزهري].
ذكر أبو داود أن جماعة وافقوا يحيى بن أيوب وابن لهيعة في الرواية عن الزهري.
قوله: [رواه الليث].
هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وإسحاق بن حازم].
إسحاق بن حازم صدوق، أخرج له ابن ماجة.
[عن عبد الله بن أبي بكر مثله].
يعني: مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ووقفه على حفصة معمر].
معمر بن راشد الأسدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[والزبيدي].
هو: محمد بن الوليد الزبيدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[وابن عيينة ويونس الأيلي].
ابن عيينة هو سفيان بن عيينة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، ويونس الأيلي هو يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[كلهم عن الزهري].
والرفع مقدم على الوقف.(287/23)
ما جاء في الرخصة في أن يصوم الرجل دون أن يجمع الصيام من الليل(287/24)
شرح حديث عائشة في صيام النبي دون تبييت النية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرخصة في ذلك.
حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان ح وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع جميعاً عن طلحة بن يحيى عن عائشة بنت طلحة عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل علي قال: هل عندكم طعام؟ فإذا قلنا: لا قال: إني صائم.
زاد وكيع: فدخل علينا يوماً آخر فقلنا: يا رسول الله أهدي لنا حيس فحبسناه لك، فقال: أدنيه.
قال طلحة: فأصبح صائماً وأفطر)].
أورد أبو داود باباً في الرخصة في ذلك.
يعني: في كونه لا يبيت النية من الليل، وإنما يعقدها من النهار، وهذا إنما هو بالنفل وليس بالفرض، ولكن أيضاً في النفل يستحب أن الإنسان يبيت النية من الليل، لكنه يجوز أن ينوي أثناء النهار، وأما الفرض فلا يجوز له؛ لأنه يجب أن تكون جميع أجزاء النهار قد حصل فيها النية، وعلى هذا فالنية للفرض لابد منها في الليل، وأما النفل والتطوع فيستحب أن يؤتى بها من الليل حتى تكون النية جاءت من أول الصيام ومن أول وقت الصيام، ولكنه يجوز أن ينوي في أثناء النهار، وقد أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها وهو حديث فيه أمران: كونه يصبح غير صائم ثم ينوي الصيام، أو يصبح صائماً تطوعاً ثم يفطر.
قوله: [(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل علي قال: هل عندكم طعام؟ فإذا قلنا: لا.
قال: إني صائم، فدخل علينا يوماً آخر فقلنا: يا رسول الله! أهدي لنا حيس فحبسناه لك، فقال: أدنيه)].
يعني: مرة ثانية جاء إليهم وكانوا يعرفون سؤاله عن الطعام فقالوا: إنه أهدي لنا حيس، والحيس هو الطعام الذي يجمع أموراً ثلاثة: التمر والأقط والسمن، وقد يكون بدل الأقط الدقيق فقال: أدنيه يعني: قربيه، فأكل منه.
قوله: [قال طلحة: فأصبح صائماً وأفطر].
يعني: أن التطوع للإنسان أن يفطر في أثنائه، وله أن ينويه من أثناء النهار، فهذا سائغ وهذا سائغ.(287/25)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة في صيام النبي دون تبييت النية
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وقد مر ذكره.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان الثوري، وقد مر ذكره.
[ح وحدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فأخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن طلحة بن يحيى].
هو طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، وهو صدوق يخطئ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عائشة بنت طلحة].
هي عائشة بنت طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه، أبوها أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها وقد مر ذكرها.(287/26)
شرح حديث (فلا يضرك إن كان تطوعاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن أم هانئ قالت: (لما كان يوم الفتح: فتح مكة جاءت فاطمة رضي الله عنها فجلست عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم هانئ عن يمينه، قالت: فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب فناولته فشرب منه، ثم ناوله أم هانئ فشربت منه، فقالت: يا رسول الله! لقد أفطرت وكنت صائمة، فقال لها: أكنت تقضين شيئاً؟ قالت: لا قال: فلا يضرك إن كان تطوعاً)].
أورد أبو داود حديث أم هانئ رضي الله عنها: (أنه في عام الفتح كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً، وفاطمة على يمينه، وأم هانئ على يساره، فجاءت الوليدة -وهي الأمة- بإناء فيه شراب فناولته النبي صلى الله عليه وسلم فشرب منه، فناول أم هانئ فشربت، ثم قالت له: إني أفطرت وكنت صائمة فقال: أكنت تقضين شيئاً؟) معناه: إن كنت تقضين شيئاً فأنت تقضينه بدل هذا اليوم؛ لأن القضاء لابد منه، وأما التطوع فإنه لا يلزم قضاؤه، فلما قالت: إنها لا تقضي قال: (لا يضرك إذا كان صومك تطوعاً) معناه: أنه لا يؤثر ولا يحتاج إلى قضاء.(287/27)
تراجم رجال إسناد حديث (فلا يضرك إن كان تطوعاً)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير بن عبد الحميد].
عثمان بن أبي شيبة مر ذكره، وجرير بن عبد الحميد الضبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن أبي زياد].
يزيد بن أبي زياد ضعيف، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن الحارث].
عبد الله بن الحارث له رؤية، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أم هانئ].
أم هانئ وهي أبي طالب أخت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث فيه يزيد بن أبي زياد، ولكن الألباني صححه، ويمكن أن يكون ذلك لشواهده، ومن شواهده الحديث الذي سبق أن مر للرسول صلى الله عليه وسلم.(287/28)
من رأى القضاء على من أفطر من صوم النفل(287/29)
شرح حديث (لا عليكما، صوما مكانه يوماً آخر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من رأى عليه القضاء.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني حيوة بن شريح عن ابن الهاد عن زميل مولى عروة عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت (أهدي لي ولـ حفصة طعام، وكنا صائمتين فأفطرنا، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلنا له: يا رسول الله! إنا أهديت لنا هدية فاشتهيناها فأفطرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عليكما صوما مكانه يوماً آخر)].
أورد أبو داود باب من رأى عليه القضاء.
يعني: إذا كان تطوعاً، وأما إذا كان فرضاً أو واجباً وأفطر فإنه لابد من القضاء، ولا إشكال في ذلك، وإنما الكلام في التطوع.
أورد أبو داود حديث حفصة وعائشة أنه أهدي لهما هدية وكانتا صائمتين، فاشتهتا أن تأكلا تلك الهدية فأكلتا منها، فأخبرتا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لا عليكما -يعني: لا يضركما- صوما مكانه يوماً آخر).
وهذا يفيد أنه إذا كان تطوعاً أنه يقضى، لكن الحديث غير صحيح؛ لأن فيه زميلاً وهو مجهول، فلا يثبت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا يكون القضاء غير متعين، كما دل عليه الحديث الذي مر.(287/30)
تراجم رجال إسناد حديث (لا عليكما، صوما مكانه يوماً آخر)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني حيوة بن شريح].
أحمد بن صالح وعبد الله بن وهب مر ذكرهما، وحيوة بن شريح المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن الهاد].
ابن الهاد هو يزيد بن عبد الله بن الهاد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زميل مولى عروة].
زميل مولى عروة مجهول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن عروة بن الزبير].
هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقد مر ذكرها.(287/31)
المرأة تصوم بغير إذن زوجها(287/32)
شرح حديث (لا تصوم امرأة وزوجها شاهد إلا بإذنه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب المرأة تصوم بغير إذن زوجها.
حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصوم امرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه غير رمضان، ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه)].
أورد أبو داود باب المرأة تصوم بغير إذن زوجها، يعني: ليس لها أن تصوم التطوع بغير إذن زوجها، وأما بالنسبة للفرض والشيء الواجب فإن عليها أن تخبره وأن تستأذنه، وإذا طلب منها أن تؤخر فلها أن تؤخر، وقد مر أن عائشة رضي الله عنها كان يكون عليها الصوم من رمضان فلا تتمكن من قضائه إلا في شعبان، وذلك لمكانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والترجمة معقودة في صيام المرأة بغير إذن زوجها ويعان أنه ليس لها ذلك، وهذا باتفاق العلماء، فليس لها أن تتطوع إلا بإذن زوجها، وأما إذا كان فرضاً فلها أن تؤخر، ولكن القضاء متحتم عليها ولازم لها، كما مر في فعل عائشة رضي الله عنها، وأنها كانت تقضي قضاءها في شهر شعبان بعد أن يكون مضى عليها قرب انتهاء السنة.
وأورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه).
قوله: [(غير رمضان)].
يعني: رمضان هنا لا يحتاج إلى استئذان، وكذلك أيضاً الفرض لابد أن تصومه ولكن عليها أن تستأذنه، فذكر (غير رمضان) هذه فيها كلام؛ لأن رمضان كل الناس يصومونه، يعني: الزوج والناس كلهم لا يترك أحد منهم الصيام، قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] فمن كان حاضراً وهو مستطيع فإن عليه الصيام، ولا يعذر في الفطر، إلا من كان معذوراً بعذر شرعي جاء في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كالمريض والمسافر وغيره.
قوله: [(ولا تأذن في بيت زوجها وزوجها شاهد إلا بإذنه)] يعني: لا تأذن بالدخول في بيت زوجها إلا بإذنه، فتستأذنه في دخول من يدخل عليها، وإذا كان هناك إذن عام ومتواطأ ومتفق عليه فلها أن تنفذ ذلك، بحيث لا يلزم أنها تستأذن في كل شيء وفي كل حالة وفي كل مرة، وإنما يكفي أن يكون هناك اتفاق بينها وبينه على الإذن وتعيين من يؤذن له.
وحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا من صحيفة همام بن منبه والمشتملة على مقدار مائة وخمسين حديثاً كلها بإسناد واحد، ويفصل بين كل حديث وحديث جملة: (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم).
والإمام مسلم رحمة الله عليه له طريقة في سرد أحاديث هذه الصحيفة، ولغيره من الأئمة طرق أخرى ليست مثل طريقة مسلم رحمه الله، فـ أبو داود والبخاري وغيرهما يروون أي حديث من الصحيفة ويأتون بالإسناد الذي في أولها، ثم يأتون بالحديث الذي يريده بعد الإسناد، وكأن الحديث بعد الإسناد، أما مسلم رحمه الله فإنه إذا ساق الإسناد يقول: عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، وهذا فيه إشارة إلى الأحاديث المتقدمة التي هي تابعة للإسناد، والتي تلي الإسناد، وهذه دقة وعناية، أما أبو داود فكما رأينا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، والبخاري كذلك يأتي بمثل هذه الطريقة، وكذلك النسائي وغيره، أما مسلم فعنده دقة وعناية في المحافظة على الألفاظ، وتبيين من يكون له اللفظ، وكيفية لفظه، وما إلى ذلك، وهذه ميزة لـ مسلم رحمه الله لا توجد عند غيره، ولهذا قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في تهذيب التهذيب: حصل للإمام مسلم في صحيحه حظ عظيم مفرط ما حصل لأحد غيره في المحافظة على الألفاظ وسياقها، وكذلك الأسانيد وبيان من هو لفظه.(287/33)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تصوم امرأة وزوجها شاهد إلا بإذنه)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معمر عن همام بن منبه].
معمر مر ذكره، وهمام بن منبه ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنه أبا هريرة].
أبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، وقد مر ذكره.(287/34)
شرح حديث: (لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن عنده، فقالت: يا رسول الله! إن زوجي صفوان بن المعطل يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، قال: وصفوان عنده قال: فسأله عما قالت فقال: يا رسول الله! أما قولها: يضربني إذا صليت، فإنها تقرأ بسورتين وقد نهيتها، قال: فقال: لو كانت سورة واحدة لكفت الناس، وأما قولها: يفطرني، فإنها تنطلق فتصوم وأنا رجل شاب فلا أصبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ: لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها، وأما قولها: إني لا أصلي حتى تطلع الشمس فإنا أهل بيت قد عرف لنا ذاك لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس، قال: فإذا استيقظت فصل)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن امرأة صفوان المعطل جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي صفوان بن المعطل يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي صلاة الفجر إلا بعد طلوع الشمس).
وكان صفوان عنده، فسأله عن هذه الدعوى التي ادعت عليه ما جوابه عنها؟ فقال: (أما قولها: يضربني إذا صليت، فإنها تقرأ بسورتين طويلتين) يعني: هي تتشاغل عنه بالصلاة، وهو يريدها للاستمتاع بها فقال: (لو كانت سورة واحدة لكفت الناس) وهذا فيه إشارة إلى سورة الفاتحة، وأن أي إنسان مصلٍ يأتي بسورة الفاتحة فإنه يكون قد أدى ما عليه، وحصل منه ما هو لازم، ولكن يستحب قراءة سورة معها، وكونه يقرأ سورة طويلة أو سورتين طويلتين ويوجد من هو بحاجة إليه أو ينتظره، فإن هذا هو الذي كان يدفع صفوان بن معطل إلى ضرب امرأته.
قوله: [(وأما قولها: يفطرني، فإنها تنطلق فتصوم وأنا رجل شاب، فلا أصبر)].
يعني: تصوم تطوعاً، وهو رجل شاب لا يصير ويريدها لنفسه.
قوله: [(فقال صلى الله عليه وسلم يومئذ: لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها)].
هذا هو محل الشاهد في الترجمة: أنها لا تصوم إلا بإذن زوجها.
قوله: [(وأما قولها: إني لا أصلي حتى تطلع الشمس، فإنا أهل بيت قد عرف لنا ذلك، لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس، قال: فإذا استيقظت فصل)].
قيل: إنهم كانوا يشتغلون بالليل فيصيرون كالمغمى عليه، وأنه ليس هناك من يوقظه، ومن يكون كذلك فإنه يصلي حينما يستيقظ، لكن على الإنسان أن يأخذ بالاحتياطات فيكون هناك من يوقظه.(287/35)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش].
الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
هو أبو صالح السمان واسمه ذكوان، ولقبه: السمان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد].
هو أبو سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنه، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود: رواه حماد -يعني ابن سلمة - عن حميد أو ثابت عن أبي المتوكل].
ثم ذكر أبو داود هذه المتابعة فقال: رواه حماد بن سلمة عن حميد، وهو حميد بن أبي حميد الطويل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أو ثابت البناني].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي المتوكل].
هو أبو المتوكل الناجي، وهو علي بن داود، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(287/36)
ما جاء في الصائم يدعى إلى الوليمة(287/37)
شرح حديث (إذا دعي أحدكم فليجب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الصائم يدعى إلى الوليمة.
حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا أبو خالد عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان مفطراً فليطعم، وإن كان صائماً فليصل) قال هشام: والصلاة الدعاء.
قال أبو داود: رواه حفص بن غياث أيضاً عن هشام].
أورد أبو داود باباً في الصائم يدعى إلى وليمة.
يعني: الصائم إذا دعي إلى وليمة ماذا يصنع؟ أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دعي أحدكم فليجب).
أي: إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليجب.
قوله: [(فإن كان مفطراً فليطعم، وإن كان صائماً فليصل)].
أي: إن كان مفطراً فليأكل، وإن كان صائماً فليدع للداعي ولصاحب الوليمة، وهذا فيه تطييب للنفس، وتأنيس له بكونه صائماً ويأتي لإجابة الدعوة، وبعض أهل العلم يقول: إنه إذا كان يترتب عليه غضب الشخص أو عدم ارتياحه وطمأنينته فإنه ينبغي له أن يفطر، وإن كان لا يحصل منه شيء من ذلك فيكفي أن يدعو لمن دعاه.(287/38)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا دعي أحدكم فليجب)
قوله: [حدثنا عبد الله بن سعيد].
هو عبد الله بن سعيد الأشج، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو خالد].
هو أبو خالد الأحمر، وهو سليمان بن حيان، وهو صدوق يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام].
هو هشام بن حسان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن سيرين].
ابن سيرين هو محمد بن سيرين، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة قد مر ذكره.
[قال أبو داود: رواه حفص بن غياث أيضاً عن هشام].
حفص بن غياث ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهشام هو: ابن حسان.(287/39)
ما يقول الصائم إذا دعي إلى الطعام(287/40)
شرح حديث (إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل إني صائم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يقول الصائم إذا دعي إلى الطعام.
حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل: إني صائم)].
قال أبو داود: [باب ما يقول الصائم إذا دعي إلى الطعام].
وأورد حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل: إني صائم) يعني: يعتذر عن ذلك بقوله: إني صائم، فيعتذر عن الحضور أو يعتذر عن الأكل، ولكنه إذا حضر أو لم يحضر فله أن يدعو له، فإن وجد من الداعي ارتياحاً إلى اعتذاره لكونه صائماً فله ألا يحضر، وإن كان الداعي يرغب في أن يحضر ولو لم يأكل فليحضر وليدع له، وإن كان يعلم أنه يحصل من الداعي وحشة وعدم ارتياح فيفطر إذا كان ذلك نفلاً.
قوله: [(إني صائم)] هذا فيه دليل على أن إخبار الإنسان عن عمله إذا كان المقصود به الاعتذار لا بأس به، يعني: حين يبين السبب في كونه لا يحضر أو كونه لا يأكل، وكذلك إذا كان الإخبار بالعمل سيترتب عليه اقتداء به فإن ذلك أيضاً إظهاره طيب، ومن ذلك قصة الرجل الذي تصدق بصرة كبيرة وتبعه الناس، وعندها قال عليه الصلاة والسلام: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها).
فإذا كان يترتب على إظهار الشيء مصلحة أو كان من أجل الاعتذار فإنه لا بأس به، وإلا فإن الأولى الإخفاء، ولا يكون الإظهار إلا عند الحاجة.(287/41)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل إني صائم)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن أبي الزناد].
مسدد وسفيان مر ذكرهما، وأبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان المدني، وهيو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعرج].
الأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة رضي الله عنه قد مر ذكره.(287/42)
الأسئلة(287/43)
حكم من أفطر من صوم واجب
السؤال
إذا كان الإنسان يصوم صوماً واجباً غير الفرض كنذر أو كفارة أو قضاء فهل له أن يفطر؟
الجواب
لا.
ما ينبغي له أن يفطر، لكنه إن أفطر فيجب عليه قضاؤه، وأما التطوع إذا أفطر فلا يجب عليه قضاؤه.(287/44)
حكم من نوى الصيام في آخر النهار
السؤال
النية في النهار هل لها وقت محدد؟
الجواب
لا أعلم، لكن يبدو أنه ينوي حيث يكون أكثر النهار، أما أن يكون الشخص ينام حتى إذا كان عند المساء استيقظ وقال: أنا صائم لا يصح؛ لأنه ما بقي إلا ساعة أو قريب من ساعة، فيبدو أنه لا يصح إلا إذا بقي شيء كبير من اليوم.(287/45)
شرح سنن أبي داود [288]
سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان تفرغاً للعبادة وطلباً لليلة القدر، فصار الاعتكاف عبادة مستحبة، وله أحكام وآداب، منها أنه يسن للمعتكف أن يعتكف في المسجد الجامع ولا يخرج منه إلا للحاجة، ولا يزور المريض، ولا يتبع الجنازة، ولا يباشر النساء.(288/1)
ما جاء في الاعتكاف(288/2)
شرح حديث (أن النبي كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الاعتكاف.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى قبضه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله: [باب الاعتكاف].
أبو داود رحمه الله وكذلك غيره من العلماء يذكرون الاعتكاف مع الصيام؛ لأن الاعتكاف -كما قال بعض أهل العلم -لا يكون إلا مع صيام، وأيضاً كون المشهور والمعروف فيه أنه يكون في رمضان وفي العشر الأواخر وذلك في حال الصيام، فناسب أن يأتي ذكر الاعتكاف مع الصيام أو بعد الصيام.
والاعتكاف في اللغة قيل: هو الحبس والمكث واللزوم.
وفي الاصطلاح: هو المكث في المسجد على وجه مخصوص.
فالحبس والمكث واللزوم كلها تطلق على المكث في المسجد، أو حبس النفس في المسجد، أو لزوم المسجد لطاعة الله عز وجل، ولهذا فإن المعنى الشرعي مطابق أو مندرج تحت المعنى اللغوي، والمعاني اللغوية تدخل فيها المعاني الشرعية، ولكن المعنى الشرعي أخص، والمعاني اللغوية أعم.
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر حتى قبضه الله) يعني: حتى توفي، واعتكف أزواجه بعده، وهذا يدلنا على أن الاعتكاف سنة ومستحب، ولا يجب إلا بالنذر، فالإنسان إذا أوجبه على نفسه بنذر فإنه يلزمه ويجب عليه أن يفي بنذره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه).
فقول عائشة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى قبضه الله) يدل على أنه حكم محكم غير منسوخ؛ لأن قولها: (حتى قبضه الله) يعني: أنه مستمر عليه حتى مات صلى الله عليه وسلم، وقولها: (ثم اعتكف أزواجه من بعده) يدلنا على أن الاعتكاف باقٍ وأنه سنة، وأنه فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه، وكذلك فعل من بعده، وممن فعله أزواجه رضي الله تعالى عنهن، وفيه دليل على أن الاعتكاف إنما يكون في المساجد سواء للرجال أو للنساء، ويدل على اعتكاف النساء في المساجد إذا أمن عليهن من أي محذور بسبب المكوث في المسجد والبقاء فيه، ولكن ذلك يكون بإذن أزواجهن؛ لأن الاعتكاف تطوع ومستحب، فلا تفعله المرأة إلا بإذن زوجها، وتفعله حيث لا يكون هناك محذور، وحيث لا يترتب أو يخشى من ذلك مضرة عليها.
واعتكاف العشر الأواخر من رمضان فيه ليلة القدر، فالإنسان إذا كان معتكفاً العشر الأواخر فمعناه أن ذلك فيه تحر لها، وكون الإنسان ملازماً للمسجد يسأل الله ويرجوه ويتقرب إليه بالأعمال الصالحة في تلك الأيام والليالي التي فيها ليلة القدر -وهي ليلة خير من ألف شهر- فهي تعادل عبادة اثنين وثمانين سنة.(288/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عقيل].
هو عقيل بن خالد المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(288/4)
بيان أقل ما يكون به الاعتكاف
وأقل ما يكون به الاعتكاف فقد جاء عن بعض أهل العلم أنه قال: يقع الاعتكاف ولو لحظة، وأن الإنسان إذا دخل المسجد للصلاة فإن له أن ينوي الاعتكاف، لكن لا نعلم شيئاً يدل على هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، وما جاء عنه ما يدل على أن الإنسان إذا دخل المسجد ليصلي أنه ينوي الاعتكاف، والذي جاء وثبت في حديث عمر أنه قال: (نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك) فهذا يدل على أن الليلة يكون فيها الاعتكاف، يعني: يوم وليلة أو ليلة واحدة فقط؛ لأن الحديث جاء أنه نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أوف بنذرك)، فهذا هو الذي ورد محدداً ومبيناً والنبي صلى الله عليه وسلم قال: أوف بنذرك؛ لأنه اعتكاف.(288/5)
شرح حديث (أن النبي كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان فلم يعتكف عاماً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا ثابت عن أبي رافع عن أبي بن كعب رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فلم يعتكف عاماً، فلما كان في العام المقبل اعتكف عشرين ليلة)].
أورد أبو داود حديث أبي بن كعب رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فلم يعتكف عاماً -لأنه كان في سفر- فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين ليلة) يعني: لما كان العام المقبل اعتكف عشرين ليلة: عشر ليالٍ للسنة الحاضرة، وعشر ليالٍ للسنة الماضية، وهذا يدل على قضاء التطوع، وأن الإنسان إذا اعتاد شيئاً يحرص عليه، وإذا فاته فله أنه يقضيه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فعل شيئاً داوم عليه، وكان كما جاء في بعض الأحاديث أنه شغل عن ركعتين بعد الظهر، فقضاهما بعد العصر، ثم داوم على ذلك صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(288/6)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان فلم يعتكف عاماً)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي رافع].
هو أبو رافع هو نفيع الصائغ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بن كعب].
هو أبي بن كعب رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(288/7)
شرح حديث (كان رسول الله إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه)
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية ويعلى بن عبيد عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر، ثم دخل معتكفه قالت: وإنه أراد مرة أن يعتكف في العشر الأواخر من رمضان قالت: فأمر ببنائه فضرب، فلما رأيت ذلك أمرت ببنائي فضرب قالت: وأمر غيري من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ببنائه فضرب، فلما صلى الفجر نظر إلى الأبنية فقال: ما هذه؟ آلبر تردن؟ قالت: فأمر ببنائه فقوض، وأمر أزواجه بأبنيتهن فقوضت، ثم أخر الاعتكاف إلى العشر الأول يعني: من شوال)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل معتكفه بعد صلاة الفجر، يعني: يبدأ اعتكافه بعد صلاة الفجر، وأنه أمر ببنائه فنصب يعني: الخباء أو المكان الذي يعتكف فيه صلى الله عليه وسلم، فرأى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فأمرن بضرب الأخبية لهن، ولما صلى الفجر عليه الصلاة والسلام ورأى الأخبية قال: ما هذا؟ فعلم بأن نساءه ضربن تلك الأخبية فقال: (آلبر تردن؟)، خشي أن يكون هذا الذي قد حصل منهن إنما هو تنافس للقرب منه، وأن تكون تلك العبادة يدخلها شيء من الغيرة عليه صلى الله عليه وسلم، بحيث تكون كل واحدة قريبة منه، فيكون في ذلك تأثير على نية الاعتكاف، فقال عليه الصلاة والسلام: (آلبر تردن؟ ثم إنه أمر بخبائه فقوض)، يعني: رفع وأزيل، ثم أمر أزواجه بأخبيتهن فقوضت، واعتكف في العشر الأول من شوال، يعني: بعد يوم العيد؛ لأن يوم العيد كما هو معلوم فيه ذهاب للعيد وإياب، فالذي يبدو أن ذلك كان بعد العيد، وأنه اعتكف عشراً بعد العيد يعني: بدلاً من هذه العشر التي تركها من أجل ما رأى من زوجاته أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن.
ثم ما جاء في الحديث أنه كان يدخل معتكفه بعد الفجر، فمعلوم أن أول ليلة من ليالي العشر هي ليلة واحد وعشرين، والليلة تبدأ بغروب الشمس، فإذا غربت الشمس من يوم عشرين جاءت ليلة واحد وعشرين ويومها بعدها، وكما هو معلوم ليلة اليوم تسبقه، ولهذا إذا رؤي الهلال في أول يوم من رمضان فإن الناس يصلون التراويح قبل أن يصوموا؛ لأن تلك الليلة تكون من رمضان، وإذا رؤي الهلال لخروج رمضان فإنهم يتركون التراويح؛ لأن الليلة تكون ليلة العيد من شوال، وعلى هذا فالعشر الأواخر من رمضان اعتكافها يكون بغروب الشمس من يوم عشرين، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر في سنة من السنين بليلة القدر أنها ليلة واحد وعشرين، كما جاء في حديث أبي سعيد أنه رأى أنه يسجد في صبيحتها بماء وطين، فلما صلوا الفجر من صبيحة واحد وعشرين وكانوا في الصلاة نزل المطر فخر السقف، وجاء على مكان مصلاه صلى الله عليه وسلم، ثم لما انصرف وإذا على جبهته آثار الماء والطين صلى الله عليه وسلم، فعلم بأنها ليلة القدر، يعني: ليلة واحد وعشرين، وهو كان يعتكف من أجل أنه في العشر الأواخر يدرك ليلة القدر، ومعلوم أنه إذا كان دخول المعتكف بعد الفجر ذهبت ليلة واحد وعشرين التي هي أول الليالي؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: إن الاعتكاف يكون من عند غروب شمس يوم عشرين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل المحل المعد للاعتكاف إلا بعد الفجر، فيكون قولها: (دخل معتكفه) يعني: المكان الذي نصب له، ويكون ما قبل ذلك كان خارج المعتكف ولكنه في المسجد، ومعلوم أن المكث في المسجد سواء كان في نفس المعتكف أو في غيره كل ذلك يقال له: اعتكاف ما دام أنه منقطع للعبادة، ومنصرف عن الناس، وعلى هذا يكون ما جاء في هذا الحديث يفسر على اعتبار أن تواجده قبل طلوع الفجر من تلك الليلة إنما كان في المسجد، والذي جاء فيه إنما هو دخول المكان المعد للاعتكاف، فلا يخرج عن كونه معتكفاً لكونه كان في المسجد من أول الليل صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وتأخيره صلى الله عليه وسلم الاعتكاف إلى العشر الأول من شوال أداء؛ لأنه ما دخل في الاعتكاف، أو أنه قضاء؛ لأنه دخل في الاعتكاف وقطعه إذا كان الدخول للاعتكاف من الليل، فهو أمر بالتقويض بعد صلاة الفجر، فهو إما قضاء أو أداء فعله في تلك الليالي وترك ذلك خوفاً على أمهات المؤمنين من أن يكون حصل عندهن ما يؤثر في النية.
وكونه صام تلك الأيام في شوال فلا نعلم شيئاً يدل على أنه صامها، ومسألة أن الاعتكاف لا يكون إلا مع الصيام، هذا فيه خلاف بين أهل العلم.(288/8)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فإخراجه له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا أبو معاوية].
هو أبو معاوية محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ويعلى بن عبيد].
هو يعلى بن عبيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن سعيد].
يحيى بن سعيد الأنصاري المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرة].
هي عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية المدنية، وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
وقد مر ذكرها.(288/9)
شرح حديث (اعتكف عشرين من شوال) وتراجم رجال إسناده
[قال أبو داود: رواه ابن إسحاق والأوزاعي عن يحيى بن سعيد نحوه، ورواه مالك عن يحيى بن سعيد قال: (اعتكف عشرين من شوال)].
قوله: [رواه ابن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق بن يسار المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[والأوزاعي].
الأوزاعي هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي فقيه الشام ومحدثها، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن سعيد نحوه].
يحيى بن سعيد الذي مر ذكره وقوله: (نحوه) يعني: نحو ما تقدم.
[ورواه مالك عن يحيى بن سعيد قال: (اعتكف عشرين من شوال)].
يعني: قال غيره: عشراً وقال هو: اعتكف عشرين من شوال، وهذا يخالف ما جاء في الروايات التي أثبتت العشر الأول من شوال؛ لأن العشرين ضعف العشر، والروايات المتعددة جاءت في أنه اعتكف عشراً من شوال وليس عشرين.(288/10)
أين يكون الاعتكاف؟(288/11)
شرح حديث (أن النبي كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب أين يكون الاعتكاف؟ حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب عن يونس أن نافعاً أخبره عن ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان) قال نافع: وقد أراني عبد الله المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد].
أورد أبو داود باب أين يكون الاعتكاف؟ والاعتكاف يكون في المساجد ولا يكون في غيرها، لكن أي المساجد يكون فيها الاعتكاف؟ من العلماء من قال: إنه يعتكف في أي مسجد جامع يصلى فيه الجماعة، وإذا جاء يوم الجمعة يخرج إلى المسجد الذي يجمع فيه، ومنهم من قال: إنه يعتكف في مسجد فيه جمعة وجماعة، حتى لا يحتاج إلى أن يخرج إلى الجمعة، ومن العلماء من قال: إن الاعتكاف إنما يكون في المساجد الثلاثة التي هي المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، ومنهم من قال: إنه يكون في المسجدين فقط وهما: المسجد الحرام، والمسجد النبوي.
والذي يبدو أنه يكون في أي المساجد ما دام أنه مسجد يصلى فيه جماعة فإنه يعتكف فيه، وإذا كان الإنسان يحتاج إلى أن يعتكف في مسجد لا جمعة فيه فخروجه إلى الجمعة لا بأس به، ولا يؤثر، ولا مانع منه، وإن اعتكف في مسجد فيه جمعة وجماعة فهو الأولى، لكن لا يكون ذلك مقتصراً على المساجد الثلاثة ولا على مسجدين منها؛ لأن الله عز وجل قال: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] وهذا لفظ عام، ثم ما جاء في بعض الأحاديث أنه (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) يحمل على أن المقصود به: لا يكون الاعتكاف كاملاً إلا فيها، لا أنه لا يجوز أن يعتكف في غيرها.
قوله: [قال نافع: وقد أراني عبد الله المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد].
أي: المكان الذي كان يضرب فيه الخباء.(288/12)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
سليمان بن داود المهري ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن نافعاً أخبره].
نافع هو مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
ابن عمر هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: ابن عمر وابن عمرو وابن عباس وابن الزبير وهو أحد السبعة المعروفين أيضاً بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث دليل على أن المعتكف يتخذ مكاناً معيناً يكون نومه وصلاته وقراءته فيه، والحديث الذي مر: (فأمر بخبائه فضرب، وأمر أزواجه بأخبيتهن فضربت) يدل على هذا.(288/13)
شرح حديث (فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد عن أبي بكر عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف كل رمضان عشرة أيام) التي هي العشر الأواخر، ولما كان العام الذي قبض فيه -وهو رمضان الذي كان في العاشرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في ربيع الأول من سنة إحدى عشرة، فآخر رمضان مر عليه صلى الله عليه وسلم هو في السنة العاشرة- اعتكف عشرين يوماً من رمضان؛ العشر الأواخر والعشر الأوسط، وذلك فيه دلالة على أهمية الزيادة في العمل، وأيضاً كان جبريل يدارسه القرآن في كل رمضان مرة، وفي آخر رمضان دارسه القرآن مرتين، وهذا الذي جرى من اعتكافه عشرين ليلة، فيه تمكين من مدارسة جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم القرآن مرتين في آخر رمضان.(288/14)
تراجم رجال إسناد حديث (فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً)
قوله: [حدثنا هناد].
هو هناد بن السري أبو السري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي بكر].
هو أبو بكر بن عياش، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي حصين].
أبو حصين هو عثمان بن عاصم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
هو أبو صالح ذكوان السمان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأضاه.(288/15)
المعتكف يدخل البيت لحاجته(288/16)
شرح حديث عائشة (كان رسول الله إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب المعتكف يدخل البيت لحاجته.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان)].
أورد أبو داود باب المعتكف يدخل البيت لحاجته.
يعني: قضاء الحاجة؛ لأنه لا بد من الخروج من المسجد لقضاء الحاجة فكان يخرج من المسجد لقضاء الحاجة، والبيت بجوار المسجد، فكان يذهب لقضاء الحاجة ولا يذهب لغيرها، ولهذا لما احتاج إلى أن ترجل عائشة رأسه صلى الله عليه وسلم أدخل رأسه عليها، فكانت ترجله وجسمه في المسجد، فدل على أن المعتكف إنما يخرج للأمر الذي لا بد منه، كقضاء حاجته التي لا بد منها، أما الأمور الأخرى التي هي غير ذلك فإنه لا يخرج لأجلها، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم عندما يريد أن ترجل رأسه يدخل رأسه عليها وهي في الحجرة فترجله، فهذا فيه دليل على أن المعتكف له أن يغتسل وأن يتنظف، وله أن يرجل شعره، وكذلك ملامسة الحائض له عند الحاجة؛ لأنها كانت ترجله وهي حائض، ومن نذر ألا يدخل بيتاً فأدخل رأسه لم يحنث؛ لأن إدخال الرأس لا يعتبر دخولاً في البيت؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً في المسجد، وكان يخرج رأسه ولا يكون بذلك خارجاً من المسجد وداخلاً في البيت.(288/17)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة (كان رسول الله إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس، المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
ابن شهاب هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة بن الزبير عن عمرة].
عروة وعمرة وعائشة مر ذكرهم.(288/18)
شرح حديث (كان رسول الله إذا عتكف يدني إلي رأسه فأرجله) من طرق أخرى وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد وعبد الله بن مسلمة قالا: حدثنا الليث عن ابن شهاب عن عروة وعمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه].
أورد الحديث من طريق أخرى، وفيه أن ابن شهاب يروي عن عروة وعمرة مع بعض، وفي الطريق الأولى يروي عن عروة عن عمرة، ومعناه: في الأول يوجد روايتان في الإسناد، وأما هنا فيعتبرون زملاء في الإسناد وهما أخذا عن عائشة، فهذه الطريق فيها أن ابن شهاب روى عن الاثنين عن عروة بن الزبير وعن عمرة بنت عبد الرحمن معاً، وكل منهما يروي عن عائشة نحو ما تقدم.
[قال أبو داود وكذلك رواه يونس عن الزهري ولم يتابع أحد مالكاً على عروة عن عمرة، ورواه معمر وزياد بن سعد وغيرهما، عن الزهري عن عروة عن عائشة].
معناه: أن الذي تقدم عروة عن عمرة، ثم عروة وعمرة، ثم عروة عن عائشة أنه روي من طريق فيها عروة عن عمرة، وطريق فيها عروة وعمرة عن عائشة، وطريق فيها عروة عن عائشة، ولم يتابع أحد مالكاً في عروة.
قوله: [ولم يتابع أحد مالكاً].
أي: ولم يتابع أحد مالكاً في الرواية التي فيها عروة عن عمرة.
قوله: [رواه معمر وزياد بن سعد].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وزياد بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(288/19)
شرح حديث (كان رسول الله يكون معتكفاً في المسجد فيناولني رأسه من خلل الحجرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن حرب ومسدد قالا: حدثنا حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون معتكفاً في المسجد، فيناولني رأسه من خلل الحجرة فأغسل رأسه) وقال مسدد: (فأرجله وأنا حائض)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها في أنه كان معتكفاً في المسجد، وأنه يدخل رأسه وأنها ترجله وهي حائض وقد مر ذلك.
قوله: [(من خلل الحجرة)].
يعني: من فرجة في الحجرة، فالحجرة كانت ملاصقة للمسجد؛ والفرجة بين الحجرة والمسجد.(288/20)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله يكون معتكفاً في المسجد فيناولني رأسه من خلل الحجرة)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[قالا: حدثنا حماد بن زيد].
هو حماد بن زيد بن درهم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة].
هو هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه عن عائشة].
أبوه عروة وعائشة مر ذكرهما.(288/21)
شرح حديث صفية (كان رسول الله معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن محمد بن شبويه المروزي حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن علي بن حسين عن صفية قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً فحدثته ثم قمت، فانقلبت فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما إنها صفية بنت حيي قالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً أو قال: شراً)].
أورد أبو داود حديث صفية بنت حيي رضي الله تعالى عنها أم المؤمنين: (أنها زارت النبي صلى الله عليه وسلم في معتكفه ليلاً، وأنها حدثته، ولما أرادت الانصراف والانقلاب -وهو الرجوع- قام ليقلبها -يعني خرج معها ليرافقها في الذهاب إلى بيتها- ومر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قال: على رسلكما إنها صفية بنت حيي -يعني: زوجته- فقالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً أو شراً) فهذا فيه دليل على أن للمعتكف أن يزوره أهله في المسجد، ويحدثونه ويحدثهم، وأن للمعتكف أن يرافقهم في الخروج من المسجد لإيصالهم إلى البيت، وأنه لا بأس بذلك، ولا يؤثر على الاعتكاف.
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن هذه المرأة زوجته صفية، وأراد بذلك ألا يقع في قلب هذين الصحابيين شيء يكون سبباً في هلاكهما، يعني: من اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم، فبادر عليه الصلاة والسلام إلى أن يقول لهما ما قال، وقالا: سبحان الله! يعني: تعجباً؛ لأنهما ما وقع في نفوسهما شيء، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك خشية أن يحصل لهما شيء من ذلك.(288/22)
تراجم رجال إسناد حديث صفية (كان رسول الله معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً)
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن شبويه المروزي].
أحمد بن شبويه هو أحمد بن محمد بن ثابت المروزي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: أخبرنا معمر عن الزهري].
معمر والزهري مر ذكرهما.
[عن علي بن حسين].
هو علي بن حسين بن علي بن أبي طالب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن صفية].
هي صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها وأرضاها، أم المؤمنين، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(288/23)
شرح طريق أخرى لحديث صفية (كان رسول الله معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري بإسناده بهذا قالت: (حتى إذا كان عند باب المسجد الذي عند باب أم سلمة رضي الله عنها مر بهما رجلان)، وساقا معناه].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى، وأشار إلى المكان الذي حصل فيه مرور الرجلين، وأنه كان عند باب المسجد الذي عند باب أم سلمة.
قوله: [وساقا معناه] يعني: معنى ما تقدم في الرواية السابقة.(288/24)
تراجم رجال إسناد الطريق الأخرى لحديث صفية (كان رسول الله معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو اليمان].
هو أبو اليمان الحكم بن نافع، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا شعيب].
هو شعيب بن أبي حمزة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري مر ذكره.(288/25)
المعتكف يعود المريض(288/26)
شرح حديث (كان النبي يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو ولا يعرج)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب المعتكف يعود المريض.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي ومحمد بن عيسى قالا: حدثنا عبد السلام بن حرب أخبرنا الليث بن أبي سليم عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قال النفيلي: قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف، فيمر كما هو ولا يعرج يسأل عنه) وقال ابن عيسى: قالت: (إن كان النبي صلى الله عليه وسلم يعود المريض وهو معتكف)].
أورد أبو داود ترجمة: [باب المعتكف يعود المريض].
والمعتكف لا يخرج لعيادة المريض، ولكنه إذا خرج لحاجته أو لأمر لا بد منه ثم مر به فإنه يسأل عنه، لكن لا يقصد أن يعود المريض ولا يتبع الجنازة؛ لأنه إذا كان يعود المريض ويتبع الجنازة فكأنه غير معتكف، ولكن إذا كان المريض في طريقه فزاره من غير أن يذهب من أجله فلا بأس بذلك، أما كونه يذهب خصيصاً من أجل العيادة فهذا لم يثبت.
وهذا الحديث فيه ليث بن أبي سليم وهو لا يحتج به.
قوله: [(إن كان النبي صلى الله عليه وسلم يعود المريض وهو معتكف)].
يعني: إنه كان يعود المريض وهو معتكف.
وقوله: [(كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف، فيمر كما هو ولا يعرج يسأل عنه)].
يعني: يمر ويسأل عنه، ولكنه لا يعرج، ومعناه: أن مثبتة في اللفظين، إلا أن هذا فيه تنصيص على أنه من غير تعريج.
وقوله: [(إن كان)].
هي مخففة من الثقيلة، وأنه كان يمر ولا يعرج، ولكنه يسأل عنه حيث يمر بدون تعريج، فيكون متفقاً مع الرواية الثانية، ولكن فيه ليث بن أبي سليم، ولا يحتج بحديثه، فالحديث غير ثابت.(288/27)
تراجم رجال إسناد حديث (كان النبي يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو ولا يعرج)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[ومحمد بن عيسى].
هو محمد بن عيسى الطباع، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[قالا: حدثنا عبد السلام بن حرب].
عبد السلام بن حرب له مناكير، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا الليث بن أبي سليم].
الليث بن أبي سليم صدوق اختلط جداً فلم يتميز فترك، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن القاسم].
عبد الرحمن بن القاسم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة رضي الله عنها مر ذكرها.(288/28)
شرح حديث (السنة على المعتكف ألا يعود مريضاً)
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا وهب بن بقية أخبرنا خالد عن عبد الرحمن -يعني ابن إسحاق - عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: (السنة على المعتكف ألا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها.
قوله: [(السنة على المعتكف ألا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة) ألا يعود مريضاً قصداً، وأما إذا مر به وسأل عنه فهذا لا بأس به، وكذلك لا يشهد جنازة.
قوله: [(ولا يمس امرأة ولا يباشرها)].
يعني: لا يباشرها ولا يجامعها، وقد جاء في القرآن: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187].
فالمسيس يراد به الجماع، والمباشرة يراد بها التقاء البشرتين بتلذذ، وأما إذا كان حصل بدون ذلك فقد مر في حديث عائشة أنها كانت ترجل شعره صلى الله عليه وسلم، وتمسه، وكانت حائضاً.
قوله: [(ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه)].
يعني: كونه يخرج لقضاء حاجته فيقضيها ويتوضأ، ثم يرجع إلى المسجد؛ لأن هذا لا يكون إلا في خارج المسجد.
والطعام يؤتى به إليه ويأكله في المسجد ولا يكون من الحاجة.
قوله: [(ولا اعتكاف إلا بصوم)].
يعني: أن الاعتكاف يكون معه صوم، وأنه لا يكون بدون صوم، وهذا يقال إذا كان يحتمل فيه الرفع، وأن يكون ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا يكون الصيام مع الاعتكاف، وأن الاعتكاف لا يكون بصيام، ويحتمل أن يكون منها إفتاء بما تفهمه من الشرع، وعلى هذا يكون النظر فيما جاء عنها وجاء عن غيرها من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، والعلماء اختلفوا في هذا، فمنهم من قال باعتبار الصوم، وأنه لا يكون الاعتكاف إلا بصوم، ومنهم من قال: يكون بدون صوم، كما أنه يكون في ليلة من الليالي، والليل ليس فيه صيام، وقد سبق أن مر في حديث عائشة أن النبي اعتكف العشر الأول من شوال وليس فيه ذكر الصيام، وهذا لو كان مرفوعاً فالأمر واضح في ذلك، ولكنه محتمل؛ لأنه جاء من بعض الطرق أنه ليس فيه: (من السنة) وكلمة: (من السنة) تضاف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبدونها معناه يصير من كلامها واجتهادها رضي الله تعالى عنها وأرضاها، ولكن لا شك أن كون الإنسان إذا كان اعتكافه ليس خاصاً في الليل بأن يكون أكثر من ليلة فالأحوط له أن يكون بصيام دفعاً للاحتمال والاشتباه، ووجود شرط الصوم ما هناك دليل واضح يدل عليه إلا هذا الحديث، والحديث محتمل بأن يكون مرفوعاً وأن يكون غير مرفوع، ولكن قطع الشك باليقين، والأخذ بالاحتياط بأن الإنسان يصوم، لا شك أن هذا من باب: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).
قوله: [(ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع)].
يعني: في مسجد جامع، والجامع إنما أن يراد به الذي تقام فيه الجماعة أو المقصود به الجمعة والجماعة، وعلى كل فيمكن أن يعتكف الإنسان في أي مسجد تقام فيه الجماعة، وإذا جاءت الجمعة يذهب إليها، والذهاب إلى الجمعة لا يؤثر على اعتكافه.(288/29)
تراجم رجال إسناد حديث (السنة على المعتكف إلا يعود مريضاً)
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
هو وهب بن بقية الواسطي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[أخبرنا خالد].
هو خالد بن عبد الله الطحان الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن -يعني ابن إسحاق -].
عبد الرحمن بن إسحاق صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الزهري عن عروة عن عائشة].
الزهري وعروة وعائشة قد مر ذكرهم.
[قال أبو داود: غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه: قالت: السنة].
فمعنى هذا أنه يكون من كلامها.
[قال أبو داود: جعله قول عائشة].
إذا لم يذكر ذكر فيه: (السنة) يكون من قول عائشة.(288/30)
شرح حديث (أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوماً عند الكعبة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا أبو داود حدثنا عبد الله بن بديل عن عمرو بن دينار عن ابن عمر: (أن عمر رضي الله عنه جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوماً عند الكعبة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اعتكف وصم)].
هذا الحديث لا يطابق الترجمة؛ لأنه لا علاقة له بعيادة المريض، وإنما هو في النذر والوفاء بالنذر والاعتكاف يعني: إذا نذر اعتكافاً فإنه يأتي به، فليس فيه ما يطابق الترجمة التي عقدها أبو داود رحمه الله وجعل الحديث تحتها، فلا أدري ما وجهه هل جاء تبعاً أم أن فيه ترجمة سقطت؟ فهو يتعلق بالنذر أي: نذر الاعتكاف في حال الكفر، ثم بعد ذلك يكون الوفاء به في الإسلام المهم أنه لا يطابق الترجمة.
أورد أبو داود حديث عمر رضي الله عنه: (أنه نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلة أو يوماً في المسجد الحرام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اعتكف وصم) وفي هذا دليل على أن نذر القربة الذي يكون في الجاهلية يصح أن يفي الإنسان به بعدما يدخل في الإسلام، وقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب إلى ذلك، حيث أمره بأن يفي بنذره، وأما ما جاء في ذكر الصيام، وذكر اليوم أو الليلة فالذي ثبت في الصحيحين هو ذكر الليلة، ويحتمل أن تكون الليلة معها يوم، ومعلوم أنه أحياناً يذكر اليوم وتتبعه الليلة، وأحياناً تذكر الليلة ويتبعها اليوم، والذي هو ثابت ذكر الليلة، وأما ما جاء من ذكر أنه مأمور بالصيام لم يرد إلا في هذه الطريق التي هي ليست في الصحيحين، وإنما هي عند أبي داود وفيها عبد الله بن بديل، وفيه كلام.(288/31)
تراجم رجال إسناد حديث (أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوماً عند الكعبة)
قوله: [حدثنا أحمد بن إبراهيم].
هو أحمد بن إبراهيم الدورقي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا أبو داود].
أبو داود هو سليمان بن داود الطيالسي، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الله بن بديل].
عبد الله بن بديل صدوق يخطئ، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والنسائي.
[عن عمرو بن دينار].
هو عمرو بن دينار المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
ابن عمر قد مر ذكره.(288/32)
شرح حديث (أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوماً عند الكعبة) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن عمر بن محمد بن أبان بن صالح القرشي حدثنا عمرو بن محمد -يعني العنقري - عن عبد الله بن بديل بإسناده نحوه قال: (فبينما هو معتكف إذ كبر الناس فقال: ما هذا يا عبد الله؟! قال: سبي هوازن أعتقهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: وتلك الجارية فأرسلها معهم)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه أنه ذكر ما تقدم من ذكر الاعتكاف، وزاد فيه قوله: (فبينما هو معتكف إذ كبر الناس فقال: ما هذا يا عبد الله؟ قال: سبي هوازن أعتقهم النبي صلى الله عليه وسلم).
يعني: أنهم كبروا فرحاً، والتكبير يكون عند الفرح، وكان هذا يحصل عند الصحابة، وجاء في أحاديث قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة قال: فكبرنا) يعني: فرحاً وسروراً، وهذا يدل على أنه عندما يأتي شيء سار أنه يشرع التكبير، ولا يصلح التصفيق مثل ما يحصل في هذا الزمان عند كثير من الناس.
قوله: [(قال: وتلك الجارية فأرسلها معهم)].
يعني: وكانت عند عمر وهي منهم؛ لأنها من سبي هوازن، إذاً فتلحقهم في العتق.(288/33)
تراجم رجال إسناد حديث (أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوماً عند الكعبة) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا عبد الله بن عمر بن محمد بن أبان بن صالح القرشي].
وهو صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عمرو بن محمد -يعني العنقري -].
عمرو بن محمد العنقري ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن بديل بإسناده نحوه].
مر ذكره.(288/34)
ما جاء في اعتكاف المستحاضة(288/35)
شرح حديث (اعتكف مع رسول الله امرأة من أزواجه فكانت ترى الصفرة والحمرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المستحاضة تعتكف.
حدثنا محمد بن عيسى وقتيبة بن سعيد قالا: حدثنا يزيد عن خالد عن عكرمة عن عائشة قالت: (اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه، فكانت ترى الصفرة والحمرة، فربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي)].
أورد أبو داود باباً في المستحاضة تعتكف.
والمستحاضة هي: التي يخرج منها الدم بصفة دائمة، وهو غير الحيض؛ لأن الحيض يأتيها في أوقات معينة، فالمستحاضة عندما يأتيها الحيض تكون مدته معينة، فإذا جاءت المدة تمسك عن الصلاة والصيام، فإذا مضت مدته -وكان ذلك يعرف بلونه أو بمعرفة وقته أو أنها تقدر لها أياماً معلومة- فيكون الباقي استحاضة.
فأورد أبو داود حديث المرأة تعتكف وهي مستحاضة، والمستحاضة كما هو معلوم يكون معها الدم باستمرار، وذلك لا يمنع من صيامها، ولا من صلاتها، ولا من جماعها، ولا من جميع الأعمال التي تحتاج إلى الطاهرة؛ لأن هذا شيء لا علاقة لها به، فلا يعامل معاملة الحيض، فهي تصوم وتصلي، وتعتكف وتقرأ القرآن من المصحف، وكذلك يجامعها زوجها، وتفعل كل الأمور التي تكون من الطاهرات.
فأورد أبو داود حديث عائشة أن إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم كانت مستحاضة، وأنها كانت ترى الصفرة والحمرة، وأنها كانت تعتكف في المسجد، وأنهم كانوا يضعون الطست لها وهي تصلي، وقيل: إن هذه المرأة هي أم سلمة رضي الله عنها، ومثل المستحاضة مثل من به حدث دائم كالذي معه سلس البول، أو الذي يكون معه الريح التي تخرج باستمرار، فيتوضأ عند دخول الوقت ولا يؤثر ما يحصل له بعد ذلك؛ لأن هذا شيء خارج عن إرادته، والله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ويدل على اعتكاف المستحاضة وعلى دخولها المسجد والمكث فيه، ولكنها تعمل على عدم تلويث المسجد، وعدم تعريضه لأن يسقط عليه شيء من الدم.(288/36)
تراجم رجال إسناد حديث (اعتكف مع رسول الله امرأة من أزواجه فكانت ترى الصفرة والحمرة)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى وقتيبة بن سعيد قالا: حدثنا يزيد].
محمد بن عيسى وقتيبة بن سعيد مر ذكرهما، ويزيد هو ابن زريع، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد].
هو خالد بن مهران الحذاء، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقد مر ذكرها.(288/37)
الجمع بين وصف صفوان بن المعطل في حادثة الإفك بأنه لا يقرب النساء وبين منعه لامرأته من صيام النافلة
مر ذكر صفوان بن المعطل في باب المرأة تصوم بغير إذن زوجها، وقلنا: هل هو معطِّل أو معطَّل؟ وقد رأيت الحافظ ابن حجر في فتح الباري في شرح حديث الإفك في تفسير سورة النور من صحيح البخاري قال: إنه بفتح الطاء المشددة فهو (معطَّل) وليس (معطِّل)، وسبق أن مر في الحديث أنه كان شديد الشهوة حتى كان يفطر امرأته ويمنعها من تطويل الصلاة؛ لأنه يريد أن يستمتع بها، وقد جاء في حديث الإفك أنه ما كشف عن كنف امرأة قط، وهذا محمول على أنه قبل أن يتزوج، وفي القصة أنه أدرك عائشة بعد أن ذهبوا عنها، وأتى بها وأناخ البعير، وأركبها عليه، وجعل يقوده حتى وصل إليهم، وبعد ذلك حصل ما حصل من الكلام في الإفك، والرسول صلى الله عليه وسلم تأثر وتألم لما حصل، وكان لا يعلم الحقيقة والواقع، وكان يأتي إليها ويقول: (يا عائشة إن كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله واستغفري) ولو كان يعلم الغيب صلى الله عليه وسلم لعرف ذلك من مجرد ما يحصل، ولا يحتاج إلى أن يقول: إن كنت أذنبت بذنب فتوبي إلى الله واستغفري، فهذا من جملة الأدلة الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب على الإطلاق، وأنه لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله عز وجل إياه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وفي قوله: إنه ما كشف عن كنف امرأة قط.
هذا محمول على أنه ما كان قد تزوج، ثم إنه تزوج فيما بعد.(288/38)
الأسئلة(288/39)
حكم اعتكاف المرأة في مسجد بيتها
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تعتكف في بيتها أو في مسجد بيتها؟
الجواب
لا نعلم دليلاً يدل على هذا، وبعض أهل العلم قال به، لكن الاعتكاف معروف أنه في المساجد، والنساء كن يعتكفن في المساجد مع رسول الله في مسجده.(288/40)
شرح سنن أبي داود [289]
شرع الله تعالى جهاد الكفار وقتالهم لنصرة الدين، وأوجب على المسلمين الهجرة قبل فتح مكة للحاق بمحمد صلى الله عليه وسلم في المدينة ونصرته على عدوه، فلما أعز الله الإسلام وفتح مكة لنبيه عليه الصلاة والسلام نسخ وجوب الهجرة، وللمرء بعدها أن يعمل ولو من وراء البحار، فإن الله لا يضيع عمل عامل.(289/1)
ما جاء في الهجرة وسكنى البدو(289/2)
شرح حديث أبي سعيد في الهجرة وسكنى البدو
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الجهاد.
باب ما جاء في الهجرة وسكنى البدو.
حدثنا مؤمل بن الفضل، حدثنا الوليد -يعني ابن مسلم - عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال: ويحك! إن شأن الهجرة شديد، فهل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فهل تؤدي صدقتها؟ قال: نعم، قال: فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئاً)].
الجهاد: مأخوذ في اللغة من الجهد والمشقة، وذلك لأن فيه مشقة احتمال ذهاب النفس، وذهاب المال، فإن لم يحصل ذهاب فيحتمل حصول نقص في الخلقة، بأن يحصل له عيب بسبب الجهاد في سبيل الله عز وجل.
والشاعر يقول: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال أي: وليس كل الناس يصبرون على القتل، وذلك خشية الموت، ولا على البذل والإعطاء، وذلك خشية الفقر.
وفي الشرع: هو بذل الجهد في قتال العدو، ويكون فرض عين ويكون فرض كفاية، فيكون فرض عين حيث يختار من أهل البلاد أعداد يوجهون للغزو والجهاد في سبيل الله، وكذلك يكون فرض عين إذا استنفر أهل البلد أو داهمهم العدو.
وأما إذا لم يكن هناك ما يقتضي أن يكون فرض عين فإنه يكون فرض كفاية، بمعنى أنه يختار من الناس أناس أو جماعة من بعض البلاد دون بعضها ليقوموا بالجهاد في سبيل الله، ويذهبوا إلى بلاد الكفار يدعونهم إلى الدخول في الإسلام، أو أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وقد أورد أبو داود رحمه الله هذا الباب: باب ما جاء في الهجرة وسكنى البدو.
فالهجرة: هي الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة، وهاجر أصحابه معه، وصارت المدينة فيها المهاجرون الذين جاءوا إلى المدينة من مكة ومن غيرها لصحبة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ونصرته، والأنصار الذين استقبلوه وآووه وأيدوه ونصروه، فكان المهاجرون أفضل من الأنصار؛ لأنهم جمعوا بين الهجرة والنصرة، وأما الأنصار فكانت عندهم النصرة فقط، والله تعالى وصف المهاجرين بالهجرة والنصرة بقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8].
أورد المصنف حديث أبي سعيد الخدري: (أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن الهجرة، فقال: ويحك، إن شأن الهجرة شديد) (ويحك) كلمة تقال لمن وقع في شيء يشفق عليه منه وليس مذموماً، بخلاف (ويلك) فإنها تقال لإنسان وقع في محذور، وهذا الأعرابي لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجرة ما أمره بأن يبقى ولكنه سأله: (هل لك من إبل؟ قال: نعم.
قال: هل تؤدي صدقتها قال: نعم، قال: فاعمل من رواء البحار) يعني: اعمل الأعمال الصالحة وكن مع إبلك من وراء البحار [(ولن يترك الله من عملك شيئاً)] أي: لن ينقصك من عملك شيئاً.
قوله: [(من وراء البحار)] يعني: من وراء المدن والقرى؛ لأن البحار يراد بها المدن والقرى، والبحرة هي البلدة أو القرية.
قوله: [(وكن مع إبلك)] لعل النبي صلى الله عليه وسلم خشي عليه ألا يستمر في هجرته، وأن يقطعها لاسيما وعنده إبل يكون متعلقاً بها، فقد يحصل له رجوع عن هجرته ويحصل له ترك لهجرته، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشده إلى أن يبقى مع إبله، وأن يعبد الله عز وجل، ولا ينقصه الله عز وجل من عمله شيئاً، وأما إذا كان الإنسان ليس عنده ما يشغله، وهو في البلد الذي هو فيه لا يستطيع أن يؤدي شعائر دينه، فإن عليه أن ينتقل، وأما إذا كان بقاؤه بالبلد الذي فيه كفار فيه مصلحة وفيه فائدة من ناحية أنه يدعو إلى الله عز وجل، وهو متمكن من دينه ويقوم بشعائر دينه، وليس عليه محذور في ذلك، فقد يكون من الأصلح والأوفق له أن يبقى لهذا الغرض ولهذه المهمة العظيمة، وإذا لم يستطع القيام بشعائر دينه، فإن عليه أن ينتقل من ذلك البلد إلى بلد يستطيع أن يقوم فيه بشعائر دينه.(289/3)
تراجم رجال إسناد حديث أبي سعيد في الهجرة وسكنى البدو
قوله: [حدثنا مؤمل بن الفضل].
مؤمل بن الفضل صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا الوليد -يعني ابن مسلم -].
هو الوليد بن مسلم الدمشقي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وهو فقيه الشام ومحدثها، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن يزيد].
هو عطاء بن يزيد الليثي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد الخدري].
هو سعد بن مالك بن سنان، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وافتتح أبو داود رحمه الله كتاب الجهاد بالهجرة؛ لأن الهجرة هي من أجل النصرة، ومن أجل الجهاد في سبيل الله، وكان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يأتون من مكة ومن غير مكة مهاجرين إلى المدينة لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم والجهاد معه.(289/4)
شرح حديث عائشة في البداوة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة قالا: حدثنا شريك، عن المقدام بن شريح، عن أبيه قال: (سألت عائشة رضي الله عنها عن البداوة؟ فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله سلم يبدو إلى هذه التلاع، وإنه أراد البداوة مرة فأرسل إلي ناقة محرمة من إبل الصدقة، فقال لي: يا عائشة! ارفقي؛ فإن الرفق لم يكن في شيء قط إلا زانه، ولا نزع من شيء قط إلا شانه)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبدو، والبداوة: هي الذهاب إلى البادية، وليس المقصود سكنى البادية.
قوله: [(إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبدو إلى هذه التلاع)].
أي: يظهر ويذهب إلى تلك التلاع، والتلاع: هي الأماكن التي ينحدر فيها من علو إلى سفل.
وكون الإنسان يذهب للبادية إنما يكون في بعض الأحيان، وليس لسكنى البادية، ومعلوم أن الرسل الذين أرسلهم الله عز وجل كلهم من الحاضرة وليسوا من البادية، وكذلك هم من الرجال وليسوا من النساء، كما قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109].
((رِجَالًا)) أي: ليسوا نساءً، ((مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)) أي: ليسوا من أهل البادية، والذهاب إلى البادية في بعض الأحيان لا يخرج الإنسان من كونه حضرياً إلى كونه بدوياً، وأئمة اللغة الذين جمعوها كانوا يذهبون إلى البادية ويبقون الأشهر يدونون اللغة ويعرفون الكلام، ولم يكونوا بذلك بدواً، وكذلك ما ذكر الله عز وجل عن يوسف وإخوته: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100]، ليس معنى ذلك: أنهم من سكان البادية، وإنما ذلك مثل ما جاء في حق نبينا صلى الله عليه وسلم من أنه كان يذهب للبادية، وهم كذلك كانوا يذهبون.
وعلى هذا فقول الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109] لا يعترض عليه بما جاء عن يعقوب وأبنائه أنهم جاءوا من البادية.
قوله: [(وأنه أراد البداوة)] أي: أن يذهب إلى البادية.
قوله: [(فأرسل إلي ناقةً محرمة من إبل الصدقة)] المحرمة: هي الناقة التي فيها صعوبة وليست ذلولاً؛ ولهذا يقولون: فلان يركب الصعب والذلول، يضربون به المثل في تحمل المشاق.
وقولها: (أرسل إلي ناقةً محرمة)، لا أدري ما الوجه في إرسالها، هل هو لحلبها، أو لغير ذلك؟! وأرشدها صلى الله عليه وسلم إلى الرفق مطلقاً، ولكن أتى به هنا إشارة إلى الرفق بها، وأنها وإن كانت صعبة فإنها ترفق بها ولا تقسو عليها.
قوله: [(إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)]، يدلنا على فضل الرفق، وعلى أن الرفق محمود وأن ضده مذموم.(289/5)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة في البداوة
قوله: [حدثنا أبو بكر].
هو أبو بكر بن أبي شيبة، وهو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، أخو عثمان، وعثمان أكثر عنه أبو داود، وأما أبو بكر فذكره قليل عند أبي داود، ومسلم أكثر عنه ولم يرو مسلم عن رجل كما روى عن أبي بكر بن أبي شيبة، فإنه روى عنه أزيد من ألف وخمسمائة حديث، فهو أكثر المشايخ الذين روى عنهم مسلم في صحيحه، وينقل الحافظ ابن حجر في آخر بعض التراجم من تهذيب التهذيب من كتاب يقال له الزهرة، يقول: إنه روى البخاري له كذا وروى له مسلم كذا، وعندما جاء إلى ذكر ابن أبي شيبة ذكر في ترجمته أن البخاري روى عنه ثلاثين حديثاً، وأن مسلماً روى عنه ألفاً وخمسمائة وكذا حديث، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[وعثمان].
هو عثمان بن أبي شيبة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وإلا النسائي فإنه إنما أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا شريك].
هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي، وهو صدوق ساء حفظه لما ولي القضاء، ويخطئ كثيراً، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
وشريك إذا جاء في مثل هذه الطبقة وهي طبقة شيوخ شيوخ أبي داود، فالمراد به شريك القاضي هذا، وأما شريك بن عبد الله بن أبي نمر فهو من طبقة التابعين، يروي عن الصحابة.
[عن المقدام بن شريح].
وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو ثقة، أخرج له كذلك البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[قال: سألت عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(289/6)
الهجرة هل انقطعت؟(289/7)
شرح حديث معاوية في عدم انقطاع الهجرة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الهجرة هل انقطعت؟ حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي، أخبرنا عيسى عن حريز بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عوف عن أبي هند عن معاوية رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله سلم يقول: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)].
أورد أبو داود [باباً في الهجرة هل انقطعت؟] وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الهجرة من مكة إلى المدينة انتهت بالفتح؛ لأنه بفتح مكة صارت دار إسلام، وقبل ذلك كانت دار كفر، وكان الصحابة يهاجرون منها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد صلح الحديبية حصل الاتفاق الذي كان من ضمن ما شرطه الكفار على النبي صلى الله عليه وسلم أن من جاء من الكفار إلى المسلمين مسلماً فإنه يرد عليهم، وأما من جاء من المسلمين إلى الكفار مرتداً فإنه لا يرد، فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ومنهم عمر وسهل بن حنيف تألموا وتأثروا من هذا الشرط، وكانوا يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم يخبرهم بأنه رضي بهذا، فسكتوا وهم متألمون ومتأثرون، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ كان الذين يسلمون ويهربون من الكفار لا يقبلهم الرسول صلى الله عليه وسلم بناءً على هذا الشرط، وهم لا يريدون أن يرجعوا إلى الكفار، فاجتمعوا وصاروا على ساحل البحر، وكلما جاءت عير لقريش اعترضوها، حتى ساء ذلك قريشاً، فرغبوا في أن يتخلصوا من هذا الشرط، فعند ذلك طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبلهم، فكان في ذلك مصلحة، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم عندما يأتي شيء قد يكون فيه مشقة على النفس ولا تقبله النفس، يقول بعضهم: يا أيها الناس! اتهموا الرأي في الدين، وقد قال ذلك سهل بن حنيف في صفين لما أراد أهل الشام التحكيم، حيث كان الذين مع علي رضي عنه ومنهم سهل بن حنيف يرون أن يوقف القتال، وأن يصير الناس إلى التحكيم، فكان سهل يقول للذين يريدون أن يواصل القتال: يا أيها الناس اتهموا الرأي في الدين، ويذكر قصة صلح الحديبية وما حصل فيها، وأنهم كانوا رأوا شيئاً فكانت المصلحة بخلافه.
فالهجرة من مكة انتهت؛ ولهذا جاء في الحديث: (لا هجرة بعد الفتح) أي لا هجرة من مكة إلى المدينة بعد أن فتحت مكة، وصارت دار إسلام لكن بقي الجهاد والنية، وأنه إذا حصل الاستنفار من المسلمين فإنهم ينفرون للجهاد في سبيل الله.
وأورد أبو داود حديث معاوية رضي الله عنه: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها) يعني: في آخر الزمان، ومعنى هذا: أن الهجرة من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين باقية لا تنتهي، وإنما الذي انتهى الهجرة من مكة إلى المدينة؛ لأن مكة صارت دار إسلام، فالحديث يدل على عدم انقطاع الهجرة، وأما الحديث الذي سيأتي (لا هجرة بعد الفتح) فالمقصود بذلك: الهجرة المتحتمة لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما ما عدا ذلك فإن الهجرة مستمرة ولم تنقطع.(289/8)
تراجم رجال إسناد حديث معاوية في عدم انقطاع الهجرة
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي].
إبراهيم بن موسى الرازي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا عيسى].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حريز بن عثمان].
حريز بن عثمان ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن أبي عوف].
عبد الرحمن بن أبي عوف ثقة، ويقال أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبي هند].
وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن معاوية].
هو معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، أمير المؤمنين وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(289/9)
شرح حديث ابن عباس في انقطاع الهجرة بعد الفتح
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فتح مكة: لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا)].
قال عليه الصلاة والسلام يوم الفتح: (لا هجرة) -يعني: بعد الفتح- (ولكن جهاد ونية) وكون الإنسان ينتقل من بلده إنما ينتقل للجهاد في سبيل الله، ويكون عنده نية الجهاد في سبيل الله إن طلب منه، وإن لم يطلب منه فإنه يكون على استعداد، وإذا استنفر الجميع ينفرون، حيث يتعين الجهاد ويكون فرض عين عليهم مثلما حصل في غزوة تبوك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم استنفر الناس، ولم يبق إلا المنافقون وأصحاب الأعذار، وإلا الثلاثة الذين خلفوا وتاب الله عليهم، والذين ذكر الله قصتهم في سورة التوبة وهم كعب بن مالك وصاحباه رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين.
قوله: [(وإذا استنفرتم فانفروا)] الرسول صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى القتال وأخبرهم بوجهته، وأنه سيذهب لغزو الروم، وكان الصيف شديداً والظهر قليلاً، وكان إذا أراد غزوة ورى بغيرها، وفي هذه الغزوة أعلن عنها واستنفر الناس، ومن تأخر وفقد وهو ليس من أهل الأعذار سئل عنه، ومنهم كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه.(289/10)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في انقطاع الهجرة بعد الفتح
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن المعتمر الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجاهد].
هو مجاهد بن جبر المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن طاوس].
هو طاوس بن كيسان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(289/11)
شرح حديث: (والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن إسماعيل بن أبي خالد حدثنا عامر قال: أتى رجل عبد الله بن عمرو وعنده القوم حتى جلس عنده، فقال: أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أنه جاءه رجل وسأله عن شيء سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) أي: المسلم الحق والمسلم الكامل.
والمهاجر الحق من هجر ما نهى الله عنه؛ لأن من هجر ما نهى الله عنه وجاهد نفسه يستطيع أن يجاهد الكفار، ويقاتل في سبيل الله؛ لأنه جاهد نفسه، وطوعها لله عز وجل.
والمسلم هو الذي سلم المسلمون من لسانه ويده، فلم يصل إليهم أذاه، لا من يد ولا من لسان، وذكر اللسان والمقصود به التكلم في الناس والوقوع في أعراضهم، وقد عبر باللسان ولم يعبر بالقول، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: إن التعبير باللسان دون التعبير بالقول من فوائده أن الإنسان يمكن أن يؤذي بلسانه بدون قول، كأن يخرجه ويستهزئ.
وكذلك كلمة: (يده) يفيد عمومها أن الإنسان قد يموت وتبقى آثار يده بالكتابة، من كونه يكتب سوءاً، ويكتب أموراً منكرة، ويكتب ضلالاً، ويحرر بيده أمراً باطلاً، ثم يبقى ذلك الكتاب فيتضرر منه الناس، فهذا يكون من ضرر اليد، ويمكن أن يكون الضرر في حياته بالضرب وبالبطش وغير ذلك، ويمكن أن يكون بالكتابة، ثم تبقى الكتابة بعده، ويتضرر الناس بما خطته يداه؛ ولهذا يقول الشاعر: كتبت وقد أيقنت يوم كتابتي بأن يدي تفنى ويبقى كتابها فإن عملت خيراً ستجزى بمثله وإن عملت شراً علي حسابها فاليد آثارها تكون في الحياة وتكون بعد الممات.
والمهاجر حقاً من هجر ما نهى الله عنه، والذي يهجر ما نهى الله عنه ويستقيم على طاعة الله ويكون قوي الإيمان، هو الذي يكون له النكاية في الكفار، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما غزوا الكفار وكان عددهم قليلاً، وعدتهم قليلة، وكان الكفار أكثر منهم عدداً، وكانوا أقوى منهم عُدَداً، ومع ذلك كان الكفار يشخونهم؛ لأن عندهم قوة الإيمان؛ ولأنهم هجروا ما نهى الله عنه، وصدقوا الله عز وجل في إيمانهم وفي يقينهم وفي تقربهم إلى الله عز وجل، فخافهم الكفار، وحيث كان الناس في هذا الزمان بالعكس، فهم كثرة كاثرة، ولكنهم غثاء كغثاء السيل، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان شأنهم أنهم يخافون من الكفار والكفار لا يخافون منهم.(289/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
يحيى هو ابن سعيد القطان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسماعيل بن أبي خالد].
إسماعيل بن أبي خالد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عامر].
هو عامر هو ابن شراحيل الشعبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عبد الله بن عمرو].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(289/13)
ما جاء في سكنى الشام(289/14)
شرح حديث عبد الله بن عمرو في سكنى الشام
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في سكنى الشام.
حدثنا عبيد الله بن عمر حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن عمرو أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم تقذرهم نفس الله، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير)].
أورد أبو داود باباً في سكنى الشام فذكر شيئاً مما ورد في سكنى الشام، وأن في ذلك فضلاً، وقد ورد فيه أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الشام في آخر الزمان يحشر الناس إليها، وينزل عيسى بن مريم هناك، ويكون المهدي الذي يخرج في آخر الزمان هناك، ويصلي خلفه عيسى بن مريم في بيت المقدس، وأن عيسى بن مريم يدرك الدجال بباب لد فيقتله، ويريهم دمه في حربته صلى الله عليه وسلم، وكذلك تأتي يأجوج ومأجوج إلى هناك، ويهلكهم الله عز وجل، فورد في الشام أحاديث منها ما أورده المصنف هنا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: (ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم) الذي هو بلاد الشام.
قوله: [(ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم)]، يعني: في آخر الزمان.
قوله: (تقذرهم نفس الله) أي: أن الله تعالى يكرههم، قالوا: المراد بالنفس هنا الذات، ومعلوم أن النفس جاءت مضافة إلى الله في القرآن، وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتأتي يراد بها الذات، والمقصود بذلك يقذرهم الله، والحديث فيه كلام من جهة شهر بن حوشب الذي هو أحد الرواة، والألباني ضعفه هنا، ولكنه حسنه في بعض المواضع لبعض الشواهد.(289/15)
تراجم رجال إسناد حديث عبد الله بن عمرو في سكنى الشام
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر].
هو عبيد الله بن عمر القواريري، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا معاذ بن هشام].
هو معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، وهو صدوق ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبي].
أبوه هو هشام بن أبي عبد الله، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شهر بن حوشب].
كثير الإرسال والأوهام، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عمرو].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد مر ذكره.
والحديث فيه قتادة، وروايته بالعنعنة، وفيه شهر بن حوشب الذي هو كثير الأوهام.(289/16)
شرح حديث ابن حوالة في فضل الشام
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حيوة بن شريح الحضرمي حدثنا بقية قال: حدثني بحير عن خالد -يعني ابن معدان - عن أبي قتيلة عن ابن حوالة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيصير الأمر إلى أن تكونوا جنودا مجندة، جند بالشام، وجند باليمن، وجند بالعراق، قال ابن حوالة: خر لي يا رسول الله إن أدركت ذلك، فقال: عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده، فأما إن أبيتم فعليكم بيمنكم واسقوا من غدركم، فإن الله توكل لي بالشام وأهله)].
أورد المصنف هذا الحديث عن عبد الله بن حوالة رضي الله عنه، وهو في فضل الشام قال: (سيصير الأمر إلى أن تكونوا جنوداً مجندة).
قوله: [(واسقوا من غدركم)].
الغدر: جمع غدير، وهو الذي يبقى بعد ذهاب السيل، وبعد انقطاع المطر، والناس يأتون إليها ويشربون منها.
قوله: [(فإن الله توكل لي بالشام وأهله)].
يعني: أنه وعده بأن يكلأهم ويحفظهم.(289/17)
تراجم رجال إسناد حديث ابن حوالة في فضل الشام
قوله: [حدثنا حيوة بن شريح الحضرمي].
حيوة بن شريح الحضرمي ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا بقية].
هو بقية بن الوليد، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني بحير].
هو بحير بن سعد، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن خالد -يعني ابن معدان -].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قتيلة].
وهو صحابي أخرج له أبو داود.
[عن ابن حوالة].
وهو صحابي أخرج له أبو داود.(289/18)
شرح سنن أبي داود [290]
الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام؛ لما فيه من إظهار قوة المسلمين وغلبتهم على عدوهم، ونشر دين الله في أرجاء المعمورة، وقد أراد الله لهذه الفريضة العظيمة أن تستمر ما امتدت الحياة حتى يقاتل آخر هذه الأمة المسيح الدجال في آخر الزمان.(290/1)
ما جاء في دوام الجهاد(290/2)
شرح حديث الطائفة المنصورة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في دوام الجهاد.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن قتادة عن مطرف عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال)].
أورد أبو داود باب دوام الجهاد، وأن الجهاد مستمر لا ينقطع، وأنه باق ما بقي الحق والباطل، وما بقي المؤمنون والكفار، ولكنه في بعض الأزمان يعظم ويكثر أثره، وفي بعض الأزمان يضعف ويقل، ولكنه باق وسيستمر إلى نهاية الدنيا، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والمغنم) وجاء أحاديث كثيرة في ذلك.
وأورد أبو داود حديث عمران بن حصين قال: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم) الظهور هو الغلبة، وهذا يدل على أن الجهاد لا ينقطع، وأنه باق، وأن آخر هذه الأمة يقاتل الدجال، ولكن في بعض الأزمان -مثل هذا الزمان وأزمان طويلة- لا تجد المسلمين يذهبون من بلادهم ليقاتلوا الكفار، وليدعوهم إلى الدخول في الإسلام، وليأخذوا منهم الجزية، وإنما الجهاد في هذا الزمان دفاع عن النفس، وذلك أنه إذا اعتدى الكفار على المسلمين فإن المسلمين يدافعون عن أنفسهم، هذا هو الجهاد الذي يمكن أن يقال له جهاد في هذا الزمان، ثم كل على حسب نيته، فمن الناس من يجاهد في سبيل الله وهو محتسب، وفيهم من لا تكون عنده هذه النية، وإنما عنده أنه يقاتل حمية وعصبية، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه سئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليرى مكانه؛ أي ذلك في سبيل الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ولكن من قاتل دون نفسه، ومن قاتل دون ماله، فلا شك أن هذا من الجهاد في سبيل الله.(290/3)
تراجم رجال إسناد حديث الطائفة المنصورة
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وحماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن قتادة عن مطرف].
قتادة بن دعامة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمران بن حصين].
عمران بن حصين رضي الله عنه، أبو نجيد، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(290/4)
ما جاء في ثواب الجهاد(290/5)
شرح حديث: (أي المؤمنين أكمل إيماناً؟ قال: رجل يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ثواب الجهاد.
حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا سليمان بن كثير حدثنا الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد: (عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل: أي المؤمنين أكمل إيماناً؟ قال: رجل يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله، ورجل يعبد الله في شعب من الشعاب قد كفى الناس شره)].
أورد أبو داود باباً في ثواب الجهاد، يعني: أجره وثوابه عند الله عز وجل، فأورد حديث أبي سعيد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي المؤمنين أكمل إيماناً؟ فقال: رجل يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله)، فهذا يدلنا على فضل الجهاد؛ لأن صاحبه وصف بأنه أكمل المؤمنين إيماناً.
والجهاد يكون بالنفس والمال، ويكون بالنية، ويكون باللسان، ويكون بالقلم، كل ذلك يدخل تحت الجهاد في سبيل الله، ويكون أيضاً بمجاهدة النفس، وجميع هذه الأمور إنما هي تابعة لجهاد النفس؛ لأن جهاد النفس إذا وجد وجدت معه تلك الأشياء الأخرى وأثرت وأثمرت، وأما إذا كانت النفس لم تجاهد بل كانت واقعة في المعاصي، فإن فاقد الشيء لا يعطيه كما يقولون، ولكن من جاهد نفسه هو الذي يؤثر ويفيد، سواء في جهاده للكفار، أو في دعوته إلى الله عز وجل، أو في كتابته في الحق والدعوة إليه والدلالة عليه، أو في النية إذا كان عاجزاً وغير مستطيع، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في غزوة تبوك: (إن بالمدينة لأقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم؛ حبسهم العذر) يعني: أنهم جاهدوا بنياتهم، فهم بقلوبهم وليسوا بأجسامهم.
وقد كان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين لا يجدون ما يتمكنون به من الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتون إليه ويطلبون منه أن يحملهم، ثم الرسول صلى الله عليه وسلم يعتذر بأنه لا يجد ما يحملهم عليه، فيرجعون وهم يبكون؛ لأنهم ما تمكنوا من الجهاد في سبيل الله، وذلك بسبب فقرهم وقلة ذات يدهم، فهم وإن تخلفوا إلا أنهم مع المسلمين في الجهاد في سبيل الله بالنية.
وكثيراً ما يأتي في القرآن ذكر الجهاد بالنفس والمال، ويقدم ذكر الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، وذلك لأن الجهاد بالمال من أسباب الجهاد بالنفس؛ ففيه بذل الأموال من أجل السلاح ومن أجل المركوب وما إلى ذلك، وعثمان بن عفان رضي الله عنه في غزوة تبوك جهز ثلاثمائة بعير عليها أقتابها وأحمالها في سبيل الله رضي الله عنه وأرضاه، فالمال يكون فيه تمكين لأصحاب العذر الذين لا يقدرون على الجهاد أن يجدوا ظهراً يركبونه ويتمكنون من الجهاد، وكذلك الطعام والزاد وما إلى ذلك من حاجات المجاهدين في سبيل الله، وقد ذكر ابن القيم أن كل ما في القرآن من ذكر الجهاد بالنفس والمال فيه تقديم الأموال على الجهاد بالنفس إلا في آية واحدة، وهي: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] فقدم الأنفس على الأموال، وفي غير هذه الآية يأتي تقديم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس.
قوله: [(ورجل يعبد الله في شعب من الشعاب قد كفى الناس شره)].
الشعب هو: الفلاة تكون بين الجبلين، وهذه إشارة إلى العزلة، ولكن العزلة إنما تكون عند كثرة الفساد وعدم الفائدة من وراء الخلطة، أما إذا كان يترتب على الخلطة إصلاح وإفادة، فلا شك أنها خير من العزلة.(290/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (أي المؤمنين أكمل إيماناً؟ قال: رجل يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله)
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
هو هشام بن عبد الملك الطيالسي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سليمان بن كثير].
لا بأس به في غير الزهري، بمعنى أنه صدوق في غير الزهري، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الزهري].
مر ذكره.
[عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد].
قد مر ذكرهما.(290/7)
ما جاء في النهي عن السياحة(290/8)
شرح حديث: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب النهي عن السياحة.
حدثنا محمد بن عثمان التنوخي أبو الجماهر حدثنا الهيثم بن حميد أخبرني العلاء بن الحارث عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! ائذن لي في السياحة، قال النبي صلى الله عليه وآله سلم: إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في النهي عن السياحة]، والمقصود بالسياحة ترك البلاد، والتجوال في الأرض، وكون الإنسان يسيح فيها ويترك الملذات، هذا هو المقصود بالسياحة الذي عقد المصنف الترجمة له، وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ائذن لي في السياحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله عز وجل).
يعني: كونهم يخرجون من أوطانهم للجهاد، ولقتال الأعداء وإدخال الناس في دين الله عز وجل، ونشر الحق والهدى، هذه هي السياحة التي شرعها الله لهذه الأمة، وأما غير ذلك كأن يترك الإنسان البلاد وقد يكون فيها خير كثير من حيث عموم النفع، فيتجول في الأرض من غير أن يترتب على ذلك فائدة، فلا شك أن بقاءه في البلاد وحصول الإفادة منه، وأن يستفيد من الناس مع الجمعة والجماعة ويفيد علماً ويفيد خيراً أولى من كونه يسيح في الأرض.(290/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى)
قوله: [حدثنا محمد بن عثمان التنوخي أبو الجماهر].
محمد بن عثمان التنوخي أبو الجماهر ثقة، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثنا الهيثم بن حميد].
وهو صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[أخبرني العلاء بن الحارث].
العلاء بن الحارث صدوق، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن القاسم بن عبد الرحمن].
القاسم بن عبد الرحمن صدوق يغرب كثيراً، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن أبي أمامة].
هو أبو أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(290/10)
فضل القفل في سبيل الله(290/11)
شرح حديث: (قفلة كغزوة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في فضل القفل في سبيل الله تعالى.
حدثنا محمد بن المصفى حدثنا علي بن عياش عن الليث بن سعد حدثنا حيوة عن ابن شفي عن شفي بن ماتع عن عبد الله -هو ابن عمرو - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قفلة كغزوة)].
أورد أبو داود رحمة الله عليه باب فضل القفل في سبيل الله.
والقفل هو: الرجوع من الجهاد بأن يذهب الإنسان مجاهداً ويرجع.
والذهاب يقال له: غزو، والرجوع يقال له: قفل أو قفول، أي: يئوب ويرجع، ومعنى ذلك: أن الإنسان من حين يخرج إلى أن يرجع فهو على فضل وهو على خير، وأنه في حال ذهابه وإيابه مجاهد في سبيل الله، وهو مأجور في ذهابه وفي إيابه، وليس الأجر مقصوراً على الذهاب، فإذا انتهى ورجع فرجوعه وما يحصل له في الطريق من سير إلى أن يصل إلى بلده لا يكون حكمه حكم الجهاد، ولا يكون شأنه شأن الجهاد، بل هو من الجهاد في سبيل الله؛ لأنه من حين يخرج إلى أن يرجع هو في سبيل الله عز وجل.
فأورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (قفلة في سبيل الله كغزوة) معناه: رجوع الإنسان من الجهاد كغزوه وذهابه للقتال في سبيل الله، فذهابه وإيابه كله جهاد، وكله له به أجر عظيم، وهذا مثل ما جاء في الذهاب إلى المسجد والرجوع منه، وقد جاء في الحديث الصحيح: (أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان منزله بعيداً عن المسجد، وكان لا تفوته صلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: لو اتخذت حماراً تركبه، فقال: ما أحب أن يكون منزلي قرب المسجد، إني أحب أن يرفع الله لي بكل خطوة أخطوها درجة، ويحط عني بها خطيئة، وإذا رجعت يكتب الله لي ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد جمع الله لك ذلك كله) فهذا الحديث الذي جاء هنا مثل الحديث الذي جاء في الذهاب إلى المسجد والرجوع منه.
ومن مات في الرجوع من الجهاد يقال: إنه مات في سبيل الله، والحديث الذي سيأتي في قصة أم حرام التي رأى الرسول في النوم (أن أناساً من أمته يغزون البحر كالملوك على الأسرة، فقالت أم حرام: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم) وقد سافرت مع زوجها عبادة بن الصامت لغزو الروم في البحر، وبعد رجوعهم قدمت لها بغلة لتركبها، فوقعت منها فاندقت عنقها وماتت، وقد سبق أن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت منهم).
ومثل ذلك أي عبادة يموت الإنسان فيها، فهو على خير في ذهابه وإيابه.(290/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (قفلة كغزوة)
قوله: [حدثنا محمد بن المصفى].
صدوق له أوهام، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا علي بن عياش].
ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن الليث بن سعد].
هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حيوة].
هو حيوة بن شريح المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شفي].
هو حسين بن شفي بن ماتع، وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن شفي بن ماتع].
وهو ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة في التفسير.
[عن عبد الله -هو ابن عمرو-].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(290/13)
فضل قتال الروم على غيرهم من الأمم(290/14)
شرح حديث فضل قتال الروم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فضل قتال الروم على غيرهم من الأمم.
حدثنا عبد الرحمن بن سلام حدثنا حجاج بن محمد عن فرج بن فضالة عن عبد الخبير بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه عن جده قال: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يقال لها أم خلاد وهي منتقبة، تسأل عن ابنها وهو مقتول، فقال لها بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة، فقالت: إن أرزأ ابني فلن أرزأ حيائي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ابنك له أجر شهيدين، قالت: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: لأنه قتله أهل الكتاب)].
أورد أبو داود هذه الترجمة [باب فضل قتال الروم على غيرهم من الأمم].
والمقصود بها: أن قتال الروم فيه فضل، وأن قتالهم متميز على غيرهم من الأمم، وأورد فيه أبو داود حديثاً ضعيفاً لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم شيئاً يدل على فضل قتال الروم وتميزهم على غيرهم، والحديث الذي أورده أبو داود هنا ضعيف.
قوله: [(قتله أهل الكتاب)].
هذا هو الفضل الذي جاء في هذا الحديث من أن الشهيد الذي يقتله أهل الكتاب له أجر شهيدين.
ولا شك أن الشهادة في سبيل الله سواء قتله أهل كتاب أو غير أهل كتاب فيها الأجر العظيم والثواب الجزيل، ولكن تخصيص من قتلوه بأنه يكون أعظم أجراً وأعظم ثواباً، وأنه يكون له أجر شهيدين لكونه قتله أهل الكتاب، هذا غير ثابت وغير صحيح؛ لوجود مجهولين وضعفاء في إسناد الحديث.
قوله: [(إن أرزأ ابني فلن أرزأ حياتي)]، أي: إن حصل لي مصيبة في فقد ابني فلن أرزأ بترك الانتقاب.
أقول: والسؤال هنا عن نقابها هو من الأمور الغريبة، إذ كيف يسأل عن مثل هذا!(290/15)
تراجم رجال إسناد حديث فضل قتال الروم
قوله: [حدثنا عبد الرحمن بن سلام].
هو عبد الرحمن بن محمد بن سلام لا بأس به، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا حجاج بن محمد].
هو حجاج بن محمد الأعور المصيصي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن فرج بن فضالة].
فرج بن فضالة ضعيف، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن عبد الخبير بن ثابت بن قيس بن شماس].
عبد الخبير بن قيس بن ثابت بن قيس مجهول الحال، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه] وهو قيس بن ثابت، وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن جده].
جده ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي.
وعلى هذا فالجد هو ثابت؛ لأن أبا عبد الخبير هو قيس بن ثابت، وعبد الخبير بن قيس بن ثابت منسوب إلى جده، وعبد الخبير مجهول الحال، وأبوه قيس بن ثابت مقبول، ففيه ضعيف ومجهول الحال ومقبول، وهو غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.(290/16)
شرح سنن أبي داود [291]
لقد جعل الله الجهاد من أفضل الأعمال التي يقوم بها المسلم، ورتب عليه الأجر الكبير، ومن ذلك الغزو في البحر، فإنه تغرير بالنفس في مخاطر البحر إضافة إلى مخاطر الجهاد، ولذلك جاءت أحاديث تذكر فضل الغزو في البحر خاصة.(291/1)
ركوب البحر في الغزو(291/2)
شرح حديث النهي عن ركوب البحر لغير حج أو غزو
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ركوب البحر في الغزو.
حدثنا سعيد بن منصور حدثنا إسماعيل بن زكريا عن مطرف عن بشر أبي عبد الله عن بشير بن مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز في سبيل الله، فإن تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً)].
أورد أبو داود باباً في ركوب البحر في الغزو.
يعني كون الإنسان يركب البحر غازياً في سبيل الله.
وقد أورد حديثاً في ذلك، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ركوب البحر لغير حاج أو معتمر أو غاز في سبيل الله، ثم علل ذلك فقال: [(فإن تحت البحر ناراً، وتحت النار بحراً)].
والحديث غير صحيح، لأن فيه من هو ضعيف، وفيه أيضاً اضطراب؛ لأنه جاء على عدة أوجه، مما يفيد أنه مضطرب.
ولكن الغزو في سبيل الله عز وجل في البحر جاء فيه أحاديث غير هذا الحديث، ومن ذلك حديث أم حرام أنه قال عندها واستيقظ وهو يضحك، فقالت: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: (رأيت قوماً من أمتي يركبون البحر غزاة في سبيل الله كالملوك على الأسرة، قالت: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم) فهذا فيه إخبار عن ركوب البحر للجهاد في سبيل الله، ومدح هؤلاء، وبيان فضل ذلك العمل الذي هو كونهم يجاهدون في سبيل الله ويركبون البحر.
والحديث الذي أورده المصنف هنا ضعيف، وقد حصر ركوب البحر في كونه لا يركبه إلا مجاهد أو حاج أو معتمر، وهذا أيضاً غير صحيح؛ لأن البحر يركب للتجارة، ويركب لطلب العلم، ويركب لقضاء الحاجات وما إلى ذلك، وكل ذلك لا بأس به، والله عز وجل ذكر ركوب السفن، فامتن على عباده بأن هيأ لهم المركوبات في البحر كما هيأ لهم المركوبات في البر {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الرحمن:24]، {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [النحل:14] فإذا كان الغالب السلامة فالناس يركبون البحر، ولا بأس بذلك.
وبالإضافة إلى كون الحديث غير صحيح، فإنه من حيث المعنى غير مستقيم؛ لأن الله عز جل امتن على عباده بركوب البحر.
وأيضاً فيه من حيث المتن ما فيه، فقوله: (إن تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً) يمكن أن يكون لو ثبت على حقيقته، والله على كل شيء قدير، وذلك كما أنه يخرج من الشجر الأخضر ناراً، فيتولد هذا من هذا، لكن الحديث غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعضهم قال: إن هذا تهويل من شأن البحر وبيان خطورته.(291/3)
تراجم رجال إسناد حديث النهي عن ركوب البحر لغير حج أو غزو
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسماعيل بن زكريا].
إسماعيل بن زكريا، صدوق يخطئ قليلاً، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مطرف].
مطرف بن طريف، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بشر أبي عبد الله].
وهو مجهول أخرج له أبو داود.
[عن بشير بن مسلم].
وهو أيضاً مجهول، أخرج له أبو داود.
ففيه مجهولان وفيه اضطراب، فجاء أنه يرويه هكذا عن عبد الله بن عمرو، وجاء: بلغني عن عبد الله بن عمرو وجاء: عن رجل عن عبد الله بن عمر، وجاء على غير ذلك، وهذا اضطراب من ذلك الراوي المجهول أو من أحد المجهولين.(291/4)
فضل الغزو في البحر(291/5)
شرح حديث فضل الغزو في البحر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فضل الغزو في البحر حدثنا سليمان بن داود العتكي حدثنا حماد -يعني ابن زيد - عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: حدثتني أم حرام بنت ملحان أخت أم سليم رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال عندهم، فاستيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: يا رسول الله ما أضحكك؟ قال: رأيت قوماً ممن يركب ظهر هذا البحر كالملوك على الأسرة، قالت: قلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: فإنك منهم، قالت: ثم نام فاستيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: يا رسول الله! ما أضحكك؟ فقال مثل مقالته، قالت: قلت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت من الأولين، قال: فتزوجها عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فغزا في البحر فحملها معه، فلما رجع قربت لها بغلة لتركبها فصرعتها، فاندقت عنقها فماتت)].
أورد أبو داود باب فضل الغزو في البحر، وذلك لأن الغزو في البحر فيه زيادة تعب وزيادة مشقة، وركوبه غير مألوف للناس؛ لأن المألوف أنهم يركبون على الدواب بالبر.
وقد أورد أبو داود حديث أم حرام رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عندها، أي: نام عندها في وسط النهار التي هي القيلولة؛ لأن (قال) تأتي بمعنى القيلولة وتأتي بمعنى القول، والقول يحتاج إلى مقول، وأما القيلولة فلا تحتاج إلى شيء.
قوله: [(رأيت قوماً ممن يركب ظهر هذا البحر)] يعني في الغزو في الجهاد في سبيل الله.
وقيل: إن قوله: [(كالملوك على الأسرة)] إشارة إلى ثوابهم في الآخرة، وأنهم في أحسن حال، وقيل: إن هذا في الدنيا، وإنه إشارة إلى قوتهم ونشاطهم وإلى سعة ما عندهم، وأنهم يغزون الكفار عن طريق البحر كما يغزون عن طريق البر، وهذا مدح لهم، وثناء عليهم، وكان فيهم معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
قوله: [(قالت: قلت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: فإنك منهم)].
أخبرها بأنها منهم، ثم إنه نام مرةً أخرى فقال مثلما قال أولاً فقالت: [ادع الله أن يجعلني منهم، قال: (أنت من الأولين)] أي مع الجماعة الذين جاء ذكرهم أولاً، وهؤلاء ناس آخرون غيرهم يأتون بعدهم فهي من الأولين، وقد كانت مع الجيش الذي غزا الروم إلى قبرص، وكان موتها في قبرص رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت، ولما رجعت قربت لها بغلة لتركبها فسقطت منها واندقت عنقها فماتت، وهذا فيه مثلما تقدم أن (قفلة في سبيل الله كغزوة)].
وجاء في بعض الروايات أنها كانت تفلي رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتستخرج القمل منه، وقال النووي: اتفقوا على أنها من محارمه، ولكن اختلفوا في وجه هذه المحرمية، فمنهم من قال إنها خالته.
وأيضاً: في الحديث دليل على أن الرؤية تكون في النهار كما تكون في الليل، وليست خاصةً بالليل؛ ولهذا بوب البخاري رحمه الله: باب الرؤيا في النهار، يعني أنها كما تكون في الليل تكون في النهار، ولكنها غالباً ما تكون في الليل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قال: (أيكم رأى رؤيا يذكرها لنا حتى نعبرها له)، وكان سؤاله بعد صلاة الفجر.(291/6)
تراجم رجال إسناد حديث فضل الغزو في البحر
قوله: [حدثنا سليمان بن داود العتكي].
سليمان بن داود العتكي أبو ربيع الزهراني، وهو ثقة أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي.
[عن حماد يعني ابن زيد].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن سعيد].
يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن يحيى بن حبان].
عن محمد بن يحيى بن حبان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأنس يروي عن خالته أم حرام، لأن أم حرام أخت أم سليم، وقد ذكر أبو داود فيما سيأتي أنها أختها من الرضاعة، ولكن الصحيح أنها أختها من النسب، لأن هذه أم سليم بنت ملحان بن خالد، وهذه أم حرام بنت ملحان بن خالد.(291/7)
شرح حديث فضل الغزو في البحر من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا القعنبي عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه سمعه يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان، وكانت تحت عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فدخل عليها يوماً فأطعمته وجلست تفلي رأسه)، وساق هذا الحديث.
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك من طريق أخرى.
وذلك في قصة خالته أم حرام رضي الله تعالى عنها، أن الرسول كان يذهب إلى قباء فيمر عليها وأنها كانت تفلي رأسه، وذكر ما تقدم من أنه نام ثم استيقظ، ثم نام، ثم استيقظ، وقال ما قال.(291/8)
تراجم رجال إسناد حديث فضل الغزو في البحر من طريق ثانية
قوله: [حدثنا القعنبي].
عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس، إمام دار الهجرة المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
وهو عمه لأمه؛ لأن عبد الله بن أبي طلحة أخو أنس لأمه، لأن أم سليم تزوجها أبو طلحة، وهي أم أنس، فكان من أولادها عبد الله هذا الذي ابنه إسحاق، فهو يروي عن عمه أنس.
وهذا من أعلى الأسانيد عند أبي داود، لأن أعلى الأسانيد عند أبي داود الأسانيد الرباعية، وهذا منها.
[قال أبو داود: وماتت بنت ملحان بقبرص].
وقبرص من بلاد الروم جزيرة في البحر.(291/9)
شرح حديث فضل الغزو في البحر من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا يحيى بن معين حدثنا هشام بن يوسف عن معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أخت أم سليم الرميصاء، قالت: (نام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستيقظ وكانت تغسل رأسها، فاستيقظ وهو يضحك، فقالت: يا رسول الله أتضحك من رأسي؟ قال:)، وساق هذا الخبر يزيد وينقص].
أورد أبو داود الحديث عن أخت أم سليم وهي أم حرام، ويقال لها الرميصاء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندها وأنها كانت تغسل رأسها وقد كان نائماً فاستيقظ وهو يضحك، فساق الحديث السابق.(291/10)
تراجم رجال إسناد حديث فضل الغزو في البحر من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا يحيى بن معين].
يحيى بن معين، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن يوسف].
هشام بن يوسف ثقة أخرج له البخاري، وأصحاب السنن.
[عن معمر].
معمر بن راشد البصري ثم اليماني، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن أسلم].
زيد بن أسلم، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن يسار].
عطاء بن يسار، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أخت أم سليم].
أخت أم سليم هي أم حرام وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[قال أبو داود: الرميصاء أخت أم سليم من الرضاع].
لكن الصحيح أنها أختها من النسب.
وكل واحدة منهما لها لقب، فـ الرميصاء هي أم حرام، والغميصاء هي أم سليم.(291/11)
شرح حديث أجر المائد في البحر والغرق فيه
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا محمد بن بكار العيشي حدثنا مروان، ح وحدثنا عبد الوهاب بن عبد الرحيم الجوبري الدمشقي المعنى حدثنا مروان أخبرنا هلال بن ميمون الرملي عن يعلى بن شداد عن أم حرام رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد، والغرق له أجر شهيدين)].
قوله: [(المائد)] هو الذي يصيبه دوار بسبب اضطراب الأمواج وحركة السفينة، بحيث يصيبه شيء من التأثر حتى يستفرغ ويقيء ويخرج ما في جوفه.
قوله: [(له أجر شهيد)] أي: إذا كان ذلك في الجهاد في سبيل الله؛ لأن هذا أورده أبو داود في كتاب الجهاد في فضل الغزو في البحر.(291/12)
تراجم رجال إسناد حديث أجر المائد في البحر والغرق فيه
قوله: [حدثنا محمد بن بكار العيشي].
محمد بن بكار العيشي ثقة أخرج له مسلم وأبو داود.
[عن مروان].
مروان بن معاوية الفزاري، وهو ثقة يدلس أسماء الشيوخ.
فالتدليس تدليس إسناد وتدليس متن وتدليس شيخ، وتدليس الشيخ هو أن يذكر شيخه بغير ما اشتهر به، بحيث يكون شيخه مشهوراً باسمه فيذكره بكنية أو بنسبته إلى جد من أجداده لا يعرف به، أو كان معروفاً باللقب فلا يذكر اللقب، أو يذكره بكنية أبيه أو باسمه ونسبته إلى جده ويحذف اسم أبيه الذي اشتهر به، وفيه توعير للطريق أمام الباحث عن الرجل، ولهذا قد يظن أنه مجهول؛ لأنه يبحث عن ترجمته بهذا الاسم الغريب فلا توجد له ترجمة فيقول: ليس له ترجمة أو لم أجد له ترجمة، مع أنه لو ذكر بما هو مشتهر به لكان معروفاً ومشهوراً، فهذا يسمى تدليس الشيوخ، فـ مروان بن معاوية هذا كان يدلس أسماء الشيوخ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا عبد الوهاب بن عبد الرحيم الجوبري].
عبد الوهاب بن عبد الرحيم الجوبري صدوق أخرج له أبو داود.
[عن مروان عن هلال بن ميمون الرملي].
هلال بن ميمون الرملي صدوق أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن يعلى بن شداد].
يعلى بن شداد صدوق أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن أم حرام].
وقد مر ذكرها.(291/13)
شرح حديث (ثلاثة كلهم ضامن على الله)
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا عبد السلام بن عتيق حدثنا أبو مسفر حدثنا إسماعيل بن عبد الله -يعني: ابن سماعة - حدثنا الأوزاعي حدثني سليمان بن حبيب عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل: رجل خرج غازياً في سبيل الله، وهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة، أو يرده بما نال من أجر وغنيمة، ورجل راح إلى المسجد، فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة، ورجل دخل بيته بسلام، فهو ضامن على الله عز وجل).
أورد أبو داود حديث أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(ثلاثة كلهم ضامن على الله)].
أي: كل واحد منهم مضمون له الأجر والثواب، وهذا فيه تأكد حصول هذا الثواب.
قوله: [(رجل خرج غازياً في سبيل الله، وهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة)].
أي أنه إذا خرج في سبيل الله فهو إما أن يحصل موتاً فيكون من أهل الجنة بسبب كونه قتل في سبيل الله، أو يرجع منتصراً محصلاً أجراً وثواباً عند الله وغنيمة من الغنائم والثواب المعجل في الدنيا، والغنائم هي أحسن المكاسب وأفضل المكاسب، ولهذا كانت قوت النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي) وهو جزء من حديث طويل يقول فيه: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك الله، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)، وهذا حديث عظيم شرحه ابن رجب في جزء لطيف مطبوع باسم (الحكم الجديرة بالإشاعة في شرح حديث بعثت بين يدي الساعة)، ومنه قوله: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي)، أي: من الغنائم.
قوله: [(ورجل خرج إلى المسجد، وهو ضامن على الله إن مات أن يدخله الجنة أو يرجع بما نال من أجر أو غنيمة)] أي: إن مات فقد مات في سبيل الله لأنه خرج لعبادة الله ولطاعة الله، وإن رجع فهو محصل أجراً وغنيمة في الآخرة، وإن حصل له رزق بسبب هذا العمل الصالح فهو من الثواب المعجل الذي يحصله في الدنيا قبل الآخرة.
قوله: [(ورجل دخل بيته بسلام)].
هذا يحتمل أنه إذا دخل بيته يسلم، ويحتمل أنه دخل بيته وكفى الناس شره، وأنه سلم من الناس وسلموا منه، وذلك في عدم اختلاطه بالناس الاختلاط الذي يؤدي إلى حصول ضرر منه أو عليه، ويحتمل أن يكون المقصود أنه قد سلم في خروجه من أن يحصل إثماً وأن يكتسب إثماً، بل قد يكون حصل خيراً وثواباً إذا كان خروجه لم يحصل فيه ضرر عليه وعلى غيره، كل هذه الاحتمالات ممكنة.(291/14)
تراجم رجال إسناد حديث (ثلاثة كلهم ضامن على الله)
قوله: [حدثنا عبد السلام بن عتيق].
عبد السلام بن عتيق صدوق أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبي مسفر].
أبو مسفر عبد الله علاء بن أبي مسفر، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسماعيل بن عبد الله يعني: ابن سماعة].
وهو ثقة أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن الأوزاعي].
أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن حبيب].
[ثقة أخرج له البخاري وأبو داود وابن ماجة.
[عن أبي أمامة الباهلي].
وقد مر ذكره.(291/15)
شرح سنن أبي داود [292]
من فضائل الجهاد: أن من قتل كافراً لم يجتمع معه في النار مخلداً، وأن الله حرم نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، وأن من مات في الغزو كان مأواه الجنة.(292/1)
فضل من قتل كافراً(292/2)
شرح حديث فضل من قتل كافراً
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في فضل من قتل كافراً.
حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا إسماعيل -يعني ابن جعفر - عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يجتمع في النار كافر وقاتله أبداً)].
أورد أبو داود رحمه الله فضل من قتل كافراً، أي أنه على خير وأنه على ثواب؛ لأنه حصل منه القتل والجهاد في سبيل الله، ثم أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: [(لا يجتمع في النار كافر وقاتله أبداً)].
يعني: أن قاتل الكافر يكون في الجنة، لكن إن كان الذي قتل الكافر عليه ذنوب لم يغفرها الله عز وجل وعذبه بها في النار فالمعنى أنه لا يجتمع مع الكافر في الخلود والبقاء، ولا يمنع ذلك من كونه يدخل النار ولكنه يخرج.
والمقصود بالكافر هنا الحربي لا المستأمن أو الذمي، فإن هؤلاء لا يقاتلون.(292/3)
تراجم رجال إسناد حديث فضل من قتل كافراً
قوله: [حدثنا محمد بن الصباح البزاز].
محمد بن الصباح البزاز ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسماعيل يعني: ابن جعفر].
إسماعيل بن جعفر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن العلاء].
عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي وهو صدوق أخرج له البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه] وهو ثقة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق، رضي الله عنه وأرضاه.(292/4)
حرمة نساء المجاهدين على القاعدين(292/5)
شرح حديث (حرمة نساء المجاهدين على القاعدين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في حرمة نساء المجاهدين على القاعدين: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن قعنب عن علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله إلا نصب له يوم القيامة فقيل له: هذا قد خلفك في أهلك فخذ من حسناته ما شئت! فالتفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما ظنكم؟)].
أورد أبو داود رحمه الله باباً في حرمة نساء المجاهدين على القاعدين، والمجاهدون هم الذين يخرجون في سبيل الله ويخلفهم الناس في أهليهم فحرمتهم شأنها عظيم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل حرمة نساء المجاهدين على القاعدين الذين يخلفونهم في أهليهم كحرمة أمهاتهم، ومعنى هذا أنهم يحذرون من أن يقعوا في أمور لا تنبغي كما أن الإنسان يرى ذلك في حق أمه، وكذلك عليه أن يرى ذلك في حق أهل الغازي الذين خلفه فيهم.
وهذا فيه بيان تعظيم شأن المحافظة على من استوصوا عليهم، فإن المجاهدين أوصوا الباقين على أن يقوموا يما يلزم لأهليهم، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن على الإنسان أن يقوم بما يجب لهم ولا يخونه فيهم لا بأن ينظر أو يحاول أن يقع في أمر محرم، ولا في أن يقصر فيما هو مطلوب منه من الرعاية والعناية وإيصال الخير إليهم ودفع الأذى عنهم.
قوله: [(وما من رجل من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله إلا نصب له يوم القيامة، فقيل له: هذا قد خلفك في أهلك فخذ من حسناته ما شئت)].
وهذا فيما إذا خانه لأنه جاء في صحيح مسلم (فيخونه)، فرواية مسلم رحمه الله تبين المقصود من هذا الاقتصاص وأخذ المجاهد من حسنات القاعد الذي خانه في أهله؛ لأنه ما قام بالشيء الذي هو واجب عليه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: [(ما ظنكم؟)]، أي أن يوم القيامة {يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37] وكل يتمنى أن يكون له حق على الآخر حتى يحصل ذلك الحق، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رسول الله! المفلس من لا درهم عنده ولا متاع، قال صلى الله عليه وسلم: المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وحج، ويأتي وقد شتم هذا وضرب هذا وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرح عليه ثم طرح في النار)، فقوله: [(فما ظنكم)] يعني: كونه يقال له خذ ما شئت ما ظنكم أن يفعل؟ خاصة وأنه يوم يبحث فيه كل شخص عن حق يكون له على غيره حتى يأخذه ويستوفيه ولو كان من أقرب الأقرباء إليه؟(292/6)
تراجم رجال إسناد حديث (حرمة نساء المجاهدين على القاعدين)
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور عن سفيان].
سعيد بن منصور مر ذكره.
وسفيان هو ابن عيينة، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قعنب].
[قعنب التميمي].
قعنب التميمي، وهو صدوق أخرج له مسلم وأبو داود، والنسائي.
[عن علقمة بن مرثد].
علقمة بن مرثد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن بريدة].
ابن بريدة هو سليمان بن بريدة، وابنا بريدة اثنان أخوان عبد الله وسليمان إلا أن عبد الله خرج له أصحاب الكتب الستة، وأما سليمان فلم يرو له البخاري وإنما روى له مسلم وأصحاب السنن، وقد سماه مسلم في صحيحة فقال: سليمان بن بريدة.
[عن أبيه].
بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: كان قعنب رجلاً صالحاً، وكان ابن أبي ليلى أراد قعنباً على القضاء فأبى عليه وقال: أنا أريد الحاجة بدرهم فأستعين عليها برجل، قال: وأينا لا يستعين في حاجته قال: أخرجوني حتى أنظر، فأخرج فتوارى قال سفيان: بينما هو متوار إذ وقع عليه البيت فمات].
ثم ذكر أبو داود بعد ذلك هذه القصة عن قعنب الذي جاء في الإسناد يروي عن سفيان بن عيينة، وأنه طلبه ابن أبي ليلى للقضاء فأبى أن يتولى القضاء فقال: أنا أريد الحاجة بدرهم فأستعين عليها، أي: فكيف أتولى القضاء وأنا أحتاج إلى الناس فقال ابن أبي ليلى: كلنا لا يستغني عن أحد بحاجته، يعني فلا عذر من القضاء، فقال قعنب: أمهلوني أنظر، فدخل وتوارى في بيته وسقط عليه بيته ومات رحمه الله.(292/7)
السرية تخفق(292/8)
شرح حديث أجر السرية تخفق
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في السرية تخفق: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا حيوة وابن لهيعة قالا: حدثنا أبو هانئ الخولاني أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون غنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث، فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم)].
السرية هي القطعة من الجيش تسند إليها مهمة، فقد تغنم وقد لا تغنم، والمراد بالإخفاق هنا عدم الحصول على الغنيمة، وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما في ذلك.
وقوله: [(ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون غنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة)] معناه أنهم حصلوا أجراً في الدنيا وأجراً في الآخرة وحصلوا ثواباً في الدنيا وثواباً في الآخرة.
قوله: [(فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم)] يعني: أنهم ما تعجلوا شيئاً في الدنيا، وإنما حصلوا الثواب والأجر كاملاً في الآخرة؛ لأنهم لم يحصلوا شيئاً من المغنم الدنيوي فكانت غنيمتهم أخروية، وكانت مكاسبهم أخروية بحتة ليس فيها شيء من الدنيا.
وهذا فيه دليل على أن تحصيل الأجر الكامل في الآخرة إنما يكون بعدم تحصيل شيء من الدنيا في الغزو، وأنه إذا حصل شيء من المغانم في الغزو فإنهم تعجلوا شيئاً من أجرهم، فهذا فيه تسلية للذين لم يحصلوا شيئاً؛ لأن الثواب الجزيل أمامهم وأنهم سيحصلون الأجر الكامل.(292/9)
تراجم إسناد حديث أجر السرية تخفق
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر ميسرة].
عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري، ثقة أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن عبد الله بن يزيد].
عبد الله بن يزيد المقري المكي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حيوة].
حيوة بن شريح المصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وابن لهيعة].
وابن لهيعة صدوق ساء حفظه، احترقت كتبه فتغير، ورواية العبادلة عنه أعدل من غيرها، وهي هنا من رواية العبادلة، وهو عبد الله بن يزيد المقري، وأيضاً هو مقرون بـ حيوة بن شريح المصري فالعمدة على حيوة لو لم يرو عنه أحد من العبادلة، وأما هنا فالراوي عنه أحد العبادلة.
وكل من حيوة بن شريح، وعبد الله بن لهيعة مصري، وهناك حيوة بن شريح حمصي، ولكنه متأخر فهو من طبقة شيوخ أبي داود، وأما هذا فمن طبقة متقدمة يروي عنه أبو داود بواسطتين.
وابن لهيعة أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة، أما النسائي فإنه لم يخرج له شيئاً، بل إنه إذا كان في مثل هذا الإسناد الذي هو مقرون مع حيوة بن شريح لا يصرح باسمه ولا يسميه، وإنما يقول حدثنا فلان ورجل آخر.
ومعنى: (مقرون) أنه لم يرو عنه حديثاً استقلالاًَ، وإنما روى عنه ومعه غيره، والمقرون هنا حيوة بن شريح ومعه عبد الله بن لهيعة.
والعبادلة الأربعة عن ابن لهيعة هم: عبد الله بن مسلمة القعنبي، وعبد الله بن يزيد المقري، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن وهب، وكذلك قتيبة بن سعيد؛ هؤلاء سمعوا منه قبل احتراق كتبه وقبل اختلاطه فروايتهم عنه معتبرة.
[عن أبي هانئ الخولاني].
اسمه حميد بن هانئ، وكنيته توافق اسم أبيه، وهو لا بأس به، بمعنى أنه صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي عبد الرحمن الحبلي].
عبد الله بن يزيد المعافري، وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عمرو بن العاص] الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم: عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين، وأطلق عليهم لقب العبادلة الأربعة لأنهم متقاربون في السن وهم من صغار الصحابة، وإلا فإن في الصحابة كثيرين ممن يسمى عبد الله منهم عبد الله بن مسعود وعبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري، ولكن هؤلاء اشتهروا بهذا اللقب الذي هو لقب العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.(292/10)
تضعيف الذكر في سبيل الله(292/11)
شرح حديث تضعيف الذكر في سبيل الله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في تضعيف الذكر في سبيل الله تعالى: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا ابن وهب عن يحيى بن أيوب وسعيد بن أبي أيوب عن زبان بن فائد عن سهل بن معاذ عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الصلاة والصيام والذكر تضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف)].
أورد أبو داود تضعيف الذكر في سبيل الله، أي: مضاعفة أجره وكثرة ثوابه عند الله عز وجل، وأورد فيه أبو داود حديث معاذ بن أنس رضي الله تعالى عنه.
وهذا الحديث يدل على أن الصلاة والصيام والذكر لله عز وجل تضاعف على الإنفاق في سبيل الله، وهذا غير مستقيم، والحديث ضعيف غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن شأن الصدقة عظيم ونفعها متعدٍّ، ويكون فيها تمكين المجاهدين من الجهاد، بخلاف الصوم والصلاة والذكر، فإنها من العبادات القاصرة على صاحبها.
وهذا الحديث غير صحيح لأن فيه زباناً وهو ضعيف لا يحتج به، والمعنى فيه غرابة، حيث جعل الأعمال القاصرة تفوق الأعمال المتعدية، وقد جاءت أحاديث تدل على فضل الأعمال المتعدية على القاصرة ولهذا يأتي كثيراً تقديم الزكاة على الصيام، والرسول صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ أمره بأن يبدأ بالأهم فالأهم فيدعو أولاً إلى الشهادتين ثم إلى الصلاة ثم إلى الزكاة، وجاء في الحديث: (فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب) لأن علم العالم له ولغيره، والمصلي صلاته له وحده لا تتعداه إلى غيره، فالإسناد غير صحيح والمعنى فيه في غرابة.
وقوله: [(في سبيل الله)].
المقصود به الجهاد؛ لأن سبيل الله يأتي بمعنيين: يأتي ويراد به وجوه البر ووجوه الخير كلها، ويأتي يراد به الجهاد في سبيل الله، ولهذا فإن مصارف الزكاة الثمانية ذكر منها: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60] والمقصود به الجهاد، لأنه لو كان المراد به المعنى العام الذي هو وجوه البر فالفقراء والمساكين من وجوه البر، وكذلك إعطاء المؤلفة قلوبهم والغارمين، وفك الرقاب، وابن السبيل، كل ذلك في سبيل الله بالمعنى العام؛ لكن لما كان قسماً من الأقسام الثمانية علم أنه يراد به خصوص الجهاد في سبيل الله، ومنه: (من صام يوماً في سبيل الله) أي: وهو في الجهاد، ولهذا أورد البخاري هذا الحديث في كتاب الجهاد.(292/12)
تراجم رجال إسناد حديث تضعيف الذكر في سبيل الله
قوله: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح].
أحمد بن عمرو بن السرح المصري، ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن ابن وهب].
عبد الله بن وهب المصري، ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن أيوب].
وهو صدوق وربما أخطأ أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وسعيد بن أبي أيوب].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زبان بن فائد].
وهو ضعيف، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن سهل بن معاذ].
وهو لا بأس به إلا في رواية زبان عنه، وهذا الحديث من رواية زبان عنه، أخرج له البخاري في الأدب المفرد والترمذي وابن ماجة.
[عن أبيه].
معاذ بن أنس رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج له البخاري في الأدب المفرد والترمذي وابن ماجة.(292/13)
من مات غازياً(292/14)
شرح حديث (من مات غازياً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن مات غازيا: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بقية بن الوليد عن ابن ثوبان عن أبيه يرد إلى مكحول إلى عبد الرحمن بن غنم الأشعري أن أبا مالك الأشعري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من فصل في سبيل الله فمات أو قتل فهو شهيد، أو وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه، أو بأي حتف شاء الله، فإنه شهيد وإن له الجنة)].
أورد أبو داود باباً فيمن مات غازياً، يعني من مات في الغزو، سواء كان ذلك في المعركة أو في غير المعركة، وسواء مات ذاهباً أو آيباً، وأورد فيه حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
قوله: [(من فصل في سبيل الله)] يعني: خرج مجاهداً في سبيل الله.
قوله: [(فمات)] يعني: بدون قتل من الكفار له أو خطأ من المسلمين أو غير ذلك وإنما مات بغير سبب وليس بقتل.
قوله: [(فهو شهيد)] معناه أن له أجر الشهادة في سبيل الله عز وجل؛ لأنه مات وهو يجاهد في سبيل الله.
قوله: [(أو وقصه فرسه أو بعيره)].
بمعنى أنه سقط من فرسه واندقت عنقه فمات، سواء كان على بعير أو على فرس؛ فهو كذلك أيضاً شهيد.
قوله: [(أو لدغته هامة)].
يعني: من ذوات السموم كحية أو كعقرب فمات بسبب ذلك السم الذي حصل بهذه اللدغة، فهو كذلك شهيد لأنه في سبيل الله.
قوله: [(أو مات على فراشه)].
أي: من غير أن يكون هناك سبب يحصل به موته، وإنما قبضت روحه بدون أن يكون ذلك بسبب من الأسباب الظاهرة كالقتل أو الوقص أو لدغ ذوات السموم أو غير ذلك من الأسباب، وإنما مات على فراشه.
قوله: [(أو بأي حتف شاء الله؛ فإنه شهيد)].
أي: بأي سبب شاء الله عز وجل أن يموت به؛ فإنه يكون شهيداً.
قوله: [(وإن له الجنة)].
يعني: ثوابه عند الله الجنة.(292/15)
تراجم رجال إسناد حديث (من مات غازياً)
قوله: [حدثنا عبد الوهاب بن نجدة] عبد الوهاب بن نجدة ثقة أخرج أبو داود والنسائي.
[عن بقية بن الوليد] وهو صدوق كثير التدليس عن الضعفاء، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن ثوبان].
وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو ثابت بن ثوبان، وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[يرد إلى مكحول].
يعني أنه يسنده إلى مكحول أو يضيفه إلى مكحول ومكحول هو الشامي، وهو ثقة أخرج له البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
[إلى عبد الرحمن بن غنم الأشعري].
عبد الرحمن بن غنم الأشعري، مختلف في صحبته، وقيل من كبار التابعين، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن أبي مالك الأشعري].
أبو مالك الأشعري قيل اسمه عبيد وقيل عبد الله وقيل عمر وقيل كعب بن كعب وقيل عامر بن الحارث، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة مات في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة.
والحديث ضعفه الألباني؛ لكن ما أدري هل التضعيف من أجل بقية أو من أجل عبد الرحمن بن ثابت أو لأمر آخر؟ وقال المنذري: في إسناده بقية وابن ثابت وهما ضعيفان.(292/16)
شرح سنن أبي داود [293]
فضل الرباط في سبيل الله كبير، ومن مات غازياً، أو ناوياً الغزو، فإن الله يعظم أجره، وقد جعل الله للجهاد فضلاً عظيماً حيث رتب الأجر الكثير على كل عمل يعين على الجهاد أو يتعلق به.(293/1)
فضل الرباط(293/2)
شرح حديث فضل الرباط
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في فضل الرباط: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عبد الله بن وهب حدثني أبو هانئ عن عمرو بن مالك عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وآل وسلم قال: (كل الميت يختم على عمله،،إلا المرابط فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتان القبر)].
أورد أبو داود رحمه الله باب فضل الرباط، يعني في سبيل الله، والرباط المقصود به المرابطة في الثغور التي فيها المحافظة على بلاد المسلمين من أن يتسلل إليها الأعداء، فالمرابطون يدافعون عن حوزة الإسلام ويقاتلون الكفار الذين يريدون أن يغزوا بلاد المسلمين.
وأصل الرباط أنه كان يربط فرسه من أجل الاستعداد لصد الأعداء عن الدخول أو الهجوم على بلاد المسلمين، وهذا أمر شأنه عظيم عند الله.
وقد أورد أبو داود حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه.
قوله: [(كل الميت يختم على عمله)].
يعني: أن ما عمله محدد، ختم عليه لأنه عرف حده وبدايته ونهايته ومقداره.
قوله: [(إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمو له عمله)] أي: يزداد، وذلك لكثرة ثوابه وعظم أجره وكونه في بقائه مرابطاً كالمجاهد المستمر في جهاد، لأن المرابط مجاهد ولكنه لا يذهب ويرجع كالمجاهدين الذين يذهبون من بلادهم ثم يرجعون إليها، بل هو مقيم يصد الكفار عن المسلمين، فعمله ينمى له.
قوله: [(ينمو له عمله)].
يعني: يتضاعف ويزداد إلى يوم القيامة.
قوله: [(ويؤمن من فتان القبر)] أي مما يحصل من الفتنة في القبر، وقيل: إن الفتنة في القبر هي سؤال منكر ونكير، وأنه يحصل بذلك خوف وفتنة، فالمرابط في سبيل الله موعود بأنه يؤمن من الفتنة في القبر وكذلك أيضاً يأمن من عذاب القبر.(293/3)
تراجم رجال إسناد حديث فضل الرباط
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن وهب حدثنا أبو هانئ عن عمرو بن مالك].
عبد الله بن وهب وأبو هانئ مر ذكرهما.
وعمرو بن مالك ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن فضالة بن عبيد].
عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.(293/4)
فضل الحرس في سبيل الله عز وجل(293/5)
شرح حديث فضل الحرس في سبيل الله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في فضل الحرس في سبيل الله عز وجل: حدثنا أبو توبة حدثنا معاوية -يعني ابن سلام - عن زيد -يعني ابن سلام - أنه سمع أبا سلام قال: حدثني السلولي أبو كبشة أنه حدثه سهل بن الحنظلية رضي الله عنه: (أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين فأطنبوا السير حتى كانت عشية، فحضرت الصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجاء رجل فارس فقال: يا رسول الله! إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله، ثم قال: من يحرسنا الليلة؟ قال أنس بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنهما: أنا يا رسول الله قال: فاركب، فركب فرساً له وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نغرن من قبلك الليلة.
فلما أصحبنا خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال: هل أحسستم فارسكم؟ قالوا: يا رسول الله! ما أحسسناه.
فثوب بالصلاة فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى صلاته وسلم قال: أبشروا فقد جاء فارسكم، فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب فإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسلم فقال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما أصبحت اطلعت على الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحداً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل نزلت الليلة؟ قال: لا، إلا مصلياً أو قاضياً حاجة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد أوجبت، فلا عليك ألا تعمل بعدها)].
أورد أبو داود رحمه الله باب فضل الحرس في سبيل الله، أي: الحراسة في سبيل الله، يعني بها حراسة المسلمين وتنبيههم على مداخل عدوهم وقدومه عليهم أو اتجاهه إليهم حتى يكونوا على استعداد لملاقاته فلا يأتيهم غرة وهم غير مستعدين فيترتب على ذلك الضرر.
والحراسة في سبيل الله شأنها عظيم، ولهذا جاء في هذا الحديث ما ذكر من فضلها.
قوله: [(إنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين)].
يعني: في الذهاب إلى حنين، وذلك سنة ثمان من الهجرة.
قوله: [(فأطنبوا السير)] معناه اشتدوا في السير.
قوله: [(حتى كانت عشية)].
يعني: حتى جاء الليل.
قوله: [(فحضرت الصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فارس فقال: يا رسول الله إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين)].
ثم إن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه يذكر أنه جاء فارس من الفرسان الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إنني رأيت هوازن قد جاءوا على بكرة أبيهم، وهي عبارة تستعمل لمجيء القوم جميعاً لا يتخلف منهم أحد.
قوله: [(بظعنهم)] يعني: معهم نساؤهم.
قوله: [(وشائهم)] هي الغنم.
قوله: [(ونعمهم)] هي الإبل؛ فمعهم النساء والإبل والغنم.
فتبسم صلى الله عليه وسلم ضاحكاً وقال: هذه غنيمة.
قوله: [(ثم قال: من يحرسنا الليلة؟)].
هذا محل الشاهد في الحراسة، وفضلها يأتي في آخر الحديث.
[(فقال أنس بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه: أنا يا رسول الله، فقال له: اركب! فركب وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم)] فأرشده إلى طريقة الحراسة التي يريدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: [(استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه، ولا نغرن من قبلك الليلة)].
والشعب هو الطريق الذي يكون بين الجبلين.
قوله: [(حتى تكون في أعلاه)] معناه أن الشعب يكون فيه انحدار وارتفاع، والعدو كما هو معلوم يأتي من هذه الطرق التي تكون بين الجبال، ولا يأتي من فوق الجبال، فإذا كان الناس في أماكن يتوصل إليها عن طريق الشعاب، فإن العدو يأتي من الشعاب، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره بأن يذهب إلى هذا الشعب وأن يكون في أعلاه وقال: [(لا نغرن من قبلك الليلة)] يعني: لا يحصل العدو منا على غرة ونحن آمنون وأنت قد أهملت؛ إما أنك نمت أو أنك ما قمت بالأمر المطلوب، فتترتب على ذلك مضرة.
قوله: [(فلما أصحبنا خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال: هل أحسستم فارسكم؟ قالوا: يا رسول الله! ما أحسسناه، فثوب بالصلاة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب)].
أي: لما طلع الصبح وأذن لصلاة الصبح صلى ركعتين وهما ركعتا الفجر، وكان يحافظ عليهما وعلى الوتر في الحضر والسفر.
قوله: [(هل أحسستم صاحبكم؟)] يعني هل رأيتموه جاء، لأنه إذا جاء يأتيهم بالخبر وأن الجهة آمنه ونحو ذلك، وإذا كان لم يأت فيخشى أن يكون العدو قد أخذه، وربما يأتي العدو من هذه الطريق.
قوله: [(فثوب بالصلاة)] يعني: أقيمت الصلاة، لأن التثويب هو الإقامة، لأنه رجوع إلى النداء الأول الذي هو الأذان، أي: فإذا أقيمت الصلاة فقد رجع المؤذن إلى ذكر الله والنداء للصلاة، إلا أن الأول نداء للحضور إليها وإشعار بأول وقتها، وهذا نداء بالقيام إليها والاستعداد للدخول فيها، وقد سبق أن مر في الحديث (أن الشيطان يأتي يوسوس للإنسان فإذا سمع النداء ولى وله ضراط) ثم يرجع بعد انقضاء الأذان، فإذا ثوب بالإقامة هرب.
قوله: [(فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ويلتفت إلى الشعب)] يعني: فكان يصلي ويلتفت، وهذا يدلنا على أن الالتفات في الصلاة إذا كان لحاجة تقتضي ذلك كالخوف فقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الالتفات المحذور ما كان لغير حاجة.
ثم الالتفات إنما يكون بإدارة الرأس وليس بإدارة الجسم، لأنه إذا أدار الجسم أخل باستقبال القبلة.
قوله: [(حتى إذا قضى صلاته وسلم قال: أبشروا! فقد جاءكم فارسكم)].
معناه أنه لا خطر عليكم، وأن المحذور الذي تخشونه غير واقع، وأن الجهة آمنة وأن الناس على مأمن.
قوله: [(فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب؛ فإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم فقال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحت اطلعت على الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحداً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل نزلت الليلة؟ قال: لا، إلا مصلياً أو قاضياً حاجة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد أوجبت، فلا عليك ألا تعمل بعدها)].
ثم إنه أخبر بأنه كان على ذلك المرتفع، وأنه لما أصبح نظر من الشعبين فلم ير أحداً، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هل نزلت) أي: من فوق الفرس، (قال: لا، إلا مصلياً أو قاضياً لحاجة).(293/6)
تراجم رجال إسناد حديث فضل الحرس في سبيل الله
قوله: [حدثنا أبو توبة].
أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن معاوية -يعني ابن سلام -].
معاوية بن سلام ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد -يعني ابن سلام -].
أي: عن أخيه زيد بن سلام، وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي سلام].
وهو ممطور وهو جد معاوية وجد زيد لأنهما: معاوية بن سلام بن أبي سلام، وزيد بن سلام بن أبي سلام وجدهما أبو سلام ممطور، وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن السلولي أبي كبشة].
أبو كبشة السلولي ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن سهل بن الحنظلية].
سهل بن الحنظلية رضي الله عنه، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي.
قوله: [(قد أوجبت، فلا عليك ألا تعمل بعدها)].
أي: استحققت الجنة فلا عليك ألا تعمل بعد اليوم، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم في أهل بدر (لعله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، ومعناه أن نهايته محققة أنه سينتهي إلى الجنة.(293/7)
شرح سنن أبي داود [294]
فضل المجاهدين عند الله عظيم، فينبغي ألا يتخلف الإنسان عن الجهاد إلا من عذر، وإلا كره له ذلك، وإذا استنفر الإمام الناس للجهاد فلينفروا، إلا من كان معذوراً، ومن نوى الجهاد ولم يتمكن منه أجر على نيته.(294/1)
كراهية ترك الغزو(294/2)
شرح حديث أبي هريرة في كراهية ترك الغزو
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كراهية ترك الغزو: حدثنا عبدة بن سليمان المروزي أخبرنا ابن المبارك أخبرنا وهيب -قال: عبدة: يعني ابن الورد - أخبرنا عمر بن محمد بن المنكدر عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق)].
أورد أبو داود رحمه الله باب كراهية ترك الغزو، والإنسان الذي لا يغزو ولا ينوي الغزو، ولا يكون عنده استعداد لذلك لا بفعله ولا بنيته، على خطر.
والتعبير بالكراهية هنا محتملة لكراهية التحريم وهي الغالب عند المتقدمين، وتحتمل كراهية التنزيه، ومعنى الحديث أنه من مات وهو لم يحصل منه الغزو والجهاد في سبيل الله، حيث وجد ذلك وأمكنه، [(ولم يحدث نفسه بالغزو)] ولا فكر أنه يغزو، فهذا يموت على شعبة من النفاق؛ لأن المنافقين هم الذين لا يريدون رفعة الإسلام ولا يريدون انتصار الإسلام، وإنما يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، فمن مات على ذلك فقد مات على صفة ذميمة من صفات المنافقين وإن لم يكن منافقاً، ويحتمل إرادة النفاق الأكبر، لأن الذي لا يريد نصرة المسلمين منافق.(294/3)
تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة في كراهية ترك الغزو
قوله: [حدثنا عبدة بن سليمان المروزي].
عبدة بن سليمان المروزي صدوق أخرج له أبو داود.
وهذا غير عبدة بن سليمان الكلابي المشهور الذي هو أعلى طبقة من هذا، فذاك ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو الذي يتكرر ذكره كثيراً، ولكنه متقدم يروي عنه أبو داود بواسطة.
[عن ابن المبارك].
عبد الله بن المبارك المروزي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو الذي قال عنه الحافظ في التقريب: ثقة فقيه إمام جواد مجاهد جمعت فيه خصال الخير.
وهذه الأوصاف التي ذكرها الحافظ ابن حجر عن الإمام عبد الله بن المبارك رحمة الله عليه تشبهها صفات سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه، فقد جمع الله تعالى فيه كثيراً من خصال الخير.
[عن وهيب -قال عبدة: يعني ابن الورد -].
وهيب بن الورد ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
وقوله: [قال عبدة] جاء به لتحديد القائل بأن وهيباً هو وهيب بن الورد؛ لأنه قد يظن أن القائل أبو داود أو الراوي للسنن عنه.
[عن عمر بن محمد بن المنكدر].
عمر بن محمد بن المنكدر ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن سمي].
سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
أبو صالح السمان وهو ذكوان، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق؛ رضي الله عنه وأرضاه.(294/4)
شرح حديث أبي أمامة في كراهية ترك الغزو
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا عمرو بن عثمان وقرأته على يزيد بن عبد ربه الجرجسي حدثنا الوليد بن مسلم عن يحيى بن الحارث عن القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من لم يغز أو يجهز غازياً أو يخلف غازياً في أهله بخير أصابه الله بقارعة) قال يزيد بن عبد ربه في حديثه: قبل يوم القيامة].
قوله: [(أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة)] يعني: أصابه بعذاب أو بمصيبة يحصلها في الدنيا قبل يوم القيامة عقوبة له على كونه ما غزا ولا ساعد في الغزو ولا خلف غازياً في أهله بخير، ومعناه أنه ما حصل منه جهاد لا بنفسه ولا بماله ولا ساعد المجاهدين حين خلفهم في أهليهم.(294/5)
تراجم رجال إسناد حديث أبي أمامة في كراهية ترك الغزو
قوله: [حدثنا عمرو بن عثمان].
عمرو بن عثمان هو ابن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي، وهو صدوق أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وقرأته على يزيد بن عبد ربه الجرجسي].
أي: قال أبو داود: وقرأته على الشيخ، وهذا يسمى عرضاً، وأما إذا كان الشيخ يقرأ والطلاب يسمعون فهذا تحديث، وغالباً ما يفرقون بين الاثنين، فيقولون في السماع: حدثنا وسمعت، وفي العرض: أخبرنا، ومنهم من يسوي بين التحديث والإخبار ولا يفرق بينهما.
ويزيد بن عبد ربه الجرجسي ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن الوليد بن مسلم].
الوليد بن مسلم الدمشقي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن الحارث].
ثقة أخرج له أصحاب السنن.
[عن القاسم أبي عبد الرحمن].
وهو القاسم بن عبد الرحمن، ومر بنا قريباً القاسم بن عبد الرحمن، وهنا القاسم أبو عبد الرحمن وكنيته اسم أبيه، وهذا مما يبين أهمية معرفة من وافق كنيته اسم أبيه حتى لا يظن التصحيف، بأن يقال (ابن) مصحف عن (أبي)، أو (أبي) مصحف عن (ابن)؛ إن جاء القاسم بن عبد الرحمن فهو صحيح، وإن جاء: عن القاسم أبي عبد الرحمن فهو صحيح.
وهو صدوق يغرب كثيراً، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن أبي أمامة].
صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(294/6)
شرح حديث أنس في كراهية ترك الغزو
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حميد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)].
هذا الحديث فيه الأمر بجهاد الكفار بالمال وبذل المال لينفق في سبيل الله من أجل إيجاد الأزواد والطعام والنفقة للمجاهدين، وكذلك لشراء المعدات التي تفيد في القتال في سبيل الله، وكذلك كون الإنسان يخرج بنفسه ليدعو المشركين إلى الإسلام، فإن دخلوا في الإسلام لم يقاتلوا، وإن أبوا الدخول في الإسلام قوتلوا حتى يدخلوا فيه أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
وأيضاً: يكون جهادهم باللسان بذمهم وهجوهم في الشعر كما كان حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه يهجو المشركين ويدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين، فالجهاد يكون بالنفس والمال واللسان، ويكون أيضاً بالقلم ومؤداه مؤدى اللسان، ويكون أيضاً بالنية كما في الحديث: (إن بالمدينة لرجالاً ما سيرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر) يعني أنهم معهم بالنيات؛ لأنهم كانوا حريصين على الجهاد ولكنهم ما استطاعوا من قلة المال وعدم الظهر الذي يركبونه، فبقوا في البلد متألمين متأثرين يبكون؛ لأنهم لم يجدوا شيئاً يركبونه ويجاهدون مع المسلمين، فالجهاد يكون بهذه الأمور كلها، والحديث فيه الجهاد بهذه الأمور الثلاثة التي هي المال والنفس واللسان.
وأورد أبو داود هذا الحديث في باب كراهية ترك الغزو من جهة أن فيه الأمر بالجهاد وهو ضد الترك.(294/7)
تراجم رجال إسناد حديث أنس في كراهية ترك الغزو
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حماد].
وهو ابن سلمة بن دينار البصري، ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن حميد].
حميد بن أبي حميد الطويل البصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أيضاً بصري.
فالحديث مسلسل بالبصريين، وأيضاً هو من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود؛ لأن أعلى الأسانيد عن أبي داود الإسناد الرباعي الذي يكون فيه بين أبي داود وبين النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أشخاص، وهنا فيه هؤلاء الأربعة الذين هم: موسى بن إسماعيل وحماد بن سلمة وحميد بن أبي حميد الطويل وأنس بن مالك رضي الله تعالى عنهم.(294/8)
نسخ نفير العامة بالخاصة(294/9)
شرح أثر ابن عباس في نسخ نفير العامة بالخاصة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في نسخ نفير العامة بالخاصة: حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثني علي بن الحسين عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: {إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة:39]، {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} [التوبة:120] إلى قوله: {يَعْمَلُونَ} [التوبة:121] نسختها الآية التي تليها: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122]].
أورد أبو داود هذه الترجمة [باب في نسخ نفير العامة بنفير الخاصة] يعني أن النفير كان للجميع فنسخ وصار في حق البعض وليس في حق الكل، وأورد أبو داود هذا الأثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية: {إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة:39]، وكذلك الآية: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة:120] نسختها الآية التي بعدها وهي: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]، أي أن النفير لا يكون لازماً للعامة وإنما يكون للخاصة.
ومنهم من يقول: إن الآيتين محكمتان، وإنهما غير منسوختين، ولكن النفير العام يكون في بعض الأحوال، ونفير الخاصة يكون في بعض الأحوال، فنفير الخاصة يكون في حال عدم تعين الجهاد، بمعنى أنه لم يحصل الاستنفار من الإمام، وكذلك إذا لم يكن العدو قد داهم أهل البلد، أما إذا داهم العدو البلد المسلم فإن على أهل هذا البلد الذي دوهموا أن ينفروا جميعاً للقتال والدفاع عن بلدهم، وصد الكفار عن غزوهم ودخولهم في بلادهم واستيلائهم عليها، وكذلك أيضاً إذا استنفر الإمام الناس فليس لأحد أن يتخلف.
لأن الجهاد يكون فرض عين وفرض كفاية، فرض عين إذا استنفر الإمام الناس، مثلما استنفر النبي صلى الله عليه وسلم الناس في غزوة تبوك، فلم يتخلف إلا معذور أو منافق، وإلا ما كان من أمر الثلاثة الذين خلفوا.(294/10)
تراجم رجال إسناد أثر ابن عباس في نسخ نفير العامة بالخاصة
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد المروزي].
أحمد بن محمد بن ثابت المروزي ثقة أخرج له أبو داود.
[عن علي بن الحسين].
علي بن الحسين بن واقد وهو صدوق يهم أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو حسين بن واقد ثقة له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد النحوي].
يزيد بن أبي سعيد النحوي، وهوثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عكرمة].
عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس] عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(294/11)
شرح أثر ابن عباس في تفسير (إلا تنفروا يعذبكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب عن عبد المؤمن بن خالد الحنفي حدثني نجدة بن نفيع قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية: {إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة:39] قال: فأمسك عنهم المطر وكان عذابهم].
أورد أبو داود هذا الأثر عن ابن عباس في تفسير العذاب في قوله: {إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة:39] وفيه أنه حبس عنهم المطر، وكان هذا عذابهم.
هذا الأثر فيه تفسير من ابن عباس رضي الله عنه للعذاب في هذه الآية وأنه حبس المطر، والأثر ليس بصحيح؛ لأن في إسناده من هو مجهول وهو نجدة بن نفيع.(294/12)
تراجم رجال إسناد أثر ابن عباس في تفسير (إلا تنفروا يعذبكم)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فلم يخرج له في السنن، وإنما خرج له في عمل اليوم والليلة.
[عن زيد بن الحباب].
زيد بن الحباب، وهو صدوق أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد المؤمن بن خالد الحنفي].
لا بأس به، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن نجدة بن نفيع].
نجدة بن نفيع مجهول أخرج له أبو داود.
[عن ابن عباس].
وقد مر ذكره.(294/13)
الرخصة في القعود من العذر(294/14)
شرح حديث الرخصة في القعود من العذر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرخصة في القعود من العذر: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: (كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة، فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فخذي، فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم سري عنه وقال: اكتب، فكتبت في كتف: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) إلى آخر الآية، فقام ابن أم مكتوم -وكان رجلاً أعمى- لما سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله! فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السكينة فوقعت فخذه على فخذي ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: اقرأ يا زيد فقرأت: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:95] فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ) [النساء:95] الآية كلها، قال زيد: فأنزلها الله وحدها فألحقتها، والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف)].
أورد أبو داود [باب الرخصة في القعود من العذر].
أي: الرخصة في القعود عن الجهاد للعذر، وذلك في حق من يكون معذوراً، إما لكونه أعمى أو لكونه أعرج أو لكونه مريضاً، أو لكونه لا يستطيع السفر لأنه ليس عنده ظهر يركبه، كما جاء في حق الصحابة الذين ذكرهم الله عز وجل في قوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [التوبة:92].
وأورد أبو داود حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت عليه السكينة، وذكر ما يحصل له عند الوحي عليه، وأنه تصيبه شدة، وأنه كان بجنبه وكانت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذ زيد بن ثابت رضي الله عنه فثقلت عليه، وقد كان هذا شأنه صلى الله عليه وسلم عندما يوحي إليه؛ تصيبه شدة حتى يتصبب عرقاً في اليوم الشاتي الشديد البرودة لشدة ما يحصل له صلى الله عليه وسلم.
فلما سري عنه ذهب عنه وزال الذي حصل له عند نزول الوحي عليه فقال: [(اكتب يا زيد)] فكتب في كتف بعير، وهذا يدل على أن كتابة القرآن في الأشياء الطاهرة سائغ، فكتب زيد بن ثابت رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، وليس فيها: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [النساء:95]، ثم إن عبد الله بن أم مكتوم وكان أعمى قال: يا رسول الله! ما بال الذي لا يستطيع؟ فنزلت عليه السكينة مرة أخرى وحصل له ما حصل من الثقل، وكادت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ترض فخذ زيد بن ثابت لشدة الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمره أن يقرأ ما كتب، وأن يضيف: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [النساء:95] فكتبها عند صدع في الكتف قال: [فوالذي نفسي بيده كأني أنظر إليها عند ذلك الصدع] يعني الكسر، فكان يتذكر أن مكانها في الكتف عند ذلك الصدع، وهذا فيه ضبطه وتذكره للشيء وكأنه ينظر إليه.(294/15)
تراجم رجال إسناد حديث الرخصة في القعود من العذر
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن أبي الزناد].
صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبو الزناد وهو عبد الله بن ذكوان المدني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأبو الزناد لقب على صفة الكنية، وكنيته أبو عبد الرحمن فيكنى بابنه هذا الذي يروي عنه هنا ولقبه أبو الزناد، فاللقب على صفة الكنية.
[عن خارجة بن زيد].
خارجة بن زيد ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن ثابت] زيد بن ثابت رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(294/16)
شرح حديث أجر المتخلفين لعذر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حميد عن موسى بن أنس بن مالك عن أبيه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه، قالوا: يا رسول الله! وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ فقال: حبسهم العذر)].
أورد أبو داود حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه الجهاد بالنية، فهم معهم بنياتهم وقلوبهم وليسوا بأجسامهم، لكن أجسامهم متألمة متأثرة في المدينة حزناً على فوت الجهاد.
وهذا دليل على فضل النية الطيبة والقصد للجهاد في سبيل الله، فإن صاحبها يكون مأجوراً مثاباً على نيته، ومعلوم أن الإنسان يثاب بقصده ويثاب بحرصه واجتهاده.
وهذا الحديث يدل أيضاً على أن الجهاد كما يكون بالنفس والمال واللسان يكون بالنية.(294/17)
تراجم رجال إسناد حديث أجر المتخلفين لعذر
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حميد عن موسى بن أنس بن مالك].
مر ذكر موسى وحماد وحميد.
وموسى بن أنس ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه أنس، وقد مر ذكره.(294/18)
شرح سنن أبي داود [295]
الجهاد في سبيل الله شرف عظيم في الدنيا والآخرة؛ لكن قد ينشغل الإنسان فلا يقدر على الجهاد بنفسه، إلا أنه يمكن أن يجهز الغزاة في سبيل الله بالمال، أو يخلفهم في أهلهم بخير، فيكتب الله له أجر الغازي في سبيله.
وقد مدح الشرع الإقدام في سبيل الله، وذم الجبن والبخل، ومع ذلك فهو لا يسمح للمسلم أن يلقي بنفسه إلى التهلكة.(295/1)
ما يجزئ من الغزو(295/2)
شرح حديث زيد بن خالد فيما يجزئ من الغزو
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يجزئ من الغزو: حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا الحسين حدثني يحيى حدثني أبو سلمة حدثني بسر بن سعيد حدثني زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا)].
أورد أبو داود [باب ما يجزئ من الغزو]، أي: ما يكفي منه بحيث يعد الإنسان غازياً وإن لم يغز؛ وذلك بكونه قام مقام الغازي في رعاية أهله وإصلاح شئونهم وإيصال الخير إليهم ودفع الأذى عنهم.
قوله: [(من جهز غازياً في سبيل الله)] أي: من مكنه من الغزو، بمعنى أنه قدم له مركوباً يركبه أو أعطاه نفقة ينفقها في الغزو.
وقوله: [(فقد غزا)] لأن هذا الذي غزا في سبيل الله إنما قدر على الغزو بما بذله له، وبدون ذلك لا يستطيع ذلك الغازي أن يغزو إذا لم يكن هناك مركوبات أو زاد، فكونه يتصدق ويحسن فإنه يكون بذلك مأجوراً ومثاباً، فيكون كأنه قد غزا؛ لأنه تسبب في الغزو ومكن الغازي من الغزو.
قوله: [(ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا)].
معناه: أنه ساعد على غزوه؛ لكونه أراحه فيما يتعلق بأهله، وبدلاً من أن يكون مشغول البال بأهله الذين خلفهم وراءه فقد وجد من يكون مستعداً لرعايتهم والمحافظة عليهم وإيصال الخير إليهم ودفع الأذى عنهم، فيكون بذلك مشاركاً للمجاهدين في الغزو.(295/3)
تراجم رجال إسناد حديث زيد بن خالد فيما يجزئ من الغزو
قوله: [حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج].
عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الوارث].
عبد الوارث بن سعيد العنبري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسين].
الحسين بن ذكوان المعلم، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى].
يحيى بن أبي كثير اليمامي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بسر بن سعيد].
ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن خالد].
زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(295/4)
شرح حديث أبي سعيد فيما يجزئ من الغزو
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا سعيد بن منصور أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب عن يزيد بن أبي سعيد مولى المهري عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث إلى بني لحيان وقال: ليخرج من كل رجلين رجل، ثم قال للقاعد: أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً لبني لحيان فقال: [(ليخرج من كل رجلين رجل)] ومعناه أن يخرج بعضهم ويبقى بعضهم.
قوله: [(ثم قال للقاعد: أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج)].
ليس معنى ذلك أن أجر الخارج مقسم بينه وبينه، فيكون لهذا كذا ولهذا كذا، وإنما هذا له أجره كاملاً، وهذا له مثل نصف أجره، لكونه ساعد وأعان على حفظ ورعاية أهله، وكونه قام مقامه في حال غيبته؛ لأن المسألة فيها خيار بين من يقعد ومن يبقى، ولكن كل اثنين يخرج منهم واحد، فالذي اختار أن يبقى وقام برعاية أهل الخارج له مثل نصف أجر الخارج لقيامه بهذا العمل، فيكون هذا نظير ما جاء أن من يصلي النافلة جالساً له مثل نصف أجر القائم.(295/5)
تراجم رجال إسناد حديث أبي سعيد فيما يجزئ من الغزو
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن وهب].
عبد الله بن وهب المصري، ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن الحارث].
عمرو بن الحارث المصري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن أبي حبيب].
يزيد بن أبي حبيب المصري أيضاً، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن أبي سعيد مولى المهري].
يزيد بن أبي سعيد مولى المهري وهو مقبول أخرج له مسلم وأبو داود.
[عن أبيه].
وهو مقبول أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سعد بن مالك بن سنان، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(295/6)
الكلام على قوله في الحديث (فله نصف أجر الخارج)
ذكر الحافظ في الفتح أن بعض العلماء قال إن النصف هذه لعلها مقحمة، وإن له مثل الأجر، لكنه قال إن هذه اللفظة قد ثبتت في الصحيح، وهي موجودة في صحيح مسلم، فلا يصلح أن يقال إنها مقحمة.
ثم ذكر وجهاً لكونه يكون مثله في الأجر؛ وذلك أنه إذا جمع ما لهذا مع ما لهذا ثم قسم كان له النصف.
وهذا لا يستقيم؛ لأنه إذا صار لهذا نصف أجر وهذا أجر كامل فإنه إذا قسم يكون للغازي ثلاثة أرباع، فهذا الذي ذكره غير واضح.
وما ذكرناه من أنه يكون كالذي يصلي النافلة قاعداً مع قدرته على القيام فيكون له نصف أجر القائم أوضح، فيكون هذا من جنسه؛ لأنه كان قادراً على أن يسافر، ولكنه جلس وقام بهذه المصلحة وبهذه الفائدة أما إذا حصل له ذلك بعذر لكونه لا يستطيع أن يصلي قائماً فإنه ينال الأجر كاملاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم)، أخرجه البخاري في صحيحه.(295/7)
الجرأة والجبن(295/8)
شرح حديث ذم الجبن والبخل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الجرأة والجبن: حدثنا عبد الله بن الجراح عن عبد الله بن يزيد عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عبد العزيز بن مروان قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (شر ما في رجل شح هالع وجبن خالع)].
أورد أبو داود باباً في الجرأة والجبن، والجرأة هي الشجاعة والنشاط والقوة، والجبن ضدها، وهو الخور والضعف وعدم الإقدام، والشاعر يقول: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال أي: لو كان السؤدد يحصل بدون مشقة ما بقى أحد إلا نال السيادة، لكن يمنعهم من ذلك خوف الفقر من النفقة، وخوف القتل بسب الإقدام، فتمتنع عنهم السيادة.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة وفيه ذم الجبن والبخل، فالجبن في أن لا يجاهد بنفسه، والبخل في أن لا يجاهد بماله.
قوله: [(شر ما في رجل شح هالع)] لأنه يجعل الإنسان يضعف ويتأخر عن البذل خشية الفقر.
والشح قيل: إنه شدة البخل، فالبخل أعم منه، والشح أخص فهو نوع من البخل وهو أشده.
والهلع هو الجزع وعدم الصبر.
قوله: [(وجبن خالع)] أي: يخلع القلب من الضعف والخور، ومعناه أنه يستولي على قلبه ويخلعه فيكون ضعيفاً جباناً.
وفي الحديث ذم لمن لا ينفق في سبيل الله، وذم لمن لا يجاهد بنفسه في سبيل الله.(295/9)
تراجم رجال إسناد حديث ذم الجبن والبخل
قوله: [حدثنا عبد الله بن الجراح].
عبد الله بن الجراح هو صدوق يخطئ أخرج له أبو داود والنسائي في مسند مالك وابن ماجة.
[عن عبد الله بن يزيد].
عبد الله بن يزيد المقري المكي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن موسى بن علي بن رباح].
موسى بن علي بن رباح صدوق ربما أخطأ، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد العزيز بن مروان].
وهو عبد العزيز بن مروان بن الحكم والد الخليفة عمر بن عبد العزيز، وهو صدوق أخرج له أبو داود.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(295/10)
قوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)(295/11)
شرح حديث سبب نزول آية (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا ابن وهب عن حيوة بن شريح وابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو فقال الناس: مه مه، لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب رضي الله عنه: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما نصر الله نبيه وأظهر الإسلام قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد، قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية].
أورد أبو داود [باب قول الله عز وجل: ((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ))]، وأورد حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه في بيان سبب نزولها، وهو أنهم كانوا يجاهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أعز الله رسوله وأظهر دينه قالوا: لو أننا بقينا في أموالنا نصلحها ونعنى بها؛ لأننا قد قمنا بالجهاد وظهر الإسلام وانتشر، فنزل قول الله عز وجل: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] ففسرت التهلكة بكونهم يقعدون عن القتال.
وقيل لقعودهم عن القتال تهلكة لأنه يطمع أعداءهم بهم، حيث يجعلهم يضعفون أمام أعدائهم ويقوي رغبة أعدائهم فيهم، فيكون ذلك سبباً في هلاكهم، وبهذا يتضح أن كونهم يلقون بأيديهم إلى التهلكة بترك الجهاد أن الكفار لا يحسبون لهم حساباً ولا يقيمون لهم وزناً؛ لأنهم أخلدوا إلى الأرض، فيطمع فيهم الكفار كما هو حال المسلمين في هذا الزمان؛ لأنهم رغبوا في الدنيا وأقبلوا عليها وأعرضوا عن الجهاد في سبيل الله، فصار المسلمون في ضعف وخور، يخافون من الكفار والكفار لا يخافون منهم.
فقوله: ((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)) هذا هو سبب نزولها، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو معلوم؛ فإذا عرف الإنسان أن الغالب الهلاك فلا يقدم على شيء فيه إهلاك نفسه، ولكن إذا كان يعرف من نفسه أنه يعمل نكاية بالعدو دون أن ينالوه فإن هذا لا بأس به، أما كونه يقدم على عمل يؤدي إلى هلاكه فهذا يدخل تحت قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29] ومثل هذا ما يفعله بعض الناس من كونه يُفجَّر نفسه من أجل أن يلحق النكاية بالعدو، فإن هذا لا يسوغ وليس للإنسان أن يفعل مثل هذا الفعل، ومثل هذا الفعل إذا حصل فالعدو لا يقف عند هذا الحد، بل يعاقب ويحصل منه النكاية بالمسلمين، ويزهق من النفوس ويتلف من الأموال أضعاف أضعاف ما حصل بسبب هذا الإقدام الذي حصل من هذا الذي قتل نفسه، وهذا قاتل لنفسه وليس شهيداً ولا مجاهداً، وإنما هذا منتحر قاتل لنفسه، ولا يترتب على ذلك مصلحة للمسلمين، وإنما يترتب على ذلك مضرة للمسلمين؛ لكون الأعداء يقدمون على أن يفتكوا بالمسلمين، بل ويمكن أن يلحقوا الضرر بأبرياء ليس لهم دخل في مثل هذا العمل الذي قد حصل.
وإذاً: فـ أبو أيوب رضي الله عنه بين سبب نزول الآية، ومعلوم أن ذلك واضح جلي في أن الإخلاد إلى الدنيا والرغبة فيها والإعراض عن الجهاد في سبيل الله، مما يضعف المسلمين ويقوي أعداءهم ويجعلهم هائبين بعد أن كانوا مهيبين، وهذا هو الواقع المشاهد المعاين في هذا الزمان.
وقوله: [على الجماعة] يعني الجيش الذي ذهب من المدينة أميره عبد الرحمن بن خالد بن الوليد.
وقسطنطينية هي مدينة كان فيها ملك الروم، وهي الآن إسطنبول.
قوله: [والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة].
معناه أنهم خرجوا من المدينة من مدينة القسطنطينية، وظهروا منها واستعدوا للقتال.(295/12)
تراجم رجال إسناد حديث سبب نزول آية (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)
قوله: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح].
أحمد بن عمرو بن السرح المصري، ثقة أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن ابن وهب].
مر ذكره.
[عن حيوة بن شريح].
حيوة بن شريح المصري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وابن لهيعة].
عبد الله بن لهيعة المصري، وهو صدوق احترقت كتبه فساء حفظه، ورواية العبادلة عنه كانت قبل الاختلاط، وهنا يروي عنه عبد الله بن وهب الذي هو أحد العبادلة الأربعة، الذين هم: عبد الله بن وهب وعبد الله بن مسلمة وعبد الله بن يزيد المقري وعبد الله بن المبارك، ثم أيضاً هو مقرون هنا، فليست الرواية عنه وحده، بل الرواية عنه وعن حيوة بن شريح المصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأما عبد الله بن لهيعة فأخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن يزيد بن أبي حبيب].
يزيد بن أبي حبيب المصري، مر ذكره.
[عن أسلم أبي عمران].
أسلم أبو عمران ثقة أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبي أيوب].
أبو أيوب الأنصاري، وهو خالد بن زيد رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بكنيته أبو أيوب، وقد كانت وفاته بالقسطنطينية، وقد دفن بها رضي الله عنه وأرضاه.(295/13)
شرح سنن أبي داود [296]
أمر الله عباده المؤمنين أن يعدوا للكفارين ما استطاعوا من قوة، وفسر النبي عليه الصلاة والسلام القوة بالرمي، فإنها أعظم ما يثخن في الأعداء مع سلامة الرامي من بأسهم، وقد حث النبي عليه الصلاة والسلام أمته على الرمي، ورغبهم في تعلمه وإتقانه.(296/1)
ما جاء في الرمي(296/2)
شرح حديث: (إن الله يدخل ثلاثة الجنة بالسهم الواحد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرمي.
حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عبد الله بن المبارك حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني أبو سلام عن خالد بن زيد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن الله عز وجل يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله، وارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه ونبله، ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها) أو قال: (كفرها)].
أورد أبو داود باباً في الرمي، والرمي هو إرسال السهام والنبل على الأعداء، والمقصود من ذلك أن يتعلمه الإنسان ويجيده حتى يتمكن من إنفاذ السهام في الأعداء، وإجادة الإنسان الرمي بكونه يوصل السهم إلى الهدف الذي يريده والجهة التي يريد أن يوصل السهم إليها، وإنما يكون ذلك بتعلم الرمي وبالتعود عليه واعتياده.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه في ذلك.
قوله: (يدخل في السهم الواحد ثلاثة نفر الجنة صانعه يحتسب الأجر عند الله عز وجل) كون الإنسان يصنع السهام من أجل أن يستعملها المسلمون وينتصروا على أعدائهم هو مأجور على نيته، وكذلك الرامي الذي يحصل منه إرسال السهم إلى الأعداء، وكذلك المنُبل وهو الذي يكون معه يساعده، بمعنى أنه يمد له النبل إذا رمى، أو يأخذ الذي يقع من السهام حتى يعاد مرة أخرى، فهو الذي يساعد الرامي.
قوله: (وارموا وأركبوا).
فيه فضيلة استعمال الرمي واستعمال الركوب، وكل منهما مطلوب في الغزو والجهاد في سبيل الله، كما قال البوصيري في البردة يصف الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم: كأنهم في ظهور الخيل نبت ربا من شدة الحزم لا من شدة الحزم أي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتون على الخيل كثبوت الأشجار على الربا، وذلك من شدة القوة والنشاط لا من شدة الحزم، والشاعر يقول: أعز مكان في الدنا سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب والسابح الفرس الذي يجري ويمضي بسرعة ويكون صاحبه على ظهره متمكناً، فالركوب فيه قوة للإنسان وتعويد على الكر والفر.
قوله: (وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا)؛ لأن الرمي أنكى في العدو من الركوب.
قوله: (ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه ونبله).
أي: ليس من اللهو مأذون فيه أو مستحب أو سائغ إلا ثلاثة وهي المذكورة في الحديث.
قوله: (تأديب الرجل فرسه).
هو أن يروضه على الكر والفر والإقدام على ما يريد الإقدام عليه.
قوله: (وملاعبته أهله).
كذلك أيضاً هذا من اللهو المباح.
قوله: (ورميه بقوسه ونبله).
لأنه يستعد ويتهيأ ويمرن نفسه على الرمي استعداداً للجهاد في سبيل الله.
قوله: (ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها).
يعني أنه ظفر بخير كثير ثم أضاعه على نفسه، (أو هي نعمة كفرها) أي: أضاع هذه النعمة ولم يحافظ عليها، فيكون قد ضيع على نفسه خيراً كثيراً وضيع على نفسه شيئاً عظيماً.(296/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن الله يدخل ثلاثة الجنة بالسهم الواحد)
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عبد الله بن المبارك].
عبد الله بن المبارك المروزي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلام].
ممطور الأسود الحبشي ثقة يرسل.
[عن خالد بن زيد].
هو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عقبة بن عامر].
عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(296/4)
شرح حديث: (إن القوة الرمي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن أبي علي ثمامة بن شفي الهمداني أنه سمع عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر يقول: ({وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي)].
هذا الحديث فيه بيان وتفسير للقوة التي أمر الله تعالى بإعدادها في قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] ففسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن القوة هي الرمي؛ وذلك لأن المسلمين كانوا يعدون العدد لجهاد الأعداء، وكان السلاح الموجود في ذلك الزمان هو السهام والنبل، وإرسالها إلى الأعداء يقال له: الرمي، فالنبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه القوة بما هو مشاهد معاين وبما هو السلاح الموجود في ذلك الزمان فقال: [(ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي)].
وهذا فيه بيان القرآن بالسنة، والسنة تبين القرآن وتشرحه وتوضحه وتدل عليه، وفيه بيان السنن وإعلانها على المنابر.
ويدخل في الرمي إعداد كل ما فيه قوة للمسلمين على الكفار من الأسلحة الحديثة التي حصلت في هذا الزمان، والتي يكون بها الاقتتال بين الناس، فإن إعدادها وتهيئتها داخل في عموم قوله سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]؛ لأن كلمة القوة جاءت مطلقة عامة، ومعنى ذلك أن كل ما فيه قوة للمسلمين وإعداد العدة لقتال أعدائهم، فإن العناية به والتدرب عليه داخل تحت القوة التي قال الله عز وجل فيها: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60].
ثم إن الرمي أيضاً كما يكون بالسهام والنبل الذي كان هو السلاح الموجود في زمانهم يكون بالأسلحة الحديثة التي وجدت في هذا الزمان، مثل البنادق والرشاشات وغير ذلك.(296/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن القوة الرمي)
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن وهب].
عبد الله بن وهب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن الحارث].
عمرو بن الحارث المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي علي ثمامة بن شفي].
ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عقبة بن عامر].
عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(296/6)
شرح سنن أبي داود [297]
لا يقبل الله العمل إلا إذا كان خالصاً وابتغي به وجهه؛ ولذا يجب على المجاهدين أن يصلحوا نياتهم، وأن يقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا، وأن يحذروا أشد الحذر من أن يريدوا بقتالهم الدنيا، فما عند الله خير لهم وأبقى.(297/1)
من يغزو ويلتمس الدنيا(297/2)
شرح حديث معاذ فيمن يغزو للدنيا
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن يغزو ويلتمس الدنيا.
حدثنا حيوة بن شريح الحضرمي حدثنا بقية حدثنا بحير عن خالد بن معدان عن أبي بحرية عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الغزو غزوان: فأما من ابتغى وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، وياسر الشريك، واجتنب الفساد؛ فإن نومه ونُبهه أجر كله؛ وأما من غزا فخراً ورياء وسمعة، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض؛ فإنه لم يرجع بالكفاف)].
قوله: باب فيمن غزا يلتمس الدنيا يعني من كان الباعث له على الغزو هو أنه يريد الدنيا، فهذا مذموم، ولكنه إذا أراد إعلاء كلمة الله، وأيضاً أراد أن يرجع بأجر وثواب عند الله عز وجل أو بغنيمة يحصلها؛ فإن ذلك لا بأس به، وإنما المحذور أن يكون همه ورغبته وقصده الدنيا وليس الآخرة.
فمن قصد الآخرة وحصل له شيء من الدنيا فهو ثواب عاجل ينقص من أجره في الدار الآخرة كما مر بنا في باب السرية تغزو فتخفق، ومن لم يحصل على غنيمة فإنه يحصل الأجر كاملاً في الدار الآخرة.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن الغزو غزوان، أي: ينقسم إلى قسمين: قسم غزا للدنيا، وقسم يلتمس الأجر والثواب.
قوله: (فأما من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام).
أي: أن قصده حسن وهو الآخرة وليس قصده الدنيا، وأطاع الإمام في حدود ما هو طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وأنفق الكريمة) أي: أنفق الكريم والنفيس من ماله في سبيل الله عز وجل.
قوله: (وياسر الشريك) يعني ساهله، ولم تكن معاملته معه بشدة وبتضييق، بل بمسامحة ومساهله ومياسرة، وذلك فيمن يكون شريكاً له في عمل أو في تجارة أو غير ذلك.
قوله: (واجتنب الفساد) فكل ما هو فساد يجتنبه ويبتعد عنه.
قوله: (فإن نومه ونبهه أجر كله).
أي: هو على خير في حال نومه وفي حاله يقظته مادام غازياً في سبيل الله؛ لأن كل حركة وسكون منه من حين يخرج إلى أن يرجع خير، فكله له أجر، وهذا يدل على عظم ثواب من خرج في سبيل الله يريد بذلك وجه الله، ويريد بذلك إعلاء كلمة الله، ولم يكن همه الدنيا وحطامها.
قوله: (وأما من غزا فخراً ورياء وسمعة، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض؛ فإنه لم يرجع بالكفاف).
الكفاف أن يرجع لا له ولا عليه، فلا حصل أجراً ولا أصابه إثم، أما من خرج رياء فإنه يرجع بتحصيل الإثم، لأن هذا التفاخر والتعالي والترفع، والإفساد في الأرض، وكونه يعصي الإمام؛ كل هذه الأمور يؤاخذ عليها، فلا يرجع بالكفاف، بل يرجع وعليه إثم؛ لأن فالأول رجع بالشيء الذي هو له، وأما هذا رجع بالشيء الذي هو عليه.(297/3)
تراجم رجال إسناد حديث معاذ فيمن يغزو للدنيا
قوله: [حدثنا حيوة بن شريح الحضرمي].
حيوة بن شريح الحضرمي ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن بقية].
بقية بن الوليد، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن بحير].
بحير بن سعد وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن خالد بن معدان].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بحرية].
اسمه عبد الله بن قيس، ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[عن معاذ بن جبل].
معاذ بن جبل رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الإسناد كله شاميون، فهو مسلسل بالرواة الشاميين.(297/4)
شرح حديث أبي هريرة فيمن يغزو للدنيا
قال المصنف رحمه الله قال: [حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع عن ابن المبارك عن ابن أبي ذئب عن القاسم عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن ابن مكرز رجل من أهل الشام عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: (يا رسول الله! رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضاً من عرض الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا أجر له، فأعظم ذلك الناس، وقالوا للرجل: عد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلعلك لم تفهمه، فقال: يا رسول الله! رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضاً من عرض الدنيا، فقال: لا أجر له، فقالوا للرجل: عد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له الثالثة، فقال له: لا أجر له)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل يريد الجهاد وهو يبتغي عرضاً من الدنيا، فقال: لا أجر له، لأن الذي يدفعه للجهاد هو أن يحصل عرضاً دنيوياً من غنيمة أو أجرة، والمقصود من ذلك أن قصده الدنيا وحدها، ولا يريد إعلاء كلمة الله، والصحابة رضي الله عنهم استعظموا ذلك، لأنهم يقصدون من أراد إعلاء كلمة الله وتحصيل الغنيمة، وقد سبق أن مر بنا أن السرية إذا أخفقت رجعوا بالأجر الكامل، وإذا حصلت شيئاً من الغنائم فإنهم تعجلوا ثلثي أجرهم.
وهذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه من هو مجهول، وهو ابن مكرز.(297/5)
تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة فيمن يغزو للدنيا
قوله: [حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع].
أبو توبة الربيع بن نافع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن ابن المبارك].
عبد الله بن المبارك ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي ذئب].
محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن القاسم].
عن القاسم بن عباس وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن بكير بن عبد الله بن الأشج].
بكير بن عبد الله بن الأشج المصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن مكرز].
قيل: هو يزيد بن مكرز، وهو مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(297/6)
من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا(297/7)
شرح حديث أبي موسى فيمن قاتل لإعلاء كلمة الله من طريق حفص بن عمر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي وائل عن أبي موسى رضي الله عنه أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إن الرجل يقاتل للذكر، ويقاتل ليحمد، ويقاتل ليغنم، ويقاتل ليرى مكانه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من قاتل حتى تكون كلمة الله هي أعلى فهو في سبيل الله عز وجل)].
أورد أبو داود رحمه الله باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، أي من كان كذلك هو الذي حصل منه الجهاد حقيقة، وحصل منه القتال حقيقة، أما من كان على غير ذلك فهذا قاتل للشيء الذي قاتل من أجله، وقد حصل له ذلك الشيء الذي أراده، أما من أراد نصرة الإسلام وأن تكون كلمة الله هي العليا، فيعبد الله وحده لا شريك له، ويدخل الكفار في دين الله، أو يرضخوا لحكم الإسلام فيشاهدوا تطبيق أحكام الإسلام فيكون ذلك سبباً في هدايتهم ودخولهم في الإسلام، أو يبقوا على ما هم عليه ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون؛ فإن القتال الذي يكون على هذا الوجه هو الذي يكون محموداً ويكون صاحبه مجاهداً حقيقة.
أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في ذلك.
قوله: (إن الرجل يقاتل للذكر).
يعني ليذكر.
قوله: (ويقاتل ليحمد).
أي: ليحمده الناس ويقولون إنه شجاع.
قوله: (ويقاتل ليغنم).
أي: يقاتل للدنيا والغنيمة فقط.
قوله: (ويقاتل ليرى مكانه).
يعني يرى منزلته عند الناس وقصده أن يعلو عند الناس.
قوله: [(من قاتل حتى تكون كلمة الله هي أعلى فهو في سبيل الله)].
أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم جواباً من أتى به فهو الذي يكون في سبيل الله، ومن لم يأت به فهو يقاتل لما أراده: (ولكل امرئ ما نوى)، فقال عليه الصلاة والسلام: (من قاتل لتكون كلمة الله هي أعلى فهو سبيل الله) أما المقاتلة للذكر أو ليحمد عند الناس ويشار إليه بالبنان، فهذا ليس في سبيل الله.(297/8)
تراجم رجال إسناد حديث أبي موسى فيمن قاتل لإعلاء كلمة الله من طريق حفص بن عمر
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
[عن شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن مرة].
عمرو بن مرة الهمداني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي وائل].
هو شقيق بن سلمة الكوفي، مشهور بكنيته، وهو ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي موسى].
أبو موسى الأشعري اسمه عبد الله بن قيس رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(297/9)
شرح حديث أبي موسى فيمن قاتل لإعلاء كلمة الله من طريق الطيالسي وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا علي بن مسلم حدثنا أبو داود عن شعبة عن عمرو قال: سمعت من أبي وائل حديثاً أعجبني فذكر معناه].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى بالمعنى الأول.
قوله: [حدثنا علي بن مسلم].
ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[عن أبي داود].
هو سليمان بن داود الطيالسي، ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن شعبة عن عمرو عن أبي وائل].
قد مر ذكرهم.(297/10)
شرح حديث عبد الله بن عمرو في أن المقاتل يبعث على نيته
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن حاتم الأنصاري حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا محمد بن أبي الوضاح عن العلاء بن عبد الله بن رافع عن حنان بن خارجة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال عبد الله بن عمرو: (يا رسول الله! أخبرني عن الجهاد والغزو، فقال: يا عبد الله بن عمرو إن قاتلت صابراً محتسباً بعثك الله صابراً محتسباً، وإن قاتلت مرائياً مكاثراً بعثك الله مرائياً مكاثراً! يا عبد الله بن عمرو! على أي حال قاتلت أو قتلت بعثك الله على تلك الحال)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهاد والغزو فقال: [(إن قاتلت صابراً محتسباً بعثك الله صابراً محتسباً).
قوله: (على أي حال قاتلت أو قتلت بعثك الله على تلك الحال).
هذا توضيح لما تقدم من أنه إن قاتل صابراً محتسباً فإنه يبعث صابراً محتسباً، وإن قاتل مفاخراً مكاثراً فإنه يبعث كذلك.
وفيه أن المعتبر النيات في الأعمال كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي هو أول حديث في صحيح البخاري: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)، فهذا الذي نوى في جهاده نصرة الإسلام محتسباً الأجر والثواب من الله عز وجل يبعث على نيته، والذي قاتل مكاثراً مرائياً فإنه يبعث على نيته، والناس يبعثون على نياتهم كما جاء في الحديث (إن جيشاً يغزو الكعبة ثم يهلكهم الله في بيداء من الأرض، قيل: كيف وفيهم من ليس منهم؟ قال: يهلكون ثم يبعثون على نياتهم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
قوله: (مكاثراً) المكاثرة تكون بالدنيا وذلك بجمع المال، أو يقول: أنا حضرت كذا كذا معركة، قال الله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2].
وهذا الحديث إسناده ضعيف.(297/11)
تراجم رجال إسناد حديث عبد الله بن عمرو في أن المقاتل يبعث على نيته
قوله: [حدثنا مسلم بن حاتم الأنصاري].
مسلم بن حاتم الأنصاري صدوق ربما وهم، أخرج له أبو داود والترمذي.
[عن عبد الرحمن بن مهدي].
عبد الرحمن بن مهدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن أبي الوضاح].
محمد بن أبي الوضاح صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن العلاء بن عبد الله بن رافع].
هو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن حنان بن خارجة].
حنان بن خارجة مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن عبد الله بن عمرو].
عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(297/12)
شرح سنن أبي داود [298]
للشهيد في سبيل الله فضل كبير تواترت به أدلة الكتاب والسنة، وذلك لأن الشهيد باع نفسه لله؛ فلذا لا ينبغي للمجاهد أن يجعل قصده الحصول على عرض من أعراض الدنيا، وإنما يبتغي بجهاده وجه الله تعالى، وما عند الله خير له من هذه الدنيا الفانية.(298/1)
فضل الشهادة(298/2)
شرح حديث ابن عباس في فضل الشهادة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في فضل الشهادة.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهبٍ معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياءٌ في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب؟ فقال الله سبحانه: أنا أبلغهم عنكم.
قال: فأنزل الله: ((وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) [آل عمران:169] إلى آخر الآية)].
أورد أبو داود فضل الشهادة، أي القتل في سبيل الله عز وجل، والله عز وجل أخبر عن الشهداء بأنهم {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران:169 - 170]، فأورد أبو داود حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر) الحديث.
قوله: (فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169])، فهذه الآية الكريمة فيها بيان حال المقتولين في سبيل الله، وأن أرواحهم في جوف طير خضر، وأرواح الشهداء تنعم منفردة وتنعم أيضاً متصلة بالأجساد، وكذلك أيضاً من يكون منعماً أو معذباً في القبر فإن العذاب يكون للروح والجسد والنعيم يكون للروح والجسد، وليس العذاب أو النعيم للروح وحدها، وإنما يكون لمجموع الأمرين والله على كل شيء قدير؛ فتكون الأرواح في الجنة ولها اتصال بالأجساد، وتنعم متصلة ومنفصلة، وذلك أن الإحسان حصل من مجموع الأرواح والأجساد، والإساءة حصلت من مجموع الأرواح والأجساد، وقد جاء في الحديث: (المسلم يفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها ونعيمها، والفاجر يفتح له باب إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ولا يزال كل منهما فيما هو فيه إلى أن تقوم الساعة).
وقد جاء في الحديث أن نسمة المؤمن على صورة طير في الجنة، وأرواح الشهداء في أجواف طير، وحديث: (نسمة المؤمن على صورة طير) رواه الإمام أحمد عن الإمام الشافعي، والإمام الشافعي رواه عن الإمام مالك، فهو مسلسل بثلاثة من الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة، وهو في المسند، فقد ذكره الحافظ ابن كثير عند تفسير هذه الآية {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، وذكر أن هذا إسناد عزيز مسلسل بثلاثة من الأئمة أصحاب المذاهب المشهورة.
قوله: (قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش).
أي: تحت العرش.
قوله: (فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم).
المقيل هو الاستراحة في وسط النهار، قال تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24].
قوله: (ولا ينكلوا عند الحرب).
أي: حتى لا يهتمون للقاء الأعداء خشية الموت.(298/3)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في فضل الشهادة
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وأما النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا عبد الله بن إدريس].
عبد الله بن إدريس الأودي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن إسماعيل بن أمية].
إسماعيل بن أمية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحابه الكرام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(298/4)
شرح حديث حسناء بنت معاوية (الشهيد في الجنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا عوف حدثتنا حسناء بنت معاوية الصريمية قالت: حدثنا عمي قال: (قلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: من في الجنة؟ قال: النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والوئيد في الجنة)].
أورد أبو داود حديث عم حسناء بنت معاوية الصريمية (أنه سأل النبي: من في الجنة؟ فقال: النبي في الجنة) والمراد به الجنس، أي: الأنبياء في الجنة.
قوله: (والشهيد في الجنة) هذا محل الشاهد.
قوله: (والمولود في الجنة).
المولود هو الصغير الذي لم يبلغ الحلم.
قوله: (والوئيد في الجنة).
الوئيد الذي وئد، أي دفن حياً كما كانوا يدفنون البنات خشية العار والأبناء خشية الفقر في الجاهلية.(298/5)
تراجم رجال إسناد حديث حسناء بنت معاوية (الشهيد في الجنة)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثا عوف].
عوف بن أبي جميلة الأعرابي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حسناء بنت معاوية].
وهي مقبولة، أخرج لها أبو داود.
[عن عمها].
يقال: اسمه أسلم بن سليم؛ ولم نجد له ترجمة، لكن هو صحابي لأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فجهالته وعدم معرفته لا تؤثر، لأن المجهول من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم المعلوم، والحديث حسنه الألباني أو صححه، وفيه هذه المرأة المقبولة التي هي حسناء بنت معاوية.(298/6)
الشهيد يشفع(298/7)
شرح حديث: (يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الشهيد يشفع.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا يحيى بن حسان حدثنا الوليد بن رباح الذماري حدثني عمي نمران بن عتبة الذماري قال: دخلنا على أم الدرداء ونحن أيتام، فقالت: أبشروا فإني سمعت أبا الدرداء رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته).
قال أبو داود: صوابه رباح بن الوليد].
قوله: (يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته)] أي: من قراباته أصوله وفروعه أو حواشيه، أو زوجاته؛ لأن كل هؤلاء أهل بيته.(298/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا يحيى بن حسان].
يحيى بن حسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا الوليد بن رباح الذماري].
الوليد بن رباح أو رباح بن الوليد وهو صدوق أخرج له أبو داود.
[حدثني عمي نمران بن عتبة الذماري].
وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[دخلنا على أم الدرداء].
وهي هجيمة، تابعية ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[سمعت أبا الدرداء].
عويمر بن زيد أو ابن مالك وهو صحابي جليل أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث حسنه الألباني أو صححه.(298/9)
النور يرى عند قبر الشهيد(298/10)
شرح أثر عائشة في النور عند قبر النجاشي
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النور يرى عند قبر الشهيد.
حدثنا محمد بن عمرو الرازي حدثنا سلمة -يعني ابن الفضل - عن محمد بن إسحاق حدثني يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما مات النجاشي كنا نتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور].
أورد أبو داود باباً في النور يرى عند قبر الشهيد، وأورد فيه هذا الأثر عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
وهذا الأثر موقوف على عائشة رضي الله تعالى عنها لم ترفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنها قالت: كنا نتحدث، وهذا الخبر إما أن يكون وصل إليهم أو أنه كان يشاع هذا الشيء، ولا يوجد ما يدل على ثبوته، والألباني يضعف هذا الأثر.(298/11)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة في النور عند قبر النجاشي
قوله: [حدثنا محمد بن عمرو الرازي].
محمد بن عمرو الرازي ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة.
[حدثنا سلمة -يعني ابن الفضل -].
سلمة بن الفضل صدوق كثير الخطأ، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة في التفسير.
[عن محمد بن إسحاق حدثني يزيد بن رومان].
محمد بن إسحاق مر ذكره، ويزيد بن رومان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
عروة بن الزبير، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
وهي أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والذي فيه الكلام هو سلمة بن الفضل الذي هو كثير الخطأ.
والنجاشي ليس بشهيد معركة؛ ولكن لعله حصل له نوع من أنواع الشهادة في غير المعركة، ومعلوم أنه جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الشهداء غير المقتولين كالغريق والمبطون، وقال النووي في رياض الصالحين: باب ذكر جماعة من الشهداء في ثواب الآخرة ويغسلون ويصلى عليهم، ثم أورد أحاديث عديدة فيها أناس ثبت أن لهم أجر شهيد، ولكن لا أدري ما الذي حصل للنجاشي.(298/12)
شرح حديث فضل من طال عمره في طاعة الله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة سمعت عمرو بن ميمون عن عبد الله بن ربيعة عن عبيد بن خالد السلمي رضي الله عنه قال: (آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين رجلين فقتل أحدهما ومات الآخر بعده بجمعة أو نحوها، فصلينا عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما قلتم؟ فقلنا: دعونا له، وقلنا: اللهم اغفر له وألحقه بصاحبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فأين صلاته بعد صلاته وصومه بعد صومه؟ -شك شعبة في صومه- وعمله بعد عمله؟ إن بينهما كما بين السماء والأرض)].
أورد أبو داود حديث عبيد بن خالد السلمي رضي الله عنه قال: (آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين رجلين، فقتل أحدهما ومات الآخر بعده بجمعة) أي: بأسبوع، لأنه يقال للأسبوع: جمعة، ويقال له: سبت كما جاء في الحديث: (فما رأينا الشمس سبتاً) أي: أسبوعاً، والمقصود من ذلك أنه مات بعده بأسبوع.
قوله: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما قلتم؟) أي: في دعائكم له.
قوله: (قلنا: اللهم ألحقه بصاحبه) يعني أنه يلحق بصاحبه الذي قتل.
قوله: (فقال صلى الله عليه وسلم: فأين صلاته بعد صلاته؟).
يعني المدة التي عاش بعده وهي سبعة أيام، وعمل فيها أعمالاً صالحة تكون زيادة له في الأجر والثواب، وهذا لا يدل على أن كل من تأخر عن غيره أنه يكون أفضل منه، ولكن يدل على أن الإنسان كلما يعيش ويعمر على طاعة الله عز وجل، وعلى عمل صالح، فإنه يكتب له حسنات ذلك، وقد يكون في الذين يموتون على فرشهم من هو أفضل ممن هو شهيد، بأن يكون مثلاً من الصديقين، ومعلوم أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه خير من الشهداء، بل هو خير من مشى على الأرض بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين، ولكن الحديث يدل على أن الإنسان إذا فسح له في الأجل وطال عمره فاستعمله في طاعة الله عز وجل فإنه يكون زيادة في ثوابه وزيادة في أجره عند الله عز وجل.
قوله: (فأين صلاته بعد صلاته وصومه بعد صومه وعمله بعد عمله؟ إن بينهما كما بين السماء والأرض).
يعني بهذا العمل الذي حصل في هذا الأسبوع، ولعل هذا الرجل من الصديقين.(298/13)
تراجم رجال إسناد حديث فضل من طال عمره في طاعة الله
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة سمعت عمرو بن ميمون].
عمرو بن ميمون ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن ربيعة].
قال الحافظ: ذكر في الصحابة، ونفاه أبو حاتم، ووثقه ابن حبان، أي أنه مختلف في صحبته، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي.
[عن عبيد بن خالد السلمي].
عبيد بن خالد السلمي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أبو داود والنسائي.
والحديث ليس فيه دلالة على الترجمة، لأنه ليس فيه ذكر النور على قبر الشهيد.(298/14)
بدعة الاحتفال بالإسراء والمعراج
نتكلم في هذه الليلة بمناسبة ليلة الإسراء والمعراج التي يظن بعض الناس أن لها ميزة، وأقول: إن ليلة الإسراء والمعراج لم يثبت أنها في ليلة معينة لا في ليلة سبع وعشرين ولا غيرها، ولو ثبت ذلك لم يكن ثبوتها مقتضياً أن تخص باحتفال أو بعمل خاص؛ لأن تخصيص الليالي والأيام بأعمال خاصة إنما يجب أن يسار فيه طبقاً لما جاءت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام ما جاء عنه شيء يدل على ذلك، فكيف ولم يثبت أنها في ليلة معينة معروفة عند العلماء؟! وعلى هذا فإن على المسلم أن يحرص على معرفة الأدلة ومعرفة الأحكام الشرعية، ويسأل عن الشيء قبل أن يعمله، فإن وجد أنه قد ثبت وأخبره بذلك من عنده علم بالسنة وحرص على معرفتها، فإنه يأخذ بما يفتيه به، أما إذا لم يكن هناك شيء من ذلك، فإن على الإنسان أن يقتصر على ما جاءت به الأدلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحذر من البدع ومحدثات الأمور.
وقد كتب شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه رسالة قيمة اسمها: التحذير من البدع، وهي تشتمل على أمور أربعة: تشتمل على بيان الاحتفال بالمولد النبوي وأنه لم يثبت في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، وكذلك بليلة النصف من شعبان، وكذلك الرؤيا التي تنسب إلى أحمد خادم الحجرة، وقد بين بطلان هذه البدع، وأنه لا يجوز للإنسان أن يعرج عليها أو أن يعمل بها أو أن يأخذ بها، وإنما عليه أن يكون متبعاً للسنن، والنبي الكريم عليه الصلاة والسلام قال: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وهو حديث متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها، وفي لفظ لـ مسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وعلى هذا فإن الواجب على المسلم أن يكون عمله مطابقاً للسنة؛ لأن الإنسان إذا كان عمله مطابقاً للسنة يحصل الأجر، أما إذا كان عمله غير مطابق للسنة بل كان مبنياً على بدعة فإنه لا يحصل أجراً بل يحصل إثماً.
ومعلوم أن دين الإسلام مبني على قاعدتين اثنتين لا بد منهما: إحداهما: ألا يعبد إلا الله، والثانية: ألا يعبد الله إلا طبقاً لما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالعمل إذا كان خالصاً لله وكان موافقاً لسنة رسول الله أجر صاحبه وأثيب، وإن تخلف أحد الأمرين فإنه يكون مردوداً على صاحبه، فلو عمل الإنسان العمل موافقاً للسنة ولكنه غير خالص لله، بل أشرك مع الله غيره؛ فإنه يكون مردوداً عليه، ولو كان العمل خالصاً لله ولكنه غير موافق لسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ رد على صاحبه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) يعني مردوداً عليه؛ لأن الشريعة قد كملت وليس فيها نقص، ولا تحتاج إلى تكميل، ولا تحتاج إلى إضافات، ولا تحتاج إلى بدع ومحدثات، وقد قال الإمام مالك رحمة الله عليه: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وقال: من قال: إن في الإسلام بدعة حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله عز وجل يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، فما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون ديناً اليوم، أي: ما لم يكن ديناً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يكون ديناً بعد ذلك، بل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو الحق والهدى، وما أحدث بعدهم فإنه من محدثات الأمور.
فالواجب هو الابتعاد عن البدع، والابتعاد عن محدثات الأمور، بل يحرص الإنسان على أن تكون أعماله مطابقة للسنة، وأن يكون حذراً من البدع، والله تعالى أعلم.(298/15)
الجعائل في الغزو(298/16)
شرح حديث ذم الجعائل على الغزو
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الجعائل في الغزو.
حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا، ح وحدثنا عمرو بن عثمان حدثنا محمد بن حرب المعنى وأنا لحديثه أتقن عن أبي سلمة سليمان بن سليم عن يحيى بن جابر الطائي عن ابن أخي أبي أيوب الأنصاري عن أبي أيوب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ستفتح عليكم الأمصار وستكون جنود مجندة، تقطع عليكم فيها بعوث، فيكره الرجل منكم البعث فيها، فيتخلص من قومه، ثم يتصفح القبائل يعرض نفسه عليهم، يقول: من أكفيه بعث كذا؟ من أكفيه بعث كذا؟ ألا وذلك الأجير إلى آخر قطرة من دمه)].
الجعائل: جمع جعل، والمراد بها ما يعطى للشخص في مقابل غزوه، بمعنى أنه لا يكون غزوه من أجل الجهاد في سبيل الله، ولكنه أجير يغزو من أجل الجعل الذي يعطى له، هذا هو المقصود بالترجمة.
ومعلوم أن الجهاد في سبيل الله يكون لوجه الله، ويكون لإعلاء كلمة الله، ولا يكون الباعث عليه تحصيل الدنيا وحطامها، وإنما يكون الباعث له إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيله، وهو مأجور على كل حال، سواء حصل غنيمة أو لم يحصل، أما أن يكون الباعث له على السفر للجهاد مع المجاهدين هو ذلك الجعل الذي جعل له، فيكون بمثابة الأجير الذي يعمل عملاً يأخذ عليه أجراً، فلا يكون بذلك متقرباً به إلى الله عز وجل، وذلك لا يليق بالمسلم ولا يسوغ له.
وقد أورد أبو داود حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وفيه قوله: (تقطع عليكم فيها بعوث).
يعني يؤخذ من هذه الجنود بعوث يختارون أو يقتطعون من غيرهم للغزو، فيذهبون للجهاد في سبيل الله، ثم من الناس من لا يريد أن يدخل في هذه البعوث التي تذهب للجهاد في سبيل الله، فيتخلص الواحد من أن يكون مع هؤلاء البعوث، ولكنه يذهب يتصفح وجوه الناس يطلب منهم أن يجعلوه أجيراً يستأجرونه ليذهب معهم على مقدار يحصله من الدنيا، فيكون الباعث له على ذلك هو هذا المال الذي يعطى له قبل أن يسافر، فيكون بذلك مسافراً من أجله.
قوله: (وستكون جنود مجندة تقطع عليكم فيها بعوث فيكره الرجل البعث فيها)، أي أن من الناس من يكره أن يدخل في جملة الجيش الذي يختار من قبيلته للجهاد، ولكنه بعد ذلك يفتش عمن يستأجره للجهاد.
قوله: (يقول: من أكفيه بعث كذا؟ من أكفيه بعث كذا؟).
بمعنى أني أكون بدله في الجهاد في مقابل أجرة، وفي مقابل جعل يوضع له.
قوله: (ألا وذلك الأجير إلى آخر قطرة من دمه).
أي: من كان هذا شأنه فهو أجير وليس بمجاهد، ولم يخرج لإعلاء كلمة الله، وإنما خرج من أجل هذا المال الذي طلبه وسعى لتحصيله.
وقوله: (إلى آخر قطرة من دمه) معناه أنه لو استمر على ذلك حتى قتل وهو على هذه النية فإنه يعتبر أجيراً، ولا يعتبر مجاهداً في سبيل الله، ومثل ذلك لا يسوغ، لأن الأعمال الصالحة يجب أن تكون خالصة لوجه الله، ولكنه إذا خرج للجهاد في سبيل الله يريد الأجر، فحصل غنيمة فهي من الرزق ومن الثواب المعجل الذي يعجله الله له في الدنيا قبل الآخرة، وهذا لا بأس به، وكذلك لو خصصت مبالغ للإنفاق على المجاهدين في سبيل الله، ثم خرج للجهاد، فاستفاد من هذه النفقات التي تصرف، فلا بأس بذلك أيضاً.
ولا يجوز للإنسان أن يؤجر نفسه ليجاهد في سبيل الله، وإنما يجب عليه أن يخرج إلى الجهاد يريد وجه الله.(298/17)
تراجم رجال إسناد حديث ذم الجعائل على الغزو
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي].
إبراهيم بن موسى الرازي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ح وحدثنا عمرو بن عثمان].
يعني أنه عبر عن شيخه الذي يروى عنه بأخبرنا، ثم حول السند إلى شيخ آخر فقال: ح وحدثنا عمرو بن عثمان].
وهو عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي، وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا محمد بن حرب].
محمد بن حرب وهو حمصي أيضاً ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[المعنى وأنا لحديثه أتقن].
يعني أن الطريقين متفقان في المعنى، وأنه لحديث محمد بن حرب الذي هو في الإسناد الثاني أتقن منه لحديث الراوي الذي في الإسناد الأول.
[عن أبي سلمة سليمان بن سليم].
وهو صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[عن يحيى بن جابر الطائي].
وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن أخي أبي أيوب].
ابن أخي أبي أيوب ويقال له: أبو سورة، وهو ضعيف أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبي أيوب].
أبو أيوب الأنصاري هو خالد بن زيد رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
فالحديث من حيث الإسناد غير صحيح، وقد ضعفه الألباني رحمه الله، لكن أخذ الأجرة على الجهاد لا يجوز.(298/18)
الرخصة في أخذ الجعائل(298/19)
شرح حديث الرخصة في أخذ الجعائل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الرخصة في أخذ الجعائل.
حدثنا إبراهيم بن الحسن المصيصي قال: حدثنا حجاج -يعني ابن محمد - ح وحدثنا عبد الملك بن شعيب حدثنا ابن وهب عن الليث بن سعد عن حيوة بن شريح عن ابن شفي عن أبيه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (للغازي أجره، وللجاعل أجره وأجر الغازي).
أورد أبو داود رحمه الله باب الرخصة في أخذ الجعائل، والمقصود من ذلك ما كان بغير اشتراط، وقد مر في الأحاديث: (من جهز غازياً فقد غزا)؛ ولكن كونه يعتبر نفسه أجيراً يتفق مع غيره على أنه يخرج للجهاد بأجرة، هذا هو الذي لا يجوز، وأما الذي يكون عنده رغبة في الجهاد، ولكن ليس له ظهر ولا زاد، ثم وجد من يتبرع له بظهر وزاد، وكان يريد الجهاد ولا يريد الدنيا، فهذا لا بأس به، وقد جاء في القرآن أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريدون الخروج فلا يجد ما يحملهم عليه، فيرجعون وعيونهم تفيض من الدمع حزناً، لأنهم لا يقدرون على أن يجاهدوا.
فهذا الذي عنده رغبة في الجهاد ولكنه عاجز عن النفقة والظهر فجهزه غيره يكون له أجر الجهاد، والذي أغزاه له أجر إنفاقه ومثل أجر المجاهد.
فقوله: [(للغازي أجره، وللجاعل أجره وأجر الغازي)].
معناه: للغازي الذي باشر الغزو أجره، وللجالس الذي جهزه أجره وله أيضاً مثل أجر الغازي، فله أجره على نفقته وعلى تمكينه من المركوب وله مثل أجر الغازي، فهذا يدل على أن الجهاد بالأموال شأنه عظيم؛ وذلك لأنه يمكن غيره من الجهاد، فيكون بذلك مأجوراً على إنفاقه ومأجوراً على كونه مكن غيره وتسبب في جهاد غيره.(298/20)
تراجم رجال إسناد حديث الرخصة في أخذ الجعائل
قوله: [حدثنا إبراهيم بن الحسن المصيصي].
إبراهيم بن الحسن المصيصي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا حجاج].
حجاج بن محمد المصيصي الأعور، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا عبد الملك بن شعيب].
عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا ابن وهب].
عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الليث بن سعد].
الليث بن سعد المصري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حيوة بن شريح].
حيوة بن شريح المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شفي].
وهو حسين بن شفي بن ماتع وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
وهو ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة في التفسير.
[عن عبد الله بن عمرو].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(298/21)
الرجل يغزو بأجر الخدمة(298/22)
شرح حديث الرجل يغزو بأجر الخدمة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يغزو بأجر الخدمة.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عاصم بن حكيم عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن عبد الله بن الديلمي أن يعلى بن منية رضي الله عنه قال: (أذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالغزو وأنا شيخ كبير ليس لي خادم، فالتمست أجيراً يكفيني وأجري له سهمه، فوجدت رجلاً، فلما دنا الرحيل أتاني، فقال: ما أدري ما السهمان وما يبلغ سهمي، فسم لي شيئاً كان السهم أو لم يكن، فسميت له ثلاثة دنانير، فلما حضرت غنيمته أردت أن أجري له سهمه، فذكرت الدنانير، فجئت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت له أمره، فقال: ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي سمى)].
قوله: باب في الرجل يغزو بأجر الخدمة، يعني أنه يغزو من أجل الخدمة فيكون مستأجراً للخدمة كأن يستأجره إنسان ليساعده لكونه بحاجة إلى المساعدة، أو يستأجر من أجل رعي الإبل والعناية بها، والحاصل أنه لم يخرج للجهاد، وإنما خرج أجيراً، وهو شبيه بالأول الذي مر في الحديث الضعيف الذي فيه أنه أجير إلى آخر قطرة من دمه، فهذا من جنسه، لأنه ما خرج للجهاد وإنما خرج أجيراً.
أورد أبو داود حديث يعلي بن أمية وهو يعلي بن منية، لأن أباه أمية، وأمه منية، فهو أحياناً ينسب إلى أمه وأحياناً ينسب إلى أبيه، وهو صحابي.
قوله: (أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغزو وأنا شيخ كبير).
أي: فاحتاج إلى من يكون معه ليساعده ويخدمه، فطلب من شخص أن يذهب معه ويكون له سهم في الغنيمة.
قوله: (فلما دنا الرحيل قال الرجل: ما أدري ما السهمان وما يبلغ سهمي) أي: ولا أدري هل يحصل شيء أو لا يحصل، ولكن أريد أن أخرج على أجر أتفق معك عليه من البداية، فاتفق معه على ثلاثة دنانير، ولما جاءت الغنيمة تذكر أنه اتفق معه على ثلاثة دنانير، فجاء يعلي بن منية إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي سمى) أي: لا يعطى شيئاً من الغنيمة، لأنه اتفق معه على هذا المقدار، وكذلك ليس له شيء في الآخرة، لأنه ما جاهد من أجل الله، وإنما خرج من أجل الأجرة.(298/23)
تراجم رجال إسناد حديث الرجل يغزو بأجر الخدمة
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عاصم بن حكيم].
عبد الله بن وهب مر ذكره، وعاصم بن حكيم صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود.
[عن يحيى بن أبي عمرو السيباني].
يحيى بن أبي عمرو السيباني ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة.
[عن عبد الله بن الديلمي].
ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن يعلي بن منية].
يعلي بن منية أبوه أمية وأمه منية، ينسب إلى أمه وينسب إلى أبيه، وهو صحابي أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث الصحيح الذي فيه أن الذي يخرج من أجل الدنيا لا يحصل ثواباً في الآخرة يطابق الحديث الذي سبق أن مر وفيه ابن مكرز عن أبي هريرة، وقلت: إن الشيخ الألباني ضعفه وأنا في الحقيقة قد وهمت في نسبة التضعيف للألباني، بل الشيخ حسنه في سنن أبي داود ولم يضعفه، ولكن إسناده فيه ابن مكرز، وقد ذكره في تهذيب التهذيب ولم يذكر فيه شيئاً من قدح أو توثيق، إلا أنه نقل عن علي بن المديني أنه قال: إنه مجهول؛ ولكن لعل الشيخ ناصر حسنه بمثل هذا الحديث.(298/24)
شرح سنن أبي داود [299]
للجهاد آداب يجب الوقوف عندها، فلا يخرج المجاهد في سبيل الله إلا بإذن أبويه ما لم يتعين الجهاد عليه، ولا يتخلف المرء عن الجهاد متذرعاً بجور الإمام ونحو ذلك، وإذا كان عنده فضل من مركوب ونحوه فليساعد به من يريد الجهاد ولا يجد ذلك، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.(299/1)
الرجل يغزو وأبواه كارهان(299/2)
شرح حديث الرجل يغزو وأبواه كارهان
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يغزو وأبواه كارهان.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثنا عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان، فقال: ارجع عليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)].
أورد أبو داود باب الرجل يغزو وأبواه كارهان، أي: ما حكم ذلك؟ وهذا فيه تفصيل، فإن كان الجهاد فرض عين فليخرج الإنسان للجهاد ولو لم يرض الأبوان، وإن كان فرض كفاية فلا يخرج إلا بإذنهما.
وإنما يكون فرض عين إذا استنفر الإمام، وكذلك لو دهم العدو المسلمين في بلدهم.
وإذا كان الأبوان كافرين فإن له أن يخرج بدون إذنهما ولو لجهاد التطوع؛ لأن الكافر متهم بأنه لا يريد للإسلام أن ينتصر.
قوله: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئت أبايعك على الهجرة).
معلوم أنهم كانوا يأتون إليه ويبايعونه على الهجرة، وإنما يهاجرون لينصروه وليجاهدوا معه في سبيل الله، وقد عرفنا فيما مضى أن المهاجرين لما انتقلوا من مكة إلى المدينة كانوا يريدون الهجرة والنصرة، فجمعوا بين الأمرين، وأن الأنصار عندهم النصرة، وأن المهاجرين أفضل من الأنصار لذلك، فهذا جاء يبايع على الهجرة، ومعناه أنه يكون تحت تصرفه ويغزو معه.
قوله: (ارجع عليهما فأضحكهما كما أبكيتهما) أي: أدخل السرور عليهما كما أدخلت الحزن عليهما.(299/3)
تراجم رجال إسناد حديث الرجل يغزو وأبواه كارهان
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
سفيان هو الثوري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا عطاء بن السائب].
عطاء بن السائب صدوق اختلط، والسماع منه قبل الاختلاط صحيح، فإذا سمع منه أحد قبل الاختلاط فيعتمد الحديث الذي يأتي من طريقه، وإذا كان بعد الاختلاط فإنه لا يعول عليه، وكذلك إذا جهل السماع هل كان قبل الاختلاط أو بعد الاختلاط فإن لا يعول عليه، وإنما يقبل إذا تحقق أن السماع كان قبل الاختلاط، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب في آخر ترجمة عطاء بن السائب ستة ممن صح سماعهم منه قبل الاختلاط، وفي مقدمتهم سفيان الثوري هذا، ويضاف إليهم الأعمش، ذكر ذلك الشيخ ناصر رحمه الله في السلسلة الصحيحة فيكونون سبعة.
وقد أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو السائب بن يزيد، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عمرو].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وقد مر ذكره.(299/4)
شرح حديث: (ففيهما فجاهد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي العباس عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله! أجاهد؟ قال: ألك أبوان؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد).
قال أبو داود: أبو العباس هذا الشاعر اسمه السائب بن فروخ].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أن (رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! أجاهد؟ فقال: هل لك أبوان؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) أي: اجعل جهادك في خدمتهما حيث يكونان محتاجين إليك، وكذلك إذا لم يأذنا وكان الجهاد تطوعاً، فإن الأمر يحتاج إلى إذنهما كما مر في الحديث، وكما يدل عليه قوله: (ففيهما فجاهد).(299/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (ففيهما فجاهد)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت].
محمد بن كثير وسفيان مر ذكرهما، وحبيب بن أبي ثابت ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي العباس].
هو السائب بن فروخ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمرو].
قد مر ذكره [قال أبو داود: أبو العباس هذا الشاعر اسمه السائب بن فروخ].
هذا توضيح لهذا الذي ذكر بكنيته وهو أبو العباس واسمه السائب بن فروخ.(299/6)
شرح حديث أبي سعيد في استئذان الأبوين في الجهاد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجاً أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (أن رجلاً هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من اليمن فقال: هل لك أحد باليمن؟ قال: أبواي، قال: أذنا لك؟ قال: لا.
قال: ارجع إليهما فاستأذنهما، فإن إذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما)].
أورد المصنف حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً جاء من اليمن مهاجراً وذكر الحديث، وفيه الأمر باستئذان الوالدين للجهاد، وهذا مثل الذي قبله حيث لا يتعين الجهاد، وأما إذا تعين فلا يحتاج إلى استئذان الأبوين.(299/7)
تراجم رجال إسناد حديث أبي سعيد في استئذان الأبوين في الجهاد
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث].
عمرو بن الحارث المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن دراجاً أبا السمح].
دراج أبو السمح صدوق، في حديثه عن أبي الهيثم ضعف، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن أبي الهيثم].
هو سليمان بن عمرو بن عبد، ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن أبي سعيد].
أبو سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنه، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث من رواية دراج عن أبي الهيثم، وتقدم أن فيها ضعفاً؛ ولكن الحديثان اللذان قبله شاهدان له.(299/8)
النساء يغزون(299/9)
شرح حديث غزو النساء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النساء يغزون.
حدثنا عبد السلام بن المطهر حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغزو بـ أم سليم ونسوة من الأنصار ليسقين الماء ويداوين الجرحى)].
أورد أبو داود باب في النساء يغزون.
أي أن يذهب بهن أولياؤهن من أجل الاستفادة منهن في أمور خاصة، فهن لا يجاهدن ولا يقاتلن ولسن من أهل الغزو، ولكن كونهن يسقين ويداوين الجرحى هذا هو الذي جاء في الحديث الإشارة إليه، وقد قال النووي: إذا كان الذي تعالجه من محارمها فإنها تلمسه، وأما إذا كان غير محرم فإنها تداويه بدون مس.
قوله: (كان الرسول يغزو بـ أم سليم ونسوة من الأنصار) المقصود بذلك أن معهن محارمهن، وأنس رضي الله عنه هو ابن أم سليم، فإذا خرجت فابنها معها، وكذلك النساء اللاتي يخرجن أيضاً معهن محارمهن لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم).
قوله: [ليسقين الماء ويداوين الجرحى].
أي: يساعدن في سقي الماء، أما القتال فلسن من أهله، قال الشاعر: كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول(299/10)
تراجم رجال إسناد حديث غزو النساء
قوله: [حدثنا عبد السلام بن مطهر].
عبد السلام بن مطهر صدوق، أخرج حديثه البخاري وأبو داود.
[عن جعفر بن سليمان].
وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ثابت].
ثابت بن أسلم البناني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث من الرباعيات عند أبي داود، وهي أعلى الأسانيد عنده.(299/11)
الغزو مع أئمة الجور(299/12)
شرح حديث أنس في الغزو مع أئمة الجور
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الغزو مع أئمة الجور.
حدثنا سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية حدثنا جعفر بن برقان عن يزيد بن أبي نشبة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله، ولا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار)].
أورد أبو داود باب الجهاد مع أئمة الجور يعني أن الجهاد يكون مع من قام به براً أو فاجراً، ولا يشترط في الذي يجاهد معه أن يكون عدلاً وأن يكون تقياً، فمن يكون والياً على الجيش سواء كان براً أو فاجراً فإنه يجاهد معه، ولو كان عنده نقص ولو كان عنده ذنوب؛ لأن هذا جهاد لإعلاء كلمة الله ولتكون كلمة الله هي العليا، فيكون مع البر والفاجر، وكما أن الصلاة تصح وراءهم فكذلك الجهاد.
قوله: (ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله).
أي: أنه عندما يكون هناك قتال مع الكفار فقال كافر: لا إله إلا الله، فإنه يكف عنه ولا يقتل، لأنه قال: لا إله إلا الله، فالناس لا يعلمون ما في قلبه وهل هو صادق أو كاذب، ولكن يكف عنه، وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أنكر على من قتله وقال: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟!).
قوله: (ولا نكفره بذنب).
أي: من قال: لا إله إلا الله لا يكفر بذنب، إلا إذا كان مستحلاً له، فالذنب الذي يكون معلوماً من الدين بالضرورة من يستحله يكفر، كأن يستحل الزنا أو يستحل شرب الخمر، أو ينكر أمراً واجباً معلوماً من الإسلام بالضرورة وجوبه.
قوله: (ولا نخرجه من الإسلام بعمل).
أي: ولو كان كبيرة من الكبائر إلا إذا كان مستحلاً، فهذا قريب في المعنى من قوله: (لا نكفره بذنب).
فلا تكفير بذنب إلا إذا استحله فاعله فإنه يكون بذلك كافراً؛ إلا فيما يتعلق بالصلاة، فإنه إذا تركها متعمداً جاحداً لوجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين، وإما إذا تركها تهاوناً وتكاسلاً، فهذا فيه خلاف بين أهل العلم، والصحابة رضي الله عنه وأرضاهم يرون كفره كما جاء عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله لم يكن عندهم شيء من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.
قوله: (والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل أخر أمتي الدجال).
أي: منذ أذن له في الجهاد، وإلا فإنه إنما أذن له بالجهاد بعد أن هاجر إلى المدينة صلى الله عليه وسلم.
قوله: (لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل).
هذا محل الشاهد، ومعناه أنه يجاهد مع البررة والفجار.
قوله: (والإيمان بالأقدار).
أي أن الإيمان بالقدر من أصول الإيمان، وهو من أصول الإيمان الستة التي جاءت في حديث جبريل: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ويوم الآخر والقدر خيره وشره).
والحديث ضعيف، ففي إسناده من هو مجهول.(299/13)
تراجم رجال إسناد حديث أنس في الغزو مع أئمة الجور
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور عن أبي معاوية].
أبو معاوية محمد بن خازم الضرير الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جعفر بن برقان].
جعفر بن برقان صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد بن أبي نشبة].
وهو مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن أنس].
أنس رضي الله عنه قد مر ذكره.(299/14)
شرح حديث أبي هريرة في الغزو مع أئمة الجور
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب حدثني معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أو فاجراً، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر، والصلاة واجبة على كل مسلم براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر).
قوله: (الجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أو فاجراً) يعني مع البررة ومع الفجار ما دام أن الجهاد لإعلاء كلمة الله.
(والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم).
معناه أن من صحت صلاته صحت إمامته، لكن عند الاختيار لا يصلح أن يختار من هو فاسق أو مبتدع، وذلك حيث تكون بدعة مفسقة أما من كانت بدعته مكفرة فلا يصلي وراءه.
قوله: [(وإن عمل الكبائر)].
يعني وإن كان فاسقاً مرتكباً لشيء من الكبائر.
قوله: [(والصلاة واجبة على كل مسلم براً كان أو فاجراً)].
المقصود الصلاة على الجنازة، فيصلى على جنازته إذا توفي براً كان أو فاجراً.(299/15)
تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة في الغزو مع أئمة الجور
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح عن ابن وهب عن معاوية].
معاوية بن صالح بن حدير، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن العلاء بن الحارث].
وهو صدوق، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن مكحول].
مكحول الشامي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق.
والحديث فيه انقطاع، لأن رواية مكحول عن أبي هريرة منقطعة.(299/16)
الرجل يتحمل بمال غيره يغزو(299/17)
شرح حديث الرجل يتحمل بمال غيره يغزو
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الرجل يتحمل بمال غيره يغزو.
حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا عبيدة بن حميد عن الأسود بن قيس عن نبيح العنزي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما حدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه أراد أن يغزو فقال: (يا معشر المهاجرين والأنصار! إن من إخوانكم قوماً ليس لهم مال ولا عشيرة، فليضم أحدكم إليه الرجلين أو الثلاثة فما لأحدنا من ظهر يحمله إلا عقبة كعقبة -يعني أحدهم- قال: فضممت إلي اثنين أو ثلاثة، قال: ما لي إلا عقبة كعقبة أحدهم من جمل)].
قوله: باب الرجل يتحمل بمال غيره يغزو يعني هو نفسه يستفيد من مال غيره، أو غيره يفيده بماله، وذلك حيث يكون الإنسان غير قادر على أن يجاهد، لأنه ليس له مركوب، فإنه لا بأس ولا مانع من أن يسافر، ولكن يكون هناك تناوب على الركوب بأن يتناوب اثنان أو ثلاثة على بعير، هذا هو المقصود بالتحمل، يحمله غيره، أو يحمله بعير غيره عند الحاجة إلى ذلك.
قوله: (ليس لهم مال ولا عشيرة) أي ليس لهم مال يشترون به الظهر، وليس لهم عشيرة تساعدهم في ذلك.
قوله: (فليضم أحدكم إليه الرجلين أو الثلاثة).
أي في بعيره، فيكون معه اثنان أو ثلاثة يتناوبون الركوب على بعيره، فيكون لكل واحد نوبة في الركوب.
قوله: (فما لأحدنا من ظهر يحمله إلا عقبة كعقبة -يعني أحدهم- قال: فضممت إلي اثنين أو ثلاثة، مالي إلا عقبة كعقبة أحدهم من جملي).
أي: فضم إليه اثنين أو ثلاثة فيكون هو الثالث أو الرابع، فلم يكن له من جمله إلا نوبة كأحدهم.(299/18)
تراجم رجال إسناد حديث الرجل يتحمل بمال غيره يغزو
قوله: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري].
محمد بن سليمان الأنباري صدوق، أخرج له أبو داود.
[عن عبيدة بن حميد].
صدوق ربما أخطأ، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن الأسود بن قيس].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نبيح العنزي].
وهو مقبول، أخرج له أصحاب السنن.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي جليل، أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ونبيح هذا ذكر الحافظ في ترجمته في تهذيب التهذيب توثيقه عن ثلاثة، وذكر أن أربعة صححوا حديثه، وما ذكر كلاماً فيه إلا من واحد، ومع ذلك قال فيه الحافظ: مقبول، مع أن ثلاثة وثقوه وأربعة صححوا حديثه وهم: ابن خزيمة والترمذي وابن حبان والحاكم، والألباني صحح الحديث أو حسنه.(299/19)
الرجل يغزو يلتمس الأجر والغنيمة(299/20)
شرح حديث التماس الأجر والغنيمة بالغزو
قال رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يغزو يلتمس الأجر والغنيمة.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا أسد بن موسى حدثنا معاوية بن صالح حدثني ضمرة أن ابن زغب الإيادي حدثه قال: نزل علي عبد الله بن حوالة الأزدي رضي الله عنه فقال لي: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنغنم على أقدامنا، فرجعنا فلم نغنم شيئاً، وعرف الجهد في وجوهنا، فقام فينا فقال: اللهم لا تكلهم إلي فأضعف عنهم، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليهم، ثم وضع يده على رأسي أو قال: على هامتي، ثم قال: يا ابن حوالة! إذا رأيت الخلافة قد نزلت أرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام والساعة، والساعة يومئذ أقرب من الناس من يدي هذه من رأسك).
قال أبو داود: عبد الله بن حوالة حمصي].
سبق أن مر بنا أن الإنسان إذا كان قصده الدنيا فإنه لا يحصل أجراً، وقد مرت بعض الأحاديث في ذلك، ومنها حديث الرجل الذي قال: (لا أجد له في الدنيا والآخرة إلا هذه الدنانير التي سمى)، وكذلك الرجل الذي قال فيه: (هو أجير حتى آخر قطرة من دمه)، وأما إذا خرج الإنسان للجهاد في سبيل الله وأراد إعلاء كلمة الله، وحصل على غنيمة، فإن هذا لا بأس به، وإنما المحذور قصد الدنيا بالجهاد، أما إذا أراد الإنسان خير الدنيا والآخرة، فقد قال الله تعالى عن المؤمنين الذين أثنى عليهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
قوله: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لنغنم على أقدامنا، فرجعنا فلم نغنم شيئاً).
أي: بعثنا غزاة لنحصل أجراً وغنيمة فلم نحصل شيئاً.
قوله: (اللهم لا تكلهم إلي فأضعف عنهم).
أي: عن إيصال الأشياء التي يحتاجون إليها، فهو يسأل الله عز وجل أن يرزقهم من فضله، قال: (فأضعف عنهم) لأنه صلى الله عليه وسلم كان يأتي إليه أصحاب الأعذار يلتمسون منه أن يحملهم، فيقول: لا أجد ما أحملكم عليه، فيتولون وأعينهم تفيض من الدمع.
قوله: (ولا تكلهم إلى الناس) لأن الناس يريدون الحظوظ لأنفسهم، ويستأثرون بالمال عليهم فلا يحصلون ما يريدون.
قوله: (ثم وضع يده على رأسي، أو قال: على هامتي).
هما بمعنى واحد، فالهامة هي أعلى الرأس.
قوله: (ثم قال: يا ابن حوالة إذا رأيت الخلافة قد نزلت أرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام).
الأرض المقدسة هي أرض الشام.
قوله: (والساعة يومئذ أقرب من الناس من يدي هذه من رأسك).
فيه إشارة إلى أنها قريبة جداً، وفيه إشارة إلى الخلافة في زمن بني أمية، وقد حصل ما حصل من الفتن، وحصل ما حصل من الخير العظيم، فقد حصلت فتن وقلاقل، وحصلت أيضاً فتوحات عظيمة، حيث وصلوا إلى المحيط الأطلسي ووصلوا إلى بلاد الصين، وإلى السند والهند، واجتمعت الكلمة على معاوية رضي الله عنه وأرضاه، وحصل خير كثير بالنسبة لفتح البلاد وغزو الكفار في ديارهم، حيث كانوا يرسلون الجيوش شرقاً وغرباً.(299/21)
تراجم رجال إسناد حديث التماس الأجر والغنيمة بالغزو
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري، ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[عن أسد بن موسى].
أسد بن موسى هو الملقب أسد السنة، وهو صدوق يغرب، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والنسائي.
[عن معاوية بن صالح].
معاوية بن صالح بن حدير، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ضمرة].
ضمرة بن حبيب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[عن ابن زغب الإيادي].
وهو عبد الله بن زغب الإيادي مختلف في صحبته، أخرج حديثه أبو داود.
[عن عبد الله بن حوالة].
وهو صحابي، أخرج له أبو داود.
[قال أبو داود: عبد الله بن حوالة حمصي].
أي أنه من أهل حمص.(299/22)
الرجل يشري نفسه(299/23)
شرح حديث الرجل يشري نفسه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يشري نفسه.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا عطاء بن السائب عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عجب ربنا من رجل غزا في سبيل الله فانهزم -يعني أصحابه- فعلم ما عليه فرجع حتى أهريق دمه، فيقول الله تعالى لملائكته: انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي حتى أهريق دمه!)].
قوله: الرجل يشري نفسه أي: يبيعها، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّه} [البقرة:207]، يعني يبيعها، وقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] أي أنهم باعوها على الله، وذلك بتقديمها في سبيل الله عز وجل.
قوله: (عجب ربنا من رجل غزا في سبيل الله فانهزم -يعني أصحابه-) هذه مثل الكلمة التي مرت فيما مضى قال: (عقبة كعقبة يعني أحدهم) مضاف ومضاف إليه وجاء بينهما (يعني)، وهنا فعل وفاعل وجاء بينهما (يعني).
قوله: (فعلم ما عليه).
أي: ما يجب عليه، والمقصود بهذا أنه عند الفرار وعندما تحصل هزيمة يحصل ثبوت ولو كان العدد قليلاً، وذلك كما ثبت الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين حين انهزم أكثر أصحابه ولم يبق إلا عدد قليل، وبعد ذلك رجعوا.
قوله: [(فرجع حتى أهريق دمه)] هذا إنما يكون فيما إذا لم يكن الهلاك محققاً، فإذا كان الهلاك محققاً فليس للإنسان أن يقدم، كالذي يقتل نفسه بأي سبب من الأسباب، أو يسعى إلى قتل نفسه بشيء يزعم أن فيه نكاية بغيره، ثم يتسبب في قتل نفسه، ويحمل العدو على إزهاق نفوس كثيرة بسبب هذا الذي قد حصل منه.
[(فيقول الله تعالى لملائكته: انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي)].
أي: انظروا إلى عبدي رجع ليقاتل رغبة فيما عندي من الأجر والثواب، وشفقة مما عندي من العقاب.
قوله: (حتى أهريق دمه) أي: حتى قتل، ولكن إذا كان الإنسان لا يقوم بذلك الشيء إلا بأن يهلك نفسه فلا يلقي بنفسه إلى التهلكة، وأما إذا كان في ثبوته تشجيع لغيره وتثبيت لهم حتى يعودون، ثم تحصل منهم النكاية في العدو والانتصار عليه، فهذا هو الذي ينبغي أن يعمل.(299/24)
تراجم رجال إسناد حديث الرجل يشري نفسه
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حماد].
هو حماد بن سلمة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عطاء بن السائب].
وهو صدوق اختلط، وحديثه أخرجه البخاري وأصحاب السنن، والذين سمعوا منه قبل الاختلاط سبعة، وحماد بن سلمة مختلف في سماعه منه هل كان قبل الاختلاط أو بعد الاختلاط؟ وما كان من هذا القبيل فإنه لا يعول على روايته، لأنه إن كان قد سمع بعد الاختلاط أو محتمل أن يكون قبل الاختلاط أو بعده، فإن الرواية لا تكون صحيحة، وإذا كان السماع قبل الاختلاط فهذه الرواية تكون صحيحة، وحماد بن سلمة ممن اختلف في سماعه، ولم يجزم بكونه سمع قبل الاختلاط، ومع ذلك فإن الألباني رحمه الله صحح هذا الحديث أو حسنه بشواهده كما في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 624)، وصحيح الجامع (3981) والسنة لـ ابن أبي عاصم (5690).
والذين سمعوا من عطاء بن السائب قبل الاختلاط سبعة، ستة ذكرهم الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب في آخر ترجمة عطاء بن السائب وهم: سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وزائدة بن قدامة وزهير بن معاوية وحماد بن زيد وأيوب السختياني، والسابع هو الأعمش ذكره الصنعاني في نتائج الأفكار، وقد ذكره الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة تحت الحديث رقم (660)، فهؤلاء السبعة روايتهم عن عطاء صحيحة، وأما غيرهم فلم يثبت حصول السماع قبل الاختلاط، وحماد بن سلمة ذكر الحافظ في تهذيب التهذيب أنه اختلف فيه، فمنهم من قال: إنه سمع منه قبل الاختلاط، ومنهم من قال: إنه سمع بعده، ومعلوم أن الذي سمع قبل الاختلاط أو بعده ولم يتميز سماعه قبل الاختلاط فإنه لا يعتبر ولا يعول عليه.
[عن مرة الهمداني].
مرة الهمداني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(299/25)
شرح سنن أبي داود [300]
من أحكام الجهاد التي تكلم عنها العلماء أن من قتل نفسه حال الجهاد خطأً فهو شهيد، ومن سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه، ويستحب للمجاهدين الدعاء عند اللقاء، فإنه من مواطن استجابة الدعاء.(300/1)
من يسلم ويقتل مكانه في سبيل الله(300/2)
شرح حديث قصة من أسلم وقتل ولم يصل لله صلاة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن يسلم ويقتل مكانه في سبيل الله عز وجل.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن عمرو بن أقيش كان له رباً في الجاهلية، فكره أن يسلم حتى يأخذه، فجاء يوم أحد فقال: أين بنو عمي؟ قالوا: بأحد، قال: أين فلان؟ قالوا: بأحد، قال: فأين فلان؟ قالوا: بأحد، فلبس لأمته وركب فرسه ثم توجه قبلهم، فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا يا عمرو!، قال: إني قد آمنت، فقاتل حتى جرح، فحمل إلى أهله جريحاً فجاءه سعد بن معاذ فقال لأخته: سليه حمية لقومك أو غضباً لهم أم غضباً لله؟ فقال: بل غضباً لله ولرسوله، فمات فدخل الجنة وما صلى لله صلاة].
قوله: [فيمن يسلم ويقتل مكانه] أي: دخل في الإسلام ثم جاهد فقتل من ساعته، بمعنى أنه ما حصل وقت يؤدي فيه شيئاً من أعمال الإسلام، فإذا أسلم وجاهد ومات في ذلك الجهاد، فإنه يكون من أهل الجنة، لأنه دخل في الإسلام ومات على خير.
قوله: [إن عمرو بن أقيش كان له رباً في الجاهلية فكره أن يسلم قبل أن يأخذه]؛ لأنه أراد أن يأخذ الربا قبل أن يسلم، لأنه إذا أخذ الربا وهو كافر فإنه يبقى بيده ويسلم عليه، كالذي يكون عنده من قيمة الخمر فإن له أن يبقي عليها؛ لأن الإسلام يجب ما قبله.
قوله: [فلبس لأمته] قيل: إنها الدرع التي تتقى بها السهام، وقيل: إنها السلاح، وهو أعم من الدرع.
ثم إنه ذهب ولما أقبل على المسلمين قالوا: [إليك عنا يا عمرو] لأنهم ظنوا أنه باق على كفره.
[فقال: إني قد آمنت، فجاهد حتى جرح وحمل إلى أهله، فجاءه سعد بن معاذ فقال لأخته: سليه حمية لقومك أو غضباً لهم أم غضباً لله؟].
قوله: [فمات فدخل الجنة، وما صلى لله صلاة] أي: أنه ما تمكن من أن يصلي، فصار ممن عمل قليلاً وختم له بخير.
والناس بالنسبة للبدايات والنهايات ينقسمون إلى أقسام أربعة: منهم من ولد على خير ونشأ على خير ومات على خير، فالبداية حسنة والنهاية حسنة، ومنهم من ولد ونشأ على شر ومات على شر، والثالث البداية حسنة ونشأ على حال حسنة ثم أدركه الخذلان في آخر أمره فارتد ومات كافراً، فالبداية حسنة والنهاية سيئة، وعكسه مثل هذا الذي معنا في هذه القصة، وهو الذي عاش كافراً على شر ثم أسلم في نهاية أمره ومات على خير، فبدايته على شر ونهايته على خير.
ويدل على ذلك حديث ابن مسعود: (والذي نفسي بيده! إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإنما الأعمال بالخواتيم).(300/3)
تراجم رجال إسناد حديث قصة من أسلم وقتل ولم يصل لله صلاة
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل عن حماد عن محمد بن عمرو].
موسى بن إسماعيل وحماد مر ذكرهما، ومحمد بن عمرو هو ابن علقمة بن وقاص الليثي، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف المدني، ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه وأرضاه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً.(300/4)
الرجل يموت بسلاحه(300/5)
شرح حديث سلمة بن الأكوع فيمن يموت بسلاحه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يموت بسلاحه.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني عبد الرحمن وعبد الله بن كعب بن مالك، قال أبو داود: قال أحمد: كذا قال هو -يعني ابن وهب، وعنبسة يعني ابن خالد -، جميعاً عن يونس، قال أحمد: والصواب عبد الرحمن بن عبد الله، أن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: (لما كان يوم خيبر قاتل أخي قتالاً شديداً، فارتد عليه سيفه فقتله، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك وشكوا فيه: رجل مات بسلاحه! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مات جاهداً مجاهداً)، قال ابن شهاب: ثم سألت ابناً لـ سلمة بن الأكوع فحدثني عن أبيه بمثل ذلك، غير أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كذبوا! مات جاهداً مجاهداً، فله أجره مرتين).
قوله: [الرجل يموت بسلاحه] أي: يموت بسبب سلاحه، بمعنى أنه أمضى به يريد غيره فارتد عليه فأثر فيه ومات بسبب ذلك، فلا يقال: إنه قاتل نفسه؛ لأنه ما أراد قتل نفسه، وإنما أراد قتل الكفار فارتد عليه سيفه فقتله، فلا يعتبر ممن قتل نفسه، وإن كان ذلك حصل منه خطأً، قتل في سبيل الله، وهو مأجور على ذلك؛ لأنه مات وهو يجاهد في سبيل الله، وإنما قتل نفسه خطأ أو بفعل غيره، بحيث إنه ضرب السيف فرجع عليه، فمات بسبب ذلك.
قوله: [(فقال الناس في ذلك)] أي: تكلموا في ذلك وقالوا: إنه قاتل نفسه.
قوله: [(وشكوا فيه)] أي: شكوا في كون نهايته طيبة وأنه ممن استشهد، أو أنه ممن قتل نفسه، فترددوا في هذا، وفيهم من قال: إنه قاتل نفسه.
قوله: [(مات جاهداً مجاهداً)]، وفي الرواية الثانية قال: [(كذبوا)] يعني الذين قالوا: إنه قاتل نفس، وإنه لم يستشهد في سبيل الله، وإنما هو قاتل نفسه، فهؤلاء كذبوا فيما قالوه أو فيما ظنوه وتوهموه، والمقصود بالكذب هنا أن القول الذي قالوه خلاف الصواب، أو أنهم أخطئوا في فهمهم وتصورهم؛ لأن الكذب يأتي بمعنى الخطأ، مثل ما جاء عن عائشة: (من قال: إن محمداً رأى ربه فقد كذب) تعني: فقد أخطأ، وكثيراً ما يأتي في النصوص ذكر الكذب ويراد به الخطأ.
قوله: [(مرتين)] يحتمل أن المقصود أن له الأجر مرتين، ويحتمل أنها من الراوي وأن المقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم كرر العبارة فقال: (فله أجره فله أجره) وعلى هذا لا يكون الثواب قد ضعف له، ولا أدري وجه كونه يضاعف له الأجر مرتين، إذا كان المقصود تضعيف الأجر وليس تكرار الجملة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر المنذري كلاماً في تعيين هذا الذي ارتد عليه سيفه، فإن سلمة قال هنا: [قاتل أخي]، وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما أن عامر بن الأكوع عم سلمة بن عمرو الأكوع جرى له ذلك من رجوع سيفه عليه وقول الناس فيه ما قالوا، ورده صلى الله عليه وسلم بما رد، والظاهر أنهما قضيتان، وأن المنكرين على الثاني منهما غير الأولين، إذ لا يقول أحد من الأولين بعدما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم جوابه الأول.
وذكر أبو عبيدة القاسم بن سلام أن لـ سلمة بن الأكوع أخوين أحدهما عامر والآخر أهبان وذكر البغوي أن عامراً أخا سلمة صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر ابن سعد في الطبقات أن أهبان بن الأكوع أسلم وصحب النبي صلى الله عليه وسلم.
اهـ كلام المنذري.
وعلى كل فيحتمل أن تكونا قصتين مثلما قال، ويحتمل أن تكون قصة واحدة والتعبير بالأخ يقصد به أخوة الإسلام.(300/6)
تراجم رجال إسناد حديث سلمة بن الأكوع فيمن يموت بسلاحه
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح مر ذكره.
[عن عبد الله بن وهب].
عبد الله بن وهب المصري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتاب الستة.
[عن يونس].
يونس بن يزيد الأيلي المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عبد الرحمن وعبد الله بن كعب بن مالك].
الواو هنا عاطفة، ومعناه أنه أخبره اثنان لكن يشكل على ذلك أنه جاء [ابن] بعد ذلك، ولو كان عطفاً لقال: (ابنا كعب بن مالك) وأحمد الذي هو شيخ أبي داود قال: الصواب عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ومعناه أنه واحد وليس اثنين، والواو بدلها (ابن)، ويكون قوله بعد ذلك [ابن كعب بن مالك] على بابها وعبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[قال: أبو داود قال: أحمد هكذا قال هو، يعني ابن وهب، وعنبسة يعني ابن خالد].
وعنبسة بن خالد صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود.
[جميعاً عن يونس، قال أحمد: والصواب عبد الرحمن بن عبد الله أن سلمة بن الأكوع].
سلمة بن الأكوع صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال ابن شهاب: ثم سألت ابناً لـ سلمة بن الأكوع فحدثني عن أبيه بمثل ذلك].
يقول الحافظ: الظاهر أنه إلياس بن سلمة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(300/7)
شرح حديث معاوية بن سلام فيمن يموت بسلاحه
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا هشام بن خالد الدمشقي حدثنا الوليد عن معاوية بن أبي سلام عن أبيه عن جده أبي سلام عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أغرنا على حي من جهينة فطلب رجلاً من المسلمين رجل منهم، فضربه فأخطأه وأصاب نفسه بالسيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أخوكم يا معشر المسلمين! فابتدره الناس فوجدوه قد مات، فلفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثيابه ودمائه وصلى عليه ودفنه، فقالوا: يا رسول الله! أشهيد هو؟ قال: نعم.
وأنا له شهيد).
قال أبو داود: إنما هو معاوية عن أخيه عن جده، وهو معاوية بن سلام بن أبي سلام].
قوله: [(وأنا له شهيد)] أي: شاهد، والحديث في إسناده رجل مجهول، وهو سلام والد معاوية بن سلام، فهو حديث غير صحيح من حيث الإسناد، لأن فيه رجلاً مجهولاً.
قوله: [(فلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثيابه ودمائه وصلى عليه)].
معناه أنه ما غسل فيكون شهيداً، ولهذا قالوا: [(أشهيد هو؟ فقال: هو شهيد، وأنا على ذلك شهيد)] أما الصلاة عليه فإن الشهداء يجوز أن يصلى عليهم ويجوز ألا يصلى عليهم، والرسول صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء أحد قبل موته صلى الله عليه وسلم كما يصلي على الميت، فكان بذلك مودعاً للأحياء والأموات صلى الله عليه وسلم.(300/8)
تراجم رجال إسناد حديث معاوية بن سلام فيمن يموت بسلاحه
قوله: [حدثنا هشام بن خالد الدمشقي].
هشام بن خالد الدمشقي صدوق، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن الوليد].
الوليد بن مسلم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معاوية بن أبي سلام].
معاوية بن أبي سلام وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو سلام، وهو مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن جده أبي سلام].
جده أبو سلام هو ممطور الحبشي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم].
هو مبهم، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المجهول منهم في حكم المعلوم.(300/9)
الدعاء عند اللقاء(300/10)
شرح حديث: (ثنتان لا تردان: الدعاء عند النداء وعند البأس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الدعاء عند اللقاء.
حدثنا الحسن بن علي حدثنا ابن أبي مريم حدثنا موسى بن يعقوب الزمعي عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثنتان لا تردان أو قلما تردان: الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضاً).
قال موسى: وحدثني رزق بن سعيد بن عبد الرحمن عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ووقت المطر)].
قوله: [الدعاء عند اللقاء] أي دعاء المجاهدين عند لقاء الكفار، وذلك أن هذا الموطن من مواطن الإجابة، ومن المواضع التي يستجاب فيها الدعاء.
وقد أورد أبو داود حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: [(ثنتان لا تردان أو قلما تردان)] الشك هنا من الراوي.
قوله: [(الدعاء عند النداء)].
النداء هو الأذان.
قوله: [(وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضاً)].
هو شدة البأس حين يلتحم المسلمون مع الكفار ويقتتلون، فإن الدعاء في هذه الحالة يكون مجاباً.
وفي الطريق الآخر ذكر وقت المطر وهذا لم يصح؛ لأن رزق هذا هو ابن عبد الرحمن بن سعيد بن عبد الرحمن وهو مجهول.
فائدة: حديث استجابة الدعاء عند نزول المطر جاء عند الشافعي في الأم (1/ 223)، ولفظه: (اطلبوا إجابة الدعاء عند التقاء الجيوش وإقامة الصلاة ونزول المطر)، وقال الألباني: الحديث له شواهد من حديث ابن عمر وأبي أمامة خرجتها في التعليق الرغيب (1/ 116)، وهي وإن كانت مفرداتها ضعيفة إلا أنها إذا ضم بعضها إلى بعض يتقوى ويرتقي إلى مرتبة الحسن، وهو في صحيح الجامع (3078) وصحيح الترغيب والترهيب (260)، وصحيح ابن خزيمة (1/ 219).(300/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (ثنتان لا تردان: الدعاء عند النداء وعند البأس)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[عن ابن أبي مريم].
وهو سعيد بن الحكم بن أبي مريم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن موسى بن يعقوب الزمعي].
وهو صدوق سيء الحفظ، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن أبي حازم].
هو سلمة بن دينار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهل بن سعد].
سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال موسى: وحدثني رزق بن سعيد بن عبد الرحمن].
رزق بن سعيد بن عبد الرحمن مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن أبي حازم عن سهل بن سعد].
قد مر ذكرهما.(300/12)
من سأل الله الشهادة(300/13)
شرح حديث: (من سأل الله القتل من نفسه صادقاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن سأل الله الشهادة.
حدثنا هشام بن خالد أبو مروان وابن المصفى قالا: حدثنا بقية عن ابن ثوبان عن أبيه يرد إلى مكحول إلى مالك بن يخامر أن معاذ بن جبل رضي الله عنه حدثهم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من قاتل في سبيل الله فواق ناقة فقد وجبت له الجنة، ومن سأل الله القتل من نفسه صادقاً ثم مات أو قتل فإن له أجر شهيد).
زاد ابن المصفى من هنا: (ومن جرح جرحاً في سبيل الله أو نكب نكبة، فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها لون الزعفران، وريحها ريح المسك، ومن خرج به خراج في سبيل الله فإن عليه طابع الشهداء).
أورد أبو داود باباً فيمن سأل الله تعالى الشهادة، أي: سأل الله أن يكون شهيداً، فإنه قد يحصل منازل الشهداء، وإن مات على فراشه.
قوله: [(من قاتل في سبيل الله فواق ناقة)] أي: زمناً يسيراً، وفواق الناقة هو مقدار ما بين الحلبتين، قيل: إن المقصود بالحلبة كونه يمسك الثدي فيعصره ثم يعصره مرة ثانية، فيكون وقتاً قصيراً، وقيل: هو أن يحلب الناقة ثم يترك الفصيل يرضع، ثم يرجع إلى الضرع فيحلبه، والمقصود أن ذلك وقت قليل.
قوله: [(ومن سأل الله القتل من نفسه صادقاً ثم مات أو قتل فإن له أجر شهيد)].
يعني أنه يكون من الشهداء في ثواب الآخرة، وقد جاءت أحاديث كثيرة في ذكر جماعة من الشهداء يموتون على فرشهم، أو يموتون بسبب من الأسباب غير القتال في سبيل الله، والنووي في كتابه رياض الصالحين عقد ترجمة فقال: باب ذكر جماعة من الشهداء في ثواب الآخرة ويغسلون ويصلى عليهم.
وهذا هو محل الشاهد من الترجمة، يعني أنه من سأل الله الشهادة صادقاً من نفسه فله أجر شهيد.
[زاد ابن المصفى من هنا: (ومن جرح جرحاً في سبيل الله أو نكب نكبة، فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها لون الزعفران، وريحها ريح المسك)].
يعني أن ما قبل ذلك متفق عليه بين ابن المصفى وبين هشام بن خالد، وهذا مما انفرد به ابن المصفى.
[(ومن جرح جرحاً في سبيل الله أو نكب نكبة)] المعنى أن من جرح جرحاً في سبيل الله أو نكب نكبة فجاء وعليه هذا الأثر فهو دليل على شهادته في سبيل الله، ولهذا فإن الشهداء لا يغسلون حتى تبقى هذه الآثار عليهم، فتكون دليلاً على شهادتهم.
وفسرت النكبة بأنها بمعنى الجرح، وقيل: الجروح ما يكون من فعل الكفار، والنكبة الجراحة التي أصابته من وقوعه من دابته، أو وقوع سلاحه عليه، وبعضهم يقول: النكبة تعم الحوادث.
قوله: [(تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت)].
يعني في انصباب الدم.
قوله: [(ومن خرج به خراج في سبيل الله، فإن عليه طابع الشهداء)].
الخراج والقروح والدماميل تخرج من البدن، والطابع مثل الخاتم، أي: علامة الشهادة، وهذا يوضح معنى النكبة التي مرت، وأنه إذا أصيب بشيء بسبب سقوطه، أو بحصول شيء في جسده، وإن لم يكن بفعل الكفار، فإنه يكون شهيداً، وليس ذلك خاصاً بفعل الكفار.(300/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (من سأل الله القتل من نفسه صادقاً)
قوله: [حدثنا هشام بن خالد أبو مروان].
هشام بن خالد أبو مروان الدمشقي.
[وابن المصفى].
محمد بن مصفى، وهو صدوق له أوهام، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن بقية].
بقية بن الوليد، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن ثوبان].
هو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن أبيه] ثابت بن ثوبان، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[يرد إلى مكحول].
يعني يضيف إلى مكحول أو يسند إلى مكحول، ومكحول هو الشامي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[إلى مالك بن يخامر].
يعني: ويرده أيضاً إلى مالك بن يخامر، وهو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنه رآه فيكون صحابياً، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن معاذ بن جبل].
معاذ بن جبل رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث صححه الألباني.(300/15)
شرح سنن أبي داود [301]
جاء في الشرع مدح الخيل وأن الخير معقود بنواصيها، وقد جاءت أحاديث تبين ما يستحب من ألوان الخيل وما يكره.(301/1)
كراهية جز نواصي الخيل وأذنابها(301/2)
شرح حديث كراهية جز نواصي الخيل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كراهية جز نواصي الخيل وأذنابها.
حدثنا أبو توبة عن الهيثم بن حميد، ح: وحدثنا خشيش بن أصرم حدثنا أبو عاصم جميعاً عن ثور بن يزيد عن نصر الكناني عن رجل، وقال أبو توبة: عن ثور بن يزيد عن شيخ من بني سليم عن عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه وهذا لفظه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: [(لا تقصوا نواصي الخيل ولا معارفها ولا أذنابها، فإن أذنابها مذابها، ومعارفها دفاؤها، ونواصيها معقود فيها الخير)].
قوله: [(لا تقصوا نواصي الخيل ولا معارفها ولا أذنابها)].
نواصي الخيل هو ما يكون على رأسها وفي أعلى رأسها من الشعر.
ومعارفها جمع عرف، وهو الشعر الذي في أعلى الرقبة، يسترسل إلى جهة اليمين أو إلى جهة الشمال.
وأذنابها هو الشعر الذي يكون في الذيل أو الذنب.
قوله: [(فإن أذنابها مذابها)] أي تذب بها الذبابة والحشرات التي تقع عليها بحيث تحركها فيطير الشيء الذي يقع عليها، فهي من الذب.
قوله: [(ومعارفها دفاؤها)].
أي: فيها دفء لرقبتها.
قوله: [(ونواصيها معقود فيها الخير)].
جاء عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قوله عليه الصلاة والسلام: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة؛ الأجر والمغنم) والحديث حسنه الألباني، ولكنه ضعفه في المشكاة وضعفه أيضاً في ضعيف الجامع، ولكن هذه الجملة التي هي: [(في نواصيها الخير)] أشار إلى صحتها وأنه جاء فيها أحاديث، والإسناد فيه من هو مجهول وفيه من هو مبهم، ولا أدري سبب هذا التفاوت بين التصحيح والتضعيف والتحسين عند الشيخ الألباني وأيها المتقدم؟ ولكن في المشكاة كان سنده ضعيفاً، وقال هناك إنه ضعيف، وأحال إلى الترغيب والترهيب فيما يتعلق به، وأشار إلى صحة النواصي وأنه قد ورد فيها كما قلت أحاديث كثيرة، وأنا ذكرت في الفوائد المنتقاة أن الحافظ ابن حجر نقل هذا الحديث: (الخيل معقود في نواصيها الخير) عن عدد كثير من الصحابة في فتح الباري (6/ 650) وهو في الصحيحين وفي غيرهما.
وعلى كل فالحديث فيه النهي، والأصل أن لا يفعل شيء من ذلك، ولا شك أن قص الذيل لا يترتب عليه مصلحة، وكذلك فيما يتعلق بعرفها الذي يكون على رقبتها، وكذلك النواصي فالحديث وإن كان ضعيفاً إلا أنه لا ينبغي قص هذه الأشياء، لأنه ما ورد شيء يدل على أنها تقص(301/3)
تراجم رجال إسناد حديث كراهية جز نواصي الخيل وأذنابها
قوله: [حدثنا أبو توبة].
أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن الهيثم بن حميد].
صدوق أخرج له أصحاب السنن.
[ح وحدثنا خشيش بن أصرم].
وهو ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبي عاصم].
الضحاك بن مخلد النبيل، مشهور بلقبه النبيل، ومشهور بكنيته أبو عاصم، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثور بن يزيد].
وهو ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن نصر الكناني].
وهو مجهول أخرج له أبو داود.
[عن رجل].
وهو مبهم.
[وقال أبو توبة: عن ثور بن يزيد عن شيخ من بني سليم].
هذا طريق آخر عن شيخ من بني سليم، وهو مبهم.
[عن عتبة بن عبد السلمي].
وهو صحابي أخرج له أبو داود وابن ماجة.(301/4)
ما يستحب من ألوان الخيل(301/5)
شرح حديث ما يستحب من ألوان الخيل
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب فيما يستحب من ألوان الخيل: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا هشام بن سعيد الطالقاني حدثنا محمد بن المهاجر الأنصاري حدثني عقيل بن شبيب عن أبي وهب الجشمي رضي الله عنه، وكانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عليكم بكل كميت أغر محجل، أو أشقر أغر محجل، أو أدهم أغر محجل)].
هذا الباب فيه ما كانوا يستحبونه وما كانوا يكرهونه، قيل: ولعل العبرة أو المعول عليه فيما يستحب وما يكره أن ذلك يعود إلى التجربة، وأن التي ألوانها مستحبة قد جربت فوجدت صفاتها حميدة.
قوله: [(عليكم بكل كميت أغر محجل)].
هذه الصيغة: [(عليكم)] هي اسم فعل أمر بمعنى الزموها أو احرصوا عليها.
والكميت: قيل هو اللون بين السواد والحمرة.
والأغر: الذي ناصيته بيضاء.
والمحجل: هو الذي في قوائمه بياض.
قوله: [(أو أشقر أغر محجل)].
الأشقر هو الأحمر، وقوله: [(أغر محجل)] وقد كانت الإبل الحمر هي أنفس الإبل عندهم، وقد جاء في حديث سهل بن سعد في قصة علي: (فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)].
[(أو أدهم أغر محجل)].
الأدهم الذي لونه قريب من السواد.
لكن الحديث ضعيف، لأن فيه عقيل بن شبيب وهو مجهول، وسيأتي حديث بعده في الأشقر يدل على تميزه.(301/6)
تراجم رجال إسناد حديث ما يستحب من ألوان الخيل
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هارون بن عبد الله الحمال البغدادي ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن هشام بن سعيد الطالقاني].
هشام بن سعيد الطالقاني صدوق أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي.
[عن محمد بن المهاجر الأنصاري].
وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عقيل بن شبيب].
وهو مجهول أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي.
[عن أبي وهب الجشمي].
أبو وهب الجشمي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي.(301/7)
شرح حديث ما يستحب من ألوان الخيل من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا محمد بن عوف الطائي حدثنا أبو المغيرة حدثنا محمد بن مهاجر حدثنا عقيل بن شبيب عن أبي وهب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بكل أشقر أغر محجل، أو كميت أغر، فذكر نحوه).
قال محمد يعني ابن مهاجر: وسألته لم فُضِّل الأشقر؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية، فكان أول من جاء بالفتح صاحب أشقر].
ثم أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وفيه ما في الذي قبله إلا أنه زاد سؤال محمد بن مهاجر لـ عقيل بن شبيب.
وقد ذكر أن سبب تفضيل الأشقر أن أول من جاء يخبر بالنصر كان على أشقر، فمن أجل ذلك فضل الأشقر على غيره، والإسناد هو نفسه فيه عقيل بن شبيب هذا هو علة ضعفه.(301/8)
تراجم رجال إسناد حديث ما يستحب من ألوان الخيل من طريق أخرى
[حدثنا محمد بن عوف الطائي].
محمد بن عوف الطائي ثقة أخرج له أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة وفي مسند علي.
[عن أبي المغيرة].
هو عبد القدوس بن حجاج، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن مهاجر، عن عقيل بن شبيب عن أبي وهب].
وقد مر ذكرهم.(301/9)
شرح حديث ميامن الخيل
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا يحيى بن معين حدثنا حسين بن محمد عن شيبان عن عيسى بن علي عن أبيه عن جده ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يمن الخيل في شقرها)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يمن الخيل في شقرها)]، وهذا يدل على استحباب هذا اللون وتفضيله على غيره، وأن ذلك مما هو ميمون في الخيل، وهذا الحديث من حيث الإسناد صحيح، وهو متفق مع ما جاء فيما يتعلق بوصف الإبل: (فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، يعني أنها أنفس أنواع الإبل عندهم، وكذلك هنا الخيل يكون اللون الأحمر.
وقوله: [(يمن الخيل)] هو من اليمن، أي: فيه يمن وفيه بركة.(301/10)
تراجم رجال إسناد حديث ميامن الخيل
قوله: [حدثنا يحيى بن معين].
يحيى بن معين ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حسين بن محمد].
حسين بن محمد التميمي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شيبان].
شيبان بن عبد الرحمن، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عيسى بن علي].
وهو صدوق أخرج له أبو داود والترمذي.
[عن أبيه] علي بن عبد الله بن عباس، وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن جده ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(301/11)
هل تسمى أنثى الخيل فرساً(301/12)
شرح حديث تسمية أنثى الخيل فرساً
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب هل تسمى الأنثى من الخيل فرسا حدثنا موسى بن مروان الرقي حدثنا مروان بن معاوية عن أبي حيان التيمي حدثنا أبو زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يسمى الأنثى من الخيل فرسا)].
الفرس في اللغة يطلق على الذكر والأنثى، وتأتي الضمائر في الأحاديث للفرس مذكرة ومؤنثة، ويعرف تذكير الشيء وتأنيثه برجوع الضمائر إليه، أو بالإشارة إليه، وكذلك الفعل الماضي الذي تلحقه تاء التأنيث، وفي القاموس: الفرس مذكر ومؤنث.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة [(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمي الأنثى من الخيل فرسا)].
فهذا يدل على تسمية الأنثى فرساً كما ذكرنا.(301/13)
تراجم رجال إسناد حديث تسمية أنثى الخيل فرساً
قوله: [حدثنا موسى بن مروان الرقي].
موسى بن مروان الرقي مقبول أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن مروان بن معاوية].
مروان بن معاوية الفزاري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي حيان التيمي].
هو يحيى بن سعيد التيمي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي زرعة].
وهو ابن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.
ويحيى بن سعيد التيمي في طبقة يحيى بن سعيد الأنصاري، وقد قال الحافظ ابن حجر: إن يحيى بن سعيد في رجال البخاري وكذلك في رجال الكتب الستة أربعة: اثنان في طبقة واثنان في طبقة، فـ يحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى بن سعيد التيمي في طبقة متقدمة، ويحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن سعيد الأموي في طبقة متأخرة، وكلهم من الثقات الذين أخرج لهم البخاري وغيره.(301/14)
ما يكره من الخيل(301/15)
شرح حديث ما يكره من الخيل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يكره من الخيل: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن سلم -هو ابن عبد الرحمن - عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكره الشكال من الخيل) والشكال يكون الفرس في رجله اليمنى بياض وفي يده اليسرى بياض، أو في يده اليمنى وفي رجله اليسرى.
قال أبو داود: أي مخالف].
ثم أورد أبو داود [باب ما يكره من الخيل] يعني من أنواع الخيل وألوانها، فأورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره الشكال من الخيل)] ثم فسر الشكال من الخيل بأنه ما تكون اليد اليمنى فيها بياض والرجل اليسرى فيها بياض، أو اليد اليسرى والرجل اليمنى.
قول أبي داود: [أي: مخالف] يعني أن كل يد مخالفة للرجل بأن تكون هذه يمنى وهذه يسرى، وهذا خلاف المشهور والمعروف عند العرب من أن الشكال في الخيل أن تكون ثلاث قوائم محجلة وواحدة مطلقة ليس فيها بياض أو العكس كما ذكر ذلك في القاموس.
والحكمة في كراهته احتمال أن يكون هذا نوعاً مجرباً فوجد أنه ليس فيه قوة وليس فيه تميز، وقيل: الحكمة مجهولة لا تعلم، والله تعالى أعلم.(301/16)
تراجم رجال إسناد حديث ما يكره من الخيل
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
سفيان الثوري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سلم هو ابن عبد الرحمن].
سلم بن عبد الرحمن صدوق أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي زرعة عن أبي هريرة] وقد مر ذكرهما.(301/17)
شرح سنن أبي داود [302]
سخر الله الدواب والبهائم لابن آدم، وأوجب عليه رعايتها والقيام بحقوقها، وذلك بتغذيتها والحفاظ عليها، حتى يستخدمها إذا احتاج إليها، وقد أورد أبو داود الأحاديث المتعلقة بذلك.(302/1)
ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم(302/2)
شرح حديث (اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا مسكين -يعني ابن بكير - حدثنا محمد بن مهاجر عن ربيعة بن يزيد عن أبي كبشة السلولي، عن السهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال: اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة وكلوها صالحة)].
قوله: [باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم] يعني من القيام عليها برعايتها والإحسان إليها وعدم إلحاق الضرر بها، وعدم إيذائها.
قوله: [(مر ببعير قد لحق ظهره ببطنه)] يعني من الجوع ومن الهزال بحيث لصق بطنه بظهره، والأوضح أن يقال: لحق بطنه بظهره؛ لأن ظهره ثابت، وبطنه هو الذي يلحق بظهره أحياناً فيرتفع لهزاله، وأحياناً ينزل لأكله وكثرة ما يحصل له.
قوله: [(فقال: اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة)].
أي: التي لا تنطق ولا تعبر عن حاجتها ولا تفصح عما في نفسها، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتقوى الله تعالى فيها، وذلك بأن يحسن إليها ولا يساء وبأن تؤتى حقها، وترعى حق رعايتها، وتعطى ما تحتاج إليه، ويصرف عنها ما يسوءها، ولا تؤذى، هذا هو المقصود بتقوى الله عز وجل في البهائم المعجمة.
قوله: [(اركبوها صالحة، وكلوها صالحة)].
أي: بعد أن تكونوا قد أحسنتم إليها فصارت قوية.(302/3)
تراجم رجال إسناد حديث (اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة)
[حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن مسكين -يعني ابن بكير -].
وهو صدوق يخطئ أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن محمد بن مهاجر عن ربيعة بن يزيد].
محمد بن مهاجر مر ذكره، وربيعة بن يزيد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي كبشة السلولي].
ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن سهل بن الحنظلية].
عن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي.(302/4)
كلام الألباني في ضبط لفظة (كلوها) والتعليق عليه
يقول الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في ضبط (كلوها): قيدوها بضم الكاف من الأكل، وعليه جرى المناوي في شرح هذه الكلمة، فإذا صحت الرواية بذلك فلا كلام، وإلا فالأقرب عندي أنها (كِلوها) بكسر الكاف من وَكَل يَكِل كِل أي: اتركوها، هذا هو المتبادر من سياق الحديث ويؤيده الحديث المتقدم بلفظ: (اركبوا هذه الدواب سالمة وايتدعوها سالمة) أي: اتركوها سالمة.
قول الألباني رحمه الله: (الحديث المتقدم) يعني: في السلسلة الصحيحة وهو برقم اثنين وعشرين.
والرواية الواردة بلفظ (كلوها) جاءت أيضاً في الصحيحة (1/ 63) الحديث الثالث والعشرون.
فلو صحت الرواية بالكسر فنعم، وإلا فكلوها بالضم واضحة وهي الأصل، أي: كلوها صالحة أو اركبوها صالحة، وصالحة يعني: سليمة، وكونها أهلاً لأن تركب وأهلاً لأن تؤكل، فلا يساء إليها بحيث لا تعلف فتكون هزيلة ولحمها لا يكون طيباً، وكذلك الركوب عليها لا يكون مريحاً لها، بل يكون فيه مشقة عليها، وكونه لا ينفق عليها ثم تركب يجمع لها بين مصيبتين مصيبة الضعف الذي حصل لها بسبب عدم إطعامها بما يكون سبباً في قوتها ونشاطها، ومصيبة ركوبها على ما فيها من ضعف.(302/5)
الكلام على لفظة (وايتدعوها) الواردة في الحديث
ورواية الحديث الذي في الصحيحة: (اركبوا هذه الدواب سالمة وايتدعوها سالمة)، أي: اتركوها دعوها واضحة، لكن إذا صحت الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم بلفظة (ايتدعوها) فتكون لغة ولا شك، فهو أفصح الناس عليه الصلاة والسلام، وإن كان بعض أهل العلم يقول: إن الكلام الذي يضاف للرسول صلى الله عليه وسلم لا يقطع بأنه كلامه، لأن الرواية تأتي بالمعنى، وإذا ثبتت الرواية بالمعنى فلا يجزم بأنه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.(302/6)
شرح حديث شكوى الجمل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا مهدي حدثنا ابن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: (أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم، فأسر إلي حديثاً لا أحدث به أحداً من الناس، وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفاً أو حائش نخل، قال: فدخل حائطاً لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكت، فقال: من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله! فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لا أحدث به)، ومعنى ذلك أنه حديث خاص وسر، وليس من قبيل الأحكام الشرعية التي يجب بيانها للناس، وهو من جنس السر الذي كان حصل مع أنس بن مالك رضي الله عنه حيث قال لأمه: (إن النبي صلى الله عليه وسلم أسر إلي في حاجة فقالت: وما حاجته؟ قال: إنها سر قالت: لا تفشى سر رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: هذا لا يقال إنه من قبيل التشريع أو من قبيل الأحكام الشرعية التي يحتاج الناس إليها، وإنما هو من قبيل شيء خاص لا علاقة له بالتشريع كالذي حصل لـ أنس بن مالك في الحديث الذي أشرت إليه.
قوله: [(أردفني رسول الله)].
يعني: على دابة، وهذا فيه جواز الإرداف على الدابة إذا كانت مطيقة.
قوله: [(وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدف أو حائش نخل)].
يعني: عندما يقضي حاجته يستتر بشيء يستره عن الأنظار، والهدف شيء شاخص، أي: قائم مرتفع يستتر به، (أو حائش نخل)، وهو النخل الملتف المتقارب بعضه من بعض، بحيث إن الإنسان إذا جلس وراءه فإنه يستتر به، بخلاف ما إذا كانت النخلة لا يوجد إلا ساقها وساقها دقيق فإنه لا يستر كما ينبغي وإن كان يحصل به الستر، لكن ليس مثل الشيء الملتف الذي هو المشتبك بعضه ببعض.
قوله: [(فدخل حائطاً لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه)].
يعني: ذلك الجمل، فالنبي صلى الله عليه وسلم سأل عن صاحب الجمل قال: (من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار وقال: لي يا رسول الله! قال: ألا تتقي الله، فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه) معناه: أنه لا يطعمه، ومع ذلك يدئبه من الدأب وهو العمل عليه باستمرار وبدون غذاء، يعني: لا يغذيه ويتعبه في العمل والكد، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى الإحسان إلى هذه البهيمة، وأن الإنسان يعطيها ما تستحقه من الغذاء والطعام، كذلك أيضاً لا يكلفها ما لا تطيق، وإنما يستعملها في شيء تكون له مطيقة.
قوله: [(فإنه شكا إلي)].
وهذا من دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، كون الجمل شكا إليه، والرسول صلى الله عليه وسلم سمع منه هذه الشكوى، وفهمها منه.
وقوله: (فأتاه النبي)، يعني: هذا البعير (ومسح ذفراه)، المقصود: مؤخرة الرأس و (ذفرا) لفظ مفرد على صيغة التأنيث مثل: ذكرى، وليس مثنى بحيث يقال: ذفريه.
قوله: [(فسكت)] فسكت ذلك البعير عندما مسح عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه شكوى فهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه.
قال صلى الله عليه وسلم (أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياه).
أي: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي جعلها لملكك وتحت تصرفك، فعليك أن تتقي الله فيما تملك.(302/7)
تراجم رجال إسناد حديث شكوى الجمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا مهدي].
مهدي بن ميمون، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن أبي يعقوب].
محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن بن سعد].
الحسن بن سعد، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عبد الله بن جعفر].
عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وقوله: (أردفني) أي: على الدابة خلفه، ويستدل بحديث معاذ حيث يقول: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار).
ومعاذ كان رديفه صلى الله عليه وسلم على حمار، والإرداف على الدابة بأن يكون اثنين راكبين عليها، صاحب الدابة وغيره معه قبله أو قدامه، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن ابن مندة جمع الذين أردفهم النبي صلى الله عليه وسلم فبلغوا ثلاثين رجلاً.(302/8)
شرح حديث (في كل ذات كبد رطبة أجر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يمشي بطريق فاشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها، فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغني، فنزل البئر فملأ خفه فأمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب؛ فشكر الله له فغفر له، فقالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم لأجراً فقال: في كل ذات كبد رطبة أجر).
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (بينما رجل يمشي بطريق فاشتد عليه العطش فوجد بئراً، فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش).
قوله: [(يأكل الثرى)] يعني: التراب الذي فيه رطوبة، فتذكر الرجل وضعه وحالته التي كان عليها لما كان قد عطش قبل أن يشرب، فقال: قد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي قد حصل لي، يعني: مثل العطش الذي أدركته ورأيت أنني بحاجة شديدة إلى الشرب، فهذا الكلب حالته مثل حالتي لما كنت عطشان، فنزل وأخذ خفه الذي هو غير النعل، فأمسكه بفيه لأنه لا يستطيع أن يأخذه بيديه، من أجل أن يرقى ويصعد على البئر، ولكنه أمسكه بفيه واستعمل يديه للصعود حتى خرج إليه بهذا الخف، وسقاه من الماء الذي فيه، فشكر الله له فغفر له بسبب هذا الإحسان.
قوله: [(قالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم لأجراً)].
يعني: إذا أحسنا إليها وسقيناها (قال: نعم في كل ذات كبد رطبة أجر) يعني: في كل شيء فيه الروح.
وبعض أهل العلم قال: إنه إذا كان ذلك الحيوان يلزم قتله فإنه لا يسقيه، وإنما يقتله إذا كان مأموراً بقتله، ومنهم من قال: إنه يسقيه أولاً، ثم يقتله بعد ذلك حيث يكون مأذوناً في قتله.
وهذه القصة الظاهر أنها وقعت في الأمم السابقة، فهي من الأخبار التي تكون في الأمم السابقة.(302/9)
تراجم رجال إسناد حديث (في كل ذات كبد رطبة أجر)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
عبد الله بن مسلمة القعنبي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه الإمام، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرج له صحاب الكتب الستة.
[عن سمي مولى أبي بكر].
سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح السمان].
أبو صالح السمان واسمه: ذكوان ولقبه السمان ويقال أيضاً: الزيات؛ لأنه كان يجلب الزيت والسمن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
وقد مر ذكره.(302/10)
متى يؤجر العبد على إطعام الحيوانات؟
قد يقال: قوله: (في كل ذات كبد رطبة أجر) هل يعم حتى الحيوانات التي يربيها الإنسان للتجارة أو الحاجة بأن هذا عمله لله؟
و
الجواب
إذا كان مسئولاً عنه فيلزمه الإحسان إليه مثلما مر بنا فيما يؤمر به من القيام على البهائم، يعني: بالإحسان إليها ودفع الأذى عنها.
أقول: ما دام أنه هو المسئول عنها فيلزمه ذلك، وأما قصة هذا الرجل فهذا كلب مر به وأحسن إليه، فالشيء الذي ينميه للتجارة فيلزمه الإحسان إليه فيطعمه ويسقيه.
وأما الفضل والأجر فلا شك أن أي عمل واجب إذا فعله المرء يحتسب الأجر والثواب عند الله فإنه مأجور عليه، كأن ينفق على ذريته وأولاده وعلى أهل بيته، وهو يحتسب الأجر ويرجو الثواب فإنه يثاب عليه ولو كان واجباً، وأما إذا كان لا ينفق إلا بحكم عليه وبإلزام القاضي له، ولا يفعل ذلك من تلقاء نفسه فهذا لا يحصل على أجر، ولكنه سقط عنه الوجوب، فالأجر إنما يكون لمن نواه، وأما من أخذت منه الزكاة جبراً مثلاً فإنه يسقط عنه الواجب؛ لأنه أخذ منه الحق وهو كاره لإخراجه.(302/11)
ما جاء في نزول المنازل(302/12)
شرح حديث (كنا إذا نزلنا منزلاً لا نسبح حتى نحل الرحال)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في نزول المنازل.
حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثني محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن حمزة الضبي قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا إذا نزلنا منزلاً لا نسبح حتى نحل الرحال)].
أورد أبو داود هذه الترجمة (باب في نزول المنازل) وهذه الترجمة غير موجودة في أكثر النسخ، وهي في الحقيقة لا وجه لها، بل الحديث تابع للباب الذي قبله؛ لأن فيه الإحسان إلى البهائم وعدم الإساءة إليها، وأما نزول المنازل فالفائدة التي تحصل من وراء ذلك أن الناس المسافرين ينزلون المنازل، ولا بد لكل مسافر أن ينزل في المكان الذي فيه فائدة، ولكن الفائدة هي في الإحسان إلى البهائم وما يؤمر به الإنسان من القيام على البهائم.
والمعنى بهذه الترجمة غير مستقيم، لكن كونه ينزل على هيئة معينة أو على فئة معينة أو شيء يقال عند النزول فنعم، وأما مجرد نزول المنازل فليس فيه فائدة تذكر، ولكن الفائدة في الحديث هي في الإحسان إلى البهائم، وعلى هذا فتكون علاقته قوية وواضحة بالباب الذي قبل هذه الترجمة.(302/13)
تراجم رجال إسناد حديث (كنا إذا نزلنا منزلاً لا نسبح حتى نحل الرحال)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
محمد بن المثنى العنزي أبو موسى الملقب الزمن، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثني محمد بن جعفر].
محمد بن جعفر الملقب غندر، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حمزة الضبي].
حمزة الضبي، وهو صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(302/14)
ما جاء في تقليد الخيل بالأوتار(302/15)
شرح حديث (لا يبقين في رقبة بعير قلادة إلا قطعت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في تقليد الخيل بالأوتار.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عباد بن تميم أن أبا بشير الأنصاري رضي الله عنه أخبره (أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً قال عبد الله بن أبي بكر: حسبت أنه قال: والناس في مبيتهم: لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر ولا قلادة إلا قطعت) قال مالك: أرى أن ذلك من أجل العين].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب تقليد الخيل بالأوتار.
والأوتار: جمع وتر، وهي خيوط من جلد تكون فيه بالقسي، وقد أورد أبو داود هذا الحديث عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر ولا قلادة إلا قطعت).
قال مالك: أرى أن ذلك من أجل العين.
يعني: أنهم كانوا يفعلون ذلك من أجل دفع العين، أي أنهم كانوا يعلقون قلادة من وتر أو قلادة من أجل العين، وقيل: إن النهي عن ذلك لما فيه من مشقة عليها، ويكون ذلك سبباً في اختناقها عند الجري والركض، وقيل: إنه قد يكون ذلك أيضاً سبباً في كونه يعلق في الشجر، فيكون ذلك سبباً في هلاكها أو سبباً في حبسها فترة من الزمان دون أن ترعى، ودون أن تستفيد، فعلل هذا المنع بهذه العلل وبهذه الأسباب، وإذا كان هذا التعليق يترتب عليه مثل هذه المفاسد السيئة فهذا واضح أنه لا يجوز، ولكن العلماء ذكروا هذه التعليلات لهذا العمل الذي هو النهي عن التقليد وقطع القلائد لئلا يكون ذلك سبباً في هذه الأمور، فيصير النهي عامّاً يشمل الجميع.(302/16)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يبقين في رقبة بعير قلادة إلا قطعت)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم].
عبد الله بن مسلمة ومالك مر ذكرهما، وعبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عباد بن تميم].
عباد بن تميم، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بشير الأنصاري].
أبو بشير الأنصاري رضي الله عنه، وحديثه أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.(302/17)
حكم تعليق القلائد على الحيوانات وغيرها
قوله: [(فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً قال عبد الله بن أبي بكر: حسبت أنه قال: والناس في مبيتهم)].
معناه: أن هذا الرسول كان يمشي عليهم وهم مستقرون بائتون ليسوا مسافرين.
والتبويب في تقليد الخيل، والحديث ليس فيه ذكر الخيل، وإنما فيه ذكر الإبل، والتقليد المحذور يمكن أن يكون في الإبل أو في الخيل.
ويدخل في ذلك ما يوضع في المرآة القدامية للسائق من بعض الأشياء لأجل العين، ويدعون أنه يجعل الإنسان العائن ينظر إليه، ويكون انشغاله به عن هذا المركوب؛ وهذا لا شك أنه اعتقاد سيئ لا يجوز.
وأما بالنسبة للشرك فكما هو معلوم أنه إذا كان الإنسان يعتقد أن هذا الشيء ينفع ويضر، وأن النفع والضر منه فهذا يكون من الشرك الأكبر، وأما إذا كان لا يريد النفع منه، وإنما هو من الله عز وجل فهذا لا شك أنه من الشرك الأصغر.(302/18)
ما جاء في إكرام الخيل وارتباطها والمسح على أكفالها(302/19)
شرح حديث (ارتبطوا الخيل وامسحوا بنواصيها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب إكرام الخيل وارتباطها والمسح على أكفالها.
حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا هشام بن سعيد الطالقاني أخبرنا محمد بن المهاجر قال: حدثني عقيل بن شبيب عن أبي وهب الجشمي رضي الله عنه -وكانت له صحبة- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارتبطوا الخيل، وامسحوا بنواصيها وأعجازها -أو قال: أكفالها- وقلدوها، ولا تقلدوها الأوتار)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب إكرام الخيل وارتباطها والمسح على أكفالها.
يعني: كونها تربط وتعد وتهيأ لاستعمالها في الغزو والجهاد في سبيل الله، فيشرع للمرء أن يدخرها ويكرمها ويعتني بها، حتى إذا جاءت الحاجة إليها وهي تحت تصرفه يتمكن من الجهاد عليها.
وإكرامها هو بالإحسان إليها وتغذيتها، وعدم إيصال الأذى إليها.
والمسح على أكفالها يمكن أن يكون المقصود من ذلك تأنيسها، ويكون أيضاً لإزالة الغبار والتراب عنها أو الوسخ عنها، أو غير ذلك من الأسباب التي يمكن أن تكون مرادة من هذا الفعل الذي أرشدنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم.
أورد أبو داود حديث أبي وهب الجشمي رضي الله عنه.
قوله: [(ارتبطوا الخيل)].
يعني: اربطوها لاتخاذها وتنشئتها والمحافظة عليها وتهيئتها للغزو عليها.
قوله: [(وامسحوا بنواصيها وأعجازها)].
الناصية: مقدمة الرأس، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي جاء عن كثير من الصحابة: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والمغنم) وأعجازها: مؤخرها الذي هو كفلها.
قوله: [(أو قال: أكفالها، وقلدوها، ولا تقلدوها الأوتار)].
تقليده، أي: اجعل له أقلاده ولا تقلده الأوتار التي كانوا يتخذونها في الجاهلية، بأوتار القسي، فهذا فيه إشارة إلى التقليد وأنه يسوغ تقليدها، ومعلوم أن القلادة إذا كان المقصود بها شيء له حاجة كالخطام أو اللجام الذي يمسك به الفرس فهذا ليس فيه إشكال، وحتى البعير كذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يركب البعير وهو مخطوم، وكان يشده، وكان إذا وجد زحاماً أمسك الخطام، وإذا كان أرخى له الخطام يمشي، فالخطام لا بأس به، وأما القلادة التي تكون لغرض سيئ فلا تجوز، وأما إذا كانت لغرض محمود فلا بأس بها.
وهذا الحديث فيه تعارض مع الحديث السابق، وذلك أن الأول فيه (ولا قلادة) وهنا قال: (قلدوها) فالحديث في إسناده عقيل بن شبيب، والإسناد كله مر في حديثين قد مضيا، وضعف الحديث الواحد الذي جاء من طريقين بـ عقيل بن شبيب لأنه مجهول، وهنا جاء في هذا الإسناد، لكن الألباني حسَّن الحديث في صحيح سنن أبي داود، فلا أدري لعل ذلك بالشواهد وإلا فإن الإسناد هو نفس الإسناد الذي في الحديث السابق الذي مر بنا.
وهنا مسألة: وضع سلاسل أو حبال للزينة لتجميل الإبل في أعناقها عادة منتشرة عندنا في البلد، فهل هذا يدخل في النهي؟ إذا كانت توضع في رقبتها فهي قلادة سواء كانت من حديد أو من صوف أو من أي شيء، لكن جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يقلد الهدي، وهذا مر بنا في الحج في تقليد الهدي، وأن عائشة كانت تفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الإشعار، وهذا ليعرف أنه هدي، فإذا كان التقليد لغرض صحيح لا محذور فيه فإنه لا بأس به.(302/20)
ما جاء في تعليق الأجراس(302/21)
شرح حديث (لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس)
قال المصنف رحمه الله تعالى [باب في تعليق الأجراس.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن عبيد الله عن نافع عن سالم عن أبي الجراح مولى أم حبيبة عن أم حبيبة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في تعليق الأجراس.
أي: في الخيل أو الإبل أو غيرها، أي: أن ذلك لا يجوز، وذلك لأنه ورد في بعض الأحاديث أنها مزمار الشيطان، فهذا يدل على ذمه، وعلى أنه لا يجوز تعليقه في البهائم، وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
أود أبو داود حديث أم حبيبة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس) يعني: جماعة مع بعضهم، فإن الملائكة لا تصحبهم، بسبب ذلك الجرس الذي يكون في عنق دابة من دوابهم، وهذا يدل على تحريم ذلك، وأن ذلك من أسباب ابتعاد الملائكة، وعدم صحبة الملائكة لهؤلاء الرفقة، وذلك لهذا الذنب الذي اقترفه أحدهم، وهو يدل أيضاً على أن المصيبة وإن كانت خاصة فإنها تعم؛ لأن الذي علقه قد يكون واحداً منهم، ولكن هذا الحرمان من رفقة الملائكة يكون للجميع، وهذا يقتضي أن ينكر هذا الفعل ويمنع حتى تحصل الفائدة والمصلحة للجميع.
يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (لا تصحب الملائكة رفقة فيهم جرس)، والمقصود بذلك ملائكة الرحمة، أما الملائكة الذين هم ملازمون للكتابة فهؤلاء لا يفارقون الإنسان، ولكن المقصود من ذلك ملائكة الرحمة الذين يكونون مع الناس يستغفرون لهم، ويدعون لهم، فهذا من أسباب ابتعاد الملائكة عنهم.
وأما علة ذلك فقد سبق أن أشرت إلى أنه جاء في حديث من الأحاديث أنه مزمار الشيطان، وذلك أنها تشغل البال في هذا الأمر المحرم، وتشغل عن الأمر المشروع والأمر المستحب الذي هو ذكر الله عز وجل.(302/22)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد القطان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له صحاب الكتب الستة.
[عن سالم].
سالم بن عبد الله بن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الجراح مولى أم حبيبة].
أبو الجراح قيل: اسمه الزبير، مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أم حبيبة].
أم حبيبة رضي الله تعالى عنها، أم المؤمنين، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة، والحديث الذي بعده شاهد له، فالمعنى الموجود في هذا الحديث موجود في الحديث الذي بعده، وفيه زيادة الكلب.
وقد قيل: إن منع تعليق الأجراس يدل على صاحبه برنينه وبصوته، وإن ذلك قد يشعر بوجود الجيش، ويدل على أن الجيش إذا كان فيهم جرس فإنهم يعرفون، ولكن الذي تقدم من جهة ورود الحديث في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مزمار الشيطان هو الأولى والأظهر بالتعليل.(302/23)
شرح حديث (لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب أو جرس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب أو جرس)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة، وهو مثل الذي قبله؛ وفيه زيادة الكلب، وأن الملائكة لا تصحب رفقة فيها كلب أو جرس.
والكلب: المقصود به الذي هو ممنوع منه، وأما إذا كان مأذوناً فيه فإن ذلك لا يمنع، وأما إذا كان غير مأذون فيه فهذا هو المحذور، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن من اقتنى كلباً إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع نقص من أجره كل يوم قيراط) فهذا فيه دليل على عقوبة من يقتني الكلب لغير حاجة، فإن الملائكة ستبتعد عنه، وأيضاً كما جاء في الحديث الآخر أنه ينقص من أجره كل يوم قيراط.(302/24)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب أو جرس)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن عبد الله بن يونس الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
زهير بن معاوية، ثقة، أخرج له صحاب الكتب الستة.
[حدثنا سهيل بن أبي صالح].
سهيل بن أبي صالح، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وإخراج البخاري له مقرون.
[عن أبيه].
أبو صالح وهو ذكوان السمان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(302/25)
شرح حديث (الجرس مزمار الشيطان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن رافع حدثنا أبو بكر بن أبي أويس قال: حدثني سليمان بن بلال عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الجرس: (مزمار الشيطان)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الجرس -يعني: في شأنه وفي أمره- إنه مزمار الشيطان، وهذا هو التعليل لمنعه وتحريم تعليقه للبهائم.(302/26)
تراجم رجال إسناد حديث (الجرس مزمار الشيطان)
قوله: [حدثنا محمد بن رافع].
محمد بن رافع النيسابوري القشيري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا أبو بكر بن أبي أويس].
وهو: عبد الحميد بن عبد الله الأصبحي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثني سليمان بن بلال].
سليمان بن بلال، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن العلاء بن عبد الرحمن].
العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي، وهو صدوق ربما وهم، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة قد مر ذكره.(302/27)
ظاهرة انتشار الأجراس في البيوت والجوالات والساعات وغيرها
ومما ينبه عليه: وجود الأجراس في البيوت، ويمكن أن تكون مما لا يظهر فيه الرنين، وهو الذي يسمونه الجلجل الذي هو الجرس، فإذا كان صوتاً عادياً، ليس فيه هذا الصوت المتميز الذي هو ممنوع فلا بأس، وينبغي للإنسان عندما يضع الجرس أن يعمل فيه شيئاً يغير هذه الدقات التي لها رنين، والذي يقال له الجلجل، فإذا فعل ذلك فإن الأمر في ذلك سهل إن شاء الله.
كذلك منبه الساعة: فهناك أصوات ليست مثل صوت الجلجل الذي له رنين، فإذا حصل شيء من هذا فلا بأس به.
كذلك الجوال فيه أصوات ليس فيها موسيقى، وفيه أصوات فيها موسيقى، والناس الآن يتخذون في الجوال أصواتاً موسيقية، بحيث إذا دق إذا هي موسيقى، فهذا لا يجوز، وأما إذا كان صوت منبه، وليس من قبيل الجرس الذي يقال له الجلجل الذي فيه الرنين المحذور، فمجرد الصوت لا يؤثر.(302/28)
الأسئلة(302/29)
حكم تعليق الجرس على عنق البهيمة لكي تجتمع حولها الأخريات
السؤال
أهل الماشية يعلقون الجرس على عنق إحدى البهائم لكي تجتمع حولها البهائم حتى لا تضيع -خاصة في الليل- فما حكم هذا؟
الجواب
لا يجوز هذا أبداً ولو كان لهذا الغرض، فهو مزمار الشيطان.(302/30)
رجوع الناس إلى الخيل والبعير في آخر الزمان
السؤال
هذه الأحاديث الواردة في فضل العناية بالخيل ذكرها الإمام أبو داود في كتاب الجهاد، فهل يدل هذا على أن الأمور سترجع إلى تلك الحال؟
الجواب
لا شك أنها سترجع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر فقال: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة).
ثم أيضاً الأحاديث التي وردت في أخبار آخر الزمان أنهم يركبون على الخيول، فهذا وارد في أحاديث آخر الزمان في الصحيحين وفي غيرهما، فهذا يدل على بقاء الخيل وعلى الاستفادة منها في ذلك الوقت أو في تلك الأزمان، ولا ندري هل هذه الوسائل الموجودة ستستمر وتبقى أم أنها ستنتهي، والعلم عند الله عز وجل! ومعلوم أن هذه الوسائل تمشي على هذا الوقود وعلى هذا النفط الذي جعله الله سبباً في تحريكها والاستفادة منها، لكن لو أن هذه المادة ما وجدت؛ فلا يستفاد من هذه المركوبات شيئاً، فهذا الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم لا بد وأن يقع، أما هذا النفط الموجود فهل سيبقى أم ينتهي؟ الله تعالى أعلم.
لكن غالباً أنهم لا يذهبون إلى استعمال مثل هذه الوسائل مع وجود ما هو أمكن منها أو ما هو أشد منها، فيحتمل أن ذلك ينتهي، وأن الناس يعودون إلى تلك الوسائل التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عنها، أعني: الجيش الذي أخبر أنه يكون في زمن الدجال قال: (إني أعرف عشرة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم)، يقال لهم: إن الدجال خلفكم في أهليكم المرة الأولى فيكون كذباً، وفي المرة الثانية يكون صدقاً.(302/31)
حكم من أجاز العمل بالديمقراطية ودعا إلى الانتخابات
السؤال
هل الخلاف في المسائل الحادثة من بعض الفرق التي تنتسب إلى السنة وتخالفهم في الأصول كالخروج على الحكام، ومسألة الديمقراطية وغيرها؛ هل هذه المخالفة لا توجب خروج هذه الطوائف عن منهج أهل السنة؟
الجواب
خروجهم عن منهج أهل السنة في هذه الناحية لا شك فيه وهو أمر مؤكد لا إشكال فيه، ولكن هل يكونون ليسوا من أهل السنة أصلاً بسبب هذا أم أنهم منهم في الأصل ولكنهم أخطئوا في هذه الناحية أو في هذه الجزئية المعينة، وهذا لا شك أنه من جملة عقائد أهل السنة، أعني تحريم الخروج على الولاة، حتى المؤلفات السابقة الصغيرة المختصرة فيها هذا الشيء، يقول الطحاوي: ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم وندعو لهم بالصلاح والمعافاة.
يعني: فمنهج أهل السنة والجماعة أنهم لا يخرجون على الحكام، بل يدعون لهم ولا يدعون عليهم، وأما أهل البدع فإنهم يدعون عليهم ولا يدعون لهم، وغالباً أن الذين يخرجون يريدون أن يحلوا محلهم ويريدون أن يحصلوا هذا الذي حصل لغيرهم، فيكون الدافع لهم إلى ذلك إنما هو حب الرئاسة وحب الولاية وحب الدنيا.(302/32)
حكم إنشاء جماعة إسلامية وتنصيب رؤساء وأمراء لها
السؤال
ما حكم إنشاء جماعة إسلامية ينصب له رئيس وأمراء في كل منطقة؟ وما حكم الانتماء إلى هذه الجماعات؟
الجواب
إذا لم تكن بيدهم سلطة يكون من العبث، اللهم إلا أن يكون المقصود أنهم يكونون مرجعاً للمسلمين في البلاد التي يحكمها كفار، فالأقليات الإسلامية تكون بحاجة إلى مرجع يرجعون إليه، فمثل ذلك إذا اجتمعوا وصار لهم مرجع يرجعون إليه لا بأس به، ولكنه كما هو معلوم لا يقال له: وال أو حاكم؛ لأن الحكم يكون للذي يستطيع التنفيذ، ولكن هؤلاء يعتبرون مرجعاً يرجع إليهم في الأمور التي يحتاجون إليها، يعني لحل مشاكلهم، ولإصلاح أحوالهم، ولطلب الأشياء التي يحتاج إلى طلبها، ولدفع الأذى عنهم وما إلى ذلك، أما أن تكون هناك ولاية تحت ولاية فهذه لا تكون وإنما الولاية فيمن من ولاه الله عز وجل سواء كان كافراً أو مسلماً، وسواء كان جائراً أو عادلاً، هذا هو الذي بيده التصرف ويسمع ويطاع في المعروف كما هو معلوم، ولكن مثل هذه الجماعة إذا كان المقصود منها كون المسلمين يرجعون إليهم، ويرتبطون بهم من ناحية حل المشاكل، وإصلاح ذات البين أو السعي لهم لتحصيل هذا فلا بأس به.(302/33)
شرح سنن أبي داود [303]
من الآداب التي ذكرها لنا النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الحيوانات والدواب ترك ركوب الجلالة التي تأكل العذرة، وعدم شرب لبنها وأكل لحمها حتى تحبس مدة معينة، ونهانا عن لعن الدواب ووسمها في وجهها، وأجاز أن يركب على الدابة أكثر من شخص إذا كانت تطيق ذلك.(303/1)
ما جاء في ركوب الجلالة(303/2)
شرح حديث (نهي عن ركوب الجلالة)
قال المصنف رحمه الله تعالى [باب في ركوب الجلالة.
حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهي عن ركوب الجلالة)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في ركوب الجلالة.
والجلالة: هي التي تأكل العذرة، وهي الجلة، وهي البعر، والمقصود بذلك النجس، وأما الشيء الذي ليس بنجس فهذا لا محذور فيه، وإنما المحذور فيما كان نجساً فالجلالة التي تأكل العذرة، وهي ما يخرج من الإنسان أو من الحيوان الذي روثه نجس، فهذه لا يجوز أكلها، وكذلك جاء الحديث أنها لا تركب حتى يطيب لحمها، وحتى يذهب ما فيها، فتحبس وتمنع وقتاً من الأوقات فتأكل شيئاً طيباً حتى يذهب ما فيها من الخبث الذي جاء نتيجة لأكل العذرة، وعند ذلك تؤكل ويركب عليها.
وقيل في النهي عن الركوب أنه عندما تعرق يكون فيها هذا النتن بسبب هذا الذي تغذت به وهو النجاسة والعذرة، فيكون ذلك فيه نوع من العقوبة المالية، فكون الإنسان ممنوعاً من الاستفادة من هذه الدابة التي صارت كذلك حتى يبعدها عن أكل هذه النجاسة وعن هذه الأشياء القذرة.
وهل هناك فترة معينة لمدة الحبس؟ الظاهر أنه لا توجد فترة معينة، لكن حتى يطمئن العبد فيها إلى أن اللحم قد طاب.
أورد المؤلف حديث ابن عمر قال: (نهي عن ركوب الجلالة) والحديث الثاني: (نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ركوب الجلالة).(303/3)
تراجم رجال إسناد حديث (نهي عن ركوب الجلالة)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث].
عبد الوارث بن سعيد العنبري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب].
أيوب بن أبي تميمة السختياني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن ابن عمر].
نافع مولى ابن عمر وابن عمر قد مر ذكرهما.(303/4)
شرح حديث (نهى رسول الله عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها) وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن أبي سريج الرازي أخبرني عبد الله بن الجهم حدثنا عمرو -يعني: ابن أبي قيس - عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها)].
وهذا الحديث مثل الذي قبله في النهي عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها.
قوله: [حدثنا أحمد بن أبي سريج الرازي].
أحمد بن أبي سريج الرازي، هو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[أخبرني عبد الله بن الجهم].
عبد الله بن الجهم، وهو صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عمرو يعني: ابن أبي قيس].
عمرو بن أبي قيس، وهو صدوق له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر].
وقد مر ذكر الثلاثة.(303/5)
حكم حليب الجلالة والركوب على الحمار الذي يأكل العذرة
وأما حليب الجلالة فهو من ركوبها، فإذا كان الركوب يمنع فالحليب من باب أولى.
وأما الحمار فأقول: إذا كان يأكل العذرة فحكمه مثل الجلالة، إلا أن الحمار كما هو معلوم لا يأكل العذرة، فإذا وجد في الحمير ما يأكلها فلا يمكن من أكل الجلة وإذا أكل فلا يركب عليه، وإنما يطعم شيئاً طيباً، فالذي يبدو أنه لا فرق بين الحمار وغيره، فالنتيجة واحدة، والكل يمنع من أكل العذرة والأِشياء القذرة.
وأما بالنسبة للدجاج فإنه قد يجد شيئاً قذراً لكنه في الغالب يكون طعامه طيباً، فأقول: مثل هذا لا يؤثر، وإنما الذي يؤثر كونه يأكل هذه الأشياء القذرة دائماً ويتغذى بها، أما إذا أكل شيئاً نجساً يسيراً جداً فهذا لا يسلم منه الدجاج.(303/6)
ما جاء في الرجل يسمي دابته(303/7)
شرح حديث (كنت ردف رسول الله على حمار يقال له عفير)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يسمي دابته.
حدثنا هناد بن السري عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن معاذ رضي الله عنه قال: (كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في الرجل يسمي دابته، فإنه لا بأس بأن تسمى الدابة باسم تعرف به، وقد جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث، ومنها هذا الحديث الذي هو حديث معاذ قال: (كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير) يعني: اسمه عفير، وقيل: إنه تصغير أعفر، وهو الذي لونه لون التراب.
ففي الحديث تسمية الحمار بعفير، والشيخ الألباني قال: إن التسمية هنا شاذة، لكن كون بعض الرواة ما ذكروا التسمية لا يؤثر؛ لأن الذي ذكر أن اسمه كذا هي زيادة في الحديث فتكون مقبولة.
وهذا هو نفس الحديث: (أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟) إلى آخر الحديث.(303/8)
تراجم رجال إسناد حديث (كنت ردف رسول الله على حمار يقال له عفير)
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هناد بن السري أبو السري، ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي الأحوص].
أبو الأحوص سلام بن سليم الحنفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق].
وهو: عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن ميمون].
عمرو بن ميمون، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معاذ].
معاذ بن جبل رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(303/9)
ما جاء في النداء عند النفير يا خيل الله اركبي(303/10)
شرح حديث (فإن النبي سمى خيلنا خيل الله إذا فزعنا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النداء عند النفير: يا خيل الله اركبي.
حدثنا محمد بن داود بن سفيان حدثني يحيى بن حسان أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب حدثني خبيب بن سليمان عن أبيه سليمان بن سمرة عن سمرة بن جندب رضي الله عنه: (أما بعد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمى خيلنا خيل الله إذا فزعنا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا فزعنا بالجماعة والصبر، والسكينة وإذا قاتلنا)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في النداء عند النفير يا خيل الله اركبي.
النداء عند النفير يعني: عند الفزع وعند إرادة الإقدام، فينادى: يا خيل الله اركبي.
وقيل: المراد بالخيل هم الفرسان؛ لأن الخيل تأتي ويراد بها الأفراس، وتأتي ويراد بها الفرسان، ومن ذلك قول الله عز وجل: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء:64] أي: بجنودك سواء ممن يركبون الخيل، أو الذين يمشون على أرجلهم.
أورد أبو داود حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (أما بعد: فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمى خيلنا خيل الله).
قوله: (إذا فزعنا).
يعني: إذا حصل فزع ونفير، وذلك في الإقدام على شيء، ومنه الحديث الذي جاء في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وشجاعته، وأنه أصاب الناس فزع وركب على فرس عري ليس لها سرج فسبق الناس حتى رجع وقال: (لن تراعوا لن تراعوا! وقال: إنه لبحر) يعني: مع أنه كان كليلاً وبطيئاً لكنه انطلق وأسرع وسبق غيره، ورجع النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرهم بأنه ليس هناك شيء، وأنهم لن يراعوا، فالمقصود به الفزع عند الشدة والنفير لأمر مهول أو أمر مخوف.
قوله: [(فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمى خيلنا خيل الله إذا فزعنا)].
يعني: إذا حصل فزع وخوف، والفزع الذي هو النفير من أجل شيء يخاف منه.
فكان يناديهم: يا خيل الله! من أجل أن يفزعوا فينطلقوا وينفروا، والمقصود بذلك الفرسان وليس الخيل نفسها، والحديث ضعيف لأنه من في سنده كلهم ضعفاء إلا الصحابي ويحيى بن حسان وخمسة رواة كلهم ضعفاء انفرد أبو داود بالرواية عنهم.
قوله: [(وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا فزعنا بالجماعة والصبر والسكينة).
أي: أن نكون مجتمعين، وألا نكون متفرقين، وبالصبر والسكينة إذا نفروا من أجل الذي فزعوا إليه، وعدم الذعر والخوف، أو أن يكون عندهم هلع.
والحديث ضعيف لأن فيه خمسة ضعفاء.
قوله: [(وإذا قاتلنا)].
كذلك يأمرهم بالصبر والجماعة في هذه الأحوال عند فزعهم وعند قتالهم.(303/11)
تراجم رجال إسناد حديث (فإن النبي سمى خيلنا خيل الله إذا فزعنا)
قوله: [حدثنا محمد بن داود بن سفيان].
محمد بن داود بن سفيان، مقبول، أخرج له أبو داود وحده.
[حدثني يحيى بن حسان].
يحيى بن حسان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب إلا ابن ماجة.
[أخبرنا سليمان بن موسى].
سليمان بن موسى، وفيه لين، أخرج له أبو داود.
[حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب].
جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، وهو ليس بالقوي، أخرج له أبو داود.
[حدثني خبيب بن سليمان].
خبيب بن سليمان، وهو مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
سليمان بن سمرة وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن سمرة بن جندب].
سمرة بن جندب رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرج له أصحاب الكتب الستة.(303/12)
ما جاء في النهي عن لعن البهيمة(303/13)
شرح حديث النهي عن لعن البهيمة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب النهي عن لعن البهيمة.
حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فسمع لعنة، فقال: ما هذه؟ قالوا: هذه فلانة لعنت راحلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ضعوا عنها فإنها ملعونة، فوضعوا عنها، قال عمران: فكأني أنظر إليها ناقة ورقاء)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب النهي عن لعن البهيمة.
يعني: أن لعن البهيمة حرام لا يجوز، وقد أورد أبو داود حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: (أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فسمع لعنة فقال: ما هذه؟ قالوا: فلانة -يعني: سموها- لعنت ناقتها! فقال: ضعوا عنها).
يعني: ضعوا عنها حملها أو ركابها واتركوها عارية ليس عليها شيء، فلا يركبها أحد، قال: (فإنها ملعونة).
قوله: [(فإنها ملعونة)] يعني: أن صاحبتها لعنتها، وهذا قيل: إنه من العقوبة بالمال، وذلك حرمان منفعة المال، وحرمان الركوب، والمقصود من هذا أنه ليس معنى ذلك أنها تهمل وتترك، وأنه لا يستفاد منها، وإنما المقصود منها هذه الصحبة والرفقة التي حصل فيها اللعن، أنها تترك فلا يستفاد منها عقوبة لصاحبتها؛ لكونها لعنتها، ولا يعني ذلك أنها لا تبقى على ملك صاحبتها، وأنها تباع ولا يستفاد منها، بل يستفاد منها، وليست مالاً مهملاً متروكاً مضيعاً، وإنما هذه عقوبة من أجل التأديب حتى لا تفعل مثل ذلك، وحتى يبتعد غيرها عن أن يقدم على ما أقدمت عليه.
وقد قال الإمام النووي: إن هذا إنما هو خاص في تلك الرفقة التي فيها رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولهذا جاء في الحديث: (لا تصحبنا ناقة ملعونة) وعلى هذا فاللعن لا يجوز، والنهي موجه لكل أحد، ولكن ذلك لا يعني أنه إذا لعن الشيء فإنه يهمل ويترك ولا يستفاد منه، وإنما ذلك كما قال النووي: خاص بتلك الناقة التي لعنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصحبنا ناقة ملعونة).
قوله: [(فكأني أنظر إليها ناقة ورقاء)].
يعني: أنها فيها غبرة مثل لون الحمامة التي يقال لها: ورقاء.(303/14)
تراجم رجال إسناد حديث (النهي عن لعن البهيمة)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد بن زيد، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب عن أبي قلابة].
أيوب بن أبي تميمة السختياني مر ذكره، وأبو قلابة هو: عبد الله بن زيد الجرمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي المهلب].
وهو الجرمي عم أبي قلابة، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمران].
عمران بن حصين أبو نجيد رضي الله عنه وأرضاه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(303/15)
ما جاء في التحريش بين البهائم(303/16)
شرح حديث (نهى رسول الله عن التحريش بين البهائم)
قال المصنف رحمه الله تعالى [باب في التحريش بين البهائم.
حدثنا محمد بن العلاء أخبرنا يحيى بن آدم عن قطبة بن عبد العزيز بن سياه عن الأعمش عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في التحريش بين البهائم، والتحريش بين البهائم هو أن يسلط بعضها على بعض، وأن يعمل على ذلك، كالكباش تتناطح أو الديكة تتناقر ويؤذي بعضها بعضاً، وذلك لما فيه من العبث؛ ولأن فيه إيذاء وإيلاماً للحيوان، حيث إن الحيوان يؤلم الحيوان؛ فيترتب على ذلك كون الكبش ينطح الكبش بأن يضره ويلحق به ضرراً، والديك ينقر ديكاً آخر فيفقأ عينه أو يلحق به ضرراً.
فالعلة كونه فيه عبث وأيضاً ما يترتب عليه من إلحاق الضرر بالحيوان بسبب هذا التحريش، والحديث ضعيف، ولكن وإن كان هو ضعيف إلا أن المعنى صحيح، فلا يجوز أن يتسبب المرء في كون الحيوان يؤذي أخاه، ولا أن يلتهى بذلك، وكون الإنسان يستمتع بالنظر إليها وهي يؤذي بعضها بعضاً، لا يجوز.(303/17)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى رسول الله عن التحريش بين البهائم)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا يحيى بن آدم].
يحيى بن آدم الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قطبة بن عبد العزيز بن سياه].
قطبة بن عبد العزيز بن سياه، وهو صدوق، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن الأعمش].
سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي يحيى القتات].
أبو يحيى القتات، وهو لين الحديث، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن مجاهد].
مجاهد بن جبر المكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث ضعيف من جهة هذا الراوي الذي هو لين الحديث.(303/18)
ما جاء في وسم الدواب(303/19)
شرح حديث وسم الغنم في آذانها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في وسم الدواب.
حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن هشام بن زيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بأخ لي حين ولد ليحنكه، فإذا هو في مربد يسم غنماً.
أحسبه قال: في آذانها)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في وسم الدواب، يعني: أن ذلك سائغ؛ لأن فيه مصلحة وفائدة، وهي أنه علامة بحيث يكون كل جماعة أو كل قبيلة لهم علامة في الوسم، بحيث إذا رئي الحيوان قيل: هذه الناقة لآل فلان، أو هذا وسم آل فلان، أو هذا وسم إبل الصدقة، فالمقصود به العلامة التي يستدل بها على أهل البهيمة، وعلى أصحاب البهيمة، وهو إن كان فيه شيء من الإيذاء في أول الأمر عند وسمها إلا أنه من جنس الأشياء الأخرى مثل الختان؛ لأن فيه مصلحة وفائدة.
فالوسم جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه كما أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه جاء بأخ له حين ولد ليحنكه، أي: ليمضغ تمرة ثم يدلك بها حنكه فيكون أول شيء يصل إلى جوفه هو ذلك الحلو، ثم كونه من ريق النبي صلى الله عليه وسلم فيكون فيه البركة، وقد كانوا يتبركون بريقه صلى الله عليه وسلم ويتبركون ببصاقه وشعره وعرقه ومخاطه صلى الله عليه وسلم.
فكان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يتبركون به صلى الله عليه وسلم، فكانوا يأتون إليه من أجل أن يحنك أولادهم، وبعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يذهب إلى أحد ليحنك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ريقه فيه بركة، ولم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده يذهبون إلى أبي بكر أو إلى عمر أو إلى عثمان أو إلى علي ليحنكوا أطفالهم، وإنما كان الواحد يحنك ابنه، والمرأة تحنك ابنها دون أن يحتاج إلى أن يذهب إلى أحد، فقد ذكر الشاطبي في الاعتصام ذلك، وأن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ما فعلوا ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل هذا على أنه من خصائصه عليه الصلاة والسلام.
يقول أنس: إنه ذهب بأخ له إلى رسول الله ليحنكه، وهو أخوه من أمه زوجة أبي طلحة، فوجده في مربد، وهو حضيرة الغنم التي تكون فيها، فوجده يسم غنماً، قال: حسبته قال: في آذانها يعني: في آذان الغنم، وهذا يدل على أن الغنم توسم في آذانها؛ لأن شعرها يغطي الوسم لو كان في غير الأذن، فالوسم في الأذن يكون واضحاً وجلياً، ويكون بيناً.
وفي هذا دليل على أن الأذن ليست من الوجه؛ لأنه جاء النهي عن الوسم في الوجه، وعن الضرب في الوجه، وقد جاء في الحديث بالنسبة للإنسان أن الأذنين من الرأس أي: أنهما تمسحان ولا تغسلان، فحكمهما حكم الرأس لا الوجه، فالوجه يغسل والرأس يمسح والأذنان من الرأس تمسحان ولا تغسلان، فأضافهما إلى الرأس، لكن جاء في بعض الأحاديث إطلاق الأذن أو نسبتها إلى الوجه كما في الحديث الذي يقول: (سجد وجهي لله الذي خلقه، وشق سمعه وبصره).
والنبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه النهي عن الوسم في الوجه، وجاء عنه الوسم في الأذن؛ فدل ذلك على أنه سائغ سواء قيل إنه من الوجه فيكون مستثنى، أو أنه ليس من الوجه، وإنما هو من الرأس فيكون فعل النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً أن ذلك سائغ، وأنه ليس من قبيل ما نهى عنه.(303/20)
تراجم رجال إسناد حديث وسم الغنم في آذانها
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن زيد].
هشام بن زيد، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث رباعي فهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(303/21)
الأسئلة(303/22)
حكم وسم الإنسان
السؤال
هل يجوز الوسم في الإنسان كما يفعل في بعض البلدان؟
الجواب
لا يجوز أن يوسم الإنسان، وإنما يفصح عن نفسه، فلا يحتاج إلى أن يعرف كما تعرف البهائم بوسمها، البهائم لا تفصح عن نفسها لأنها تعلم عن نفسها هي كما ورد في الحديث: (اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة) يعني: التي لا تفصح.(303/23)
حكم قطع آذان الغنم
السؤال
هل يجوز قطع آذان الغنم لأجل الوسم؟
الجواب
الغنم لا يجوز قطع آذانها من أجل الوسم، بل ذلك يؤثر عليها فيما يتعلق بالأضاحي والهدي، وإنما توسم بدون قطع.(303/24)
حكم وسم النعال لئلا تسرق
السؤال
ما حكم وسم النعال لئلا تسرق في المسجد؟
الجواب
هذا يدل على الحرص من النهاية للنهاية، وعلى كل: كونه يضع علامة لنعله حتى تتميز لا بأس بذلك.(303/25)
ما جاء في النهي عن الوسم في الوجه والضرب في الوجه(303/26)
شرح حديث (أما بلغكم أني قد لعنت من وسم البهيمة في وجهها)
قال المصنف رحمه الله تعالى [باب النهي عن الوسم في الوجه والضرب في الوجه.
حدثنا محمد بن كثير قال: أخبرنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بحمار قد وسم في وجهه فقال: أما بلغكم أني قد لعنت من وسم البهيمة في وجهها أو ضربها في وجهها؟ فنهى عن ذلك)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب النهي عن الوسم في الوجه والضرب في الوجه.
يعني: أنه لا يجوز أن يوسم في الوجه، ولا أن يضرب الحيوان على الوجه، والإنسان من باب أولى، وقد جاء فيه النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الوجه فيه معظم الحواس والتي هي السمع والبصر والفم والأسنان واللسان وما إلى ذلك، فيكون فيه إيذاء، بخلاف الجهات الأخرى أو الأماكن الأخرى التي ليست كذلك، فيترتب على ذلك تشويه الخلقة أو فقد حاسة من الحواس، وما إلى ذلك من الأمور المحظورة التي عنيت وقصدت في النهي عن الوسم والضرب في الوجه.
قوله: [(أما بلغكم أني لعنت من وسم البهيمة في وجهها أو ضربها في وجهها)].
لا يجوز الضرب ولا الوسم في الوجه.
قوله: [(فنهى عن ذلك)] يعني: أنه قد سبق أن لعن فاعل ذلك، قال: (أما بلغكم) يعني: أنه قد تقدم مني بذلك لعن، ثم إنه قال: (فنهى عن ذلك) يعني: زيادة أو تأكيداً لما سبق أن حصل منه صلى الله عليه وسلم، فيكون هذا تأكيداً بعد تأكيد، وتنبيهاً على شيء قد حصل، وأن السنة إذا وجدت فعلى الناس أن يأخذوا بها، وأن من لم يعمل بها فإنه قد يكون مخالفاً لما جاءت به السنة، ويمكن أن يحمل على أنه لم يبلغه ذلك فيكون معذوراً، ولهذا قال: (أما بلغكم أني قد لعنت) فإذا كان الإنسان لم يبلغه ذلك فإنه يكون معذوراً، وإذا بلغه النهي فلا يجوز له أن يقدم عليه، بل عليه أن يحذر الوقوع في معصية الرسول صلى الله عليه وسلم.(303/27)
تراجم رجال إسناد حديث (أما بلغكم أني قد لعنت من وسم البهيمة في وجهها)
[حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
سفيان الثوري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا سند رباعي من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(303/28)
ما جاء في كراهية الحمر تنزى على الخيل(303/29)
شرح حديث النهي عن أن تنزى الحمر على الخيل
قال المصنف رحمه الله تعالى [باب في كراهية الحمر تنزى على الخيل.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن ابن زرير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة فركبها، فقال علي: لو حملنا الحمير على الخيل فكانت لنا مثل هذه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون)].
أورد أبو داود باباً في النهي عن أن تنزى الحمر على الخيل يعني: فتتولد منها البغال؛ لأن الخيل إذا نزت على الخيل جاء خيل، والحمير إذا نزت على الحمير جاء حمار، ولكن إذا نزى جنس على غير جنس جاء شيء له اسم خاص، وهو البغل الذي يكون متولداً من الحصان والحمار، والنهي جاء عن الإنزاء يعني: كون الناس يتعمدون هذا الشيء، وذلك أن فيه قطع النسل المرغوب فيه، وعمل على وجود نسل من جنس آخر أخف منه الذي هو البغل، الذي لا يحصل منه الكر والفر الذي يحصل من الخيل والأفراس.
فإنزاء الحمر على الخيل يكون فيه عدم التوالد بين الخيل أو قلة التوالد بين الخيل، مع أن الخيل معقود في نواصيها الخير، وهي التي يرغب فيها وفي تناسلها، وفي استعمالها، وقد جاء في القرآن أن الله امتن على الناس بالخيل والبغال قال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8] فذكر البغال، ولكن كونه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن ذلك يدل على أن هذا الذي يحصل قد يأتي بدون إنزاء، فإذا حصل بدون إنزاء فهذا شيء ليس للشخص دخل فيه، وإنما أن يتعمد الناس ويأتون بالحمار، ويمسكون الفرس حتى ينزو عليها فهذا هو الذي جاء فيه النهي.
فإذاً: الذي جاء في القرآن من الامتنان بها نعم هي نعمة من النعم ويستفاد منها، ولكن كونها تأتي من غير قصد هو الذي لا يخالف ما جاء في الحديث.
والبغال تستعمل ويستفاد منها إذا وجدت، لكنه لا يعمل على إيجادها بكون الحمير تنزو على إناث الخيل.
قوله: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة فركبها)].
فدل ذلك على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ركب البغال، والله تعالى ذكر الامتنان على عباده بها في سورة النحل.
قوله: [فقال علي: (لو حملنا الحمير على الخيل لكانت لنا مثل هذه)].
يعني: الرسول لما ركب هذه البغلة التي أهديت إليه واستعملها قال علي: (لو حملنا الحمير على الخيل لكان لنا مثل هذه)، يعني: هذه التي ركبها النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [فقال عليه الصلاة والسلام: (إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون)].
يعني: الذين هم لا يعلمون العواقب أو النتائج، وأنه يأتي شيء غير مرغوب فيه، ويترك الشيء الذي هو مرغوب فيه، أو الذين لا يعلمون الأحكام.(303/30)
تراجم رجال إسناد حديث النهي عن أن تنزى الحمر على الخيل
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
الليث بن سعد المصري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يزيد بن أبي حبيب].
يزيد بن أبي حبيب المصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الخير].
وهو: مرثد بن عبد الله اليزني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن زرير].
وهو: عبد الله بن زرير، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن علي بن أبي طالب].
علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة رضي الله عنه وأرضاه، والحديث رجاله مصريون إلا شيخ أبي داود والصحابي، والأربعة الذين بينهما كلهم مصريون الليث ويزيد بن أبي حبيب وأبو الخير وابن زرير.(303/31)
الأسئلة(303/32)
حكم إنزاء الحمير على الفرس للحاجة
السؤال
إذا كان إنزاء الحمار على الخيل من أجل الحاجة وهو الحرث والحمل عليها، فهل يصلح؟
الجواب
الحديث يدل على أن الإنزاء لا يفعل؛ لأن هذا فيه قطع أو تقليل للنسل المفضل المرغب فيه الذي يستعمل في الجهاد في سبيل الله عز وجل، والذي يحصل به الكر والفر والمضي؛ لأن البغال ليست كذلك.
حتى وإن كان العكس أن تنزو الخيل على أنثى الحمير فالنتيجة واحدة؛ لأن الخيل فيه القوة التي يمكن أن يضعها في أنثى من الفرس فتلد خيلاً، فالنتيجة أن هذه القدرة وهذه القوة ذهبت في شيء دونه في القوة.(303/33)
ما جاء في ركوب ثلاثة على دابة(303/34)
شرح حديث (كان رسول الله إذا قدم من سفر استقبل بنا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ركوب ثلاثة على دابة.
حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى قال: أخبرنا أبو إسحاق الفزاري عن عاصم بن سليمان عن مورق -يعني: العجلي - حدثني عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر استقبل بنا، فأينا استقبل أولاً جعله أمامه، فاستقبل بي فحملني أمامه، ثم استقبل بـ حسن أو حسين فجعله خلفه، فدخلنا المدينة وإنا لكذلك).
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في ركوب ثلاثة على دابة.
يريد أبو داود رحمه الله أن الدابة يمكن أن يركب عليها ثلاثة ولكن بشرط أن تكون مطيقة لا يؤثر عليها الركوب ويلحق بها ضرراً.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما، وكان من صغار الصحابة، وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر استقبل بالصغار يعني: أن الكبار يستقبلون الرسول صلى الله عليه وسلم بالصغار معهم، فاستقبل في سفرة قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ عبد الله بن جعفر فأركبه أمامه، ثم استقبل بـ حسن أو حسين -يعني: أحدهما، وهذا شك من الرواي- فجعله وراءه، فكان يجعل الأول أمامه والثاني يجعله وراءه.
وقال: فدخلنا المدينة وإنا لكذلك، يعني: ثلاثة على راحلة، ومعلوم أن عبد الله بن جعفر والحسن أو الحسين كانا صغيرين، والأمر مبني على الإطاقة للدابة، فإذا كانت الدابة مطيقة ولا يلحقها ضرر فإنه يجوز أن يركب عليها ثلاثة أو اثنان، وإذا كان يلحقها ضرر فلا يركب عليها إلا واحد، ومعلوم أن هذين الاثنين اللذين ركبا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهما من صغار الصحابة- كانا صغيرين، فمن ناحية الحمل والثقل فهما ليسا بكبيرين، بل يمكن أن يعادلا شخصاً واحداً أو أقل من ذلك، فكأنه ركب عليها اثنان، ولكن في الحقيقة الحكم يدور مع الدابة وكونها مطيقة أو غير مطيقة، فإن كانت مطيقة حمل عليها أو ركب عليها اثنان أو ثلاثة، وإن كانت لا تطيق فلا يركب عليها إلا من تطيقه.(303/35)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله إذا قدم من سفر استقبل بنا)
قوله: [حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى].
أبو صالح محبوب بن موسى، صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[قال: أخبرنا أبو إسحاق الفزاري].
إبراهيم محمد بن الحارث ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عاصم بن سليمان].
عاصم بن سليمان الأحول، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مورق يعني: العجلي].
مورق العجلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن جعفر].
عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(303/36)
شرح سنن أبي داود [304]
راعت الشريعة حفظ حقوق المخلوقات، حتى الدواب المسخرة للعباد، فقد منعتهم من إيذائها وإعناتها، كما أرشدت الناس إلى مصالحهم، فجاء فيها النهي عن التعريس في الطريق، والأمر بالدلجة في السفر، والتأني بالإبل في المكان الخصب لترعى دون الجدب.(304/1)
ما جاء في الوقوف على الدابة(304/2)
شرح حديث (إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الوقوف على الدابة.
حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا ابن عياش عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن أبي مريم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر، فإن الله إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم الأرض، فعليها فاقضوا حاجتكم)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في الوقوف على الدابة، أي: الركوب والجلوس عليها، والاستقرار عليها، فالإنسان لا يستقر عليها إلا لحاجة، إما كونه راكباً مسافراً، أو لحاجة، ككونه وقف عليها بعرفة كما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أن يستقر الإنسان عليها ويتحدث ويقضي الساعات وهو جالس عليها لا تمشي، وليس بحاجة إلى أن يركب عليها، وإنما يتخذها مستقراً وكأنه جالس على منبر يحدث صاحبه في الأمور المختلفة، فإن هذا لا يصلح ولا ينبغي؛ لأن هذا فيه إضرار بالدابة، والله تعالى جعل تلك الدواب ليركب عليها، ولتوصل إلى مكان لا يوصل إليه إلا بشق الأنفس، أما أن تتخذ مستقراً ومركباً يجلس الإنسان ويستقر عليها وهي واقفة، ويتحدث مع صاحبه وكأن كلاً منهما جالس على منبر فهذا لا يصلح ولا يليق؛ لأن هذا فيه إضرار.
والإنسان إذا أراد أن يتحدث يجلس على الأرض ولا يجلس على الدابة فيؤذيها، ويكون جالساً عليها كأنه جالس على كرسي أو على منبر، وأما إذا كان هناك حاجة بأن يكون مرتفعاً أو أن يقف عليها بعرفة يخطب عليها كما خطب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته، فذلك لا بأس به، وإنما المحذور أن يتخذها مستقراً له، والمقصود بالوقوف هو الاستقرار عليها، وليس معنى ذلك أن يقف عليها على رجليه؛ لأن الواقف على رجليه إذا تحركت يسقط، وإنما المقصود أن يستقر ويجلس عليها فتكون مستقراً وكأنه جالس على الأرض، فهذا هو الذي يمنع منه، وهو الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة: (إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر) يعني: تجلسون وتستقرون عليها كاستقرار الواحد على المنبر وجلوسه على المنبر.
قوله: [(فإن الله إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس)].
أي: سخرها لتركبوا عليها؛ ولتقطعوا المسافات، أما أن يتخذها الإنسان مستقراً له وهي واقفة، ويجلس يحدث صاحبه كأنهما جالسان على الأرض يتحدثان ويؤذيان الدابة فهذا لا يليق ولا يصلح.
[(وجعل لكم الأرض فعليها فاقضوا حاجتكم)].
أي: اجلسوا على الأرض وتحدثوا كيف شئتم، أما أن يكون الواحد مستقراً على البعير يحدث صاحبه ويؤذي البعير فهذا لا يصلح.
فالمحذور أن تجلسوا على الإبل والدواب فتؤذوها بطول الجلوس الذي لا يحصل من ورائه فائدة، والفائدة إنما هي بقطع المسافات، وكون الإنسان يسلم من التعب والنصب في المشي فيركب، فهذا هو الذي يناسب مع الإبل، أما أن يتخذها الإنسان منبراً أو مستقراً فهذا لا يصلح، فالحديث إذا كان مجرد حديث أو قطع الوقت بالأحاديث فليكن والمتحدثان على الأرض لا على الدواب.(304/3)
تراجم رجال إسناد حديث (إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر)
قوله: [حدثنا عبد الوهاب بن نجدة].
عبد الوهاب بن نجدة، ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا ابن عياش].
وهو: إسماعيل بن عياش، وهو صدوق في روايته عن الشاميين مخلط في غيرهم، وهذا من روايته عن الشاميين، أخرج له البخاري في رفع اليدين وأصحاب السنن.
[عن يحيى بن أبي عمرو السيباني].
يحيى بن أبي عمرو السيباني، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن أبي مريم].
أبو مريم الأنصاري، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي.
[عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(304/4)
ما جاء في الجنائب(304/5)
شرح حديث (تكون إبل للشياطين وبيوت للشياطين)
قال المصنف رحمه الله تعالى [باب في الجنائب.
حدثنا محمد بن رافع حدثنا ابن أبي فديك حدثني عبد الله بن أبي يحيى عن سعيد بن أبي هند قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تكون إبل للشياطين، وبيوت للشياطين، فأما إبل الشياطين فقد رأيتها، يخرج أحدكم بجنيبات معه قد أسمنها، فلا يعلو بعيراً منها، ويمر بأخيه قد انقطع به فلا يحمله، وأما بيوت الشياطين فلم أرها) كان سعيد يقول: لا أراها إلا هذه الأقفاص التي يستر الناس بالديباج].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في الجنائب.
جمع جنيبة، وهي الدابة أو الناقة التي تسمن ثم لا يستفاد منها عند الحاجة إليها.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (تكون إبل للشياطين، وبيوت للشياطين، أما إبل الشياطين فقد رأيتها، يخرج أحدكم بجنبيات معه قد أسمنها) يعني: قد قام بعلفها وهي سمينة، وقادرة على أن يركب عليها، وأن يحمل عليها، ولكنه لا يجعل أحداً يعلو عليها، وقد يمر بشخص منقطع في الفلاة فلا يحمله عليها، مع أنه بحاجة إليها، شحاً بالإحسان، وعدم قيام بالإحسان إلى من هو محتاج إليه.
(وأما بيوت الشياطين فلم أرها) قال أحد الرواة: كان سعيد يقول: لا أراها إلا هذه الأقفاص التي يستر الناس بالديباج.
سعيد هو الذي يروي عن أبي هريرة، فقال: لا أراها إلا هذه الأقفاص التي يسترها الناس بالديباج، يريد بها الهوادج التي تحمل على البعير ويركب عليها ويسترونها بالديباج من داخلها يعني: يجعلون فيها الديباج لتجلس عليها المرأة صاحبة الهودج.
والشيخ ناصر رحمة الله عليه يقول: لعله هذه السيارات التي وجدت والتي هي مثل البيوت، والإنسان يكون مستقراً فيها، ولكن الحديث ضعيف، والشيخ ناصر حسنه في بعض كتبه، بناءً على ظاهر إسناده، ولكنه بعد ذلك تبين أن سعيد بن أبي هند لم يلق أبا هريرة؛ فيكون منقطعاً، وقد نبه على ذلك في السلسلة الضعيفة بعد أن أورده في السلسلة الصحيحة في أوله، وقد أتى به في الضعيفة رقم (2303)، وبين أنه تنبه لهذا فيما بعد، وأن الحديث يكون ضعيفاً، ولا يكون حسناً كما قال من قبل، حيث أورده في الصحيحة، وذلك أنه حسنه بناءً على ظاهر إسناده، لكنه لما تبين أن سعيد بن أبي هند لم يلق أبا هريرة فيكون منقطعاً، فعلته الانقطاع، فهو حديث ضعيف لا تقوم به حجة.
وكان قد ذكره في المائة الأولى من الصحيحة، ولكنه بعد ذلك أشار إلى وقوفه على هذه العلة، وأنه ضعفه لذلك.
والبيوت: على تفسير سعيد تتعلق بالإبل؛ لأن الهوادج إنما تحمل على الإبل، والمرأة تكون في هودج تدخل وتستقر فيه، وعائشة رضي الله عنها كانت في هودج لما كانوا في الغزوة التي كانت فيها وفقدت لما تخلفت وكانت خفيفة، فحملوا الهودج وظنوا أنها فيه، ثم بعد ذلك ذهبوا وتركوها، وأتى بها صفوان بن معطل، يعني: كانت في الهودج، فحملوا الهودج وكانت هي خفيفة فطنوا أنها فيه، فالهوادج: هي الأقفاص على ما قال سعيد، ويحتمل أن تكون غير ذلك، لكن الحديث من أصله غير ثابت.(304/6)
تراجم رجال إسناد حديث (تكون إبل للشياطين وبيوت للشياطين)
قوله: [حدثنا محمد بن رافع].
محمد بن رافع النيسابوري القشيري، هو شيخ مسلم، وهو من بلده وقبيلته؛ لأن مسلماً قشيري ونيسابوري، ولهذا لما ذكر ابن الصلاح البخاري ومسلماً قال: إن البخاري الجعفي مولاهم، وذكر مسلماً قال: القشيري من أنفسهم، يعني أنه منسوب إليهم نسبة أصل ونسب، وليست نسبة ولاء.
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة، وهو - محمد بن رافع - الذي روى مسلم عن طريقه كل الأحاديث التي هي من صحيفة همام بن منبه التي انتقى منها أحاديث كثيرة، منها ما اتفق معه البخاري فيه، ومنها ما انفرد عن البخاري فيه، وكلها من طريق محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة فـ مسلم مكثر عن محمد بن رافع هذا، وهو من أهل بلده وقبيلته.
[حدثنا ابن أبي فديك].
وهو: محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عبد الله بن أبي يحيى].
عبد الله بن أبي يحيى، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود.
[عن سعيد بن أبي هند].
سعيد بن أبي هند، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
والعلة: هي الانقطاع بين سعيد بن أبي هند وأبي هريرة؛ لأنه لم يلقه، فروايته مرسلة عن أبي هريرة.(304/7)
ما جاء في سرعة السير والنهي عن التعريس في الطريق(304/8)
شرح حديث (إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حقها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في سرعة السير والنهي عن التعريس في الطريق.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حقها، وإذا سافرتم في الجدب فأسرعوا السير، فإذا أردتم التعريس فتنكبوا عن الطريق)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في سرعة السير، يعني: في السفر، والنهي عن التعريس في الطريق.
سرعة السير أي: الذي لا يكون فيه مشقة على الإبل والدواب، وإلحاق الضرر بها.
والتعريس في الطريق يعني: النوم في آخر الليل على الطريق، وذلك أن النوم على الطريق قد يتسبب في انجفال الإبل التي تأتي مع الطريق، فقد تلحق ضرراً بمن يكون نائماً حوله، أو أن الطريق التي تسير فيها الإبل تكون لينة، ويكون فيها سهولة، فقد تأتي الحشرات إليها والدواب التي يحصل من ورائها ضرر، وقد يرمى عليه من الراكبين أشياء، فتأتي تلك الحشرات ودواب الأرض من أجل هذا الذي قد يرمى في الطريق، فالنزول على الطريق يترتب عليه محاذير، ولهذا جاءت السنة في التنكب عن الطريق والابتعاد عنه، يعني: ما يكون حوله شيء بحيث يلحق الإنسان به ضرر، إما بكون إبل تنفر فتطؤه، أو دواب تكون جاءت إلى الطريق تلتمس شيئاً رمي من المارة والمشاة فيها، فيترتب على ذلك إضرار بمن حول الطريق من الذين عرسوا وناموا فيه.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حقها) يعني: خففوا السير حتى ترعى وتستفيد من هذا الخصب، (وإذا سافرتم في الجدب فأسرعوا السير)؛ لأن الإسراع بها فيه قطع للطريق لئلا يصيبها ضعف فتعجز عن إيصال من تحمله إلى ما يريد، وقد يكون وراء هذا المكان المجدب مكان مخصب تستفيد الإبل منه، فجاءت السنة في أن الأرض المخصبة لا يسرع فيها حتى تستفيد الإبل منها، والأرض المجدبة يسرع فيها حتى لا يحصل إعياء بها وعدم قدرة على مواصلة السير، وأيضاً لما يمكن أن يحصل من وجود خصب بعد ذلك.
قوله: [(فإذا أردتم التعريس فتنكبوا عن الطريق)].
أي: وإذا أردتم التعريس وأردتم أن تستريحوا وتنزلوا في آخر الليل فتنكبوا الطريق، يعني: ابتعدوا عن الطريق حتى لا يحصل لكم أذى بسبب النزول قريباً منه.(304/9)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حقها)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد بن سلمة بن دينار البصري، ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا سهيل بن أبي صالح].
سهيل بن أبي صالح، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وروى له البخاري مقروناً.
[عن أبيه].
أبو صالح السمان ذكوان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة قد مر ذكره.(304/10)
شرح حديث (إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حقها) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا هشام عن الحسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا، قال بعد قوله (حقها): (ولا تعدوا المنازل)].
أورد أبو داود حديث جابر وهو بمعنى الأول، وقال فيه: (ولا تعدوا المنازل) يعني: من حيث الإسراع، كونه أمر بالإسراع في حال الجدب، ففي حال كون الأرض مجدبة لا يعدو المنازل يعني: التي اعتيد أنهم يعدونها فيقولون: من مرحلة إلى مرحلة في المنزل الفلاني، إذا نزل اليوم في منزل فالمرحلة الثانية هي كذا، مثلما كان يعرف أن الطرق يعرفونها ويحددونها بالمراحل، فمن مكة إلى المدينة تسع مراحل، فإذا صارت سبع مراحل فمعناه وجود تعب ومشقة على الدواب، فهو يزيد على الشيء المعتاد.
فقوله: (لا تعدوا المنازل) أي: التي أعتيد أن تكون مراحل للنزول، واعتيد أن تكون مسافات تقطع في اليوم، بحيث إنهم يسرعون سرعة شديدة تلحق بالإبل مضرة، فبدل ما يقطعون المسافة في تسعة أيام يقطعونها في سبعة أيام أو ستة أيام أو خمسة أيام، هذا لا يتأتى إلا بإلحاق الضرر بالدواب.(304/11)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حقها) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا يزيد بن هارون].
يزيد بن هارون الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا هشام].
هشام بن حسان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
الحسن بن أبي الحسن البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو الصحابي الجليل، أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(304/12)
ما جاء في الدلجة(304/13)
شرح حديث (عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الدلجة.
حدثنا عمرو بن علي حدثنا خالد بن يزيد حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي باب في الدلجة.
والدلجة: قيل: هي السير في أول الليل، وقيل: هي السير في الليل كله، وذلك لأن الليل يكون فيه النشاط، ويكون فيه البراد في الصيف، والارتياح في المشي فيه، فهو يختلف عن النهار من جهة أن النهار تكون فيه حرارة الشمس المتوقدة، ولكن بالنسبة لليل يكون قطع المسافة فيه أسهل، ولهذا يقولون: (عند الصباح يحمد قوم السرى) الذين يسرون ويمشون في الليل إذا أصبحوا حمدوا سيرهم؛ لأنهم قطعوا مسافة.
قال: (فإن الأرض تطوى بالليل) معناه: في خفة وسهولة السير في الليل للنشاط والبراد الذي يكون فيه، فهو يختلف عن سير النهار.
قوله: [(تطوى)].
المقصود: قطع المسافة؛ لأنه لا شك أن الإنسان إذا كان يسير في براد وفي نشاط فذلك بخلاف ما إذا كان يسير في مشقة وحرارة؛ لأن السير في الليل مع القوة والنشاط يختلف عن السير في النهار مع الحرارة وشدة الشمس، ومعناه أن المسافة التي تقطع في الليل أكثر من المسافة التي تقطع في النهار.
والمقصود من ذلك قطعها بسهولة؛ لا أن الأرض تنكمش له، بدل ما تكون خمسمائة كيلو تصير مائتي كيلو.(304/14)
تراجم رجال إسناد حديث (عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل)
قوله: [حدثنا عمرو بن علي].
عمرو بن علي الفلاس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا خالد بن يزيد].
خالد بن يزيد، وهو صدوق يهم، أخرج له أبو داود والترمذي.
[حدثنا أبو جعفر الرازي].
أبو جعفر الرازي، وهو صدوق سيء الحفظ، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن الربيع بن أنس].
الربيع بن أنس، وهو صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(304/15)
رب الدابة أحق بصدرها(304/16)
شرح حديث (أنت أحق بصدر دابتك مني)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: رب الدابة أحق بصدرها.
حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي قال: حدثني علي بن حسين حدثني أبي حدثني عبد الله بن بريدة قال: سمعت أبي بريدة رضي الله عنه يقول: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي جاء رجل ومعه حمار فقال: يا رسول الله! اركب، وتأخر الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، أنت أحق بصدر دابتك مني، إلا أن تجعله لي، قال: فإني قد جعلته لك، فركب صلى الله عليه وسلم).
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: رب الدابة أحق بصدرها.
المقصود بالصدر مقدمها الذي يلي رقبتها، والمؤخر هو العجز، فهناك صدر وهناك عجز، فصاحب الدابة أحق بصدرها إذا ركب معه أحد، إلا أن يتنازل عنه لغيره.
أورد أبو داود حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي فجاء رجل على حمار وكان قد ركب على صدره فتأخر، وقال: (يا رسول الله! اركب، فقال عليه السلام: رب الدابة أحق بصدرها، إلا أن تجعله لي).
فجعله له؛ لأنه كان راكباً في الصدر ثم تأخر فجعله له، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين الحكم الشرعي، وأنه هو الأحق، وأنه إذا أذن فيه لغيره فإن الحق يكون لمن أذن له فيه.
قوله: [(قد جعلته لك.
فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم)] يعني: صنيع ذلك الرجل من أول وهلة يدل على أنه أراد أن يركب النبي أمامه، ولكن أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين الحكم الشرعي للناس، وأن صاحب الدابة أحق بها إلا أن يجعله لغيره، فيكون حكماً عاماً، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب ولم يبين ذلك ما عرف هذا الحكم، لكن كون النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صاحب الدابة أحق بصدرها) وقال: (إلا أن تجعله لي، قال: قد جعلته لك.
فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم) دل على تقديم صاحب الدابة على غيره، وهذا مثل ما أنه أحق في بيته بالجلوس، وأن يقول لهذا: اجلس هنا وهذا: اجلس هنا، فهو الأحق في أن يتصرف في بيته، فكذلك مركوبه هو الأحق.(304/17)
تراجم رجال إسناد حديث (أنت أحق بصدر دابتك مني)
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي].
أحمد بن محمد بن ثابت المروزي هو ابن شبويه، وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثني علي بن حسين].
علي بن حسين الواقدي، وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[حدثني أبي].
حسين الواقدي، وهو ثقة له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني عبد الله بن بريدة].
عبد الله بن بريدة رحمة الله عليه، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت أبي بريدة].
بريدة رضي الله عنه، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وعبد الله هذا أخو سليمان أحدهما أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأما سليمان فلم يخرج له البخاري وإنما خرج له مسلم فقط مع أصحاب السنن، وقد مر سليمان قريباً.(304/18)
الأسئلة(304/19)
قياس السيارات على الدواب في أن صاحبها أحق بصدرها
السؤال
هل تقاس السيارة الآن على الدابة في أن صاحبها أحق بصدرها؟
الجواب
نعم، مثله مقدمة السيارة إلا إذا كان صاحب السيارة يريد أن يركب في مؤخرتها، وأن يختار المؤخر فلا بأس أن يجلس في الأمام غيره، مثل شيخنا عبد العزيز رحمة الله عليه ما كان يجلس إلا في مؤخرة السيارة، وصدرها ما كان يركب فيه، وكان ذلك من أجل أن يكون بجواره الكاتب يقرأ عليه؛ لأنه في سيارته يقرأ كتباً ويكملها، وفي أي مكان يذهب يقرأ عليه كتباً أو يقرأ عليه معاملات، فكان يختار أن يكون في المؤخرة حتى يكون الكاتب بجواره يملي ويكتب.(304/20)
ما جاء في الدابة تعرقب في الحرب(304/21)
شرح أثر (والله لكأني أنظر إلى جعفر حينما اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الدابة تعرقب في الحرب.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق قال: حدثني ابن عباد عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير قال أبو داود: هو يحيى بن عباد، حدثني أبي الذي أرضعني وهو أحد بني مرة ابن عوف وكان في تلك الغزاة غزاة مؤتة قال: (والله لكأني أنظر إلى جعفر رضي الله عنه حينما اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم قاتل القوم حتى قتل) قال أبو داود: هذا الحديث ليس بالقوي].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في الدابة تعرقب في الحرب، وتعرقب أي: يضرب عرقوبها حتى تكون معيبة، بحيث لا يستفيد منها الأعداء، ويتقووا بها على المسلمين، يعني: أن الإنسان يقتلها أو يضرب عرقوبها بالسيف حتى تكون معيبة لا تستطيع الجري، ولا تستطيع الكر والفر، وذلك لإفسادها على الكفار، وعدم تمكينهم من الاستفادة منها بعد الاستيلاء عليها.
أورد أبو داود هذا الأثر عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: حدثني أبي الذي أرضعني وهو أحد بني مرة ابن عوف، وكان في تلك الغزاة غزاة مؤتة.
(أحد بني مرة ابن عوف) يعني: ما ذكره وإنما ذكر قبيلته، وكان في غزوة مؤتة وهي الغزوة التي يسمونها: غزوة الأمراء؛ لأنه قتل فيها ثلاثة أمراء: عبد الله بن رواحة وجعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهم، وبعد ذلك أخذ الراية خالد ففتح الله لهم ونصرهم على أعدائهم.
قوله: [والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم قاتل القوم حتى قتل].
(اقتحم) يعني: نزل من فرس؛ فعقرها لما رأى أن الكفار حصل منهم هذا، فأراد أن يفوت الفرصة عليهم بالنسبة للفرس أو الدابة التي كان عليها، فعقرها وضرب عراقيبها فقاتل حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه.
[قال أبو داود: هذا الحديث ليس بالقوي].
أولاً: هذا كما هو معلوم أثر، فهو فعل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وليس حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: (ليس بالقوي) لعل المقصود أن فيه هذا الرجل المبهم الذي هو أبوه من الرضاعة.
والألباني صحح الحديث أو حسنه، لكن ما أدري ما هو وجه هذا التصحيح؟! هل له شواهد؟ لكن فيه هذا الرجل المبهم، اللهم إلا أن يكون صحابياً فجهالته لا تؤثر، ثم أيضاً هو موقوف على جعفر بن أبي طالب، وليس مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.(304/22)
تراجم رجال أثر (والله لكأني أنظر إلى جعفر حينما اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي، ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن سلمة].
محمد بن سلمة الحراني، وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
وهذا محمد بن سلمة الحراني في طبقة شيوخ شيوخ أبي داود أما الذي في طبقة شيوخه فهو محمد بن سلمة المرادي المصري، فإذا جاء محمد بن سلمة شيخاً لـ أبي داود فالمراد به المصري، وإذا جاء في طبقة شيوخ شيوخه فالمراد به الحراني.
[عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[قال: حدثني ابن عباد].
وهو: يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير].
عباد بن عبد الله بن الزبير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه الذي أرضعه].
ولا أعرف عنه شيئاً.
والعرقوب: هو المفصل الذي بين الساق والقدم.
وقوله: (حدثني أبي الذي أرضعني) هل يكون صحابياً باعتبار أنه شهد غزوة مؤتة؟! قد يكون شهد مؤتة وهو ليس بصحابي، لكن الغالب أن يكون صحابياً ما دام أن الجيش أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم، فأقول: في الغالب أنه صحابي لأنه في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، والجيش أرسله الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو الذي قال: يكون الأمير فلان أو فلان أو فلان، فهو في الغالب يكون صحابياً، ولكن هذا الذي رواه يعتبر أثراً وليس بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(304/23)
شرح سنن أبي داود [305]
المسابقة جائزة في الإسلام فيما يعين على الحرب ولو على جعل يجعله أحد المتسابقين أو أجنبي عنهما، ولا يجوز أن يجعل السبق كالقمار، وللسبق أحكام بينها العلماء وفصلوها.(305/1)
ما جاء في السبق(305/2)
شرح حديث (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في السبق.
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا ابن أبي ذئب عن نافع بن أبي نافع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في السبق والسبق: هو جعل يكون على السبق لمن يسبق، والسبق بفتح الباء مقدار من المال يجعل لمن يحصل منه السبق عند السباق، وذلك إنما يكون بالخف والحافر والنصل.
النصل: هو الرماية أو الرمي يعني: المسابقة في الرمي والتنافس فيه بكونه يصيب أو لا يصيب، فهذا يكون السبق فيه؛ لأن هذه من وسائل الحرب، وفيها استعداد للحرب، وفيها تمرن، فساغ أن يجعل فيه الجعل في حق من يسبق؛ لأن فيه تنافساً على معرفة تلك الأمور التي تعين على الحرب، والتي فيها قوة للمسلمين.
فأورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل).
خف: خف البعير.
وحافر: الخيل، وكذلك يكون للحمار، ويكون أيضاً للبغل، كل هذه تعتبر ذات حوافر، فتدخل تحت عموم قوله: (حافر).
أو نصل: وهو السهام التي يرمى بها بأي وسيلة من الوسائل يكون الرمي، فإن ذلك سائغ، وأخذ الجعل فيه سائغ.(305/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن أبي ذئب].
وهو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع بن أبي نافع].
نافع بن أبي نافع، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق.
فهذا سند رباعي، وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(305/4)
شرح حديث (أن رسول الله سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء، وكان أمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وإن عبد الله كان ممن سابق بها)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل المضمرة، والخيل الغير المضمرة، وجعل لكل واحدة أمداً، فالخيل المضمرة جعل لها أمداً مقداره ستة أميال كما جاء في صحيح مسلم: (بين الحفياء وبين ثنية الوداع) والغير المضمرة: من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق، والمسافة بينهما ميل كما جاء في صحيح مسلم، فالمضمرة أمدها بعيد لقوتها ونشاطها، وغير المضمرة جعل لها الأمد قصيراً.
والمضمرة: هي التي تعلف ويكثر لها العلف حتى تسمن، ثم بعد ذلك تجعل في بيت أو في مكان فيه حرارة، فتجلل في جلال فيصيبها عرق، وتعطى قوتاً على قدر حالها ولا يكثر لها، فعند ذلك يكون لها قوة ونشاط بسبب ذلك، فأولاً حصلت سمناً وأكلاً كثيراً ثم أخمدت، وهو كونها تعلف علفاً على قدر ما يكفيها دون أن يكون فيه الزيادة كما كان من قبل، وتكون في مكان آمن فيه حرارة لأجل أن تعرق فيخف وزنها ويذهب سمنها، فيكون عندها قوة، ويصير عندها نشاط بهذه الطريقة، وبهذه العملية التي كانوا يتخذونها في تضمير الخيل، فالرسول صلى الله عليه وسلم سابق بينها، أي أنه جعل أناساً يتسابقون من كذا إلى كذا، وجعل الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع، ومقدارها ستة أميال، والخيل الغير المضمرة من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ومقداره ميل واحد.
وثنية الوداع يقال: إنها هي التي في أول (طريق سلطانة) عند مفترق الطريق الذي يذهب إلى (سيد الشهداء)، يقال: إنها هناك، والحفياء ومسجد بني زريق لا أعرف شيئاً عن أماكنهما، لكنهما خارج المدينة، ومعناه أنهم يأتون من خارج المدينة إلى الثنية، من مكان بعيد إلى مكان قريب، كأن الأمد والغاية التي ينتهون إليها بالنسبة للخيل المضمرة أنه من مكان بعيد إلى مكان قريب، وأما من الثنية إلى مسجد بني زريق فلا أدري في أي مكان هو، المهم أنه جاء بيان أن هذه المسافة ميل وهذه المسافة ستة أميال، فهذه مسافة طويلة، وهذه مسافة قصيرة.(305/5)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
عبد الله بن مسلمة القعنبي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه، أحد أًصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر].
رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر أن ابن عمر من جملة المتسابقين.(305/6)
ضرورة الاهتمام بالخيل
والآن توجد خيول معدة للسباق، والسباق موجود كما تسمعون في الإذاعة كثيراً من المسابقات على الخيل وعلى غير الخيل، والنبي صلى الله عليه وسلم سابق لأجل الغزو والجهاد، فهذه هي الغاية التي كان يسابق من أجلها وليست موجودة الآن، وأما المسابقة فموجودة.
ولا شك أن إبقاء الخيل والعناية بها شيء طيب، حتى لا تندرس وتهمل، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) فالاعتناء بالخيل ولو لم يوجد جهاد لا شك أن هذا أمر مطلوب لا ينبغي إهماله أو الإعراض عنه، أو إغفاله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) إنها ستبقى وستكون موجودة في آخر الزمان، والناس سيقاتلون عليها، وقد يكون قتالهم عليها لأن الآلات الحديثة ستنتهي، أو أنها موجودة لكن غالباً أنه لا يحتاج إليها.(305/7)
الرد على محمد فريد وجدي في إنكاره أحاديث الدجال
بعض الناس يشكك في الأحاديث بعدما وجد التقدم في الصناعة، مثلما فعل محمد فريد وجدي في كتابه: دائرة معارف القرن العشرين، كان مما ذكره أن تكلم في الدجال بكلام سخيف وباطل وقال: أحاديث الدجال كلها موضوعة، ثم ذهب يستدل على وضعها، ومن بينها حديث النواس بن سمعان الطويل الذي في صحيح مسلم وفيه: أن يأجوج ومأجوج يرسلون نشابهم إلى السماء فيقولون: قتلنا من في الأرض فلنقتل من في السماء.
وهذا الحديث كل رجاله ثقات، وهم رجال مسلم، فيقول: إن الذي وضع هذا الحديث قاصر نظر أو نحواً من هذا الكلام! أما درى أنه بعد كذا سيظهر كذا وكذا وأنه بعد ذلك ستظهر الطائرات وأنه بعد ذلك سيوجد كذا وسرد بعض هذه الأشياء التي وجدت.
وهذا -والعياذ بالله- طعن في الأحاديث، وطعن في السنن، وتكذيب لما تواتر من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما أن الناس يستعملون الخيل لأن هذه الوسائل قد لا توجد وقد تكون انتهت وليس محققاً أنها ستبقى إلى آخر الزمان، ومعلوم أن هذه الآلات تعتمد على النفط، ولو نفد النفط فما الذي سيحرك هذا الحديد من مكانه ويجعله يمشي؟ بلا شك أنه سيقف في مكانه.
فهو يقول: إن الحديث موضوع؛ لأن من وضعه ذكر فيه النشاب، والذي وضعه ما درى أن الأمور ستتغير وأنه ستوجد طائرات ومدمرات وستوجد قنابل، وستوجد كذا وستوجد كذا وكذا، ثم يطعن في الحديث من أجل أنه رأى أنه لا يمكن أن الناس يرجعون إلى هذا الشيء.
ومن يقول: إن هذه الأشياء ستبقى؟ لا يعلم الغيب إلا الله عز وجل.
وكونهم سيستعملون الخيل في آخر الزمان فهذا يشير إلى أن هذه الأشياء غير موجودة؛ لأنها لو كانت موجودة فإنه يصار للأقوى، لكن حيث يكون الغزو على الخيل والذهاب عليه والجهاد على ظهره في آخر الزمان ففيه دليل على أن هذه الآلات الحديثة ستنتهي، وقد جاءت في ذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحاصل أن محمد فريد وجدي في كتابه (دائرة معارف القرن العشرين) تكلم كلاماً عن الدجال، وقال: أحاديثه كلها موضوعة ملفقة، مع أنها متواترة وكثير منها في الصحيحين، ولكن الإنسان الذي يحكم عقله يوقعه فيكون هالكاً والعياذ بالله! وكان بعض العلماء وبعض السلف يقول في حديث النواس: ينبغي أن يعلم الصغار في الكتاب هذا الحديث الذي فيه ذكر الدجال وأخبار الدجال، ومع ذلك محمد فريد وجدي يقول: إن أحاديث الدجال كلها موضوعة، ويبرهن على وضعه بذكر النشاب الذي يرسله يأجوج ومأجوج ويقولون: قتلنا من في الأرض فلنقتل من في السماء، فترجع عليهم نشابهم مخضوبة دماً يعني: ابتلاء وامتحاناً من الله عز وجل.(305/8)
شرح حديث (أن رسول الله كان يضمر الخيل يسابق بها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا معتمر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يضمر الخيل يسابق بها)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضمر الخيل يسابق بها) وقد عرفنا معنى التضمير كما في الحديث السابق، وأن هذا من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك فيه رياضة للخيل وتدريب على الكر والفر والسرعة.(305/9)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله كان يضمر الخيل يسابق بها)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا معتمر].
معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي، ثقة، أخرج له صحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر العمري المصغر، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن ابن عمر].
نافع وابن عمر قد مر ذكرهما.(305/10)
شرح حديث (أن النبي سبق بين الخيل وفضل القرَّح في الغاية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل قال: حدثنا عقبة بن خالد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم سبق بين الخيل، وفضل القرَّح في الغاية).
أورد أبو داود حديث ابن عمر (أن النبي سبق بين الخيل) يعني: سابق بينها.
(وفضل القرح في الغاية).
القرح: هي التي أكملت أربع سنوات ودخلت في الخامسة.
(في الغاية) الأمد الذي ينتهي إليه السباق، يقال له: الغاية، ويقال له: الأمد.(305/11)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي سبق بين الخيل وفضل القرح في الغاية)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عقبة بن خالد].
عقبة بن خالد، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر].
عبيد الله ونافع وابن عمر قد مر ذكرهم.(305/12)
ما جاء في السبق على الرجل(305/13)
شرح حديث (فسابقته فسبقته على رجلي فلما حملت اللحم سابقته فسبقني)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في السبق على الرجل.
حدثنا أبو صالح الأنطاكي محبوب بن موسى أخبرنا أبو إسحاق -يعني: الفزاري - عن هشام بن عروة عن أبيه وعن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها: (أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال: هذه بتلك السبقة)].
أورد أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة، وهي: باب في السبق على الرجل.
أي: المسابقة على الأقدام، والمسابقة على الأقدام سائغة ولا بأس بها، ولكنها بدون جعل، وقد أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: إنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فسابقته وسبقته، ولما حملت اللحم وحصل لها السمن سابقها فسبقها صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (هذه بتلك السبقة) أي: هذه السبقة التي حصلت هذه المرة بتلك السبقة التي حصلت فيما مضى، وهذا يدل على كمال أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وحسن عشرته لأهله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(305/14)
تراجم رجال إسناد حديث (فسابقته فسبقته على رجلي فلما حملت اللحم سابقته فسبقني)
قوله: [حدثنا أبو صالح الأنطاكي محبوب بن موسى].
أبو صالح الأنطاكي محبوب بن موسى، صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا أبو إسحاق].
وهو: إبراهيم بن محمد بن الحارث، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعن أبي سلمة].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة فقيه، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة على الخلاف في السابع منهم؛ لأن عروة بن الزبير متفق على عده من الفقهاء السبعة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن مختلف في عده؛ لأن ستة منهم متفق على عدهم والسابع فيه ثلاثة أقوال.
فالستة هم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وخارجة بن زيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعروة بن الزبير هذا الذي معنا.
وأما السابع ففيه ثلاثة أقوال: قيل: أبو سلمة هذا، وقيل: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وقيل: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في أول إعلام الموقعين أئمة الفتوى في البلدان في زمانهم من الصحابة والتابعين، ولما جاء إلى المدينة وذكر فقهاءها ذكر أن من فقهائها في عصر التابعين سبعة اشتهروا بلقب الفقهاء السبعة، بحيث إذا ذكروا بهذا اللقب أغنى عن عدهم بأسمائهم، فكلمة (الفقهاء السبعة) فيها اختصار، كما قالوا ذلك في مسألة زكاة العروض، فإنهم قالوا: قال بها الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة، الأئمة الأربعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، والفقهاء السبعة هم فقهاء المدينة السبعة، وابن القيم رحمه الله ذكر الفقهاء السبعة وجعل سابعهم أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ثم ذكر بيتين من الشعر البيت الثاني يشمل الفقهاء السبعة فقال: إذا قيل من في العلم سبعة أبحر روايتهم ليست عن العلم خارجه فقل هم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجه [عن عائشة].
أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها وهي الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(305/15)
ما جاء في المحلل(305/16)
شرح حديث (من أدخل فرساً بين فرسين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المحلل.
حدثنا مسدد حدثنا حصين بن نمير حدثنا سفيان بن حسين ح وحدثنا علي بن مسلم حدثنا عباد بن العوام أخبرنا سفيان بن حسين المعنى عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدخل فرساً بين فرسين -يعني: وهو لا يؤمن أن يسبق- فليس بقمار، ومن أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في المحلل، والمحلل هو الثالث الذي ذكره المصنف في هذا الحديث، فالمتسابقان يكون معهما شخص ثالث، وهذا الشخص الثالث يكون فيما إذا كان الجعل من كل واحد منهما، فيقول: إن سبقت فأنت تعطيني كذا وهذا يقول: إن سبقت تعطيني كذا فكل واحد منهما يلتزم للآخر بأنه إذا كان مسبوقاً يعطيه، وهذا الثالث الذي يأتي بينهما قيل له: محلل، من أجل أنه يحلل لكل واحد منهما ما يستحق من الآخر بمعنى: أنه لا يكون السباق بين طرفين فقط فيكون شبيهاً بالقمار، وإنما يكون من ثلاثة أطراف، والثالث يكون محللاً، وهذا المحلل له ثلاث حالات: الأولى: إن كان متيقناً بأنه سيسبق، فهذا لا يجوز؛ لأن دخوله بينهما يُعلم منه مقدماً أنه سيأخذ العوض، فدخوله لا حاجة إليه.
الثانية: أن يكون معروفاً بأنه لا يسبق؛ لأن فرسه أو جواده فيه إعياء، فمعلوم أنه سيكون وجوده مثل عدمه، فلا يجوز.
الثالثة: إذا كان لا يغلب على ظنه أنه يسبق ولا أنه يتأخر، وإنما يحتمل أن يسبق ويحتمل ألا يسبق بأن يكون فرسه متقارباً مع الفرسين، فهذا يجوز، وهذا يكون محللاً وسائغاً على ما جاء في الحديث (إذا كان لا يؤمن أن يسبق) بل يحتمل أن يسبق ويحتمل ألا يسبق، فيكون مثلهم، فالمتسابقون يجب أن يكونوا متماثلين في الجودة ونحوها.
أما إذا تسابق صاحب جواد قوي وصاحب جواد هزيل فهذه المسابقة من أصلها لا وجه لها، ولهذا يقولون عن الشيء الذي فيه تماثل وتناسب: (كفرسي رهان) يعني: أنه لا يسبق أحدهما الثاني لتماثلهما، ولهذا قالوا في ترجمة محمد بن المثنى ومحمد بن بشار -كما قال الحافظ في التقريب في ترجمة محمد بن المثنى - وكان هو وبندار كفرسي رهان، وماتا في سنة واحدة قيل: كانا متماثلين في الشيوخ، ومتماثلين في التلاميذ، ومتماثلين في البلد، ومتماثلين في العمر، وماتا في سنة واحدة! فقيل لهما: إنهما كفرسي رهان يعني: لا أحد يسبق الثاني؛ لأن الفرسين اللذين يسابق بينهما يصير بينهما شيء من التماثل، وليس بين جواد قوي وجواد هزيل؛ لأن المسابقة عند ذلك تكون معروفة مقدماً بأنها لا غية، وأنه لا قيمة لها إذا كان شخص سابقاً وشخص مسبوقاً، فالمحلل في كلا الحالتين دخوله ووجوده مثل عدمه لا قيمة له، أي إذا كان جواده أحسن من جواديهما، ويكون معلوماً بأنه يسبق، أو أن جواده فيه إعياء وتعب وأنه لا يسبق فيكون وراءهما في الساقة، ولا يكون مثلهما ولا يسبقهما، فالمحلل في هاتين الحالتين لا قيمة له أو لا اعتبار لوجوده.
وأما إذا كان فرسه مثل فرسيهما قد يتقدم وقد يتأخر، قد يسبقه أحد وقد يسبق هو؛ فهذا هو الذي يكون محللاً، وهذا إنما يكون فيما إذا كان الجعل من كل واحد منهما، أما إذا كان من واحد منهما فلا يشترط المحلل، وإذا كان من شخص أجنبي ثالث لا دخل له بالمسابقة، فهذا جائز ولا يشترط المحلل.
وأبو داود أورد حديث أبي هريرة، وهو حديث ضعيف لا يحتج به، وعلى هذا فالمحلل ما ثبت في هذا الحديث؛ ولهذا أورده الحافظ ابن حجر في البلوغ وقال: سنده ضعيف، وقد أورده المصنف من طريقين وكل منهما سنده ضعيف، أحدهما فيه سفيان بن حسين وهو يروي عن الزهري وهو ضعيف في الزهري باتفاق، والثاني: فيه سعيد بن بشير وهو ضعيف، فالحديث جاء من طريقين كل منهما ضعيف، فليس بثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مسألة: من أدخل فرساً بين فرسين ليس خاصاً بسباق الفرس بل يعم جميع المسابقات، فإذا كانت المسابقة على إبل فسيكون هناك بعير ثالث بينهما، لكن لا يكون شيء من نوع آخر أو من جنس آخر، وإنما تكون المسابقة من جنس واحد.
وفي المراماة قالوا: إذا كان كل منهما دفع الجعل فإنه يكون شبيهاً بالقمار، وإما إذا كان الجعل من واحد منهما أو من واحد خارج المسابقة فهذا لا بأس به.
إذاً: من أدخل فرساً بين فرسين وهو لا يؤمن أن يسبق فهذا معناه أنه من جنسهم فيصير مماثلاً لهما؛ فليس بقمار.
(ومن أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار).
معناه أن وجوده كعدمه.
فهذا أمن أن يسبق الذي هو المتأخر، لكن يقابله الذي يسبق الجوادين، حيث يكون جواده أحسن منهما فهاتان الحالتان يصير وجودهما مثل عدمهما، معناه: أنه سيأخذ الجعل ويفوز به في الأولى ولا يكون له في الثانية شيء فيكون قماراً.(305/17)
تراجم رجال إسناد حديث (من أدخل فرساً بين فرسين)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا حصين بن نمير].
حصين بن نمير، وهو لا بأس به، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا سفيان بن حسين].
سفيان بن حسين، وهو صدوق في غير الزهري، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[ح وحدثنا علي بن مسلم].
علي بن مسلم، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عباد بن العوام].
عباد بن العوام، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان بن حسين المعنى عن الزهري].
وهو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة، أخرج له صحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.
والذين رووه غير هذين اللذين هما: سفيان بن حسين أو سعيد بن بشير الذي سيأتي وقفوه على سعيد بن المسيب، وصار من قوله، وليس من قول أبي هريرة، ولا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما جاء مرفوعاً ومسنداً من طريقيهما وهما ضعيفان، أحدهما صدوق لكنه في الزهري ضعيف، وهذا الثاني سعيد بن بشير ضعيف.(305/18)
شرح حديث (من أدخل فرساً بين فرسين) من طريق أخرى وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمود بن خالد حدثنا الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير عن الزهري بإسناد عباد ومعناه].
قوله: [حدثنا محمود بن خالد].
محمود بن خالد الدمشقي، ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الوليد بن مسلم].
الوليد بن مسلم الدمشقي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن بشير].
سعيد بن بشير الشامي، وهو ضعيف، أخرج له أصحاب السنن.
[عن الزهري بإسناد عباد].
الزهري قد مر ذكره.(305/19)
ذكر من روى حديث المحلل في السباق موقوفاً
[قال أبو داود: رواه معمر وشعيب وعقيل عن الزهري عن رجال من أهل العلم وهذا أصح عندنا].
يعني: الذين رووه عن الزهري ولم يرفعوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عدد، وروايتهم مقدمة على رواية من رواه مرفوعاً، وعلى هذا فالحديث لا يثبت مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [رواه معمر].
معمر بن راشد الأزدي اليماني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وشعيب].
شعيب بن أبي حمزة الحمصي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعقيل].
عقيل بن خالد بن عقيل المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن رجال من أهل العلم].
يعني: هنا مطلق، ولكنه جاء في بعض الروايات الصحيحة أنه من قول سعيد بن المسيب.(305/20)
ما جاء في الجلب على الخيل في السباق(305/21)
شرح حديث (لا جلب ولا جنب في الرهان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الجلب على الخيل في السباق.
حدثنا يحيى بن خلف حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد حدثنا عنبسة ح وحدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل عن حميد الطويل جميعاً عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا جلب ولا جنب -زاد يحيى - في حديثه- في الرهان)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في الجلب على الخيل في السباق، والجلب: هو زجرها والصياح بها من أجل أن تجري، فهذا يسمى جلباً، وأبو داود رحمه الله ذكر الترجمة في الجلب، مع أن في الحديث ذكر الجلب والجنب، والجلب: هو زجرها والصياح عليها، بأن يكونوا صفوفاً فيصيحون بها.
وقيل: إن المقصود بذلك أنها لا تزجر ويصاح بها وإنما تحرك برسنها بدون صياح، فهذا هو الجلب.
وقد أورد أبو داود حديث عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا جلب ولا جنب في الرهان).
يعني: في المسابقة بين الخيل أو بين الإبل، فلا يكون هناك جلب أي: صياح، ولا جنب أي: بأن يكون هناك فرس ثالث أو رابع يجري معهم بحيث إذا تعب المركوب يتحول على الثاني، وإنما يكون على الفرسين فقط دون أن يضاف فرس ثالث أو دابة ثالثة تسير إلى الجنب بحيث إذا تعبت المركوبة الأولى يتحول منها إلى التي بجنبها وبجوارها.
فلا جلب ولا جنب في الرهان أي: في المسابقة على الخيل والإبل.(305/22)
تراجم رجال إسناد حديث (لا جلب ولا جنب في الرهان)
قوله: [حدثنا يحيى بن خلف].
يحيى بن خلف، هو صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد].
عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عنبسة].
عنبسة بن سعيد القطان أخرج له أبو داود.
قال: الحافظ: إنه ليس له رواية، لكن هذا الحديث من روايته، والمزي ذكره في التحفة قال: إنه عنبسة بن سعيد القطان، وعلى هذا فهذه روايته، ثم أيضاً هو ضعيف، ولكن العمدة ليست عليه، وإنما على رفيقه أو الذي معه: حميد بن أبي حميد الطويل.
وأما الحافظ فلعله وهم هل هو عنبسة بن أبي رائطة أو ابن سعيد القطان؟! والذي ذكر في تهذيب الكمال وفي تحفة الأشراف هو عنبسة بن سعيد القطان في تلاميذ الحسن، وفي تحفة الأشراف في الإسناد قال: هو عنبسة بن سعيد، على هذا يكون الحافظ وهم في هذا الراوي، إلا أن يكون الحافظ ما اعتبر كلام المزي لا في هذا ولا في هذا.
فعبارة الحافظ هي: ليس له رواية.
فإذا كان هو فقد روى له أبو داود مقروناً وليس منفرداً، فهو ضعيف ولكن العمدة على غيره سواء كان هذا أو هذا.
[ح وحدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل].
مسدد مر ذكره، وبشر بن المفضل، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد الطويل].
حميد بن أبي حميد الطويل، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[جميعاً عن الحسن].
الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمران بن حصين].
عمران بن حصين أبو نجيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
ورواية الحسن بن أبي الحسن عن عمران بن حصين تكلم في سماعه منه، ولكن الألباني صححه، فلا أدري هل ذلك لشواهد أو ماذا؟!(305/23)
شرح أثر قتادة (الجلب والجنب في الرهان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن المثنى حدثنا عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة قال: الجلب والجنب في الرهان].
أورد هذا الأثر عن قتادة أنه قال: الجلب والجنب في الرهان.
يعني: في رهان المسابقة.
وهذا فيه إشارة إلى أنه ليس في الزكاة؛ لأنه جاء أن الجلب والجنب في الزكاة، يعني: كون العامل يكون في ناحية بعيدة، ويأمر الناس بأن يأتوا إليه، أو العامل أو صاحب الأموال يهرب بعيداً عن العامل حتى لا يصل إليه.(305/24)
تراجم أثر قتادة (الجلب والجنب في الرهان)
قوله: [حدثنا ابن المثنى].
محمد بن المثنى العنزي الملقب: الزمن كنيته: أبو موسى، وهو مشهور بكنيته وباسمه وكثيراً ما يذكره الحافظ ابن حجر عندما يذكر التلاميذ أو الشيوخ، فمثلاً يقول: روى عن فلان وعن فلان وعن أبي موسى بدل ما يقول: محمد بن المثنى؛ لأنه مشهور بكنيته، فكثيراً ما يأتي ذكره في تهذيب التهذيب بكنيته سواء كان ذكره في تلاميذ شخص معين أو في الشيوخ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو الذي قال عنه الحافظ كما أشرت في ترجمته في التقريب: وكان هو وبندار كفرسي رهان، أي: متماثلين لا أحد يسبق الثاني.
[عن عبد الأعلى].
عبد الأعلى بن عبد الأعلى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد].
سعيد بن أبي عروبة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وهذا القول يعتبر قوله، ولا يقال له: منقطع، فإذا انتهى المتن إلى تابعي أو من دون التابعي يقال له: مقطوع، وإذا انتهى إلى الصحابي يقال له: موقوف، وإذا انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له: مرفوع، فهذا يقال له: مقطوع، والمقطوع من صفات المتن، بخلاف المنقطع فإنه من صفات الإسناد؛ لأن المقطوع هو المتن الذي انتهى إلى من دون الصحابي، وأما المنقطع فهو سقوط راو أو أكثر في الإسناد.(305/25)
الأسئلة(305/26)
حكم المسابقة في العلم
السؤال
ما حكم المسابقة في العلم والبحوث العلمية؟
الجواب
لا بأس بذلك، فالجعل في مسائل العلم وما إلى ذلك لا بأس به.(305/27)
حكم السبق على الأقدام
السؤال
ما حكم السبق على الأقدام؟
الجواب
لا يكون فيه سبق، والسبق جاء في الأمور الثلاثة التي في نص الحديث، وأما المسابقة على الأقدام فليس فيها شيء؛ لأنها ليست من وسائل الحرب.(305/28)
حكم السبق في الحمام
السؤال
ما حكم السبق في الحمام؟
الجواب
جاء ذلك في بعض زيادات الحديث، فهذا يمكن أنه يتوسع فيه فيدخل فيه الأشياء التي هي عبث ولا تصلح؛ كالمسابقة في الحمام والأشياء التي صار بعض الناس يضيفها ويلحقها بالحديث، فالأشياء التي فيها قوة في الحرب هي التي يكون فيها الجعل، والأشياء التي لا قوة فيها في الحرب لا جعل فيها، لكن فيما يتعلق بالعلم ووسائل العلم، يعني: من ألف كتاباً يتعلق بكذا وكذا فله كذا، أو من حفظ القرآن فله كذا وكذا فهذا لا شك أنه شيء سائغ، وفيه منافسة ومسابقة في الخير.(305/29)
حكم من رد السنة والأحاديث المتواترة
السؤال
ما حكم من كان على شاكلة محمد فريد وجدي في رد السنة وإنكار الأحاديث المتواترة؟
الجواب
لا شك أنه على خطأ عظيم، وخاصة مثل أحاديث الدجال فهي أحاديث متواترة بلغت مبلغ اليقين، بل النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتعوذ منه في آخر كل صلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر أمته منه، وكل نبي حذر أمته من المسيح الدجال، وفتنة الدجال من أعظم الفتن، فأحاديث الدجال أحاديث متواترة إذا أنكرها الإنسان فإنه يخاطر بدينه والعياذ بالله! وأحاديث المهدي أيضاً من جنس أحاديث الدجال، إلا أنها أقل من أحاديث الدجال من حيث الشهرة والكثرة والتواتر، فهي كلها متواترة، حكى جماعة من أهل العلم تواترها، ولكن أحاديث الدجال أكثر، ووجودها في الصحيحين بكثرة، بخلاف أحاديث المهدي، فإنه لم يأت في الصحيحين نص على ذكر المهدي، وإنما جاء في أحاديث كثيرة في غير الصحيحين.
وأما قول بعضهم: إن أحاديث المهدي جاءت كلها من طرق ولا توجد طريق إلا وفيها واحد من رواة الشيعة.
فهذا ليس بصحيح، وإنما هي كثيرة جداً متواترة جاءت عن أكثر من عشرين شخص من الصحابة، وأيضاً حكى تواترها جماعة كثيرون من المتقدمين والمتأخرين، لكنها دون أحاديث الدجال من حيث الصحة والكثرة، فأحاديث الدجال أكثر وأصح.(305/30)
جواز المسابقة في كل شيء لا السبق
السؤال
في عون المعبود قال القرطبي: لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب وعلى الأقدام وكذا الترامي بالسهام، واستعمال الأسلحة لما في ذلك من التدريب في الحرب؟
الجواب
لكنه بدون سبق، والمقصود هنا المسابقة، فهذا لا بأس لكن الكلام على السبق.
فالكلام هنا على الجعل وأخذه، فالمسابقة على الأقدام ما ورد فيها شيء؛ لأنه قال: لا سبق إلا في كذا وكذا.(305/31)
شرح سنن أبي داود [306]
هنا مسائل وأحكام وآداب متفرقة لها علاقة بالجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، ومن هذه المسائل: استخدام الرايات وألوانها المرغوبة، والاعتناء بالضعفاء لأنهم سبب الرزق والنصر، واستخدام الشعار في الحرب ليعرف الصديق من العدو، والاهتمام بالنبل والسيوف في أماكن التجمعات حتى لا تؤذي المسلمين بنصالها وحدّها، ونحو ذلك من المسائل والآداب.(306/1)
ما جاء في السيف يحلى(306/2)
شرح حديث (كانت قبيعة سيف رسول الله فضة)
قال المصنف رحمه الله تعالى [باب في السيف يحلى.
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا جرير بن حازم حدثنا قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: (كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فضة)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في السيف يحلى، يعني: هل يحلى أو لا يحلى؟ وهو أن توضع فيه زينة كأن يكون فيه فضة أو ذهب، والسيف لا يحلى بالذهب، ولكن تحليته بالفضة تجوز إذا كانت التحلية يسيرة.
وأورد أبو داود حديث أنس رضي الله عنه قال: (كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة) والقبيعة: هي التي بجوار مقبض السيف، ولعله الشيء الذي يفصل بين الحد وبين المقبض، بحيث يكون فيه شيء نافع يميز ويفصل بين المقبض وبين حد السيف، فهذه المنطقة يقال لها قبيعة، فيكون هذا المقدار من السيف محلى بالفضة، فدل ذلك على جواز مثل ذلك، وأن التحلية بالفضة لا بأس بها بحيث تكون يسيرة.(306/3)
تراجم رجال إسناد حديث (كانت قبيعة سيف رسول الله فضة)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا جرير بن حازم].
جرير بن حازم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي مر ذكره.
[عن أنس بن مالك].
رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد رباعي من الأسانيد العالية عند أبي داود التي يكون فيها بين أبي داود وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أشخاص.
ورواية جرير بن حازم عن قتادة يقول الحافظ في التقريب: ثقة، في حديثه عن قتادة ضعف.
لكن الأسانيد التي ستأتي بعده يقوي بعضها بعضاً.(306/4)
شرح حديث (كانت قبيعة سيف رسول الله فضة) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن قال: (كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فضة) قال قتادة، وما علمت أحداً تابعه على ذلك].
أورد أبو داود هذا الإسناد وهو مرسل لأنه من رواية سعيد بن أبي الحسن أخي الحسن البصري وأسند ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعي إذا أسند إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يقال له: حديث مرسل، وهو من قبيل المنقطع، لكن هذه الرواية والرواية السابقة يشهد بعضها لبعض، يعني: الحديث الأول متصل وفيه كلام، وهذا منقطع وهو صحيح، فبعضها يشهد لبعض.(306/5)
تراجم رجال إسناد حديث (كانت قبيعة سيف رسول الله فضة) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى عن معاذ بن هشام].
معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، صدوق ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حدثني أبي].
هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن].
قتادة مر ذكره، وسعيد بن أبي الحسن أخو الحسن البصري واسمه: الحسن بن أبي الحسن، وهذا سعيد بن أبي الحسن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال قتادة: وما علمت أحداً تابعه على ذلك].
يحتمل أن يكون هذا من قول قتادة ويكون المراد به سعيد بن أبي الحسن، ولكن قيل: إن المقصود أن الذي قال هذا هو أبو داود نفسه، أي: قال أبو داود في رواية قتادة: وما علمت أن أحداً تابعه أي: تابع جرير بن حازم في الرواية عن قتادة.
قالوا: لأن هذه العبارة ما كان يستعملها المتقدمون وإنما يستعملها المتأخرون.
لكن بعض أهل العلم قال: يحتمل أن يكون هذا القول قول قتادة، ومرجع الضمير في قوله: (تابعه) أي: تابع سعيد بن أبي الحسن، لكن الأقرب: أن هذا من قول أبي داود، وأن الصيغة فيها اختصار، وأنه قال أبو داود في رواية قتادة: وما علمت أحداً تابعه، فيكون الضمير رجعاً إلى جرير بن حازم في روايته عن قتادة.
وفيما يتعلق برواية جرير عن قتادة فيها شيء.
قال النسائي: هذا حديث منكر والصواب قتادة عن سعيد.
وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وهكذا روي عن همام عن قتادة عن أنس، وقد روى بعضهم عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن.
وأما قول النسائي: والصواب عن قتادة عن سعيد فإنه صوب المرسل، أي: أن ذاك متصل وهذا مرسل وهو صوب المرسل.
والأحاديث كلها يضم بعضها إلى بعض، والألباني قال: إن الحديث صحيح لغيره، يعني: أن هذه الروايات بعضها يشهد لبعض، فلا تنافي بينها من حيث النتيجة والغاية.(306/6)
شرح حديث (كانت قبيعة سيف رسول الله من فضة) من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثني يحيى بن كثير أبو غسان العنبري عن عثمان بن سعد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت فذكر مثله.
قال أبو داود: أقواها حديث سعيد بن أبي الحسن والباقية ضعاف].
أبو داود قوى مثل الذي قوى النسائي، وهي الطريق الوسطى التي هي مرسلة، ولكن هذه الضعاف هي بمعنى المرسلة، وكلها تتعلق بقبيعة سيف النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان من فضة فيكون بعضها شاهداً لبعض، ويقوي بعضها بعضاً.(306/7)
تراجم رجال إسناد حديث (كانت قبيعة سيف رسول الله من فضة) من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
محمد بن بشار هو الملقب بندار البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني يحيى بن كثير أبو غسان العنبري].
يحيى بن كثير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عثمان بن سعد].
عثمان بن سعد، وهو ضعيف، أخرج له أبو داود والترمذي.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه قد مر ذكره.
وهذا سند رباعي.(306/8)
ما جاء في النبل يدخل به المسجد(306/9)
شرح حديث الأمر بإمساك نصال النبل في المسجد
قال المصنف رحمه الله تعالى [باب في النبل يدخل به المسجد.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه أمر رجلاً كان يتصدق بالنبل في المسجد ألا يمر بها إلا وهو آخذ بنصولها)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في النبل يدخل به المسجد.
والمقصود من الترجمة جواز مثل ذلك بالنسبة للمساجد، وأنه سواء كان في المسجد أو في الأماكن التي يجتمع فيها الناس يحذر من أن يجرح أحداً أو يكون عرضة لأن يحصل لأحد إيذاء به، فيمسك بنصال النبال بحيث يؤمن من ضررها.
وقد أورد أبو داود حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمر رجلاً كان يتصدق بالنبل في المسجد ألا يمر بها إلا وهو آخذ بنصولها).(306/10)
تراجم رجال إسناد حديث الأمر بإمساك نصال النبل في المسجد
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
الليث بن سعد المصري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر رضي الله عنه، وهو صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد أيضاً من الرباعيات عند أبي داود.(306/11)
شرح حديث الأمر بإمساك نصال النبل من طريق ثانية وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن بريد عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مر أحدكم في مسجدنا أو في سوقنا ومعه نبل فليمسك على نصالها، أو قال: فليقبض كفه، أو قال: فليقبض بكفه أن تصيب أحداً من المسلمين)].
أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري، وهو بمعنى الحديث الأول إلا أن فيه زيادة الأسواق مع المساجد.
قوله: [(إذا مر أحدكم في مسجدنا)].
ليس المقصود مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة، وإنما المقصود مساجد المؤمنين التي فيها الاجتماع، فمسجدنا أو سوقنا يعني: الأماكن التي فيها اجتماع الناس، فيمسك بنصالها لئلا تصيب أحداً من الناس عن طريق الخطأ.
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو أسامة].
وهو: حماد بن أسامة البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بريد].
بريد بن عبد الله بن أبي بردة، وهو ثقة يخطئ قليلاً، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بردة].
أبو بردة هو جده؛ لأنه بريد بن عبد الله بن أبي بردة، وهو يروي عن جده أبي بردة، وهو أبو بردة بن أبي موسى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي موسى].
وهو عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث فيه رواية حفيد عن جد وابن عن أب، رواية حفيد عن جد وهو بريد يروي عن جده أبي بردة، وأبو بردة يروي عن أبيه أبي موسى.(306/12)
جواز إدخال السلاح المسجد
والنبل: هي السهام التي كانوا يرمون بها، وقد كانت هي السلاح عندهم.
والحديث فيه دليل على جواز إدخال السلاح المسجد، إذا لم يحصل منه مضرة في ذلك.(306/13)
ما جاء في النهي أن يتعاطى السيف مسلولاً(306/14)
شرح حديث (نهى أن يتعاطى السيف مسلولاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النهي أن يتعاطى السيف مسلولاً.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتعاطى السيف مسلولاً)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: باب في النهي أن يتعاطى السيف مسلولاً يعني: يعطي شخص الثاني، وذلك لأنه إذا كان مسلولاً لا يؤمن أن يحصل عن طريق الخطأ أن يجرح أحدهما أو يسقط على رجله ما دام أنه مسلول، ولكنه إذا كان مغمداً يؤمن من وراء أن يباشر حده الأجسام، فيتعاطى السيف مغمداً بحيث إنه لو مس بشره لا يؤثر فيه.
وقد أورد أبو داود حديث جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتعاطى السيف مسلولاً).
يعني: وإنما يتعاطى مغمداً؛ وذلك من أجل السلامة من حصول الضرر بسببه.(306/15)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى أن يتعاطى السيف مسلولاً)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
وهو ابن سلمة، ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي الزبير عن جابر].
أبو الزبير وجابر قد مر ذكرهما.
وهذا سند رباعي.(306/16)
الأسئلة(306/17)
حكم إلحاق السكين بالسيف في المناولة
السؤال
هل تقاس السكين بالسيف في ألا تناول إلا مغمدة؟
الجواب
السكين كما هو معلوم ليست مغمدة دائماً، ولكنه إذا طلبها منه أحد فيناوله المقبض ولا يناوله حدها، وإنما يمسك المقبض ويناوله، والسكين ليست ثقيلة مثل السيف فأمرها أخف من حيث الثقل، فإذا كان لها غمد فإنه يناسب أن تكون مغمدة، لاسيما إذا كانت من السكاكين التي يعتنى بها لحدتها، وكونها تغمد ويحافظ عليها، أما إذا كانت من السكاكين العادية البسيطة فيمكن للإنسان أن يناول الآخر، ولكنه لا يعطي الحد لصاحبه.(306/18)
ما جاء في النهي أن يقد السير بين إصبعين(306/19)
شرح حديث (نهى أن يقد السير بين إصبعين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النهي أن يقد السير بين إصبعين.
حدثنا محمد بن بشار حدثنا قريش بن أنس حدثنا أشعث عن الحسن عن سمرة بن جندب رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقد السير بين أصبعين)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب النهي أن يقد السير بين إصبعين.
والسير: هو القطعة التي تستخرج من الجلد، بحيث إنه يقد من الجلد سيور، فهذا في كيفية القد، أنه لا يكون القد بين إصبعين؛ لأنه قد تنزل السكين التي يقد بها على الأصابع أو على اليد فتجرحها بحدها، وهذا المقصود منه المحافظة على النفس، وعدم التساهل في استعمال السلاح بحيث إنه قد يؤدي إلى أن يجرح الإنسان نفسه، فيكون من جنس ما تقدم من الأحاديث، فإذا قده بين إصبعين فمعناه أنه قد يزل الحد إلى الإصبع، لكن إذا كان معه شخص يمسك ثم يقد فإنه ينتفي المحذور، وإذا كان وحده يمكن أنه يمسك طرفاً ويقد، أما كونه يقد بين إصبعين فإنه قد يعرض نفسه لجرح أصابعه بتلك السكين التي يقد بها.
والسير: هو القطعة الدقيقة التي تؤخذ من الجلود، بحيث يكون مثل الحبل يحزم به ويربط به.
وهو نفس السير الذي في النعال، كذلك هذه السيور كانت تتخذ فيما مضى في استخراج الماء؛ لأنهم يقدون الجلد حتى يصير سيراً، فيربطون به الغرب، فيكون مكوناً من رشا في أعلاه، وسير في أسفله من الجلد، فكل ذلك سواء كان للنعل أو لاستخراج الماء أو لرباط أربطة أو أي شيء؛ كل هذا يقال له سيور.(306/20)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى أن يقد السير بين إصبعين)
قوله: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا قريش بن أنس].
محمد بن بشار مر ذكره.
وقريش بن أنس صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا أشعث].
أشعث بن عبد الملك الحمراني، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن الحسن عن سمرة بن جندب].
الحسن بن أبي الحسن، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وسمرة بن جندب رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث من رواية الحسن عن سمرة، ورواية الحسن عن سمرة لم يثبت منها إلا حديث العقيقة، وأما غيره ففيه خلاف، فقيل: لا يصح إلا إذا جاءت له شواهد ومتابعات، والألباني ضعفه؛ لأنه ما جاء إلا من هذه الطريق وليس له شواهد.
والذي مر معنا من النهي أن يقد السير، والنهي أن يتعاطى السيف مسلولاً، والنهي إذا مر الإنسان بالنبل وهو غير قابض على نصولها الأصل فيها التحريم، ومعلوم أن سد الذرائع من قواعد الشريعة، وهذا كله من سد الذرائع.(306/21)
ما جاء في لبس الدروع(306/22)
شرح حديث (أن رسول الله ظاهر يوم أحد بين درعين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في لبس الدروع.
حدثنا مسدد حدثنا سفيان قال: حسبت أني سمعت يزيد بن خصيفة يذكر عن السائب بن يزيد رضي الله عنه عن رجل قد سماه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر يوم أحد بين درعين، أو لبس درعين)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في لبس الدروع.
والدروع: هي التي تتقى بها السهام، بحيث إذا جاء السهم لا يضرب في الجلد وفي الجسم بل يضرب في الدرع الذي يعتبر وقاية للجسم، فلبس الدروع سائغ، وقد جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك لبس المغفر على الرأس ليقيه السهام والسيوف، فالدروع تلبس على الأجسام أو على الصدور من أجل أن تمنع السهام أن تنفذ إلى الأجسام.
أورد أبو داود حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد سماه السائب، والسائب صحابي صغير.
قوله: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر)].
يعني: لبس اثنين، من المظاهرة والتظاهر: وهو التعاون والتساعد، ومعناه: أن هذا صار مع هذا، فصارا شيئين اثنين، فصار الثاني يقوي الأول، فهو إما أنه ظاهر بمعنى: أنه لبسهما وجعل واحداً مساعداً للثاني وإما أنه لبسهما بحيث جعل أحدهما فوق الثاني.(306/23)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله ظاهر يوم أحد بين درعين)
قوله: [حدثنا مسدد عن سفيان].
سفيان هو: ابن عيينة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: حسبت أني سمعت يزيد بن خصيفة].
وهذا فيه شك في السماع، ويزيد بن خصيفة، ثقة، أخرج له صحاب الكتب الستة، وهو يزيد بن عبد الله بن خصيفة فهو منسوب إلى جده.
[عن السائب بن يزيد].
السائب بن يزيد، وهو صحابي صغير، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رجل قد سماه].
وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بلا شك؛ لأن الصحابة يروون عن الصحابة.(306/24)
أهمية التوكل وبذل الأسباب
وفي هذا الحديث اتخاذ الرسول صلى الله عليه وسلم الدروع، ولبسه إياها دليل على أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين، وقد لبس الدروع وأخذ بالأسباب، كما أنه لبس المغفر على رأسه عام الفتح، فدخل مكة وعلى رأسه المغفر، فهو عليه الصلاة والسلام سيد المتوكلين، وقد أخذ بالأسباب، فالأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، وإنما الذي ينافي التوكل أن يعتمد الإنسان على الأسباب ويغفل عن مسبب الأسباب، فهذا هو الذي يؤثر.
أما إذا أخذ بالأسباب واعتمد على الله، وعلم أن كل شيء بقضاء الله، فإن ذلك لا ينافي التوكل، والنبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى هذا كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير.
احرص على ما ينفعك واستعن بالله)، وهنا قوله: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله)، فيه الإرشاد إلى الأمرين وهما: الأخذ بالأسباب، والتعويل على مسبب الأسباب، فإنه قوله: (احرص على ما ينفعك) أخذ بالأسباب المشروعة، ومع أخذه بالأسباب لا يعتمد على الأسباب ويغفل عن الله، بل عليه أن يسأل الله عز وجل ويستعين به، ويسأله أن يحقق له ما يريد.
فإذاً: الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سيد المتوكلين، وقد لبس الدروع ولبس المغفر صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(306/25)
ما جاء في الرايات والألوية(306/26)
شرح حديث (كانت الراية سوداء مربعة من نمرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرايات والألوية: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا ابن أبي زائدة أخبرنا أبو يعقوب الثقفي حدثني يونس بن عبيد مولى محمد بن القاسم قال: بعثني محمد بن القاسم إلى البراء بن عازب رضي الله عنهما (يسأله عن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانت؟ فقال: كانت سوداء مربعة من نمرة)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في الرايات والألوية.
يعني: في الجهاد ما لونها؟ والألوية: قيل: إن اللواء يكون أكبر من الراية والراية دونه، وقيل العكس.
والراية واللواء المقصود به الدلالة على القائد، ومعرفة المرجع الذي يرجع إليه الجيش، ومعرفة مكانه؛ لأنها تكون مرتفعة وعالية، وترى من بعد؛ فيعرف الناس من ارتفاعها المكان الذي يكون فيه المرجع الذي يرجع إليه الجيش، والقائد الذي يقود الجيش يكون عند هذا اللواء.
وقد أورد أبو داود حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: (إن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت سوداء مربعة من نمرة) والنمرة: هي الثياب المخططة التي فيها سواد وبياض، وقيل لها: سوداء لأنها ترى من بعيد، ففيها خطوط، لكنها ترى من بعيد سوداء، فذكر النمرة يدل على أنها ليست سوداء خالصة، ولكنها يغلب عليها السواد، وكذلك ترى من بعيد.
فهذا فيه دليل على أن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت سوداء، وقال هنا: إنها مربعة، ومعناه: أنها متساوية الأضلاع، يعني أن طولها وعرضها سواء، والألباني حسن الحديث بدون ذكر كونها مربعة.(306/27)
تراجم رجال إسناد حديث (كانت الراية سوداء مربعة من نمرة)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي].
إبراهيم بن موسى الرازي، ثقة حافظ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن أبي زائدة].
وهو: يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا أبو يعقوب الثقفي].
وهو: إسحاق بن إبراهيم، وثقه ابن حبان، وفيه ضعف، وحديثه أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثني يونس بن عبيد مولى محمد بن القاسم].
يونس بن عبيد، وهو مقبول أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن البراء بن عازب].
البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي الله تعالى عنه وعن أبيه، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث فيه مقبول وفيه من هو ضعيف، والألباني حسن الحديث وصححه بدون كونها مربعة، ولعل ذلك لشواهد.(306/28)
شرح حديث (كان لواؤه يوم دخل مكة أبيض) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم المروزي - وهو ابن راهويه - حدثنا يحيى بن آدم حدثنا شريك عن عمار الدهني عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان لواؤه يوم دخل مكة أبيض)].
أورد أبو داود حديث جابر: أن لواءه حين دخل مكة كان أبيض، وهذا يدل على أنه كان أبيض، والحديث الأول يدل على أنه كان أسود، وهذا يدل على تعدد الألوان في الألوية، وأنه أحياناً يكون كذا، وأحياناً يكون كذا.
قوله: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم المروزي وهو ابن راهويه].
إسحاق بن إبراهيم المروزي هو ابن راهويه، وهو ثقة، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وهو فقيه، وقد أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا يحيى بن آدم].
يحيى بن آدم الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شريك].
شريك بن عبد الله النخعي الكوفي، وهو صدوق يخطئ كثيراً، اختلط لما ولي القضاء، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمار الدهني].
عمار بن معاوية الدهني، وهو صدوق، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي الزبير].
أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر يرفعه].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (عن جابر يرفعه) يعني: أنه يضيفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إما أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.(306/29)
شرح حديث (رأيت راية رسول الله صفراء) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا سلم بن قتيبة - الشعيري - عن شعبة عن سماك عن رجل من قومه عن آخر منهم قال: (رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء)].
أورد أبو داود حديثاً آخر عن رجل من قوم سماك بن حرب يقول: (رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء) يعني: لونها أصفر، ولكن الحديث فيه هذا الرجل المبهم الذي هو شيخه الذي من قومه، وأما الصحابي الذي رأى الراية فالجهالة لا تؤثر؛ لأن المجهول من الصحابة في حكم المعلوم، ولكن الجهالة تؤثر في غيرهم، فهذا الذي هو شيخ سماك مبهم غير معروف، فالحديث بسببه ضعيف، وأما الرجل المبهم الذي رأى راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء فجهالته لا تؤثر؛ لأن الصحابة عدول والمجهول منهم في حكم المعلوم.
قوله: [حدثنا عقبة بن مكرم].
عقبة بن مكرم، ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا سلم بن قتيبة الشعيري].
وهو أبو قتيبة يعني: كنيته أبو قتيبة، وأبوه قتيبة، وهو ممن وافقت كنيته اسم أبيه، وهو يأتي أحياناً بكنيته فقط فيقال: أبو قتيبة، وأحياناً يأتي باسمه كما هو هنا سلم بن قتيبة الشعيري والشعيري نسبة إلى بيع الشعير.
وهو صدوق، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سماك].
سماك بن حرب، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن رجل من قومه عن آخر منهم].
وهذا هو الذي قلت: إنه سبب تضعيف الحديث، لأنه رجل مبهم لا يعرف.(306/30)
ما جاء في الانتصار برذل الخيل والضعفة(306/31)
شرح حديث (ابغوني الضعفاء فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الانتصار برذل الخيل والضعفة: حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني حدثنا الوليد حدثنا ابن جابر عن زيد بن أرطأة الفزاري عن جبير بن نفير الحضرمي أنه سمع أبا الدرداء رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ابغوني الضعفاء، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم).
قال أبو داود: زيد بن أرطأة أخو عدي بن أرطأة].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب الانتصار برذل الخيل والضعفة.
يعني: طلب النصر أو تحصيل الانتصار لوجود ضعفة عندهم صدق وإخلاص وعبادة، يدعون الله عز وجل فيستجيب لهم.
وقد أورد أبو داود حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابغوني الضعفاء، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم).
وقد جاء في سنن النسائي: (بدعائهم وصدقهم وصلاتهم وإخلاصهم) يعني: لأن عندهم العبادة والإخلاص، وليس عندهم انشغال بالدنيا ومتاعها ولذاتها، وإنما هم مقبلون على العبادة، فيكون دعاؤهم مظنة الإجابة.
فمعنى هذا: أنه إذا وجد في الجيش من يكون كذلك ومن يكون قلبه خالياً من التعلق بالدنيا، ومشتغلاً بالعبادة والدعاء فإن ذلك من أسباب النصر على الأعداء؛ لكونهم يدعون الله عز وجل، وقلوبهم صافية، وهم مخلصون لله عز وجل، وليس عندهم الانشغال بالدنيا ومتاعها ولذاتها.
قوله: [(ابغوني)].
أي: اطلبوا لي، ومعناه: أنه يريد مثل هذا النوع وهذا الجنس من الناس الذين يكون عندهم عبادة وإخلاص، وليس عندهم انشغال بالدنيا وافتتان بها.
قوله: [(فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)].
يعني: بوجودهم معكم، وكونهم يسألون الله عز وجل والله تعالى يجيب دعاءهم.
فوجود الفقير والضعيف الذي يعان ويساعد من أسباب كثرة الرزق، وكذلك أيضاً كون الضعيف يدعو فيستجيب الله له مثلما جاء في الحديث: (رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره).
أما رذل الخيل فلم يأت في الحديث شيء يدل عليها، ولكن لعل ذلك لكون الضعفاء يكون عندهم شيء ضعيف على قدر حالهم وطاقتهم، وأنه لا يستهان بالضعفاء ولا بمركوباتهم، والمقصود من ذلك هو الضعفاء أنفسهم، والرذل هي تابعة لهم، وهذا على قدر طاقتهم وقدر ما يستطيعون.(306/32)
تراجم رجال إسناد حديث (ابغوني الضعفاء، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)
قوله: [حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني].
مؤمل بن الفضل الحراني، صدوق أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن الوليد].
الوليد بن مسلم الدمشقي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن جابر].
وهو: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن أرطأة الفزاري].
زيد بن أرطأة الفزاري، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن جبير بن نفير الحضرمي].
جبير بن نفير الحضرمي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[أنه سمع أبا الدرداء].
أبو الدرداء وهو: عويمر رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: زيد بن أرطأة أخو علي بن أرطأة].
هذا تعريف بهذا الشخص، وأنه أخ لهذا الشخص.(306/33)
ما جاء في الرجل ينادي بالشعار(306/34)
شرح حديث (كان شعار المهاجرين عبد الله وشعار الأنصار عبد الرحمن)
قال المصنف رحمه الله تعالى [باب في الرجل ينادي بالشعار.
حدثنا سعيد بن منصور حدثنا يزيد بن هارون عن الحجاج عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (كان شعار المهاجرين عبد الله، وشعار الأنصار عبد الرحمن)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في الرجل ينادي بالشعار.
يعني: أنه يتكلم بالشعار أو ينادي غيره بهذا الشعار، ففي هذا الحديث الذي أورده أبو داود من حديث سمرة أن شعار المهاجرين عبد الله، أي ينادى أحدهم ويقول: يا عبد الله! وشعار الأنصار يا عبد الرحمن! فهذه علامة اتفقوا واصطلحوا عليها بأن يكون شيء تواطئوا عليه بحيث إنه إذا نودي بكذا يعرف أن المراد هذا الصنف من الناس، وإذا نودي بكذا فالمراد به هذا الصنف من الناس، لكن الحديث ضعيف لأنه من رواية الحسن عن سمرة، وفيه أيضاً الحجاج بن أرطأة.(306/35)
تراجم رجال إسناد حديث (كان شعار المهاجرين عبد الله وشعار الأنصار عبد الرحمن)
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يزيد بن هارون].
يزيد بن هارون الواسطي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحجاج].
الحجاج بن أرطأة، وهو صدوق كثير الخطأ والتدليس، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ثقة، أخرج له صحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
الحسن بن أبي الحسن البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سمرة بن جندب].
رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(306/36)
شرح حديث (غزونا مع أبي بكر زمن النبي فكان شعارنا أمت أمت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد عن ابن المبارك عن عكرمة بن عمار عن إياس بن سلمة عن أبيه رضي الله عنه قال: (غزونا مع أبي بكر رضي الله عنه زمن النبي صلى الله عليه وسلم فكان شعارنا أمت أمت)].
أورد أبو داود حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (غزونا مع أبي بكر رضي الله عنه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان شعارنا أمت أمت) يعني: هذه كلمة اتفقوا عليها بحيث إن الواحد يذكرها ليعرف أنه من القوم، أي: حتى لو دخل فيهم أحد أو جاء وهو لا يعرف هذه العلامة فسئل عنها فلم يعرفها معناه أنه دخل فيهم وهو ليس منهم، وأما هم فقد تواطئوا واتفقوا على هذه العلامة وهي: أمت أمت.
وهذه الكلمة قيل: إن المقصود بها أنها دعاء، وهي أن الله تعالى يميت الكفار أو يميت العدو الذي يقاتلونه، ولكنها هي المقصود بها لفظة تواطئوا عليها، بحيث إذا كانوا في ظلام وكانوا في اختلاط فقد يدخل فيهم من ليس منهم، فإنه يعرف أنه منهم بذكره هذه العلامة، حتى لو جاء أحد أو كان واحداً منهم قد ذهب ليقضي حاجته أو ما إلى ذلك ثم جاء وظن أنه من العدو، فإذا ذكر هذه العلامة التي تواطئوا عليها عرف أنه منهم فلا يحلقه أذى منهم.(306/37)
تراجم رجال إسناد حديث (غزونا مع أبي بكر زمن النبي فكان شعارنا أمت أمت)
قوله: [حدثنا هناد].
هناد بن السري أبو السري، ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن المبارك].
عبد الله بن المبارك المروزي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة بن عمار].
عكرمة بن عمار، وهو صدوق يغلط، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن إياس بن سلمة].
إياس بن سلمة بن الأكوع، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(306/38)
شرح حديث (إن بيتم فليكن شعاركم حم لا ينصرون)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق عن المهلب بن أبي صفرة قال أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بيتم فليكن شعاركم حم لا ينصرون)].
أورد أبو داود حديث المهلب بن أبي صفرة قال: أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بيتم)، يعني: بيتكم العدو وأتاكم على غرة.
(فليكن شعاركم حم لا ينصرون) يعني: أن هذا هو شعار يكون بينهم يتعارفون به، ويعرف بعضهم بعضاً به بأن يقول: حم لا ينصرون، وقيل: إن اختيار (حم) التي هي من الحروف المقطعة في أوائل السور لتكون علامة لهم يتواطئون عليها، وكذلك أيضاً كلمة (لا ينصرون) أي: لا ينصر الكفار عليهم، أي: هؤلاء الذين هاجموهم أو بيتوهم، فهذا شعار يكون بينهم يعرف به بعضهم بعضاً.(306/39)
تراجم رجال إسناد حديث (إن بيتم فليكن شعاركم حم لا ينصرون)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثقة، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق].
وهو: عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المهلب بن أبي صفرة].
المهلب بن أبي صفرة، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
قوله: (أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم).
يعني: أنه صحابي، والصحابة كلهم عدول المجهول فيهم في حكم المعلوم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.(306/40)
الأسئلة(306/41)
حكم القد بين أصبعين
السؤال
حديث النهي عن قد السير بين أصبعين يفيد العموم، ولا تسلم النساء من قد كثير من الأشياء.
فهل النهي عن هذا القد نهي تحريم أم إرشاد؟
الجواب
على الإنسان أن يحذر من أن يعرض نفسه للخطر، فيقضي حاجاته بعمل كل ما يريد في مصلحته من قد وقص، لكن على وجه يأمن معه حصول أثره عليه.
ثم الحديث ضعيف كما عرفنا، فهو غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن كون الإنسان يكون على حذر من أن يتأذى بآلة حادة يستعملها هو أو يناوله آخر، فهذا أمر مطلوب.(306/42)
علة التحريم في كون الجعل يبذل من كل المتسابقين
السؤال
لماذا كان الجعل من المتسابقين لم يجز، ولما كان من أحدهما أو من واحد خارج منهما يجوز؟
الجواب
لأنه إذا كان منهما يصير قماراً، فكل واحد يريد أن يحصل من الثاني شيئاً، وأما إذا كان الجعل من واحد منهما فمعناه أنه ما كانت المنافسة الموجودة على المال، وإنما هي على العمل الطيب الذي هو المسابقة، والذي فيه مصلحة وتقوية للمسلمين.
وكذلك إذا كان الجعل من غير المتسابقين فما فيه المحذور الذي يكون بينهم، وهو كون كل واحد منهما يريد أن يكون رابحاً على حساب صاحبه.(306/43)
حكم زواج الأب والابن بأختين شقيقتين
السؤال
تزوجت أنا وابني بأختين شقيقتين، وما زلنا على هذا الزواج، فهل يجوز هذا في الشريعة؟
الجواب
لا بأس بذلك، والمنهي عنه هو كون الرجل يجمع بين أختين، وأما كون الأب يتزوج واحدة والولد يتزوج أختها فلا بأس بذلك، ويجوز أن تكون الكبيرة للكبير والصغيرة للصغير والعكس أيضاً.(306/44)
حكم الدعاء بقول (اللهم لا تبتلنا فتفضحنا)
السؤال
ما حكم هذا الدعاء (اللهم لا تبتلنا فتفضحنا)؟
الجواب
الإنسان يحرص على الأدعية الشرعية التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسأل الله عز وجل بأدعية الرسول عليه الصلاة والسلام، والشيء الذي فيه إشكال أو فيه شبهة يبتعد عنه، والإنسان إذا حرص على أن يأتي بشيء من عنده أو من عند الناس لا يأمن من العثور، ولا يأمن من أن يقع في أمر لا ينبغي، ولكن الشيء الذي فيه العصمة هو كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم.(306/45)
حكم صلاة سنة الظهر أربعاً بتسليمة واحدة
السؤال
هل ورد في سنة الظهر القبلية أنها تصلى أربع ركعات متواصلة؟
الجواب
أذكر أنه ورد شيء من هذا؛ لكن لا أدري هل هي سنة الظهر أو العصر أو هما معاً؟! ولكن الغالب والذي ينبغي والأفضل أن تكون كل ركعتين على حدة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى).(306/46)
معنى قول النبي (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)
السؤال
ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) هل المقصود الصلاة في الجماعة أو المقصود فوات الصلاة حتى يخرج الوقت؟
الجواب
الذي يبدو أنها ليست الجماعة، وإنما المقصود منه الصلاة نفسها، يعني: كون الإنسان يتركها أو يؤخرها حتى يخرج وقتها، فهذا هو المقصود، وأما الجماعة فلا شك أنها واجبة، ولكن عدم حضورها لا يبطل العمل، وإنما يفوت أجراً كبيراً، وهو حصول المضاعفة التي جاءت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(306/47)
شرح سنن أبي داود [307]
من الآداب التي علمنا النبي صلى الله عليه وسلم إياها في السفر: دعاء ركوب الدابة، وعند السفر وعند الوداع، وألا يسافر الشخص أول الليل حتى تذهب فحمة العشاء، وألا يسافر لوحده، وأن يبكر في سفره.(307/1)
ما يقول الرجل إذا سافر(307/2)
شرح حديث (كان رسول الله إذا سافر قال اللهم أنت الصاحب في السفر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يقول الرجل إذا سافر.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى حدثنا محمد بن عجلان قال: حدثني سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر قال: اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال، اللهم اطو لنا الأرض، وهون علينا السفر)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب ما يقول الرجل إذا سافر.
أي: الدعاء الذي يدعو به المسافر عند سفره، وقد أورد أبو داود رحمه الله في كتاب الجهاد جملة من الأحاديث تتعلق بآداب السفر، وذلك لأن الجهاد يكون غالباً عن طريق السفر، لأنهم يخرجون من بلادهم يقاتلون في سبيل الله، وليسوا باقين في بيوتهم إن جاءهم العدو دفعوه، بل يعقدون الألوية ويذهبون للجهاد في سبيل الله ودعوة الناس إلى أن يدخلوا في دين الله، ويغزون الكفار في بلادهم.
فالجهاد يحصل عن طريق السفر، كما أن السفر يكون في غيره، ولكنه من أجل أن الجهاد يكون فيه السفر أورد هذه الآداب في كتاب الجهاد؛ لأن سفر الجهاد أفضل الأسفار، وهو خير الأسفار؛ لأنه سفر لإعلاء كلمة الله، وانتصار المسلمين على غيرهم من الكفار، فمن أجل هذا أورد أبو داود رحمه الله جملة من آداب السفر -سواء للجهاد أو غير الجهاد- في كتاب الجهاد.
ثم أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر قال: (اللهم أنت الصاحب في السفر) يعني: الصاحب الذي يكون معهم فيحفظهم ويكلؤهم ويرعاهم، ويحوطهم بحفظه ورعايته سبحانه وتعالى، (والخليفة في الأهل) يعني: يكون معه في سفره يرعاه ويحفظه ويخلفه في أهله في حفظهم ورعايتهم، وتحصيل ما يفيدهم، وتحقيق ما يريدون، فهو سبحانه وتعالى المصاحب للمسافر في سفره، وهو الخليفة له في أهله، يعني: فهو يسأل الله عز وجل أن يكون معه في سفره بالتوفيق والتسديد، والحفظ والرعاية، وأن يكون لأهله حافظاً وراعياً وموفقاً ومسدداً، فيسأل له ولغيره في سفره، ولمن وراءه من أهله.
قوله: [(اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر)].
وعثاء السفر: شدته وتعبه، وما يحصل فيه من المصائب والبلاء والمشقة والعناء.
قوله: [(وكآبة المنقلب)].
بأن ينقلب من سفره وقد حصل له بلاء أو مصائب أو أضرار أو كونه أراد المهمة التي سافر من أجلها فلم يحصل على ما يريد فرجع بدون طائل.
وكذلك أيضاً فيما يتعلق بأهله أن يرجع إليهم وقد حصل لهم بلاء أو أضرار، أو فقد أحداً منهم، فيكون كئيباً حزيناً مكتئباً للأمر الذي حصل له، أو الأمر الذي حصل لأهله، فإذا رجع يرجع وقد أصيب بشيء من هذه المصائب، أو لما فاته من الخير الذي أراده.
قوله: [(وسوء المنظر في الأهل والمال)].
يعني: كونه تكون مصائب في الأهل ومصائب في المال، فيكون المنظر سيئاً بأن يحصل للمال احتراق أو أي مصيبة تصيبه وتحصل له، بحيث يرجع صاحبه فيراه على وجه يسوءه، وكذلك أيضاً بالنسبة لأهله كونه يرى فيهم شيئاً يسوءه سواء في أخلاقهم أو خلقهم.
قوله: [(اللهم اطو لنا الأرض وهون علينا السفر)].
يعني: كون الأرض تطوى لهم بمعنى أنهم يقطعونها بسهولة ويسر، وكذلك يهون عليهم السفر فيكون سهلاً ليس فيه عناء ولا نصب، ولا يصيبهم بلاء ولا تعب.(307/3)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله إذا سافر قال اللهم أنت الصاحب في السفر)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد القطان البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن عجلان].
محمد بن عجلان المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني سعيد المقبري].
سعيد بن أبي سعيد المقبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(307/4)
شرح حديث (أن رسول الله كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبر ثلاثاً…)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أن علياً الأزدي أخبره أن ابن عمر رضي الله عنهما علمه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبر ثلاثاً، ثم قال: ((سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14] اللهم إني أسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا، اللهم اطو لنا البعد، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل والمال، وإذا رجع قالهن وزاد فيهن: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وجيوشه إذا علوا الثنايا كبروا، وإذا هبطوا سبحوا، فوضعت الصلاة على ذلك)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه دعاء السفر، أنه كان إذا ركب على دابته يكبر ثلاثاً يقول: الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر، {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14].
((سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا)) أي: المركوب {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}، وهذا نص الآية التي في القرآن، يقول تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13]، فجاء هذا الثناء على الله عز وجل بهذه الإشارة التي تصلح لكل مركوب، يعني: سواء يكون في البر أو البحر أو الجو كل ذلك يقال فيه: ((سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا)).
وجاء فيه بالإشارة دون أن يحدد الشيء الذي يركب ويبين عينه ونوعه، فصار الدعاء صالحاً لكل مركوب، بحيث الإنسان إذا ركب سيارة، أو ركب طيارة، أو ركب بعيراً، أو ركب حماراً، أو ركب حصاناً، أو ركب سفينة، كل ذلك يأتي بهذه الصيغة: ((سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ)) يعني: ثناء على الله عز وجل، وتقديس له لأنه الذي سخر للناس هذا المركوب الذي يركبونه.
أما الدواب والبهائم فقد ذللها الله فصارت مسخرة، ولو عتت لما استفاد الناس منها مع كبر حجمها وقوتها.
قال تعالى: ((سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ)) يعني: ما كنا له مطيقين لولا تسخير الله عز وجل وتسهيله وتيسيره، ولو نفرت أو صالت لما استفاد الناس منها، بل يتضررون منها، ولكن بتسخير الله عز وجل وتسهليه وتيسيره حصلت الاستفادة منها على الوجه الأكمل، وكان الناس يقطعون بها الفيافي، ويبلغون فيها أماكن لا يبلغونها إلا بشق الأنفس.
قوله: [(اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى)].
البر والتقوى: كلمتان إذا جمع بينهما في الذكر فرق بينهما في المعنى، وإذا انفردت إحداهما عن الأخرى شملت المعنى الذي تفرق عند الاجتماع، فالبر عند إطلاقه يشمل كل الأوامر والنواهي، والتقوى إذا انفردت تشمل كل الأوامر والنواهي، ولكن إذا جمع بينهما فسر البر بامتثال الأوامر، وفسرت التقوى باجتناب النواهي، فهما من جنس الفقير والمسكين، والإسلام والإيمان، فهذه ألفاظ إذا جمع بينها في الذكر وزع المعنى عليها، وإذا فرق بينها في الذكر بأن جاء أحدها ليس معه الآخر فإنه يستوعب المعاني التي وزعت عند الاجتماع.
قوله: [(اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى)].
يعني: وفقنا فيه للأعمال الصالحة التي ترضاها لنا وتقبلها منا.
قوله: [(اللهم هون علينا سفرنا هذا)].
يعني: اجعله هيناً سهلاً لا يصيبنا فيه نصب ولا تعب، ولا مشقة.
قوله: [(اللهم اطو لنا البعد)].
يعني: المسافة الطويلة اجعلنا نقطعها بسهولة ويسر، بدون أن نشعر بعناء ومشقة.
وقد مر بنا الحديث: (عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى)، معناه أن السير في الليل فيه نشاط وقوة، ولا يوجد عناء ومشقة مثلما يكون في النهار من الحر وشدة الشمس، فيكون هناك نشاط، فيقطع الناس المسافة وهم مرتاحون لم يشعروا بنصب ومشقة، أما إذا كانوا في مشقة فإنهم يجدون أنهم يمشون والأرض أمامهم طويلة ما حصل لهم ارتياح في السير.
قوله: [(اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل والمال)].
هذا مر ذكره في الحديث السابق.
قوله: [(وإذا رجع قالهن، وزاد فيهن:)].
أي: أن المكان الذي انتهى إليه وقصده انتهى شغله فيه وأراد أن يرجع إلى أهله، فإنه يقول هذا الدعاء، ويزيد: (آيبون) من الإياب والرجوع (تائبون عابدون لربنا حامدون) وهذا في حال الرجوع والانصراف من السفر، فيأتي بالدعاء المتقدم الذي يكون عند ابتداء السفر، ويضيف إليه هذا الذكر الذي هو (آيبون إلى آخره).
قوله: [(وكان النبي صلى الله عليه وسلم وجيوشه إذا علوا الثنايا كبروا)].
يعني: عند الصعود يكبرون، وعند النزول يسبحون تعظيماً لله عز وجل، والثناء عليه بالمحامد التي هو أهل لها، والتسبيح: هو تنزيه وتقديس لله عز وجل عن كل ما لا يليق به سبحانه وتعالى.
(فوضعت الصلاة على ذلك) يعني: فيها تكبير وتسبيح.
والتكبير في العلو، والتسبيح في الهبوط خاص بالسفر.(307/5)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبر ثلاثاً)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن جريج].
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: أخبرني أبو الزبير].
أبو الزبير مر ذكره.
[أن علياً الأزدي أخبره].
علي بن علي الأزدي، وهو صدوق ربما أخطأ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن عمر].
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(307/6)
ما جاء في الدعاء عند الوداع(307/7)
شرح حديث (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الدعاء عند الوداع.
حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود عن عبد العزيز بن عمر عن إسماعيل بن جرير عن قزعة قال: قال لي ابن عمر رضي الله عنهما: (هلم أودعك كما ودعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: أستودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في الدعاء عند الوداع، أي توديع المسافر عندما يريد أن يسافر، فيودعه أهله أو يودعه أحد من الناس، فإنه يدعو بهذا الدعاء: (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك).
قوله: (أستودع)، يعني: أن هذه وديعة عند الله، فيكون حافظاً له أو كالئاً له بحيث يكون محفوظاً فيها.
قوله: (دينك) بدأ بالدين لأنه أهم شيء وهو الأساس، وكل خير وسعادة تحصل للإنسان إنما تكون بسبب الدين، وبدون الدين يكون لا خير فيه، وذكر الدين هنا قيل: للإشارة إلى أنه قد خسر أو حصل منه بسبب العناء والنصب تقصير في بعض الأعمال، أو تقصير في العبادات؛ فيكون ذلك فيه سؤال لأن يحفظ في دينه بألا يحصل منه تقصير، ولا يحصل منه إخلال في الشيء الذي هو واجب عليه بسبب سفره، والنصب والتعب الذي قد يحصل له بسببه.
قوله: [(وأمانتك)].
يعني: كل ما هو مؤتمن عليه سواء كان لله أو للناس، سواء كان من حقوق الله عليه أو من حقوق الناس عليه أو الأمانات التي هي عنده للناس، فكل ذلك داخل تحت الأمانة.
قوله: [(وخواتم عملك)] يعني: كونه يختم له بخير، وأن تكون أعماله مختومة بخير.(307/8)
تراجم رجال إسناد حديث (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد مر ذكره.
[حدثنا عبد الله بن داود].
عبد الله بن داود الخريبي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن عبد العزيز بن عمر].
عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وهو صدوق يخطئ أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسماعيل بن جرير].
إسماعيل بن جرير وقيل: إنه يحيى بن إسماعيل بن جرير وقيل: إن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز اضطرب فيه، فأحياناً يرويه عن قزعة مباشرة وبدون واسطة، وأحياناً يرويه عن إسماعيل بن جرير، وأحياناً يرويه عن يحيى بن إسماعيل بن جرير ويحيى بن إسماعيل بن جرير لين الحديث، يعني: فهو ضعيف دون المقبول، والمقبول يحتاج إلى متابعة فإذا توبع يتقوى، وأما هذا اللين فإنه ضعيف، ولكن الحديث له شواهد منها: حديث عبد الله بن يزيد الخطمي الذي بعده، وكذلك أحاديث أخرى تشهد له وتدل على ما دل عليه.
ويحيى بن إسماعيل بن جرير لين الحديث، أخرج له النسائي في عمل اليوم والليلة.
وإذا كان الراوي هو إسماعيل بن جرير فقد أخرج له أبو داود.
[عن قزعة].
قزعة بن يحيى، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
ابن عمر قد مر ذكره.(307/9)
شرح حديث (كان النبي إذا أراد أن يستودع الجيش قال أستودع الله دينكم) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني حدثنا حماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي عن محمد بن كعب عن عبد الله الخطمي رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يستودع الجيش قال: أستودع الله دينكم، وأمانتكم، وخواتيم أعمالكم)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن يزيد الخطمي رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يودع الجيش قال: أستودع الله دينكم، وأمانتكم، وخواتيم أعمالكم)، وهو شاهد للحديث الذي قبله الذي فيه ذلك الرجل لين الحديث.
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي مر ذكره.
[حدثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني].
يحيى بن إسحاق السيلحيني، وهو صدوق، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا حماد بن سلمة].
حماد بن سلمة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي جعفر الخطمي].
وهو عمير بن يزيد، صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[عن محمد بن كعب].
محمد بن كعب القرظي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله الخطمي].
عبد الله بن يزيد الخطمي، وهو صحابي صغير، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(307/10)
ما يقول الرجل إذا ركب(307/11)
شرح حديث علي في الدعاء عند ركوب الدابة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يقول الرجل إذا ركب.
حدثنا مسدد حدثنا أبو الأحوص حدثنا أبو إسحاق الهمداني عن علي بن ربيعة قال: (شهدت علياً رضي الله عنه وأتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: باسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله، ثم قال: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14] ثم قال: الحمد لله ثلاث مرات، ثم قال: الله أكبر ثلاث مرات، ثم قال: سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، فقيل: يا أمير المؤمنين! من أي شيء ضحكت؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت ثم ضحك، فقلت: يا رسول الله! من أي شيء ضحكت؟ قال: إن ربك يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب ما يقول الرجل إذا ركب، أي: إذا ركب الدابة أو ركب المركوب، فإنه يسمي الله.
وقد أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه (أنه أتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب)، يعني: في الركاب الذي يوضع على البعير؛ لأن الذي يوضع على البعير يقال له: ركاب، والذي يوضع على الفرس يقال له: سرج.
فلما وضع رجله في الركاب قال: (باسم الله) فهذا أول شيء قاله، ثم قال: الحمد لله، ثم قال ((سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ)) ثم حمد الله ثلاثاً، ثم كبر الله ثلاثاً ثم قال: (سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك فقيل له: لم ضحكت؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت، ثم ضحك.
يعني: في هذا الذكر وهذا الدعاء.
ثم قال: (إن ربك يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري).
وهذا الدعاء مطلق يقال في الحضر والسفر.
قوله: [(إن ربك يعجب)].
هذا فيه صفة العجب، والله تعالى من صفاته أنه يعجب، وقد جاء ذلك في القرآن في إحدى القراءات: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12] فإن في إحدى القراءات المتواترة (بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ).(307/12)
تراجم رجال إسناد حديث علي في الدعاء عند ركوب الدابة
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا أبو الأحوص].
مسدد مر ذكره.
وأبو الأحوص هو: سلام بن سليم الحنفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو إسحاق الهمداني عن علي بن ربيعة].
أبو إسحاق الهمداني مر ذكره.
وعلي بن ربيعة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي].
علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(307/13)
ما يقول الرجل إذا نزل المنزل(307/14)
شرح حديث (كان رسول الله إذا سافر فأقبل الليل قال يا أرض ربي وربك الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يقول الرجل إذا نزل المنزل.
حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا بقية قال: حدثني صفوان حدثني شريح بن عبيد عن الزبير بن الوليد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل قال: يا أرض! ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك، وشر ما خلق فيك، ومن شر ما يدب عليك، وأعوذ بالله من أسد وأسود، ومن الحية والعقرب، ومن ساكن البلد، ومن والد وما ولد)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي باب ما يقول الرجل إذا نزل المنزل.
يعني: إذا كان في سفر ونزل فإنه يقول: (يا أرض! ربي وربك الله).
قوله: [(أعوذ بالله من شرك)].
يعني: شر الأرض وما فيها.
قوله: [(وشر ما فيك وشر ما خلق فيك)].
يعني: ما جعل فيها من الشر، وما خلق فيها من الشرور.
قوله: [(ومن شر ما يدب عليك)].
يعني: الحيوانات التي تدب عليها كالهوام والحيات والعقارب والسباع، وكل شيء يدب عليها فيه شر فإنه يستعيذ بالله منه.
(وأعوذ بالله من أسد وأسود) الأسود المقصود به: الحية.
قوله: [(ومن الحية والعقرب)].
هذا بالنسبة للحية تكرار، وذكر العقرب مع ذلك، لأن كل ذلك مما يدب، لكنه تفصيل بعد إجمال.
قوله: [(ومن ساكن البلد)].
قيل: ما يكون فيها من إنس إذا وجدوا فيها، وإذا لم يكن فيها إنس فما يكون فيها من الجن الذين لا يراهم الناس، وهم يرون الناس، قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27].
قوله: [(ومن والد وما ولد)].
قيل: إن المقصود به إبليس وجنوده، يعني: إبليس ونسله الذين هم الجن، كما قال الله عز وجل: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف:50].
وقيل: من كل والد وما ولد أي: كل والد وما ولد مطلقاً والاستعاذة من الشر الذي يحصل منه.
والحديث ضعيف، فيه من هو متكلم فيه.(307/15)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله إذا سافر فأقبل الليل قال يا أرض ربي وربك الله)
قوله: [حدثنا عمرو بن عثمان].
عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي، وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا بقية].
بقية بن الوليد، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني صفوان].
صفوان بن عمرو، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني شريح بن عبيد].
شريح بن عبيد، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن الزبير بن الوليد].
الزبير بن الوليد، وهو مقبول أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن عبد الله بن عمر].
عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه، وقد مر ذكره.(307/16)
الأسئلة(307/17)
حكم امرأة تابت من الرقص والفن ولديها مال
السؤال
امرأة من إحدى الدول العربية كانت تعمل في الفن والتمثيل والرقص، ثم تابت من هذه المعصية، فهل يجوز لها أن تقوم بإنشاء محلات مطاعم وغيرها بهذه النقود التي اكتسبتها قبل أن تتوب، أم لا بد أن تتخلص من تلك النقود؟
الجواب
الذي يظهر أنها تتخلص من هذه النقود في إنفاقها في أمور ممتهنة؛ لأنه مال حرام يتخلص منه في طرق ممتهنة.(307/18)
شرح سنن أبي داود [308]
من آداب السفر ألا يبتدأ أول الليل، بل يبتدأ في البكور، ويوم الخميس أفضل من غيره، ولا يسافر المرء وحده أو مع شخص آخر فقط، بل أقل السفر ثلاثة، وليؤمروا أحدهم، ولا يسافر بالمصحف إلى حيث يخشى امتهانه.(308/1)
ما جاء في كراهية السير في أول الليل(308/2)
شرح حديث (لا ترسلوا فواشيكم إذا غابت الشمس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كراهية السير في أول الليل.
حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني حدثنا زهير حدثنا أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ترسلوا فواشيكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء، فإن الشياطين تعيث إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء) قال أبو داود: الفواشي: ما يفشو من كل شيء].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في كراهية السير في أول الليل.
يعني: عند غروب الشمس، والمقصود من ذلك كون الإنسان يبدأ بالسير عند غروب الشمس، وأما إذا كان السير من قبل الغروب وهو مواصل للسير فلا يلزمه أن ينزل، وإنما المقصود بالحديث أنه إذا غربت الشمس فلا ترسل الفواشي، وهو كل ما يفشو ويظهر من الدواب والبهائم.
كذلك الصبيان كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمقصود من هذا أن أبا داود رحمه الله أخذ من عمومه أن السير أيضاً يكون كذلك، وهذا فيما يبدو إذا كان نازلاً أو كان يمشي في ذلك الوقت أو يبدأ السير في ذلك الوقت، أما كون الإنسان مستمراً مواصلاً للسير فلا يلزمه أن ينزل، وإنما يواصل السير.
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ترسلوا فواشيكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء).
والفواشي قال أبو داود: هو كل ما يفشو ويظهر، يعني: ينتشر، ويدخل في ذلك الدواب.
قوله: [(حتى تذهب فحمة العشاء)].
والمراد بالفحمة: شدة الظلام، بحيث يظهر الليل ويشتد الظلام، فهذا هو المقصود بالوقت الذي يترك الانتشار فيه حتى مجيء ذلك الوقت، فإن الشياطين تعيث فساداً في ذلك الوقت، فإذا ذهب ذلك الوقت فلا بأس من الانتشار وإرسال الفواشي.
[قال أبو داود: الفواشي: ما يفشو من كل شيء].
يعني: ما يظهر وينتشر، فيدخل في ذلك الدواب والصبيان.
ولا تحدد هذه الفترة ما بين المغرب إلى العشاء، وإنما تحدد قبل ذلك.(308/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لا ترسلوا فواشيكم إذا غابت الشمس)
قوله: [حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني].
أحمد بن عبد الله بن أبي شعيب الحراني، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا زهير].
زهير بن معاوية، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو الزبير].
أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد من الأسانيد العالية عند أبي داود، فهو من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود.(308/4)
في أي يوم يستحب السفر(308/5)
شرح حديث (قلما كان رسول الله يخرج في سفر إلا يوم الخميس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في أي يوم يستحب السفر.
حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عبد الله بن المبارك عن يونس بن يزيد عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: (قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إلا يوم الخميس)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في أي يوم يستحب السفر.
يجوز السفر في جميع الأيام، ولكن الخميس جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يسافر فيه.
قوله: [(قلما كان رسول الله يخرج في سفر إلا في يوم الخميس)].
معناه: أن سفره في غير الخميس يكون قليلاً، وسفره في الخميس هو الكثير، والنبي صلى الله عليه وسلم في حجه لم يسافر يوم الخميس، قيل: إنه سافر يوم السبت.(308/6)
تراجم رجال إسناد حديث (قلما كان رسول الله يخرج في سفر إلا يوم الخميس)
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن المبارك].
عبد الله بن المبارك المروزي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يونس بن يزيد].
يونس بن يزيد الأيلي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
محمد بن مسلم بين عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك].
عبد الرحمن بن كعب بن مالك، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن كعب بن مالك].
كعب بن مالك رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك، وتاب الله عليهم، ونزلت فيهم الآية: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118] وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(308/7)
ما جاء في الابتكار في السفر(308/8)
شرح حديث (اللهم بارك لأمتي في بكورها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الابتكار في السفر.
حدثنا سعيد بن منصور حدثنا هشيم حدثنا يعلى بن عطاء حدثنا عمارة بن حديد عن صخر الغامدي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم بارك لأمتي في بكورها، وكان إذا بعث سرية أو جيشاً بعثهم من أول النهار) وكان صخر رجلاً تاجراً، وكان يبعث تجارته من أول النهار، فأثرى وكثر ماله.
قال أبو داود: وهو صخر بن وداعة].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في الابتكار في السفر.
يعني: الذهاب في البكور في أول النهار، وقد أورد أبو داود حديث صخر بن وداعة الغامدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم بارك لأمتي في بكورها، وكان إذا بعث سرية أو جيشاً بعثهم من أول النهار) وكان صخر تاجراً فكان يرسل تجارته في أول النهار فأثرى، يعني: صار ثرياً وكثر ماله؛ لأنه أخذ بهذا الحديث الذي هو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بالبركة في بكورها.(308/9)
تراجم رجال إسناد حديث (اللهم بارك لأمتي في بكورها)
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور، مر ذكره.
[حدثنا هشيم].
هشيم بن بشير الواسطي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يعلى بن عطاء].
يعلى بن عطاء، وهو ثقة أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عمارة بن حديد].
عمارة بن حديد، وهو مجهول، أخرج له أصحاب السنن.
[عن صخر الغامدي].
صخر الغامدي رضي الله عنه، وقد أخرج له أصحاب السنن.
والحديث فيه هذا الرجل المجهول، ولكنه جاء عن عدد من الصحابة، حيث ذكر في الجامع الصغير أنه جاء عن ثمانية من الصحابة منهم صخر هذا، فالحديث له شواهد عن عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجود هذا المجهول في هذا الإسناد لا يؤثر.(308/10)
ما جاء في الرجل يسافر وحده(308/11)
شرح حديث (الراكب شيطان والراكبان شيطانان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يسافر وحده.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن عبد الرحمن بن حرملة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في الرجل يسافر وحده.
يعني: أن ذلك مذموم، وأنه ورد فيه ما يدل على منعه وكراهته، وذلك لأن الواحد إذا سافر وحده قد تحصل له أمور كمرض أو هلاك فلا يكون معه من يغسله، ولا يكون معه من يحفظ متاعه، ومن يواسيه ويكلفه بحمل وصية، أو بإخباره بشيء يحتاج للإخبار؛ لأنه سافر وحده وليس معه أحد يمكن أن يقوم بهذه المهمة.
وكذلك قد أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الراكب شيطان والراكبان شيطان والثلاثة ركب).
(الراكب شيطان) يعني: أن فعله هذا مذموم، وأنه متصف بصفة الشياطين، وكذلك الراكبان لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والثلاثة ركب) معناه أن هذا أقل عدد يكون فيه السفر، وهذا فيه تنبيه على أن سفر الإنسان وحده أو سفر اثنين فقط مذموم، ولكن هذا يختلف باختلاف الأحوال، فقد يكون الإنسان مضطراً إلى سفر ولا يجد من يصحبه ولا يستطيع البقاء، ولكن كون الإنسان يحرص دائماً وأبداً على أن يكون معه رفقة حتى وإن كان في طرق سالكة، ففي هذا الزمان الطرق السالكة الآن فأصبحت لا يخشى المحذور الذي يتوقع فيما إذا كان الإنسان يسافر وحده، فيكون في فلاة فقد يتيه، وقد يحصل له ما يحصل، فالآن هذه السكك وهذه الطرق التي تمشي فيها السيارات ولا تخرج عنها في السير إذا حصل للإنسان شيء فإنه يوجد من يقوم بشئونه وما يحتاج إليه، ولكن مع هذا كله الأخذ بما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم حيث تمكن الإنسان من ذلك هو الذي ينبغي.
ثم إن الحديث يدل على أن أقل عدد معتبر شرعاً في السفر هو ثلاثة فأكثر، وهذا كما جاء في هذا الحديث، وإلا فإن الجمع يكون باثنين في الجماعة، ففي الصلاة الوارد اثنان أقل الجماعة إمام ومأموم يعني: ليس لازماً أن يكونوا ثلاثة، فالصلاة جماعة تحسب باثنين، وكذلك في الفرائض الجمع يكون باثنين، فأقل الإخوة اثنان وليس ثلاثة؛ لأن حصول العدد اثنين يكون معتبراً ويكون جمعاً، وفي النحو أقل الجمع ثلاثة؛ لأنه يوجد مفرد ومثنى وجمع، وفي السفر كما جاء في هذا الحديث أقل الجمع المعتبر الذي جاءت به السنة ثلاثة.
قوله: [(الراكب شيطان)].
يعني: فيه صفة الشيطان الذي لا يتقيد بدين، ولا يتقيد بشيء يلتزمه.(308/12)
تراجم رجال إسناد حديث (الراكب شيطان والراكبان شيطانان)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
عبد الله بن مسلمة القعنبي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن حرملة].
عبد الرحمن بن حرملة، وهو صدوق ربما أخطأ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب].
عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو صدوق أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو: شعيب بن محمد، وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وجزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن جده].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، الصحابي الجليل، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وهم عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(308/13)
ما جاء في القوم يسافرون يؤمرون أحدهم(308/14)
شرح حديث (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في القوم يسافرون يؤمرون أحدهم.
حدثنا علي بن بحر بن بري حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا محمد بن عجلان عن نافع عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وهي: باب في القوم يسافرون يؤمرون أحدهم.
يعني: يجعلون واحداً منهم أميراً عليهم، وهذه الإمارة المقصود منها الرجوع إليه عندما يريد الإنسان أن يذهب إلى جهة، أو يريد أن يتخلف، أو يريد أن يستأذن في شيء حتى يكون بعضهم على علم من بعض، فلا يذهب الواحد منهم حيث يشاء ولا يعرف عنه أصحابه شيئاً، وإنما يكون هناك مرجع لهم يرجعون إليه، بحيث يستشيرونه ويرجعون إليه في النزول إذا أرادوا أن ينزلوا، وإذا أرادوا أن يركبوا ويرتحلوا، وإذا كان الواحد منهم يريد أن يذهب في حاجة من الحاجات أو لغرض من الأغراض يستأذنه حتى يكون على علم، وحتى يعرف بعضهم عن البعض أموره وأحواله، فلا يكون كل واحد منهم أمير نفسه، أو يكونون رفقاء فلا يدري الاثنان إلا وقد ذهب الثالث، ولا يدرون إلى أين ذهب؟! فإذا كان هناك أمير يرجعون إليه يقول للأمير: أريد أن أفعل كذا وكذا أستأذنك في كذا وكذا فهذه هي الإمارة، وهذه هي مهمتها، فليست المهمة أن يجلد ويضرب، وأنه يسير والياً وحاكماً، وإنما مهمته أن يكون هؤلاء المسافرون يتشاورون ويرجع يعضهم إلى بعض، ويستأذن المأمور الأمير في ذهابه إذا أراد أن يذهب لحاجة، وكذلك إذا أراد أن يتقدم ويسبقهم بيوم أو يومين إلى أهله وما إلى ذلك.
فهذا هو المقصود بالإمارة، فالإمارة المقصود منها أن يعرفوا مرجعهم، لا أن هذه ولاية يترتب عليها أحكام كإقامة حدود وجلد وما إلى ذلك، فليس هذا من شأنهم، وليست هذه مهمتهم، وإنما مهمتهم ما يتعلق بأحوال السفر والارتحال والنزول.
وهذا أيضاً فيه تحديد بالثلاثة، وهذا مثل ما مر في الحديث السابق أن الثلاثة ركب، فهم الذين يؤمرون واحداً منهم، وأما الاثنان فهما شيطانان كما مر في الحديث، فليس ذلك هو المأذون به والمرخص فيه أن يسافر اثنان، بل يسافرون ثلاثة، والأمر في الحديث يدل على الاستحباب.(308/15)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)
قوله: [حدثنا علي بن بحر بن بري].
علي بن بحر بن بري، ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي.
[حدثنا حاتم بن إسماعيل].
حاتم بن إسماعيل، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن عجلان].
محمد بن عجلان المدني، صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سعد بن مالك بن سنان، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(308/16)
استنباط الخطابي من حديث الإمارة تحكيم الرجلين ثالثاً في قضية ما فينفذان حكمه
قال الخطابي: وفيه دليل على أن الرجلين إذا حكما رجلاً بينهما في قضيةٍ فقضى بالحق فقد نفذ حكمه.
وتوجيهه أنه عندما يكون الشخص أميراً على هذين الاثنين فإنهما يرجعان إليه ويستجيبان له فيما يأمرهما به فيما يتعلق بالسفر، فيكون مثل ذلك اثنان اختارا واحداً هو أهل للحكم والقضاء في مسألة اختصما إليه فيها، فإنه ينفذ حكمه إذا كان من أهل القضاء والاجتهاد، يعني: من جهة أن الاثنين يرجعان إلى الثالث الذي هو أميرهما، فهذا وجهه.(308/17)
إسناد حديث (إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا علي بن بحر حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا محمد بن عجلان عن نافع عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم) قال نافع: فقلنا لـ أبي سلمة: أنت أميرنا].
أورد أبو داود حديث نافع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة وقد روى لهم الحديث أبو سلمة، وهو مثل حديث أبي سعيد المتقدم، فقالوا لـ أبي سلمة: أنت أميرنا، يعني: أنت الذي حدثت بالحديث، ورويت هذه السنة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنت الأمير.
قوله: حدثنا علي بن بحر حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا محمد بن عجلان عن نافع عن أبي سلمة عن أبي هريرة].
كلهم مر ذكرهم في الإسناد السابق إلا أبو هريرة، فهو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق.(308/18)
متى يكون الشخص عاصياً إذا لم يطع الأمير؟
والأمير تجب طاعته، فإذا عصي فإن العاصي يأثم إذا كانت المعصية فيما يتعلق بمهمته وفي ولايته، أما كونه يستأذنه في أمر من الأمور فيرى نفسه مضطراً إلى ذلك والأمير لا يسمح، فالذي يبدو أنه لا يكون عاصياً، يعني: لو كان يحتاج إلى أمر من الأمور ولكن الأمير تمسك برأيه وهو مضطر إلى هذا، فيبدو أنه لا يكون عاصياً، بشرط أن يكون مضطراً وما قدرت ظروفه؛ ولكن في حال السعة على الإنسان أن يستجيب وإلا فما فائدة الإمارة؟! الإمارة تكون في حال السفر في الطريق وفي المكان الذي يقيمون فيه حتى يرجعوا، وإذا نزلوا في بلد وهم مع بعض فليستأذنوا الأمير إذا ذهب أحدهم في مهمة في البلد.(308/19)
ما جاء في المصحف يسافر به إلى أرض العدو(308/20)
شرح حديث (نهى رسول الله أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المصحف يسافر به إلى أرض العدو.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو) قال مالك: أراه مخافة أن يناله العدو].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في المصحف يسافر به إلى أرض العدو.
السفر بالمصحف إلى أرض العدو إذا كان يؤمن ألا يناله العدو، ولا يحصل له شيء من امتهانهم وما إلى ذلك لا بأس به؛ لأن التعليل هو الخوف من أن ينالوه بشيء لا يليق في حق القرآن، وأما إذا لم يكن هناك محذور، والإنسان يأخذه معه ليقرأ فيه، والمحذور مأمون فلا بأس بذلك، وإنما النهي إذا كان يغلب على الظن أنه تحصل إساءة للقرآن وامتهان له أو يناله العدو بسوء، فهذا هو الذي يمنع منه.
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو).
قال مالك: أراه مخافة أن يناله العدو.
أي: بسوء.
وهذا الذي قاله مالك قد جاء في بعض الروايات أنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعني: كونه خشية أن يناله العدو، فهذا التعليل ثابت، إذاً: فالحكم يدور مع علته، فإن وجدت هذه العلة فلا يسافر به، وإن لم توجد المخافة عليه فإنه لا بأس بالسفر به.
وهنا قال في الترجمة: المصحف، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (القرآن) كما في الحديث، وذلك أن المصحف إنما وجد في زمن عثمان رضي الله عنه؛ لأنه جمع القرآن وجعله في مصحف، فصاروا يعبرون عنه بالمصحف، وفي التراجم يأتون بلفظ المصحف، وإلا فالحديث جاء بالقرآن أنه لا يسافر به إلى أرض العدو؛ لأن المصحف إنما وجد في زمن عثمان، وقبل ذلك ما كان يوجد مصحف، وقبل زمن أبي بكر ما كان مجموعاً، ولكنه جمع مرتين، مرة في عهد أبي بكر في صحف، فجمع كل شيء يتعلق بالقرآن في عهده.
وفي زمن عثمان رضي الله عنه جمع الناس على مصحف واحد، وأحرق ما سوى ذلك حتى لا يختلفوا، وكان على حرف واحد وعلى لغة واحدة، ولم يكن على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، لأن القرآن أول ما نزل نزل على سبعة أحرف للتخفيف والتسهيل على الناس؛ لأن العرب كانوا متفرقين ومتنابذين، وكان كل لا يعرف لغة الآخر، ولما جاء الإسلام جمع بينهم، ووحد بينهم، واختلطوا وصار كل يعرف لغة الآخرين، فعند ذلك لم يكن هناك حاجة إلى الاستمرار، فرأى عثمان رضي الله عنه -والصحابة أقروه على ذلك- أن يجمع الناس على حرف واحد، وهذا الحرف الواحد الذي هو لغة واحدة يشمل القراءات.
الأحرف غير القراءات، فالأحرف لغات، والقراءات هي إما نقط أو شكل أو زيادة حرف مثل: يعملون وتعملون، ومثل عجبتَ وعجبتُ في قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12] يعني: في الشكل، وقد يكون بزيادة حرف مثل الكتاب والكتب كما في قول الله عز وجل: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم:12] قراءة حفص عن عاصم بالقراءة المشهورة التي بين أيدينا وهي: كتبه، وقراءة جمهور القراء: (كتابه) فصارت القراءتان موجودتين، ورسم المصحف بتحمل القراءات، ولهذا فرسم المصحف له هيئة خاصة لا يجوز أن تحول إلى الحروف الإملائية التي اعتادها الناس؛ لأن رسمه يستوعب القراءات، مثل (كتابه) رسمها لا تكون الألف فيه مرسومة بعد الباء، وإنما تكون التاء متصلة بالباء، وعند قراءة (كتابه) تكون الكاف مكسورة والتاء مفتوحة، وتوجد ألف قصيرة فوقها إشارة إلى المد، والباء مكسورة، وعلى قراءة (كتبه) تكون الكاف والتاء مضمومة، والباء مكسورة، والرسم يستوعب قراءته، لكن لو جاء لفظ (كتابه) بالألف فإنه لا يستوعب قراءة (كتبه) فجاء الرسم مستوعباً القراءات.
إذاً: الأحرف غير القراءات، وابن القيم رحمه الله له في كتاب: إعلام الواقعين كلام في مسألة سد الذرائع، أورد فيها تسعة وتسعين دليلاً من أدلة سد الذرائع ختمها بالدليل التاسع والتسعين، وهو جمع عثمان رضي الله عنه القرآن على حرف واحد، سداً لذريعة الاختلاف بين الناس.
فإذاً: كلمة المصحف تأتي في التراجم والأبواب، لأن هذا هو الأمر الذي استقر عليه، مثلما جاء في حديث (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) فهذا هو الحديث الثابت الذي في الصحيحين وفي غيرهما، ولا يوجد (ما بين قبري ومنبري)، ولكن في التراجم لما صار الواقع خلاف ما في الحديث، فهدم بيت النبي صلى الله عليه وسلم ووسع المسجد ترجم العلماء على ذلك، ولهذا ترجم الإمام البخاري ترجمة فقال: فضل ما بين القبر والمنبر وأتى بحديث: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة).
فإذاً: كان المؤلفون يذكرون الشيء بعدما وجد، وأما قبل أن يوجد فإنه لا يعرف، وإنما يؤتي بلفظ القرآن كما في الحديث بلفظ البيت، فنهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، ولم يقل المصحف؛ لأن المصحف ما وجد إلا متأخراً، وكذلك أيضاً قوله: (ما بين بيتي ومنبري) فهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن جاءت الترجمة بلفظ: باب فضل ما بين القبر والمنبر.
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر].
وقد مر ذكرهم جميعاً إلا ابن عمر وهو: عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(308/21)
الأسئلة(308/22)
رواية لفظ المصحف قبل أن يجمع
السؤال
الشيخ الألباني رحمه الله صحح حديثاً في المجلد الخامس من السلسلة الصحيحة بلفظ: (من سره أن ينظر الله إليه فليقرأ في المصحف) فجاء لفظ المصحف قبل أن يجمع؟
الجواب
الذي يبدو والله أعلم أن الرواية رواها الراوي بالمعنى، أو أن المقصود به الشيء المكتوب الذي في أيدي الناس، وإلا فإن المصحف الذي استقر عليه الأمر بعدما جمعه عثمان إنما وجد في زمن عثمان، فيمكن أن تكون الرواية رويت بالمعنى، أو أن المقصود منه الصحيفة التي فيها القرآن، وهذا هو الموجود في زمنه صلى الله عليه وسلم، فقد كان يكتب القرآن في صحف أو في ألواح.(308/23)
شرح سنن أبي داود [309]
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم آداباً وأحكاماً مهمة عند الغزو والجهاد في سبيل الله، وهذه الآداب فيها تعليم لنا في كيفية التعامل مع المدعوين من المشركين وأهل الكتاب، وما هي الخصال التي لابد من البدء بها قبل الملحمة واستعار الحرب، ومن يقتل منهم ومن لا يقتل، وما يفعل معهم إذا حوصروا فطلبوا من الأمير أن ينزلهم على حكم الله عز وجل وغير ذلك من الأحكام المهمة كحكم تحريق الأشجار ونحوها للمصلحة، وبث العيون لمعرفة أخبار العدو والاستعداد له.(309/1)
ما جاء فيما يستحب من الجيوش والرفقاء والسرايا(309/2)
شرح حديث (خير الصحابة أربعة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيما يستحب من الجيوش والرفقاء والسرايا.
حدثنا زهير بن حرب أبو خيثمة حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي قال: سمعت يونس عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة) قال أبو داود: والصحيح أنه مرسل].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي باب فيما يستحب من الجيوش والرفقاء والسرايا.
يعني: من حيث العدد، فأورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (خير الصحابة أربعة) الصحابة: الرفقاء؛ لأن الصحبة بمعنى الرفقة، فهذا هو المطابق للترجمة، فالرفقاء المقصود بهم الصحابة الذين هم أربعة أشخاص.
وذكر هنا الأربعة مع أنه قد مر في الأحاديث أن أقل الجمع في السفر ثلاثة، وأن الثلاثة ركب، وأنهم يؤمرون واحداً منهم إذا كانوا ثلاثة فأكثر، ولكن هنا ذكر أن خير الرفقاء أربعة، فمعناه: لا يقلون عن أربعة، فلو كانوا خمسة أو ستة فلا بأس بذلك، لكن كونهم ينقصون عن هذا العدد فلا يوصفون بالخيرية، ولعل ذلك أن الأربعة إذا كانوا مع بعض يمكن أن ينفرد كل واحد مع الثاني فيتحدثان، بخلاف ما لو كانوا ثلاثة، فإنه إذا تناجى اثنان دون الثالث فإنه يؤلمه ويحصل له تأثر، وأما إذا كانوا أربعة فلا يوجد إشكال، لكن إذا كانوا ثلاثة فلابد أن يتحدثوا كلهم مع بعض، ولا يتناجى اثنان دون الثالث فإنه قد جاء ما يدل على منعه؛ لأن ذلك يؤلمه ويغضبه.
ثم أيضاً لو أرادوا أن يقتسموا المهمة بحيث يتعاونون مع بعض، وكل يوكل له مهمة فيكون اثنان مع بعض واثنان مع بعض، بخلاف الثلاثة فإنه لا تكون القسمة متساوية.
قوله: [(وخير السرايا أربعمائة)].
يعني: يكون عددهم أربعمائة، لا يقلون عن ذلك، مع أن السرية يمكن أن تكون أقل من أربعمائة، ولكن لا تكون خيرة حتى يكون عددها أربعمائة، ولا أدري ما وجه اختيار هذا العدد؟! وقيل: لعل ذلك أن أهل بدر كانوا فوق الثلاثمائة، فيكون الكسر مجبوراً على اعتبار أن هذا العدد خرج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم فوق الثلاثمائة، ولكنهم ما بلغوا الأربعمائة فيكون هناك جبر للكسر.
على كل: الله تعالى أعلم بوجه اختيار هذا العدد، وكونه خير السرايا.
والسرية: هي القطعة التي تقتطع من الجيش وترسل في مهمة، ثم تعود إلى الجيش، والجيش عدده كبير فالإمام أو الأمير يختار سرية يسند إليها مهمة تذهب بها، ثم ترجع إلى الجيش الذي هو أصلها.
قال: [(وخير الجيوش أربعة آلاف)].
قوله: (ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة) يعني: كون الغلبة سببها القلة، ولكن قد تكون الغلبة في غير القلة بأن يكون هناك عجب وأمور أخرى يحصل بها الانهزام أو عدم الغلبة، فليس المقصود أنه لا تحصل الصفات الذميمة والأشياء التي قد تكون سبباً في الهزيمة، وإنما المسألة هي مسألة قلة فقط، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يغلب اثنا عشر ألف من قلة).(309/3)
تراجم رجال إسناد حديث (خير الصحابة أربعة)
قوله: [حدثنا زهير بن حرب أبو خيثمة].
زهير بن حرب أبو خيثمة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا وهب بن جرير].
وهو وهب بن جرير بن حازم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبي].
جرير بن حازم، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت يونس عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله].
يونس والزهري مر ذكرهما وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال أبو داود: والصحيح أنه مرسل، والشيخ الألباني صححه وهو مرفوع، ولعله جاء من طرق أخرى مرسلة أي: أن الطريقة المتصلة هي المعتبرة.(309/4)
ما جاء في دعاء المشركين(309/5)
شرح حديث (كان رسول الله إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في دعاء المشركين.
حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا وكيع عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين خيراً، وقال: إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال أو خلال، فأيتها أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم.
ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين؛ يجرى عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين.
فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم.
فإن أبوا فاستعن بالله تعالى وقاتلهم.
وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله تعالى فلا تنزلهم، فإنكم لا تدرون ما يحكم الله فيهم، ولكن أنزلوهم على حكمكم ثم اقضوا فيهم بعد ما شئتم).
قال سفيان بن عيينة: قال علقمة: فذكرت هذا الحديث لـ مقاتل بن حيان فقال: حدثني مسلم -قال أبو داود: هو ابن هيصم - عن النعمان بن مقرن رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث سليمان بن بريدة].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في دعاء المشركين.
يعني: دعوتهم إلى الإسلام، فالدعاء بمعنى الدعوة، وذلك كونهم يدعون إلى الإسلام أولاً، والكفار إذا بلغتهم الدعوة فلا تجب دعوتهم عند القتال، وإنما يستحب ذلك، وأما إذا لم تبلغهم فيجب أن يدعوا وأن تبلغ الدعوة إليهم.
وأورد أبو داود حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميراً أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين خيراً) فالرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أرسل الأمراء على الجيوش يوصي الأمير بأمرين: أولاً: أن يتقي الله عز وجل في جميع شئونه.
ثانياً: يوصيه بمن معه من المسلمين خيراً، يعني: أصحابه الذين هو أمير عليهم يوصيه بهم خيراً.
وهذا فيه بيان ما يتعلق بصلة الإنسان بربه وصلته بغيره، وهو يشبه ما جاء في حديث معاذ الذي قال فيه: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) فأوصاه بتقوى الله في معاملته لربه، ومعاملته للناس بأن يخالقهم بخلق حسن، وهنا في الحديث أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه، وأوصاه بمن معه من المسلمين خيراً، يعني: أنه يرفق بهم ويعاملهم المعاملة اللائقة بهم، ولا يسيء إليهم، بل يحسن إليهم.
قوله: [(قال: إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث)].
يقول للأمير الذي يؤمره بعدما يوصيه بالوصيتين: المتعلقة بنفسه والمتعلقة بأصحابه، يقول: (إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال) وهذا شك من الراوي، فخصلة أو خلة معناهما واحد، والشك من الراوي هل قال: (خصال) أو قال: (خلال).
الأولى: أن يدعوهم إلى الإسلام.
والثانية: إلى إعطاء الجزية.
والثالثة: أن يستعين بالله ويقاتلهم.
فهذه هي الخصال الثلاث التي أرشد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن الأولى فيها تفصيل.
قوله: [(فأيتها ما أجابوك إليها فاقبل منهم، وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين)].
يعني: إذا استجابوا وأسلموا يدعون للتحول إلى دار المهاجرين، بمعنى: أنهم يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، ويكونون مستعدين للجهاد معه، ويكون لهم ما للمهاجرين، وإن أبوا وأرادوا أن يبقوا في دارهم فيكونوا كأعراب المسلمين الذين يبقون في الفلاة، وليس لهم من الغنيمة والفيء إلا أن يجهزوا أنفسهم للجهاد، ومن احتيج إليه في الجهاد من الأعراب وجاء من هذه الدار التي لم يحصل فيها هجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يعطى نصيبه من الغنيمة إذا حضر الغزوة والجهاد، فإن لم يحضر فإنه لا يكون له شيء، وإنما يكون له من ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين، لكن من جاء من البادية وحضر الجهاد فإنه يكون له نصيب؛ لأنه قد حضر، لكن كونه يجري له ما يجري للمهاجرين، وحكمه حكم المهاجرين الذين تركوا أوطانهم وجاءوا لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يكون له ذلك.
قوله: [(ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين)].
يعني: لهم ما للمهاجرين من الحقوق، وعليهم ما على المهاجرين من الواجبات.
قوله: [(فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين: يجرى عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين)].
يعني: إذا أرادوا أن يبقوا في دارهم، ولا توجد ضرورة تدعو إلى هجرتهم ومجيئهم فإنهم يكونون كالأعراب الذين يكونون في فلاتهم مع مواشيهم ودوابهم يقومون برعايتها ومتابعتها، فتجري عليهم أحكام الإسلام، وليس لهم في الغنيمة والفيء أي شيء، إلا من حضر منهم الغزو فإنه يكون له نصيب من الغنائم بحضوره الغزو ومشاركته، لكن لا يقال إنهم في حكم المهاجرين الذين تركوا بلادهم، وصاروا في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم معه ينصرونه ويؤيدونه، وتحت إمرته، وتحت توجيهه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [(فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية)].
يعني: أبوا أن يسلموا وأن يدخلوا في الإسلام؛ لأن الكلام الذي مر هو مع أناس دخلوا في الإسلام.
والدعوة إلى إعطاء الجزية يعني: أن يعطوا الجزية حيث بقوا على كفرهم، ولكن المسلمين استولوا عليهم، فإنهم يعطون الجزية لأنهم يكونون تحت ولاية المسلمين، فيكونون خاضعين لحكم المسلمين وهم باقون على ما هم عليه، فوجودهم بين المسلمين وتحت حكم المسلمين يكون من أسباب دخولهم في الإسلام، وكون المسلمين يحكمونهم وهم يشاهدون أحكام الإسلام وأعمال المسلمين الحسنة والأمور العظيمة التي جاء بها الإسلام، فإنه يكون سبباً في إسلامهم.
والحديث يدل على أخذ الجزية من كل شخص سواء كانوا من مشركي العرب أو من أهل الكتاب، وبعض أهل العلم يقصرها على أهل الكتاب؛ لأنه قال في آية التوبة: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] ولكن هذا الحديث يدل على أن الحكم عام وشامل، فأهل الكتاب جاء الحكم فيهم في القرآن، وهذا الحديث يشمل أهل الكتاب وغير أهل الكتاب، فتؤخذ الجزية من العرب وغير العرب.
قوله: [(فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم)].
لأنه إذا قبل منهم الجزية، وكف عنهم، ودخلوا تحت حكم الإسلام وصاروا بين المسلمين، فإن ذلك يكون سبباً في دخولهم الإسلام، وهذا هو المهم في الأمر في الجهاد في سبيل الله؛ لأن المقصود من ذلك أن تكون كلمة الله هي العليا، وكون المسلمين لهم الحكم والولاية في الأرض، والكفار يكونون تحت لوائهم، فيكون ذلك سبباً في دخولهم في الإسلام.
قوله: [(فإن أبوا فاستعن بالله تعالى وقاتلهم)].
فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم يعني: هذه الخصلة الثالثة التي هي الأخيرة، استعن بالله وقاتلهم؛ لأنهم ما دخلوا في الإسلام، ولا أعطوا الجزية، وإنما كابروا وعاندوا.
قوله: [(وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوكم أن تنزلوهم على حكم الله تعالى فلا تنزلوهم، فإنكم لا تدرون ما يحكم الله فيهم)].
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم للأمير: إذا حاصرت أهل حصن يعني: جماعة متحصنين في مكان معين، وأرادوا أن ينزلوا على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله؛ لأنك لا تدري هل أصبت حكم الله أو لا، لكن أنزلهم على حكمك، أو حكم أصحابك، أو حكم الأمير، أو حكم واحد ممن مع الأمير؛ لأن المجتهد قد يصيب الحق وقد يخطئه، قد يصيب حكم الله وقد يخطئه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الآخر المتفق على صحته: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) وهذا يدل على أن الحق واحد قد يصيبه بعض المجتهدين ويخطئه البعض، فمن اجتهد وأصاب حصل على أجرين: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإن اجتهد وأخطأ حصل أجراً على الاجتهاد، وخطؤه مغفور.
فلا ينزلونهم على حكم الله لأنه قد لا يكون حكم الله واضحاً فيحتاج الأمر إلى اجتهاد، ومعلوم أنهم كانوا يجتهدون في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم مثلما حصل في قصة الذهاب إلى بني قريظة حيث قال لهم صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة)، فذهبوا، ولما دنا وقت غروب الشمس انقسموا إلى قسمين: منهم من قال: نستمر في المشي حتى ولو غربت الشمس، ومنهم من قال: نصلي الصلاة في وقتها ولا نؤخرها، والرسول صلى الله عليه وسلم ما أراد أن تؤخر الصلاة عن وقتها.
فهذا الاجتهاد حصل في زمن النبوة، فقال: فلا تنزلهم على حكم الله؛ لأنك لا تدري هل تصيب حكم الله أو لا، ولكن أنزلهم على حكمك أنت، فتجتهد في البحث عن حكم الله وفي الوصول إلى حكم الله، فقد تصيبه وقد لا تصيبه.(309/6)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله)
قوله: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري].
محمد بن سليمان الأنباري، صدوق أخرج له أبو داود.
[حدثنا وكيع].
وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علقمة بن مرثد].
علقمة بن مرثد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن بريدة].
سليمان بن بريدة، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال سفيان بن عيينة].
سفيان بن عيينة، هو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال علقمة: فذكرت هذا الحديث لـ مقاتل بن حيان].
مقاتل بن حيان، صدوق، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[فقال: حدثني مسلم -قال أبو داود: هو ابن هيصم -].
مسلم بن هيصم، وهو مقبول، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن النعمان بن مقرن].
النعمان بن مقرن رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(309/7)
شرح حديث (اغزوا باسم الله وفي سبيل الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو صالح الأنطاكي محبوب بن موسى أخبرنا أبو إسحاق الفزاري عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغدروا، ولا تغُّلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً)].
أورد أبو داود حديث بريدة بن الحصيب، وفيه وصية الرسول صلى الله عليه وسلم للجيوش التي كان يرسلها قال: (اغزوا باسم الله) يعني: مستعينين بالله معتمدين على الله.
فقوله: [(وفي سبيل الله)].
أي: حتى يكون الغزو في سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى.
قوله: [(وقاتلوا من كفر الله اغزوا ولا تغدروا)].
الغدر: هو الغدر بالعهد، وهو كونهم يعاهدون ثم يغدرون في عهدهم، فلابد أن يوفوا بالعهود لغيرهم إذا عاهدوهم.
[(ولا تغلوا)].
الغلول: الأخذ من الغنيمة بدون حق، وهذه خيانة.
قوله: [(ولا تمثلوا)].
يعني: إذا قتلتم أحداً فلا تمثلوا به فتقطعوا أنفه أو تقطعوا شيئاً منه فيكون مشوهاً، لكن اقتلوه بدون تمثيل.
قوله: [(ولا تقتلوا وليداً)].
يعني: الصغير الذي لا يقاتل، ولكنه إذا كان من أهل القتال فإنه يقتل لمقاتلته.(309/8)
تراجم رجال إسناد حديث (اغزوا باسم الله وفي سبيل الله)
قوله: [حدثنا أبو صالح الأنطاكي محبوب بن موسى].
أبو صالح الأنطاكي محبوب بن موسى، هو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا أبو إسحاق الفزاري].
وهو: إبراهيم بن محمد بن الحارث، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه].
وقد مر ذكرهم جميعاً في الإسناد السابق.(309/9)
شرح حديث (انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم وعبيد الله بن موسى عن حسن بن صالح عن خالد بن الفزر قال: حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (انطلقوا باسم الله، وبالله، وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً، ولا صغيراً، ولا امرأةً، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
قوله: [(انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله)].
يعني: الذين يخرجون للجهاد في سبيل الله فقوله: (انطلقوا باسم الله وبالله) يعني: معتمدين على الله متوكلين عليه مستعينين به، (وعلى ملة رسول الله) يعني: على سنته وطريقته ومنهجه ودينه.
قوله: [(ولا تقتلوا شيخاً فانياً)].
يعني: ليس من أهل القتال، إلا إن كان ذا رأي وخبرة في الحرب بحيث يستفيدون منه فيقتل وإن كان كبيراً للتخلص من شره.
قوله: [(ولا طفلاً ولا صغيراً)].
في بعض الروايات: (طفلاً صغيراً) ويمكن أن يكون الطفل صغيراً جداً كالرضيع والذي حوله، والصغير: هو الذي لم يبلغ الحلم، ولكن الحكم كما مر أن الوليد الذي لا يقتل هو الذي لا يقاتل، أما من يكون من المقاتلة ولو لم يبلغ فهو يقتل لقتاله.
قوله: [(ولا امرأة)].
المرأة كذلك لا تقتل إلا أن تكون من المقاتلة فإنها تقتل.
قوله: [(ولا تغلوا، وضموا غنائمكم)].
يعني: اجمعوها وضموا بعضها إلى بعض، حتى لا يؤخذ منها من غير حق.
قوله: [(وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)].
وهذه الجملة الأخيرة آية، وهذا يسمونه في علم البلاغة: الاقتباس، وهو أن يأتي بالكلام ثم يتبعه بآية أو جزء منها أو بحديث دون أن يقول فيه: قال الله أو قال رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا اسمه في علم البلاغة الاقتباس، فيأتي بشيء من كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم متصلاً بالكلام دون إضافته إلى الله وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
والحديث ضعيف، فيه خالد بن الفزر، ولكن له شواهد في أحاديث أخرى مثل النهي عن الغلول وغيره.(309/10)
تراجم رجال إسناد حديث (انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا الترمذي والنسائي فقد أخرج له في أعمال اليوم والليلة.
[حدثنا يحيى بن آدم].
يحيى بن آدم الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعبيد الله بن موسى].
عبيد الله بن موسى، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حسن بن صالح].
حسن بن صالح بن حي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن خالد بن الفزر].
خالد بن الفزر، وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(309/11)
ما جاء في الحرق في بلاد العدو(309/12)
شرح حديث (أن رسول الله حرق نخل بني النضير)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الحرق في بلاد العدو.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع، وهي البويرة؛ فأنزل الله عز وجل: ((مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا)) [الحشر:5]).
يقول أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في الحرق في بلاد العدو.
المقصود من ذلك التحريق في بلاد العدو إذا كان في ذلك مصلحة كأن يكون فيه إضعاف لقوتهم، ويشبه هذا ما سبق أن مر في قضية جعفر بن أبي طالب الذي عقر جواده حتى لا يستفيد منه العدو.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع وهي البويرة، والبويرة: مكان النخل، فأنزل الله عز وجل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر:5] وهذا يدل على ما ترجم له المصنف من التحريق، لكن حيث تكون المصلحة في ذلك.
وقوله تعالى: ((مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ)) يعني: نخلة ((أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا)) يعني: من غير قطع ((فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ)).
فهذا فيه إقرار، أي: أن الذي حصل إنما هو بإذن الله، وكما هو معلوم أن قوله: (بإذن الله) إذا أريد به الإذن الشرعي فيكون الإذن موجوداً من قبل.
وإن كان المراد الإذن الكوني فمعناه أنه مقدر، وكل ما يحصل ويحدث هو بقضاء الله وقدره.(309/13)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله حرق نخل بني النضير)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
الليث بن سعد المصري، ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد من أعلى الأسانيد عند أبي داود؛ لأنه رباعي، بين أبي داود وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أشخاص: قتيبة والليث ونافع وابن عمر.(309/14)
شرح حديث (أغر على (أبنى) صباحاً وحرق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري عن ابن المبارك عن صالح بن أبي الأخضر عن الزهري قال عروة: فحدثني أسامة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إليه فقال: أغر على (أبنى) صباحاً وحرق)].
أورد أبو داود حديث أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أغر على أبنى صباحاً وحرق) وأبنى: موضع في فلسطين يقال له (أُبنى) ويقال له (يُبنى) أطلق عليه فيما بعد: (يبنان) فهو قيل له: أُبنى بالهمزة، ثم قيل له: يُبنى بياء بدل الهمزة، وهذا فيه قضية التحريق، وفيه أن الإغارة تكون في الصباح.(309/15)
تراجم رجال إسناد حديث (أغر على (أُبنى) صباحاً وحرق)
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هناد بن السري أبو السري، ثقة أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن المبارك].
عبد الله بن المبارك المروزي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن صالح بن أبي الأخضر].
صالح بن أبي الأخضر، وهو ضعيف يعتبر به، أخرج له أصحاب السنن.
[عن الزهري].
وهو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال عروة].
عروة بن الزبير بن العوام، ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[فحدثني أسامة].
أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبه وابن حبه رضي الله تعالى عنهما، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث ضعفه الألباني، ولعله من أجل صالح بن أبي الأخضر.(309/16)
شرح أثر أبي مسهر في معنى (أبنى) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن عمرو الغزي قال: سمعت أبا مسهر قيل له: أُبْنَى قال: نحن أعلم، هي يُبْنى فلسطين].
ذكر أبو داود هذا الأثر عن أبي مسهر، وهو: عبد الأعلى بن مسهر قال: أنا أعلم بهذا الخبر، هي يبنى فلسطين، يعني: بدل الهمزة ياء، ولعل ذلك أنها كانت يطلق عليها: أُبنى ثم أطلق عليها: يبنى، أي: أبدل حرف بحرف.
وهذا يقال له مقطوع؛ لأن المتن الذي ينتهي إلى من دون الصحابي سواء كان تابعياً أو تابع تابعي أو من دونه فإنه يقال له مقطوع.
قوله: [حدثنا عبد الله بن عمرو الغزي].
عبد الله بن محمد بن عمرو الغزي، نسبه إلى جده، وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[قال: سمعت أبا مسهر].
وهو عبد الأعلى بن مسهر أبو مسهر، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وقوله: (نحن أعلم) أي: أنه يمكن أنه أعلم بالاسم، لأن الخلاف هو في قضية الاسم هل هو بالياء أو بالهمزة؟ وعلى كل: هي كلها بلاد شامية، فبلاد الشام هي: فلسطين والأردن وسوريا ولبنان، فهذه الدول كانت كلها منطقة واحدة يقال لها: بلاد الشام.(309/17)
ما جاء في بث العيون(309/18)
شرح حديث (بعث بسيسة عيناً ينظر ما صنعت عير أبي سفيان)
قال المصنف رحمه الله تعالى [باب في بعث العيون.
حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا سليمان -يعني: ابن المغيرة - عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: (بعث -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- بسيسة عيناً ينظر ما صنعت عير أبي سفيان)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في بعث العيون، والمقصود بالعيون الجواسيس الذين يذهبون ليأخذوا الخبر عن الأعداء، فالجاسوس يطلق عليه عين لأنه يذهب ويرى الأشياء بعينه، فيخبر عن الشيء الذي رآه وشاهده.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يبعث من يأتي بالخبر، ومن يتعرف على أخبار العدو حتى يكون على علم باستعدادهم، وعلى ما عندهم من عدد، فالمقصود من الترجمة أن العيون تبعث من أجل الإتيان بالأخبار؛ حتى يبنى على الخبر الذي تأتي به العين استعداد أكثر أو عمل احتياطات لازمة من جهة إقدام أو إحجام أو ما إلى ذلك.
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بسيسة عيناً ينظر ماذا صنعت عير أبي سفيان، يعني: يأتي بخبر هذه العير التي كان عليها أبو سفيان، فهذا يدل على بعث العيون والجواسيس للإتيان بأخبار الأعداء، والتعرف على ما عند الأعداء من قوة واستعداد.
ثم هذا من الأشياء التي استدلوا بها على سفر الواحد للحاجة، وقد جاء في أحاديث ما يدل على منع الإنسان أن يسافر وحده، وقد مر بنا الحديث الذي فيه: (الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب) ولكنه إذا حصل أمر يقتضيه فيمكن أن يسافر الشخص وحده، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل العيون ويرسل الشخص الواحد للقيام بهذه المهمة.(309/19)
تراجم رجال إسناد حديث (بعث بسيسة عيناً ينظر ما صنعت عير أبي سفيان)
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هارون بن عبد الله الحمال البغدادي، ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا هاشم بن القاسم].
هاشم بن القاسم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان يعني: ابن المغيرة].
سليمان بن المغيرة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثابت].
ثابت بن أسلم البناني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(309/20)
شرح سنن أبي داود [310]
رخص الشرع لابن السبيل إذا كان محتاجاً أن يحلب من الماشية التي يلقاها في طريقه فيشرب من لبنها، لكن لا يحمل معه شيئاً، وكذلك للمحتاج أن يأكل من ثمر البستان دون أن يدخر، وفي الأحاديث ذكر ضوابط ذلك وآدابه.(310/1)
ما جاء في ابن السبيل يأكل من التمر ويشرب من اللبن إذا مر به(310/2)
شرح حديث (إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ابن السبيل يأكل من التمر ويشرب من اللبن إذا مر به.
حدثنا عياش بن الوليد الرقام حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى أحدكم على ماشية: فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، فإن أذن له فليحتلب وليشرب، فإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثاً، فإن أجابه فليستأذنه وإلا فليحتلب وليشرب ولا يحمل)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في ابن السبيل يأكل من التمر ويشرب من اللبن إذا مر به.
يعني: إذا مر بالتمر وبالمواشي التي فيها لبن، وذكره المصنف هنا في كتاب الجهاد مثلما ذكر الأحاديث والأبواب التي سبق أن تقدمت في آداب المسافر مثل: ماذا يقول عند الركوب.
وابن السبيل هو المسافر الذي تنتهي نفقته، ولا يكون معه نفقة، ويكون بحاجة إلى أن يأكل أو يشرب، فأورد أبو داود هذا الباب في كتاب الجهاد لكون المجاهد من جملة المسافرين الذين قد يمرون بماشية فيحتاجون إلى شرب شيء من لبنها أو يحتاجون لشيء من الثمر.
والمأذون في ذلك أنه يستأذن صاحب المحل إذا وجده، فإن لم يجده فإنه يأكل دون أن يحمل، يعني: لا يتزود شيئاً يحمله معه، وإنما يقضي حاجته بأكله فقط، أما كونه يجذ ويأخذ شيئاً يقتاته في سفره فهذا لا يجوز، والمقصود الأكل عند الحاجة.
أورد أبو داود حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه).
يعني: يطلب منه أن يسقيه من ألبان هذه الماشية، وإن لم يكن موجوداً فليناد ثلاثاً، فإن أجابه استأذنه، وإلا شرب ولم يحمل شيئاً، وإنما يصوت ثلاثاً لأنه قد يكون هذا الشخص في مكان مختف لا يراه، إما وراء شجرة أو بين بعض الغنم إذا كانت الغنم متفرقة أو مجتمعاً بعضها مع بعض، فقد يكون مضطجعاً بين بعضها، فيصوت وينادي ثلاث مرات حتى يعرف صاحبها إذا كان موجوداً معها فيستأذنه، وإن لم يجد أحداً وهو بحاجة فإنه يشرب ولكن لا يحمل معه شيئاً، بمعنى أنه لا يحلب في سقاء ويحمل في هذا السقاء، فليس له أن يأخذ شيئاً في السقاء، ولكنه يشرب ويقضي حاجته من الشرب دون أن يتزود بشيء، وهذا خاص بالمسافر.
وكذلك لو جاء إلى بستان ووجد صاحبه فيه استأذنه، فإذا لم يجده فيه دخل وأكل وخرج، فقد ورد ما يدل على جواز ذلك عند الحاجة ولو كان في الحضر، أي: في أطراف البلد.(310/3)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه)
قوله: [حدثنا عياش بن الوليد الرقام].
عياش بن الوليد الرقام، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الأعلى].
عبد الأعلى بن عبد الأعلى البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سعيد].
هو سعيد بن أبي عروبة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
وهو ابن دعامة السدوسي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سمرة بن جندب].
رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث من رواية الحسن عن سمرة، ومعروف الكلام الذي في رواية الحسن عن سمرة، فمن العلماء من قال: إنها تقبل مطلقاً، ومنهم من قال: لا تقبل مطلقاً، ومنهم من قال: يقبل حديثه في العقيقة ولا يقبل في غيره، ولكن غيره إذا جاءت له شواهد فإنه يعتبر به ويقبل لشواهده، والألباني صحح هذا الحديث، ولعل ذلك لوجود الشواهد.(310/4)
الفرق بين الاضطرار والحاجة
وليس الأمر متعلقاً بالمضطر الذي لا يجد طعاماً ويخاف على نفسه التلف، بل الذي يبدو أن الأمر أوسع من هذا، فالمضطر كما هو معلوم له أن يأكل الميتة، ولكن الكلام هنا عن الذي هو بحاجة ولو لم يكن مضطراً، فهذا أوسع من الاضطرار.
فالمضطر كما هو معلوم لا يكون له إلا الموت أمامه، وأما صاحب الحاجة فهو من إن أمكنه أن يشتري منه فذاك أو يطلب منه فذاك وإلا تجاوزه وبحث عن غيره، أما المضطر فله أن يأكل، ولكنه إذا كان عنده شيء فيدفع له القيمة، أو يجعله في ذمته إذا لم يسمح له.
على كل: إن كان الشخص قد سرقت نفقته، أو كانت قيمة النفقة غير موجودة معه، ويعلم أن المسافة طويلة بينه وبين المكان المقصود، فهو إن أخذه بقيمته فيعتبره شيئاً واجباً في ذمته لهذا الشخص صاحب هذا البستان.(310/5)
شرح حديث (ما علمت إذ كان جاهلاً ولا أطعمت إذ كان جائعاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة عن أبي بشر عن عباد بن شرحبيل رضي الله عنه قال: (أصابتني سنة فدخلت حائطاً من حيطان المدينة ففركت سنبلاً، فأكلت وحملت في ثوبي، فجاء صاحبه فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ما علَّمت إذ كان جاهلاً، ولا أطعمت إذ كان جائعاً -أو قال: ساغباً- وأمره فرد علي ثوبي وأعطاني وسقاً أو نصف وسق من طعام)].
أورد أبو داود حديث عباد بن شرحبيل رضي الله عنه قال: أصابتني سنة، يعني: فاقة، أي: سنة فيها جدب وقحط.
قوله: [(فدخلت حائطاً من حيطان المدينة ففركت سنبلاً)].
السنبل: الرزع، وفركه: أخرج الحب من قشره وأكله.
قوله: [(فجاء صاحبه فضربني وأخذ ثوبي)].
يعني: جاء صاحب الزرع فضربه وأخذ ثوبه الذي كان فيه هذا الحب عقاباً له، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما علمت إذ كان جاهلاً) يعني: بدلاً من أن تعاقبه بهذه العقوبة تنبهه وتعذره لجهله، أو تطالبه بالشيء الذي لا توافق له عليه.
(ولا أطعمت إذ كان جائعاً أو قال: ساغباً).
والساغب بمعنى الجائع؛ لأن المسغبة هي الجوع، ومعناه: أنك تحسن إليه وتعلمه لجهله، ثم إنه أمره برد ثوبه الذي أخذه منه.
قوله: [(وأعطاني وسقاً أو نصف وسق من طعام)].
يعني: أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم لحاجته وسقاً أو نصف وسق من طعام، يعني: إما هذا وإما هذا -شك الراوي- وهذا لا يدل على أن الإنسان يتخذ شيئاً، لكن ينبغي أن يعذر الإنسان الجاهل، وإذا كان الإنسان لم يسمح بهذا الذي أخذه وحمله معه فيطالبه بقيمته أو يسترجعه، ولكن لا يأخذ زيادة على حقه كالثوب.(310/6)
تراجم رجال إسناد حديث (ما علمت إذ كان جاهلاً ولا أطعمت إذ كان جائعاً)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري].
عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري، ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
معاذ بن معاذ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بشر].
وهو جعفر بن إياس المشهور بـ ابن أبي وحشية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عباد بن شرحبيل].
عباد بن شرحبيل رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة.(310/7)
إسناد حديث (ما علمت إذ كان جاهلاً ولا أطعمت إذ كان جائعاً) من طريق أخرى وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن أبي بشر قال: سمعت عباد بن شرحبيل رضي الله عنه رجلاً منا من بني غبر، بمعناه].
أورد الحديث من طريق أخرى، وهو بمعنى الحديث الأول.
قوله: [حدثني محمد بن بشار].
محمد بن بشار هو الملقب: بندار البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن جعفر].
محمد بن جعفر الملقب غندر البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
وقد مر ذكره.
[عن أبي بشر عن عباد].
أبو بشر وعباد قد مر ذكرهم.
قوله: [رجلاً منا من بني غبر].
هذه زيادة تعريف له.(310/8)
من قال إنه يأكل مما سقط(310/9)
شرح حديث (فلا ترم النخل وكل مما يسقط في أسفلها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من قال إنه يأكل مما سقط.
حدثنا عثمان وأبو بكر بن أبي شيبة -وهذا لفظ أبي بكر - عن معتمر بن سليمان قال: سمعت ابن أبي حكم الغفاري يقول: حدثتني جدتي عن عم أبي رافع بن عمرو الغفاري رضي الله عنه قال: (كنت غلاماً أرمي نخل الأنصار، فأتي بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا غلام! لم ترم النخل؟ قال: آكل قال: فلا ترم النخل وكل مما يسقط في أسفلها، ثم مسح رأسه فقال: اللهم أشبع بطنه)].
أورد أبو داود حديث أبي رافع بن عمرو الغفاري رضي الله عنه أنه كان يرمي تمراً على رءوس النخل بالحجارة، حتى إذا ضرب الحجر القنو تساقط منه التمر بسبب الضربة التي حصلت برمي الحجارة عليها، فيأكل من ذلك.
قوله: [(كنت غلاماً أرمي نخل الأنصار فأتي بي النبي صلى الله عليه وسلم)].
أي: شكوه إليه وأتوا به إليه؛ لأنه عمل هذا العمل.
قوله: [(فقال: يا غلام! لم ترم النخل؟ قال: آكل، قال: فلا ترم النخل وكل مما يسقط في أسفلها)].
يعني: آكل مما يسقط بسبب الرمي بالحجارة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ترم النخل، وكل مما يتساقط بسبب الريح أو أي سبب من الأسباب، المهم ألا يرميه الشخص بالحجارة حتى يتساقط، وإنما يمشي تحت النخل فيأخذ من الشيء الذي تساقط بسبب الريح، ولا يفعل هذا الفعل الذي هو الرمي بالحجارة؛ لأن الرمي بالحجارة قد يفسد التمر بمعنى أنه يتمزق.
وكونه يسقط بالريح أو بغير ذلك من الأشياء التي لا تمزقه فإنه يستفيد منه بهذه الطريقة.
والترجمة هي: (من قال إنه يأكل مما سقط) يعني: ولا يأخذ شيئاً من النخل، فلا يصعد ويأخذ شيئاً من النخل، وإنما يأخذ من المتساقط.
وهذا الحديث ضعيف، ولكن يجوز للمرء إذا كان في حاجة أن يصعد النخلة ويأكل منها، ولكن لا يحمل معه شيئاً.(310/10)
تراجم رجال إسناد حديث (فلا ترم النخل وكل مما يسقط في أسفلها)
قوله: [حدثنا عثمان وأبو بكر بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فأخرج له في عمل اليوم والليلة.
وأبو بكر أخوه وهو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[وهذا لفظ أبي بكر].
أي: هذا لفظ الشيخ الثاني.
[عن معتمر بن سليمان].
معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت ابن أبي حكم الغفاري].
ابن أبي الحكم الغفاري، قيل: اسمه حسن وقيل: عبد الكبير، وهو مستور، يعني: مجهول الحال، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثتني جدتي].
لا توجد لها ترجمة.
[عن عم أبي رافع بن عمرو الغفاري].
أبو رافع بن عمرو، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
ففي الحديث: هذا المستور، وفيه هذه الجدة التي لا ندري ما حالها، ولو عرفت على أنها ثقة فسبطها هذا الذي هو ابن أبي الحكم يعل به الحديث وحده لو لم تضف إليه علة أخرى.(310/11)
ما جاء فيمن قال لا يحلب(310/12)
شرح حديث (لا يحلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن قال: لا يحلب.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته، فتكسر خزانته، فينتثل طعامه، فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه).
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب فيمن قال لا يحلب.
يعني: أن ابن السبيل أو الذي يمر بالغنم لا يحلب منها شيئاً إلا بإذن صاحبها وإذا لم يكن صاحبها، موجوداً ليأذن له فإنه لا يحلب.
وقد أورد حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه).
نعم إذا كان موجوداً فإنه يستأذنه كما سبق أن مر في الحديث، وإذا لم يكن موجوداً ولم يره فإنه ينادي ثلاثاً حتى يتبين له مكانه، فإن لم يجده وكان محتاجاً فإنه يشرب ولا يحمل، فيحمل ما جاء في هذا الحديث على غير الحاجة، أما إذا كان محتاجاً فقد رخص له كما جاء في الحديث السابق، وعلى هذا يوفق بين هذا الحديث وبين ذاك الحديث السابق.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته؟).
والمشربة: هي الغرفة المرتفعة يكون فيها الشيء الذي يخزن، (فتكسر خزانته فينتثل طعامه) يعني: يفرق أو يؤخذ منه شيء، وضروع مواشيهم هي مثل هذه الخزانة، وكما أن الإنسان لا يجب أن يؤتى إلى مشربته وتنتثل الخزانة فكذلك لا يأتي للضروع ويستخرج ما فيها، ولكن هذا كما هو معلوم محمول على غير الحاجة، وأما مع الحاجة فقد مر في الحديث السابق ما يدل على الرخصة.(310/13)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يحلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك].
عبد الله بن مسلمة القعنبي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
ومالك بن أنس الفقيه المحدث الإمام، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن ابن عمر].
نافع وابن عمر قد مر ذكرهما، وهذا من أعلى الأسانيد عند أبي داود؛ لأنه رباعي.(310/14)
شرح سنن أبي داود [311]
من أحكام الجهاد المهمة التي شدد فيها النبي صلى الله عليه وسلم: طاعة القائد والأمير في الحرب، وأن من خالف في ذلك فقد أثم، وكراهية تمني لقاء العدو، وأن يسأل الإنسان ربه العافية، ودعوة المشركين قبل القتال إذا لم يكونوا قد بلغتهم الدعوة، وأما إذا بلغتهم الدعوة وسمعوا بالمسلمين وبالذي يقاتلون من أجله فإنه لا تجب دعوتهم وإنما تستحب استحباباً، واستحباب استخدام الخدعة في الحرب لأن فيها نصراً للمسلمين، ومباغتة للأعداء قبل استعدادهم.(311/1)
ما جاء في الطاعة(311/2)
شرح حديث سبب نزول قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى [باب في الطاعة.
حدثنا زهير بن حرب حدثنا حجاج قال: قال ابن جريج: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] في عبد الله بن قيس بن عدي (بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية) أخبرنيه يعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في الطاعة.
يعني: السمع والطاعة للأمير الذي هو أمير الجيش، يعني: إذا كانوا غزاة فإنهم يسمعون ويطيعون للأمير.
والسمع والطاعة للولاة جاءت بها الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسمع للوالي ولأمراء الوالي الذين ولاهم على الأقاليم والمدن والقرى، وكذلك في الأمراء على الجيوش فإنه يسمع للأمير والإمام الأعظم، ولنوابه وأمرائه الذين أسند إليهم المهمة في بلد أو غزوة أو سفر أو غير ذلك، ولكن في حدود المعروف، أي: في حدود ما هو طاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، أما إذا كان الأمر فيه معصية لله ورسوله عليه الصلاة والسلام فلا يسمع ولا يطاع، بل تقدم طاعة الله وطاعة رسوله، وتترك طاعة الأمير التي هي معصية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في ذلك أحاديث.
وقد أورد أبو داود أثر ابن عباس أن هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، وأراد أن يختبر طاعة الجند الذين معه له، فأجج ناراً وطلب منهم أن يقعوا فيها، فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: نحن إنما آمنا بالرسول صلى الله عليه وسلم فراراً من النار فكيف نقع في النار؟! فهذه القصة هي سبب نزول هذه الآية، ففي الأثر أن هذه الآية نزلت وجاء فيها الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وطاعة ولاة الأمور، ولكن أعيد فيها فعل الأمر (أطيعوا) مع ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: ((أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)) ولم يقل: أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم، ولم يقل: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم، فلم يأت لفظ الطاعة مكرراً في المواضع الثلاثة ولم يأت مع لفظ الجلالة فقط، وإنما كرر عند الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله، وحذف مع ولاة الأمور، فجاء مضافاً إلى الله ثم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يضف إلى ولاة الأمور، قالوا: والسبب في هذا أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي من طاعة الله عز وجل، فهو لا يأمر إلا بما هو حق، وهو معصوم عليه الصلاة والسلام فلا يأمر بباطل، أما ولاة الأمور فيأمرون بحق ويأمرون بباطل؛ لأنهم غير معصومين، فلم يأت الفعل (أطيعوا) معهم كما جاء مع النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لبيان أن طاعتهم ليست طاعة مطلقة كطاعة النبي صلى الله عليه وسلم، بل طاعة مقيدة في حدود ما هو طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
يعني أن الطاعة لا تكون مطلقة في كل ما يأمرون به مطلقاً حتى ولو كان معصية، بل المعصية لا يجوز لهم أن يأمروا بها ولا يطاع لهم فيها، وإنما يطاع لهم في المعروف؛ قالوا: هذا هو السر الذي من أجله حذف فعل الأمر ولم يؤت به مع ولاة الأمور، وأعيد مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر من الله، قال الله عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
فالسنة هي وحي من الله، كما أن القرآن وحي من الله، والرسول عليه الصلاة والسلام مبلغ ما يوحى به إليه، وليست السنة من عند الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هي من عند الله، والله تعالى يوحي إلى نبيه بالكتاب وبالسنة، ولهذا جاء في أحاديث عديدة ما يبين ذلك، ومنها الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يغفر للشهيد كل شيء) ثم إنه قال بعد ذلك: (إلا الدين فإنه سارني به جبريل آنفاً) يعني: استثنى الدين في كونه لا يغفر للشهيد؛ لأن الدين من حقوق الناس، وأصحاب الدين إذا لم يحصلوا حقهم في الدنيا فإنهم سيحصلونه في الآخرة عن طريق الاقتصاص بالحسنات، فيؤخذ من المدين حسنات فتعطى للدائنين.
قوله: [قال ابن جريج: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)) في عبد الله بن قيس بن عدي].
يعني: نزلت فيه، فهو سبب نزولها، ثم أتى بالإسناد: أخبره فلان عن فلان عن ابن عباس أنه قال: نزلت في عبد الله بن قيس بن حذافة.(311/3)
تراجم رجال إسناد حديث سبب نزول قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله)
قوله: [حدثنا زهير بن حرب].
زهير بن حرب، هو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا حجاج].
وهو: ابن محمد الأعور المصيصي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال ابن جريج].
وهو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنيه يعلى].
يعلى بن مسلم المكي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد الملطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(311/4)
شرح حديث (لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن مرزوق أخبرنا شعبة عن زبيد عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً وأمر عليهم رجلاً، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فأجج ناراً وأمرهم أن يقتحموا فيها، فأبى قوم أن يدخلوها وقالوا: إنما فررنا من النار، وأراد قوم أن يدخلوها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو دخلوها أو دخلوا فيها، لم يزالوا فيها وقال: لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف)].
أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية وأمر عليهم أميراً، وهذا الأمير هو عبد الله بن حذافة الذي مر في الإسناد السابق فأجج ناراً -وكان يريد أن يختبر مدى طاعتهم له- وأمرهم بأن يقتحموها، فقال بعضهم لبعض: فنحن ما آمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلا لنسلم من عذاب النار، فكيف نقع في النار ونعذب أنفسنا بالنار؟! فلم يدخلوها، ولما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو دخلوها أو دخلوا فيها لم يزالوا فيها) معناه أنهم يعذبون بالنار بسبب قتلهم أنفسهم بدخولهم النار.
ثم بين عليه الصلاة والسلام أن الطاعة لولاة الأمور ليست مطلقة في كل ما يؤمرون به، بل في حدود ما هو معروف، وفي حدود ما هو طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وأما كون الإنسان يقتل نفسه، أو يؤمر بأن يقتل غيره، وذلك الذي أمر بقتله معصوم لا يستحق القتل، فليس له أن يسمع ويطيع، بل يمتنع من قتل نفسه، ويمتنع من قتل غيره إذا أمر بذلك.
(لا طاعة في معصية الله) يعني: لا طاعة للولاة في معصية الله.
(إنما الطاعة في المعروف) هذا تأكيد لما تقدم، والمعروف ما كان طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم: جاء في بعض الروايات أن هذا الرجل كان معروفاً بكثرة المزاح، والمعروف أنهم أغضبوه حتى فعل ذلك.
لكن لا أدري عن صحة هذا الكلام، وإنما الذي ذكر أنه كان يختبرهم، وكونه يفعل ذلك بعد أن أغضبوه لعله وجد عدم استجابة في بعض الأحوال، وأراد أن يختبرهم، لكن كلام ابن القيم أن هذا الفعل بسبب أنهم أغضبوه غير واضح، فكونهم يغضبونه ويفعل ذلك هذا أمر غريب، ولكن كونه يريد أن يختبر مدى طاعتهم هو المعقول.
قال الخطابي: وقد يفسر قوله: (لا طاعة في معصية الله) تفسيراً آخر، وهو: أن الطاعة لا تسلم لصاحبها ولا تخلص إذا كانت مشوبة بالمعصية، وإنما تصح الطاعات مع اجتناب المعاصي.
على كل: المعنى الأول هو الواضح؛ لأن المقصود السمع والطاعة فيما هو طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الخطابي فيه بعد.(311/5)
تراجم رجال إسناد حديث (لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف)
قوله: [حدثنا عمرو بن مرزوق].
عمرو بن مرزوق، ثقة له أوهام، أخرج له البخاري وأبو داود.
[عن شعبة عن زبيد].
شعبة مر ذكره.
وزبيد هو اليامي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعد بن عبيدة].
سعد بن عبيدة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عبد الرحمن السلمي].
هو عبد الله بن حبيب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي].
علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، الصحابي الجليل، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(311/6)
شرح حديث (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن عبيد الله قال: حدثني نافع عن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره) يعني: فيما يحبه وفيما يكرهه ما دام ليس فيه معصية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولو كان يكره ذلك الشيء الذي أمر به، يعني: أنه يسمع ويطيع ولو كان يكره هذا الذي أمر به، إلا في شيء واحد، وهو أن يكون المأمور به فيه معصية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك لا سمع ولا طاعة.
فهو مثل الأحاديث المتقدمة الدالة على أن السمع والطاعة لولاة الأمور مقيدة بأن يكون المأمور به معروفاً، ولا يكون معصية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.(311/7)
تراجم رجال إسناد حديث (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد القطان البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
وهو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر العمري المصغر، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن ابن عمر].
وقد مر ذكرهما.(311/8)
شرح حديث (أعجزتم إذ بعثت رجلاً منكم فلم يمض لأمري أن تجعلوا مكانه من يمضي لأمري)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن معين حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال عن بشر بن عاصم عن عقبة بن مالك من رهطه رضي الله عنه قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فسلَّحت رجلاً منهم سيفاً، فلما رجع قال: لو رأيت ما لامنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أعجزتم إذ بعثت رجلاً منكم فلم يمض لأمري أن تجعلوا مكانه من يمضي لأمري)].
أورد أبو داود حديث عقبة بن مالك رضي الله عنه عن رجل من الصحابة؛ لأن في الحديث شيئاً عن عقبة، وفيه شيء عن الذي سلحه وأعطاه السيف، وهو الذي أسنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن رجعوا، ففيه أنه بعث جيشاً، وأعطى رجلاً من هذا الجيش سيفاً يكون سلاحاً له، فهو إما أعطاه إياه هبة أو إعارة أو أعطاه إياه بأي صفة من الصفات التي يستفيد منها ذلك الذي سلح وأعطي السيف، فلما رجع ذلك الرجل الذي أعطاه عقبة السيف قال: لو رأيت ما لامنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: (أعجزتم إذ بعثت رجلاً منكم فلم يمض لأمري أن تجعلوا مكانه من يمضي لأمري).
يعني: أن من يحصل منه معصية يستبدل بمن يسمع ويطيع ويمضي لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث دخل في هذا الباب من جهة أن الشخص عليه أن يسمع ويطيع فيما هو طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأما إذا لم يحصل منه استجابة وطاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يستبدل بغيره.
يقول في عون المعبود: فلما رجع ذلك الرجل بعدما قتل رجلاً أظهر إيمانه كما سيأتي ثم قال: وأورد ابن الأثير في أسد الغابة وابن ججر في الإصابة من رواية النسائي والبغوي وابن حبان وغيرهم من طريق سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال: أتينا بشر بن عاصم فقال: حدثنا عقبة بن مالك وكان من رهطه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأغارت على قوم، فشذ من القوم رجل فأتبعه من السرية رجل معه سيف شاهر فقال له الشاذ: إني مسلم، فلم ينظر إلى ما قال، فضربه فقتله، فنمى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولاً شديداً، فبلغ القاتل، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذ قال القاتل: والله ما كان الذي قال إلا تعوذاً من القتل، فأعرض عنه، فعل ذلك ثلاثاً، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه تعرف المساءة في وجهه فقال: إن الله عز وجل أبى علي فيمن قتل مؤمناً ثلاث مرات) انتهى.
فإذا كان بهذا الإسناد الذي هو ثابت فمعناه أن فيه بياناً لسبب المخالفة التي عاتب الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، ويكون ذلك مثل قصة أسامة الذي فيه: (قتلته بعدما قال لا إله إلا الله).(311/9)
تراجم رجال إسناد حديث (أعجزتم إذ بعثت رجلاً منكم فلم يمض لأمري أن تجعلوا مكانه من يمضي لأمري)
قوله: [حدثنا يحيى بن معين].
يحيى بن معين، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث].
عبد الصمد بن عبد الوارث، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال].
سليمان بن المغيرة مر ذكره.
وحميد بن هلال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بشر بن عاصم].
بشر بن عاصم، وهو صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن عقبة بن مالك].
وهو صحابي، أخرج له أبو داود والنسائي.(311/10)
ما يؤمر من انضمام العسكر وسعته(311/11)
شرح الأحاديث الواردة في باب ما يؤمر من انضمام العسكر وسعته
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يؤمر من انضمام العسكر وسعته.
حدثنا عمرو بن عثمان الحمصي ويزيد بن قبيس من أهل جبلة ساحل حمص، وهذا لفظ يزيد قالا: حدثنا الوليد بن مسلم عن عبد الله بن العلاء أنه سمع مسلم بن مشكم أبا عبيد الله يقول: حدثنا أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: (كان الناس إذا نزلوا منزلاً، قال عمرو: كان الناس إذا نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان، فلم ينزل بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض حتى يقال: لو بسط عليهم ثوب لعمهم).
حدثنا سعيد بن منصور حدثنا إسماعيل بن عياش عن أسيد بن عبد الرحمن الخثعمي عن فروة بن مجاهد اللخمي عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه رضي الله عنه قال: (غزوت مع نبي الله صلى الله عليه وسلم غزوة كذا وكذا، فضيق الناس المنازل، وقطعوا الطريق، فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي في الناس: أن من ضيق منزلاً أو قطع طريقاً فلا جهاد له).
حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا بقية عن الأوزاعي عن أسيد بن عبد الرحمن عن فروة بن مجاهد عن سهل بن معاذ عن أبيه قال: (غزونا مع نبي الله صلى الله عليه وسلم بمعناه)].
يقول أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب ما يؤمر من انضمام العسكر وسعته.
انضمام العسكر: أن يجتمع بعضهم إلى بعض، لكن هذا الاجتماع لا يكون فيه تضييق، بحيث إن جماعة يأخذون أكثر من حاجتهم فيضيقون على إخوانهم، أو يضيقون الطريق الذي تمشي فيه فرق الجيش والمعسكر، ولا يكون التفرق بحيث يبتعد بعضهم عن بعض، فلا يكون تباعد ولا يكون تضييق مع الانضمام، وإنما يكون انضمام بدون تضييق ولا تباعد معه، ولا تضيق الطرق التي يسلكون منها، بحيث إذا أراد بعضهم أن يخرج أو يدخل فإنه يكون هناك طرق في المعسكر يدخل منها ويخرج.
فالحكم هو: أنه لا يصير الانتشار واسعاً بحيث تكون كل جماعة بعيدة عن الأخرى، ولا ينضم بعضهم إلى بعض بحيث يضايق بعضهم بعضاً بأن يأخذ أكثر من حاجته، أو يضيق الطرق التي تكون بين العسكر.
أورد أبو داود حديث أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله عنه قال: (كان الناس إذا نزلوا منزلاً.
وقال عمرو: كان الناس إذا نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً تفرقوا في الشعاب والأودية)، يعني: عندما ينزلون منزلاً يتفرقون في الشعاب والأودية، وتكون بينهم مسافات، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما ذلكم من الشيطان)، يعني: هذا التفرق إنما هو من الشيطان، فكانوا بعد ذلك ينضم بعضهم إلى بعض حتى لو وضع عليهم ثوب لوسعهم من شدة تقاربهم، لكن هذا التقارب كما هو معلوم لا يكون فيه تضييق بعضهم على بعض، وهذا فيه مبالغة في ترك ما كانوا عليه من التفرق إلى أن يكونوا مجتمعين غير متفرقين.
وأورد حديث معاذ بن أنس عن أبيه قال: (غزوت مع نبي الله صلى الله عليه وسلم غزوة كذا وكذا فضيق الناس المنازل وقطعوا الطريق؛ فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي في الناس: أن من ضيق منزلاً أو قطع طريقاً فلا جهاد له).
فهذا فيه مقابل ما تقدم في الحديث السابق، حيث ورد فيه أنهم تفرقوا في الشعاب، وبعد ذلك كان يجتمعون، والاجتماع الذي يكون فيه مضرة مذموم، والتفرق الذي ليس فيه مصلحة مذموم، والحق وسط بين الإفراط والتفريط، وبين التفرق الذي فيه تباعد، والانضمام الذي يكون فيه تضييق لبعضهم على بعض وتضييق للطريق.
وقوله: (لا جهاد له)، يعني: أنه جاهد من أجل أن يحصل خيراً، ولكنه عمل شيئاً أضعف من أجره بحيث أنه آذى غيره بذلك.(311/12)
تراجم رجال إسناد الأحاديث الواردة في باب ما يؤمر من انضمام العسكر وسعته
قوله: [حدثنا عمرو بن عثمان].
عمرو بن عثمان الحمصي، صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.
[ويزيد بن قبيس].
يزيد بن قبيس، وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[قالا: حدثنا الوليد بن مسلم].
الوليد بن مسلم الدمشقي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن العلاء].
عبد الله بن العلاء، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[أنه سمع مسلم بن مشكم أبا عبيد الله].
وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي ثعلبة الخشني].
أبو ثعلبة الخشني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسماعيل بن عياش].
إسماعيل بن عياش، وهو صدوق في روايته عن الشاميين، مخلط في روايته عن غيرهم، وحديثه أخرجه البخاري في جزء رفع اليدين وأصحاب السنن.
[عن أسيد بن عبد الرحمن الخثعمي].
أسيد بن عبد الرحمن الخثعمي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن فروة بن مجاهد اللخمي].
فروة بن مجاهد اللخمي، مختلف في صحبته، أخرج له أبو داود.
[عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني].
سهل بن معاذ بن أنس الجهني، لا بأس به، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبيه].
وهو: معاذ بن أنس رضي الله عنه، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
قوله: [حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا بقية].
عمرو بن عثمان مر ذكره.
وبقية بن الوليد، صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الأوزاعي].
عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أسيد بن عبد الرحمن عن فروة بن مجاهد عن سهل بن معاذ عن أبيه رضي الله عنه].
وقد مر ذكرهم جميعاً.(311/13)
ما جاء في كراهية تمني لقاء العدو(311/14)
شرح حديث (لا تتمنوا لقاء العدو)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كراهية تمني لقاء العدو.
حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى أخبرنا أبو إسحاق الفزاري عن موسى بن عقبة عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله -يعني: ابن معمر - وكان كاتباً له قال: كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه حين خرج إلى الحرورية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو قال: (يا أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله تعالى العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال: اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم)].
أورد أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة، وهي: باب في كراهية تمني لقاء العدو.
والمقصود من هذه الترجمة أن المسلم في حال جهاده للأعداء لا يتمنى لقاء العدو؛ لأنه قد تكون حاله عند تمني لقاء العدو غير طيبة، وذلك بأن يحصل منه ما لا ينبغي إما من عدم الصبر، أو من الفرار أو ما إلى ذلك.
فالمقصود من الترجمة أن الإنسان لا يتمنى لقاء العدو، فقد يكون هذا التمني فيه إعجاب بالنفس؛ فيترتب على ذلك الخذلان وعدم التوفيق من الله سبحانه وتعالى.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية)، وهذا هو المقصود والشاهد للترجمة.
قوله: [(فإذا لقيتموهم فاصبروا)].
أي: إذا حصل اللقاء فعليكم بالصبر، وعليكم بالثبات.
قوله: [(واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)]، أي: أنهم عندما يلاقون العدو يصبرون ويثبتون، ويعرفون أنهم إذا قتلوا فإنهم شهداء، وأن مآلهم إلى الجنة.
قوله: [(وأن الجنة تحت ظلال السيوف)].
أي: أن المسلم إذا التقى بالكافر، ثم رفع الكافر سيفه عليه وصار تحته ظلال سيفه، فإذا وقع عليه ومات فإنه يكون شهيداً، والجنة تكون مأواه ومصيره، والمعنى: أنه إذا وقع القتل على أحد منكم من الكفار ومات بذلك فإنه يكون من أهل الجنة.
ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم)، وهذا دعاء يكون عند اللقاء جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه توسل إلى الله عز وجل بأفعاله، وأن الله تعالى ينصرهم ويؤيدهم ويهزم أعداءهم.
قوله: [(اللهم منزل الكتاب)].
المراد بالكتاب إما أن يكون الجنس، فيكون المراد به الكتب التي أنزلها الله على رسله الكرام، أو أن المراد به كتاب معين وهو القرآن، و (أل) في الحالتين إما للاستغراق وإما للعهد الذهني.
والاستغراق: هو أن اللفظ المفرد الذي يأتي محلى بالألف واللام يراد به العموم، أي: استغراق جنس الكتاب، ويأتي كثيراً في القرآن ذكر الكتاب باللفظ المفرد ويراد به الكتب، كما قال الله عز وجل: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177] الكتاب المقصود به الكتب، وليس المقصود به كتاباً واحداً.
وكذلك قول الله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد:25] أي: الكتب، الله ما أنزل على رسله كتاباً واحداً، وإنما أنزل عليهم كتبه.
وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقَِّ} [المائدة:48] المقصود به القرآن {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة:48] أي: من الكتب، فهنا جاء لفظ الكتاب ويراد به القرآن في الموضع الأول، ويراد به الكتب الذي هو جنس في الموضوع الثاني.
وكذلك قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136] قوله (الكتاب الذي نزل على رسوله) هو القرآن (والكتاب الذي أنزل من قبل) أي: الكتب.
فهنا قوله: (منزل الكتاب) محتمل لأن يكون المراد به الكتب أي: الكتب المنزلة على المرسلين، أو أن المقصود به القرآن الذي هو منزل على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
و (أل) تكون للعهد الذهني أي: الكتاب المعهود في الذهن، وهو القرآن، مثل قوله في أول سورة البقرة {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2] أي: الكتاب المعهود في الذهن الذي هو القرآن.
(ومجري السحاب) أي: يجريه في السماء ويسوقه حيث يشاء، فينزله في الموضع الذي أراد الله تعالى أن ينزل فيه، فيوجده بين السماء والأرض، ويسخره بين السماء والأرض، ويسوقه إلى حيث شاء الله تعالى أن ينزل فيه الماء، ويستفيد فيه من ينزل عليه.
(وهازم الأحزاب)، والأحزاب: المراد بهم الكفار على مختلف العصور والدهور، من لدن نوح، فكل ما حصل لهم من هزيمة فهي من الله عز وجل.
فتوسل إلى الله عز وجل بأفعاله، ثم النتيجة (اهزمهم وانصرنا عليهم)، فهذا فيه التوسل بين يدي الدعاء، والتوسل إلى لله عز وجل يكون بأفعاله أو بصفاته أو بأسمائه أو بربوبيته فكل ذلك سائغ، ومن التوسل بربوبيته لبعض المخلوقات التي لها شأن قوله: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل)، فإنه توسل إلى الله عز وجل بربوبيته لجبريل وميكائيل وإسرافيل.(311/15)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تتمنوا لقاء العدو)
قوله: [حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى].
أبو صالح محبوب بن موسى، صدوق أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا أبو إسحاق الفزاري].
وهو: إبراهيم بن محمد بن الحارث، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن موسى بن عقبة].
موسى بن عقبة المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم أبي النضر].
سالم أبو النضر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن أبي أوفى].
وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والذي كتب هو عبد الله بن أبي أوفى إلى عمر بن عبيد الله، فكتب: من عبد الله بن أبي أوفى إلى عمر بن عبيد الله، وسالم أبو النضر يروي عن عبد الله بن أبي أوفى مكاتبة وكتابة، والكتابة والمكاتبة هي من طرق الأداء والتحمل عند العلماء، وهي موجودة على مختلف الطبقات يعني: في طبقة الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى المؤلفين، فأحياناً يقول المؤلف: كتب إلي فلان، يعني: بدلاً من أن يقول: حدثني فلان وفلان وفلان يقول: كتب إلي فلان، مثلما فعل البخاري في صحيحه حيث قال: كتب إلي محمد بن بشار ثم ساقه بإسناده، أي: أن الرواية جاءت عن طريق الكتابة، كما أنها تأتي عن طريق السماع، وعن طريق القراءة على الشيخ الذي يسمى العرض، وهنا الرواية جاءت عن طريق المكاتبة.
وكان عمر بن عبيد الله هو الذي ذهب إلى الحرورية لغزوهم، وعبد الله بن أبي أوفى كتب إليه بالحديث يذكره به وينبهه على أن لا يتمنوا لقاء العدو، ولكنهم يسألون الله العافية، وإذا حصل اللقاء فليصبروا ويثبتوا ويعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف.
وقوله: (الجنة تحت ظلال السيوف)، هذا ليس مجازاً وإنما هو حقيقة، بمعنى أن الإنسان إذا مات وصل إلى الجنة، ومعلوم أن الإنسان عندما يموت إن كان من أهل الجنة فقد حصل له ما يحصل من الجنة، وإن كان بخلاف ذلك فإنه يحصل له ما يحصل من النار، وحديث البراء بن عازب يدل على ذلك، وأوله: (إذا كان العبد في إدبار من الدنيا وإقبال على الآخرة) فما بين المؤمن وبين الاستفادة من الجنة ومن نعيمها إلا الموت؛ لأن من مات قامت قيامته، وصار إما في نعيم من نعيم الجنة، أو في عذاب من عذاب النار، والقبر حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة.(311/16)
ما يدعى عند اللقاء(311/17)
شرح حديث (كان رسول الله إذا غزا قال اللهم أنت عضدي ونصيري)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يدعى عند اللقاء.
حدثنا نصر بن علي أخبرنا أبي حدثنا المثنى بن سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل)].
أورد أبو داود هذه الترجمة فقال: باب ما يدعى عند اللقاء.
أي: ما يدعى به عند اللقاء، والحديث الذي مر فيه ما يندرج تحت هذه الترجمة، في قوله: (اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم) لأن هذا مما يدعى به عند اللقاء، ولكن أبا داود أورده من أجل كراهية تمني الموت الذي جاء في أوله، وهذا الحديث الذي أورده تحت هذه الترجمة المراد به أن هذا من جملة الأدعية التي يدعى بها عند اللقاء.
فأورد أبو داود حديث أنس بن مالك أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا غزا قال: (اللهم أنت عضدي ونصيري بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل).
قوله: [(اللهم أنت عضدي)].
يعني: معتمدي ومستندي.
قوله: [(ونصيري)].
يعني: ناصري ومؤيدي.
قوله: [(بك أحول)].
يعني: أعمل كل ما يمكن أن يمكنني من حيل للوصول إلى معرفة الحق، وكذلك (وبك أصول) يعني: أفعل وأقدم وأتقدم، (وبك أقاتل) يعني: يقاتل لله ومن أجل الله سبحانه وتعالى.(311/18)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله إذا غزا قال اللهم أنت عضدي ونصيري)
قوله: [حدثنا نصر بن علي].
نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا أبي].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا المثنى بن سعيد].
المثنى بن سعيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(311/19)
ما جاء في دعاء المشركين(311/20)
شرح حديث (وقد أغار نبي الله على بني المصطلق وهم غارون)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في دعاء المشركين.
حدثنا سعيد بن منصور حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أخبرنا ابن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن دعاء المشركين عند القتال، فكتب إلي: (أن ذلك كان في أول الإسلام، وقد أغار نبي الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى سبيهم، وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث رضي الله عنها) حدثني بذلك عبد الله وكان في ذلك الجيش].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في دعاء المشركين.
وقد سبق نظير هذه الترجمة فيما مضى، وتلك الترجمة أورد فيها أنهم يدعون إلى الإسلام، وأورد في حديث بريدة بن الحصيب الذي فيه: (إذا لقيت عدوك المشركين فادعهم إلى ثلاثة خصال أو خلال وادعهم إلى الإسلام ثم إلى الجزية ثم قاتلهم) وهنا أورد نفس الترجمة، إلا أن تلك الترجمة في كونهم يدعون قبل القتال، وفي هذه الترجمة أنهم لا يدعون، وإنما يقاتلون بدون دعوة لهم، وذلك أن الدعوة في حق من لم تبلغهم متعينة، وأما من بلغتهم فإنها تكون مستحبة ولا تكون واجبة، لأن عندهم علم سابق بالشيء الذي يقاتل الناس عليه، والشيء الذي يغزون من أجله.
فعلى هذا يكون معنى الترجمتين وإن كانتا بلفظ واحد: أن الترجمة الأولى في كونهم يدعون، وذلك في حال الوجوب حيث لم تصل إليهم الدعوة ولم تبلغهم، فيدعون إلى الشيء الذي يقاتلون عليه، وأما إذا بلغتهم الدعوة، وعرفوا أن المسلمين يغزون الكفار من أجل أن يدخلوا في دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فهنا لا تكون الدعوة واجبة ولكنها مستحبة، إن أتي بها فحسن وهو تأكيد، وإن لم يؤت بها فإن الأصل موجود من قبل.
فالترجمة السابقة فيها حصول الدعوة، وأنه لا قتال قبل الدعوة، والترجمة اللاحقة فيها أن القتال يكون بدون دعوة؛ لأنه قد سبق أن حصلت الدعوة، فكان قتالهم ليس خالياً من الدعوة أصلاً، ولكن الدعوة موجودة من قبل فاكتفي بها، وإن أتي بها فهي مستحبة، أي: كونهم يدعون مرة أخرى.
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عون أنه كتب إلى نافع مولى ابن عمر يسأله عن دعاء المشركين عند القتال يعني: هل يدعون أو لا يدعون، فكتب إليه أن هذا -أي: الدعاء- كان في أول الإسلام حيث كان الناس لا يعرفون البعثة والرسالة، فكان يقاتلهم صلى الله عليه وسلم ويغزوهم في بلادهم ويدعوهم، أما بعد ذلك فإنه حصل من النبي صلى الله عليه وسلم أنه أغار على بعض الجهات التي غزاها صلى الله عليه وسلم دون أن يدعوهم، وذلك لسبق الدعوة، ولوجود الشيء الذي يقاتلون من أجله عندهم من قبل، وهو الدخول في الدين الحنيف، وعدم دخولهم يسوغ قتالهم.
قوله: [(وقد أغار نبي الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون)].
يعني: على غرة وغفلة، وما أرسل إليهم أحداً يدعوهم لأن الدعوة موجودة من قبل، والعلم موجود عندهم من قبل، ولم يكونوا ممن لم تبلغهم الدعوة، بل بلغتهم الدعوة من قبل.
قوله: (وهم غارون)، أي: في غفلة وغرة ونعمهم تسقى على الآبار.
قوله: [(فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم)].
أي: قتل الذين يقاتلون، وسبى السبي الذين هم النساء والصبيان والذرية الذين ليسوا من أهل القتال.
قوله: [(وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث)].
أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها، إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم.
قوله: [حدثني بذلك عبد الله وكان في ذلك الجيش].
لما كتب له بذلك يخبره بالحديث أسنده بعد ذلك فقال: حدثني بذلك عبد الله بن عمر وكان في ذلك الجيش الذي هو في غزوة بني المصطلق.
[قال أبو داود: هذا حديث نبيل، رواه ابن عون عن نافع، ولم يشركه فيه أحد].
(هذا حديث نبيل) أي: جيد، من النبل وهو الجودة، رواه ابن عون عن نافع، ولم يشركه فيه أحد، وكما هو معلوم أن الراوي لا يؤثر انفراده فإنه يكون حجة وعمدة، ومعلوم أن هناك أحاديث كثيرة في الصحيحين وفي غيرهما جاءت من طريق واحد، وهي معتبرة، ومنها أول حديث في صحيح البخاري، وآخر حديث في صحيح البخاري، ففي فاتحة البخاري وخاتمته حديثان غريبان جاءا من طريق واحد، فالذي جاء في أول الصحيح حديث: (إنما الأعمال بالنيات) رواه عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه عن عمر: علقمة بن وقاص الليثي، وهو من كبار التابعين، ورواه عن علقمة: محمد بن إبراهيم التيمي، وهو من أوساط التابعين، ورواه عن محمد بن إبراهيم التيمي: يحيى بن سعيد الأنصاري وهو من صغار التابعين، ثم بعد ذلك كثر الرواة بعد يحيى بن سعيد، وهو من فوق يحيى بن سعيد كان غريباً، ما جاء إلا من طريق واحد.
وآخر حديث في صحيح البخاري: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)، جاء من طريق أبي هريرة، ورواه عن أبي هريرة أبو زرعة بن عمرو بن جرير، ورواه أيضاً عنه آخر، ثم اتسع بعد ذلك.(311/21)
تراجم رجال إسناد حديث (وقد أغار نبي الله على بني المصطلق وهم غارون)
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسماعيل بن إبراهيم].
إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم المشهور: بـ ابن علية، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن عون].
وهو: عبد الله بن عون، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[كتبت إلى نافع].
نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله].
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(311/22)
شرح حديث (أن النبي كان يغير عند صلاة الصبح)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا ثابت عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغير عند صلاة الصبح، وكان يتسمع، فإذا سمع أذاناً أمسك وإلا أغار)].
أورد أبو داود حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغير عند صلاة الصبح أي: في أول النهار، وقد سبق أن مر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي بأن يكون القتال في أول النهار.
فأورد هنا حديث أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتسمع فإذا سمع أذاناً فإنه يمسك)، أي: عن القتال؛ لأن هذا شعار الإسلام، ودليل على أن أهل البلد مسلمون فلا يغزوهم.
والترجمة مناسبة للحديث في كونه لا توجد دعوة، وإنما استدل على إسلامهم أو عدم إسلامهم بالأذان، لأنه إذا رفع فيهم الأذان فمعناه أنهم قد أسلموا، وإذا لم يرفع الأذان فإنه يغير بدون دعوة، لكن كما هو معلوم أن الدعوة موجودة من قبل، وهو مثل حديث قصة بني المصطلق ومن جنسه، لأنه هنا قال: (وإلا أغار) أي: حيث لا يجد شعار الإسلام، وذاك ذكر أنه أغار عليهم وهم غارون.(311/23)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي كان يغير عند صلاة الصبح)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
وهو: ابن سلمة بن دينار البصري، ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا ثابت].
ثابت بن أسلم البناني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس رضي الله عنه، وقد مر ذكره.
وهذا الإسناد من أعالي الأسانيد عند أبي داود؛ لأنه رباعي.(311/24)
شرح حديث (إذا رأيتم مسجداً أو سمعتم مؤذناً فلا تقتلوا أحداً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن ابن عصام المزني عن أبيه رضي الله عنه قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فقال: إذا رأيتم مسجداً أو سمعتم مؤذناً فلا تقتلوا أحداً)].
أورد أبو داود حديث عصام المزني رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهم في سرية فقال: إذا رأيتم مسجداً أو سمعتم مؤذناً فلا تقتلوا أحداً)، وهو مثل الذي قبله من جهة أنه إذا وجد شعار الإسلام وسمع الأذان، فإن ذلك يدل على إسلام القوم فلا يغار عليهم، وإن لم يكن كذلك فإنه يغار عليهم؛ لأنه ما وجد الشعار، ومعلوم أن هذا إنما كان بعد أن عرفت الدعوة وانتشرت وحصلت، فتكون الدعوة سابقة.(311/25)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا رأيتم مسجداً أو سمعتم مؤذناً فلا تقتلوا أحداً)
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور حدثنا سفيان].
سعيد بن منصور مر ذكره.
وسفيان هو: ابن عيينة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق].
عبد الملك بن نوفل بن مساحق، وهو مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن ابن عصام المزني].
ابن عصام المزني وهو لا يعرف فهو مجهول الحال، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبيه].
عصام، وهو صحابي، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
والحديث ضعفه الألباني، لكنه بمعنى الحديث المتقدم مع زيادة ذكر المسجد.(311/26)
ما جاء في المكر في الحرب(311/27)
شرح حديث (الحرب خدعة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب المكر في الحرب.
حدثنا سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن عمرو أنه سمع جابراً رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الحرب خدعة)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب المكر في الحرب.
يعني: كون المسلمين يمكرون بالكفار، بمعنى أنهم يأتون بالحيل التي تجعلهم لا يعرفون شيئاً عن أحوالهم وعتادهم وقوتهم، وهذا هو المقصود بالمكر.
وأورد أبو داود حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحرب خدعة) والخدعة: المقصود بها المكر، يعني: كونهم يمكرون بهم حتى ينخدعوا بما يشاهدونه ويعاينونه؛ فيترتب على ذلك ضعفهم وهزيمتهم، أي: الكفار.
ومن الأشياء التي هي خدعة في الحرب التورية التي كان يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي أوردها أبو داود تحت هذه الترجمة وفي قصة غزوة تبوك، وأنه إذا كان يريد غزوة يوري بغيرها، حيث يخفي الأمر على الكفار، فلا يتهيئون ولا يستعدون للقاء الرسول صلى الله عليه وسلم.(311/28)
تراجم رجال إسناد حديث (الحرب خدعة)
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن عمرو].
سعيد بن منصور وسفيان مر ذكرهما.
وعمرو هو ابن دينار المكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي جليل، أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث من الأسانيد العالية عند أبي داود لأنه رباعي.(311/29)
شرح حديث (أن النبي كان إذا أراد غزوة ورى غيرها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبيد حدثنا ابن ثور عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد غزوة ورى غيرها وكان يقول: الحرب خدعة)].
أورد أبو داود حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد غزوة ورى غيرها)] وكان ذلك في غزوة تبوك.
وكعب بن مالك رضي الله عنه معروف حديثه الطويل في غزوة تبوك، وفي ذكر التورية، وأنه كان عليه الصلاة والسلام إذا أراد غزوة ورى بغيرها، فإذا كان سيغزو إلى جهة الجنوب يسأل عن جهة الشمال، ويسأل عن الطرق والمياه في جهة الشمال، فالاستعداد موجود، فهم يستعدون للحرب، ولكن لا يعرفون الجهة، فهو يريد الجنوب فيسأل عن الطريق من جهة الشمال والمياه في جهة الشمال وغيرها، فالذي يسمع هذه الأسئلة يظن أنه سيذهب إلى جهة الشمال، فهذه من التورية والخدعة والمكر الذي يكون في الحرب.
(كان إذا أراد غزوة ورى غيرها)، وفي غزوة تبوك لم يور النبي صلى الله عليه وسلم، بل أعلن بأنه سيغزو الروم، واستنفر الناس ولما أراد صلى الله عليه وسلم أن يذهب إلى مكة عام الفتح أخفى ذلك، ولما حصل إرسال حاطب بن أبي بلتعة المرأة التي معها الكتاب أطلع الله نبيه على ذلك، وألحق بها من أتى بالكتاب، لأنه كان لا يريد أن يعلم أهل مكة أنه سيذهب إليهم، لكن في غزوة تبوك أعلن بأنه سيغزو، وأن الناس يستعدون لذلك، وذلك لأن المسافة بعيدة، والعدو كبير، والحر شديد، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يكون الاستعداد والتهيؤ الكامل لهذه الأسباب التي هي: بعد المسافة، وكثرة العدو، وقلة الظهر، وشدة الحر.
والنبي لم يقل: إنني سأذهب إلى جهة الشمال، وهو يريد الجنوب، وإنما يسأل مجرد أسئلة، يريد أن يصرف الأنظار عن الجهة التي سيذهب إليها، فكان من يسمع الأسئلة يظنه سيذهب إلى الجهة التي يسأل عنها وهو سيذهب إلى جهة أخرى غيرها، فهذه هي التورية، وكان يقول: (الحرب خدعة)، أو خُدعة يعني: وهذه التورية من الخدعة.(311/30)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي كان إذا أراد غزوة ورى غيرها)
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد].
محمد بن عبيد يحتمل أن يكون ابن حساب ويحتمل أن يكون المحاربي لأن أبا داود روى عنهما جميعاً، وشيخهما محمد بن ثور رويا عنه جميعاً.
أما محمد بن عبيد بن حساب الغبري فهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
ومحمد بن عبيد المحاربي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وعلى كل: الأمر دائر بينهما؛ لأن كلاً منهما تلميذ لـ ابن ثور، وكل منهما روى عنه أبو داود، وهو محتمل هذا وهذا، محمد بن عبيد المحاربي كوفي، ومحمد بن عبيد بن حساب الغبري بصري.
ومحمد بن ثور صنعاني، من صنعاء دمشق أو صنعاء اليمن، وصنعاء دمشق هي قرية قريبة من دمشق يقال لها صنعاء، ولهذا يميزونها أحياناً بأن يقولوا: صنعاء دمشق، ولكن عند الإطلاق يراد صنعاء اليمن.
[حدثنا ابن ثور].
محمد بن ثور، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
وهو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك].
عبد الرحمن بن كعب بن مالك، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه، وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا، وتاب الله عليهم في قول الله عز وجل {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118] وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(311/31)
بيان انفراد معمر بلفظ (الحرب خدعة) عن كعب
[قال أبو داود: لم يجئ به إلا معمر يريد قوله: (الحرب خدعة)، بهذا الإسناد، إنما يروى من حديث عمرو بن دينار عن جابر، ومن حديث معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه].
ثم قال أبو داود: لم يأت به، يعني قوله: (الحرب خدعة)، أما قضية التورية فهي معروفة في حديث جابر.
فقوله: [وكان يقول: (الحرب خدعة)] لم يأت به إلا معمر بهذا الإسناد، وقد جاء لفظ: (الحرب خدعة) من حديث جابر الذي تقدم، ومن حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وهو ثابت، ولكن روايته في هذا الحديث فيها شيء؛ لأنها لم تأت إلا من هذا الطريق الذي هو طريق معمر، والذين رووا حديث كعب بن مالك ما ذكروا: (الحرب خدعة)، فيحتمل أن تكون من كلام كعب يبين أن هذه التورية التي جاءت مضافة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة وحديث جابر فهذا الذي جاء في حديث كعب هو من أمثلة الخدعة، أي: أنه يوري.
قوله: [إنما يروى من حديث عمرو بن دينار عن جابر].
أي: الذي مر.
قوله: [ومن حديث معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه].
معمر مر ذكره، وهمام بن منبه ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(311/32)
التورية ليست من الكذب
والتورية ليست من الكذب، وإنما هي صدق، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يذهب إلى جهة الجنوب يسأل عن أماكن في جهة الشمال، فأي كذب في هذا؟! ليس هناك كذب، وإنما فيه قطع الطريق أمام العدو بحيث إنه تصل إليه الأخبار معكوسة؛ لأنه قد يكون له جواسيس، فإذا علم بأن الأسئلة إلى جهة أخرى يأمن ولا يستعد، بسبب هذه التورية.
وكونه يسأل عن جهة الشمال وهو يريد الجنوب ليس كذباً؛ لأنه يسأل عن الموارد والمسالك والطرق في الجهة المقابلة، وهذه تورية وهي صدق.
وأحياناً تكون التورية بأن الإنسان يريد شيئاً وغيره يفهم شيئاً آخر، فالمتكلم صادق فيما يقول؛ لكن غيره فهم شيئاً آخر، مثل تورية أم سليم لـ أبي طلحة لما جاء وقد مات ابنه، ولكنها ما أرادات أن تزعجه فسأل عنه فقالت: إنه قد سكنت نفسه واستراح، ففهم أنه قد خف مرضه، وهي تريد أنه انتهى نفسه، وخرجت روحه، فكلامها صحيح، فهي تريد شيئاً وهو فهم شيئاً آخر، وكذلك لفظ: (استراح) يفهم منه أنه حصلت له راحة وهدوء، وخف المرض عنه، وهي تريد أنه فاضت روحه، فالتورية يكون القائل فيها صادقاً في قوله، والذي يسمعه يفهم شيئاً آخر.
كذلك ما يذكر عن بعض العلماء في فتنة خلق القرآن، فمنهم من امتنع من القول بخلق القرآن كالإمام أحمد، ومنهم من ورى، ومن الذين وروا قال: أشهد أن القرآن والتوراة والإنجيل والزبور هؤلاء كلهن مخلوقات.
ويشير بأصابعه، يعني: الأربع هؤلاء مخلوقات، فهذه تورية، لأنه أراد الأصابع، وذاك يفهم أنه يريد الكتب السماوية، فالتورية ليست كذباً، فالإنسان صادق في قوله، ولكنه في بعض المواضع قد يفهم خلاف ما يريده الإنسان، فهو يريد شيئاً وغيره يفهم شيئاً آخر، وتوجد أمثلة كثيرة للتورية جاءت في الأحاديث.
ومن ذلك قصة غزوة بدر لما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رجل فقال: من أين أنتم؟ قال: (نحن من ماء) فالكلام صحيح أنه من ماء.
وأما الإكثار منها فإنه لا يصلح، فالإتيان بها لا يكون إلا عند الحاجة، أما كون الإنسان يأتي بها من غير حاجة فلا يصلح، أما إذا كان من حاجة كالإكراه أو ككون الإنسان يريد أن يتخلص من إنسان ابتلي به، فلا بأس أن يأتي بشيء يوري فيه، كالذي حصل من أم سليم مع أبي طلحة رضي الله تعالى عنهما، أما كون الإنسان تكون عادته التورية من غير حاجة فهذا لا ينبغي.(311/33)
ما جاء في البيات(311/34)
شرح حديث (أمر علينا رسول الله أبا بكر فغزونا ناساً من المشركين فبيتناهم نقتلهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في البيات.
حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الصمد وأبو عامر عن عكرمة بن عمار حدثنا إياس بن سلمة عن أبيه رضي الله عنه قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا أبا بكر رضي الله عنه فغزونا ناساً من المشركين فبيتناهم نقتلهم، وكان شعارنا تلك الليلة: أمت أمت، قال سلمة: فقتلت بيدي تلك الليلة سبعة أهل أبيات من المشركين)].
أورد أبو داود حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليهم أبا بكر رضي الله عنه في غزوة من الغزوات.
قوله: [(فغزونا ناساً من المشركين فبيتناهم نقتلهم)].
يعني: أنهم هاجموهم بالليل وهم بائتون وفي قصة بني المصطلق قال: (وهم غارون) وهنا قال: (وهم بائتون) يعني: هجموا عليهم في البيات، ومعلوم أن هذا بعد بلوغ الدعوة، وليس لمن لم تبلغهم الدعوة كما عرفنا.
قوله: (وكان شعارنا تلك الليلة: أمت أمت).
يعني: هذا الشعار الذي بينهم ليعرف به بعضهم بعضاً، فهي كلمة يتواطئون عليها بحيث إن كل واحد يعرف صاحبه إذا كان في ظلام أو في اختلاط بأن يقول الكلمة فيعرف أنه من أصحابه حتى لا يقتل، فكان الواحد إذا لقي أحداً يقول: أمت أمت، وهذا قد سبق في باب الشعار، والشعار: علامة يتواطئون عليها، وقد مرت جملة أحاديث منها هذا الحديث الذي هو: (أمت أمت).
قوله: [قال سلمة: فقتلت بيدي تلك الليلة سبعة أهل أبيات من المشركين].
يعني: سبع أسر.(311/35)
تراجم رجال إسناد حديث (أمر علينا رسول الله أبا بكر فغزونا ناساً من المشركين فبيتناهم نقتلهم)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا عبد الصمد].
عبد الصمد بن عبد الواحد، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأبو عامر].
أبو عامر العقدي وهو عبد الملك بن عمرو، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة بن عمار].
عكرمة بن عمار، وهو صدوق يغلط، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا إياس بن سلمة].
إياس بن سلمة بن الأكوع، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(311/36)
شرح سنن أبي داود [312]
شرع الجهاد في الإسلام لتكون كلمة الله هي العليا، ولإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وليس لمصالح دنيوية، ولهذا فإذا أسلم الكفار صاروا إخوة للمسلمين، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، ولا يكرهوا على الدين، ولكن يخيروا بين الإسلام أو الجزية أو القتال.(312/1)
ما جاء في لزوم الساقة(312/2)
شرح حديث: (كان رسول الله يتخلف في المسير فيزجي الضعيف ويردف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في لزوم الساقة.
حدثنا الحسن بن شوكر حدثنا إسماعيل بن علية حدثنا الحجاج بن أبي عثمان عن أبي الزبير أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما حدثهم قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف في المسير فيزجي الضعيف، ويردف، ويدعو لهم)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في لزوم الساقة.
يعني: مؤخر الجيش والمراد: أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم وراء الجيش لينظر من ضعف مركوبه أو ضعف هو لكونه يمشي وليس عنده مركوب، وكذلك إذا رأى انهزاماً أو فراراً، فعندما يجد هذا المنهزم القائد أو الإمام في المؤخرة يكون ذلك دافعاً له أو مانعاً له من أن يحصل الانفلات والفرار وغير ذلك من الأسباب التي تترتب على لزوم الإمام للساقة.
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخلف في المسير) يعني: يكون في آخر الركب وفي آخر الجيش.
(يزجي الضعيف) يعني: المركوب الذي يكون ضعيفاً يسوقه.
(ويردف الضعيف) أي: إذا كان هناك شخص يمشي يحمله ويجعله يركب وراءه، أو يقول: اركب وراء هذا، فيكون من فوائد ذلك أنه يسوق المركوب الذي قد ضعف، ويردف من كان ضعيفاً يمشي، ويدعو للجيش عموماً، ويدعو لهؤلاء الضعفة خصوصاً.(312/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان رسول الله يتخلف في المسير فيزجي الضعيف ويردف)
قوله: [حدثنا الحسن بن شوكر].
الحسن بن شوكر صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا إسماعيل بن علية حدثنا الحجاج بن أبي عثمان].
ابن علية مر ذكره، والحجاج بن أبي عثمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر رضي الله عنه قد مر ذكره.(312/4)
على ما يقاتل المشركون(312/5)
شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب على ما يقاتل المشركون.
حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله تعالى)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب على ما يقاتل المشركون، يعني: على أي شيء يقاتلون؟ يقاتلون لكونهم كفاراً إلا إذا حصل منهم الدخول في هذا الدين، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاتان الشهادتان متلازمتان لا بد منهما: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
والنبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: (أمرت)، أو (نُهيت) فالآمر له هو الله سبحانه وتعالى، وأما الصحابة إذا قالوا: أمرنا أو نهينا فالآمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، (إذا قالوها) يعني: دخلوا في الإسلام فعصموا أموالهم وأنفسهم بذلك، عصموا أنفسهم من القتل وأموالهم من الأخذ والغنيمة.
وقوله: (إلا بحقها) أي: بحق هذه الكلمة التي هي لا إله إلا الله وهو مقتضاها.
قوله: (إلا بحقها).
يمكن أن يرجع إلى الشهادة وأن مقتضاها الأخذ بما تتطلبه من الصلاة والصيام وما إلى ذلك، ويمكن أن يكون المقصود حق الأنفس والأموال في أن القتل إنما يكون إذا أسلم، فلا يقتل بسبب الكفر؛ لأنه سلم من الكفر بإسلامه وبإظهار الشهادة، ولكنه يقتل بكونه مستحقاً للقتل بعد أن يسلم إذا كان قصاصاً أو غير ذلك مما يكون مستحقاً به القتل، وكذلك المال يكون فيه معصوماً إلا إذا امتنع من الحق الذي عليه في ماله فإنه يؤخذ منه.
(وحسابهم على الله) يعني: نحن لنا الظاهر والبواطن علمها عند الله عز وجل، فلم نؤمر أن نشقق ما في القلوب ونعرف ما فيها؛ لأن ذلك من علم الله عز وجل، ولكن لنا الظاهر، وهو: أن من أظهر الإسلام قبلنا منه، والله تعالى هو الذي يتولى حسابهم سواء اتفق الظاهر والباطن أو أن الظاهر يكون على خلاف الباطن، والناس ليس لهم إلا الظاهر، والباطن علمه إلى الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:25 - 26] فإذا دخل في الإسلام، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإنه يعصم نفسه بذلك، وإذا كان قال ذلك نفاقاً فأظهر الإسلام وأبطن الكفر فالله تعالى هو الذي يتولاه، والمنافق النفاق الاعتقادي في الدرك الأسفل من النار كما جاء ذلك في القرآن الكريم.
وحديث أبي هريرة أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجة، فهو في الكتب كلها.
كذلك جاء الحديث عن ابن عمر ولم يذكره أبو داود هنا، وإنما هو في الصحيحين: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) بمعنى حديث أبي هريرة، والحافظ ابن حجر في فتح الباري قال: إن هذا الحديث من غرائب الصحيح، يعني: كونه جاء من طريق واحد، يعني حديث ابن عمر قال: وقد خلا منه مسند الإمام أحمد على سعته، ومعلوم أن الحديث عند العلماء باعتبار الصحابي يكون متفقاً عليه، وعندما ينفرد به مسلم إنما هو باعتبار الصحابي، وليس معناه أن المتن يكون موجوداً عن صحابي وصحابي، وقد يكون مسلم رواه من طريق صحابي غير الصحابي الذي رواه البخاري من طريقه، والمتفق عليه أن يكون البخاري ومسلم روياه من طريق صحابي واحد مثل حديث جبريل المشهور اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديث أبي هريرة، وانفرد مسلم بإخراجه من حديث عمر، فهو من أفراد مسلم عن عمر، وهو من المتفق عليه عن أبي هريرة، وهنا يقول الحافظ ابن حجر: إن حديث ابن عمر - (أمرت أن أقاتل الناس) - المتفق على صحته من غرائب الصحيح، وقد خلا منه مسند الإمام أحمد على سعته، مع أن حديث أبي هريرة الذي بمعناه موجود فيه.
وكما عرفنا أن الرواية تكون باعتبار الصحابي، فإن مسند الإمام أحمد موجود فيه حديث أبي هريرة هذا، لكن الذي لا يوجد في مسند الإمام أحمد حديث ابن عمر فالحديث يعتبر متفقاً عليه، ويعتبر فرداً من حيث الصحابي.(312/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو معاوية].
محمد بن خازم الضرير الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
وهو: ذكوان ولقبه: السمان المدني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(312/7)
شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن يستقبلوا قبلتنا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني حدثنا عبد الله بن المبارك عن حميد عن أنس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو موافق لحديث أبي هريرة المتقدم، ويختلف عنه في بعض الأمور.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله).
يعني أن يأتوا بالشهادتين: الشهادة لله بالوحدانية، ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وهاتان الشهادتان متلازمتان لا بد منهما، فلا تكفي شهادة أن لا إله إلا الله عن شهادة أن محمداً رسول الله، ومن أتى بالشهادة لله بالوحدانية ولم يأت بالشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة فإن ذلك لا ينفعه؛ لأن دين الإسلام مبني على هاتين الشهادتين، ومقتضاها الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإخلاص هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، والمتابعة هي مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وأن يستقبلوا قبلتنا).
يعني أن يتجهوا إلى القبلة التي نصلي إليها وهي الكعبة، أي على من دخلوا ديننا أن يستقبلوا قبلتنا، ولا يستقبلوا القبلة التي كانوا يستقبلونها قبل إسلامهم، مثل اليهود والنصارى وغيرهم.
قوله: (وأن يصلوا صلاتنا).
أي: يصلون الصلاة التي فرضها الله على المسلمين، وليست الصلاة التي كانت عندهم في كفرهم قبل إسلامهم، وإنما يستقبلون قبلة المسلمين ويصلون صلاة المسلمين.
قال: [(فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها)].
قوله: (إلا بحقها) أي: بحق دمائهم وأموالهم، بحيث يكونون مستحقين لأن يقتلوا إذا فعلوا ما يوجب قتلهم، وكذلك يؤخذ منهم زكاة أموالهم.
قوله: [(لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين)].
أي: لهم ما للمسلمين من الحقوق، وعليهم ما على المسلمين من الواجبات.(312/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن يستقبلوا قبلتنا)
قوله: [حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني].
سعيد بن يعقوب الطالقاني أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الله بن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك المروزي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد].
هو حميد بن أبي حميد الطويل، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك رضي الله خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مر ذكره.
وهذا الإسناد من أعالي الأسانيد عند أبي داود التي هي الرباعيات.(312/9)
شرح حديث: (أمرت أن أقاتل المشركين) وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب عن حميد الطويل عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أمرت أن أقاتل المشركين) بمعناه].
أورد المصنف حديث أنس من طريق أخرى، وفي الحديث السابق: (أمرت أن أقاتل الناس) وهنا قال: (المشركين).
وقوله: بمعناه أي: بمعنى الحديث المتقدم عن أنس رضي الله عنه.
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
هو سليمان بن داود المهري المصري، ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يحيى بن أيوب].
هو يحيى بن أيوب المصري، وهو صدوق ربما أخطأ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد الطويل عن أنس].
حميد بن أبي حميد الطويل وأنس قد مر ذكرهما.(312/10)
شرح حديث أسامة في قتله من قال: (لا إله إلا الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي وعثمان بن أبي شيبة المعنى قالا: حدثنا يعلى بن عبيد عن الأعمش عن أبي ظبيان حدثنا أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية إلى الحرقات، فنذروا بنا فهربوا، فأدركنا رجلاً، فلما غشيناه قال: (لا إله إلا الله) فضربناه حتى قتلناه، فذكرته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟! فقلت: يا رسول الله! إنما قالها مخافة السلاح! قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا؟! من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟! فما زال يقولها حتى وددت أني لم أسلم إلا يومئذ)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهم في سرية إلى الحرقات -وهم من جهينة- فنذروا بهم -أي: أخبروا بغزوهم- فهربوا، فأدركوا رجلاً منهم، فلما لحقوه قال: (لا إله إلا الله) فقتلوه، وكانوا يرون أنه إنما قال ذلك خوفاً من السلاح بعد أن رفعوه عليه، ولما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم، وقال لـ أسامة: (من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟!) أي: بأي شيء تدفع هذا الإيراد وهذا الكلام في كونك تقتل مسلماً يقول: لا إله إلا الله؟! فقال: إنما قالها خوفاً من السيف.
يعني: خوفاً من القتل، فقال عليه الصلاة والسلام: ألا شققت عن قلبه لتعرف هل قالها خوفاً من السلاح أو لا؟! فقال أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه: وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ.
وهذا الحديث يدل على أن الناس لهم الظاهر، وأن من أظهر الإسلام فإنه يقبل منه، والبواطن علمها عند الله عز وجل، وعلمها موكول إلى الله سبحانه وتعالى، لكن من قال: (لا إله إلا الله) فإنه يكف عنه؛ لأن هذا هو الشيء الظاهر الذي يعرف به أن الإنسان المقاتل يكون مسلماً.
قوله: [بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية إلى الحرقات].
السرية قطعة من الجيش تذهب وتعود إلى الجيش.
والحرقات من جهينة.
قوله: [فنذروا بنا فهربوا].
يعني: أُنِذرُوا وأخبروا ووصلهم العلم بأنهم مغزوون فهربوا.
قوله: [فأدركنا رجلاً فلما غشيناه قال: (لا إله إلا الله) فضربناه حتى قتلناه].
يعني أنهم لما رفعوا عليه السيف قال: (لا إله إلا الله) ففهموا أنه قال ذلك خوفاً من السيف فقتلوه وقد قال: (لا إله إلا الله).
والمقصود من الترجمة أن الكفار يقاتلون على التوحيد، وأنهم إذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يكف عنهم، والناس ليس لهم إلا الظاهر، يكتفون بالظاهر وعلم البواطن موكول إلى الله سبحانه وتعالى الذي يعلم السر والعلانية ويعلم الغيب والشهادة سبحانه وتعالى.
قوله: [فذكرته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟!)].
أي: لما ذكر أسامة بن زيد رضي الله عنه ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟!) يعني: بأي شيء تجيب عن كونك قتلت مسلماً يقول: (لا إله إلا الله) وقد أظهر الإسلام ثم بعد ذلك تقتله وهو لا يستحق القتل، وليس لك حق قتله؛ لأن القتال إنما هو على التوحيد وقد وجد منه التوحيد؟! وهذا كما هو معلوم إنما هو بحسب الظاهر، وأما البواطن فإنها موكولة إلى الله سبحانه وتعالى.
قوله: [فقلت: يا رسول الله! إنما قالها مخافة السلاح!].
هذا هو الذي بنى عليه أسامة رضي الله عنه ومن معه هذا الفعل الذي فعلوه، وهو أنه إنما قالها مخافة السلاح.
قوله: قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا؟! هنا وبخه وبين له أن مثل ذلك أمور غيبية، والغيب لا يطلع إليه إلا الله ولا يعلمه إلا الله، وما في القلوب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فقال: ألا شققت عن قلبه لتعرف هل قالها مخافة السلاح أم قالها مؤمناً مسلماً يريد وجه الله عز وجل ولم يكن خائفاً؟! قوله: [(من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟!) فما زال يقولها حتى وددت أني لم أسلم إلا يومئذ].
أي: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر هذه الكلمة حتى قال أسامة بن زيد: وددت أني لم أكن أسلمت إلا ذلك اليوم.
وذلك لأن الإسلام يجب ما قبله، ويكون هذا الذي حصل منه يجبه الإسلام ويخلص منه بالدخول في الإسلام، والإسلام يجب ما قبله ويهدم ما كان قبله، كما جاء في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه في صحيح مسلم الذي فيه أنه لما جاء وأراد أن يسلم ومد يده إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه ويعلن إسلامه، قبض عمرو يده بعد أن مد رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال له: (لماذا يا عمرو؟ قال: أردت أشترط.
قال: وماذا تشترط؟ قال: أن يغفر لي.
قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله) فـ أسامة رضي الله عنه يقول: وددت أني لم أكن أسلمت إلا ذلك اليوم.
يعني: حتى يكون هذا الصنيع الذي أنكره علي النبي صلى الله عليه وسلم ممحوّاً بدخولي في الإسلام.(312/11)
تراجم رجال إسناد حديث أسامة في قتله من قال: (لا إله إلا الله)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[وعثمان بن أبي شيبة].
هو عثمان بن أبي شيبة الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي، فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا يعلى بن عبيد].
يعلى بن عبيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي ظبيان].
هو حصين بن جندب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أسامة بن زيد].
هو أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(312/12)
سبب درء القصاص عن أسامة وقد قتل مسلماً عمداً
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقتل النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد قصاصاً؟ ف
الجواب
لعل الرسول صلى الله عليه وسلم عذره لأنه فهم أن من قال ذلك يكون مستحقاً القتل لأنه إنما قال ذلك خوفاً من القتل ولم يقله رغبة وقصداً في الدخول في الإسلام، وإنما قاله تعوذاً.
وقد قال بعض أهل العلم: لعل ذلك حصل في وقت لا ينفع معه الإيمان.
يعني مثل ما حصل لفرعون حين أعلن الإسلام عند حضور الأجل ومعاينته الموت، ومع ذلك ما نفعه إسلامه، فقالوا: إن هذا الذي حصل منه الدخول في الإسلام إنما قال ذلك لما أشرف على الهلاك ورأى أنه هالك، فقالوا: إنه لا ينفعه.
ولكن القول الأول أولى، فهم قتلوه ظناً منهم أنه قال ذلك لما غشوه بالسلاح تعوذاً وخوفاً من القتل، وأنهم محقون في قتلهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم عذرهم في ذلك فلم يوجب عليهم القصاص.
وقد أشار الخطابي إلى معنىً آخر، وهو أنه يشبه أن يكون المعنى فيه أن الأصل في دماء الكفار الإباحة، وهذا الذي أشار إليه الخطابي يصح اعتباره في الحرب، فالأصل أن دماءهم في الحرب على الإباحة، وأما إذا كانوا أهل ذمة أعطوا الجزية وكانوا تحت حكم الإسلام أو كانوا مستأمنين فليس الأصل حينئذٍ هو الإباحة.(312/13)
شرح حديث النهي عن قتل الكافر بعد قوله أسلمت لله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد عن الليث عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن عبيد الله بن عدي بن الخيار عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه أنه أخبره أنه قال: يا رسول الله! أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله.
أفأقتله -يا رسول الله- بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقتله.
فقلت: يا رسول الله! إنه قطع يدي! قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال)].
أورد أبو داود حديث المقداد بن الأسود رضي الله تعالى عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت يا رسول الله إن لقيت رجلاً من المشركين وقطع يدي فلحقته فلاذ مني بشجرة، ثم قال: أسلمت لله -يعني أنه دخل في الإسلام ودخل في هذا الدين الحنيف- أفأقتله؟ قال: (لا تقتله)، قال: إنه قطع يدي! قال: [(لا تقتله؛ فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله)].
يعني: أنت معصوم الدم، وكذلك هو بمنزلتك معصوم الدم بعد أن قال: (لا إله إلا الله) فأنت معصوم الدم لأنك مسلم، وهذا -أيضاً- بعد أن قال: (لا إله إلا الله) صار معصوم الدم، فصار بمنزلتك.
وقوله: [(وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال)].
يعني: أنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته، بمعنى أنك تستحق القتل، إلا أن قتله كان من أجل الكفر وأنت قتلك من أجل القصاص.
وقوله: [لاذ مني بشجرة] أي: هرب مني واستتر بشجرة.(312/14)
تراجم رجال إسناد حديث النهي عن قتل الكافر بعد قوله أسلمت لله
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الليث].
هو الليث بن سعد المصري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن يزيد الليثي].
عطاء بن يزيد الليثي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن عدي بن الخيار].
عبيد الله بن عدي بن الخيار ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو من ثقاة التابعين، وحديثه أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن المقداد بن الأسود].
المقداد بن الأسود هو المقداد بن عمرو رضي الله عنه، ويقال له: المقداد بن الأسود؛ لأن الأسود تبنَّاه فاشتهر بذلك، فكان يقال له: المقداد بن الأسود، وهو المقداد بن عمرو، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(312/15)
النهي عن قتل من اعتصم بالسجود(312/16)
شرح حديث قصة سرية خثعم في قتلهم من اعتصم بالسجود
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود.
حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل.
قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمر لهم بنصف العقل، وقال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين.
قالوا: يا رسول الله! لم؟ قال: لا تراءى ناراهما)].
أورد أبو داود باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، يعني أنه سجد وأظهر ما يدل على إسلامه، ويعني بالترجمة النهي عن قتله وقد وجد منه شيء يدل على إسلامه.
وأورد أبو داود حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه أنه قال: [بعث رسول الله سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود] يعني: لجئوا إلى السجود وسجدوا.
قوله: [فأسرع فيهم القتل].
أي: قتلوهم وهم ساجدون.
قوله: [فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل].
أي: أمر لهم بنصف الدية.
قيل: إنهم كانوا مسلمين، ولكنهم بين الكفار، فقتلوا كما قتل الكفار، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر لهم بنصف العقل، أي: بنصف الدية، ولم يأمر بها كاملة لأنهم بمقامهم مع الكفار صاروا شركاء في حصول الجناية عليهم، فصاروا مثل الذي قتل بفعله وفعل غيره، فالشيء الذي من فعله يسقط لأنه شارك في قتل نفسه، وأما من شارك في قتله فيكون عليه نصف الدية، فلا يتضمن القتل في هذه الحالة.
قوله: [قال: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين)].
يعني هؤلاء قتلوا بسبب وجودهم بين المشركين، وظن المسلمون أنهم منهم.
وقيل: إن اعتصامهم بالسجود ليس دليلاً واضحاً على إسلامهم؛ لأنه يوجد منهم السجود لكبرائهم وكذلك السجود لغير الله عز وجل، فمجرد السجود من الكفار لا يكفي، وإنما الذي يعول عليه هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لكن لما كانوا مسلمين وكانوا بين الكفار وصار لهم مشاركة في أنهم قتلوا بتسبب أنفسهم وبفعل غيرهم صار على الذي حصل منه القتل نصف العقل وليس كله.
وقوله: [(لا تراءى ناراهما)] معناه الإشارة إلى التباعد بين المسلمين والكفار، وأن المسلم لا يكون مع الكفار، بل يكون بعيداً منهم بحيث لا ترى نارُه نارَهم ولا نارُهم نارَه، بمعنى أنهم إذا أوقدوا ناراً وهو أوقد ناراً فإن كلاً لا يرى نار الآخر، وذلك إشارة وكناية عن التباعد بين المسلمين والكفار.
وهذا يدل على البعد عن المشركين وعدم البقاء بين أظهرهم، لكن إذا كان البقاء بين المشركين فيه مصلحة للدعوة إلى الله عز وجل ودعوتهم للإسلام فيكون سائغاً من هذه الناحية، أما إذا كان ليس كذلك، لا سيما إذا كان الإنسان يقيم بين المشركين ولا يتمكن من إظهار شعائر دينه فبقاؤه ضرر كبير عليه، وهو مستحق للوعيد الشديد، لكن إذا كان البقاء من أجل مصلحة تفوق هذه المفسدة، وهي كون بقائه فيه مصلحة للدعوة إلى الله عز وجل وهداية من يهدي الله عز وجل من الكفار على يديه وبسببه فإن هذا لا بأس به.(312/17)
تراجم رجال إسناد حديث قصة سرية خثعم في قتلهم من اعتصم بالسجود
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هو هناد بن السري أبو السري، ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو معاوية].
هو محمد بن خازم الضرير الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسماعيل].
هو إسماعيل بن أبي خالد، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قيس].
هو قيس بن أبي حازم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جرير بن عبد الله].
هو جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(312/18)
اختلاف الرواة في رفع حديث قصة سرية خثعم وتراجم رجال الإسناد
[قال أبو داود: رواه هشيم ومعمر وخالد الواسطي وجماعة لم يذكروا جريراً].
معنى قوله: [لم يذكروا جريراً] أنه مرسل من قيس بن أبي حازم يضيفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون من قبيل المرسل.
قوله: [هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي ثقة مدلس، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومعمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وخالد الواسطي].
هو خالد بن عبد الله الواسطي الطحان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث صححه الألباني إلا فيما يتعلق بالعقل.(312/19)
شرح سنن أبي داود [313]
من أحكام الجهاد تحريم الفرار من الزحف، فهو من أكبر الكبائر، لما يترتب عليه من المفاسد العظيمة، ولكن يجوز الفرار في حالات بينها أهل العلم.
ومن أحكام الجهاد جواز قتل الجاسوس، وقد ذكر العلماء أدلة كل كذلك.(313/1)
حرمة التولي يوم الزحف(313/2)
شرح أثر تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (إن يكن منكم عشرون صابرون)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التولي يوم الزحف.
حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع حدثنا ابن المبارك عن جرير بن حازم عن الزبير بن خريت عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: نزلت {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:65] فشق ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم ألا يفر واحد من عشرة، ثم إنه جاء تخفيف فقال: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} [الأنفال:66] قرأ أبو توبة إلى قوله: ((يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ)) قال: فلما خفف الله تعالى عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم].
أورد أبو داود باباً في التولي يوم الزحف يعني التولي عند التقاء جيوش المسلمين وجيوش الكفار وبدء المعركة.
والفرار والتولي يوم الزحف من الكبائر؛ لأن هذا يسبب الوهن والضعف، ومن أسباب الهزيمة للمسلمين كونه يوجد فيهم من يفر وينهزم، فيكون ذلك سبباً في هزيمة المسلمين، وهذا من الكبائر، وهو من السبع الموبقات التي جاءت في الحديث المتفق على صحته.
وأورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في المصابرة؛ وهو أنه كان في أول الأمر يجب على كل مسلم أن يصابر عشرة من المشركين، فيقف للعشرة ولا ينهزم أمامهم، بل عليه أن يثبت ويصبر، ثم إن الله عز وجل خفف عنهم، وجعل المصابرة من الواحد للاثنين.
فـ ابن عباس رضي الله تعالى عنه ذكر الناسخ والمنسوخ، وقال: إنه لما نقص العدد في المصابرة نقص من الصبر بقدره، بمعنى أنه قبل كان يصابر الواحد عشرة، فصار يصابر اثنين، فنقص العدد ونقصت المصابرة بقدره.(313/3)
تراجم رجال إسناد أثر تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (إن يكن منكم عشرون صابرون)
قوله: [حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع].
هو أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا ابن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك المروزي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جرير بن حازم].
جرير بن حازم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزبير بن خريت].
الزبير بن خريت ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(313/4)
شرح حديث: (بل أنتم العكارون)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا يزيد بن أبي زياد أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حدثه (أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: فحاص الناس حيصة فكنت فيمن حاص.
قال: فلما برزنا قلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ فقلنا: ندخل المدينة فنتثبت فيها ونذهب ولا يرانا أحد.
قال: فدخلنا فقلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن كانت لنا توبة أقمنا، وإن كان غير ذلك ذهبنا.
قال: فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل صلاة الفجر، فلما خرج قمنا إليه فقلنا: نحن الفرارون.
فأقبل إلينا فقال: لا، بل أنتم العكارون.
قال: فدنونا فقبلنا يده فقال: أنا فئة المسلمين)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان في سرية، وأنهم حاصوا حيصة، أي: مالوا ميلة وانحرفوا وانهزموا وفروا، ولما برزوا وابتعدوا عن الكفار وعن المعركة ندموا على ما حصل منهم، وقالوا: إننا تولينا من الزحف.
فرأوا أن يدخلوا المدينة خفية، ثم إنهم بدا لهم أن يعرضوا أمرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان لهم توبة وإلا فإنهم يعودون، فلما جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر أخبروه بالذي قد حصل وقالوا: نحن الفرارون.
فقال: [(لا، بل أنتم العكارون)].
أي: العائدون الذين هم معذورون.
وقوله: [فدنونا فقبلنا يده] فيه تقبيل اليد، وتقبيل اليد جاء فيه أحاديث ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سائغ لمن يستحق أن تقبل يده، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك ديدناً، ولا يصح حين يترتب على ذلك اغترار من الذي تقبل يده أو فتنة، أو غلو من الذي يحصل منه التقبيل، وإلا فإنه في الأصل جائز وثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: [(أنا فئة المسلمين)].
وهذا إشارة إلى الاستثناء في قوله تعالى: ((إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ)) فهذا ليس ممن توعد إذا كان متحرفاً لقتال، والمتحرف للقتال هو الذي يحصل منه شيء من أجل أن يوهم العدو أنه منهزم ثم يكر عليهم، أو يطمع العدو في نفسه حتى يرجع إليهم ويقتلهم، أو ينحرف من جهة إلى جهة في المعسكر، فيذهب من جهة إلى جهة.
والتحيز إلى فئة هو أن يكون هناك جماعة أخرى تقاتل في مكان آخر في مقابل العدو فيذهب إليهم، فيكون فاعلو هذين الأمرين غير مؤاخذين وغير متوعدين بالوعيد.
وإنما المحذور هو الذي يفر لا لهذا ولا لهذا، لا متحرفاً لقتال ولا متحيزاً إلى فئة.
فقوله صلى الله عليه وسلم: [(أنا فئة المسلمين)] يعني أنهم برجوعهم إلى المدينة داخلون في قوله تعالى: ((أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ)) فيكونون بذلك معذورين.
والحديث ضعيف؛ لأن في إسناده يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف.(313/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (بل أنتم العكارون)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يزيد بن أبي زياد].
يزيد بن أبي زياد ضعيف، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه].
عبد الرحمن بن أبي ليلى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن عبد الله بن عمر حدثه].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(313/6)
شرح حديث: نزلت في يوم بدر: (ومن يولهم يومئذٍ دبره)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن هشام المصري حدثنا بشر بن المفضل حدثنا داود عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال: نزلت في يوم بدر ((وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ))].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الذي فيه بيان نزول الآية: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال:16]،فهذه الآية نزلت في غزوة بدر، وأن التولي مذموم ومحرم إلا في حق هذين الصنفين من الناس: المتحرف لقتال والمتحيز إلى فئة.(313/7)
تراجم رجال إسناد حديث: نزلت في يوم بدر: (ومن يولهم يومئذٍ دبره)
قوله: [حدثنا محمد بن هشام المصري].
محمد بن هشام المصري ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا بشر بن المفضل].
بشر بن المفضل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا داود].
هو داود بن أبي هند، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي نضرة].
هو المنذر بن مالك بن قطعة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي سعيد].
هو سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنه، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(313/8)
الأسير يكره على الكفر(313/9)
شرح حديث خباب: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فشكونا إليه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الأسير يكره على الكفر.
حدثنا عمرو بن عون أخبرنا هشيم وخالد عن إسماعيل عن قيس بن أبي حازم عن خباب رضي الله عنه أنه قال: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فشكونا إليه فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فجلس محمراً وجهه فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ثم يؤتى بالمنشار فيجعل على رأسه فيجعل فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء وحضرموت ما يخاف إلا الله تعالى والذئب على غنمه، ولكنكم تعجلون)].
أورد أبو داود باب في الأسير يكره على الكفر يعني كونه مأسوراً ويكره على أن يكون كافراً فيرجع عن الإسلام إلى الكفر، والعياذ بالله.
فكون الأسير يثبت على الإسلام ولو قتل هذا هو الذي يدل عليه حديث خباب بن الأرت، ولو أن إنساناً أكره على الكفر ثم أظهر الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان فإن ذلك ينفعه، ولا يكون كافراً بذلك كما جاء في القرآن الكريم، ولكن كونه يصبر ويثبت على دينه حتى لو قتل فإن هذا يكون أولى؛ حيث يدل على عزة المسلم وعظم شأن إسلامه، وأنه يثبت على الدين ولو قتل في سبيل دينه، ولكنه إن لم يصبر وأراد أن يتخلص من القتل بأن يظهر الكفر مع اطمئنان قلبه بالإيمان ومع كونه إنما يقول ذلك بلسانه دون قلبه فإنه معذور، ولا بأس بذلك.
وأورد أبو داود حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه أنهم جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فقالوا له وقت إيذاء المشركين لهم: [يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟] أي: تطلب النصر لنا من الله عز وجل فيظهرنا على أعدائنا.
فجلس صلى الله عليه وسلم محمراً وجهه من الغضب، فأخبرهم بأن الله عز وجل سيظهر دينه، ولكن الله عز وجل يبتلي المؤمنين بالكفار والكفار بالمؤمنين، والله عز وجل قادر على أن ينصر نبيه بدون قتال وبدون جهاد، ولكنه شاء أن يكون القتال والصراع بين الحق والباطل والمؤمنين والكفار، كما قال الله عز وجل: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4].
فالله عز وجل قادر، ولو شاء أن ينصر المسلمين على الكفار بدون قتال لحصل ذلك، ولكنه شاء أن يبتلى المؤمنون بالكفار ليصلوا إلى ما يصلون إليه بأعمال صالحة وبهمم عالية، فقوله تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد:4] يعني: الكفار ((وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)) يعني: أن الوصول إلى هذه الغاية يكون بتعب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) فالطريق الموصل إلى الجنة فيه تعب ونصب، ويحتاج الإنسان فيه إلى صبر، ولا بد من الصبر على طاعة الله، ولا بد من الصبر عن معاصي الله، ولا بد من الصبر على أقدار الله؛ لأن الجنة حفت بالمكاره، والنار حفت بالشهوات، كما قال ذلك رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [(قد كان من قبلكم)].
يعني في الأمم السابقة كان يؤتى بالرجل فيحفر له حفرة ثم يدفن فيها حتى لا يهرب وحتى لا يفر؛ لأن جسمه قد دفن في الأرض وما بقي إلا رأسه ظاهراً، فيؤتى بالمنشار ويطلب منه أن يرجع عن دينه ويترك دينه، فيأبى ويبقى على دينه فيفلق فلقتين، وكان يؤتى بأمشاط الحديد ثم تحرك على رأس الإنسان فتقطع كل ما تمر به دون العظم من عصب ولحم، كل ذلك من أجل أن يرجع عن دينه فلا يرجع، وهذا أذىً شديد وعذاب عظيم، ومع ذلك كانوا يصبرون، فأنتم مطلوب منكم أن تقاتلوا المشركين وأن تصبروا، والله عز وجل قادر على نصرة أوليائه، ولكنه شاء أن يبتليهم.
قوله: [(والله ليتمن الله هذا الأمر)].
يعني أن الغاية التي تريدونها والأمر الذي تريدونه سيحصل، وهذا من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، وهو أنه يخبر بالأمور المستقبلة والأمور المغيبة فتقع كما أخبر، وكان الصحابة يصدقون بحصولها ووقوعها حينما يبلغهم الخبر بها عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيصدقون ويؤمنون بأن ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام لا بد أن يوجد.
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر الذي يريدونه أنه سيحصل، ولكن الله شاء أن يكون الطريق الموصل إليه فيه تعب وفيه نصب، ولا يحصل بسهولة ويسر بدون أن يتعبوا وبدون أن ينصبوا وبدون أن يتميز من يصبر ممن لا يصبر، ومن يثبت ممن لا يثبت، فقال صلى الله عليه سولم: [(والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء وحضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه)] يعني: لا يخاف إلا الله عز وجل الذي هو النافع الضار والذي لا يحصل نفع إلا بقضائه وقدره، ولا يحصل ضرر إلا بقضائه وقدره، كما قال عليه الصلاة والسلام في وصيته لـ ابن عباس (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بحصول الأمن وأن الراكب سيسافر وحده، بل جاء في بعض الأحاديث أن الضعينة ستسافر وحدها لا تخشى أحداً.
وكذلك لا يخاف إلا الذئب على غنمه، وهذا من الأسباب العادية التي جعلها الله عز وجل من أسباب إلحاق الضرر بالشخص، وهي بقضاء الله وقدره، وفي ذلك بيان أن الأسباب تخشى، ولكن لا تكون خشيتها على اعتبار أن الأمر حاصل منها ومتعلق بها، بل ذلك بقضاء الله وقدره؛ لأنه لا يكون شيء من الأسباب ضاراً إلا وقد جعله الله ضاراً، ولا يكون سبب نافعاً إلا وقد جعله الله نافعاً، وقد يوجد السبب ولا يوجد المسبب، فقد يوجد الذئب، ولكن الله تعالى يعصم ويحفظ الغنم من أن يصل إليها الذئب، وقد يقدر الله عز وجل أن الذئب يصيبها.
قوله: [(ولكنكم تعجلون)] أي: تستعجلون فتريدون أن تحصل الأمور بدون تعب، وتريدون أن يحصل لكم شيء بدون مقابل وبدون نصب، والأمر هو كما قال عليه الصلاة والسلام: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات).(313/10)
تراجم رجال إسناد حديث خباب: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فشكونا إليه)
قوله: [حدثنا عمرو بن عون].
عمرو بن عون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا هشيم وخالد].
هشيم مر ذكره، وخالد هو خالد بن عبد الله الطحان الواسطي، وكل منهما ثقة، أخرج حديثهما أصحاب الكتب الستة.
[عن إسماعيل عن قيس بن أبي حازم].
إسماعيل وقيس بن أبي حازم قد مر ذكرهما.
[عن خباب].
هو خباب بن الأرت رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(313/11)
حكم الجاسوس إذا كان مسلماً(313/12)
شرح حديث قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في بعثه الكتاب إلى قريش
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلماً.
حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن عمرو حدثه حسن بن محمد بن علي أخبره عبيد الله بن أبي رافع -وكان كاتباً لـ علي بن أبي طالب - قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا والزبير والمقداد رضي الله عنهما فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ضعينة معها كتاب فخذوه منها.
فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالضعينة، فقلنا: هلمي الكتاب.
فقالت: ما عندي من كتاب.
فقلت: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب.
فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا هو من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه إلى ناس من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ما هذا يا حاطب؟! فقال: يا رسول الله! لا تعجل علي؛ فإني كنت امرأً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها، وإن قريشاً لهم بها قرابات يحمون بها أهليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ فيهم يداً يحمون قرابتي بها، والله -يا رسول الله- ما كان بي من كفر ولا ارتداد.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صدقكم.
فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنق هذا المنافق! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم!)].
أورد أبو داود [باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلماً] يعني: ماذا يفعل به؟ هل يقتل أو لا يقتل؟ والذي يظهر أن حكمه يرجع إلى الإمام، وأنه يرى ما فيه المصلحة، فإن قتله فله قتله، وإن أبقاه فله إبقاؤه، وقد أورد أبو داود حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قصة حاطب.
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يغزو مكة عام الفتح أخفى الخبر عن الناس حتى لا يحصل اطلاع ومعرفة من الكفار بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم فيستعدون.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها إلا في غزوة تبوك فإنه أعلن أنه سيغزو الروم، وأمر الناس بالاستعداد وأمرهم بالنفير، وفي غيرها كان يوري حتى يخفى الخبر على الكفار الذين يريد أن يغزوهم صلى الله عليه وسلم.
وحصل من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه أنه كتب كتاباً إلى الكفار بمكة يخبرهم بشيء من خبر النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يريد أن يأتي إليهم وأنه يتهيأ لغزوهم، وأرسل بذلك مع ضعينة -امرأة- فذهبت بهذا الكتاب.
فالله تعالى أطلع نبيه على ذلك، فأرسل علياً ومعه الزبير والمقداد بن الأسود ليأتوا بذلك الكتاب الذي مع هذه المرأة، وقال: [(اذهبوا إلى روضة خاخ)] وهي مكان بين مكة والمدينة، وأخبرهم بأنهم سيجدون امرأة معها الكتاب فليأتوا به، فذهبوا وأدركوها في المكان الذي أخبرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من الغيب الذي أطلع الله نبيه عليه الصلاة والسلام عليه، والله تعالى يطلع من شاء من خلقه على ما شاء من غيبه، وقد أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على كثير من الغيوب، ولكنه لم يطلعه على كل غيب، فعلم الغيب على الإطلاق من خصائص الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [النمل:65] فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم متى تقوم الساعة، وقد جاء في حديث جبريل (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) وجاءت أحاديث كثيرة تدل على حصول أمور مغيبة لم يعلمها رسول الله عليه الصلاة والسلام، مثل العقد الذي كان لـ عائشة فقد مكثوا يبحثون عنه وكان تحت الجمل الذي تركب عليه عائشة، وكذلك في قصة الإفك ما كان صلى الله عليه وسلم يعلم الحقيقة، بل قال لـ عائشة: (إذا كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله واستغفريه) ومكث خمسين يوماً وهو حزين متألم، وبعد ذلك أنزل الله براءتها في آيات تتلى من سورة النور، فعلم عليه الصلاة والسلام أنها بريئة، وقبل ذلك ما كان يعلم أنها بريئة، بل كان يقول لها: (يا عائشة! إن كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله واستغفريه) وهجرها وذهبت إلى أهلها وحصل ما حصل، ولم يكن يعلم بذلك الغيب حتى أنزل الله عليه ما أنزل من القرآن الذي فيه براءتها رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
فلما لحق الثلاثة بالمرأة قالوا: أخرجي الكتاب.
قالت: ما معي من كتاب.
فقالوا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب.
أي: نفتشك ونخرجه منك.
لأن الرسول أخبر بأنه معها، والرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يقول، فإذاً الكتاب موجود، وقد أمروا بأن يذهبوا للإتيان به، فهددوها وأخبروها، بل ورد في بعض الروايات أنهم هددوها بالقتل، فأخرجته من عقاصها، قيل: إنه كان في رأسها.
وجاء في بعض الروايات أنه كان في حقوها، وجمع بينهما بأن قالوا: لعله كان في حقوها وربطته في طرف عقيصتها.
فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا بموضوعه من حاطب بن أبي بلتعة إلى كفار قريش يخبرهم ببعض خبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [(ما هذا يا حاطب؟!)] فقال: لا تعجل علي يا رسول الله، والله ما بي -يا رسول الله- من كفر ولا ارتداد.
يعني: ما كنت باقياً على الكفر وأظهرت الإسلام نفاقاً مع أنني أبطن الكفر، ولا ارتددت بعد أن دخلت في الإسلام، فما خرجت منه إلى الكفر، فلست باقياً على الكفر وأظهرت الإسلام نفاقاً مع إبطان الكفر، وما دخلت في الإسلام ثم خرجت منه ورجعت إلى الكفر بالردة.
فقوله: [ما كان بي من كفر ولا ارتداد] معناه أنه ليس باقياً على الكفر مظهراً للإسلام نفاقاً كما هو شأن المنافقين الذين لما قوي الإسلام وظهر الإسلام أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، فهم كفار، وذلك لأن قلوبهم معقودة على الكفر وباقية على الكفر، ولكنهم أظهروا الإسلام خوفاً من المسلمين، كما قال الله تعالى عنهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] وقوله: [ولا ارتداد] يعني: ما دخلت في الإسلام ثم خرجت منه بالردة ورجعت إلى الكفر والعياذ بالله.
ثم بين سبب فعله بأن الموجودين في المدينة من المهاجرين لهم أقارب في مكة يحمون أهليهم وذويهم عندما يحصل الغزو، وقال: وأنا لست من أنفسهم، وإنما كنت ملصقاً بهم.
يعني: أنا حليف من حلفائهم ولست من أنفسهم، فأراد إذ فاته أن يكون منهم من يحمون من يكون قريباً له أن تكون له هذه اليد عندهم حتى يحموا قرابته.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: [(صدقكم)] فأخبر بأنه قد صدق، فقال عمر رضي الله عنه: [دعني أضرب عنق هذا المنافق] مع أن حاطباً قال: [ما كان بي من كفر] ومعناه: إني لست منافقاً باقياً على النفاق.
فـ عمر رضي الله عنه وأرضاه رأى أن هذا الفعل هو فعل من يظهر الإيمان ويبطن الكفر، فقال: [دعني أضرب عنق هذا المنافق].
فقال صلى الله عليه وسلم: [إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم!] فكونه من أهل بدر وكونه من الذين حصلت لهم تلك الفضيلة وتلك المنقبة، فنهايتهم طيبة، وما يحصل منهم فإنه مغفور لهم، ويكونون في الآخرة من أهل الجنة، فهذا يجعل حاطباً رضي الله عنه لا يؤاخذ بما فعل.
قوله: [فأخرجته من عقاصها].
العقاص هو ضفائر شعر رأسها.
قوله: [فقال: يا رسول الله! لا تعجل علي؛ فإني كنت امرأً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها، وإن قريشاً لهم بها قرابات يحمون بها أهليهم بمكة].
المقصود بقوله: [وإن قريشاً] المهاجرون الذين في المدينة، فقد كان لهم قرابات يحمون قراباتهم، وأما أنا فليس لي قرابات، فلست مثل بقية المهاجرين، فأردت أن تكون هذه اليد التي أقدمها لهم تقوم مقام القرابة التي حصلت للناس الآخرين فيحمون قرابتي وأهلي هناك.
وقول عمر رضي الله عنه: [دعني أضرب عنق هذا المنافق] وإجابة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شهد بدراً فيه إشارة إلى جواز قتل الجاسوس؛ لأنه ما ذكر شيئاً يمنع منه إلا كونه شهد بدراً، ففهم منه أنه لو لم يكن عنده هذه المنقبة لكان أهلاً لأن يقتل، ولكن الذي حصل لهذا الرجل رضي الله عنه أنه شهد بدراً، وأهل بدر قد قال الله تعالى فيهم ما قال، وهذا يدل على أن أهل بدر نهاياتهم حسنة، وأن مآلهم إلى الجنة، وهم من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم مغفور لهم في الآخرة، لكن هذا لا يعني أن من وجب عليه منهم شيء في الدنيا لا يؤاخذ به ويسقط عنه.
بل لو فعل أمراً يستحق عليه حداً أو نحو ذلك فإنه يؤاخذ به، وإنما الكلام فيما يتعلق بالآخرة.(313/13)
تراجم رجال إسناد حديث قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في بعثه الكتاب إلى قريش
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو].
هو عمرو بن دينار، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثه حسن بن محمد بن علي].
حسن بن محمد بن علي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبره عبيد الله بن أبي رافع].
عبيد الله بن أبي رافع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت علياً].
هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(313/14)
إسناد آخر لحديث قصة حاطب وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن حصين عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه بهذه القصة، قال: (انطلق حاطب فكتب إلى أهل مكة أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد سار إليكم وقال فيه: قالت: ما معي كتاب.
فانتحيناها فما وجدنا معها كتاباً، فقال علي: والذي يحلف به لأقتلنك أو لتخرجن الكتاب) وساق الحديث].
هذا الإسناد الثاني الذي أورده المصنف عن علي رضي الله تعالى عنه هو قريب من الأول.
قوله: [فانتحيناها].
أي: قصدناها فحاولوا أخذ الكتاب فما وجدوه معها.
وقوله: [والذي يحلف به].
الذي يحلف به هو الله تعالى، فالحلف لا يكون إلا بالله تعالى.
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
هو وهب بن بقية الواسطي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن خالد].
هو خالد بن عبد الله الواسطي الطحان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حصين].
هو حصين بن عبد الرحمن السلمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعد بن عبيدة].
سعد بن عبيدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عبد الرحمن السلمي].
هو عبد الله بن حبيب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي].
هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ابن عم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وصهره زوج ابنته فاطمة، وأبو الحسنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(313/15)
الجاسوس الذمي(313/16)
شرح حديث أمره صلى الله عليه وسلم بقتل فرات بن حيان حين كان عيناً لأبي سفيان
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الجاسوس الذمي.
حدثنا محمد بن بشار حدثني محمد بن محبب أبو همام الدلال حدثنا سفيان بن سعيد عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن فرات بن حيان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتله، وكان عيناً لـ أبي سفيان رضي الله عنه، وكان حليفاً لرجل من الأنصار، فمر بحلقة من الأنصار فقال: إني مسلم.
فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! إنه يقول: إنني مسلم! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن منكم رجالاً نكلهم إلى إيمانهم، منهم فرات بن حيان)].
أورد أبو داود [باب في الجاسوس الذمي] يعني: ماذا يصنع به وماذا يعمل به.
والذمي هو الذي له ذمة وله عهد، فإذا صار جاسوساً فإنه يكون ناقضاً لعهده وللإمام أن يقتله.
فالذمي هو الكافر الذي له عهد وذمة، فإذا غزا المسلمون بلاداً فدخل أهلها في ولايتهم وصاروا يدفعون الجزية لبقائهم على كفرهم صاروا أهل ذمة، وابن القيم له كتاب واسع في أحكام أهل الذمة من أحسن ما كتب في بيان أحكام أهل الذمة وما يتعلق بهم من مسائل وأحكام مختلفة، وهو كتاب واسع في عدة مجلدات، فهو من أحسن ما يرجع إليه فيما يتعلق بأحكام الكفار والتعامل معهم، سواء أكان في التهنئة أم في التعزئة أم في السلام أم في غير ذلك مما يتعلق بأحكام الكفار أهل الذمة وغير أهل ذمة.
وقد أورد أبو داود حديث فرات بن حيان رضي الله عنه أنه كان جاسوساً لـ أبي سفيان، وقد جاء في بعض الروايات أنه كان ذمياً وكان جاسوساً، ففي مسند الإمام أحمد أنه كان ذمياً، وهذا هو الذي فيه مطابقة للترجمة من جهة كونه ذمياً، وأنه كان عيناً -أي: جاسوساً- لـ أبي سفيان في حال كفره، وذلك قبل أن يسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقتله، وهذا يدل على أن الجاسوس الكافر إذا كان ذمياً فإنه يكون قد نقض عهده بذلك ويحل قتله، والنبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى قتله، فجاء إلى مجلس جماعة من الأنصار فقال: [إني مسلم].
أي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله، ولكن فراتاً أخبرهم بأنه مسلم، أي: دخل في الإسلام، وكان جاسوساً قبل أن يسلم.
فقال رجل من الأنصار: [يا رسول الله! إنه يقول: إنه مسلم].
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [(إن منكم رجالاً نكلهم إلى إيمانهم)].
يعني ما يقولونه بألسنتهم من أنهم مؤمنون وأنهم مسلمون، أي: الحكم بالظاهر؛ لأن الكافر إذا قال: إنه مسلم.
أو قال: آمنت بالله.
أو قال: أشهد أن لا إله إلا الله فإن الحكم أنه يكون مسلماً بذلك، ولا يبحث عما سوى ذلك؛ لأن الظاهر للناس والباطن علمه إلى الله سبحانه وتعالى، وقد مر في بعض الأحاديث: (أفلا شققت عن قلبه) يعني الذي قتل بعد أن قال: (لا إله إلا الله).
قال صلى الله عليه وسلم: [(إن منكم رجالاً نكلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن حيان)].
أي: أن فرات بن حيان من هؤلاء الذين نكلهم إلى إيمانهم.
ومحل الشاهد من هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقتله من أجل تجسسه، ولكن الإسلام هو الذي منع من ذلك وحال بينه وبين أن يقتل.
وقد كان جاسوساً لـ أبي سفيان، ولا ندري هل كان -أيضاً- من أهل الذمة أم لم يكن له عهد، ويمكن أن يكون عاش تحت ولاية الإسلام ولكنه استخدم للتجسس.(313/17)
تراجم رجال إسناد حديث أمره صلى الله عليه وسلم بقتل فرات بن حيان حين كان عيناً لأبي سفيان
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
هو محمد بن بشار الملقب بـ بندار البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثني محمد بن محبب أبو همام الدلال].
محمد بن محبب أبو همام الدلال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان بن سعيد].
هو سفيان بن سعيد الثوري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق].
هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حارثة بن مضرب].
حارثة بن مضرب ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن فرات بن حيان].
هو فرات بن حيان رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أبو داود وحده.(313/18)
الجاسوس المستأمن(313/19)
شرح حديث: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من المشركين وهو في سفر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الجاسوس المستأمن.
حدثنا الحسن بن علي حدثنا أبو نعيم حدثنا أبو عميس عن ابن سلمة بن الأكوع عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عين من المشركين وهو في سفر، فجلس عند أصحابه ثم انسل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اطلبوه واقتلوه.
قال: فسبقتهم إليه فقتلته وأخذت سلبه فنفلني إياه)].
أورد أبو داود [باب في الجاسوس المستأمن].
المستأمن هو الذي له أمان، وهو الذي يدخل إلى بلاد المسلمين ويعطى أماناً على نفسه وماله مدة بقائه في بلاد المسلمين.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث سلمة بن الأكوع، وفيه ذكر قصة الرجل الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في سفر، وأنه جاء وأناخ بعيره ودخل معهم، وبعد ذلك انسل بسرعة وركب بعيره وهرب، فعلموا أنه جاسوس، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم باللحاق به وبقتله، فلحقوه، وكان الذي أدركه سلمة بن الأكوع، وكان عدَّاءً -أي: سباقاً على رجليه- فسبق الذين على الإبل حتى تقدم عليهم وأمسك خطام جمل الجاسوس وقتله، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سلبه.
والحديث ليس فيه دليل واضح على الاستئمان، ولكن كونه جاء وجلس معهم ورأى حالة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انطلق بسرعة معناه أن له حكم المستأمن الذي أعطي أماناً.
ولكن البخاري بوب لهذا بقوله: (باب الجاسوس بغير أمان) يعني: وليس له أمان؛ لأن هذا جاء ولم يكن له أمان، فلعل أبا داود أراد من وراء ذلك أن يبين أن حكم المستأمن يكون كذلك، وأنه إذا حصل منه تجسس فإنه ينقض أمانه ويستحق القتل.
وهذا الجاسوس الذي جاء وجلس مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى حالهم ثم انسل فعرفوا أنه جاسوس ما كان ابن سبيل أو عابر سبيل، وما جاء ليشاركهم في أكلهم أو ليكون ضيفاً عندهم، وإنما جاء ليتجسس ثم انصرف بسرعة وهرب، فعند ذلك عرفوا أنه جاسوس فلحقوه، وقتله سلمة بن الأكوع، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سلبه.
قوله: [أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عين من المشركين وهو في سفر فجلس عند أصحابه ثم انسل].
أي: جلس عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى ضعف حالهم وضعف ركابهم وما فيهم من ضعف.
[فانسل] يعني: خرج منسلاً إلى بعيره، وكان قد قيده، ففك قيده وركب عليه ثم هرب.
قوله: [فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم اطلبوه فاقتلوه.
قال: فسبقتهم إليه فقتلته وأخذت سلبه فنفلني إياه].
هذا اختصار للقصة، وستأتي بكمالها في الحديث الآتي.
فـ سلمة بن الأكوع رضي الله عنه لحقه يعدو على رجليه، وكان ممن لحقه صاحب ناقة ورقاء كانت من أحسن الركاب، ولكنه سبق الناقة وسبق الجمل حتى تقدم وأمسك بخطامه وأناخه، ولما أناخه اخترط سيفه وضرب عنقه فسقط رأسه ومات.(313/20)
تراجم رجال إسناد حديث (أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من المشركين وهو في سفر)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا أبو نعيم].
هو الفضل بن دكين الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو عميس].
هو عتبة بن عبد الله المسعودي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن سلمة بن الأكوع].
هو إياس بن سلمة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(313/21)
شرح حديث سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه في قتله جاسوساً للمشركين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله أن هاشم بن القاسم وهشاماً حدثاهم قالا: حدثنا عكرمة قال: حدثني إياس بن سلمة حدثني أبي سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه قال: (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هوازن.
قال: فبينما نحن نتضحى وعامتنا مشاة وفينا ضعفة إذ جاء رجل على جمل أحمر، فانتزع طلقاً من حقو البعير فقيد به جمله، ثم جاء يتغدى مع القوم، فلما رأى ضعفتهم ورقة ظهرهم خرج يعدو إلى جمله فأطلقه ثم أناخه فقعد عليه، ثم خرج يركضه، واتبعه رجل من أسلم على ناقة ورقاء هي أمثل ظهر القوم، قال: فخرجت أعدو فأدركته ورأس الناقة عند ورك الجمل وكنت عند ورك الناقة، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته، فلما وضع ركبته بالأرض اخترطت سيفي فأضرب رأسه فندر، فجئت براحلته وما عليها أقودها، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الناس مقبلاً فقال: من قتل الرجل؟ فقالوا: سلمة بن الأكوع.
قال: له سلبه أجمع) قال هارون هذا لفظ هاشم].
أورد أبو داود حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، وهو أكثر تفصيلاً لهذه القصة من الرواية السابقة، وقد أخبر سلمة بن الأكوع رضي الله عنه بأنهم كانوا في غزوة هوازن، وأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا قد نزلوا يأكلون طعاماً في الضحى، قال: نتضحى مثلما يقال: نتغدى ونتعشى.
أي: طعام الغداة وطعام العشاء.
فجلسوا يأكلون في وقت الضحى فجاء هذا الرجل وشاركهم في الأكل وهو جاسوس، فلما رأى رقة حالهم وضعفهم انسل وركب، وكان حين وصل إليهم قد انتزع طلقاً من حقو جمله -والطلق هو عقال من جلد- فقيده به، أي: وضعه على يديه بحيث لا يمشي مع استطاعته أن يتحرك ليرعى.
فلما رأى حالتهم انسل وأطلق عقال جمله وأناخه وركب عليه، ثم جعل يركضه، أي: يستحثه على الجري والعدو، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم باللحاق به وقتله، فلحقه رجل من أسلم من جماعة سلمة بن الأكوع على ناقة ورقاء هي أمثل الإبل التي معهم، فكان رأسها عند ورك الجمل، فلحق بهما سلمة حتى صار عند ورك الناقة، ثم تقدم حتى صار عند ورك الجمل، ثم تقدم حتى صار أمامه وأمسك بخطامه وأناخه، ولما أناخه وصارت ركبة البعير في الأرض اخترط سيفه فضرب رأسه فندر، أي: سقط رأسه، فجاء بالبعير يقوده وما عليه، فاستقبله الرسول صلى الله عليه وسلم هو والناس، أي: قاموا من أماكنهم يستقبلون اللذين ذهبا لقتل هذا الجاسوس فلما وصلا قال صلى الله عليه وسلم: [(من الذي قتله؟)] قالوا: سلمة بن الأكوع فقال: [(له سلبه أجمع)] يعني: كل سلبه يكون لـ سلمة، والسلب هو مال القتيل الكافر ثيابه وسلاحه يعطاه قاتله.
والحديث فيه دليل على القيام لاستقبال من يأتي واستقبال القادم والداخل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة استقبلوا من لحق ذلك الجاسوس.(313/22)
تراجم رجال إسناد حديث سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه في قتله جاسوساً للمشركين
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هو هارون بن عبد الله الحمال، وهو البغدادي، ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[أن هاشم بن القاسم].
هاشم بن القاسم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن هشاماً] يحتمل أن يكون المراد به هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي، ويحتمل أن يكون المراد به هشام بن سعيد الطالقاني، وفي تهذيب الكمال في ترجمة هارون بن عبد الله الحمال لم يذكر من مشايخه من يسمى هشاماً إلا هشام بن سعيد الطالقاني.
وإن كان هشام هنا هو هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي فمعنى ذلك أن أبا داود روى عنه بواسطة وبغير واسطة.
وعلى كل حال فإن كان المراد هشام بن سعيد الطالقاني فهو صدوق أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي، وإن كان المراد هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي فهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عكرمة].
هو عكرمة بن عمار العجلي، صدوق يغلط، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني إياس بن سلمة حدثني أبي سلمة بن الأكوع].
قد مر ذكرهما.
وقوله: [قال هارون: هذا لفظ هاشم] معناه أن الحديث لفظ هاشم بن القاسم وليس لفظ هشام.(313/23)
شرح سنن أبي داود [314]
الجهاد في سبيل الله تعالى شرف عظيم، وله أحكام وآداب شرعية تخصه، فمن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبدأ القتال أول النهار أو يؤخره إلى ما بعد الزوال، وكذلك مشروعية التزام الصمت حال القتال إلا من ذكر الله عز وجل، وكذلك استحباب فعل ما يظهر قوة المسلمين أمام أعدائهم؛ ولذا جاز الاختيال بين الصفوف.(314/1)
وقت استحباب لقاء الكفار في الجهاد(314/2)
شرح حديث قتاله صلى الله عليه وسلم أول النهار أو بعد زوال الشمس
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في أي وقت يستحب اللقاء.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا أبو عمران الجوني عن علقمة بن عبد الله المزني عن معقل بن يسار أن النعمان -يعني ابن مقرن - رضي الله عنهما قال: (شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا لم يقاتل من أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر)].
أورد أبو داود [باب في أي وقت يستحب اللقاء] يعني لقاء الكفار.
وقد أورد أبو داود حديث النعمان بن المقرن رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يقاتل أول النهار أخر حتى تزول الشمس وتهب الرياح، وذلك وقت صلاة الظهر وصلاة العصر جمعاً، فيكون وقت قبول الدعاء.
وهذا فيه دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان هديه القتال في أول النهار أو بعد منتصف النهار ودخول وقت صلاة الظهر، فإذا لم يقاتل أول النهار في الصباح يقاتل بعد الزوال وبعد دخول وقت الصلاة صلاة الظهر والعصر في الحال الجمع.
فهذا هو الوقت الذي يستحب فيه اللقاء، في الصباح أو بعد الزوال.(314/3)
تراجم رجال إسناد حديث قتاله صلى الله عليه وسلم أول النهار أو بعد زوال الشمس
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة، ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا أبو عمران الجوني].
هو عبد الملك بن حبيب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علقمة بن عبد الله المزني].
علقمة بن عبد الله المزني ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[عن معقل بن يسار].
هو معقل بن يسار رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[أن النعمان بن مقرن].
هو النعمان بن مقرن رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(314/4)
ما يؤمر به من الصمت عند اللقاء(314/5)
شرح حديث: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند اللقاء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيما يؤمر به من الصمت عند اللقاء.
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام.
ح وحدثنا عبيد الله بن عمر حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا هشام حدثنا قتادة عن الحسن عن قيس بن عباد أنه قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكرهون الصوت عند اللقاء عند القتال].
أورد أبو داود: [باب فيما يؤمر به من الصمت عند اللقاء] يعني السكوت وعدم الصخب والكلام، وإنما يكون الجهاد سكوتاً إلا في ذكر الله سبحانه وتعالى فلا بأس بذلك، وأما أن يكون هناك صراخ أو صياح أو كلام في غير ذلك فلا يصلح.
وقد أورد أبو داود هذا الأثر عن قيس بن عباد عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا عند اللقاء أو عند القتال يكرهون الصوت.
أي: يكرهون التكلم إلا في ذكر الله عز وجل والتكبير، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال:45] ومن الذكر التكبير.
وهذا الأثر موقوف على أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ينتهي إسناده إلى أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم.
وهو حجة، لكون الصحابة كان هذا شأنهم وهذه طريقتهم، وهم أسبق الناس إلى كل خير وأحرص الناس على كل خير رضي الله عنهم وأرضاهم.(314/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند اللقاء)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام].
هو هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا عبيد الله بن عمر].
هو عبيد الله بن عمر القواريري، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الرحمن بن مهدي].
عبد الرحمن بن مهدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام حدثنا قتادة].
هشام قد مر ذكره، وقتادة هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
هو الحسن بن أبي الحسن البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قيس بن عباد].
قيس بن عباد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.(314/7)
إسناد آخر لحديث كراهية الصوت عند اللقاء وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن عمر حدثنا عبد الرحمن عن همام حدثني مطر عن قتادة عن أبي بردة عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمثل ذلك].
أورد أبو داود الحديث هنا ولكنه مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: [بمثل ذلك] يعني أنه لا يؤتى بالصوت عند اللقاء، وإنما يكون السكوت والصمت وعدم الكلام إلا في ذكر الله عز وجل.
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر عن عبد الرحمن عن همام].
همام هو همام بن يحيى العوذي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني مطر].
هو مطر الوراق، وهو صدوق كثير الخطأ والنسيان، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن قتادة عن أبي بردة].
قتادة قد مر ذكره، وأبو بردة هو أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه عبد الله بن قيس، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث ضعفه الألباني، ولعل ذلك من أجل مطر الوراق، لكن كون أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يفعلون ذلك يدل على أنهم أخذوه من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيما وإسناده إلى جميعهم وإلى عمومهم وليس إلى فرد واحد منهم.(314/8)
الترجل عند اللقاء(314/9)
شرح حديث ترجل النبي صلى الله عليه وسلم عن بغلته يوم حنين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يترجل عند اللقاء.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه أنه قال: (لما لقي النبي صلى الله عليه وسلم المشركين يوم حنين فانكشفوا نزل عن بغلته فترجل)].
أورد أبو داود باب الترجل عند اللقاء.
والترجل هو المشي على الرجل، وهذا يدل على الشجاعة وعلى القوة وعلى عدم الاكتئاب وعدم الخوف، ولهذا لما انكشفوا نزل صلى الله عليه وسلم عن بغلته وكان يقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)، فثبت ثم رجع أصحابه وصار النصر للمسلمين على أعدائهم.
فالترجل هنا غير الترجل فيما يتعلق بالزينة وهو تسريح الشعر ودهنه، بل هو المشي على الرجل، وهو يدل على الثبات وعلى قوة الجأش وعدم الخوف والذعر.(314/10)
تراجم رجال إسناد حديث ترجل النبي صلى الله عليه وسلم عن بغلته يوم حنين
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي، ولم يخرج له النسائي إلا في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسرائيل].
إسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق].
قد مر ذكره.
[عن البراء] هو البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(314/11)
الخيلاء في الحرب(314/12)
شرح حديث ما يحبه الله تعالى من الغيرة والخيلاء وما يبغضه منهما
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الخيلاء في الحرب.
حدثنا مسلم بن إبراهيم وموسى بن إسماعيل -المعنى واحد- قالا: حدثنا أبان حدثنا يحيى عن محمد بن إبراهيم عن ابن جابر بن عتيك عن جابر بن عتيك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله، فأما التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة، وإن من الخيلاء ما يبغض الله ومنها ما يحب الله، فأما الخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل نفسه عند القتال واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغض الله فاختياله في البغي) قال موسى: والفخر].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي [باب الخيلاء في الحرب] أي أنها سائغة، والخيلاء في الأصل غير سائغة، فكون الإنسان يكون مختالاً ويكون فخوراً لا يجوز، والله تعالى قد ذم المختال الفخور، ولكن ذلك في حال الحرب سائغ وجائز؛ لأنه يدل على ثبات الجأش وعلى القوة وعلى عدم ضعف النفس، ويدل على عزة النفس، وعلى ثبوت الرجل وعدم خوفه وضعفه وخوره، فأبيح في هذه الحالة التي هي حالة الحرب.
وأورد أبو داود حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله، فأما التي يحبها الله فالغيرة في الريبة)] يعني كون الإنسان يغار على أهله في ريبة وفي أمر محرم حتى لا يحصل، وهذا مما يحبه الله عز وجل، والغيور هو ضد الديوث الذي يقر الخبث في أهله ولا يبالي ولا يهتم.
فالغيرة في الريبة وفيما هو ريبة مما يحبه الله، والغيرة في غير ذلك يبغضها الله، قالوا: ومن أمثلة ذلك كون الإنسان يغار على نكاح قرائبه وزواج قرائبه ويكره ذلك، فإن هذا في أمر مباح وأمر مشروع، فالغيرة فيه وكراهية ذلك أمر مبغوض عند الله عز وجل، وكون الإنسان كذلك يغار على أمه في زواجها ويكره زواجها بعد أبيه فهذا مما يكرهه الله ومما هو مبغوض، وهذه غيرة في غير ريبة، فتكون الريبة هنا مما يبغضه الله عز وجل، فالغيرة في الريبة محمودة والغيرة في غيرها -أي: فيما هو مباح ومشروع- مذمومة.
قوله: [(وإن من الخيلاء ما يبغض الله ومنها ما يحب الله فأما الخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل نفسه عند القتال)].
اختيال الرجل نفسه عند القتال هو أن يحصل عنده اختيال يدل على قوة جأشه وعلى عدم انهزام نفسه وعلى عدم الخور عنده.
قوله: [(واختياله عند الصدقة)].
يعني كونه يجود بالصدقة ويبذلها، ويترتب على ذلك اقتداء به ومتابعة له، فإن ذلك سائغ.
قوله: [(وأما التي يبغض الله فاختياله في البغي)].
أي: كونه يختال على أحد باغياً عليه ومعتدياً عليه، ويتعاظم عند ما يقتل إنساناً معصوماً، أو عندما يأخذ مالاً لغيره، فإن هذا مما يبغضه الله عز وجل.
قوله: [قال موسى: والفخر].
أي: البغي والفخر، وهذه الزيادة هي من أحد شيخي أبي داود، وهو موسى بن إسماعيل، فكلمة (الفخر) جاءت عند موسى بن إسماعيل وحده وليست عند الشيخ الأول مسلم بن إبراهيم.(314/13)
تراجم رجال إسناد حديث ما يحبه الله تعالى من الغيرة والخيلاء وما يبغضه منهما
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وقد مر ذكره.
[وموسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل مر ذكره.
[حدثنا أبان].
هو أبان بن يزيد العطار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا يجيى].
هو يحيى بن سعيد الأنصاري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إبراهيم].
هو محمد بن إبراهيم التيمي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جابر بن عتيك].
قيل: هو عبد الرحمن.
وقيل: آخر، وكل منهما مجهول، فهذا مجهول وذاك غير معروف، والنتيجة واحدة، سواء أكان هو المسمى الذي هو عبد الرحمن أم الآخر الذي لم يسم، وقيل: إنه أبو سفيان، وكل منهما مجهول، ولكن الحديث له شاهد عن عقبة بن عامر ذكره الشيخ الألباني رحمه الله في إرواء الغليل.
[عن جابر بن عتيك].
جابر بن عتيك رضي الله عنه، صحابي، وحديثه أخرجه أبو داود والنسائي.(314/14)
الرجل المسلم يستأسر(314/15)
شرح حديث قصة أصحاب الرجيع العشرة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يستأسر.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم -يعني ابن سعد - أخبرنا ابن شهاب أخبرني عمرو بن جارية الثقفي حليف بني زهرة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشرة عيناً وأمر عليهم عاصم بن ثابت رضي الله عنه، فنفروا لهم هذيل بقريب من مائة رجل رام، فلما أحس بهم عاصم لجئوا إلى قردد، فقالوا لهم: انزلوا فأعطوا بأيديكم ولكم العهد والميثاق ألا نقتل منكم أحداً.
فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، فرموهم بالنبل فقتلوا عاصماً في سبعة نفر، ونزل إليهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق، منهم خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر رضي الله عنهم، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن لي بهؤلاء لأسوة، فجروه فأبى أن يصحبهم فقتلوه، فلبث خبيب أسيراً حتى أجمعوا قتله، فاستعار موسى يستحد بها، فلما خرجوا به ليقتلوه قال لهم خبيب: دعوني أركع ركعتين، ثم قال: والله لولا أن تحسبوا ما بي جزعاً لزدت)].
أورد أبو داود [باب في الرجل يستأسر].
يعني: يأسره الكفار.
وأورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عشرةً عيناً، أي: جواسيس يأتون بأخبار العدو، وهذا يدل على أن الجاسوس قد يكون واحداً وقد يكونون أكثر من واحد، كما ذكر هنا أنهم عشرة، وسبق أن مر فيما يتعلق بكون الإنسان يسافر وحده أنه يمكن أن يرسل وحده من أجل التجسس على الكفار، ويكون مسافراً وحده، ويكون مستثنىً مما جاء من كراهية أن يسافر الإنسان وحده.
قوله: [وأمر عليهم عاصم بن ثابت] أي: جعله أميراً على العشرة يرجعون إليه ويكون مرجعاً لهم.
وقد سبق أن مر أن الثلاثة عندما يسافرون يؤمرون واحداً منهم حتى يرجعوا إليه، وهنا النبي صلى الله عليه وسلم أمر على هؤلاء العشرة عاصم بن ثابت رضي الله تعالى عنه، فجاءهم جماعة خرجوا لهم من هذيل، فأحاطوا بهم؛ فصعدوا فوق مكان مرتفع يقال له: قردد، فصار هؤلاء الكفار تحت وهؤلاء فوق، فصاروا ينادونهم ويقولون: انزلوا وسلموا أنفسكم ولكم الأمان والعهد أنه لا يحصل لكم شيء.
فقال عاصم الذي هو أميرهم: لا أنزل على ذمة كافر.
فرموهم حتى قتلوا منهم سبعة فيهم عاصم الذي هو أميرهم، وبقي ثلاثة، فنزل هؤلاء الثلاثة، وهم خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر، فلما نزلوا أطلقوا أوتار قسيهم - جمع قوس- فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر.
وهو كونهم قالوا: انزلوا ولكم العهد أنه لا يحصل لكم شيء.
ثم بعد ذلك ربطوهم، فقال: لي بأصحابي أسوة ولن أصحبكم.
فجعلوا يجرونه وهو يأبى أن يصحبهم، فقتلوه فصار الذين قتلوا ثمانية، فبقي الاثنان خبيب وزيد بن الدثنة، ثم إنهم بعد ذلك أجمعوا على قتل خبيب، فقال: دعوني أصلي ركعتين.
وطلب منهم موسى ليستحد بها.
أي: يحلق بها عانته؛ لأن الاستحداد هو حلق العانة بالحديدة، فقيل له: استحداد؛ لأنه إزالة للشعر بالحديدة التي هي الموسى.
فأذنوا له فصلى ركعتين، ثم إنه لما صلى ركعتين قال: والله لولا أن تظنوا أن بي جزعاً لزدت على ذلك.
يعني: زدت ركعتين.
ثم إنهم قتلوه رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
والحاصل أن هؤلاء الثلاثة سلموا أنفسهم وأسرهم أولئك وعاملوهم بهذه المعاملة.
وقوله: [(فنفروا لهم هذيل)] فيه الجمع بين الاسم الظاهر والضمير، وهي اللغة التي يسمونها لغة (أكلوني البراغيث) وهي الجمع بين الاسم الظاهر والضمير، وقد جاء بها القرآن والسنة، أما القرآن ففي قول الله عز وجل: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:3] وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل).
والترجمة [الرجل يستأسر] دالة على أن الرجل له أن يسلم نفسه للأسر عند الحاجة؛ لأنه قال: [يستأسر] يعني: يطلب منه، فالاستئسار هو الطلب؛ لأن السين والتاء تدلان على الطلب، أي: يطلب منه أن يسلم نفسه للأسر، فهؤلاء الثلاثة سلموا أنفسهم، وأحدهم لما رأى الغدر من أول وهلة لم يشأ أن يصحبهم، فسحبوه، ولما لم يستجب لهم قتلوه رضي الله عنه، ففيه جواز الامتناع عن الأسر ولو أدى ذلك إلى قتل الممتنع.(314/16)
تراجم رجال إسناد حديث قصة أصحاب الرجيع العشرة
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل عن إبراهيم بن سعد].
موسى بن إسماعيل مر ذكره، وإبراهيم بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عمرو بن جارية الثقفي].
هو عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية الثقفي، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر أصحابه حديثاً على الاطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(314/17)
إسناد آخر لحديث قصة أصحاب الرجيع وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن عوف حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية الثقفي -وهو حليف لبني زهرة، وكان من أصحاب أبي هريرة رضي الله عنه- فذكر الحديث].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى عن أبي هريرة، وهو مثل ما تقدم.
قوله: [حدثنا ابن عوف].
هو محمد بن عوف، ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي في مسند علي.
[حدثنا أبو اليمان].
هو الحكم بن نافع، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعيب].
هو شعيب بن أبي حمزة الحمصي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري أخبرني عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية].
قد مر ذكرهما، وهنا قال: عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية، ففي الإسناد الأول نسبه إلى جده، وفي هذه الطريق الثانية ذكر نسبه كاملاً.(314/18)
الأسئلة(314/19)
حكم صلاة ركعتين قبل القتل
السؤال
هل الركعتان سنة عند القتل بدلالة فعل خبيب رضي الله تعالى عنه؟
الجواب
ما أعلم سنيتهما، لكنهما جائزتان.(314/20)
استشكال في الإعلام بخبر أصحاب الرجيع لكونهم قتلوا جميعاً
السؤال
إذا كان العشرة من الصحابة قد قتلهم الهذليون فمن الذي أخبر بخبرهم؟
الجواب
قد يكون الذي أخبر خبرهم هو زيد بن الدثنة؛ لأنه لم يعرف أمره بعد ذلك في القتل، وقد يكون أحد الهذليين أسلم بعد ذلك ثم أخبر بالخبر، ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك عن طريق الوحي، ففي صحيح البخاري أن خبيباً قال: (اللهم! أخبر عنا نبيك).(314/21)
قيام طالب العلم من مجلسه في الحلقة للداخل
السؤال
إذا كنت في مجلس أو حلقة علم ودخل علينا أحد فهل القيام له سنَّة؟
الجواب
من كانوا في حلقة علم فالذي ينبغي لهم أن يكونوا كلهم مشتغلين بالعلم، وإذا انتهوا من الاشتغال بالعلم يقوم من يريد أن يقوم لهذا الجالس.
لكن إذا كانوا في مجلس من المجالس فقاموا أو قام بعضهم لاستقبال القادم والداخل فهذا لا بأس به وهو مشروع ومستحب إذا كان فيه إيناس وإدخال للسرور، فلا بأس بذلك، وأما فيما يتعلق بحلقة العلم والاشتغال بالعلم فالذي ينبغي هو المواصلة، وإذا جاء أحد فإنه يجلس ويستمع ثم يقام له، وقد يكون سائغاً، مثل ما حصل لـ كعب بن مالك رضي الله عنه حين نزلت توبته، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً مع أصحابه، فلما دخل كعب بن مالك قام طلحة واستقبله يهنئه بتوبة الله عز وجل عليه.(314/22)
معنى الصمت عند لقاء العدو وحكم الأناشيد وقت اللقاء
السؤال
هل معنى الصمت عند لقاء العدو عدم التكبير والتهليل إلا بصوت منخفض؟ وإذا كانت هناك أناشيد تدعو للحماس فهل يجوز التغني بها لرفع الهمم؟
الجواب
التكبير هو الذي ترفع به الهمم، وأما التغني بالأناشيد فإنه لا يرفع الهمم بل يثبطها.(314/23)
حكم قتل المستأمنين من الكفار مقابل قتل دولهم رعايا المسلمين
السؤال
ما حكم قتل الكفار الذين يعيشون في بلاد المسلمين للعمل أو للسياحة، حيث إن حكوماتهم تقتل المسلمين وتعين على قتلهم؟
الجواب
لا يجوز قتل من دخل وأعطي الأمان ليعمل أو ليتجول في بلد من البلدان وقد أذن له بذلك، وإن حصل أن الكفار اعتدوا على المسلمين فهم لا ذمة لهم ولا عهد لهم، فالمسلمون عليهم أن يفوا بالعهود.
ثم كون الكفار يغدرون بواحد من المسلمين لا يبيح للمسلمين أن يغدروا بأحد ما حصل منه غدر وما حصل منه خيانة وما حصل منه شيء ينقض عهده.(314/24)
شرح سنن أبي داود [315]
الحرب خدعة، فعلى قائد المسلمين أن ينصب الكمائن التي تفتك بالعدو، وينظم جيشه ويصفهم بما يناسب الحال، وإن دعا أحد من المشركين إلى المبارزة فليبعث له من فيه قوة وشجاعة ليقتله، ويكسر قلوب الكافرين بقتله.(315/1)
نصب الكمائن في القتال(315/2)
شرح حديث وضع النبي صلى الله عليه وسلم الرماة على الجبل يوم أحد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الكمناء.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق سمعت البراء رضي الله عنه يحدث قال: (جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرماة يوم أحد -وكانوا خمسين رجلاً- عبد الله بن جبير رضي الله عنه، وقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل لكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم.
قال: فهزمهم الله، قال: فأنا -والله- رأيت النساء يسندن على الجبل، فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة -أي قوم- الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟! فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! فقالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فأتوهم فصرفت وجوههم وأقبلوا منهزمين)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في الكمناء].
والكمناء: جمع كمين.
وهو القسم الذي يجعل من الجيش في مكان يختفي فيه ليقوم بمهمة في النكاية بالأعداء، هذا هو المقصود بالكمين أو الكمناء.
وأورد أبو داود حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما، وذلك في غزوة أحد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل خمسين من الرماة في مكان، وجعل عليهم أميراً عبد الله بن جبير، وقال: امكثوا في هذا المكان ولا تبرحوه حتى يأتيكم مني شيء، فإن رأيتمونا تخطفنا الطير -أي: هزمنا- فلا تبرحوا من مكانكم حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظفرنا وانتصرنا فلا تبرحوا مكانكم حتى أرسل إليكم، فلما حصلت الوقعة وانهزم المشركون في أول الأمر ورأى هؤلاء الذين هم كمناء ما حصل قال بعضهم لبعضهم: الغنيمة! أي: انتصر المسلمون.
فذكرهم أميرهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم لا يبرحون، سواء انهزم الجيش أم انتصر حتى يأتيهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم من يبلغهم بالشيء الذي يفعلونه.
فلما قال لهم أميرهم ما قال رأى بعضهم ألا يأخذوا بقول الأمير المستند إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فخرجوا ولحقوا بالقوم، ثم إنه حصل لهم بعد ذلك الهزيمة، وهؤلاء الذين أسندت إليهم المهمة وهم الكمناء ما قاموا بالالتزام بالشيء الذي أرشدهم إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فحصل ما حصل.
والمقصود من الحديث ذكر الكمين، وأنه يمكن للوالي أو للأمير أن يجعل بعض القوم كمناء بحيث يكونون ظهراً للمسلمين.
قوله: [(جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرماة يوم أحد -وكانوا خمسين رجلاً- عبد الله بن جبير)].
يعني جعله أميراً عليهم.
قوله: [وقال: (إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل لكم)].
هذا جانب الهزيمة، فقوله: [(تخطفنا الطير)] يعني: انهزمنا أمام الأعداء.
فإن رأيتمونا كذلك فلا تبرحوا حتى أبعث إليكم.
قوله: [(وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل لكم إليكم)].
يعني: تغلبنا عليهم واستولينا عليهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم.
ففي كلا الحالتين هم ملزمون أن يبقوا حتى يأتيهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم توجيه يوجههم به.
قوله: [(فهزمهم الله)].
يعني: حصلت النتيجة أن هزم الله المشركين.
قوله: [(فأنا -والله- رأيت النساء يسندن على الجبل)].
الذي يظهر أنهن نساء المشركين، يعني: بعدما انهزموا صارت النساء تسند على الجبل.
قوله: (فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة -أي قوم- الغنيمة)].
يعني: قال بعض أصحاب عبد الله بن جبير الذين معه والذين هو أميرهم: الغنيمة الغنيمة.
أي: انطلقوا حتى تأخذوا الغنيمة أو تشاركوا في أخذ الغنيمة.
فذكرهم أميرهم عبد الله بن جبير بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم يبرحون ولا يتجاوزون المكان إلا بعد أن يأتيهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول يبلغهم بالشيء الذي يريده النبي صلى الله عليه وسلم منهم، فلم يأخذوا بما ذكرهم به عبد الله بن جبير رضي الله عنه.
قال: [(فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! فقالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة)].
قوله: [(فأتوهم فصرفت وجوههم وأقبلوا منهزمين)].
يعني هؤلاء الذين أسندت إليهم المهمة ما قاموا بها، ولم يلتزموا بما أرشدهم له النبي صلى الله عليه وسلم.
[(وصرفت وجوههم)] يعني: رجعوا دون أن يحصلوا طائلا.
ولا شك أن الذنوب والمعاصي أسباب كل شر وأسباب كل بلاء، فمن أسباب الهزيمة ومن أسباب انتصار الأعداء على المسلمين الوقوع في المعاصي، قال الله عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30].(315/3)
تراجم رجال إسناد حديث وضع النبي صلى الله عليه وسلم الرماة على الجبل يوم أحد
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو إسحاق].
هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت البراء].
هو البراء بن عازب رضي الله عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهذا الإسناد من الأسانيد العالية عند أبي داود التي هي الرباعيات.(315/4)
صف الجيش عند القتال(315/5)
شرح حديث أمره صلى الله عليه وسلم أصحاب بدر وقت اصطفافهم برمي العدو بالنبل حال قربهم منهم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الصفوف.
حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل عن حمزة بن أبي أسيد عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين اصطففنا يوم بدر: (إذا أكثبوكم -يعني إذا غشوكم- فارموهم بالنبل، واستبقوا نبلكم)].
أورد أبو داود [باب في الصفوف] يعني أن الجيش يصف، وأنهم يكونون صفوفاً ولا يكونون بدون تنظيم وبدون اصطفاف، بل يكونون صفوفاً.
وأورد حديث أبي أسيد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اصطففنا يوم بدر].
ومحل الشاهد قوله: [اصطففنا] ومعناه أن الجيش يصطف، وقد جاء في اصطففاهم يوم بدر الحديث المشهور الذي فيه أنهم لما صفوا وكان عبد الرحمن بن عوف في الصف كان عن يمينه شاب من الأنصار وعن يساره شاب من الأنصار، فغمزه الذي عن يمينه وقال: يا عم! أتعرف أبا جهل؟ قال: وماذا تريد منه؟! قال: إنه يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، فلئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا.
ومحل الشاهد منه أنهم صفوا وكان على يمين عبد الرحمن شاب من الأنصار والآخر عن يساره، وكذلك غمزه الآخر وقال مثلما قال، فأراهما إياه فانطلقا إليه وقتلاه.
فمن الأمور المهمة في الجيوش التنظيم في الصفوف، وكان عليه السلام يصف أصحابه، وحصل ذلك في بدر كما جاء في قصة عبد الرحمن بن عوف، وكما جاء في الحديث الذي معنا، وهو أنهم لما اصطفوا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: [(إذا أكثبوكم -يعني: إذا غشوكم- فارموهم بالنبل)].
أي: إذا قربوا منكم فأرسلوا النبل إليهم؛ لأن النبل لا يذهب مكاناً بعيداً، فإذا قربوا منهم فإنه ينفع إرسال النبل، وإذا كانوا في مكان بعيد ذهب النبل ولم يصب العدو، فلم يحصلوا من الرمي على طائل.
فقوله: [(إذا أكثبوكم)] ليس معناه أنهم وصلوا إليهم بحيث التحموا بهم؛ لأنه إذا حصل الالتحام فالسيوف هي التي تنفع، وأما إذا كان بينهم مسافة بحيث تصل السهام فإنها ترسل السهام إليهم، وإذا كانوا بعيدين لا ترسل السهام، بل يستبقون نبلهم، فقوله: [(أكثبوكم)] معناه صاروا قريبين منكم، ولهذا كثيراً ما يأتي التعبير بالوقوف عن كثب، ومعناه: عن قرب.
قوله: [(فارموهم بالنبل واستبقوا نبلكم)].
معنى قوله: [(فارموهم بالنبل)] أي: إذا قربوا وصاروا قريبين منكم [(واستبقوا نبلكم)] يعني لا ترسلوه إذا كانوا بعيدين؛ لأنكم لو أرسلتموه فإنه يضيع ولا تصيبون الأعداء.(315/6)
تراجم رجال إسناد حديث أمره صلى الله عليه وسلم أصحاب بدر وقت اصطفافهم برمي العدو بالنبل حال قربهم منهم
قوله: [حدثنا أحمد بن سنان].
أحمد بن سنان ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في مسند مالك وابن ماجة.
[حدثنا أبو أحمد الزبيري].
هو محمد بن عبد الله الزبيري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل].
عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل، صدوق فيه لين، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي في الشمائل وابن ماجة.
[عن حمزة بن أبي أسيد].
حمزة بن أبي أسيد، صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود وابن ماجة.
[عن أبيه].
هو أبو أسيد الساعدي، وهو صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(315/7)
سل السيوف عند اللقاء(315/8)
شرح حديث: (إذا أكثبوكم فارموهم بالنبل ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في سل السيوف عند اللقاء.
حدثنا محمد بن عيسى حدثنا إسحاق بن نجيح -وليس بـ الملطي - عن مالك بن حمزة بن أبي أسيد الساعدي عن أبيه عن جده رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر: (إذا أكثبوكم فارموهم بالنبل ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم)].
أورد المصنف [باب في سل السيوف عند اللقاء] يعني عند لقاء العدو، بحيث إذا غشوهم وقربوا منهم واختلطوا بهم فإن السيوف تمضي فيهم، فعند ذلك تسل وتستخدم السيوف، وأما إذا كانوا ليسوا قريبين منهم أو كان بينهم مسافة فيرسل النبل إليهم إذا كانت المسافة قريبة كما مر في الحديث السابق، بحيث تؤثر السهام فيهم، ولا ترمى إذا كانوا بعيدين بحيث لا تصل إليهم السهام، فإذا كان بينهم وبينهم مسافة قريبة ترسل السهام، وإذا غشوهم والتصقوا بهم واختلطوا بهم فعند ذلك تعمل السيوف فيهم.
فقوله: [(إذا أكثبوكم)] أي: دنوا منكم وقربوا بحيث يصل النبل إليهم ويصيبهم.
قوله: [(ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم)] يعني: لا تسلوها حتى يصلوا إليكم وتصلوا إليهم.
فالالتحام إذا حصل تعمل السيوف عند ذلك، وإذا كان هناك مسافة قريبة وكان هناك حد فاصل بين المسلمين والكفار فإنه يرسل النبل؛ لأن النبل حينها ينفع، وإذا ضربوا بالسيوف فإنهم يضربون في الهواء، فليس عندهم أحد يضرب بالسيوف، لكن إذا وصلوا إليهم بحيث تصل السيوف إليهم تستعمل السيوف ولا يستعمل النبل ما دام قد حصل الالتحام.(315/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا أكثبوكم فارموهم بالنبل ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
هو محمد بن عيسى الطباع، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[عن إسحاق بن نجيح].
إسحاق بن نجيح مجهول، أخرج له أبو داود.
وقوله: [ليس بـ الملطي].
يقصد بذلك أن هناك شخصاً يقال له: إسحاق بن نجيح الملطي وبعض العلماء كذبوه، وليس له رواية في الكتب الستة، فـ أبو داود قال: [وليس بـ الملطي] حتى يبين أنه هو الثاني الذي هو إسحاق بن نجيح الحضرمي، ليبين أنه ليس الكذاب الذي اسمه إسحاق بن نجيح، وإنما هو الثاني الذي هو مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن مالك بن حمزة بن أبي أسيد الساعدي].
مالك بن حمزة بن أبي أسيد مقبول، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن أبيه عن جده] أبوه وجده تقدم ذكرهما.
والحديث ضعفه الشيخ الألباني، ولعله من أجل المجهول والمقبول، ولكن معناه صحيح من جهة أن النبل يرسل حيث لا يكون الالتحام، وأنه إذا حصل الالتحام تنفع السيوف.(315/10)
المبارزة(315/11)
شرح حديث طلب عتبة بن ربيعة المبارزة يوم بدر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المبارزة.
حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا عثمان بن عمر أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي رضي الله عنه أنه قال: (تقدم -يعني عتبة بن ربيعة - وتبعه ابنه وأخوه فنادى: من يبارز؟ فانتدب له شباب من الأنصار، فقال: من أنتم؟ فأخبروه، فقال: لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بني عمنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة بن الحارث.
فأقبل حمزة إلى عتبة وأقبلت إلى شيبة واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة)].
أورد أبو داود [باب في المبارزة].
والمبارزة هي بروز فرد أو أفراد من جيش المسلمين مع جيش الكفار فيحصل الاقتتال فيما بينهم خاصة، هذه هي المبارزة، وفيها إظهار القوة والنشاط وعدم الضعف، وأن الكفار إذا تطاولوا وأظهروا أن فيهم قوة فالمسلمون يقابلونهم بقوة أعظم من قوتهم.
فهؤلاء الثلاثة من الكفار، وهم عتبة وابنه الوليد وأخوه شيبة طلبوا المبارزة، فانتدب لهم شباب من الأنصار، أي: قالوا: نحن نبارزكم.
فقالوا: من أنتم؟ فأخبروهم، فقالوا: لا نريدكم وإنما نريد بني عمنا.
أي: قرابتنا الذين هم من قريش من المهاجرين وليسوا من الأنصار.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لقرابته: قم يا حمزة، وقم يا علي، وقم يا عبيدة بن الحارث.
وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ابن عمه، فكل الثلاثة من أقاربه، عمه وابنا عمه، فبرز الثلاثة إلى الثلاثة، فبرز حمزة لـ عتبة، وعلي لـ شيبة، وعبيدة للوليد، فـ حمزة وعلي كل منهما قتل قرنه وقتل الشخص الذي بارزه، وأما الوليد وعبيدة بن الحارث فكل واحد منهما ضرب الآخر وأثخنه وأثر فيه، ولكن ما قتل أحدهما الآخر، فلما قتل علي صاحبه وحمزة قتل صاحبه مالا على الوليد فقتلاه واحتملا عبيدة بن الحارث الذي أثخن.
قالوا: فهذا فيه دليل على المبارزة وعلى جوازها وعلى مشروعيتها.
ومن العلماء من قال: إنها تكون بإذن الإمام ولا تكون بغير إذنه.
ومنهم من قال: إنها تكون بغير إذنه؛ لأن الأنصار الثلاثة الذين انتدبوا ما قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: تقدموا.
وإنما أبرزوا أنفسهم، ولكن أولئك رفضوا وقالوا: ما نريدكم أنتم، بل نريد بني عمنا.
يقصدون المهاجرين.
ولكن كون الأمر يرجع فيه إلى الإمام، وكون الجيش يتصرف بتوجيه الإمام هذا هو الذي ينبغي.
وبدء المعركة بالمبارزة معناه إظهار القوة لاسيما أن أولئك الذين بدءوا كان عندهم تطاول واستعلاء، ومع ذلك فالله سبحانه وتعالى خذلهم، فلا شك أن هذا فيه إظهار قوة المسلمين فيما إذا حصل تغلبهم على من يبارزهم.
وفعل حمزة وعلي رضي الله عنهما حين ساعدا عبيدة كأنه كان سائغاً عند العرب.(315/12)
تراجم رجال إسناد حديث طلب عتبة بن ربيعة المبارزة يوم بدر
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هو هارون بن عبد الله الحمال البغدادي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
وهارون بن عبد الله الحمال يروي عن هشام بن عبد الملك أبي الوليد الطيالسي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقد عرفنا فيما مضى أن أبا داود يروي عنه مباشرة بدون واسطة ويروي عنه بواسطة.
[حدثنا عثمان بن عمر].
عثمان بن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا إسرائيل].
هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق].
هو جده عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، مر ذكره.
[عن حارثة بن مضرب].
حارثة بن مضرب ثقة، أخرج له مسلم والبخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن علي].
هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(315/13)
شرح سنن أبي داود [316]
شرع الجهاد في الإسلام لرحمة الخلق، ولإخراجهم من الظلمات إلى النور؛ ولذا ففيه الرحمة والإحسان حتى حال القتال، فلا يجوز التمثيل بالقتلى، ولا يجوز قتل النساء والصبيان، ولا يجوز التحريق بالنار، وفي هذه المسأل استثناءات بينها أهل العلم.(316/1)
النهي عن المثلة(316/2)
شرح حديث: (أعف الناس قتلة أهل الإيمان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النهي عن المثلة.
حدثنا محمد بن عيسى وزياد بن أيوب قالا: حدثنا هشيم أخبرنا مغيرة عن شباك عن إبراهيم عن هني بن نويرة عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أعف الناس قتلة أهل الإيمان)].
أورد أبو داود هنا (باب النهي عن المثلة)، والمثلة: هي التمثيل بالقتيل، سواء قبل قتله أو بعد قتله، والتمثيل به بأن تقطع أعضاؤه، فيجدع أنفه وتقطع أذناه وتفقع عينه، أو تقطع يده أو رجله، هذا هو التمثيل بالإنسان، وسواء أكان ذلك قبل أن يقتل أم بعد أن يقتل، وقد جاءت السنة بالنهي عن ذلك، وقد سبق أن مر بنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عندما يؤمر أميراً على جيش يوصيه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم يقول: (اغزوا باسم الله) ويوصيه بوصايا في الحرب فيقول فيها: (لا تغدروا ولا تمثلوا)، فالتمثيل جاء النهي عنه، ولكن إذا كان المقتول أو الذي يراد قتله قد مثل فإنه يمثل به ويعاقب بمثل ما عمل.
ويدل على ذلك قصة العرنيين الذين مثلوا بالراعي فمثل بهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك إذا كان القتل حصل عن طريق التمثيل، فيكون القصاص عن طريق التمثيل أيضاً، فنفس العقوبة التي فعلها تفعل به، إلا أن تكون بأمر محرم فلا يجوز المقابلة به، أما إذا كان قد فعل ذلك فإنه يفعل به مثلما فعل، قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126].
ولما أخذ يهودي حلي جارية ثم رض رأسها بين حجرين فعل الرسول صلى الله عليه وسلم به مثلما فعل بالمقتولة، فرض رأسه بين حجرين.
فالتمثيل ابتداء لا يجوز، ولكن إذا كان على سبيل المقابلة، بأن كان الذين قتلوا وتمكن منهم حصل منهم التمثيل فإنهم يمثل بهم جزاء وفاقاً.
أورد أبو داود هنا حديث عبد الله بن مسعود: [(أعف الناس قتلة أهل الإيمان)].
يعني أنهم عندما يقتلون يحسنون القتل، وذلك لأنهم ملتزمون بأحكام الإيمان، وأنهم مؤمنون يمتثلون أحكام الإسلام، فهم يحسنون القتل، وقد جاء في الحديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته).
فقوله: [(أعف الناس قتلة أهل الإيمان)] يعني أنهم يحسنون القتل، ولا يحصل منهم التمثيل بمن يقتلونه فيعذبونه عند قتله، وإنما يريحونه بالقتل، فيقتلونه ويستريح بالقتل دون أن يمثلوا به قبل القتل أو بعده، إلا إذا كان على سبيل المجازاة والمقابلة.(316/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أعف الناس قتلة أهل الإيمان)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى وزياد بن أيوب].
محمد بن عيسى مر ذكره، وزياد بن أيوب ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا مغيرة].
هو مغيرة بن مقسم الضبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شباك].
هو شباك الضبي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود وابن ماجة [عن إبراهيم].
هو إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هني بن نويرة].
هني بن نويرة مقبول، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن علقمة] هو علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله].
هو عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه الهذلي، وهو صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
والحديث ضعفه الألباني ولعله من أجل ذلك المقبول ولكن حديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)، يدل على ما دل عليه.(316/4)
شرح حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدق وينهانا عن المثلة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن الحسن عن الهياج بن عمران أن عمران أبق له غلام، فجعل لله عليه لئن قدر عليه ليقطعن يده، فأرسلني لأسأل له، فأتيت سمرة بن جندب رضي الله عنه فسألته فقال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة) فأتيت عمران بن حصين فسألته فقال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن عمران بن حصين وعن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة.
والمقصود هنا النهي عن المثلة، والمثلة قد عرفناها فيما مضى.
قوله: [(أن عمران أبق له غلام فجعل الله عليه لئن قدر عليه ليقطعن يده)] قوله: [(أبق له غلام)] يعني: هرب، فأقسم أنه إذا ظفر به فسيقطع يده؛ عقوبة له على هذا الإباق وهذا الشرود، فأرسل من يسأل فأخبر بأن النبي نهى عن المثلة، ومعنى ذلك: لا تقطع يده.
لأن ذلك تمثيل، والتمثيل نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وليس فيه حجة على أن إقامة الحدود تمثيل، فإقامة الحدود ليست تمثيلاً، ولكن لو حصل أن إنساناً مثَّل وأقيم عليه الحد بمثل ما فعل فهذه مجازاة له على فعله، وأما إقامة الحدود بكونه يقطع رأسه أو تقطع اليد من أجل السرقة أو تقطع الرجل من أجل السرقة فهذا ليس من التمثيل؛ لأن الذي منع التمثيل هو الذي شرع هذه العقوبة.
وفي هذا الحديث لما سئل الصحابيان عن مسألة قطع يد العبد أخبرا بالشيء الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مشتمل على المطلوب وزيادة، فالمطلوب هو النهي عن التمثيل والثاني الذي ليس بمطلوب في هذه المناسبة هو الحث على الصدقة.(316/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
محمد بن المثنى هو أبو موسى العنزي الملقلب بـ الزمن، وهو ثقة، وهو أحد شيوخ رجال الكتب الستة، وكلهم روى عنه بدون واسطة.
[حدثنا معاذ بن هشام].
هو معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، وهو صدوق ربما وهم، وحديثه أخرجه رجال الكتب الستة.
[حدثني أبي] أبوه هو هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة] هو قتادة بن دعامة السدوسي، وهو ثقة مدلس، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن] هو الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الهياج بن عمران] هو هياج بن عمران بن الفضيل البرجمي مقبول، روى له من رجال الكتب الستة أبو داود فقط.
قوله: [فأتيت سمرة بن جندب] هو سمرة بن جندب بن هلال الفزاري، صحابي روى له أصحاب الكتب الستة.
قوله: [فأتيت عمران بن الحصين] هو عمران بن حصين بن عبيد الخزاعي، صحابي روى له أصحاب الكتب الستة.(316/6)
قتل النساء في الحرب(316/7)
شرح حديث إنكاره صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان في المغازي
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قتل النساء.
حدثنا يزيد بن خالد بن موهب وقتيبة يعني ابن سعيد قالا: حدثنا الليث عن نافع عن عبد الله رضي الله عنه: (أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقتولة، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قتل النساء والصبيان)].
أورد أبو داود هنا [باب في قتل النساء] يعني: في الحرب.
والنساء لا يقتلن في الحرب إلا أن يقاتلن، فيقتلن لقتالهن، وأما إذا لم يقاتلن فإنهن لا يقتلن ويكن سبياً.
عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما [(أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتولة، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان)].
فالنهي عن قتل النساء هو إذا لم يقاتلن، والصبيان إذا كانوا صغاراً لم يدركوا لا يقتلون، أما من بلغ منهم وحمل السلاح وقاتل فإنه يقتل لمقاتلته، وإلا فإنه لا يجوز قتل النساء ولا قتل الصبيان إذا لم يحصل القتال منهم.
والمراد بالنهي عن قتلهم كونهم يقصدون ويخصون بالقتل، أما إذا حصل أن السهام أرسلت إلى الكفار وكان معهم نساء فقتلن تبعاً فإنه لا بأس بذلك، أو إذا تترس الكفار بالنساء فإنه لا بأس بالقتل، وإنما المقصود تخصيصهن بالقتل.(316/8)
تراجم رجال إسناد حديث إنكاره صلى الله عليه وسلم قتل النساء في المغازي
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد بن موهب].
يزيد بن خالد بن موهب، ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة].
[وقتيبة -يعني ابن سعيد -].
كلمة [يعني] قالها من دون أبا داود؛ لأن أبو داود قال: [قتيبة] ولكن من دون أبي داود هو الذي قال: [يعني] يريد أن يوضح قتيبة، مع أن قتيبة لا يحتاج إلى توضيح؛ لأنه ليس في رجال الكتب الستة من يقال له: قتيبة سوى قتيبة بن سعيد.
[حدثنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله].
هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد رباعي من رباعيات أبي داود رحمه الله، وأما ذكر الشيخين: قتيبة ويزيد بن خالد بن موهب فإنها في طبقة واحدة؛ لأنهما شيخان لـ أبي داود يرويان عن الليث ولا يروي أحدهما من الآخر.(316/9)
شرح حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المرأة والعسيف
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا عمر بن المرقع بن صيفي بن رباح حدثني أبي عن جده رباح بن ربيع رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلاً فقال: انظر علام اجتمع هؤلاء؟ فجاء فقال: على امرأة قتيل.
فقال: ما كانت هذه لتقاتل! قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد رضي الله عنه، فبعث رجلاً فقال: قل لـ خالد: لا يقتلن امرأة ولا عسيفاً)].
أورد أبو داود حديث رباح بن ربيع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض غزواته فرأى الناس مجتمعين على شيء، فأرسل من يأتي بالخبر، وإذا هم قد اجتمعوا على امرأة مقتولة، وكأن هذا شيء يتعجب منه؛ لكونهم اجتمعوا عليها، ومعناه أنه شيء غريب، فقيل: إنهم اجتمعوا على امرأة قتيل.
و (قتيل) يستوي فيه المذكر والمؤنث، فيقال: امرأة قتيل ورجل قتيل.
فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: [(ما كانت هذه لتقاتل)].
وقوله صلى الله عليه وسلم: [(ما كانت هذه لتقاتل)] فيه إشارة إلى أنها إذا قاتلت تقتل؛ لأنه قال: [(ما كانت هذه لتقاتل)] فمعناه أن النهي عن قتل النساء لعدم قتالهن، لكن إن وجد منهن القتال فإنهن يقتلن.
ثم أرسل إلى خالد: [(لا تقتلن امرأة ولا عسيفاًَ)] والعسيف هو الأجير، قيل: ولعل المقصود الأجير الذي ليس معه سلاح، وإنما هو خادم، فلا يقتل ما دام أنه غير مقاتل، فيصير مثل المرأة، فالمرأة لا تقاتل والعسيف الذي ليس معه سلاح وإنما يأتي للخدمة لا يقتل، ولكنه إذا صار معه سلاح ولو كان أجيراً فإنه يقتل، بل المرأة نفسها إذا كان معها سلاح وقاتلت فإنها تقتل.(316/10)
تراجم رجال إسناد حديث نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل المرأة والعسيف
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
أبو الوليد الطيالسي مر ذكره.
[عن عمر بن المرقع بن صيفي بن رباح].
عمر بن المرقع بن صيفي بن رباح، صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثني أبي].
المرقع بن صيفي وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن جده رباح بن ربيع].
رباح بن ربيع، صحابي، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.(316/11)
شرح حديث: (اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سعيد بن منصور حدثنا هشيم حدثنا حجاج حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم)].
أورد أبو داود حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم)].
قوله: [(اقتلوا شيوخ المشركين)] يعني المسنين الذين هم أهل الحرب، وليس المقصود الشيوخ الهلكى أو الزمنى أو الفانين الذين بلغوا من الكبر عتياً، ليس المقصود هؤلاء، نعم إذا كانوا من أهل الرأي وأهل الفكر وأهل الخبرة وكان قتلهم من أجل التخلص من رأيهم ومن خبرتهم فهذا لا بأس به.
قوله: [(واستبقوا شرخهم)] يعني الشباب الذين لم يدركوا سن القتال وليسوا من أهل القتال، وأما إذا كانوا مقاتلين فإنهم يقاتلون بقتالهم كما سبق أن عرفنا ذلك.(316/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم)
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشيم حدثنا الحجاج] هشيم مر ذكره، وهو يروي عن ثلاثة يقال لكل منهم: الحجاج، والذي روى عن قتادة منهم هو حجاج بن أرطأة، والآخران ما جاء ذكرهم في الرواية عن قتادة.
وحجاج بن أرطأة صدوق كثير الخطأ والتدليس، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن قتادة].
مر ذكره.
[عن الحسن].
هو الحسن البصري، وقد مر ذكره.
[عن سمرة].
سمرة مر ذكره.
والحديث ضعفه الألباني، وهو من رواية الحسن عن سمرة، ومعروف أن رواية الحسن عن سمرة في غير حديث العقيقة غير صحيحة، وفيها ثلاثة أقوال: منهم من قال: هي معتبرة بإطلاق، ومنهم من قال: غير معتبرة بإطلاق، ومنهم من قال: معتبرة في حديث العقيقة دون غيره من الأحاديث، وهذا الحديث هنا غير حديث العقيقة.(316/13)
شرح حديث عائشة في قتل المرأة القرظية مع رجال قومها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لم يقتل من نسائهم -تعني بني قريظة- إلا امرأة، إنها لعندي تحدث تضحك ظهراً وبطناً ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقتل رجالهم بالسيوف إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا.
قلت: وما شأنك؟ قالت: حدث أحدثته.
قالت: فانطلق بها فضربت عنقها، فما أنسى عجباً منها أنها تضحك ظهراً وبطناً وقد علمت أنها تقتل!].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أنه لما كان قتل بني قريظة لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة.
قالت عائشة: [إنها لعندي تحدث تضحك ظهراً وبطناً].
قولها: [ظهراً وبطناً] معناه أنها في غاية الارتياح والسرور، ولعله كناية عن شدة ارتياحها وطمأنينتها وعدم حصول الألم والضجر منها، ولعل قولها: [ظهراً] معناه أنها من شدة الضحك قد تسقط على ظهرها كما يقال عن الشخص الذي استغرق في الضحك: إنه قد يذهب على قفاه من شدة ضحكه.
قولها: [إذ هتف هاتف] أي: نادى مناد باسمها [أين فلانة؟ قالت: أنا.
قلت: وما شأنك؟ قالت: حدث أحدثته] قيل: إن الحدث الذي أحدثته أنها كانت تسب النبي صلى الله عليه وسلم.
فخرجت فقتلت، وكفى الله المسلمين لسانها، وذلك لأنها كانت تسب رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قولها: [فما أنسى عجباً منها أنها تضحك ظهراً وبطناً وقد علمت أنها تقتل!].
معناه أنها في غاية الارتياح والطمأنينة مع كون القتل موجوداً في رجالها، أما علمها بأنها ستقتل فقد تكون فهمت ذلك من كونها أتت بشيء يؤدي بها إلى الهلاك ويكون سبباً في هلاكها، وهو الحدث الذي أحدثته، وهو كونها كانت تسب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقولها: [إنها لعندي تحدث تضحك] معناه أنها تتكلم وتضحك مع حديثها.(316/14)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة في قتل المرأة القرظية مع رجال قومها
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا محمد بن سلمة].
عبد الله بن محمد النفيلي مر ذكره، ومحمد بن سلمة هو الحراني، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني محمد بن جعفر بن الزبير].
محمد بن جعفر بن الزبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة بن الزبير].
عروة بن الزبير ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي أحد سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(316/15)
شرح حديث إجازته صلى الله عليه وسلم تبييت المشركين مع ذراريهم ونسائهم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله -يعني ابن عبد الله - عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة رضي الله عنهم أجمعين أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الدار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم ونسائهم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (هم منهم) وكان عمرو -يعني ابن دينار - يقول: (هم من آبائهم).
قال الزهري: ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك عن قتل النساء والولدان].
أورد أبو داود حديث الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الدار -والدار المقصود بها القبيلة والجماعة من الكفار- يبيتون فيصاب النساء والصبيان، فقال عليه الصلاة والسلام: [(هم منهم)].
والمقصود من ذلك أنهم إذا كانوا غير مقصودين بالقتل ولكن كانوا مجتمعين وفيهم نساء وصبيان فأرسلت السهام فإنها تصيب من تصيب، وليس الصبيان والنساء مقصودين، وإنما يقصد المقاتلة.
فقوله: [(هم منهم)] يعني أنهم تبع للرجال، وما مر من الأحاديث في النهي عن قتل النساء والصبيان المقصود به كونهم يقصدون بالقتل، كون المرأة يراد قتلها والصبي يراد قتله، فهذا هو الذي لا يجوز.
وأما إذا كانوا مختلطين، أو كان الكفار متترسين بالنساء والصبيان أو بينهم نساء وصبيان وهم يرسلون السهام على الناس والمسلمون يرسلون السهام عليهم فتصيب نساءً أو صبياناً فهذا ليس فيه بأس، ولا مانع من ذلك.
وذكر أن عمرو بن دينار كان يقول: [(هم من آبائهم)].
ومعناه أن الصبيان حكمهم حكم الآباء فهم تابعون لهم، وإذا حصل قتلهم فليسوا مقصودين.
قوله: [قال الزهري: ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك عن قتل النساء والولدان].
معناه أنه نهى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن قتل النساء والصبيان على سبيل الاستقلال، وأما أن ترسل السهام فتصيب من تصيب من الرجال أو النساء والصبيان فهذا لا بأس به.(316/16)
تراجم رجال إسناد حديث إجازته صلى الله عليه وسلم تبييت المشركين مع ذراريهم ونسائهم
قوله: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح].
أحمد بن عمرو بن السرح المصري ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا سفيان].
سفيان هو ابن عيينة المكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله -يعني ابن عبد الله -].
هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[عن الصعب بن جثامة].
الصعب بن جثامة رضي الله تعالى عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قوله: [وكان عمرو - يعني ابن دينار - يقول].
عمرو بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(316/17)
حكم حرق ذي الروح بالنار(316/18)
شرح حديث أمره صلى الله عليه وسلم سرية بإحراق رجل ثم نهيه عن ذلك
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كراهية حرق العدو بالنار.
حدثنا سعيد بن منصور حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن الحزامي عن أبي الزناد حدثني محمد بن حمزة الأسلمي عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمره على سرية، قال: فخرجت فيها وقال: (إن وجدتم فلاناً فأحرقوه بالنار.
فوليت فناداني، فرجعت إليه فقال: إن وجدتم فلاناً فاقتلوه ولا تحرقوه؛ فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار)].
أورد الإمام أبو داود باباً في كراهية حرق العدو بالنار.
أي أنه لا يعذب أو يقتل أحد بإحراقه بالنار بأن تؤجج نار فيقذف فيها، أي أن ذلك لا يجوز، وإنما يقتل بالسيف أو بأي وسيلة من الوسائل التي يكون بها إزهاق روحه بدون هذه الطريقة التي هي التحريق بالنار.
وقد أورد أبو داود رحمة الله تعالى عليه حديث حمزة الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله في سرية وأمره عليها وأنه قال: [(إن وجدتم فلاناً فأحرقوه بالنار)] فلما ولى ناداه وقال له: [(إن وجدتم فلاناً فاقتلوه ولا تحرقوه بالنار؛ فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار)] فدل هذا على أن التحريق بالنار لا يجوز، اللهم إلا إذا كان على سبيل القصاص، بأن يكون حرق غيره فيحرق هو.
وقد سبق أن مر في المثلة أنه لا يمثل الإنسان، ولكنه إذا قتل بالتمثيل فإنه يجازى بمثل ما فعل ويعامل بمثل ما عامل غيره به.
إذاً: التحريق بالنار لا يجوز، وإنما يجوز في حق من قتل بالتحريق فإنه يقتل بالتحريق جزاءً وفاقاً.
وقوله: [باب في كراهية حرق العدو] الكراهة يراد بها هنا التحريم، وقد يحصل أنه في الحرب تقذف القنابل والصواريخ التي تشتعل ناراً، وهنا يقال: إذا لم يجد المجاهدون وسيلة إلا قذف مثل ذلك فإن اشتعالها ناراً بالعدو قد يحصل وقد لا يحصل، وليس هو مثل تأجيج النار ثم بعد ذلك قذفهم فيها.(316/19)
تراجم رجال إسناد حديث أمره صلى الله عليه وسلم سرية بإحراق رجل ثم نهيه عن ذلك
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة، أخرج له أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن الحزامي].
مغيرة بن عبد الرحمن الحزامي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزناد].
هو عبد الله بن ذكوان المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني محمد بن حمزة الأسلمي].
محمد بن حمزة الأسلمي مقبول، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والنسائي.
[عن أبيه].
هو حمزة الأسلمي رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي.(316/20)
شرح حديث أمره صلى الله عليه وسلم سرية بإحراق رجل ثم نهيه عن ذلك من طريق أخرى وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يزيد بن خالد وقتيبة أن الليث بن سعد حدثهم عن بكير عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعث فقال: (إن وجدتم فلاناً وفلاناً) فذكر معناه].
أورد المصنف حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهم في بعث فقال: [(إن وجدتم فلاناً وفلان) فذكر معناه].
أي أنه يحرق بالنار، ثم بعد ذلك قال: (اقتلوه؛ فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار).
وهذا يشهد للحديث السابق الذي فيه من هو مقبول، وهو محمد بن حمزة الأسلمي.
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد].
هو يزيد بن خالد الدمشقي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وقتيبة].
هو قتيبة بن سعيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن الليث بن سعد حدثهم] هو الليث بن سعد المصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بكير].
هو بكير بن عبد الله بن الأشج المصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن يسار].
سليمان بن يسار ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(316/21)
شرح حديث إنكاره صلى الله عليه وسلم إحراق قرية نمل وفجع حمرة بولدها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى أخبرنا أبو إسحاق الفزاري عن أبي إسحاق الشيباني عن ابن سعد - قالغير أبي صالح: عن الحسن بن سعد - عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش، فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها.
ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: من حرق هذه؟ قلنا: نحن.
قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، وأن النبي عليه الصلاة والسلام رأى حمرة -هي طائر- تفرش جناحها وترفرف في الأرض؛ لأنها قد فجعت بأخذ فرخيها، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: [(من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها)] ثم رأى قرية نمل قد أحرقت فقال: [(من أحرق هذه؟ قلنا: نحن.
قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار)].
وهذا محل الشاهد، فلا يعذب الإنسان ولا الحيوان بالنار، لا يعذب بالنار إلا رب النار.
فمحل الشاهد من الترجمة الجملة الأخيرة، وأما الجملة الأولى المتعلقة بالحمرة فهي لا تتعلق بالترجمة، ولكنها تدل على أن الطائر والحيوان لا يفجع بولده، لاسيما إذا كان صغيراً، فيترك، وإن أخذ فإنه يرجع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإرجاع ولديها إليها، أي: ولدي الحمرة.(316/22)
تراجم رجال إسناد إنكاره صلى الله عليه وسلم إحراق قرية نمل وفجع حمرة بولدها
قوله: [حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى].
أبو صالح محبوب بن موسى صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا أبو إسحاق الفزاري].
هو إبراهيم بن محمد بن الحارث، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق الشيباني].
هو سليمان بن أبي سليمان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن سعد].
هو الحسن بن سعد، ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[قال غير أبي صالح: عن الحسن بن سعد].
يعني أن غير أبي صالح -وهم شيوخ لم يذكرهم -نسبوه فقالوا: الحسن بن سعد.
وأما رواية أبي صالح التي أوردها فإنه ليس فيها إلا ابن سعد فأراد أبو داود أن يبين من هو ابن سعد هذا فقال: إن غير أبي صالح -أي: الذين يحدثون بهذا الحديث ولم يذكرهم- نسبوه، فالذين حصلت منهم التسمية هم غير أبي صالح الذي جاء في الإسناد.
[عن عبد الرحمن بن عبد الله].
هو عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وبه كان يُكنَّى أبوه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه.
[عن أبيه].
هو عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(316/23)
كراء الدابة على النصف أو السهم(316/24)
شرح حديث طلب واثلة بن الأسقع حمله في غزوة تبوك مقابل سهمه فيها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يكري دابته على النصف أو السهم.
حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدمشقي أبو النضر حدثنا محمد بن شعيب أخبرني أبو زرعة يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن عمرو بن عبد الله أنه حدثه عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أنه قال: (نادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، فخرجت إلى أهلي، فأقبلت وقد خرج أول صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فطفقت في المدينة أنادي: ألا من يحمل رجلاً له سهمه.
فنادى شيخ من الأنصار فقال: لنا سهمه على أن نحمله عقبة وطعامه معنا؟ قلت: نعم.
قال: فسر على بركة الله تعالى.
قال: فخرجت مع خير صاحب حتى أفاء الله علينا، فأصابني قلائص، فسقتهن حتى أتيته، فخرج فقعد على حقيبة من حقائب إبله، ثم قال: سقهن مدبرات.
ثم قال: سقهن مقبلات.
فقال: ما أرى قلائصك إلا كراماً.
قال: إنما هي غنيمتك التي شرطت لك.
قال: خذ قلائصك -يا ابن أخي- فغير سهمك أردنا)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في الرجل يكري دابته على النصف أو السهم] أي: كراء الدابة على النصف مما يحصل باستعمالها، وذلك بأن يكريها على أن يحتطب عليها وله نصف الحطب، أو أن يستعملها للكراء ونقل الناس عليها وتأجيرها وله النصف مما يحصل من كرائها، ولا بأس بذلك ما دام أنها نسبة معينة ومعلومة؛ لأنه إن حصلت فائدة فهما مشتركان فيها، وهي مثل المضاربة التي أجمع المسلمون على جوازها بأن يدفع الإنسان مالاً لعامل والعامل يعمل، وإن حصل ربح فهو بينهما على النسبة التي يتفقان عليها، إما نصف ونصف، أو ثلث وثلثان، أو ربع وثلاثة أرباع، على حسب النسبة.
وكذلك المزارعة والمساقاة -أيضاً- هي من هذا القبيل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على النصف مما يخرج منها من ثمر أو زرع، فهذا مثله، وهو شبيه به ولا بأس به؛ لأنها مشاركة، فهذا منه المركوب وهذا منه العمل، وإذا حصل ربح وفائدة فإنها تقسم بينهما على النسبة التي يتفقان عليها، فيكون للعامل مقابل عمله، ويكون لصاحب الدابة مقابل استخدام دابته، وإذا حصلت خسارة فعلى العامل تعبه وعلى صاحب الدابة تعب دابته.
وكذلك لو أن إنساناً أعطى سيارته لإنسان يشتغل عليها بالأجرة فما حصل من نقود في مقابل التأجير لهذه السيارة فإنه يكون لهذا النصف ولهذا النصف، أو لهذا الثلث ولهذا الثلثان، كل ذلك لا بأس به؛ لأن هذا من جنس المضاربة، ومن جنس المساقاة والمزارعة، فلا بأس بذلك، ولكن الذي لا يجوز هو أن يقول: إن لي من الناتج -مثلاً- ألف ريال أو مائة ريال.
ويحدد بمقدار معين.
فهذا لا يجوز اشتراطه؛ لأنه قد لا يحصل من العمل إلا هذا المقدار فيظفر به أحدهما، ويكون الآخر حينئذٍ ما حصل فائدة وما حصل شيئاً.
ولكن إذا كان العمل على النسبة مما يحصل فإن هذا لا بأس به، فإن حصل شيء قليل قسم بينهما على النسبة، وإن حصل شيء كثير قسم بينهما على النسبة، ولا بأس بمثل هذه المعاملة، وفيها خلاف بين أهل العلم، ولكن القول الصحيح الجواز؛ لأنها شبيهة بالمضاربة وشبيهة بالمساقاة والمزارعة.
وأورد أبو داود هنا حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى في غزوة تبوك للخروج إلى الجهاد في سبيل الله، وكان النبي عليه الصلاة والسلام استنفر الناس، ولم يبق إلا من هو معذور أو منافق، أو من كان غير معذور ولكن مرت عليه الأيام دون أن يخرج، والسبب الأخير هو الذي حصل لـ كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله تعالى عنهم، وهم الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وليس لهم أعذار وليسوا بالمنافقين، وقد تاب الله عليهم وأنزل فيهم آية تتلى في كتاب الله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118] أي: وقد تاب على الثلاثة الذين خلفوا.
فلما نادى رسول الله بغزوة تبوك لم يكن مع واثلة رضي الله تعالى عنه مركوب، فكان يتردد على قومه ويقول: [من يحمل رجلاً له سهمه؟].
يعني: ويكون له سهمه.
فمثل هذه المعاملة لا بأس بها إذا كان السهم معلوم النسبة، كأن يكون الذي يحصله ثلاثة أسهم فسهم لشخص وسهمان لشخص، أو يقسم على النصف، فلا بأس بمثل هذه المعاملة.
قوله: [فنادى شيخ من الأنصار فقال: لنا سهمه على أن نحمله عقبة؟].
المراد بحمله عقبة أنه لا يركب دائماً، وإنما يركب بالتعاقب، فيركب مسافة ثم يأتي آخر ويركب مكانه، أي: يتعاقبون على البعير.
قوله: [وطعامه معنا].
يعني: يأكل معنا.
فلما حصل له قلائص -وهي سهمه الذي حصله- جاء ليعطيهن ذلك الأنصاري، فقال: [سقهن مدبرات، ثم قال: سقهن مقبلات] يريد أن يعرف جودتهن وحسنهن من ضدهما، فقال: [ما أراهن إلا كريمات] فقال واثلة: هن السهم الذي جرى بيني وبينك الاتفاق عليه، فقال: [خذ قلائصك] والقلائص: جمع قلوص، وهي الناقة الشابة، قال: [خذ قلائصك - يا ابن أخي- فغير سهمك أردنا] يعني: ما أردنا سهمك الذي تحصله، ولكن أردنا أن نشاركك في الأجر في كوننا حملناك وساعدناك، ولم يأخذ السهم الذي حصله من القلائص.
والحديث ضعيف، ولكن ما ترجم به المصنف هو صحيح، وهو شبيه بالمضاربة والمزارعة والمساقاة، ولكن إذا اشترط أحدهما شيئاً يخصه من الثمرة والريع دون الآخر، بحيث يقول: لي كذا والباقي يكون بيننا.
أو: الباقي لك فإن هذا ليس بصحيح؛ لأنه قد لا يحصل إلا هذا المقدار الذي اشترطه أحدهما، فيكون أحدهما لم يحصل شيئاً والآخر أخذ ما حصل.
وقوله: [فخرج فقعد على حقيبة من حقائب إبله].
الحقيبة قيل: هي ما يكون وراء القتب والرحل، ومعناه أنها شيء متصل بالرحل، إما شيء محشو، أو بشيء يكون تحت الرحل، فالمهم أنه شيء مرتفع جعله على الأرض وجلس عليه.(316/25)
تراجم رجال إسناد حديث طلب واثلة بن الأسقع حمله في غزوة مقابل سهمه فيها
قوله: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدمشقي أبو النضر].
إسحاق بن إبراهيم الدمشقي أبو النضر صدوق أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا محمد بن شعيب].
هو محمد بن شعيب بن شابور، وهو صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[أخبرني أبو زرعة يحيى بن أبي عمرو الشيباني].
أبو زرعة يحيى بن أبي عمرو الشيباني ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.
[عن عمرو بن عبد الله].
عمرو بن عبد الله مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن واثلة بن الأسقع].
واثلة بن الأسقع رضي الله عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(316/26)
شرح سنن أبي داود [317]
للأسير في الشريعة أحكام، ومن ذلك الإحسان إليه وترغيبة في الإسلام، ويجوز حبسه وضربه وتقريره لمعرفة ما عنده من أخبار العدو، ولا يجوز إكراهه على الإسلام إن أباه، ويجوز قتله إن رأى الإمام المصلحة في ذلك.(317/1)
إيثاق الأسير الكافر(317/2)
شرح حديث: (عجب ربنا من قوم يدخلون الجنة في السلاسل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الأسير يوثق.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد -يعني ابن سلمة - أخبرنا محمد بن زياد سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (عجب ربنا عز وجل من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل!)].
أورد أبو داود [باب في الأسير يوثق].
يعني: يوثق بالحبال والقيود حتى لا يفر وحتى يُطمأن إلى إمساكه وعدم إفلاته، فهو يوثق، والله عز وجل قال: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4].
ووأرد أبو داود حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(عجب ربنا عز وجل من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل)] والمقصود بهم الأسارى الذين يؤسرون وهم كفار، فإن ذلك الأسر من أسباب إسلامهم ودخولهم في الإسلام، فهم يقادون إلى الجنة في السلاسل، يعني أنهم يجرون إلى شيء لا يريدونه وهو خير لهم، فيئول بهم الأمر إلى أن يسلموا ويكونوا من أهل الجنة وقد كانوا كارهين في أول الأمر؛ لأن أسرهم مكروه لهم، ولكنه يترتب على أسرهم وبقائهم وعدم قتلهم أنهم يشاهدون أحوال المسلمين وأعمال المسلمين وأحكام الإسلام، فيدخلون في الإسلام، فيكونون من أهل الجنة، ويسلمون من أن يكونوا من أهل النار الذين هم الكفار الذين لا سبيل لهم إلى الجنة، ومآلهم إلى النار، ويبقون فيها أبد الآباد ولا يخرجون منها أبداً.
هذا هو المقصود بالحديث، وفيه إثبات صفة العجب لله عز وجل، وهي ثابتة في السنة كما في هذا الحديث وغيره، وأيضاً ثابتة في القرآن على إحدى القراءتين في قول الله عز وجل: {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12].
وقد قال المنذري: (عجب ربنا) قيل: عظم ذلك عنده.
وقيل: عظم جزاؤه.
فسمى الجزاء عجباً، وقال ابن فورك: والعجب المضاف إلى الله تعالى يرجع إلى معنى الرضا والتعظيم، وأن الله يعظم من أخبر عنه بأنه يعجب منه ويرضى عنه.
وهذا من التأويل، والأصل في الصفات أنها لا تؤول، وإنما تثبت على الوجه الذي يليق بالله بكماله وجلاله، والصفات كلها من باب واحد يؤتى بها على نهج واحد وعلى طريقة واحدة بدون تأويل وبدون تحريف وبدون تكييف وبدون تشبيه أو تعطيل أو تمثيل، بل على حد قول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].(317/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (عجب ربنا من قوم يدخلون الجنة في السلاسل)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد -يعني ابن سلمة -].
حماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا محمد بن زياد].
محمد بن زياد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت أبا هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، وقد مر ذكره.
والإسناد من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(317/4)
شرح حديث قصة إيثاق الحارث بن البرصاء الليثي
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن مسلم بن عبد الله عن جندب بن مكيث رضي الله عنه أنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن غالب الليثي رضي الله عنه في سرية، وكنت فيهم، وأمرهم أن يشنوا الغارة على بني الملوح بالكديد، فخرجنا حتى إذا كنا بالكديد لقينا الحارث بن البرصاء الليثي، فأخذناه، فقال: إنما جئت أريد الإسلام، وإنما خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! فقلنا: إن تكن مسلماًَ لم يضرك رباطنا يوماً وليلة، وإن تكن غير ذلك نستوثق منك.
فشددناه وثاقاً)].
أورد أبو داود حديث جندب بن مكيث رضي الله عنه.
[(نستوثق منه)] يعني: نطمئن إلى أنا قد تمكنا منك وأقعدناك حتى لا تفر وأنت كافر.
والمقصود من هذا بيان ما دلت عليه الترجمة من أن توثيق الأسير جائز، وقد جاء بذلك القرآن والسنة، فجاء في القرآن في قوله تعالى: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد:4]، وجاء في السنة في أحاديث كثيرة، ومنها هذا الحديث.(317/5)
تراجم رجال إسناد حديث قصة إيثاق الحارث بن البرصاء الليثي
قوله: [حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر].
عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الوارث].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يعقوب بن عتبة].
يعقوب بن عتبة ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن مسلم بن عبد الله].
مسلم بن عبد الله مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن جندب بن مكيث].
جندب بن مكيث رضي الله تعالى عنه صحابي، أخرج له أبو داود.
والإسناد فيه ذلك المجهول، والحديث ضعيف من حيث الإسناد، لكن الوثاق وكون الأسير يوثق جاء في أحاديث منها الأحاديث المتقدمة.(317/6)
شرح حديث قصة أسر ثمامة بن أثال وإسلامه رضي الله تعالى عنه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عيسى بن حماد المصري وقتيبة، قال قتيبة: حدثنا الليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: (بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ قال: عندي -يا محمد- خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت.
فتركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كان الغد، ثم قال له: ما عندك يا ثمامة؟ فأعاد مثل هذا الكلام، فتركه حتى كان بعد الغد فذكر مثل هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أطلقوا ثمامة.
فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل فيه، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسول) وساق الحديث.
قال عيسى أخبرنا الليث وقال: ذا ذم].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بعثاً قبل نجد فجاءوا بـ ثمامة بن أثال وهو سيد أهل اليمامة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بربطه في سارية من سواري المسجد، ثم جاء إليه وقال: [(ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي -يا محمد- خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت)].
قوله: [(عندي خير)] فسر هذا الخير الذي عنده بقوله: [(إن تقتل تقتل ذا دم)] يعني: يستحق القتل، وفي رواية أخرى: [ذا ذم] أي: ذا ذمة أو ذمام.
[(وإن تنعم تنعم على شاكر)] يعني: شاكر لك عفوك وإحسانك.
فتركه ثم أعاد عليه مرة ثانية ثم الثالثة وهو يجيب جواباً واحداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [(أطلقوا ثمامة)]، فلما أطلقوه ذهب إلى نخل فيه ماء واغتسل وجاء وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأسلم.
والمقصود من إيراد الحديث أنه ربط وأوثق، وفي الحديث دليل على اغتسال الكافر عند إسلامه، وذلك لأن الكفار لا يتطهرون، ويباشرون النجاسات، ولا يلتزمون بالأحكام الشرعية مثل الاغتسال من الجنابة وما إلى ذلك، فذهب واغتسل ثم جاء وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ثم إنه ذهب واعتمر، ولما رأه أهل مكة من الكفار قالوا: صبأت.
فأخبرهم أنه أسلم وأنه هداه الله، وأن الميرة التي تأتيهم من نجد سيمنع مجيئها إليهم إلا إذا أذن محمد صلى الله عليه وسلم.
فالحاصل أن هذا الرجل أسلم رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ومحل الشاهد من ذلك كونه ربط في سارية من سواري المسجد.
والحديث فيه جواز دخول الكافر المسجد، ولكن ذلك ليس على إطلاقه، وإنما للحاجة.
والكافر ليست ذاته نجسة، بمعنى أن من يلمسه عليه أن يغسل يده، وإنما نجاسة الكفار نجاسة حكمية، وهي نجاسة الكفر، وأما أبدانهم فمن لمسها أو صافح إنساناً منهم فلا يغسل يديه من أجل المصافحة أو لأنه لمس شيئاً نجساً؛ لأن النجاسة حكمية.(317/7)
تراجم رجال إسناد حديث قصة أسر ثمامة بن أثال وإسلامه رضي الله تعالى عنه
قوله: [حدثنا عيسى بن حماد المصري].
عيسى بن حماد المصري الملقب بـ زغبة وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وقتيبة].
قتيبة بن سعيد مر ذكره.
[قال قتيبة: حدثنا الليث] الليث بن سعد مر ذكره.
[عن سعيد بن أبي سعيد].
هو سعيد بن أبي سعيد المقبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنه سمع أبا هريرة] هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، وقد مر ذكره.
وهذا الإسناد رباعي؛ لأن قتيبة وعيسى بن حماد في طبقة واحدة.(317/8)
شرح حديث ربط يدي سهيل بن عمرو إلى عنقه بعد أسره يوم بدر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عمرو الرازي حدثنا سلمة -يعني ابن الفضل - عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة قال: (قدم بالأسارى حين قدم بهم وسودة بنت زمعة عند آل عفراء في مناخهم على عوف ومعوذ ابني عفراء، قال: وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب، قال: تقول سودة: والله إني لعندهم إذ أتيت فقيل: هؤلاء الأسارى قد أتي بهم.
فرجعت إلى بيتي ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه، وإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة مجموعة يداه إلى عنقه بحبل) ثم ذكر الحديث].
أورد أبو داود حديث: [يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة قال: [(قدم بالأسارى حين قدم بهم وسودة عند آل عفراء في مناخهم)] فلما رجعت إلى بيتها وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأت أبا يزيد سهيل بن عمرو مجموعة يداه إلى عنقه أي أنه قد أوثق.
والشاهد منه إيثاق الأسارى، وأنهم يوثقون، لكون سهيل قد جمعت يداه إلى عنقه، أي: قد أوثق بالقيد.
وقوله: [ثم ذكر الحديث] يشير إلى أن فيه اختصاراً.
والحديث ضعيف لأن فيه انقطاعاً، وقد يكون -أيضاً- ضعفه من جهة سلمة بن الفضل، وقد ضعف الحديث الشيخ الألباني.(317/9)
تراجم رجال إسناد حديث ربط يدي سهيل بن عمرو إلى عنقه بعد أسره يوم بدر
قوله: [حدثنا محمد بن عمرو الرازي].
محمد بن عمرو الرازي ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة.
[حدثنا سلمة -يعني ابن الفضل -].
سلمة بن الفضل صدوق كثير الخطأ، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة في التفسير.
[عن ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر].
ابن إسحاق مر ذكره، وعبد الله بن أبي بكر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة].
يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.(317/10)
الأسير ينال منه ويضرب ويقرر(317/11)
شرح حديث ضرب الصحابة عبد بني الحجاج للاستعلام عن عير أبي سفيان
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الأسير ينال منه ويضرب ويقرر.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب أصحابه فانطلقوا إلى بدر فإذا هم بروايا قريش فيها عبد أسود لبني الحجاج فأخذه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجعلوا يسألونه: أين أبو سفيان؟ فيقول: والله ما لي بشيء من أمره علم، ولكن هذه قريش قد جاءت فيهم أبو جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية بن خلف، فإذا قال لهم ذلك ضربوه، فيقول: دعوني دعوني أخبركم.
فإذا تركوه قال: والله ما لي بـ أبي سفيان من علم، ولكن هذه قريش قد أقبلت فيهم أبو جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية بن خلف قد أقبلوا والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي وهو يسمع ذلك، فلما انصرف قال: والذي نفسي بيده! إنكم لتضربونه إذا صدقكم وتدعونه إذا كذبكم، هذه قريش قد أقبلت لتمنع أبا سفيان.
قال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هذا مصرع فلان غداً.
ووضع يده على الأرض، وهذا مصرع فلان غداً.
ووضع يده على الأرض، وهذا مصرع فلان غداً.
ووضع يده على الأرض.
فقال: والذي نفسي بيده! ما جاوز أحد منهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ بأرجلهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي [باب في الأسير ينال منه ويضرب ويقرر].
يعني أن ذلك سائغ عند الحاجة إلى ذلك، وهو كونه يضرب وينال منه ويقرر ويستجوب ويسأل عن أخبار العدو وعمّا وراءه، كل ذلك لا بأس به عند الحاجة.
وأورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذهب هو وأصحابه إلى بدر لأجل أخذ العير التي جاء بها أبو سفيان من الشام إذا هم بروايا قريش فيها عبد أسود لبني الحجاج.
والروايا: جمع راوية، وهي القِرَب التي تحمل على الإبل للسقي.
فسألوا هذا العبد عن أبي سفيان، وأبو سفيان هو الذي جاء من الشام، فأخبرهم بأن قريشاً قد جاءت فيها فلان وفيها فلان وفيها فلان، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي ويسمع كلامه وكلامهم، فضربوه، فكان إذا قال: دعوني أخبركم تركوا الضرب، فيقول لهم: مثل الكلام الذي قاله أولاً، وكان صادقاً في إخباره عن الجماعة الذين جاءوا ليدافعوا عن عير أبي سفيان وليقاتلوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يسمعهم، فلما سلم قال: [(إنكم لتضربونه إذا صدقكم وتدعونه إذا كذبكم)].
يعني: إذا قال دعوني أخبركم تركوه، وهو ليس عنده خبر عن الشيء الذي يريدونه بالنسبة لعير أبي سفيان، ولكن كان عنده الخبر عن قريش.
فالمقصود من هذا أنهم كانوا يضربونه والرسول صلى الله عليه وسلم ما نهاهم عن الضرب، أي: أقرهم على ذلك، وما قال: لا تفعلوا.
فدل هذا على جواز ضرب الأسير أو الشخص الذي يحتاج إلى ضربه من أجل استخراج شيء منه يفيد المسلمين ضد أعدائهم.
وفيه دليل على أن الإنسان إذا كان يصلي فإنه يمكنه أن يسمع الكلام الذي يجري حوله بحيث لا يشغله عن صلاته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع الذي يقول لهم، وبعدما صلى أخبرهم بأن شأنه أنه إذا صدقكم ضربتموه وإذا كذبكم تركتموه ولم تضربوه.
وقوله: [قال رسول صلى الله عليه وسلم: (هذا مصرع فلان غداً)].
معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار لهم في الأرض إلى مصارع هؤلاء الكفار الذين هم صناديد قريش وكفار قريش ومقدموهم.
فلما جاءت الوقعة ما تجاوز كل واحد منهم المكان الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من علامة نبوته ودلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، حيث يخبر عن الشيء المستقبل فيقع طبقاً لما أخبر به صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ثم إنه أمر بهم فسحبوا وألقوا في قليب في بدر، والقليب هي البئر المحفورة غير المطوية، فسحبوا وألقوا في هذه القليب.(317/12)
تراجم رجال إسناد حديث ضرب الصحابة عبد بني الحجاج للاستعلام عن عير أبي سفيان
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت].
موسى بن إسماعيل مر ذكره، وحماد مر ذكره، وثابت هو ابن أسلم البناني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والإسناد من الأسانيد العالية عند أبي داود، وهي الرباعيات.(317/13)
إكراه الأسير على الإسلام(317/14)
شرح حديث بيان سبب نزول قوله تعالى: (لا إكراه في الدين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الأسير يكره على الإسلام.
حدثنا محمد بن عمرو بن علي المقدمي قال: حدثنا أشعث بن عبد الله -يعني السجستاني - ح وحدثنا ابن بشار قال: حدثنا ابن أبي عدي - وهذا لفظه -، ح وحدثنا الحسن بن علي قال: حدثنا وهب بن جرير عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كانت المرأة تكون مقلاة فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا.
فأنزل الله عزوجل: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256]).
قال أبو داود: المقلاة التي لا يعيش لها ولد].
أورد أبو داود [باب في الأسير يكره على الإسلام] أي أنه لا يكره، فالأسير لا يكره فيقال له: إما أن تسلم وأما أن نقتلك، ليس هذا من حكم الإسلام، وإنما يوثق ويصير عبداً بين مسلمين يشاهد أحكام الإسلام وأعمال الإسلام، فيكون ذلك سبباً في إسلامه, فما دام أن المسلمين قد تمكنوا منه فإنه يصير تحت إمرتهم وتحت سلطتهم وتحت تصرفهم، فيكون رقيقاً مملوكاً يتصرفون فيه كيف يشاءون، ثم يكون وجوده بين المسلمين سبباً في إسلامه، فالمقصود هو الهداية وليس المقصود القتل.
ولكن كون المسلمين يذهبون إلى بلاد الكفار ويغزونهم ويقاتلونهم على أن يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية ويكونوا تحت حكم الإسلام هذا هو حكم الإسلام، ومعنى هذا أن فيه جهاداً وفيه انتقال المسلمين من بلادهم إلى بلاد الكفار يغزونهم، فيدعونهم إلى الإسلام، وإلى أن يدخلوا تحت لوائه أو يعطوا الجزية ويكونوا تابعين للمسلمين يعاملهم المسلمون المعاملة التي جاء بها الإسلام.
وأما أن يكون عندهم كافر أسير فيخيرونه بين القتل أو الإسلام فليس الأمر الشرعي كذلك؛ لأنه ما حصل إلزام الأفراد الذين عاشوا تحت حكم الإسلام مأسورين، وكذلك الذين أعطوا الجزية عن يد وهو صاغرون، فهؤلاء ما أكرهوا على الإسلام بحيث يلزم الإنسان منهم بأن يسلم وإلا قتل، بل إن أسلم فالحمد لله، وإلا فإنه يعطي الجزية ويكون تحت حكم الإسلام، وإعطاؤه الجزية وبقاؤه تحت حكم الإسلام ومشاهدته أحكام الإسلام من أسباب دخوله في الإسلام.
فإكراه الأسير على الإسلام لا يجوز.
وهنا أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه في سبب نزول قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256] أن الأنصار كانوا في المدينة ومعهم اليهود، وكانت المرأة تكون مقلاة لا يعيش لها ولد، فتنذر أنَّه إن جاءها ولد فإنها ستهوده، أي: تجعله يهودياً.
والأنصار الذين كانوا في المدينة من الأوس والخزرج أصلهم من أزد اليمن من العرب.
فكانت المرأة تنذر بأن تهود ابنها، فيكون يهودياً وينشأ على أنه يهودي، واليهود كانوا معهم في المدينة، فلما أجلي بنو النضير قال الأنصار: لا ندع أبناءنا الذين قد هودوا بسبب هذا النذر الذي يحصل من المرأة المقلاة.
فأنزل الله: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)) يعني أنه لا يكره الشخص على الإسلام وعلى أن يدخل في الإسلام.
وأنزل الله عز وجل: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256]، فهذا هو معنى الآية، وليس معناها أن الكفار لا يُجَاهدون ولا يُغزون في بلادهم، وعلى هذا فلا تنافي بين ما جاء في القرآن من الأمر بقتال الكفار، كقوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، لا تنافي بين ذلك وبين هذه الآية التي هي قوله تعالى: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ))، وتكون الآية محمولة على مثل من نزلت فيهم، وهم الذين كانوا أبناء مشركين ولكنهم تهودوا، فلا يكرهوهم على الإسلام فيلزموهم بالإسلام أو القتل؛ لأنهم لو أكرهوهم فيمكن أن يظهروا الإسلام علناً وهم يبطنون الكفر، فلا يكون هناك فائدة من وراء هذا الإكراه.
فتكون الآية محمولة على مثل من نزلت فيهم، وآيات الأمر بالقتال للمشركين على ما هي عليه، وهي أن المسلمين يذهبون إلى بلاد الكفار فيغزونهم ويقاتلونهم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً وقال: (اغزوا باسم الله، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله).
فتحمل الآيات والأحاديث التي في القتال على غزو الكفار والذهاب إليهم ليدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ويحكم الإسلام بلادهم، ويكون الإسلام ظاهراً عالياً على الأديان، ويكونون تحت لوائه، فيشاهدون أحكام الإسلام وفضله، فيكون ذلك سبباً في إسلامهم، والآية ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)) تكون في مثل هؤلاء.
وليس الأمر كما يفعله بعض الناس في هذا الزمان حين انهزموا في نفوسهم، فأرادوا أن يعتذروا للإسلام أمام الكفار بأنَّ الإسلام ليس فيه هجوم وليس فيه ذهاب إلى الكفار من أجل دعوتهم إلى الإسلام، وإنما الجهاد في الإسلام للدفاع! هكذا يقول بعض الناس في هذا الزمان، فكثير من الناس يقولون: الجهاد للدفاع.
ونقول: كيف يكون الجهاد للدفاع والصحابة كانوا يذهبون إلى الكفار في بلادهم ويغزونهم في بلادهم، وكذلك من بعدهم، والرسول صلى الله عليه وسلم جهز الجيوش وقال: (اغزوا باسم الله، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله)، والصحابة ذهبوا إلى الفرس والروم، مع أن الفرس والروم ما هاجموا المدينة وما جاءوا إلى المدينة حتى يدافع الصحابة عن أنفسهم، وإنما ذهبوا إليهم في بلادهم لإخراجهم من الظلمات إلى النور بأن يسلموا، أو يدخلوا تحت حكم الإسلام فيشاهدون أحكام الإسلام فيكون ذلك سبباً في إسلامهم؟! وهل يُظن أن الذين ذهبوا إلى إفريقيا حتى وصلوا إلى المحيط الأطلسي ذهبوا ليدافعوا عن الإسلام أو ليدافعوا عن المسلمين؟! إنما كانوا يذهبون إلى الكفار ويدعونهم إلى الإسلام، لكن لما ضعف المسلمون في هذا الزمان وصار الكفار متغلبين صار بعض المسلمين يزعم أن الجهاد إنما هو للدفاع فقط، وأن الكفار لا يغزون ولا يذهب إليهم في بلادهم، ولا إكراه في الدين، فصارت آية (لا إكراه في الدين) هي عندهم كل شيء، والآية إنما جاءت في مثل هذه الصورة التي ذكرت، وهي أن المرأة كانت تكون مقلاة، فتنذر إن عاش لها ولد فإنها ستهوده، ثم لما أجلي بنو النضير وكان أبناء الأنصار اليهود معهم كانوا يكرهونهم على الإسلام حتى يبقوا معهم، فنزلت الآية: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)).
إذاً الآية لها معنىً يخصها، وتلك الآيات لها معانٍ، ولا تنافي بين ما في آيات قتال الكفار حتى يكون الدين كله لله وبين آية ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ))؛ لأنها في مثل من نزلت فيهم، فالمسلمون إذا كان تحت أيديهم كافر فإنه لا يجوز لهم أن يقولوا له: إما أن تسلم وإما أن نقتلك، فهذا إكراه ممنوع وغير جائز، وإنما يغزى الكفار في بلادهم ويقاتلون، فإن دخلوا في الإسلام فالحمد لله، وهذا هو المطلوب، وإن لم يدخلوا طلب منهم إعطاء الجزية ويتولى عليهم المسلمون، ويكون ذلك سبباً في إسلامهم بأن يشاهدوا أحكام الإسلام وتعاليم الإسلام.(317/15)
تراجم رجال إسناد حديث بيان سبب نزول قوله تعالى: (لا إكراه في الدين)
قوله: [حدثنا محمد بن عمرو بن علي المقدمي].
محمد بن عمرو بن علي المقدمي صدوق أخرج له أصحاب السنن.
[حدثنا أشعث بن عبد الله].
أشعث بن عبد الله ثقة، أخرج له أبو داود.
[ح وحدثنا ابن بشار].
هو محمد بن بشار بندار، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن أبي عدي].
هو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا وهب بن جرير].
هو وهب بن جرير بن حازم، وهو ثقة، أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بشر].
هو جعفر بن إياس بن أبي وحشية، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(317/16)
قتل الأسير دون عرض الإسلام عليه(317/17)
شرح حديث عتابه عليه الصلاة والسلام أصحابه على تركهم قتل ابن أبي السرح
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط بن نصر قال: زعم السدي عن مصعب بن سعد عن سعد رضي الله عنه قال: (لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وسماهم، وابن أبي سرح فذكر الحديث، قال: وأما ابن أبي سرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا نبي الله! بايع عبد الله.
فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟! فقالوا: ما ندري -يا رسول الله- ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟! قال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين).
قال أبو داود: كان عبد الله أخا عثمان من الرضاعة، وكان الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمه، وضربه عثمان الحد إذ شرب الخمر].
أورد الإمام أبو داود رحمه الله تعالى [باب في الأسير يقتل ولا يعرض عليه الإسلام].
يعني أنه يقتل ولا يلزم أن يكون قتله بعد أن يعرض عليه الإسلام، وإنما الإمام مخير في الأسارى بين القتل أو الفداء أو المن والمسامحة.
وقد أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة أمن الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وسماهم، وأن عبد الله بن أبي السرح اختبأ عند عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة، ثم إنه جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يبايعه والنبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه، ثم بعد ذلك بايعه، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟! فقالوا: ألا أومأت إلينا بعينك؟! فقال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين)] أي: أن يظهر شيئاً ثم يشير بعينه أو ببصره إلى خلافه، فيكون الذي ظهر منه مخالفاً للذي أشار إليه، وهذا الفعل يظهر أنه ليس المنع منه خاصاً بالأنبياء بل هو ممنوع في حق الجميع، لكن في حق الأنبياء المنع منه أشد وأعظم، وامتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن مبايعته وقد حصل ذلك أكثر من مرة دليل على عدم رضاه وأنه يستحق القتل لو قتل، وهذا هو الدليل على الترجمة، وهو كون الرسول صلى الله عليه وسلم أذن أن يقتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام، وكذلك الذين لم يؤمنهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاز أن يؤسروا ويقتلوا ولا يعرض عليهم الإسلام.
وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل مع عبد الله بن أبي السرح لأنه كان من كتاب الوحي، كان يكتب الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إنه ارتد ثم عاد إلى الإسلام، فعامله النبي صلى الله عليه وسلم هذه المعاملة لكونه كان من كتاب الوحي ومع ذلك حصل منه ما حصل، إذ كان في الأصل أن كتابة الوحي وائتمان النبي صلى الله عليه وسلم له على الوحي داعيان لبعده من أن يقع في مثل هذا الذي وقع فيه، فمن أجل ذلك عامله النبي صلى الله عليه وسلم هذه المعاملة.
قوله: [(لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين -وسماهم- وابن أبي سرح)].
يعني أن هؤلاء يقتلون وغيرهم حصل له الأمان، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دخل داره فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن)، ولكن هؤلاء الأربعة والقينتين لم يؤمنهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بقتلهم أينما وجدوا.
قوله: [(فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبي الله! بايع عبد الله)]، يعني بيعة الذين أسلموا عام الفتح، فلما دعا إلى بيعتهم فجاءوا جاء عثمان ومعه عبد الله بن أبي السرح وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يبايعه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنه.
قوله: [(ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي)].
المقصود بالرشيد الفطن الذي عنده فطنة وعنده انتباه لكون النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دمه ومع ذلك لما أجاره عثمان وجاء به وكرر طلب المبايعة له جعل النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ثم يعرض عنه، فهذا دليل على عدم رضاه وعلى عدم موافقته على بيعته، فالرشيد هنا المقصود به النبيه أوالفطن الذي عنده فطنة وعنده نباهة يعرف أن امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان لأمر يستحقه ذلك الرجل الذي امتنع الرسول صلى الله عليه وسلم من مبايعته وكان قد أهدر دمه.(317/18)
تراجم رجال إسناد حديث عتابه عليه الصلاة والسلام أصحابه على تركهم قتل ابن أبي السرح
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا أحمد بن المفضل].
أحمد بن المفضل صدوق في حفظه شيء، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا أسباط بن نصر].
أسباط بن نصر صدوق كثير الخطأ، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[قال: زعم السدي].
السدي هو إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري ومسلم وأصحاب السنن.
وكلمة (زعم) المقصود بها هنا الخبر المحقق، يعني: أخبر خبراً محققاً.
لأن الزعم يأتي في كلام العلماء وعلى ألسنة الصحابة بمعنى الخبر المحقق، وهذا منه.
[عن مصعب بن سعد].
هو مصعب بن سعد بن أبي وقاص، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعد].
هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وسعد هذا هو أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه وأرضاه.
والحديث صححه الشيخ الألباني رحمه الله وقال: إلا أن أسباط بن نصر وأحمد بن المفضل قد تكلم فيهما بعض الأئمة من جهة حفظهما، لكن الحديث له شاهد يتقوى به، فالحديث بهذا الشاهد صحيح.
قوله: [كان عبد الله أخا عثمان من الرضاعة، وكان الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمه، وضربه عثمان الحد إذ شرب الخمر].
هنا ذكر القرابة التي بين عثمان وبين عبد الله بن أبي السرح، وهي أنه أخاه من الرضاعة، وذكر -أيضاً- أخاً له آخر، ولكنه أخوه من أمه، وهو الوليد بن عقبة بن أبي معيط وقد حده عثمان لشربه الخمر، والحديث في صحيح مسلم، وفيه أنه أمر الحسن أن يجلده، ثم إنه حصل الجلد وعلي يعد حتى بلغ أربعين، ثم قال: أمسك.
ثم قال: جلد الرسول صلى الله عليه وسلم كذا وجلد عمر كذا.
وقال: وكل سنة، وهذا أحب إلي.
يعني أن الشيء الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه.(317/19)
شرح حديث: (أربعة لا أؤمنهم في حل ولا حرم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء قال: حدثنا زيد بن حباب قال: أخبرنا عمرو بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع المخزومي قال: حدثني جدي عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم فتح مكة: (أربعة لا أؤمنهم في حل ولاحرم) فسماهم، قال: وقينتين كانا لـ مقيس، فقتلت إحداهما وأفلتت الأخرى فأسلمت.
قال أبو داود: لم أفهم إسناده من ابن العلاء كما أحب].
أورد أبو داود هنا حديث سعيد بن يربوع المخزومي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: [(أربعة لا أؤمنهم لا في حل ولا في حرم) فسماهم، قال: وقينتين كانتا لـ مقيس].
والقينتان هما الجاريتان اللتان تغنيان، وقيل: هما الجاريتان مطلقاً، ولكن المشهور أنهما متصفتان بالغناء.
ثم إن إحداهما قتلت والثانية حصل لها الإفلات من القتل، ولكنها أسلمت ولم يحصل لها القتل، وهما لـ مقيس بن صبابة، وهو أحد الذين لم يؤمنهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الأربعة هم مقيس هذا وعبد الله بن خطل وعكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن أبي السرح.(317/20)
تراجم رجال إسناد حديث: (أربعة لا أؤمنهم في حل ولا حرم)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زيد بن حباب].
زيد بن حباب صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا عمرو بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع المخزومي].
عمرو بن عثمان مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود.
[حدثني جدي].
هو عبد الرحمن بن سعيد، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود.
[عن أبيه].
هو سعيد بن يربوع المخزومي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أبو داود.
والحديث ضعفه الألباني، ولكنه مثل الحديث الذي قبله فيه ذكر الأربعة والجاريتين.
قوله: [قال أبو داود: لم أفهم إسناده من ابن العلاء كما أحب].
معناه أنه غير مطمئن وغير متوثق من إسناده.(317/21)
شرح حديث أمره صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خطل وقد تعلق بأستار الكعبة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة.
فقال: اقتلوه).
قال أبو داود: ابن خطل اسمه عبد الله، وكان أبو برزة الأسلمي قتله].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر)] والمغفر هو غطاء يكون على الرأس يقي الرأس من أن تصل إليه السهام، وهو من الحديد، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح من غير إحرام، وذلك لأنه كان على رأسه المغفر، والمحرم لا يغطي رأسه بل يكشفه.
ثم إن فيه دليلاً على الأخذ بالأسباب، وأن ذلك من التوكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو سيد المتوكلين، وقد أخذ بالسبب الذي يمنع وصول السهام إليه صلى الله عليه وسلم.
[(فلما نزعه)].
فلما نزعه بعد أن انتهى فتح مكة عنوة قيل له: [ابن خطل متعلق بأستار الكعبة].
وكان ممن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم.
ومعنى ذلك أنه قرب من الكعبة والتصق بها وتعلق بأستارها يريد الأمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [(اقتلوه)] يعني: ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة.
وفي الحديث دليل على كسوة الكعبة، وأن هذا كان في الجاهلية وأقره الإسلام؛ لأن قوله: [متعلق بأستار الكعبة] يعني: بكسوتها، وهو يدل على كسوة الكعبة، فكسوة الكعبة جاء بها النص، وأما كسوة حجرة النبي صلى الله عليه وسلم التي فيها قبره فلم يأت بها دليل، فهي غير جائزة.
وليس فيه دليل على جواز التعلق بأستار الكعبة، لأن هذا طالب أمان، وكون الناس يأتون فيتعلقون بأستارها ويقولون: إن ابن خطل تعلق بأستار الكعبة ليس بحجة، فتعلق ابن خطل لأنه كان يطلب الأمان، فلشدة رغبته في الأمان تعلق بأستار الكعبة، فلا يجوز التعلق بأستارها، كما أنه لا يسوغ أن يستلم منها إلا الحجر الأسود والركن اليماني، أما ما عداهما فإنه لا يستلم، لا الركنان الشاميان ولا الجدران اللذان بينهما، اللهم إلا الملتزم الذي ورد فيه بعض الأحاديث، ومن العلماء من صححها ومنهم من ضعفها.(317/22)
تراجم رجال إسناد حديث أمره صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خطل وقد تعلق بأستار الكعبة
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو القعنبي عبد الله بن مسلمة بن قعنب، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود رحمه الله.(317/23)
شرح سنن أبي داود [318]
للأسير أحكام في الشريعة الإسلامية تنبئ عن حرصها على مصلحة العباد وتحقيق الخير لهم، فمن ذلك ما يتعلق بقتل الأسير إن رأى الإمام ذلك، ومنها ما يتعلق بإطلاق سراحه بفداء أو بغير فداء حسب ما يراه الإمام.
ومن الأحكام المتعلقة بهذا الباب رد السبي بعد إسلام أهليهم، وما يعوض به صاحب الحظ من السبي إن بقي على طلب حقه، ونحو ذلك من الأحكام الشرعية الدالة على عظمة الإسلام وشريعته.(318/1)
قتل الأسير صبراً(318/2)
شرح حديث قتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط بعد أسره في بدر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قتل الأسير صبراً.
حدثنا علي بن الحسين الرقي قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي قال: أخبرني عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن عمرو بن مرة عن إبراهيم قال: أراد الضحاك بن قيس أن يستعمل مسروقاً فقال له عمارة بن عقبة: أتستعمل رجلاً من بقايا قتلة عثمان؟! فقال له مسروق: حدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه -وكان في أنفسنا موثوق الحديث- (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد قتل أبيك قال: من للصبية؟ قال: النار) فقد رضيت لك ما رضي لك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
].
أورد أبو داود [باب في قتل الأسير صبراً].
وقتل الأسير صبراً هو أن يحبس أو يمسك ثم يقتل، فالقتل صبراً يكون بحبس من كان حياً وإمساكه حتى يقتل، سواء أكان إنساناً أم حيواناً، وكذلك حبس البهائم حتى تموت هو من القتل صبراً.
قوله: [(أراد الضحاك بن قيس أن يستعمل مسروقاً فقال له عمارة بن عقبة)].
أي: أراد الضحاك بن قيس وكان أميراً أن يستعمل مسروقاً في عمل من الأعمال، فقدح فيه عمارة بن عقبة وقال: أتستعمل شخصاً من بقايا قتلة عثمان؟! فـ مسروق قابله بأن قال فيه قولاً مقابل ما قاله فيه، فقال: [حدثنا عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد قتل أبيك قال: (من للصبية -والصبية منهم عمارة هذا-؟ قال: النار) فقد رضيت لك ما رضي لك رسول الله صلى الله عليه وسلم] فكل منهما قدح في الآخر.
وما أدري عن صحة قضية اتهام مسروق بما اتُهم به وما ذكره في حقه عمارة بن عقبة، لكن قصة عقبة بن أبي معيط وقول النبي صلى الله عليه وسلم له جاء في هذا الإسناد وفي هذا الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فما قيل في حق عقبة ثابت بهذا الإسناد.
قوله: [من للصبية] يعني: إذا قتلتني فمن يكون للصبية؟! أي: عمارة وإخوانه.
فقال: [(لهم النار)].
واختلف في تفسير قوله: [(لهم النار)] فمن العلماء من قال: معناه: لهم الضياع.
أي: لهم الضياع بسبب ضياعه هو.
ومنهم من قال غير ذلك، حيث قالوا: هذا من أسلوب الحكيم، أي: لك النار ودع أمر الصبية فإن الله تعالى كافلهم.
ومعلوم أن أبناء المشركين حكمهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم بما كانوا عاملين) يعني: إذا ماتوا وهم صغار فإنهم يمتحنون يوم القيامة والله أعلم بما كانوا عاملين، لكن من كبر منهم وأسلم يختلف حكمه.
وعمارة مع كونه مسلماً قابله مسروق بأن قال فيه ما قال، ولكن الأمر يحتمل أن يكون المقصود أباهم وليس الذين أسلموا من أولاده.(318/3)
تراجم رجال إسناد حديث قتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط بعد أسره في بدر
قوله: [حدثنا علي بن الحسين الرقي].
علي بن الحسين الرقي صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي].
عبد الله بن جعفر الرقي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عبيد الله بن عمرو].
هو عبيد الله بن عمرو الرقي، ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن أبي أنيسة].
زيد بن أبي أنيسة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن مرة].
هو عمرو بن مرة الهمداني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم].
هو إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[فقال له مسروق].
هو مسروق بن الأجدع، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن مسعود].
هو عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(318/4)
قتل الأسير بالنبل(318/5)
شرح حديث النهي عن القتل صبراً بالنَّبل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قتل الأسير بالنبل.
حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن ابن تعلي قال: غزونا مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فأتي بأربعة أعلاج من العدو فأمر بهم فقتلوا صبراً.
قال أبو داود: قال لنا غير سعيد عن ابن وهب في هذا الحديث: قال: (بالنبل صبراً) فبلغ ذلك أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه فقال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن قتل الصبر) فوالذي نفسي بيده! لو كانت دجاجة ما صبرتها.
فبلغ ذلك عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فأعتق أربع رقاب].
أورد أبو داود [باب في قتل الأسير بالنبل] يعني حكمه.
وهو أنه يقتل بالنبل أو بأي وسيلة يحصل بها القتل.
قوله عن ابن تعلي: [غزونا مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فأتي بأربعة أعلاج من العدو فأمر بهم فقتلوا صبراً].
الأعلاج قيل: هم الكفار من العجم -أي: من غير العرب- وقيل غير ذلك.
قوله: [فأمر بهم فقتلوا صبراً] يعني أنهم أمسكوا حتى قتلوا.
قوله: [قال أبو داود: قال لنا غير سعيد عن ابن وهب في هذا الحديث: قال: (بالنبل صبراً)].
هذا محل الشاهد، أي: كون القتل كان بالنبل.
قوله: [فبلغ ذلك أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه فقال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن قتل الصبر)].
سبق أن مر في الترجمة السابقة ذكر القتل بالصبر، وأن ذلك سائغ، ولعل هذا الذي سمعه أبو أيوب كان قبل، أو أنه القتل الذي يكون فيه إيذاء للمقتول، ومعلوم أن هذا إذا لم يكن عن طريق المقابلة والقصاص، أما إذا كان قتله بالطريقة التي قتل بها فإن ذلك سائغ، وقد جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما عرفنا فيما مضى أن التمثيل لا يجوز ولكن من مثل يجوز أن يمثل به.
فالمحذور هو أن يتخذ المقتول غرضاً ثم يرمى بالنبل، فيكون في ذلك تعذيب له، أما إمساكه وقتله فهو جائز كما فعل بـ عقبة بن أبي معيط، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) فيبدو أن النهي عن القتل صبراً إنما هو إذا كان فيه تعذيب.
قوله: [فوالذي نفسي بيده لو كانت دجاجة ما صبرتها].
يعني كونها تمسك ثم ترمى، وإنما تقتل قتلاً بالسكين أو بأي شيء يزهقها في الحال، فقد يكون المقصود به تعذيبها بالقتل.
قوله: [فبلغ ذلك عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فأعتق أربع رقاب].
أي: أعتق أربع رقاب عن الذين قتلهم صبراً.(318/6)
تراجم رجال إسناد حديث النهي عن القتل صبراً بالنبل
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عمرو بن الحارث].
هو عمرو بن الحارث المصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بكير بن عبد الله بن الأشج].
بكير بن عبد الله بن الأشج ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن تعلي].
هو عبيد بن تعلي الطائي، صدوق، أخرج له أبو داود.
[فبلغ ذلك أبا أيوب].
هو خالد بن زيد رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(318/7)
المن على الأسير بغير فداء(318/8)
شرح حديث عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن جماعة من المشركين أرادوا قتله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المن على الأسير بغير فداء.
حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد قال: أخبرنا ثابت عن أنس أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلماً، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح:24] إلى آخر الآية].
أورد أبو داود باباً في المن على الأسير بغير فداء.
وهذه إحدى التراجم المتعلقة بأحكام الأسرى، والأسرى وردت أحاديث بقتلهم، ووردت أحاديث باستعبادهم، ووردت أحاديث بالمن عليهم، وكل ذلك ثابت، والأمر يرجع إلى الإمام، فما رأى فيه المصلحة من هذه الأمور فإنه يفعله، وبذلك يكون التوفيق بين هذه الأحاديث، فما دام أنه قد ثبت جميعها فإنه يرجع الأمر إلى الإمام، فيفعل ما يرى فيه المصلحة من القتل أو الأسر أو المن بدون فداء أو المن مع فداء.
وأورد أبو داود حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه ثمانون رجلاً من جبال التنعيم عند صلاة الفجر يريدون قتله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، فأخذهم النبي صلى الله عليه وسلم سلماً، أي: أسرهم، ثم إنه منَّ عليهم بدون أن يأخذ منهم شيئاً، فأنزل الله تعالى الآية: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24]، فالله تعالى كف أيديهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بحيث لم يتمكنوا مما أرادوه من قتله صلى الله عليه وسلم وقتل أصحابه، وأيضاً كف أيدي المؤمنين عنهم فلم يقتلوهم بعد أن ظفروا بهم.
فالحديث فيه شاهد للترجمة، وهي المن على الأسير بغير فداء.(318/9)
تراجم رجال إسناد حديث عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن جماعة من المشركين أرادوا قتله
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حماد].
هو حماد بن سلمة، ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
قد مر ذكره.
وهذا الإسناد من الرباعيات عند أبي داود.(318/10)
شرح حديث: (لو كان مطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأسارى بدر: (لو كان مطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له)].
أورد أبو داود حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: [(لو كان مطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى -أي: الأسرى من الكفار فشفع فيهم- لأطلقتهم له)].
يعني: أطلقت سراحهم من أجله ومن أجل شفاعته، وهذا يدل على المن من غير فداء، ويدل على ما ترجم به المصنف من المن بغير فداء؛ لأنه قال: [(لو كان مطعم بن عدي حياً وكلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له)] يعني: وقبلت شفاعته فيهم.
وقوله: [(لو كان مطعم بن عدي حياً)] ليس فيه اعتراض على القدر، بل معناه: لو أنه حصل كذا وكذا لكان كذا وكذا.
يعني أن هذا الشخص لو كان حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لقبلت شفاعته.
فليس فيه شيء يتعلق بالاعتراض على القدر أو ما إلى ذلك.
وإنما الاعتراض على القدر هو كقول الكافرين كما حكى الله تعالى عنهم: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران:156] فهذا هو الذي فيه اعتراض على القدر.
وأما ما جاء في الحديث هنا فليس هو من هذا القبيل، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة).
أي: لو كان الذي سبق مني كله أمامي لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة.
وهذا ليس تمنياً، وإنما إخبار عن أنه لو كان حصل كذا لكان كذا وكذا.
والمطعم بن عدي هو والد جبير بن مطعم، وكان هو الذي أمن النبي صلى الله عليه وسلم وأجاره لما قدم من الطائف، وأنزله في جواره ومنع الكفار من إيذائه، فمن أجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم هذه المقالة في حقه لأنه قد أحسن إليه، فهو سيقبل شفاعته لو شفع فيهم، وهذا فيه تنويه بالعمل الذي قام به المطعم بن عدي، وهو الذي يقول فيه الشاعر: ولو أن مجداً أخلد الدهر واحداً من الناس أبقى مجده الدهر مطعماً أي: لو كان أحد يبقى بسبب العمل المجيد الذي حصل منه لبقي مطعم بن عدي الذي أمن الرسول صلى الله عليه وسلم وحماه من الكفار عند قدومه من الطائف.
ويذكر هذا البيت النحويون في شواهد النحو في عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة، حيث لم يسبق للضمير مرجع، وإنما عاد على متأخر لفظاً ورتبة، والأصل أن الضمير يعود على متقدم.
وهنا جاء الضمير عائداً على متأخر لفظاً ورتبة، حيث قال: أبقى مجده الدهر مطعماً أي: أبقى مجد مطعم مطعماً.
فجاء الضمير متقدماً على مرجعه، بخلاف الأصل وهو أن الضمير يعود على متقدم، وهنا عاد على متأخر لفظاً ورتبة.(318/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (لو كان مطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم].
الزهري قد مر ذكره، ومحمد بن جبير بن مطعم ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وكان من أسباب إسلامه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، قال: فكاد قلبي أن يطير عند ذكر قوله عز وجل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36]، فأدخل الله عليه الإسلام ودخل في الإسلام رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وكان من أسباب دخوله سماعه القرآن.(318/12)
فداء الأسير بالمال(318/13)
شرح حديث أخذ النبي صلى الله عليه وسلم فداء أسرى بدر ونزول العتاب في ذلك
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في فداء الأسير بالمال.
حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل قال: حدثنا أبو نوح قال: أخبرنا عكرمة بن عمار قال: حدثنا سماك الحنفي قال: حدثني ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لما كان يوم بدر فأخذ -يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم- الفداء أنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67] إلى قوله: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} [الأنفال:68] من الفداء، ثم أحل لهم الله الغنائم).
قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن اسم أبي نوح فقال: أيش تصنع باسمه؟ اسمه شنيع.
قال أبو داود: اسم أبي نوح: قراد، والصحيح عبد الرحمن بن غزوان].
أورد أبو داود [باب في فداء الأسير بالمال].
فمن الأحكام المتعلقة بالأسير أنه يقتل أو يؤسر ويستعبد أو يمن عليه بدون فداء أو يمن عليه بمال، فيطلق سراحه في مقابل الفدية أو بمفاداته بغيره، بأن يكون أسير من المسلمين عند الكفار فيطلق في مقابله أسير من الكفار عند المسلمين، فهذا عن طريق المفاداة، والمفاداة تكون بالمال وبغير المال، تكون بالمقابلة وتكون بالمال.
وهنا ترجم بالمفاداة بالمال، وأنه يدفع مقداراً من المال فيطلق سراحه ويخلى سبيله في مقابل المال الذي دفعه، وقد عرفنا أن الأمر يرجع في ذلك إلى الإمام وما يرى فيه من المصلحة، فله أن يقتل، وله أن يأسر ويستعبد، وله أن يمن بفداء، وله أن يمن بغير فداء، والفداء إما أن يكون بالمال أو بالأسرى.
قوله: [(لما كان يوم بدر فأخذ -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- الفداء أنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67])] كان هذا خلاف ما أشار به عمر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أشار عليه بعض الصحابة بأخذ الفداء وأشار عليه عمر بعدم أخذ الفداء، فنزل القرآن موافقاً لما رآه عمر ولما أشار به رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
والحاصل أن الحديث يدل على أخذ الفداء والمن على الأسرى في مقابل مال يبذل منهم.
قوله: [(ثم أحل لهم الله الغنائم)].
أي: سواء كانت من المال أم من النساء والذرية أم من الكفار الذين يأسرونهم وبعد ذلك يأخذون منهم الفداء، كما قال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4] وهذا يكون من جملة الغنائم، أعني الفداء.
كما أن الأسرى لو بقوا ولم يمن عليهم في مقابل مال يكونون عبيداً، وهم حنيئذٍ مال، فإذا اختير أن يخلى سبيلهم في مقابل مال يبذلونه فإن ذلك لا بأس به، ولكن المنع كان في أول الأمر، وبعد ذلك أحلت الغنائم، والله عز وجل قال: ((حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)).(318/14)
تراجم رجال إسناد حديث أخذ النبي صلى الله عليه وسلم فداء أسرى بدر ونزول العتاب في ذلك
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو نوح].
هو عبد الرحمن بن غزوان، ولقبه قراد وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[أخبرنا عكرمة بن عمار].
عكرمة بن عمار صدوق يغلط، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا سماك الحنفي].
هو سماك بن الوليد الحنفي، ليس به بأس، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[حدثني عمر بن الخطاب].
هو عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن اسم أبي نوح فقال: أيش تصنع باسمه؟ اسمه شنيع].
أي: ما حاجتك باسمه؟ فاسمه شنيع، أي: موصوف بأنه شنيع، وليس المعنى أن اسمه هو شنيع، بل المقصود أنه موصوف بأنه شنيع، وذلك لأنه لقب بـ (قراد)، والقراد هو الذي يعلق بآذان البهائم ويمتص دمها فيؤذيها.(318/15)
شرح حديث: (جعل النبي صلى الله عليه وسلم فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الرحمن بن المبارك العيشي قال: حدثنا سفيان بن حبيب قال: حدثنا شعبة عن أبي العنبس عن أبي الشعثاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة)].
ومعناه أن فيه المفاداة بالمال، وأن الفداء كان أربعمائة للشخص الواحد.
والألباني صحح الحديث، ولكنه ضعفه بالتحديد والتقدير، والثابت أنه فاداهم بمال، فضعفه من أجل التقدير، وإلا فإنه قد ثبت من أوجه مختلفة أنهم يفادون بمال، ولكن التضعيف من أجل التحديد والتقدير فقط.(318/16)
تراجم رجال إسناد حديث: (جعل النبي صلى الله عليه وسلم فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة)
قوله: [حدثنا عبد الرحمن بن المبارك العيشي].
عبد الرحمن بن المبارك العيشي ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا سفيان بن حبيب].
سفيان بن حبيب ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي العنبس].
أبو العنبس مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبي الشعثاء].
هو جابر بن زيد، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.(318/17)
شرح حديث قصة فداء أبي العاص بن الربيع
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب رضي الله عنها في فداء أبي العاص بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة رضي الله عنها أدخلتها بها على أبي العاص، قالت: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها.
فقالوا: نعم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ عليه -أو وعده- أن يخلي سبيل زينب إليه، وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن حارثة رضي الله عنه ورجلاً من الأنصار فقال: كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن كفار قريش لما أرسلوا بالفداء لأسراهم، وكان ممن أُسِروا أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلت في فداء زوجها، وكان الذي أرسلته فيه قلادة كانت لها من أمها خديجة أعطتها إياها لما أدخلت على أبي العاص، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، حيث تذكر زواجها وكون تلك القلادة كانت لأمها خديجة، وكونها حزنت حين أسر زوجها وأرادت خلاصه، فالنبي صلى الله عليه وسلم رق لها وقال: [(إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها)].
أي: زوجها الذي هو أبو العاص.
قال: [(وتردوا عليها الذي لها)].
أي: الذي دفعته من القلادة وغيرها.
فأجاب إلى ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أن يطلقوه من غير فداء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم اشترط عليه بأن يفي بالذي طلب منه، وهو أن يرسل زينب إليه إلى المدينة.
فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار وقال: [(كونا ببطن يأجج)] وهو موضع قريب من مكة.
قال: [(حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها)].
يعني: كونا معها صاحبين لها في الطريق.
وهذا يدل على جواز سفر المرأة من غير محرم إذا كانت برفقة مأمونة إذا كان هناك ضرورة إلى ذلك، وهنا الضرورة موجودة، وذلك لأنها كانت في مكة مع الكفار، وزوجها كان كافراً، وطلب منه أن يرسلها وقد أرسلها، فدل على أنه إذا حصلت ضرورة فالمرأة يمكن أن تسافر مع رفقة أمينة، ولا يتوسع في ذلك فتسافر المرأة من غير محرم بحجة هذا الذي قد حصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم).
وعلى هذا فالذي حصل هو من قبيل أن الضرورات تبيح المحظورات، وسفر النساء بدون محرم هو من الأمور التي جاءت الشريعة بتحريمها والمنع منها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم)، وكل ذلك صيانة للمرأة من أن تتعرض لما لا تحمد عقباه عليها في عرضها وفي نفسها.(318/18)
تراجم رجال إسناد حديث قصة فداء أبي العاص بن الربيع
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن سلمة].
هو محمد بن سلمة الحراني، وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يحيى بن عباد].
هو يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه عباد].
هو عباد بن عبد الله بن الزبير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وقد مر ذكرها.
والحديث صحيح.(318/19)
شرح حديث رد النبي صلى الله عليه وسلم سبي هوازن إلى أهلهم بعد مجيئهم مسلمين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن أبي مريم حدثنا عمي -يعني سعيد بن الحكم - قال: أخبرنا الليث بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب قال: وذكر عروة بن الزبير أن مروان والمسور بن مخرمة رضي الله عنه أخبراه (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: معي من ترون، وأحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إما السبي وإما المال.
فقالوا: نختار سبينا.
فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأثنى على الله، ثم قال: أما بعد: فإن إخوانكم هؤلاء جاءوا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل.
فقال الناس: قد طيبنا ذلك لهم يا رسول الله.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم.
فرجع الناس وكلمهم عرفاؤهم فأخبروا أنهم قد طيبوا وأذنوا)].
أورد أبو داود باباً في فداء الأسير بالمال، وأورد تحت هذه الترجمة عدة أحاديث.
ثم أورد أبو داود حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه ومعه مروان بن الحكم -والعمدة على المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه- أن وفد هوازن جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه أن يرد عليهم المال والسبي، أي: النساء والذرية والمال، فالنبي صلى الله عليه وسلم رأى أن يرد عليهم، ولكنه لم يرد عليهم كل شيء، وإنما خيرهم بين رد المال أو رد السبي، فاختاروا أن يرد عليهم السبي.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم أن هناك شيئاً يخصه وهناك شيئاً يخص غيره، وأن كلاً قد أخذ نصيبه، فقال عليه الصلاة والسلام: [(معي من ترون)] يعني: من السبي، والذي هو لي هو لكم.
وتنازل عنه وتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما الذين عند غير النبي صلى الله عليه وسلم فقد قام في الناس وذكرهم وتكلم فيهم وقال: (إن إخوانكم جاءوا تائبين، وإني رأيت أن أرد عليهم سبيهم، فمن أراد منكم أن يتنازل بدون مقابل فليفعل، ومن لم تسمح نفسه بذلك وأراد أن يبقي على حقه ولا يتنازل عن حقه فنحن سنعوضه عنه في أول ما يفيء الله به علينا).
ومعناه أن من سمحت نفسه انتهى أمره، ومن كان متمسكاً بحقه فإنه يؤخذ منه السبي ويرد ولكنه يعوض عنه أول ما يحصل الفيء بعد ذلك، فتعالت الأصوات بقولهم: (طيبنا)، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يدري من طيب ومن لم يطيب؛ لأن الأصوات ظهرت من هنا ومن هنا، فلم يعرف من طيب ومن لم يطيب، فقال عليه الصلاة والسلام: [(إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم)] يعني الرؤساء، فكل رئيس ينفرد بالجماعة الذين يرأسهم ثم يأخذ رأيهم في ذلك ويعرف من سمح ومن لم يسمح ومن وافق ومن لم يوافق، فبعد ذلك جاء العرفاء بعد أن اجتمعوا بمرءوسيهم وأخبروا بأنهم طيبوا، وأنهم قد وافقوا وتنازلوا عن حقهم لما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم.
قوله: [ذكر عروة بن الزبير أن مروان والمسور بن مخرمة أخبراه (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: معي من ترون، وأحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إما السبي وإما المال)].
معنى قوله: [(معي من ترون)] أي: الذي يخصني والذي هو نصيبي من السبي هو لكم.
يعني أنه متنازل عنه، ولكن الذي عند غيره أراد أن يستأذن الناس فيه، فاستأذنهم وكانت النتيجة أن أذنوا، فرد إليهم سبيهم صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(وأحب الحديث إلي أصدقه)] يعني أنه يقول ويصدق ويعد ويفي، أي: فأنا أقول لكم وأصدق فيما أقول وأعدكم وأفي بما أعد به.
قوله: [(فقالوا: نختار سبينا)].
لأنهم خيروا بين المال والسبي، فاختاروا السبي، وهو أن يرجع إليهم نساؤهم وأولادهم فيكونون طلقاء ولا يكونون سبياً وأرقاء، فهذا هو الذي فضلوه، وتركوا المال في سبيل الحصول على السبي الذي هو النساء والذرية.
قوله: [(فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأثنى على الله ثم قال: أما بعد: فإن إخوانكم هؤلاء جاءوا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل)].
معنى قوله: [(من أحب أن يطيب ذلك فليفعل)] أي: أن ينزل عن حقه بدون مقابل فليفعل.
قوله: [(ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل)].
أي: من كان منكم يريد أن يبقى على حظه من السبي ولا يتنازل عنه فنحن سنرجع لهم السبي لأننا وعدناهم بذلك، ولكن هذا الذي لم يتنازل سنعطيه بدلاً عن حقه من أول ما يفيء الله علينا.
قوله: [(فقال الناس: قد طيبنا ذلك لهم يا رسول الله)].
معناه أنه كان الاجتماع كبيراً، وخرجت الأصوات بقولهم: [طيبنا ذلك لهم يا رسول الله]، ولم يعرف من وافق ومن لم يوافق؛ لأنها قد تكون الأصوات ممن وافق، ومن لم يوافق قد يكون ساكتاً ما قال شيئاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يقف على الحقيقة بالنسبة لكل فرد فقال: [(إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم)].
وهذا فيه دليل على اتخاذ العرفاء والرؤساء على أفراد الجيش، بحيث يكون لكل جماعة مرجع يرجعون إليه، ثم هؤلاء المراجع يكون مرجعهم أمير الجيش، وهو المرجع للجميع، ولكن الواسطة بينه وبين سائر الناس هؤلاء الرؤساء الذين هم العرفاء، والذين يعرفون من تحتهم ومن تحت رياستهم، فيأتون بأخبارهم ويبلغونهم الأمور التي يحتاجون إلى تبليغها، فهؤلاء يقال لهم: العرفاء.
وأما حديث: (لابد للناس من عريف والعريف في النار) فإنه لو ثبت محمول على ما يتعلق بالشر، وأما الحديث الذي بين أيدينا فقد ثبت فيه اتخاذ العرفاء من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو فيما يتعلق بالخير، وهو أمر تقتضيه الحاجة، لاسيما مع كثرة الناس.
وكذلك يقال في حديث (لا تكن لهم شرطياً ولا جابياً ولا عريفاً) فهو محمول على كون ذلك في أمور الشر والظلم التي لا تجوز، وأما في الخير فقد دل على الجواز الحديث الذي معنا.
ثم إن الشاهد من الحديث للترجمة بفداء الأسير بالمال قوله صلى الله عليه وسلم: [(ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل)] حيث جعل صلى الله عليه وسلم فكاك أولئك الأسرى بمقابل بدلهم من فيءٍ آخر يبذل لمن لم يرد أن يتنازل عن حقه بغير عوض.
قوله: [(فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم فأخبروا أنهم قد طيبوا وأذنوا)].
معناه أنهم كلهم قد وافقوا، وتبين أن الجميع قد وافقوا على ما أراده منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم قد نزلوا عن حقهم بدون مقابل.(318/20)
تراجم رجال إسناد حديث رد النبي صلى الله عليه وسلم سبي هوازن إلى أهلهم بعد مجيئهم مسلمين
قوله: [حدثنا أحمد بن أبي مريم].
هو أحمد بن سعد بن أبي مريم، وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا عمي].
هو سعيد بن الحكم بن أبي مريم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا الليث بن سعد].
الليث بن سعد ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عقيل].
هو عقيل بن خالد بن عقيل المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: وذكر عروة بن الزبير أن مروان والمسور بن مخرمة أخبراه].
عروة هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ومروان هو ابن الحكم، وهو الخليفة، قال عنه الإمام أحمد: لا يتهم في الحديث.
وقال الحافظ: لا تثبت له صحبة، وعليه فيكون الحديث من قبله مرسلاً، ولكن معه المسور بن مخرمة، وهو صحابي، فيكون متصلاً من أجل المسور بن مخرمة، وقد قال عروة بن الزبير: مروان لا يتهم في الحديث.
وعروة هو الراوي عن مروان هنا.
وعلى كل حال فالعمدة ليست عليه، وإنما هي على المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه، فهو الصحابي الذي يروي ذلك، وأما رواية مروان فهي من قبيل المرسل؛ لأنه ليس بصحابي.
ومروان بن الحكم أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
والمسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(318/21)
شرح حديث أمره صلى الله عليه وسلم برد نساء هوازن وأبنائهم إلى أهلهم بعد إسلامهم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه في هذه القصة قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ردوا عليهم نساءهم وأبناءهم، فمن مسك بشيء من هذا الفيء فإن له به علينا ست فرائض من أول شيء يفيئه الله علينا.
ثم دنا -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- من بعير فأخذ وبرة من سنامه ثم قال: يا أيها الناس! إنه ليس لي من هذا الفيء شيء ولا هذا -ورفع أصبعيه- إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخياط والمخيط.
فقام رجل في يده كبة من شعر فقال: أخذت هذه لأصلح بها برذعة لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك.
فقال: أما إذا بلغت ما أرى فلا أرب لي فيها.
ونبذها)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما في قصة وفد هوازن ورغبة النبي صلى الله عليه وسلم في أن يرد إليهم سبيهم، وأنه قال: [(فمن مسك بشيءٍ من هذا الفي)] يعني: من تمسك بحقه ولم يطب نفساً بالتنازل عنه [(فإن له به علينا ست فرائض من أول شيءٍ يفيئه الله علينا)] والفرائض هي الإبل، قيل: الفرائض في الأصل هي فرائض الصدقة، لأنها تؤخذ منها فريضة الصدقة، فأطلق على الإبل بأنها فرائض وإن كان بعضها ليس من قبيل الصدقة، وكأنه بهذا يريد أن يعوض بمال؛ لأن الذي سيرد هو السبي وليس المال؛ لأن المال لم يستأذن في إرجاعه، والرسول صلى الله عليه وسلم خيرهم بين المال وبين السبي فاختاروا السبي، فكان الحديث كله عن السبي، فكأنه سيعوض من تمسك بحقه بعوض، سواءٌ كان من السبي من فيءٍ قادم أم من الفرائض.
قوله: [(إنه ليس لي من هذا الفيء شيء ولا هذا -ورفع أصبعيه- إلا الخمس، والخمس مردود عليكم)].
يعني: هذا هو الذي يحل لي من المغانم، وهو مردود عليكم، فهذا الخمس ينفق النبي صلى الله عليه وسلم على أهله منه، والباقي يجعله في مصالح المسلمين من عدة الجهاد وغير ذلك، وهذا هو معنى قوله: [(مردود عليكم)].
فالخمس ليس مختصاً به صلى الله عليه وسلم، وإنما يأخذ منه حاجته وحاجة أهله، وقد جاء في الحديث: [(وجعل رزقي تحت ظل رمحي)] يعني قوته وقوت أهله يكون من ذلك، والباقي بعد حاجته وحاجة أهله مردود على المسلمين ومصروف في مصالح المسلمين.
قوله: [(فأدوا الخياط والمخيط)].
قيل: الخياط هو الخيط، والمخيط هو الإبرة.
يعني: أدوا كل شيء ولو كان شيئاً قليلاً، ولا يأخذ الإنسان شيئاً لا يستحقه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الوبرة ليس له منها إلا الخمس، ولا يستحق إلا الخمس، فيقال لغيره: أدوا الخياط والمخيط؛ لأن كل ذلك من الغنائم ومن الفيء، ويقسم على من شرع أن يقسم عليهم.
قوله: [(فقام رجل في يده كبة من شعر فقال: أخذت هذه لأصلح بها برذعة لي.
فقال صلى الله عليه وسلم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك.
فقال: أما إذا بلغت ما أرى فلا أرب لي فيها.
ونبذها)].
معنى هذا أن رجلاً أخذ كبة من الغنيمة، وقال: إنه أراد أن يصلح بها برذعته.
والبرذعة هي التي تجعل تحت الرحل؛ لأن الرحل يكون من الخشب، والبرذعة لينة، فتجعل بين جلد البعير وبين الخشب الذي هو الرحل الذي يكون عليه الراكب، فيلامس جلد البعير هذا الشيء اللين ثم يكون الرحل فوقه.
فأراد الرجل أن يصلح هذه البرذعة التي هي تحت الرحل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [(أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك)] فسامح النبي صلى الله عليه وسلم في حقه وحق بني عبد المطلب ولم يسامح في حق الناس، ولكن من أين لهذا الرجل أن يعرف مسامحة الناس له وهم كثيرون مستحقون لذلك؟! ولذلك قال: [أما إذ بلغت ما أرى فلا أرب لي فيها] أي: ما دامت المسألة وصلت إلى هذا الحد، فكل له فيها نصيب وله أن يطالب بحقه، وحقه يجب أن يوصل إليه، وأن هذه الكبة من جملة الغنائم وتقسم كما يقسم غيرها فلا أرب لي فيها.
ثم رماها.
ومعنى قوله: [فلا أرب لي فيها] أي: لا حاجة لي فيها.(318/22)
تراجم رجال إسناد حديث أمره صلى الله عليه وسلم برد نساء هوازن وأبنائهم إلى أهلهم بعد إسلامهم
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة، ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب].
عمرو بن شعيب صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو، وهو صدوق، أخرج له البخاري في (جزء القراءة) وفي (الأدب المفرد) وأصحاب السنن.
[عن جده].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي جليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(318/23)
الأسئلة(318/24)
حكم تخصيص ليلة النصف من شعبان ويومه بشيء من العبادات
السؤال
هل ورد دليل على تخصيص ليلة النصف من شعبان أو يومه بشيء من العبادات؟
الجواب
ليس هناك دليل يخص ليلة النصف من شعبان ولا يوم النصف من شعبان بشيءٍ من العبادة، ولم يثبت في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء.
ولشيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه رسالة في هذا الموضوع طبعت ضمن أربع رسائل تتعلق بليلة النصف من شعبان وليلة الإسراء والمعراج وبالمولد النبوي وبالرؤيا أو الوصية المنسوبة إلى أحمد خادم حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم التي هي مكذوبة كذباً واضحاً.
وسمى هذه الرسائل الأربع (التحذير من البدع)، ومما ورد فيها أنه لم يثبت شيء فيما يتعلق بليلة النصف من شعبان ولا بيومه.(318/25)
سبب اختيار النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة مع رجل من الأنصار لحمل بنته زينب من مكة إلى المدينة
السؤال
أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار أن يذهبا إلى بطن يأجج لصحبة زينب إلى المدينة، فهل يحتمل أن يكون سفرها مع زيد قبل إبطال التبني فيكون محرماً لها؟
الجواب
المحرمية -كما هو معلوم- إنما هي بالأنساب وليست بالتبني، والاحتمال قائم، ولكن الضرورة -كما هو معلوم- تبيح المحظورات، فالمرأة إذا كانت مضطرة إلى سفر بدون محرم مع رفقة مأمونة كأن كانت بين الكفار فأفلتت منهم فمثل هذا لا بأس به، ويدخل تحت قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)، ولكن الأصل باق على ما هو عليه، وأن المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم.(318/26)
حكم العادات الشعبية في ليلة النصف من شعبان
السؤال
لبعض الناس عادات شعبية في ليلة النصف من شعبان، فهل تدخل في مسألة البدعة؟ الشيخ: لا تخصص ليلة النصف من شعبان بعادات، لا فيما يتعلق بالكبار ولا فيما يتعلق بالصغار، فالسنن يؤخذ بها، والبدع يحذر منها، سواء أكانت من صغار أم من كبار، والصغار يؤدبون وينشئون على اتباع السنة.(318/27)
حكم سفر الزوجة بدون محرم إلى زوجها حين لا يقدر على تكاليف سفرها
السؤال
إذا أراد طالب أن يأتي بزوجته إلى مقر دراسته خارج بلده، ولكن لم يستطع بسبب قلة المال، فهل يجوز للزوجة أن تسافر بدون محرم على اعتبار أن هذا من الضرورات؟
الجواب
ليس هذا من هذا القبيل، بل تبقى امرأته عند أهلها، وإذا تمكن من أن يأتي بها فذاك وإلا فليذهب لزيارتها ويجلس عندها فترة ويرجع.
وأما أن يقال: إن مثل تلك حالة ضرورة فإنه عندئذ ستقول كل امرأة: إنها في حال ضرورة.
ثم لا يبقى للحديث عمل.(318/28)
حكم اصطياد السمك في سدود الحرم المائية
السؤال
هل يشمل تحريم الصيد في الحرم السمك؛ إذ إن في بعض سدود الحرم المائية أسماكاً؟
الجواب
لا بأس بذلك، فالمحذور هو صيد البر الذي يأكل من الشجرة، ولهذا منع من قطع الشجر ومن قطع الحشيش -وهو النبات الرطب-، ولعل من حكمة ذلك أن يكون للصيد الذي يدخل الحرم قوته ومرعاه الذي يرتعي فيه، حيث يكون آمناً عنده قوته وعنده رزقه.(318/29)
شرح سنن أبي داود [319]
للغنائم التي يصيبها المجاهدون أحكام كثيرة بينها أهل العلم، ومن ذلك التأني في قسمة الغنائم إذا رجي أن يرجع الكفار تائبين، فيرد عليهم الغنائم ترغيباً لهم في الإسلام، ومن ذلك حرمة التفريق بين المحارم من السبي إلا الكبار، ومن ذلك حكم من وجد في الغنيمة شيئاً كان ملكاً له، وإباحة الطعام في أرض العدو قبل القسمة.(319/1)
إقامة الإمام بعرصة العدو بعد الظهور عليهم(319/2)
شرح حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غلب على قوم أقام بالعرصة ثلاثاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الإمام يقيم عند الظهور على العدو بعرصتهم.
حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا معاذ بن معاذ.
ح وحدثنا هارون بن عبد الله قال: حدثنا روح، قالا: حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس عن أبي طلحة رضي الله عنهما أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا غلب على قوم أقام بالعرصة ثلاثاً) قال ابن المثنى: (إذا غلب قوماً أحب أن يقيم بعرصتهم ثلاثاً)].
أورد أبو داود [باب في الإمام يقيم عند الظهور على العدو بعرصتهم].
يعني الإمام ومعه الجيش الذي انتصر على العدو، فإنه عند ظهوره عليهم يبقى وينزل في عرصتهم، والعرصة هي الأماكن الواسعة التي ليس فيها بنيان، وهي الأفنية التي حول البنيان.
فكان عليه الصلاة والسلام إذا غلب على قوم أو انتصر عليهم بقي في عرصتهم ثلاثاً، وجلوسه ثلاثة أيام في العرصة من أجل أن يستريح الجيش، وأن يحصل له شيء من الراحة حين لا يكون هناك قتال، ثم بعد ذلك تكون المواصلة للسير، وإنما يبقون مدة ثلاثة أيام يستجموا وليجدوا الراحة بعد ذلك القتال الذي قد حصل.
وأورد أبو داود حديث أبي طلحة -وهو زيد بن سهل رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انتصر على قوم أو ظهر عليهم بقي في عرصتهم ثلاثاً، قال ابن المثنى أحد شيوخ أبي داود: [(أحب أن يقيم بعرصتهم ثلاثاً)].(319/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غلب على قوم أقام بالعرصة ثلاثاً)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
هو محمد بن المثنى العنزي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معاذ بن معاذ].
هو معاذ بن معاذ العنبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا هارون بن عبد الله].
قوله: [ح] هي للتحول من إسناد إلى إسناد، وهارون بن عبد الله هو الحمال البغدادي، لقبه الحمال ونسبته إلى بغداد، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا روح].
هو روح بن عبادة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سعيد].
هو سعيد بن أبي عروبة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[عن أبي طلحة].
هو زيد بن سهل رضي الله تعالى عنه، وهو زوج أم أنس بن مالك أم سليم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(319/4)
طعن القطان في الحديث ومدى صحته وأثره
قوله: [قال أبو داود: كان يحيى بن سعيد يطعن في هذا الحديث؛ لأنه ليس من قديم حديث سعيد؛ لأنه تغير سنة خمس وأربعين، ولم يخرج هذا الحديث إلا بآخرةٍ.
قال أبو داود: يقال: إن وكيعاً حمل عنه في تغيره].
ذكر أبو داود هنا كلاماً، وهو أن يحيى بن سعيد القطان كان يطعن في هذا الحديث ويقول: إن سعيد بن أبي عروبة تغير بآخره.
وذكر أن وكيعاً قيل عنه: إنه حمل عنه في تغيره، ومع ذلك فالحديث صحيح وثابت، وقد أخرجه البخاري ومسلم، ونقل ابن الصلاح أن ابن معين اعترض على وكيع في روايته عن سعيد بن أبي عروبة قائلاً: تحدث عن سعيد بن أبي عروبة، وإنما سمعت منه في الاختلاط؟ فقال له وكيع: رأيتني حدثت عنه إلا بحديث مستوٍ؟! وعلى كل حالٍ فإن تعليل يحيى القطان فيه نظر، ولا يؤثر في هذا الحديث.(319/5)
التفريق بين السبي(319/6)
شرح حديث النهي عن التفريق بين الجارية وولدها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التفريق بين السبي.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرحمن عن الحكم عن ميمون بن أبي شبيب عن علي رضي الله عنه (أنه فرق بين جارية وولدها فنهاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك ورد البيع).
قال أبو داود: ميمون لم يدرك علياً؛ قتل بالجماجم، والجماجم سنة ثلاث وثمانين.
قال أبو داود: والحرة سنة ثلاث وستين، وقتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين].
أورد أبو داود [باب في التفريق بين السبي] والتفريق بين السبي هو فيما إذا كانوا ذوي قرابة، فإذا كانوا كباراً فلا بأس بالتفريق بينهم، وأما إذا كان فيهم صغير وكبير، بأن تكون امرأة وابن لها صغير، أو أخت ولها أخ صغير بحاجة إلى حضانتها ورعايتها لكونه في الصغر يحتاج إلى رعاية؛ فإنه لا يفرق بينهم في هذه الحالة، وإنما التفريق يجوز فيما إذا كانوا كباراً.
وعلى هذا فالتفريق بين السبي فيه تفصيل، كما أن التفريق بالبيع -أيضاً- فيه تفصيل، فإذا كان السبي أو الذين يباعون كباراً فإنه يجوز التفريق بينهم في البيع والسبي بأن يعطى هذا لواحد وهذا لواحد، فيكون كل واحد بجهة.
وأما إذا كان أحدهما كبيراً وهو يرعى الصغير، والصغير بحاجة إليه وإلى حضانته وإلى رعايته ولا يقوم بنفسه فإنه لا يفرق بينهم، بل يكون بعضهم مع بعض في السبي وفي البيع.
أورد أبو داود حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه (أنه فرق بين جارية وولدها فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ورد البيع)].
فهو باع الجارية لمشتر وباع ولدها لآخر، فنهاه الرسول صلى الله عليه وسلم ورد البيع، بمعنى أنه لابد من بقائهما جميعاً؛ لأن الصغير بحاجة إلى الكبير، والابن بحاجة إلى أمه.
أما إذا كان الابن ليس بحاجة لأمه بأن يكون كبيراً وأمه كبيرة، وكل منهما قائم بنفسه، فلا مانع من التفريق بينهما.
قال ابن القيم: [وفي جامع الترمذي من حديث أبي أيوب الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من فرق بين الجارية وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) قال الترمذي: حسن غريب.
وأخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه.
وليس كما قال؛ فإن في إسناده حسين بن عبد الله ولم يخرج له في الصحيحين، وقال أحمد: في أحاديثه مناكير.
وقال البخاري: فيه نظر.
ولفظ الترمذي فيه: (من فرق بين والدة وولدها)].(319/7)
تراجم رجال إسناد حديث النهي عن التفريق بين الجارية وولدها
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في (عمل اليوم والليلة).
[حدثنا إسحاق بن منصور].
هو إسحاق بن منصور السلولي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد السلام بن حرب].
عبد السلام بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن عبد الرحمن].
يزيد بن عبد الرحمن وهو صدوق يخطئ كثيراً، أخرج له أصحاب السنن.
[عن الحكم].
هو الحكم بن عتيبة الكندي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ميمون بن أبي شبيب].
ميمون بن أبي شبيب صدوق كثير الإرسال، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن علي].
هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة.
والحديث فيه انقطاع بين ميمون بن أبي شبيب وعلي، ولكن له شواهد، وهو صحيح بشواهده.
قوله: [قال أبو داود: ميمون لم يدرك علياً، قتل بالجماجم، والجماجم سنة ثلاث وثمانين].
ذكر أبو داود أن ميمون بن أبي شبيب قتل في الجماجم، وكانت سنة ثلاث وثمانين، وذكر أنه لم يدرك علياً، ولعله أراد بذكر سنة وقعة الجماجم أن ميمون كان عمره قصيراً، ولذلك لم يدرك علياً.
وأما ذكر سنة الحرة وسنة مقتل ابن الزبير فلا يظهر له ارتباط بالموضوع إلا من جهة الفائدة.(319/8)
الرخصة في التفريق بين الكبار من السبي(319/9)
شرح حديث سلمة بن الأكوع في افتداء النبي صلى الله عليه وسلم أسرى في مكة بجارية دون أمها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الرخصة في المدركين يفرق بينهم.
حدثنا هارون بن عبد الله قال: حدثنا هاشم بن القاسم قال: حدثنا عكرمة قال: حدثني إياس بن سلمة قال: حدثني أبي رضي الله عنه قال: (خرجنا مع أبي بكر رضي الله عنه -وأمره علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- فغزونا فزارة فشننا الغارة، ثم نظرت إلى عنق من الناس فيهم الذرية والنساء، فرميت بسهم فوقع بينهم وبين الجبل فقاموا، فجئت بهم إلى أبي بكر فيهم امرأة من فزارة وعليها قشع من أدم معها بنت لها من أحسن العرب، فنفلني أبو بكر ابنتها، فقدمت المدينة فلقيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي: يا سلمة! هب لي المرأة.
فقلت: والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوباً.
فسكت حتى إذا كان من الغد لقيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السوق فقال لي: يا سلمة! هب لي المرأة لله أبوك.
فقلت: يا رسول الله! والله ما كشفت لها ثوباً، وهي لك.
فبعث بها إلى أهل مكة وفي أيديهم أسرى ففداهم بتلك المرأة)].
أورد أبو داود [باب المدركين يفرق بينهم].
يعني البالغين، فيجوز في البالغين أن يفرق بين القريب وقريبه.
وقد أورد أبو داود حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه قال: خرجنا في غزاة مع أبي بكر، وكان أبو بكر أميرهم، فذكر أنهم غزوا فزارة، وأنه جاء إلى عنق من الناس -وهم جماعة من الناس- فرمى بسهمه فوقع بينهم وبين الجبل فقاموا، فأتى بهم، وكانت فيهم امرأة ولها ابنة من أحسن العرب ومن أجملهم، فنفله أبو بكر إياها، والنفل هو إعطاء الشيء قبل قسمة الغنيمة من أجل جهد قام به ومن أجل عمل تميز به، فنفله إياها فصارت من نصيبه، فلما جاء إلى المدينة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: [(هب لي المرأة)] فقال: إنها أعجبتني، وإنني ما كشفت لها ثوباً.
يعني أنه ما جامعها ولا حصل منه استمتاع بها، ثم بعد ذلك لقيه فقال: [(هب لي المرأة لله أبوك)] وذلك يدل على رغبة شديدة فيها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يفادي بها الأسرى الذين كانوا عند الكفار، فأعطاه إياها وقال: إنني ما كشفت لها ثوباً، وهي لك يا رسول الله.
فأرسلها في مقابل أسرى عند المشركين فخلصوا من الأسر في مقابل هذه الجارية.
ومحل الشاهد من الترجمة هو أنه فرق بين المرأة وبين ابنتها لأنهما مدركتان كبيرتان، ومعنى هذا أن التفريق يجوز في البالغين وفي الكبار، وأما بين الكبير والصغير فإنه لا يفرق بينهما كما مر في الترجمة السابقة.
قوله: [(فشننا الغارة)].
يعني أنهم شنوا عليهم الغارة وأحاطوا بهم من جميع الجهات.
قوله: [(ثم نظرت إلى عنق من الناس فيهم الذرية والنساء فرميت بسهم فوقع بينهم وبين الجبل فقاموا)].
العنق من الناس هم الجماعة، وكانوا جماعة فيهم النساء والذرية، فقاموا فأتى بهم يسوقهم.
وكأنه أراد بالرمي أن يفزعوا فيستسلموا، وما قصد قتل أحدٍ منهم.
قوله: [فيهم امرأة من فزارة وعليها قشع من أدم].
الأدم هو الجلد، والقشع: الجلد، وفيه لغتان، يقال: قَشع وقِشع ومنه قولك: قشعت الشيء.
أي: دخلت قشره، والقشاعة: ما أخذته من جلدة وجه الأرض.
وقوله: [(لله أبوك)].
هو عبارة ترغيب، تستعمل في التحريض على الشيء، كقولهم: لله درُه.(319/10)
تراجم رجال إسناد حديث سلمة بن الأكوع في افتداء النبي صلى الله عليه وسلم أسرى في مكة بجارية دون أمها
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله قال: حدثنا هاشم بن القاسم].
هارون بن عبد الله مر ذكره، وهاشم بن القاسم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عكرمة].
هو عكرمة بن عمار، صدوق يغلط، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني إياس بن سلمة].
هو إياس بن سلمة بن الأكوع، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبي].
هو سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(319/11)
المال يصيبه العدو من المسلمين ثم يدركه صاحبه في الغنيمة(319/12)
شرح حديث رد النبي صلى الله عليه وسلم على ابن عمر غلامه الآبق بعد ظهوره على العدو
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المال يصيبه العدو من المسلمين ثم يدركه صاحبه في الغنيمة.
حدثنا صالح بن سهيل حدثنا يحيى -يعني ابن أبي زائدة - عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن غلاماً لـ ابن عمر أبق إلى العدو، فظهر عليه المسلمون، فرده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ابن عمر ولم يقسم).
قال أبو داود: وقال غيره: ردَّه عليه خالد بن الوليد].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي [باب في المال يصيبه العدو من المسلمين ثم يدركه صاحبه في الغنيمة].
ومعنى هذا أن الكفار إذا أخذوا شيئاً لأحد المسلمين ثم بعد ذلك ظفر بهم المسلمون وأخذوا ما معهم من أموال وكان من بينها ذلك الذي أخذوه من ذلك المسلم؛ فإن ذلك لا يقسم ولا يكون من الغنيمة، وإنما يرجع على صاحبه الذي يملكه؛ لأن هذا ملك لأحد من المسلمين، وقد أخذه العدو ثم ظُفِرَ بالعدو وحيزت أموالهم ومن جملتها هذا الذي بأيديهم لأحد المسلمين، فإنه لا يكون من الغنيمة، وإنما يعطى لصاحبه الذي أخذ منه.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان له عبد فأبق إلى المشركين، وأنهم لما ظفروا بهم أعيد إليه ذلك العبد، ولم يقسم، أي: ما جعل في الغنيمة، ولم يقسم كما تقسم الغنيمة، وإنما أرجع إلى صاحبه، فدل هذا على أن المال الذي يأخذه العدو من أحد المسلمين ثم يظفر بهم المسلمون يرجع إلى صاحبه ولا يكون من جملة الغنيمة.
[قال: أبو داود: وقال غيره: رده عليه خالد بن الوليد].
يعني: قال غير يحيى بن أبي زائدة -وهو ابن نمير الذي سيأتي في الأحاديث التي بعد هذا-: رده عليه خالد بن الوليد.
أي أن الذي رد العبد الآبق عليه هو خالد بن الوليد، وكان أميراً على الجيش.(319/13)
تراجم رجال إسناد حديث رد النبي صلى الله عليه وسلم على ابن عمر غلامه الآبق بعد ظهوره على العدو
قوله: [حدثنا صالح بن سهيل].
صالح بن سهيل مقبول، أخرج له أبو داود.
[حدثنا يحيى -يعني ابن أبي زائدة -].
يحيى بن أبي زائدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، صحابي جليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(319/14)
شرح حديث رد فرس وعبد ابن عمر إليه بعد الظهور على العدو الذي حازهما
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري والحسن بن علي المعنى، قالا: حدثنا ابن نمير عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ذهب فرس له فأخذها العدو، فظهر عليهم المسلمون، فرد عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبق عبد له فلحق بأرض الروم، فظهر عليهم المسلمون، فرده عليه خالد بن الوليد رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم].
أورد أبو داود حديث ابن عمر من طريق أخرى، وفيه أن فرساً له أخذه العدو وأنه أعاده إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون الذي أعيد إلى ابن عمر في زمنه صلى الله عليه وسلم فرس، وفي الحديث السابق أنه غلام أبق، وهذا الحديث الذي فيه أنه رد إليه فرس فيه أن عبداً له أبق ولحق بالروم، وأن المسلمين ظفروا به، وأن العبد الآبق رده إليه خالد بن الوليد.
فالذي رده الرسول صلى الله عليه وسلم -أي: في هذا الطريق الثانية- هو الفرس، وفي الطريق الأولى الغلام الذي أبق، وفي الطريق الثانية أن الغلام الذي أبق إنما رده إليه خالد بن الوليد.
وعلى كلٍ فمحل الشاهد للترجمة هو أن المال الذي يأخذه العدو لأحد المسلمين -سواءٌ أكان فرساً أم عبداً أم غير ذلك- ثم يظفر المسلمون بهم فإن ذلك الذي يختص بأحد المسلمين لا يكون من الغنيمة، وإنما يرجع إلى صاحبه.(319/15)
تراجم رجال إسناد حديث رد فرس وعبد ابن عمر إليه بعد الظهور على العدو الذي حازهما
قوله: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري].
محمد بن سليمان الأنباري صدوق، أخرج له أبو داود.
[والحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[قالا: حدثنا ابن نمير].
هو عبد الله بن نمير، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر].
قد مر ذكرهم جميعاً.(319/16)
عبيد المشركين يلحقون بالمسلمين فيسلمون(319/17)
شرح حديث: (خرج عِبْدانٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الصلح)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في عبيد المشركين يلحقون بالمسلمين فيسلمون.
حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني حدثني محمد -يعني ابن سلمة - عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (خرج عِبْدانٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -يعني يوم الحديبية- قبل الصلح، فكتب إليه مواليهم فقالوا: يا محمد! والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك وإنما خرجوا هرباً من الرق.
فقال ناس: صدقوا يا رسول الله، ردهم إليهم.
فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: ما أراكم تنتهون -يا معشر قريش- حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا.
وأبى أن يردهم، وقال: هم عتقاء الله عز وجل)].
أورد أبو داود [باب في عبيد المشركين يلحقون بالمسلمين فيسلمون].
ومعناه أنهم ينفلتون وينطلقون من الكفار ويأتون إلى مسلمين ويسلمون، فإنهم يكونون بذلك مسلمين ولا يُسَلَّمون للكفار.
وقد أورد أبو داود حديث علي رضي الله تعالى عنه قال: [(خرج عِبْدانٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
والعبدان جمع عبد.
فذكر أنهم خرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية قبل الصلح، فقال مواليهم: إنهم لم يلحقوا بك رغبة في دينك وإنما تخلصاً من الرق.
فقال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقوا.
قالوا ذلك على حسب الظاهر، أي: ما دام أنهم أرقاء وأنهم هربوا من مواليهم فمعنى ذلك أنهم يريدون الخلاص من الرق.
فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم لكونهم قالوا هذه المقالة وصدقوا أولئك مع أن هؤلاء ظهر منهم الإسلام.
ثم قال: [(ما أراكم تنتهون -يا معشر قريش- حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا)].
فأنكر عليهم قولهم الذي قالوه وأبى أن يردهم، فبقوا مع المسلمين وكانوا من جملة المسلمين.
وعلى هذا فإن الذي يأتي من الكفار إلى المسلمين -سواءٌ أكان حراً أم عبداً- يقبل، ويكون من جملة المسلمين ولا يرد على الكفار، وهذا كان قبل الصلح، وأما بعد الصلح فكان مما اشترطه الكفار في الصلح مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن من جاء من المسلمين إلى الكفار لا يرد عليهم، ومن ذهب من الكفار إلى المسلمين فإنه يرد عليهم، وكان لذلك أثر كبير على بعض الصحابة، وقالوا: كيف نعطي الدنية في ديننا؟! ثم بعد ذلك تبين لهم أن الخير فيما رغب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما وافق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(هم عتقاء الله عز وجل)].
معناه أن الله عز وجل أعتقهم من رق أولئك، أعتقهم ومن عليهم بالسلامة من الرق الذي كانوا فيه عند الكفار.(319/18)
تراجم رجال إسناد حديث: (خرج عِبْدانٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الصلح)
قوله: [حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني].
عبد العزيز بن يحيى الحراني صدوق ربما وهم، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثني محمد -يعني: ابن سلمة -].
هو محمد بن سلمة الحراني، وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق مر ذكره.
[عن أبان بن صالح].
أبان بن صالح وثقه الأئمة، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن منصور بن المعتمر].
منصور بن المعتمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ربعي بن حراش].
ربعي بن حراش ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي بن أبي طالب].
قد مرَّ ذكره رضي الله تعالى عنه.(319/19)
إباحة الطعام في أرض العدو(319/20)
شرح حديث ترك النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الخمس من جيش غنم طعاماً وعسلاً
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في إباحة الطعام في أرض العدو.
حدثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري قال: حدثنا أنس بن عياض عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن جيشاً غنموا في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طعاماً وعسلاً فلم يأخذ منهم الخمس)].
أورد أبو داود [باب في إباحة الطعام في ديار العدو] يعني أن الطعام في أرض العدو يأكله المجاهدون في سبيل الله.
وأورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن جيشاً في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم غنموا طعاماً وعسلاً فلم يأخذ منهم الخمس، أي: ما خمسه، وإنما أذن لهم باستعماله وأكله، فدل هذا على أن الطعام يأكل في أرض العدو حيث يكون الجيش بحاجة إليه، أما إذا كان كثيراً يزيد عن حاجتهم فإنهم يأكلون حاجتهم والباقي يكون من الغنيمة كما سيأتي في الأحاديث بعد هذا.(319/21)
تراجم رجال إسناد حديث ترك النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الخمس من جيش غنم طعاماً وعسلاً
قوله: [حدثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري].
إبراهيم بن حمزة الزبيري صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا أنس بن عياض].
أنس بن عياض ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر].
قد مر ذكرهم جميعاً.(319/22)
شرح حديث عبد الله بن مغفل في أخذه جراب شحم يوم خيبر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل والقعنبي قالا: حدثنا سليمان عن حميد -يعني ابن هلال - عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أنه قال: (دلي جراب من شحم يوم خيبر، قال: فأتيته فالتزمته، قال: ثم قلت: لا أعطي من هذا أحداً اليوم شيئاً.
قال: فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبسم إلي)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أنه دلي جراب للعدو فيه شحم فسقط فأخذه والتزمه وقال: لا أعطي أحداً منه شيئاً.
أي أنه سيختص به، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ويتبسم، فدل هذا على أن مثل ذلك لا يخمس كما تخمس الغنيمة؛ لأنه طعام.(319/23)
تراجم رجال إسناد حديث عبد الله بن مغفل في أخذه جراب شحم يوم خيبر
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل والقعنبي].
موسى بن إسماعيل مر ذكره، والقعنبي هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[قالا: حدثنا سليمان].
هو سليمان بن المغيرة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد -يعني: ابن هلال -].
حميد بن هلال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن مغفل].
عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث من رباعيات الإمام أبي داود رحمه الله تعالى.(319/24)
النهي عن النهبى إذا كان في الطعام قلة في أرض العدو(319/25)
شرح حديث عبد الرحمن بن سمرة في النهي عن النهبى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النهي عن النهبى إذا كان في الطعام قلة في أرض العدو.
حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا جرير -يعني ابن حازم - عن يعلى بن حكيم عن أبي لبيد قال: كنا مع عبد الرحمن بن سمرة بكابل، فأصاب الناس غنيمة فانتهبوها، فقام خطيباً فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن النهبى.
فردوا ما أخذوا فقسمه بينهم].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في النهي عن النهبى إذا كان في الطعام قلة في أرض العدو].
وقد سبق أن عرفنا أن الطعام الذي يحتاج إليه لا يكون غنيمة ولا يقسم كما تقسم الغنائم، وإنما يأكل منه الناس لحاجتهم إليه، وإذا كان كثيراً فإنه يؤخذ منه ما يكفي لهم لحاجتهم وأكلهم والباقي يكون غنيمة، فيقسم كما تقسم الغنيمة.
وقد أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وذكر تحتها حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه حين كانوا في كابل فانتهب الناس الطعام لكونه قليلاً، فخطبهم وقال: [سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى عن النهبى].
فرد كل منهم ما أخذ فقسمه بينهم، يعني: قسمه بينهم للاقتيات.
والأخذ من الطعام على سبيل الانتهاب يجعل القوي يتمكن مما لا يتمكن منه الضعيف، فيأخذ القوي، والضعيف لا يُحصِّل شيئاً، أو يأخذ القوي شيئاً كثيراً والضعيف لا يجد إلا شيئاً قليلاً.
وأما إذا كان الأخذ على قدر الحاجة أو يوزع عليهم بدون انتهاب فإن هذا تتحقق به المصلحة، ويحصل التساوي بين أفراد الجيش في الطعام الذي يأخذونه والذي حصل لهم في أرض العدو من العدو.
فالذي أخذه أولئك المجاهدون كان طعاماً أخذوه لحاجتهم ولاقتياتهم، ولكن النهبى يترتب عليها أن القوي هو الذي يجد ويستفيد، والذي ليس كذلك لا يستفيد ولا يجد شيئاً، ولما خطبهم عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه وبين لهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بادروا إلى أن يرد كل ما أخذ، ثم إنه قسمه بينهم بحيث تكون الفائدة للجميع لا لبعضهم دون بعض.(319/26)
تراجم رجال إسناد حديث عبد الرحمن بن سمرة في النهي عن النهبى
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا جرير -يعني: ابن حازم -].
جرير بن حازم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يعلى بن حكيم].
يعلى بن حكيم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن أبي لبيد عن عبد الرحمن بن سمرة].
هو لمازة بن زبار الجهصمي، صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
وعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(319/27)
شرح حديث: (أصبنا طعاماً يوم خيبر فكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينصرف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا أبو إسحاق الشيباني عن محمد بن أبي مجالد عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أنه قال: قلت: هل كنتم تخمسون -يعني الطعام في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم-؟ فقال: أصبنا طعاماً يوم خيبر، فكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينصرف].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أنه سئل: هل كانوا يخمسون الطعام؟ فأخبر أنهم غزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وأنهم حصلوا طعاماً، فكان الواحد منهم يأتي فيأخذ على قدر حاجته ثم ينصرف، وهذا ليس على سبيل الانتهاب، وإنما أذن لكل واحد أن يأخذ على قدر حاجته من الطعام الموجود بين أيديهم، وهذا يدلنا على أن الطعام لا يخمس، وإنما يأخذ منه الغزاة الغانمون على قدر حاجتهم، ولكنه إذا كان كثيراً فإنه يأخذ منه الغزاة حاجتهم والباقي يكون من جملة الغنيمة التي تخمس وتقسم.(319/28)
تراجم رجال إسناد حديث: (أصبنا طعاماً يوم خيبر فكان الرجل يجيء فيأخذ منه ثم ينصرف)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو معاوية].
هو محمد بن خازم الضرير الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو إسحاق الشيباني].
هو سليمان بن أبي سليمان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن أبي مجالد].
محمد بن أبي مجالد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عبد الله بن أبي أوفى].
هو عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(319/29)
شرح حديث: (إن النهبة ليست بأحل من الميتة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو الأحوص عن عاصم -يعني ابن كليب - عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد، وأصابوا غنماً فانتهبوها، فإن قدورنا لتغلي إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمشي على قوس، فأكفأ قدورنا بقوسه، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب، ثم قال: (إن النهبة ليست بأحل من الميتة) أو (إن الميتة ليست بأحل من النهبة) الشك من هناد].
أورد أبو داود حديث رجل من الأنصار رضي الله تعالى عنه أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، وأنهم أصابتهم حاجة، وأنهم أصابوا غنماً فانتهبوها، أي: فتسابقوا إلى أخذها على سبيل الانتهاب، وذبحوها وجعلوها في القدور، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكفأ القدور وجعل يرمل اللحم بالتراب ويقول: [(إن النهبة ليست بأحل من الميتة)]، أو قال: [(إن الميتة ليست بأحل من النهبة)].
وذلك لتعظيم شأن الانتهاب وأنه خطير، وأن الإنسان حين يأخذ الشيء وهو لا يستحقه يكون بذلك قد أخذ أمراً لا يجوز له، فالرسول صلى الله عليه وسلم أكفأ هذه القدور، وجعل يرمل اللحم بالتراب، أي يجعل عليه التراب، ومعنى ذلك أنه لا يؤكل وأنه مثل الميتة، فدل هذا على تحريم مثل هذا العمل، وأن الإنسان ليس له أن يأخذ إلا ما أحل الله له وما أبيح له وما أذن له في أخذه.(319/30)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن النهبة ليست بأحل من الميتة)
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هو هناد بن السري أبو السري، وهو ثقة، أخرج له البخاري في (خلق أفعال العباد) ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو الأحوص].
هو سلام بن سليم الحنفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عاصم -يعني: ابن كليب -].
هو عاصم بن كليب بن شهاب، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه صدوق، أخرج له البخاري في جزء رفع اليدين وأصحاب السنن.
[عن رجل من الأنصار].
هو صحابي غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مبهم، والمعلوم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المبهم فيهم والمجهول في حكم المعلوم؛ لأنهم عدول بتعديل الله عز وجل لهم وتعديل رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم لا يحتاجون إلى تعديل المعدلين وتوثيق الموثقين بعد أن حصل لهم ذلك من رب العالمين ومن رسوله الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وعبارة (عن رجل) إذا جاءت في موضع تابعي أو من دونه فإنها تؤثر في الإسناد، وتكون سبباً في تضعيف الحديث؛ لأن غير الصحابة يحتاج إلى معرفة حالهم، وأما الصحابة فإنهم لا يحتاجون إلى ذلك.
وقول (من الأنصار) قد يحمل على رجل من أولاد الأنصار فيحتاج إلى معرفة حاله، ولكن عرفنا أن قوله هنا: [عن رجل من الأنصار] أنه صحابي؛ لكونه أخبر أنهم غزوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم.(319/31)
حمل الطعام من أرض العدو(319/32)
شرح حديث حمل الطعام من أرض العدو
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في حمل الطعام من أرض العدو.
حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث عن ابن حرشف الأزدي حدثه عن القاسم مولى عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنا نأكل الجزور في الغزو ولا نقسمه، حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخرجتنا منه مملاة].
أورد أبو داود [باب في حمل الطعام من أرض العدو].
يعني أن ذلك سائغ وأنه لا بأس به، وأنهم إذا أخذوا كفايتهم وهم في أرض العدو وزاد عليها شيء فإنهم يحملونه ولا بأس بذلك؛ لأن هذا رزق ساقه الله لهم، وغنيمة غنموها، فلهم ذلك ولا بأس به ولا مانع منه.
وقد أورد أبو داود الحديث عن رجل من أصحاب رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [كنا نأكل الجزور في الغزو ولا نقسمه، حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخرجتنا منه مملاة].
قوله: [كنا نأكل الجزور في الغزو ولا نقسمه].
يعني أنه لا يقسم كما تقسم الغنائم، وإنما كانوا يأخذون منه فيأكلون ويتزودون، فيرجعون ومعهم شيءٌ من الطعام الذي زاد على قدر حاجتهم وهم في أرض العدو فيأكلونه في سفرهم أو في بيوتهم.
قوله: [حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخرجتنا منه مملاة].
الأخرجة جمع خرج، وهو الذي يوضع فيه متاع الراكب ومتاع المسافر.
وقوله: [مملاة] يعني: ممتلئة من بقية الطعام الذي بقي لهم.
والحديث في إسناده ضعف، وهو غير ثابت، ولكن معناه صحيح من جهة أن الطعام في أرض العدو يستعمله الغزاة، وإذا زاد معهم شيء فيرجعون به ولا بأس بذلك، فالمعنى صحيح والحديث في إسناده ضعف.(319/33)
تراجم رجال إسناد حديث حمل الطعام من أرض العدو
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عمرو بن الحارث].
هو عمرو بن الحارث المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن ابن حرشف الأزدي حدثه].
ابن حرشف مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن القاسم مولى عبد الرحمن].
ذكر في ترجمته في تهذيب الكمال أنه القاسم بن أبي عبد الرحمن مولى عبد الملك، وهو صدوق يغرب كثيراً، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.(319/34)
بيع الطعام إذا فضل عن الناس في أرض العدو(319/35)
شرح حديث معاذ في تقسيم النبي صلى الله عليه وسلم على الجيش طائفة من غنم أصابوها ورد باقيها في المغنم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في بيع الطعام إذا فضل عن الناس في أرض العدو.
حدثنا محمد بن المصفى حدثنا محمد بن المبارك عن يحيى بن حمزة قال: حدثنا أبو عبد العزيز -شيخ من أهل الأردن- عن عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم قال: رابطنا مدينة قنسرين مع شرحبيل بن السمط، فلما فتحها أصاب فيها غنماً وبقراً، فقسم فينا طائفة منها وجعل بقيتها في المغنم، فلقيت معاذ بن جبل رضي الله عنه فحدثته فقال معاذ: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيبر، فأصبنا فيها غنماً، فقسم فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة وجعل بقيتها في المغنم)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وهي [باب في بيع الطعام إذا فضل عن الناس في أرض العدو].
يعني أن ذلك سائغ وجائز ولا بأس به؛ لأنه إذا بيع فهو يرجع إلى الغانمين، أي: قيمته لهم، ولعل بيعه حيث يكون زائداً؛ لأنه يسرع إليه الفساد، فالأمر يقتضيه، وهذا يتعلق ببعض الأطعمة، ولكن بعضها لا يسري إليه الفساد.
وقد أورد أبو داود حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر وأنهم أصابوا غنماً، فقسم بينهم بعضها وجعل بعضها في الغنيمة، أي أنه قسم بعضها بينهم قوتاً يقتاتونه، فهذا الذي قسمه بينهم، والذي جعله في الغنيمة يصير من جملة الغنائم التي تقسم على الغانمين وتخمس، فيؤخذ خمسها وأربعة أخماسها للغانمين.
والحديث ليس فيه شيء يتعلق بالبيع، لكن البيع صحيح إذا اقتضى الأمر ذلك، لاسيما إذا كان الطعام يسرع إليه الفساد وهو زائد على قدر الحاجة.
وذكر أبو داود عن عبد الرحمن بن غنم أنهم كانوا مع شرحبيل بن السمط في فتح قنسرين، وأنهم أصابوا غنماً وبقراً، فقسم بعضها بينهم وبعضها جعله في الغنائم، ثم ذكر حديث معاذ فيما فعله النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر حين أصابوا عنماً، فما أخبر به معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون مرفوعاً، وما فعله ابن السمط موافق لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقنسرين مدينة.(319/36)
تراجم رجال إسناد حديث معاذ في تقسيم النبي صلى الله عليه وسلم على الجيش طائفة من غنم أصابوها ورد باقيها في المغنم
قوله: [حدثنا محمد بن المصفى].
محمد بن المصفى صدوق له أوهام، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا محمد بن المبارك].
محمد بن المبارك ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن حمزة].
يحيى بن حمزة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو عبد العزيز -شيخ من أهل الأردن-].
هو يحيى بن عبد العزيز، مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود.
[عن عبادة بن نسي].
عبادة بن نسي ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن غنم].
عبد الرحمن بن غنم قال عنه الحافظ: عبد الرحمن بن غنم -بفتح المعجمة وسكون النون- الأشعري، مختلف في صحبته، وذكره العجلي في كبار ثقات التابعين.
اهـ وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[فقال معاذ].
هو معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(319/37)
شرح سنن أبي داود [320]
الغنائم في الجهاد حق لكل المجاهدين، ولذا لم يجز الانتفاع بشيءٍ منها قبل قسمتها، فليس لأحد أن ينتفع منها بمركوب حتى إذا أعجفه رده فيها، ولا بملبوس كذلك إلا لحاجة وبقدر ما يدفع الحاجة، ومن هذا الباب رخص في استعمال سلاح الكافر حال القتال.
وقد ورد الوعيد الشديد لمن غل، وحُذِّر من فعله ومِنْ سَتْرِه، وما ذلك إلا لكون الغنائم حقاً عاماً للمجاهدين، فمن أخذ منها شيئاً فقد تعلق به حقهم جميعاً.(320/1)
الرجل ينتفع من الغنيمة بالشيء(320/2)
شرح حديث: (من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل ينتفع من الغنيمة بالشيء.
حدثنا سعيد بن منصور وعثمان بن أبي شيبة المعنى -قال أبو داود: وأنا لحديثه أتقن- قالا: حدثنا أبو معاوية عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي مرزوق مولى تجيب عن حنش الصنعاني عن رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه، ومن كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يلبس ثوباً من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وهي: [باب في الرجل ينتفع من الغنيمة بالشيء].
يعني: ينتفع بشيء من الغنيمة فيركب على دابة من الغنيمة، أو يلبس ثوباً من ثياب الغنيمة في بعض الأحوال حتى يجد ثوباً أو يصل إلى مكان له فيه ثياب، أو حتى يتمكن من تحصيل ثوب، فيجوز أن يستفيد من الغنيمة والفيء بالشيء بقدر الحاجة، ولا يستفيد منه ويستمر فيه حتى يبليه ويتلفه، أو يركب الدابة حتى يعجفها وينهكها، وإنما يستعمل ذلك للحاجة فقط، ومتى ما وجد السبيل إلى الاستغناء عن ذلك فإنه يرده.
وأورد أبو داود حديث رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه)].
معناه أنه يستعملها إلى أن ينهكها، ومفهوم هذا أنه إذا انتفع بشيءٍ لحاجة بحيث لا يؤدي الانتفاع إلى إتلافها أو إتعابها في الاستخدام والاستعمال فذلك لا بأس به؛ لأن المحذور هو أن يستعمل الفيء ويداوم على ذلك بحيث يحصل بسبب استعماله شيء من التأثر والتضرر للمستعمل الذي هو الدابة أو الثوب.
قال صلى الله عليه وسلم: [(ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوباً من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه)].
قوله: [(حتى إذا أخلقه رده فيه)] معناه: حتى يكون خلقاً بالياً لا يستفاد منه.
فإذا كان المرء محتاجاً إلى الركوب فإنه يركب، وإذا احتاج إلى أن يلبس ثوباً لمدة مؤقتة فإنه يلبس، ولا بأس بذلك، ولكن الممنوع هو كون انتفاعه يؤدي إلى إنهاك الدابة أو إتلافها وإخلاق الثوب أو إتلافه.(320/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه)
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور مر ذكره.
[وعثمان بن أبي شيبة].
هو عثمان بن أبي شيبة الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.
قوله: [قال أبو داود: وأنا لحديثه أتقن].
يعني بذلك شيخه الثاني الذي هو عثمان بن أبي شيبة.
[قالا: حدثنا أبو معاوية].
هو محمد بن خازم الضرير، وقد مر ذكره.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد بن أبي حبيب].
هو يزيد بن أبي حبيب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي مرزوق مولى تجيب].
هو حبيب بن الشهيد ثقة، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن حنش الصنعاني].
حنش الصنعاني ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن رويفع بن ثابت الأنصاري].
هو رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي.(320/4)
الرخصة في أخذ سلاح العدو للقتال به في المعركة(320/5)
شرح حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في أخذه سيف أبي جهل وقتله به
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرخصة في السلاح يقاتل به في المعركة.
حدثنا محمد بن العلاء قال: أخبرنا إبراهيم -يعني ابن يوسف، قال أبو داود: هو إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي - عن أبيه عن أبي إسحاق السبيعي قال: حدثني أبو عبيدة عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: مررت فإذا أبو جهل صريع قد ضربت رجله، فقلت: يا عدو الله يا أبا جهل! قد أخذ الله الآخر.
قال: ولا أهابه عند ذلك، فقال: أبعد من رجل قتله قومه؟! فضربته بسيف غير طائل فلم يغن شيئاً حتى سقط سيفه من يده، فضربته به حتى برد].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: [باب الرخصة في السلاح يقاتل به في المعركة].
والترجمة موهمة، ومعلوم أن السلاح يقاتل به في المعركة، وهذا هو الأصل فيه ولا يحتاج إلى ترخيص، ولكن المقصود من ذلك السلاح الذي يكون مع العدو فيأخذه المسلم من الكافر فيقاتل به، فالمقصود سلاح العدو وليس المقصود سلاحه هو؛ لأن الأصل أن كل مسلم يقاتل بسلاحه، والترخيص إنما هو في استعمال سلاح العدو بحيث يأخذ المسلم من عدوه سلاحاً فيقاتل به في المعركة، فالمقصود من السلاح هنا سلاح العدو.
وأورد أبو داود حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه لما كان يوم بدر وجد أبا جهل وقد أصيبت رجله، وكذلك أصيب -أيضاً- في غير رجله، ولكن بقي فيه رمق، فجاء عبد الله وعرفه، وكان معه سيف غير حاد فكان يضربه به في غير طائل، أي: من غير فائدة، فضرب يده فسقط السيف وكان في يده وكان يذب به عن نفسه، أي: ما كان يستطيع الحركة ولكنه يذب عن نفسه بالسيف، فلما سقط سيفه أخذه عبد الله وأجهز عليه به حتى برد، أي: حتى مات وفارق الحياة.
ومحل الشاهد منه كون عبد الله بن مسعود أخذ سيف أبي جهل وضربه به واستعمله في المعركة.
قوله: [مررت فإذا أبو جهل صريع قد ضربت رجله، فقلت يا عدو الله يا أبا جهل قد أخذ الله الآخر].
يعني بالآخر الأبعد.
قوله: [ولا أهابه عند ذلك].
يعني: ولا أهابه عند ذلك لأنه جريح واقع في الأرض.
قوله: [فقال: أبعد من رجل قتله قومه؟!].
قال الخطابي: الصواب أنه (أعمد).
وقوله: [قتله قومه].
معناه أن الذي قد حصل هو أن الرجل قتله قومه.
يريد أن يهون على نفسه المصاب.
قوله: [فضربته بسيف غير طائل فلم يغن شيئاً].
أي: ضربه ابن مسعود بسيف كان معه، وقوله: [غير طائل] يعني: غير مجدٍ وغير مفيد [فلم يغن شيئاً] يعني: ما حصل منه المقصود في كونه يجهز عليه ويجعله يفارق الحياة.
قوله: [حتى سقط سيفه من يده فضربته به حتى برد].
يعني: سقط سيف أبي جهل من يد أبي جهل، فضربه به حتى برد، أي: حتى مات وفارق الحياة.
وقد جاء في بعض الأحاديث أن الذي قتل أبا جهل هما معاذ ومعوذ ابني عفراء.
وهنا ذكر أن الذي قتله ابن مسعود، والتوفيق بينهما أن معاذاً ومعوذاً أجهزا عليه فأردياه وبقي به رمق، فأجهز عليه ابن مسعود رضي الله عنه.(320/6)
تراجم رجال إسناد حديث ابن مسعود في أخذه سيف أبي جهل وقتله به
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء قال: أخبرنا إبراهيم -يعني ابن يوسف -].
هو إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي، وهو صدوق يهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن أبيه].
هو يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق السبيعي].
أبو إسحاق السبيعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبو عبيدة].
هو أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي جليل، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والصحيح أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، والألباني صحح الحديث، وقال: إن بعضه له شاهد في البخاري، ومعنى ذلك أن الحديث ثابت بالشواهد.(320/7)
تعظيم الغلول(320/8)
شرح حديث امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على ميت غل يوم خيبر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في تعظيم الغلول.
حدثنا مسدد أن يحيى بن سعيد وبشر بن المفضل حدثاهم عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن أبي عمرة عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه (أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم توفي يوم خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صلوا على صاحبكم.
فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: إن صاحبكم غل في سبيل الله.
ففتشنا متاعه فوجدنا خرزاً من خرز يهود لا يساوي درهمين)].
أورد أبو داود هذه الترجمة [باب في تعظيم الغلول] يعني تعظيم شأنه وأنه خطير، وأنه ليس بالأمر الهين.
والغلول في الأصل يكون من غنيمة، ويؤخذ بغير حق، وهو من الخيانة، فأمر الغلول عظيم، وقد جاء في الحديث (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر) ومعناه أنه أخذ ذلك من غير حق، فيكون خائناً بذلك، فشأن الغلول عظيم وخطير.
وقد ترجم أبو داود بهذه الترجمة، قال: [باب في تعظيم الغلول] يعني تعظيم شأنه وبيان خطورته وأن فيه وعيداً شديداً، وأنه ليس بالأمر الهين، وإنما هو شيء عظيم عند الله عز وجل.
وأورد حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه [(أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفي يوم خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: صلوا على صاحبكم)].
أي: لم يصل عليه.
قال: [(فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: إن صاحبكم غل في سبيل الله)].
قوله: [(فتغيرت وجوه الناس)] يعني: تأثروا لكون الرسول صلى الله عليه وسلم تأخر عن الصلاة عليه، ومعنى ذلك أن عنده جرماً وأنه أتى بشيء عظيم فتغيرت وجوه الناس لكونه لم يصل عليه صلى الله عليه وسلم، فقال: [إن صاحبكم غلَّ في سبيل الله] يعني أن السبب في عدم الصلاة عليه كونه غل، والغلول خيانة؛ لأنه أخذ حقاً مشاعاً للغانمين، فالذين ظلمهم وأساء إليهم كثير، ولو كانت الإساءة إلى واحد فإن الأمر عظيم أيضاً، ولكن حيث تكون الإساءة إلى عدد كبير حين يكون الأخذ من حق أناس كثيرين فإن الأمر يكون أخطر؛ لأن فيه تعميماً للظلم وتكثيراً له، فلو حصل الظلم لشخص واحد فإنه يكون خطيراً فكيف به حين يكون لأشخاص كثيرين؟! وأخبر زيد بن خالد رضي الله عنه أنهم فتشوا رحله ومتاعه فوجدوا فيه خرزاً من خرز اليهود لا يساوي درهمين.
والحديث في إسناده أبو عمرة، وهو مقبول.(320/9)
تراجم رجال إسناد حديث امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على ميت غل يوم خيبر
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[أن يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وبشر بن المفضل].
بشر بن المفضل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثاهم].
أي: حدثا مسدداً وغيره.
[عن يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد الأنصاري المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن يحيى بن حبان].
محمد بن يحيى بن حبان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عمرة].
أبو عمرة مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن زيد بن خالد الجهني].
هو زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(320/10)
شرح حديث: (إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن ثور بن زيد الديلي عن أبي الغيث مولى ابن مطيع عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام خيبر فلم نغنم ذهباً ولا ورقاً إلا الثياب والمتاع والأموال، قال: فوجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحو وادي القرى -وقد أهدي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد أسود يقال له: مدعم - حتى إذا كانوا بوادي القرى، فبينا مدعم يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم فقتله، فقال: الناس هنيئاً له الجنة! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كلا، والذي نفسي بيده! إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً.
فلما سمعوا ذلك جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شراك من نار.
أو قال: شراكان من نار)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنهم لما كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر أنهم لم يغنموا ذهباً ولا فضة، وإنما غنموا الثياب والمتاع والأموال، يعني: ما غنموا ذهباً ولا فضة، وإنما غنموا أشياء من الثياب والمتاع ومن الأموال غير الذهب والفضة.
قال: [(فوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وادي القرى)] وذكر أنه أهدي لرسول صلى الله عليه وسلم عبد أسود يقال له: مدعم، وأنه بينما يحط رحل الرسول صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم فقتله، فقال الناس: هنيئاً له الجنة فقال صلى الله عليه وسلم: [(كلا، والذي نفسي بيده! إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً)].
وهذا هو محل الشاهد للترجمة، وهو بيان تعظيم الغلول وأن الأمر خطير، وأن تلك الشملة مع أنها حقيرة تشتعل عليه ناراً، وأنه يعذب بها لأنه قد غلها وأخذها من غير حقها.
فلما سمع الناس ذلك استعظموه، فجاء رجل ومعه شراك أو شراكان -شك من الراوي-، والشراك هو شسع النعل، فهو شيء يسير، وأخبر أنه أخذ ذلك من الغنيمة، فقال صلى الله عليه وسلم: [(شراك من نار)] أو قال: [(شراكان من نار)] ومعناه أنه يعذب بهما، فصاحب الشملة عذب بها، وكذلك الشراكان يكونان من نار يعذب بهما آخذهما غلولاً.(320/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً)
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ثور بن زيد الديلي].
ثور بن زيد الديلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الغيث مولى ابن مطيع].
أبو الغيث مولى ابن مطيع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(320/12)
الغلول إذا كان يسيراً يتركه الإمام ولا يحرق رحله(320/13)
شرح حديث: (كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله عنك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الغلول إذا كان يسيراً يتركه الإمام ولا يحرق رحله.
حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى قال: أخبرنا أبو إسحاق الفزاري عن عبد الله بن شوذب قال: حدثني عامر -يعني ابن عبد الواحد - عن ابن بريدة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصاب غنيمة أمر بلالاً فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم، فيخمسه ويقسمه، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال: يا رسول الله! هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة.
فقال: أسمعت بلالاً ينادي ثلاثاً؟ قال: نعم.
قال: فما منعك أن تجيء به؟! فاعتذر إليه، فقال: كن أنت تجيء به يوم القيامة، فلن أقبله عنك)].
أورد أبو داود [باب في الغلول إذا كان يسيراً يتركه الإمام ولا يحرق رحله] أي: لا يحرق رحل الغال.
وهذه الترجمة فيها أن الغلول اليسير الذي يكون مع الغال يترك معه، ولكنه متوعد في ذلك في الدار الآخرة؛ لأنه جاء به بعد القسمة، ولأنه لو كان أتى به قبل أن يقسم لقسم بين الغانمين.
وأورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: [(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصاب غنيمة أمر بلالاً فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم، فيخمسه ويقسمه)].
ومعلوم أن كل واحد يأخذ شيئاً من الغنيمة من العدو، فكان صلى الله عليه وسلم يأمر بلالاً فينادي بأن يأتي الناس بالغنائم التي معهم، فيجمعونها حتى تخمس وتقسم.
وفي غزوة أصاب شخص زماماً من شعر، وهو زمام البعير الذي يقاد به، فلم يأت بعد أن سمع النداء إلا بعدما قسمت الغنائم وقال: هذا أخذته من الغنيمة.
فقال له صلى الله عليه وسلم: [(أسمعت بلالاً ينادي؟)] قال: نعم.
واعتذر عن عدم إتيانه به قبل تخميس الغنيمة وقسمتها بعذر لا نعلمه.
فقال له صلى الله عليه وسلم: [(كن أنت تجيء به يوم القيامة)] يعني أنك تحاسب عليه يوم القيامة؛ لأنك أخذته من الغنيمة بغير حق، ولم تأت به ليقسم بين المستحقين.
فيبقى معه وهو متوعد بهذا الوعيد، وهو دال على خطورة الغلول، وأنه من الأمور الخطيرة ولو كان ذلك الشيء يسيراً.
ولقد سبق في حديث مضى أن رجلاً كان معه كبة من شعر أخذها من الغنائم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك) أي: وما كان للناس فإنه لا يملكه، فقال: (أما إذا بلغت ما أرى فلا أرب لي فيها) ثم رماها وتركها ولم يأخذها.
والترجمة فيها ذكر التحريق والإشارة إلى التحريق، أي: تحريق رحل الغال، وقد أورد أبو داود عدة أحاديث ستأتي فيما يتعلق بتحريق المتاع ولكنها كلها ضعيفة.(320/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله عنك)
قوله: [حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى].
أبو صالح محبوب بن موسى صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا أبو إسحاق الفزاري].
هو إبراهيم بن محمد بن الحارث، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن شوذب].
عبد الله بن شوذب صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[حدثني عامر -يعني ابن عبد الواحد -].
عامر بن عبد الواحد صدوق يخطئ، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن بريدة].
هو عبد الله بن بريدة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمرو].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(320/15)
عقوبة الغال(320/16)
شرح حديث: (إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في عقوبة الغال.
حدثنا النفيلي وسعيد بن منصور قالا: حدثنا عبد العزيز بن محمد -قال النفيلي: الدراوردي - عن صالح بن محمد بن زائدة -قال أبو داود: وصالح هذا أبو واقد - قال: دخلت مع مسلمة أرض الروم، فأتي برجل قد غل، فسأل سالماً عنه فقال: سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه)، قال: فوجدنا في متاعه مصحفاً، فسأل سالماً عنه فقال: بعه وتصدق بثمنه].
أورد أبو داود [باب في عقوبة الغال] ومعنى ذلك أنه يعاقب في الدنيا بتحريق متاعه، وفي الآخرة جاءت الأحاديث في الوعيد بحقه، مثلما مر في قوله صلى الله عليه وسلم: (شراك من نار) أو (شراكان من نار) وإخباره صلى الله عليه وسلم عن الشملة أنها تشتعل على صاحبها ناراً وأنه يعاقب على غلوله.
وتحريق المتاع لا يدخل فيه الغنيمة التي معه؛ لأنها للغانمين وليست حقاً له، وإنما الذي يحرق هو متاعه الذي يخصه.
وأورد أبو داود حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه)].
قوله: (أحرقوا متاعه واضربوه) يعني: متاعه الذي يخصه وليس الغنيمة، ومعناه أنه يضرب مع تأديبه بحرق متاعه.
وقوله: [فوجدنا في متاعه مصحفاً، فسأل سالماً عنه فقال: بعه وتصدق بثمنه].
أي: كان مما وجد في متاعه مصحف، فسأل مسلمة سالماً عنه فقال: بعه وتصدق بثمنه؛ فلا يحرق مع متاعه، بل يبقى للاستفادة منه ويباع.
والحديث ضعيف لضعف رجل في إسناده.(320/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه)
قوله: [حدثنا النفيلي].
هو عبد الله بن محمد النفيلي، ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[وسعيد بن منصور قالا: حدثنا عبد العزيز بن محمد].
سعيد بن منصور مر ذكره، وعبد العزيز بن محمد هو الدراوردي وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن صالح بن محمد بن زائدة].
صالح بن محمد بن زائدة ضعيف، أخرج له أصحاب السنن.
[فسأل سالماً عنه فقال: سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب].
سالم هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وأبوه هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهو الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه هو أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(320/18)
شرح حديث إحراق الوليد بن هشام متاع غالٍّ وضربه ومنعه سهمه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى الأنطاكي قال: أخبرنا أبو إسحاق عن صالح بن محمد قال: غزونا مع الوليد بن هشام ومعنا سالم بن عبد الله بن عمر وعمر بن عبد العزيز، فغل رجل متاعاً فأمر الوليد بمتاعه فأحرق، وطيف به، ولم يعطه سهمه.
قال أبو داود: وهذا أصح الحديثين، رواه غير واحد أن الوليد بن هشام أحرق رحل زياد بن سعد -وكان قد غل- وضربه].
هذا إسناد آخر ينتهي إلى الوليد بن هشام، وهو مثل الذي قبله، ومعناه أن الغال يحرق رحله ويضرب.
وهو مقطوع، ومع ذلك في إسناده ذلك الرجل الضعيف الذي هو صالح بن محمد.(320/19)
تراجم رجال إسناد حديث إحراق الوليد بن هشام متاع غالٍّ وضربه ومنعه سهمه
قوله: [حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى الأنطاكي قال: أخبرنا أبو إسحاق].
أبو صالح مر ذكره، وأبو إسحاق هو الفزاري، وقد مر ذكره.
[عن صالح بن محمد].
صالح بن محمد مر ذكره.
قوله: [قال: غزونا مع الوليد بن هشام].
في الحديث السابق قال: مع مسلمة: وهنا قال: مع الوليد بن هشام، وهناك ذكر الإسناد إلى عمر بن الخطاب، وهنا وقف عند كون الوليد بن هشام أحرق المتاع، فيكون مقطوعاً، ومع كونه مقطوعاً هو ضعيف؛ لأن فيه صالح بن محمد وهو ضعيف أخرج له أصحاب السنن.
والوليد بن هشام هو الأموي، ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
قوله: [قال أبو داود: وهذا أصح الحديثين].
يعني أن الموقوف هذا أصح من ذلك المتصل، وكل منهما فيه الرجل الضعيف الذي هو صالح بن محمد.(320/20)
شرح حديث إحراق النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر متاع الغالِّ وضربه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عوف قال: حدثنا موسى بن أيوب قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما حرقوا متاع الغال وضربوه].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما حرقوا متاع الغال وضربوه، فهو مثل الذي قبله، وهو -أيضاً- ضعيف من أجل زهير بن محمد الذي في الإسناد.(320/21)
تراجم رجال إسناد حديث إحراق النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر متاع الغال وضربه
قوله: [حدثنا محمد بن عوف].
محمد بن عوف ثقة، أخرج له أبو داود، والنسائي في مسند علي.
[حدثنا موسى بن أيوب].
موسى بن أيوب صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا الوليد بن مسلم].
الوليد بن مسلم ثقة، كثير التدليس، أخرج له أصحاب السنن.
[حدثنا زهير بن محمد].
زهير بن محمد رواية أهل الشام عنه غير مستقيمة، فضعف بسببها، والحديث ثبت من رواية الوليد بن مسلم، وهو من أهل الشام.
[عن عمرو بن شعيب].
عمرو بن شعيب صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه صدوق أيضاً، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وجزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن جده].
هو عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، وهو الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(320/22)
زيادة (ومنعوه سهمه) في حديث إحراق النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر متاع الغال وترجمة من زادها
[قال أبو داود: وزاد فيه علي بن بحر عن الوليد -ولم أسمعه منه-: ومنعوه سهمه].
أي أن علي بن بحر زاد في الحديث: [ومنعوه سهمه] ولم يسمعها منه أبو داود، بل سمعها من غيره، ومعنى: [ومنعوه سهمه] أي: من الغنيمة.
وعلي بن بحر ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي.(320/23)
طريق أخرى لحديث إحراق النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر متاع الغال وتراجم رجال الإسناد
[قال أبو داود: وحدثنا به الوليد بن عتبة وعبد الوهاب بن نجدة قالا: حدثنا الوليد عن زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب قوله، ولم يذكر عبد الوهاب بن نجدة الحوطي (منع سهمه)].
معناه أن الحديث مقطوع من قول عمرو بن شعيب.
قوله: [وحدثنا به الوليد بن عتبة].
الوليد بن عتبة ثقة، أخرج له أبو داود.
[وعبد الوهاب بن نجدة].
عبد الوهاب بن نجدة ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[قالا: حدثنا الوليد عن زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب].
قد مر ذكرهم جميعاً.
وهذه الروايات ضعفها جميعاً الإمام الألباني.(320/24)
النهي عن الستر على من غل(320/25)
شرح حديث: (من كتم غالاً فإنه مثله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب النهي عن الستر على من غل.
حدثنا محمد بن داود بن سفيان حدثنا يحيى بن حسان قال: حدثنا سليمان بن موسى أبو داود قال: حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب حدثني خبيب بن سليمان عن أبيه سليمان بن سمرة عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قال: أما بعد: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كتم غالاً فإنه مثله)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في النهي عن الستر على من غل] أي أن الغال إذا علم أمره وشأنه فإنه لا يُستَر عليه، والذي ينبغي في مثل هذا أن ينصح، وإذا لم يقبل النصح، فإنه يرفع أمره إلى الأمير حتى يخلصه من هذا الغلول الذي حصل؛ لأن بقاءه معه واستمراره في حوزته واستمرار خيانته يعود عليه بالمضرة في الدنيا والآخرة، فالعمل على تخليصه من هذه البلية ومن هذا العمل الخبيث من التعاون على البر والتقوى.
وقد أورد أبو داود حديث سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(من كتم غالاً فإنه مثله)].
يعني: من كتم أمره وأخفى أمره وهو يعلم ذلك فإنه يكون مثله.
أي: في الإثم.
لكن الحديث ضعيف لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن المعنى صحيح من حيث كون المسلم يكون عوناً لأخيه المسلم وناصحاً له، فالذي عليه أن ينصحه وأن ينبهه حتى يتخلص من الغلول، وإذا لم يقبل النصح فإنه يرفع أمره إلى أمير الجيش حتى يخلصه من هذا الغلول الذي يعود عليه بالمضرة في الدنيا والآخرة.
والحديث -كما أشرت- ضعيف، وفيه خمسة متكلم فيهم، وهذا الإسناد هو إسناد حديث مر هو (يا خيل الله! اركبي)، فإن هذا الإسناد هو نفس ذاك الإسناد، فيه خمسة متكلم فيهم، فيهم من هو مقبول ومن هو مجهول ومن هو لين الحديث، ولم يسلم غير الصحابي إلا واحد هو يحيى بن حسان، فهو ثقة، وأما الصحابة فلا كلام فيهم، والخمسة الباقون بين لين الحديث ومقبول الحديث ومن ليس بالقوي ومن هو مجهول.
وهؤلاء الخمسة انفرد أبو داود بالإخراج لهم.(320/26)
تراجم رجال إسناد حديث: (من كتم غالاً فإنه مثله)
قوله: [حدثنا محمد بن داود بن سفيان].
محمد بن داود بن سفيان مقبول، أخرج له أبو داود وحده.
[حدثنا يحيى بن حسان].
يحيى بن حسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا سليمان بن موسى أبو داود].
سليمان بن موسى أبو داود فيه لين، أخرج حديثه أبو داود.
[حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب].
جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب ليس بالقوي، أخرج له أبو داود.
[حدثني خبيب بن سليمان] خبيب بن سليمان مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه سليمان بن سمرة].
سليمان بن سمرة مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن سمرة بن جندب].
هو سمرة بن جندب رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(320/27)
الأسئلة(320/28)
حكم استخدام أموال الدولة في المصالح الخاصة
السؤال
ما حكم استخدام أموال الدولة في المصالح الخاصة؟
الجواب
لا يجوز ذلك، وإنما أموال الدولة تستعمل في الأمور التي خصصت لها، فكون الإنسان يكون موظفاً فيأخذ من أوراق الدولة ومن أقلامها ويستعملها، أو يستعمل التلفونات في أموره الخاصة وليس في أمور الدولة؛ هذا لا يجوز، ويعتبر خيانة لكونه أخذ شيئاً بغير حق، ولا يعد غلولاً؛ إذ الغلول خاص بالأخذ من الغنيمة قبل القسمة.(320/29)
تفسير قوله تعالى: (وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة)
السؤال
ما تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161]؟
الجواب
جاء في تفسيرها -كما في بعض الأحاديث- أنهم فقدوا قطيفة يوم بدر فقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذها.
ولعل المقصود من ذلك أنه أخذها اصطفاءً لا غلولاً.
وقد جاء في بعض الأحاديث في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران:161] أن معناه: ما كان للنبي أن يتهمه قومه بالغلول.
وقوله تعالى: ((وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) يفسره قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر، يقول: يا رسول الله! أغثني فأقول: قد أبلغتك).(320/30)
معنى الشملة
السؤال
ما المراد بالشملة؟
الجواب
المراد بالشملة شيء من الثياب يتوشح به ويتلفع، أو كساء من صوف أو شعر يتغطى به ويتلفف به، وهي من المتاع الخفيف.(320/31)
حكم بيع المصحف
السؤال
ما حكم بيع المصحف؟
الجواب
لا بأس ببيعه.(320/32)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم عن المطر: (حديث عهد بربه)
السؤال
جاء في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، قال: فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله! لم صنعت هذا؟! قال: لأنه حديث عهد بربه) فما المراد بقوله: (حديث عهد بربه)؟
الجواب
يعني أنه حديث عهد بإنزال ربه؛ لأنه -كما هو معلوم- نزل من بين السماء والأرض، وما نزل من العرش، وإنما نزل من بين السماء والأرض، كما قال الله عز وجل: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [البقرة:164]، وقال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:69] أي السحاب، فهو حديث عهد بإنزال ربه، وليس معنى ذلك أنه جاء من عند الله من فوق العرش.(320/33)
حكم مقاطعة المنتجات الأمريكية واليهودية
السؤال
ما حكم مقاطعة المنتجات الأمريكية واليهودية؟
الجواب
المسلمون -كما هو معلوم- في هذا الزمان عندهم ضعف شديد، وسبب ضعفهم عدم قيامهم بأمر الله عز وجل وبما يجب عليهم، ومن أجل ذلك هانوا على أنفسهم وهانوا على أعدائهم فصاروا هائبين بدل أن يكونوا مهيبين، صاروا يهابون أعداءهم وأعداؤهم لا يهابونهم.
أما المقاطعة ونحوها فهي ترجع إلى المصلحة وما يترتب على ذلك من الفائدة.
ومعلوم أن اليهود -وهم من أرذل خلق الله ومن أحط خلق الله- ما تسلطوا على المسلمين إلا لضعف المسلمين وهوانهم وعدم قيامهم بأمر الله عز وجل، ولو أن المسلمين رجعوا إلى ربهم لصار لهم شأن ولهابهم أعداؤهم بدل أن صاروا هم الهائبين لأعدائهم، ومعلوم أن دول الكفر كلها ضد الإسلام، ولكن المسلمين أنفسهم هم الذين قصروا في إسلامهم وقصروا بما يجب عليهم نحو إسلامهم.
والمهم أن يرجع المسلمون إلى الله عز وجل، وإذا رجعوا إلى الله عز وجل، وأصلحوا ما بينهم وبين الله، وعملوا بما هو مطلوب منهم؛ فإن هذا من أسباب نصرهم، والله تعالى يقول: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، ويقول تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:40 - 41].(320/34)
شرح سنن أبي داود [321]
للغنائم أحكامها الشرعية المتعلقة بها، ومن تلك الأحكام أنه لا يسهم فيها إلا لشاهد المعركة، ولا يسهم لمن لم يشهدها إلا إذا غاب بإذن الإمام، وقد يرى الإمام الإسهام لبعض من لم يشهدها، ومن أحكامها أن العبد والمرأة إذا شاركا في الجهاد كان لهما نصيبٌ منها رضخاً لا سهماً، ولما كانت الأسهم على قدر البلاء في الجهاد كان نصيب الفارس فيها أكبر من نصيب الراجل، فيعطى الفارس سهماً له وسهمين لفرسه لبلائه كراً وفراً.(321/1)
السلب يعطى القاتل(321/2)
شرح حديث: (من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في السلب يعطى القاتل.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمر بن كثير بن أفلح عن أبي محمد مولى أبي قتادة عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، قال: فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين، قال: فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته بالسيف على حبل عاتقه، فأقبل عليَّ فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلحقت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقلت له: ما بال الناس؟ قال: أمر الله.
ثم إن الناس رجعوا وجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه.
قال: فقمت ثم قلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال ذلك الثانية: من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه.
قال: فقمت ثم قلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال ذلك الثالثة، فقمت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما لك يا أبا قتادة؟! قال: فاقتصصت عليه القصة، فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله، وسلب ذلك القتيل عندي فأرضه منه.
فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لاها الله إذاً! يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت، فأعطه إياه.
فقال أبو قتادة: فأعطانيه، فبعت الدرع فابتعت به مخرفاً في بني سلمة، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام)].
أورد أبو داود [باب في السلب يعطى للقاتل] أي: لقاتل الكافر الذي معه شيء من سلاح وثياب وغير ذلك، هذا هو السلب الذي يعطى للقاتل، وإعطاؤه القاتل فيه مكافأة له على نشاطه وعلى قوته وعلى جرأته وتمكنه من القضاء على الكافر ومن النكاية بالكفار، فلهذا شرع إعطاء القاتل السلب، ولقد جاء فيه أحاديث، وقد سبق أن مر بنا قريباً حديث سلمة بن الأكوع في قصة الرجل الذي جاء على جمل وأناخه ثم انسل، فقال صلى الله عليه وسلم: (اقتلوه) فلحقوه، وكان سلمة بن الأكوع رضي الله عنه عداءً، وكان سباقاً على رجليه، فلحق به حتى أدركه وقتله، فجاء بالبعير يقوده وما عليه، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سلبه، فإعطاء السلب للقاتل -أي: ما كان بحوزة المقتول من الكفار- فيه مكافأة وفيه تحفيز للهمم ومكافأة لمن أبلى بلاءً حسناً وحصل منه ما فيه نكاية بالأعداء.
وأورد أبو داود حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه أنهم كانوا في غزوة حنين فحصلت جولة، يعني: حصل إقدام ثم إحجام، وانكشف المسلمون، وقد قال بعضهم: لن نغلب اليوم من قلة؛ فعوقبوا على ذلك بأن حصلت لهم الهزيمة أولاً، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر قليل، فثبت يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ثم إنه رجع الناس وصار النصر لهم على أعدائهم في آخر الأمر.
فأخبر أبو قتادة أنه رأى رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين -يعني: ظهر عليه وغلبه- فاستدار وأتاه من خلفه فضربه على حبل رقبته، أي: ضربه في المكان الذي في أسفل الرقبة فقتله، ولكنه بقي فيه رمق فأقبل إليه وضمه ضمة شديدة، قال أبو قتادة: [وجدت منها ريح الموت] ثم إنه أطلقه لأنه أدركه الموت.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك قال: [(من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه)] يعني: له من يشهد له على ذلك؛ لأن الدعاوى قد يعتريها ما يعتريها من النقص ومن الخلل، فقال: [(من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه)] فكان أبو قتادة يقوم ويقول: من يشهد لي.
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: [(مالك يا أبا قتادة؟)] فقص عليه القصة، وكان في الحاضرين الرجل الذي أخذ سلب ذلك المقتول، فقال: يا رسول الله! سلبه عندي فأرضه.
يعني: دع هذا السلب لي وأرض أبا قتادة من عندك.
فعند ذلك بادر أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقال: [لاها الله إذاً -أي: لا والله- يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه!] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [(صدق)] يعني: صدق أبو بكر.
فقام ذلك الرجل الذي عنده سلب ذلك المقتول فأعطاه لـ أبي قتادة، فباعه واشترى به مخرفاً -أي: بستاناً-، قال: فهو أول مال تأثلته في الإسلام، يعني: تملكته وظفرت به، وكان بسبب ثمن ذلك السلب الذي حصل له من ذلك المقتول الذي قتله، وهو دال على إعطاء السلب لقاتله، وهذا إنما يكون من الإمام أو ممن يكون نائباً عنه.(321/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد الأنصاري المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر بن كثير بن أفلح].
عمر بن كثير بن أفلح ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي فقد أخرج له في مسند مالك.
[عن أبي محمد مولى أبي قتادة].
أبو محمد مولى أبي قتادة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قتادة].
هو الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(321/4)
تابع شرح حديث: (من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه)
قوله: [فضربته بالسيف على حبل عاتقه].
المقصود بذلك أسفل عنقه الذي هو متصل بالعاتق.
قوله: [فلحقت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقلت له: ما بال الناس؟ قال: أمر الله].
معنى قوله: [ما بال الناس] أي: الانكشاف الذي قد حصل.
وقول عمر: [أمر الله] يعني أن هذا شيء بقضاء الله وقدره، ومصيبة حلت بالمسلمين، ولكن الله عز وجل أعاد الكرة لهم فرجعوا عن ذلك الانكشاف وذلك الانصراف الذي قد حصل وصار في النهاية النصر لهم.
قوله: [فقال أبو بكر رضي الله عنه: لاها الله إذاً! يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه!].
يعني أن هذا أسد من أسد الله يقاتل في سبيل الله ويذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون منه الجهد العظيم والجهد المشكور، فكيف تكون الغنيمة لغيره وهو لا يظفر بذلك الذي هو نتيجة لجهده؟! فمعناه أن هذا لا يكون، وهو اعتراض على ذلك الطلب الذي طلبه من كان بيده السلب، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك، وقال: [(صدق)] أي: صدق أبو بكر، فأمره أن يعطيه إياه، فقام وأعطاه أبا قتادة رضي الله عنه فباعه واشترى به مخرفاً أي بستاناً.(321/5)
شرح حديث: (من قتل كافراً فله سلبه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ -يعني يوم حنين-: من قتل كافراً فله سلبه.
فقتل أبو طلحة رضي الله عنه يومئذ عشرين رجلاً وأخذ أسلابهم، ولقي أبو طلحة أم سليم ومعها خنجر، فقال: يا أم سليم! ما هذا معك؟ قالت: أردت -والله- إن دنا مني بعضهم أبعج به بطنه.
فأخبر بذلك أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) قال أبو داود: هذا حديث حسن.
قال أبو داود: أردنا بهذا الخنجر، وكان سلاح العجم يومئذ الخنجر].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان في غزوة حنين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [(من قتل كافراً فله سلبه)] فقتل أبو طلحة رضي الله عنه عشرين شخصاً وأخذ أسلابهم، أي: أخذ الأشياء التي كانت معهم بناءً على هذا القول الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن السلب يكون للقاتل ولو تعدد المقتولون ولو كثروا؛ لأن أبا طلحة رضي الله عنه قتل عشرين وأخذ أسلابهم.
وهذا يدل على قوة بعض الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ونشاطهم وبلائهم في الجهاد في سبيل الله، فإن أبا طلحة قتل هؤلاء العشرين من الكفار وأخذ أسلابهم.
ثم رأى أم سليم -وهي زوجته، وهي أم أنس بن مالك - ومعها خنجر فقال لها: ما هذا يا أم سليم؟ قالت: أردت إن دنا أحد مني أن أبعج بطنه.
أي: أشق بطنه بهذا الخنجر.
تعني أنه إذا دنا أحد من الكفار إليها فإنها تستعمله للدفاع عن نفسها وتشق بطنه بهذا الخنجر، فأخبر بذلك أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [قال أبو داود: أردنا بهذا الخنجر، وكان سلاح العجم يومئذ الخنجر].
يعني بذلك لفظ الخنجر، والخنجر هو السكين الغليظة الكبيرة الحادة، وكان سلاح العجم يومئذ الخنجر، أي: وهذا من سلاح العجم، وإلا فإن الذين كانوا يقاتلون هم هوازن، وهم من العرب.(321/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (من قتل كافراً فله سلبه)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة بن دينار البصري، ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة].
إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك هو عم إسحاق بن عبد الله؛ لأن عبد الله بن أبي طلحة هو أخو أنس بن مالك لأمه وهذا ابنه، فيكون عمه.
وأنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد رباعي من الأسانيد العالية عند أبي داود.(321/7)
منع الإمام القاتل السلب واعتبار الفرس والسلاح من السلب(321/8)
شرح حديث: (هل أنتم تاركون لي أمرائي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الإمام يمنع القاتل السلب إن رأى، والفرسُ والسلاحُ من السلب.
حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثني صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: خرجت مع زيد بن حارثة رضي الله عنه في غزوة مؤتة، فرافقني مَدَدِي من أهل اليمن ليس معه غير سيفه، فنحر رجل من المسلمين جزوراً فسأله المددي طائفة من جلده فأعطاه إياه فاتخذه كهيئة الدرق، ومضينا فلقينا جموع الروم، وفيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب، وسلاح مذهب، فجعل الرومي يفري بالمسلمين، فقعد له المددي خلف صخرة، فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر وعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله عز وجل للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد رضي الله عنه فأخذ من السلب، قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد! أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالسلب للقاتل؟! قال: بلى، ولكني استكثرته.
قلت: لتردنه عليه أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يرد عليه، قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا خالد! ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله! لقد استكثرته.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا خالد! رد عليه ما أخذت منه.
قال عوف: فقلت له: دونك يا خالد! ألم أفِ لك؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وما ذلك؟ فأخبرته، قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا خالد! لا ترد عليه، هل أنتم تاركون لي أمرائي؟ لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: [باب الإمام يمنع القاتل السلب إن رأى، والفرسُ والسلاحُ من السلب].
يعني: إذا رأى ذلك فإن القاتل يكون له السلب، ولكن للإمام أن يمنعه إذا رأى ذلك، أي: يمنع القاتل السلب إذا رأى ذلك.
وقوله: [والفرس والسلاح من السلب] يعني أنهما من جملة السلب، بحيث إذا كان للمقتول فرس ومعه سلاح فإنه يكون سلباً ويكون لقاتله فيملك الفرس ويملك السلاح.
وأورد أبو داود حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أنه قال: [خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، فرافقني مددي من أهل اليمن ليس معه غير سيفه].
وغزوة مؤتة هي الغزوة التي كانت في أرض الروم، وكانت في السنة الثامنة، واستشهد فيها ثلاثة من الأمراء، وهم زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، ويقال لها: غزوة الأمراء؛ لأنه استشهد فيها أمراء ثلاثة أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ الراية خالد ونصر الله المسلمين على أعدائهم.
قال عوف بن مالك: صحبني مددي من اليمن.
والمددي هو الذي يأتي يمد الجيوش أو تمد به الجيوش، فيقال له: مددي.
أي: جاء يمد الجيوش، كما أخبر صلى الله عليه وسلم عن أويس القرني فقال: (يأتيكم مع أمداد أهل اليمن) يعني الذين يأتون من اليمن ليمدوا الجيوش، فيقال للواحد: مددي، ويقال للجمع: أمداد.
فكان أهل اليمن يأتون أمداداً للجيوش، وفي الحديث: (إني لأجد نفس الرحمن من جهة اليمن) والمقصود به ما يحصل للمسلمين من التنفيس عن طريق الجيوش والأمداد التي تأتي من جهة اليمن، هذا هو معنى الحديث، وليس المقصود بذلك أن الله تعالى يوصف بأن له نفساً، وإنما يعني الجند أو الجيش أو الرجال الذين يحصل بهم التنفيس على المسلمين بمجيئهم لقتال الكفار.
قال عوف عن هذا المددي: [ليس معه غير سيفه، فنحر رجل من المسلمين جزوراً فسأله المددي طائفة من جلده فأعطاه إياه، فاتخذه كهيئة الدرق].
أي: أن هذا المددي لم يكن معه إلا سيفه، وأن رجلاً من المسلمين نحر جزوراً فطلب منه قطعة من الجلد ليتخذها كهيئة الدرق، أي: كالترس الذي يقي به السهام، وذلك بأن يجعله ييبس ليكون غليظاً قاسياً.
قوله: [ومضينا فلقينا جموع الروم، وفيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب، فجعل الرومي يفري بالمسلمين، فقعد له المددي خلف صخرة، فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر، وعلاه فقتله، وحاز فرسه وسلاحه].
يعني أنه لما حصل الالتقاء مع الروم كان فيهم -أي: الروم- رجل على فرس وعليه سرج مذهب ومعه سيف مذهب، فكان يفري بالمسلمين، ومعناه أنه يفتك بهم، فهذا المددي اختفى وراء صخرة، ولما مر به الرومي ضرب عراقيب فرسه فخر وقتله.
قوله: [وحاز فرسه وسلاحه].
يعني: حاز ذلك المددي الفرس الذي عليه السرج المذهب والسلاح المذهب.
وهذا محل الشاهد للترجمة، حيث قال فيها: [والفرس والسلاح من السلب]؛ لأنه حاز ذلك السلب الذي هو الفرس والسلاح.
قوله: [فلما فتح الله عز وجل للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ من السلب، قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد! أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟].
يعني: لما حصل النصر للمسلمين على أعدائهم الروم أخذ خالد من ذلك السلب الذي مع المددي لأنه استكثره، فـ عوف بن مالك الذي كان قد رافق هذا المددي قال: [أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟] فأخبره بأنه استكثر ذلك، فأراد أن يكون للمسلمين شيء من ذلك.
قوله: [قلت: لتردنه عليه أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأبى أن يرد عليه].
يعني بذلك أنه عندما يلتقي مع خالد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه سيخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما حصل وبما فعله خالد من أخذ ذلك السلب من القاتل.
قوله: [قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا خالد! ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله! لقد استكثرته.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا خالد! رد عليه ما أخذت منه)].
أي: أنهم لما التقوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عوف بإبلاغ الرسول عليه الصلاة والسلام، بما قد حصل، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بهذا الخبر، بل استوثق من خالد وقال: (ما حملك على ما صنعت؟ فقال: استكثرته يا رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ خالد: رد عليه ذلك الذي أخذته منه).
أي: السلب.
قوله: [فقال عوف: قلت له: دونك يا خالد! ألم أف لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذلك؟].
أي: أنه لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم برد السلب على القاتل المددي قال عوف لـ خالد يخاطبه عند النبي صلى الله عليه وسلم: [ألم أف لك؟] يعني: ألم أف بالكلام حين قلت لك بأنني سأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومعناه: إنني توعدتك، وقد وفيت بما توعدتك به، فقد أخبرت بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رد السلب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [(وما ذلك؟)].
وهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، ولا يعلم الغيب على الإطلاق إلا الله سبحانه وتعالى، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب على الإطلاق لما خفي عليه الذي جرى بين خالد وبين عوف بن مالك، وهذا من جملة الوقائع الكثيرة التي تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، وقد أطلعه الله على كثير من الغيوب، لكنه ما أطلعه على كل غيب، ولهذا فإن الذين يغلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصفونه بأنه يعلم الغيب لم يحالفهم الصواب، بل أخطئوا، والله عز وجل أمر نبيه بأن يقول: {لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام:50]، وقال: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ} [الأعراف:188] وقد حصلت وقائع كثيرة في الدنيا تدل على أنه لا يعلم الغيب، منها هذا الذي معنا، وكذلك مسألة العقد الذي كان لـ عائشة، فقد مكثوا يبحثون عنه مع أنه كان تحت الجمل الذي تركب عليه عائشة، ومع ذلك ما عرفوا أنه تحت الجمل إلا لما بحثوا عنه فلم يجدوه ثم أرادوا الرحيل فقام الجمل وإذا العقد تحته.
وكذلك في مسألة الإفك حين رميت عائشة بما رميت به من الإفك، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها: (إن كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله واستغفري) ولو كان يعلم الغيب من أول وهلة لقال للذين اتهموها: أنا أعلم الغيب، وأعلم أنه ما حصل منها شيء، فهي بريئة، ولم يعلم براءتها إلا بعد ما نزل القرآن بتبرئتها في آيات تتلى في أول سورة النور.
وأما بالنسبة للآخرة فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يذاد ناس عن الحوض، وأنه يقول: (أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك).
فهذا يدل على أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، وقد أطلعه الله على كثير من الغيوب، وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة، وهي من دلائل نبوته، ومنها ما مر بنا في كونه أطلع على الكتاب الذي ذهبت به المرأة من قبل حاطب بن أبي بلتعة إلى كفار(321/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (هل أنتم تاركون لي أمرائي)
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الوليد بن مسلم].
هو الوليد بن مسلم الدمشقي، ثقة مدلس، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني صفوان بن عمرو].
صفوان بن عمرو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير].
عبد الرحمن بن جبير بن نفير ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو جبير بن نفير، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عوف بن مالك الأشجعي].
هو عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(321/10)
طريق أخرى لحديث: (هل أنتم تاركون لي أمرائي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل قال: حدثنا الوليد قال: سألت ثوراً عن هذا الحديث فحدثني عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي نحوه].
كلمة [عن أبيه] هنا مقحمة؛ لأن الذي يروي عن أبيه هو عبد الرحمن بن جبير بن نفير في الإسناد الأول، وأما هذا الإسناد ففيه خالد بن معدان يروي عن جبير بن نفير، فكلمة [عن أبيه] مقحمة، ومفهومها أن جبيراً يروي عن نفير، ونفير ليس له رواية، وإنما الرواية لـ عبد الرحمن بن جبير عن أبيه الذي هو جبير بن نفير الذي مر في الإسناد السابق.
وفي تحفة الأشراف لا وجود لهذه الزيادة؛ لأن هناك طريقاً فيها عبد الرحمن بن جبير عن أبيه، وهنا أخرى فيها خالد بن معدان عن جبير.
فكلمة [عن أبيه] مقحمة.
قوله: [عن عوف بن مالك الأشجعي نحوه].
أي: نحو الحديث المتقدم في الرواية السابقة التي هي من طريق عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه، فنحوها هذه الطريق التي جاءت عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن عوف بن مالك، فالحديث نحو الحديث الأول في المعنى وليس مثله في الألفاظ.(321/11)
تراجم رجال إسناد الطريق الأخرى لحديث: (هل أنتم تاركون لي أمرائي)
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل قال: حدثنا الوليد قال: سألت ثوراً].
ثور هو ثور بن يزيد، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن خالد بن معدان].
خالد بن معدان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جبير بن نفير عن عوف بن مالك الأشجعي].
قد مر ذكرهما.(321/12)
السلب لا يخمس(321/13)
شرح حديث: (قضى بالسلب للقاتل ولم يخمس السلب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في السلب لا يخمس.
حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي وخالد بن الوليد رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالسلب للقاتل ولم يخمس السلب)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: [باب في السلب لا يخمس] يعني أنه لا يؤخذ منه خمس كما أن الغنيمة يؤخذ منها الخمس والباقي -وهو أربعة أخماس- للغانمين، فالسلب كله للقاتل ولا يؤخذ منه خمسه كما يؤخذ الخمس من الغنيمة، وإنما هو كله للقاتل.
وأما الغنيمة فيؤخذ خمسها والأربعة الأخماس الأخرى الباقية تكون للغانمين؛ هذا هو المقصود من الترجمة.
وقد أورد أبو داود حديث عوف بن مالك وخالد بن الوليد رضي الله تعالى عنهما [(أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل ولم يخمس السلب)].
أي: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسلب للقاتل ولم يخمس السلب، أي: لا يؤخذ خمسه، وإنما يعطى بأكمله للقاتل دون تخميس.
وليس المعنى أن كل قاتل يأخذ السلب، بل إذا قال الإمام ذلك، فإذا قاله تشجيعاً لهم فإن القاتل بعد ذلك يستحق السلب كاملاً.(321/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (قضى بالسلب للقاتل ولم يخمس السلب)
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسماعيل بن عياش].
إسماعيل بن عياش صدوق، وفي روايته عن الشاميين تخليط، وروايته هنا عن طريق الشاميين، أخرج حديثه البخاري في رفع اليدين وأصحاب السنن.
[عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير عن أبيه عن عوف بن مالك].
هؤلاء جميعاً مر ذكرهم.
[وخالد بن الوليد].
هو خالد بن الوليد رضي الله عنه، وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو سليمان، وليس له ولد اسمه سليمان، ولكنه كان يكنى بـ أبي سليمان، كما كان أبو بكر يكنى بـ أبي بكر وليس له ولد اسمه بكر، وعمر كان يكنى بـ أبي حفص وليس له ولد اسمه حفص.
وحديث خالد أخرجه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.(321/15)
من أجاز على جريح مثخن ينفل من سلبه(321/16)
شرح حديث ابن مسعود: (نفلني رسول الله سيف أبي جهل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من أجاز على جريح مثخن ينفل من سلبه.
حدثنا هارون بن عباد الأزدي حدثنا وكيع عن أبيه عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نفلني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر سيف أبي جهل كان قتله].
أورد أبو داود [باب من أجاز على جريح مثخن ينفل من سلبه] يعني: يعطى شيئاً من سلبه ولا يعطى سلبه كله، بل يعطى شيئاً زائداً على حقه من الغنيمة تمييزاً له وزيادة له على نصيبه من الغنيمة.
والنفل المقصود به الذي يعطى زيادة على نصيبه من الغنيمة، ولهذا قيل للصلاة التي هي غير الفرض نافلة لأنها زيادة على الفرض.
وأورد أبو داود حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: [نفلني رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف أبي جهل] وكان هو الذي أجهز عليه كما سبق أن مر بنا في الحديث أنه وجده وبه رمق قد ضربت رجله وكان يذب بسيفه عن نفسه، فلما رآه كان معه سيف ليس بحاد، فضربه به فلم يغن شيئاً، فسقط سيفه من يده فأخذه منه فضربه به حتى برد، أي: حتى فارق الحياة وخرجت روحه.
وهنا أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم نفله سيفه، وسيفه من السلب، كما في الترجمة [ينفل من سلبه]، لكن الحديث غير صحيح، والتنفيل جاءت فيه أحاديث ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ستأتي جملة منها، ولكن هذا الحديث غير صحيح.(321/17)
تراجم رجال إسناد حديث ابن مسعود: (نفلني رسول الله سيف أبي جهل)
قوله: [حدثنا هارون بن عباد الأزدي].
هارون بن عباد الأزدي مقبول، أخرج له أبو داود.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو الجراح بن مليح الرؤاسي الكوفي، وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبي إسحاق].
هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عبيدة].
هو أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن مسعود].
هو عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ورواية أبي عبيدة عن أبيه منقطعة، قال الحافظ ابن حجر: الصحيح أنه لم يسمع من أبيه، فالحديث فيه انقطاع، وفيه -أيضاً- المقبول الذي جاء في أول الإسناد.(321/18)
الأسئلة(321/19)
متى يكون السلب للقاتل؟
السؤال
هل السلب يكون للقاتل مطلقاً في كل معركة وكل غزوة أم أن له شروطاً معينة؟
الجواب
الظاهر أنه إذا قال الإمام: (من قتل قتيلاً فله سلبه) فإنه يكون له مطلقاً، سواء أكان قليلاً أم كثيراً، وسواء أكان واحداً أم عدداً كما في قصة أبي طلحة حيث قتل عشرين وأخذ أسلابهم، فإذا كان الإمام أو الأمير قال هذا فإنه يكون له السلب.
وأما الغنائم فتكون في الأشياء التي لا يعرف أصحابها، وذلك إذا هربوا وتركوها.(321/20)
الجمع بين السلب والسهم
السؤال
هل يجمع بين السلب والسهم من الغنيمة؟
الجواب
نعم يجمع بين السلب والسهم، فالسلب شيء والسهم شيء، فالأسهم للغانمين جميعاً وتقسم عليهم، وأما السلب فيختص به القاتل الذي حصلت منه النكاية بالعدو وحصل منه جهد عظيم تميز به، فيكافأ عليه بذلك السلب، حيث يقول الإمام: من فعل كذا فله كذا.(321/21)
شرح سنن أبي داود [322]
من فضل الله عز وجل على عباده المجاهدين أن جمع لهم إلى النصر والظفر الغنائم التي يغنمونها من عدوهم، وهذه الغنائم حق خالص لمن خرج للغزو فيما عدا الخمس، إلا أن هناك أصنافاً من الناس لا يأخذون منها وإن كانوا مع الجيش عند تقسيمها، ومن هؤلاء المرأة والعبد، لكن لا بأس بمنحهما منيحة منها دون السهم.(322/1)
من جاء بعد الغنيمة لا سهم له(322/2)
شرح حديث ترك النبي القسم من غنائم خيبر لسرية أبان بن سعيد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن جاء بعد الغنيمة لا سهم له.
حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن الوليد الزبيدي عن الزهري أن عنبسة بن سعيد أخبره أنه سمع أبا هريرة يحدث سعيد بن العاص: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبان بن سعيد بن العاص على سرية من المدينة قبل نجد، فقدم أبان بن سعيد وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر بعد أن فتحها وإن حزم خيلهم ليف، فقال أبان: اقسم لنا يا رسول الله.
فقال أبو هريرة: فقلت: لا تقسم لهم يا رسول الله.
فقال أبان: أنت بها -يا وبر- تحدر علينا من رأس ضال.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اجلس يا أبان.
ولم يقسم لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)].
أورد أبو داود باباً فيمن جاء بعد الغنيمة لا سهم له.
أي أن من جاء بعد حيازة الغنيمة لا سهم له، يعني: أنه لا يعطى؛ لأن الغنيمة يعطاها من حضر المعركة وشارك، فهذا هو الذي يعطى من الغنيمة، وأما إنسان جاء بعدما انتهت الحرب وحيزت الغنائم فإنه لا يكون له نصيب فيها؛ لأنه ما شارك، وإنما الذي جاء قبل أن تنتهي الحرب وشارك قبل أن تحاز الغنيمة فإنه يكون له نصيب منها، ومن جاء بعد ذلك لا يكون له نصيب.
وأورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل سرية فيها أبان بن سعيد بن العاص قبل نجد، وأنهم جاءوا بعدما انتهى القتال في خيبر فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم من الغنيمة نصيباً.
فعندما طلب هذا قال أبو هريرة: (لا تقسم لهم يا رسول الله).
يعني: أنه ما شارك في المعركة.
فغضب وعاب أبا هريرة وتكلم فيه كلاماً فقال: أنت بها -يا وبر- تحدر علينا من رأس ضالٍّ.
قوله: [(أنت بها)].
يعني: أنت بهذه الكلمة تتصدى لهذا الأمر وتتدخل في هذا الأمر! والوبر هو دويبة وحشية في الفلاة، تشبه السنور، وهي التي جاء ذكرها على لسان مسيلمة الكذاب الذي لما جاءه عمرو بن العاص قال له: ماذا أنزل على صاحبكم؟ وكان عمرو كافراً لم يسلم بعد، وكان صديقاً لـ مسيلمة، فقال: إن أصحابه يقولون: إنه أنزل عليه {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] فقال: وأنا أنزل علي قرآن: الوبر وما أدراك ما الوبر! له أذنان وصدر، إن قريشاً قوماً يعتدون.
ماذا تقول يا عمرو؟ قال: والله إني لأعلم أنك تعلم أني مكذب لك.
فالوبر دويبة تشبه السنور أو على قدر السنور، وهي متوحشة وتكون في الفلاة والجبال.
قوله: [(من رأس ضالٍّ)] يعني: من رأس جبل.
قوله: [(فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجلس يا أبان.
ولم يقسم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
لم يقسم لهم لأنهم حضروا بعد حيازة الغنيمة وانتهاء الحرب.(322/3)
تراجم رجال إسناد حديث ترك النبي القسم من غنائم خيبر لسرية أبان بن سعيد
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور عن إسماعيل بن عياش عن محمد بن الوليد الزبيدي عن الزهري].
الزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن عنبسة بن سعيد أخبره].
عنبسة بن سعيد ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود.
[أنه سمع أبا هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(322/4)
شرح حديث سؤال أبي هريرة النبي أن يسهم له من غنائم خيبر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حامد بن يحيى البلخي قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا الزهري -وسأله إسماعيل بن أمية فحدثناه الزهري - أنه سمع عنبسة بن سعيد القرشي يحدث عن أبي هريرة قال: (قدمت المدينة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر حين افتتحها، فسألته أن يسهم لي، فتكلم بعض ولد سعيد بن العاص فقال: لا تسهم له يا رسول الله.
قال: فقلت: هذا قاتل ابن قوقل! فقال سعيد بن العاص: يا عجباً لوبر قد تدلى علينا من قدوم ضال! يعيرني بقتل امرئ مسلم أكرمه الله تعالى على يدي ولم يهني على يديه!)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وفيها أن القصة بالعكس، وذلك لأن الذي في المسألة الأولى هو أن أبا هريرة هو الذي اعترض على طلب أبان بن سعيد بن العاص، وفي هذه القصة أن أبا هريرة هو الذي طلب أن يجعل له نصيب من الغنيمة وأبان هو الذي اعترض عليه، وكل منهما جاء في آخر الأمر؛ لأن أبا هريرة إنما جاء في زمن متأخر بعد انتهاء خيبر، وكذلك أبان بن سعيد بن العاص، ولما قال أبو هريرة: (اقسم لي يا رسول الله اعترض عليه أبان فقال: لا تسهم له يا رسول الله).
يقول أبان: لا تسهم له.
يعني: لـ أبي هريرة.
فغضب أبو هريرة وقال: هذا قاتل ابن قوقل! وهو مسلم قتله أبان بن سعيد وهو كافر.
فعند ذلك تكلم أبان بن سعيد بكلام من أحسن الكلام وأجمله وأبلغه فقال: يعيرني بقتل امرئ مسلم أكرمه الله تعالى على يدي ولم يهني على يديه.
يعني: يعيرني بقتل امرئ مسلم أكرمه الله على يدي بالشهادة حيث قتلته فصار شهيداً، ولم يهني على يديه بأن يقتلني فأموت كافراً.
فسلم من القتل ومن الله عليه بالإسلام فأسلم، وهذا من أحسن الكلام وأجمل الكلام وأجوده.
وابن قوقل -بقافين- على وزن جعفر، واسمه النعمان بن مالك بن ثعلبة بن أصرم وقوقل لقب ثعلبة وأصرم، وعند البغوي في الصحابة أن النعمان بن قوقل قال يوم أحد: أقسمت عليك -يا رب- ألا تغيب الشمس حتى أطأ بعرجتي في الجنة.
فاستشهد ذلك اليوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيته في الجنة وما به عرج).(322/5)
تراجم رجال إسناد حديث سؤال أبي هريرة النبي أن يسهم له من غنائم خيبر واعتراض أبان بن سعيد عليه
قوله: [حدثنا حامد بن يحيى البلخي].
حامد بن يحيى البلخي ثقة، أخر له أبو داود.
[حدثنا سفيان قال: حدثنا الزهري].
سفيان هو سفيان بن عيينة المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، والزهري مر ذكره.
[أنه سمع عنبسة بن سعيد القرشي يحدث عن أبي هريرة].
عنبسة بن سعيد وأبو هريرة قد مر ذكرهما.
والروايتان مختلفتان كما هو واضح، فيحتمل أن تكون إحداهما هي الراجحة.
وقد أخرج البخاري الرواية الأولى في صحيحه معلقة، وأخرج الثانية في صحيحه متصلة.
ويحتمل أن يكون كل واحد منهما طلب وأن كل واحد منهما اعترض على الآخر.
وقوله: [فقال سعيد بن العاص واعجباً].
صوابه: فقال ابن سعيد بن العاص.
فكلمة (ابن) هنا سقطت.
قال المنذري: قال أبو بكر الخطيب: هكذا روى أبو داود هذا الحديث عن حامد بن يحيى، وقال فيه: فقال سعيد بن العاص، وإنما هو ابن سعيد بن العاص، واسمه أبان، وهو الذي قال: (لا تسهم له يا رسول الله).
قوله: [قدوم ضال] يعني: مكاناً مرتفعاً، أي: جبلاً.
[قال أبو داود: هؤلاء كانوا نحو عشرة، فقتل منهم ستة ورجع من بقي].
يعني: أن الذين ذهبوا قبل نجد وفيهم أبان بن سعيد بن العاص كانوا عشرة، فقتل منهم ستة وبقي أربعة، وهم الذين جاءوا وطلبوا أن يسهم لهم في خيبر.(322/6)
شرح حديث إسهام النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى وقومه ومهاجري الحبشة عند قدومهم بعد فتح خيبر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء قال: حدثنا أبو أسامة حدثنا بريد عن أبي بردة عن أبي موسى قال: (قدمنا فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا -أو قال: فأعطانا منها- وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئاً إلا لمن شهد معه، إلا أصحاب سفينتنا جعفر وأصحابه فأسهم لهم معهم)].
أورد أبو داود هنا حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعط أحداً لم يشهد غزوة خيبر شيئاً إلا أهل سفينتهم، وهم الذي جاءوا من الحبشة في سفينة فيهم جعفر بن أبي طالب وغيره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم، والمقصود بأنه أعطاهم أنه لم يسهم لهم، وإنما أعطاهم شيئاً بدون إسهام، ولعل ذلك من الخمس الذي يتصرف فيه النبي صلى الله عليه وسلم كيف يشاء، وأما الأربعة الأخماس الباقية فهي للغانمين، ولا تعطى لأحد سواهم.
وأبو داود رحمه الله أورد هذا الحديث تحت الترجمة أنه لا سهم له، ومعنى ذلك: أنه لا سهم له في الغنيمة، وأما إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي موسى وجعفر بن أبي طالب وغيرهما ممن جاءوا في السفينة وهم لم يشهدوا الوقعة فإنما ذلك من غير إسهام ومن غير أن يكون لهم نصيب في الغنيمة يزاحمون فيه الذين حضروها فيعطون مثلما أعطوا، وإنما أعطاهم شيئاً بدون إسهام، وذلك من الخمس الذي يتصرف فيه النبي صلى الله عليه وسلم في مصالح المسلمين.(322/7)
تراجم رجال إسناد حديث إسهام النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى وقومه ومهاجري الحبشة عند قدومهم بعد فتح خيبر
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو أسامة].
هو حماد بن أسامة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا بريد].
هو بريد بن عبد الله بن أبي بردة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بردة].
هو جد بريد، فـ بريد يروي عن جده أبي بردة، وأبو بردة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي موسى].
اسمه عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه، صحابي مشهور، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
والحديث يرويه حفيد عن جده، وذلك الجد يروي عن أبيه.(322/8)
شرح حديث إسهام النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان من غنائم بدر وقد غاب عنها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محبوب بن موسى أبو صالح قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن كليب بن وائل عن هانئ بن قيس عن حبيب بن أبي مليكة عن ابن عمر قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام -يعني: يوم بدر- فقال: إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسول الله، وإني أبايع له.
فضرب له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسهم، ولم يضرب لأحد غاب غيره)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر أعطى الغنيمة للغانمين ولم يعط أحداً غاب عنها إلا عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإنه غاب عنها بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأمره، وذلك ليمرض زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطاه سهماً كغيره؛ لأن غيابه عن الغزوة إنما كان بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل هذا الغرض الذي هو تمريض زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ماتت رضي الله تعالى عنها في ذلك الوقت، وكان الناس في بدر.
وأما ذكر المبايعة وأنه بايع عنه فإن البيعة المشهور أنها في بيعة الرضوان، وقد كان رضي الله تعالى عنه ذهب إلى مكة وأشيع أنه قتل، فعند ذلك بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على ألا يفروا، وكان بايع عن عثمان وضرب بيديه إحداهما على الأخرى، وقال: (هذه لـ عثمان)، وأما بدر فليس فيها مبايعة، وإنما كان فيها إسهام له وإعطاؤه نصيبه من الغنيمة؛ لأنه في حكم الحاضرين؛ لأن غيابه عنها إنما كان بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(322/9)
تراجم رجال إسناد حديث إسهام النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان من غنائم بدر وقد غاب عنها
قوله: [حدثنا محبوب بن موسى أبو صالح].
محبوب بن موسى صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا أبو إسحاق الفزاري].
هو إبراهيم بن محمد بن الحارث، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن كليب بن وائل].
كليب بن وائل صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي.
[عن هانئ بن قيس].
هانئ بن قيس مستور، أخرج له أبو داود.
[عن حبيب بن أبي مليكة].
حبيب بن أبي مليكة مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث ثابت وإن كان فيه ذلك المستور والمقبول؛ لأن له شواهد، إلا أن ذكر المبايعة فيه نظر.(322/10)
المرأة والعبد يحذيان من الغنيمة(322/11)
شرح حديث جواب ابن عباس لنجدة الحروري في الإحذاء للمملوك وخروج النساء للجهاد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المرأة والعبد يحذيان من الغنيمة.
حدثنا محبوب بن موسى أبو صالح حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن زائدة عن الأعمش عن المختار بن صيفي عن يزيد بن هرمز قال: (كتب نجدة إلى ابن عباس رضي الله عنهما يسأله عن كذا وكذا -وذكر أشياء- وعن المملوك أله في الفيء شيء؟ وعن النساء هل كن يخرجن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهل لهن نصيب؟ فقال ابن عباس: لولا أن يأتي أحموقة ما كتبت إليه، أما المملوك فكان يحذى، وأما النساء فقد كن يداوين الجرحى ويسقين الماء)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في المرأة والعبد يحذيان من الغنيمة] يعني: يعطيان عطاء بدون أن يسهم لهما، فالإحذاء هو الإعطاء، ويحذيه: يعطيه.
والإحذاء هو الذي يسمى رضخاً.
أي: يعطى شيئاً من غير إسهام ومن غير أن يكون حكمه حكم الغانمين، فلا يكون له نصيب كالنصيب الذي يكون لكل مجاهد حضر المعركة وجاهد وقاتل الكفار.
فالمرأة والعبد يعطيان من غير إسهام، فهذا هو معنى قوله (يحذيان).
فالإحذاء هو الإعطاء، ومنه ما جاء في حديث أبي موسى الأشعري الذي فيه: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة).
وأورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كتب إليه نجدة -وهو من الحرورية من الخوارج- يسأله عن العبد هل يكون له في الغنيمة شيء وعن النساء هل يخرجن في الغزو ويكون لهن شيء؟ فقال عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه: لولا أن يرتكب أحموقة ما كتبت له.
يعني: لكونه من الخوارج؛ فلأجل ألا يحصل منه أعمال غير طيبة كتب إليه يجيبه فقال: (أما المملوك فكان يحذى).
يعني: كان يعطى عطية بدون إسهام.
قوله: [(وأما النساء فقد كن يداوين الجرحى ويسقين الماء)].
ولم يذكر إعطاء، ولكنهن يحذين ويعطين من غير إسهام، كالذي يحصل للمملوك، ولهذا ذكر أبو داود رحمه الله في الترجمة أنهما يحذيان، يعني: يعطيان من غير إسهام، وإعطاؤهما من أجل هذا العمل وهذه الخدمة التي يقومان بها.(322/12)
تراجم رجال إسناد حديث جواب ابن عباس لنجدة الحروري في الإحذاء للمملوك وخروج النساء للجهاد
قوله: [حدثنا محبوب بن موسى حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن زائدة].
مر ذكر محبوب بن موسى وأبي إسحاق الفزاري.
وزائدة هو ابن قدامة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المختار بن صيفي].
المختار بن صيفي مقبول، أخرج له مسلم وأبو داود.
[عن يزيد بن هرمز].
يزيد بن هرمز ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
وابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(322/13)
شرح حديث جواب ابن عباس لنجدة الحروري من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس قال: حدثنا أحمد بن خالد -يعني الوهبي - قال: حدثنا ابن إسحاق عن أبي جعفر والزهري عن يزيد بن هرمز قال: (كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس رضي الله عنهما يسأله عن النساء هل كن يشهدن الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ وهل كان يضرب لهن بسهم؟ قال: فأنا كتبت كتاب ابن عباس إلى نجدة: قد كنَّ يحضرن الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأما أن يضرب لهن بسهم فلا، وقد كان يرضخ لهن)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس من طريق أخرى، وفيه بيان أن النساء يعطين رضخاً دون إسهام، والرواية السابقة ليس فيها ذكر الرضخ والإعطاء، وهذه فيها بيان الإعطاء لهن، وأنه يرضخ لهن، أي: يعطين من غير إسهام.(322/14)
تراجم رجال إسناد حديث جواب ابن عباس لنجدة الحروري من طريق أخرى
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا أحمد بن خالد -يعني الوهبي -].
أحمد بن خالد الوهبي صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[حدثنا ابن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي جعفر].
هو محمد بن علي الملقب بـ الباقر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[والزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن هرمز عن ابن عباس].
يزيد بن هرمز وابن عباس قد مر ذكرهما.(322/15)
شرح حديث أم زياد في خروجها هي ونسوة في غزوة خيبر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن سعيد وغيره قالا: أخبرنا زيد بن الحباب قال: حدثنا رافع بن سلمة بن زياد قال: حدثني حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه (أنها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة خيبر سادس ست نسوة، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبعث إلينا، فجئنا فرأينا فيه الغضب، فقال: مع من خرجتن وبإذن من خرجتن؟ فقلنا: يا رسول الله! خرجنا نغزل الشعر ونعين به في سبيل الله، ومعنا دواء الجرحى، ونناول السهام، ونسقي السويق.
فقال: قمن.
حتى إذا فتح الله عليه خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال.
قال: فقلت لها: يا جدة! وما كان ذلك؟ قالت: تمراً)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث جدة حشرج أنها خرجت سادسة ست نسوة خرجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعاهن وهو مغضب وقال: (مع من خرجتن وبإذن من خرجتن؟) فأخبرنه بأنهن خرجن يغزلن الشعر ويداوين المرضى ويسقين السويق، فقال لهن: (قمن) ثم بعدما حصلت الغنيمة أسهم لهن كما أسهم للرجال، فقال لها حفيدها: وماذا كانت الغنيمة؟ قالت: تمراً.
فهذا فيه بيان أنه أسهم لهن كما أسهم للرجال، وهذا يخالف ما تقدم من أنهن يرضخ لهن ولا يسهم لهن، وأيضاً جاء فيه أنه تمر، ولعل المقصود بذلك أنه أسهم لهن كما يسهم للرجال من الطعام الذي يقدم والذي يمنح للغزاة، إذ قد عرفنا فيما مضى أن الطعام يبذل وأنه يقسم عليهم للاقتيات، فيمكن أن يكون المقصود من ذلك أنه أسهم لهن كما أسهم لغيرهن في القوت، وذلك من التمر الذي هو الطعام، لأن إعطاء الطعام وتقسيمه يختلف عن قسمة الغنيمة التي تكون للغانمين.
والحديث ضعيف غير ثابت، ولكن معناه يحمل على أن المقصود هو الإسهام في الطعام وليس في الغنيمة، ومعلوم أن الطعام إنما يقسم على الحاضرين وعلى الموجودين لاقتياتهم، وسبق أن مر بعض الأحاديث الدالة على ذلك، أي أن الطعام يقسم ولا يكون من جملة الغنيمة، اللهم إلا إذا كان كثيراً فيؤخذ منه قدر الحاجة والباقي يكون مع الغنيمة، كما سبق أن مرت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(322/16)
تراجم رجال إسناد حديث أم زياد في خروجها هي ونسوة في غزوة خيبر
قوله: [حدثنا إبراهيم بن سعيد].
إبراهيم بن سعيد ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[وغيره].
يعني: ومعه غيره.
[أخبرنا زيد بن الحباب].
زيد بن الحباب صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا رافع بن سلمة بن زياد].
رافع بن سلمة بن زياد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثني حشرج بن زياد].
حشرج بن زياد مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن جدته أم أبيه].
هي أم زياد الأشجعية رضي الله تعالى عنها، صحابية لها حديث، أخرج لها أبو داود والنسائي.(322/17)
شرح حديث عمير مولى آبي اللحم في شهوده خيبر وإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم له من خرثي المتاع
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا بشر -يعني ابن المفضل - عن محمد بن زيد قال: حدثني عمير مولى آبي اللحم قال: (شهدت خيبر مع سادتي، فكلموا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأمر بي فقلدت سيفاً فإذا أنا أجره، فأخبر أني مملوك فأمر لي بشيء من خرثي المتاع).
قال أبو داود: معناه أنه لم يسهم له.
قال أبو داود: وقال أبو عبيد: كان حرم اللحم على نفسه فسمي: آبي اللحم].
أورد أبو داود حديث عمير مولى آبي اللحم رضي الله تعالى عنهما أنه خرج مع سادته إلى غزوة خيبر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر به فأعطي سيفاً فجعل يجره، وأخبر أنه مملوك، فلما قسمت الغنيمة رضخ له، يعني: أعطي ولم يسهم له، وهذا يدل على ما دل عليه الحديث الأول الذي هو حديث ابن عباس في قصة كتابته إلى نجدة أنه يرضخ له بدون أن يسهم له، وهذا -مثله- يدل على أنه يعطى بدون إسهام، وأنه لا يعامل معاملة الغانمين الذين تقسم عليهم أربعة أخماس الغنيمة بالسوية، بل العبد يرضخ له والمرأة يرضخ لها، وهذا فيه دليل على الرضخ للمملوك، ولذلك أخبر بأنه أمر له بشيءٍ من خرثي المتاع، يعني: من جملة المتاع، ولو كان أسهم له لأعطي كما يعطى غيره.
قوله: [(شهدت خيبر مع سادتي)].
سادته هم مواليه من أعلى؛ لأن الموالي من أعلى هم السادة، والموالي من أسفل هم الأرقاء أو المعتقون، فهذا مولى من أعلى وهذا مولى من أسفل.
قوله: [(فكلموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
معناه: أنهم كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ليشارك أو ليكون له نصيب، فأعطي سيفاً فصار يجره، ومعناه: أنه قصير وصغير.(322/18)
تراجم رجال إسناد حديث عمير مولى آبي اللحم في شهوده خيبر وإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم له من خرثي المتاع
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا بشر -يعني ابن المفضل -].
بشر بن المفضل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن زيد].
محمد بن زيد ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثني عمير مولى آبي اللحم].
هو عمير مولى آبي اللحم رضي الله عنه، وحديثه أخرجه مسلم وأصحاب السنن.
وهذا الإسناد رباعي من الأسانيد العالية عند أبي داود.
[قال أبو داود: وقال أبو عبيد: كان حرم اللحم على نفسه فسمي: آبي اللحم].
يعني: لقب آبي اللحم؛ لأنه امتنع من أكل اللحم، أو ترك أكل اللحم، فقيل له: آبي اللحم، وهو من الإباء، ويأباه أي: لا يريده.
وآبي اللحم أي: غير مريده، من أبى الشيء إذا لم يرده وتركه.
وأبو عبيد هو القاسم بن سلام.(322/19)
شرح حديث جابر (كنت أميح أصحابي الماء يوم بدر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: كنت أميح أصحابي الماء يوم بدر].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال: كنت أميح أصحابي الماء يوم بدر.
ومعناه: أنه ينزل في البئر حين يكون الماء قليلاً فيغرف ويصب في الدلو، ثم تنزع الدلو.
وإذا كان الماء كثيراً فإنه لا يحتاج إلى ميح، بل ترسل الدلو فتمتلئ ثم يرفعونها، ولكن حين يكون الماء قليلاً فإنه يحتاج إلى أن يغرف باليدين أو بإناء ثم يصب في الدلو، وفاعل هذا يقال له: مائح، وأما الذي فوقه ينزع الدلو فيقال له: ماتح.
والحديث لا علاقة له بالترجمة، ولا يدل عليها في كون العبد والمرأة يحذيان ولا يسهم لهما.(322/20)
تراجم رجال إسناد حديث جابر (كنت أميح أصحابي الماء يوم بدر)
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو معاوية].
هو محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش عن أبي سفيان].
الأعمش مر ذكره، وأبو سفيان هو طلحة بن نافع، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(322/21)
حكم الإسهام للمشرك والاستعانة به في الحرب(322/22)
شرح حديث (أن رجلاً من المشركين لحق بالنبي ليقاتل معه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المشرك يسهم له.
حدثنا مسدد ويحيى بن معين قالا: حدثنا يحيى عن مالك عن الفضيل عن عبد الله بن نيار عن عروة عن عائشة، قال يحيى: (إن رجلاً من المشركين لحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقاتل معه، فقال: ارجع، ثم اتفقا فقال: إنا لا نستعين بمشرك)].
أورد أبو داود باباً في المشرك يسهم له.
يعني: هل يسهم له أو لا يسهم له؟ فلا يسهم له ولا يستعان به في الحرب والجهاد في سبيل الله؛ لأنه هو نفسه بحاجة إلى جهاد وبحاجة إلى أن يدخل في الإسلام، وأولئك يُقَاتلون ليدخلوا في الإسلام، وهو ما دخل في الإسلام فلا يستعان به في جهاد الكفار وقتالهم من أجل أن يدخلوا في الإسلام، وعلى هذا فإنه ليس له نصيب؛ لأنه ليس أهلاً لأن يقاتل، وليس أهلاً لأن يعطى شيئاً؛ لأن الأصل الذي يبنى عليه تقسيم الغنيمة إنما يكون في حق من يكون من أهل الجهاد، وذلك بأن يكون مسلماً، أما إذا كان كافراً فإنه لا يستعان به في الجهاد؛ لأن الجهاد إنما هو لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهو لا يزال في الظلمات، فهو بحاجة إلى أن يخرج من الظلمات إلى النور، فكيف يقاتل الكفار ليدخلوا في الإسلام وهو ما دخل في الإسلام؟! وهذا فيما يتعلق بالجهاد.
وأما بالنسبة للدفاع فإنه لا بأس بالاستعانة بالكفار من أجل الدفاع، فالدفاع والمحافظة على الأنفس والاستعانة بهم على رد العدوان لا بأس به، كما أن الإنسان لو كان له جار كافر ثم اعتدى عليه لصوص فإن له أن يستدعي جاره الكافر ليساعده على التخلص من اللصوص؛ لأن مثل هذا العمل لا بأس به وهو استعانة سائغة، وإنما الذي لا يجوز هو الاستعانة بهم في الجهاد في سبيل الله وقتال الكفار من أجل دخولهم في الإسلام؛ إذ إن فاقد الشيء لا يعطيه، وهو مثلهم إلا أنه قد يكون مستأمناً أو صاحب ذمة يأمن على نفسه، وأما كونه يذهب من أجل يقاتل في سبيل الله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور وهو ليس من أهل ذلك فلا.
قوله: [(إن رجلاً من المشركين لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقاتل معه فقال: ارجع؛ إنا لا نستعين بمشرك)].
يعني: أن ذلك المشرك كان صاحب ذمة أو صاحب عهد وأمان، فقال له النبي: (ارجع؛ فإنا لا نستعين بمشرك)، يعني: في هذا العمل الذي هو الجهاد في سبيل الله.(322/23)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رجلاً من المشركين لحق بالنبي ليقاتل معه)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[ويحيى بن معين].
يحيى بن معين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، وقد مر ذكره.
[عن الفضيل].
هو الفضيل بن أبي عبد الله، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عبد الله بن نيار].
عبد الله بن نيار ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عروة].
هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(322/24)
شرح سنن أبي داود [323]
قسم الله الغنائم بين المجاهدين، وجعل لكل مجاهد نصيباً منها سواء كان راجلاً أو راكباً، إلا أنه ميز الراكب على الراجل بسهم فرسه التي خرج بها للجهاد، فجعل للراجل سهماً واحداً وللراكب ثلاثة أسهم، فزاده سهمين لفرسه فوق سهمه الذي هو له.(323/1)
ما جاء في سهمان الخيل(323/2)
شرح حديث إسهام النبي لرجل سهماً ولفرسه سهمين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في سهمان الخيل.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو معاوية حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم سهماً له وسهمين لفرسه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: [باب في سهمان الخيل] يعني: أن الخيل يسهم لها، ويكون لصاحبها أسهم في مقابل استخدامها، وذلك بأن يكون لصاحب الفرس وفرسه ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه، وأما الراجل أو الراكب الذي ليس من أهل الخيل فإنه له سهم واحد، وعلى هذا فكل مجاهد حضر المعركة وهو من أهل القتال يكون له سهم، ومن كان له فرس فيضاف إلى سهمه الذي له سهمان لفرسه.
وإنما جعل الفرس له سهمان لقوة البلاء الذي يكون باستخدامه من الكر والفر والتمكن من الوصول إلى الأعداء والنكاية بهم، ثم لمقابل ما يحتاج إليه من علف ومن خدمة ومن أمور أخرى.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى للفارس ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه، سهم له لأنه واحد من المقاتلين، وكل مقاتل يكون له سهم، والفرس له سهمان من أجل الفائدة الكبيرة التي تترتب على استخدامه ومن أجل ما يحتاج إليه من علف وغير ذلك.(323/3)
تراجم رجال إسناد حديث إسهام النبي لرجل سهماً ولفرسه سهمين
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو معاوية حدثنا عبيد الله].
عبيد الله هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر] قد مر ذكره.(323/4)
شرح حديث أبي عمرة عن أبيه في سهمان الخيل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو معاوية حدثنا عبد الله بن يزيد حدثني المسعودي حدثني أبو عمرة عن أبيه قال: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعة نفر ومعنا فرس، فأعطى كل إنسان منا سهماً، وأعطى للفرس سهمين)].
أورد أبو داود حديث أبي عمرة، وهو أنهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهم أربعة، ومعهم فرس، فأعطى كل واحد سهماً، وأعطى للفرس سهمين، وهذا مطابق للذي تقدم، وهو أن الفارس له ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان للفرس.(323/5)
تراجم رجال إسناد حديث أبي عمرة عن أبيه في سهمان الخيل
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو معاوية حدثنا عبد الله بن يزيد].
أحمد بن حنبل وأبو معاوية مر ذكرهما.
وعبد الله بن يزيد المقري المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا المسعودي].
هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة، وهو صدوق اختلط، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[حدثني أبو عمرة].
أبو عمرة هو مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
لا نعرف من أبوه! فالإسناد فيه مجهول، ولكن معناه مطابق لما جاء في الأحاديث من ناحية أن الرجل له سهم، وأن الفرس يكون له سهمان.(323/6)
شرح حديث أبي عمرة عن أبيه في سهمان الخيل من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا أمية بن خالد حدثنا المسعودي عن رجل من آل أبي عمرة عن أبي عمرة بمعناه إلا أنه قال: (ثلاثة نفر) زاد: (فكان للفارس ثلاثة أسهم)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وهو مثل ما تقدم من ناحية الإسهام أي: أن الراجل له سهم، والفارس له ثلاثة أسهم؛ سهم له، وسهمان لفرسه.(323/7)
تراجم رجال إسناد حديث أبي عمرة عن أبيه في سهمان الخيل من طريق أخرى
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا أمية بن خالد].
أمية بن خالد صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا المسعودي عن رجل من آل أبي عمرة عن أبي عمرة بمعناه].
بمعناه، إما أن يكون عن أبيه الأول أو أنه منه ويكون فيه الإرسال.
وفي الحديث السابق قال: حدثنا المسعودي عن أبي عمرة وهنا قال: حدثنا المسعودي عن رجل من آل أبي عمرة عن أبي عمرة، ومعناه: أنه رواه هناك بدون واسطة، وهنا بواسطة رجل مبهم.
وهذان الحديثان من حيث الإسناد ضعيفان، لكن من حيث المتن فالمعنى مستقيم مطابق للأحاديث الأخرى.(323/8)
ما جاء فيمن أسهم للخيل سهماً واحداً(323/9)
شرح حديث من جعل للفرس سهماً واحداً
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن أسهم له سهماً.
حدثنا محمد بن عيسى ثنا مجمع بن يعقوب بن مجمع بن يزيد الأنصاري قال: سمعت أبي يعقوب بن مجمع يذكر عن عمه عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري عن عمه مجمع بن جارية الأنصاري، وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن قال: (شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر، فقال بعض الناس لبعض: ما للناس؟ قالوا: أوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فخرجنا مع الناس نوجف، فوجدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم واقفاً على راحلته عند كراع الغميم، فلما اجتمع عليه الناس قرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] فقال رجل: يارسول الله أفتح هو؟ قال: نعم والذي نفس محمد بيده إنه لفتح، فقسمت خيبر على أهل الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ثمانية عشر سهماً، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة فيهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين وأعطى الراجل سهماً).
قال أبو داود: حديث أبي معاوية أصح والعمل عليه، وأرى الوهم في حديث مجمع أنه قال: ثلاثمائة فارس، وكانوا مائتي فارس].
أورد أبو داود باباً فيمن أسهم للفرس سهماً واحداً؛ لأن الباب الأول في السهمين للفرس، وذكر فيه الأحاديث التي فيها أنه يكون له سهمان، وهي صحيحة، وأورد بعد ذلك هذه الترجمة فيمن أسهم له سهماً واحداً بدل أن يعطى اثنين.
وأورد فيه أبو داود حديث مجمع بن جارية رضي الله عنه، وأنهم كانوا في غزوة الحديبية، وأنه لما فتحت خيبر قسمت على أهل الحديبية، وكان الذين حضروا الحديبية هم الذين حضروا خيبر، وقسمت عليهم الغنائم، وفيه أنه أسهم للفارس سهمين، سهماً له وسهماً لفرسه، وهذا مخالف لما سبق في الأحاديث أن للفارس وفرسه ثلاثة أسهم سهماً له وسهمين لفرسه.
والفرس يذكر ويؤنث، ويعرف التذكير والتأنيث بعودة الضمائر على اللفظ وبالإشارة إليه.
قوله: [(يهزون الأباعر)] يحركونها، والمقصود السيوف.
قوله: [(فقال بعض الناس لبعض: ما للناس؟)].
يعني: ما للناس يهزون الأباعر من فرط سرعتهم.
قوله: [(قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أوحي إليه)] فكأنهم يريدون أن يحضروا ويسمعوا ذلك الوحي الذي أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(فخرجنا مع الناس نوجف)].
أي: نسرع، قال تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:6]، قوله: [(فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً على راحلته عند كراع الغميم، فلما اجتمع عليه الناس قرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1])].
أي: نزلت عليه هذه السورة.
قوله: [(وقيل: أفتح هو يا رسول الله؟ قال: نعم)] ولا شك أنه كان مقدمة الفتح، أعني فتح مكة؛ لأن هذا الصلح الذي قد تم حصل فيه الخير الكثير، وترتب على ذلك مصالح كبيرة للمسلمين، ثم بعد ذلك حصل الفتح بعد صلح الحديبية بسنتين، فقد كانت الحديبية في السادسة، وخيبر في السابعة والفتح في الثامنة.
قوله: [(فقسمت خيبر على أهل الحديبية، قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهماً، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة، فيهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين وأعطى الراجل سهماً)].
أعطى الفارس سهمين؛ سهماً له وسهماً لفرسه، وأعطى الراجل سهماً، وهذا يخالف ما تقدم من أن الفرس له سهمان وليس سهماً واحداً.
قوله: [حديث أبي معاوية أصح والعمل عليه].
يعني: الحديث المتقدم الذي فيه أن للفارس ثلاثة أسهم؛ سهماً له وسهمين لفرسه، وليس كما جاء في حديث مجمع بن جارية أن للفارس سهمين؛ سهماً له وسهماً واحداً لفرسه.
قوله: [وأرى الوهم في حديث مجمع أنه قال: ثلاثمائة فارس وكانوا: مائتي فارس].
هو قال هنا: إنهم ثلاثمائة، قالوا: والصحيح أنهم كانوا مائتي فارس، وإذا كانوا مائتي فارس وهم على الصحيح ألف وأربعمائة، فإنهم يعطون أربعة عشر سهماً ويبقى بعد ذلك أربعة أسهم للخيول المائتين، فتكتمل ثمانية عشر سهماً، لكن على القول بأنهم ثلاثمائة فارس يصير العدد ألفاً ومائتين مقابل اثني عشر سهماً، وبقيت من الثمانية عشر سهماً ستة أسهم لثلاثمائة فارس وثلاثمائة فرس، للفرس سهم وللفارس سهم.(323/10)
تراجم رجال إسناد حديث من جعل للفرس سهماً واحداً
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
هو محمد بن عيسى الطباع، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا مجمع بن يعقوب بن مجمع بن يزيد الأنصاري].
وهو صدوق أخرج له أبو داود والنسائي.
[سمعت أبي يعقوب بن مجمع].
وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[يذكر عن عمه عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري].
عمه عبد الرحمن بن يزيد ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وأخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن عمه مجمع بن جارية الأنصاري].
مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
والحديث فيه يعقوب وهو مقبول، فيكون الحديث غير صحيح، ويكون الصحيح هو الحديث المتقدم الذي فيه أن للفارس ثلاثة أسهم؛ سهماً له وسهمين لفرسه.(323/11)
شرح سنن أبي داود [324]
غنائم الحرب من القضايا التي حدد تقسيمها الله سبحانه وتعالى، فيتساوى فيها كل أفراد الجيش كل على قدر سهمه إن كان راجلاً أو راكباً، ولا بأس أن يميز ببعض أفراد الجيش عن بعض بالنفل، وهو الزيادة التي يعطاها فوق سهمه من المغنم.(324/1)
النفل في الغزو(324/2)
شرح حديث ابن عباس في النفل من طريق خالد الطحان
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النفل.
حدثنا وهب بن بقية قال: أخبرنا خالد عن داود عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر: من فعل كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا، قال: فتقدم الفتيان ولزم المشيخة الرايات فلم يبرحوها، فلما فتح الله عليهم قالت المشيخة: كنا ردءاً لكم لو انهزمتم لفئتم إلينا، فلا تذهبوا بالغنم ونبقى، فأبى الفتيان، وقالوا: جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنا، فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1] إلى قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5]، يقول: فكان ذلك خيراً لهم، فكذلك أيضاً فأطيعوني فإني أعلم بعاقبة هذا منكم)].
أورد أبو داود باباً في النفل، والنفل هو: ما يعطى المجاهد في سبيل الله زيادة على السهام، وقيل له نفل؛ لأنه نافلة، والنفل والنافلة: الزيادة، فهو ما يعطاه المجاهد زيادة على نصيبه من المغنم، هذا هو المقصود بالنفل.
أورد أبو داود حديث ابن عباس.
قوله: [(من فعل كذا وكذا، فله من النفل كذا وكذا)].
معناه: أنه يعطى زيادة على السهم كذا وكذا، وهو مثل السلب، إلا أن ذاك فيه: (من قتل قتيلاً فله سلبه) وهنا يقول: من عمل كذا فله كذا، ويحدد شيئاً لا من أجل أنه قتل إنساناً، ولكن من أجل أنه قام بجهد خاص مثلما سيأتي في قصة السرية التي أعطى كل واحد منهم بعيراً تنفيلاً.
قوله: [(فتقدم الفتيان، ولزم المشيخة الرايات، فلم يبرحوها)].
المشيخة هم الكبار وقد لزموا الرايات فلم يبرحوها.
قوله: [(فلما فتح الله عليهم قال المشيخة: كنا ردءاً لكم لو انهزمتم لفئتم إلينا)].
أي: لو انهزمتم لصرتم إلينا؛ لأنهم وقاية ومرجع لهم يرجعون إليهم.
قوله: [(فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى، فأبى الفتيان وقالوا: جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنا، فأنزل الله {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1])].
أي: فلم يوافق الفتيان على ما طلبه منهم الكبار، وأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1] أي: يضعها حيث يشاء، والمغنم كما هو معلوم يشترك فيه الجميع، ولكن النفل هو الذي يختص به من يكون له جهد خاص.
قوله: [(إلى قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5]، يقول: فكان ذلك خيراً لهم، فكذلك أيضاً فأطيعوني فإني أعلم بعاقبة هذا منكم!)].
أي: أطيعوني فيما آمركم به، وفيما أقول لكم، فإني أعلم بعاقبة ذلك منكم، أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم العاقبة والنتيجة لهذا الأمر، وأن ذلك خير لهم إذا أطاعوه واستجابوا لما يأمرهم به، ولو كان في ذلك شيء من التفاوت بأن يعطى أحد من أجل قيامه بجهد خاص شيئاً زائداً، وأما الغنيمة فيشترك فيها الجميع.
قوله: [(أطيعوني فإني أعلم بعاقبة هذا منكم)]، يعني: هذا الذي أمرهم به، بأن من فعل كذا فله من النفل كذا، فالمشيخة الذين لم يحصل لهم نصيب من ذلك يسمعون ويطيعون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]، أي: هذا الذي حصل بينكم من الخلاف لابد أن تعملوا على إصلاحه وعلى إزالته.
وقول المشيخة: (فلا تذهبوا بالمغنم) يعنون به النفل الزائد على الغنيمة.(324/3)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في النفل من طريق خالد الطحان
[حدثنا وهب بن بقية].
هو وهب بن بقية الواسطي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[أخبرنا خالد].
هو خالد بن عبد الله الواسطي الطحان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن داود].
داود هو ابن أبي هند وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس] وقد مر ذكره.(324/4)
شرح حديث ابن عباس في النفل من طريق هشيم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زياد بن أيوب حدثنا هشيم أخبرنا داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس: (أن رسول الله صلى الله عليهآله وسلم قال يوم بدر: من قتل قتيلاً فله كذا وكذا، ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا) ثم ساق نحوه، وحديث خالد أتم].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وفيه ذكر السلب وذكر غيره قال: (من قتل قتيلاً فله سلبه، ومن أسر أسيراً فله كذا) وهذا يفسر ما تقدم من قوله: (من فعل كذا فله من النفل كذا)؛ لأن فيه ذكر السلب، وفيه ذكر الأسر وله مقابل يخصه، وهذا يتميز به من فعل ذلك عن أصحاب الغنيمة.(324/5)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في النفل من طريق هشيم
قوله: [حدثنا زياد بن أيوب].
زياد بن أيوب ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس].
وقد مر ذكرهم.(324/6)
شرح حديث ابن عباس في النفل من طريق يحيى بن أبي زائدة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن محمد بن بكار بن بلال حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الهمداني حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة أخبرنا داود بهذا الحديث بإسناده قال: (فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسواء) وحديث خالد أتم].
وذكر أبو داود طريقاً أخرى، فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنيمة بالسواء، أي بالسوية، لا فرق بين شخص وشخص، وهذا لا ينافي ما تقدم من أن النفل الذي هو زائد على القسمة يعطى لمن كان له جهد خاص؛ لأن القسمة بالسواء إنما هي للغنيمة، فمعناه: أن كلاً أخذ نصيبه من الغنيمة، ولكن النفل والسلب والشيء الذي حصل من بعض الأشخاص فإنهم يتميزون به، فيأخذونه مع نصيبهم من الغنيمة، ويكون ذلك زائداً على الغنيمة.(324/7)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في النفل من طريق يحيى بن أبي زائدة
قوله: [حدثنا هارون بن محمد بن بكار بن بلال].
وهو صدوق أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الهمداني].
وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة].
يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن داود بإسناده].
هو داود بن أبي هند وقد مر ذكرهم.(324/8)
شرح حديث سعد بن أبي وقاص في النفل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري عن أبي بكر عن عاصم عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: (جئت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر بسيف، فقلت: يا رسول الله، إن الله قد شفى صدري اليوم من العدو، فهب لي هذا السيف، قال: إن هذا السيف ليس لي ولا لك، فذهبت وأنا أقول: يعطاه اليوم من لم يبل بلائي، فبينما أنا إذ جاءني الرسول فقال: أجب، فظننت أنه نزل في شيء بكلامي، فجئت فقال لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنك سألتني هذا السيف وليس هو لي ولا لك، وإن الله قد جعله لي فهو لك، ثم قرأ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1] إلى آخر الآية) قال أبو داود: قراءة ابن مسعود: (يسألونك عن النفل)].
أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، أنه أتى بسيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر.
قوله: [(ليس هو لي ولا لك)].
معناه: أنه يكون من جملة الغنيمة، ثم إنه وقع في نفسه شيء، فقال: يمكن أن يعطاه أحد دوني، فبعد ذلك جاءه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبه، فظن أنه نزل فيه شيء من أجل هذا الذي قاله في نفسه، فذهب فقال له الرسول: (إنك سألتني هذا السيف وليس هو لي ولا لك، وإن الله قد جعله لي، فهو لك!).
ومعناه: أنه جعله له تنفيلاً، أي: زيادة على سهمه من الغنيمة.(324/9)
تراجم رجال إسناد حديث سعد في النفل
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هو هناد بن السري أبو السري، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي بكر].
هو أبو بكر بن عياش، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عاصم].
هو عاصم بن بهدلة، وهو عاصم بن أبي النجود، وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة، والبخاري ومسلم إنما أخرجا له مقروناً.
[عن مصعب بن سعد].
هو مصعب بن سعد بن أبي وقاص، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو سعد بن أبي وقاص، أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه وأرضاه، حديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(324/10)
نفل السرية تخرج من العسكر(324/11)
شرح حديث ابن عمر في نفل السرية تخرج من العسكر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في نفل السرية تخرج من العسكر.
حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا الوليد بن مسلم، ح وحدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي حدثنا مبشر، ح وحدثنا محمد بن عوف الطائي أن الحكم بن نافع حدثهم المعنى كلهم، عن شعيب بن أبي حمزة عن نافع عن ابن عمر قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جيش قبل نجد، وانبعثت سرية من الجيش، فكان سهمان الجيش اثني عشر بعيراً اثني عشر بعيراً، ونفل أهل السرية بعيراً بعيراً، فكانت سهمانهم ثلاثة عشر ثلاثة عشر)].
ذكر الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى باباً في السرية تخرج من العسكر.
والسرية: هي القطعة من الجيش تخرج منه لتقوم بمهمة ثم تعود، وما يحصل من غنيمة فإنه يكون لها وللجيش؛ لأن الجيش ردء لها وأصل لها ومرجع لها، فلا تنفرد بما يحصل لها من الغنائم، كما أن الجيش لا ينفرد عنها بما يحصل له من الغنائم، بل الغنيمة للجميع، أعني: للسرية وللجيش الذي خرجت منه السرية.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً قبل نجد، وخرجت منه سرية فغنموا إبلاً، فنفلوا بعيراً بعيراً، وقسمت الغنائم على الجيش وعلى السرية، فأصاب كل واحد منهم اثني عشر بعيراً، إلا أصحاب السرية الذين نفلوا بعيراً بعيراً صار لكل واحد منهم ثلاثة عشر بعيراً)، وهذا يدل على أن السرية لا تنفرد بغنائمها، وإنما تكون لها وللجيش.
فهذا الباب يتعلق بنفل السرية، أي أن السرية إذا نفلت بشيء فإنه يكون لها وتتميز به عن الجيش، ولكن ما زاد عن النفل فإنه يوزع على السرية وعلى الجيش، وحديث عبد الله بن عمر واضح في ذلك؛ لأنهم غنموا إبلاً كثيرة، ولما قسموها على الجيش وعلى السرية صار لكل واحد من الجيش والسرية اثنا عشر بعيراً، ونفل كل واحد من السرية بعيراً.
والنفل لا يخرج من الخمس، بل إما أن يكون من أصل الغنيمة قبل إخراج الخمس أو بعد إخراجه، وستأتي ترجمة تتعلق بالنفل بعد الخمس.
وهنا كان كلام لـ ابن المسيب يقول: إنما ينفل الإمام من الخمس، أي من سهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو خمس الخمس من الغنيمة، وإلى هذا ذهب الشافعي وأبو عبيد، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضعه حيث أراه الله عز وجل في مصالح أمر الدين، ومعاون المسلمين.
وقال أبو عبيد: الخمس مفوض إلى الإمام، ينفل منه إن شاء، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم).
وقال غيرهم: إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفلهم من الغنيمة التي يغنمونها، كما نفل القاتل السلب من جملة الغنيمة.(324/12)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر في نفل السرية تخرج من العسكر
قوله: [حدثنا عبد الوهاب بن نجدة].
عبد الوهاب بن نجدة ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا الوليد بن مسلم].
هو الوليد بن مسلم الدمشقي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي].
وهو صدوق يغرب، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا مبشر].
هو مبشر بن إسماعيل، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن عوف الطائي].
وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي في مسند علي.
[أن الحكم بن نافع حدثهم].
الحكم بن نافع هو أبو اليمان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعيب بن أبي حمزة].
هو شعيب بن أبي حمزة الحمصي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(324/13)
شرح حديث ابن عمر في نفل السرية من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الوليد بن عتبة الدمشقي قال: قال الوليد -يعني ابن مسلم - حدثت ابن المبارك بهذا الحديث قلت: وكذا حدثنا ابن أبي فروة عن نافع قال: لا تعدل من سميت بـ مالك، هكذا أو نحوه، يعني مالك بن أنس].
ذكر أبو داود طريقاً ثانية للحديث، وفيها ذكر الإمام مالك رحمة الله عليه، وتميزه في الرواية، وتقديمه على غيره.(324/14)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر في نفل السرية من طريق ثانية
قوله: [حدثنا الوليد بن عتبة الدمشقي].
الوليد بن عتبة الدمشقي ثقة، أخرج له أبو داود.
[قال الوليد -يعني ابن مسلم -].
الوليد بن مسلم مر ذكره.
[حدثت ابن المبارك بهذا الحديث].
ابن المبارك هو عبد الله بن المبارك، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قلت: وكذا حدثنا ابن أبي فروة].
هو إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهو متروك، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن نافع].
نافع مر ذكره.
[قال: لا تعدل من سميت بـ مالك].
سيأتي في بعض الروايات أن مالكاً يروي هذا الحديث.(324/15)
شرح حديث ابن عمر في نفل السرية من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد حدثنا عبدة -يعني ابن سليمان الكلابي - عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سريةً إلى نجد، فخرجت معها فأصبنا نعماً كثيراً، فنفلنا أميرنا بعيراً بعيراً لكل إنسان، ثم قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقسم بيننا غنيمتنا، فأصاب كل رجل منا اثنا عشر بعيراً بعد الخمس، وما حاسبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذي أعطانا صاحبنا، ولا عاب عليه بعد ما صنع، فكان لكل رجل منا ثلاثة عشر بعيراً بنفله)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر من طريق ثالثة، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية، وأنهم غنموا، وأن أميرهم نفلهم بعيراً بعيراً، وأنهم لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم الغنيمة بينهم فصار لكل منهم اثنا عشر بعير، وذلك بعد الخمس، يعني: أنه أخرج الخمس وقسم الباقي عليهم، وهذا يخالف ما تقدم من أن الرسول بعث جيشاً، وأنه خرج منه سرية، وأن السرية غنمت، وأن أميرهم نفلهم، وأن الغنيمة قسمت على الجيش وعلى السرية فصار لكل من الجيش والسرية اثنا عشر بعيراً من الغنيمة، وأن أصحاب السرية حصل لهم زيادة بعير نفلاً فصار لكل منهم ثلاثة عشر بعيراً، فهذا إما أن يكون فيه اختصار، وأنه لم يذكر فيه الجيش وما حصل للجيش، أو أن فيه وهماً أو خطأ؛ ولهذا ضعفه الألباني، ولعل التضعيف بالمخالفة أو من أجل رواية محمد بن إسحاق لأنه عنعن، ولكن إذا كان فيه اختصار فليس فيه إشكال؛ لأنه يكون ذكر فيه ما يتعلق بالسرية دون الجيش، وفيما يتعلق بالسرية ما دام أنهم تساووا في الثلاثة عشر، إذاً لم يكن هناك شيء من التنفيل، لأن التنفيل إنما يتبين في تميزهم على الذين ليسوا من أهل السرية، ولعل الحديث يكون صحيحاً، لأنه مثل غيره، إلا أن فيه اختصاراً.(324/16)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر في نفل السرية من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا هناد].
هو هناد بن السري أبو السري، وهو ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبدة -يعني ابن سليمان الكلابي -].
عبدة بن سليمان الكلابي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن نافع عن ابن عمر].
قد مر ذكرهما.(324/17)
شرح حديث ابن عمر في نفل السرية من طريق رابعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك، ح وحدثنا عبد الله بن مسلمة ويزيد بن خالد بن موهب قالا: حدثنا الليث المعنى عن نافع عن عبد الله بن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سريةً فيها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قبل نجد، فغنموا إبلاً كثيرة، فكانت سهمانهم اثني عشر بعيراً ونفلوا بعيراً بعيراً، زاد ابن موهب: فلم يغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
وهذه الرواية هي مثل الرواية السابقة، من جهة أن الرسول بعث السرية قبل نجد وفيها ابن عمر، وأنهم غنموا إبلاً كثيرة، وأن أميرهم نفلهم بعيراً بعيراً، وأنها قسمت السهام، فصار لكل منهم ثلاثة عشر بعيراً.
وهذه هي رواية مالك والتي أشار إليها فيما مضى بقول ابن المبارك: لا تعدل بـ مالك غيره، أي لا يساوى به غيره، وعلى هذا فيكون الجيش الذي هو أصل السرية صار له نصيبه من الغنيمة، ولكن تميز أهل السرية بالتنفيل، ويكون ما ذكر هنا من قبيل الاختصار.(324/18)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر في نفل السرية من طريق رابعة
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[وحدثنا عبد الله بن مسلمة ويزيد بن خالد بن موهب].
يزيد بن خالد بن موهب ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الليث].
الليث بن سعد المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن ابن عمر].
قد مر ذكرهما.(324/19)
حديث ابن عمر في نفل السرية من طريق خامسة وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن عبيد الله قال: حدثني نافع عن عبد الله قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سرية فبلغت سهماننا اثني عشر بعيراً، ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعيراً بعيراً)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر من طريق أخرى وهو مثل ما تقدم.
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني نافع عن عبد الله].
قد مر ذكرهما.(324/20)
شرح حديث ابن عمر في نفل السرية من طريق سادسة
[قال أبو داود: رواه برد بن سنان عن نافع مثل حديث عبيد الله ورواه أيوب عن نافع مثله إلا أنه قال: (ونفُلنا بعيرا بعيراً) لم يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم].
أورد المصنف الإشارة إلى طريق أخرى معلقة، وأنها مثل التي قبلها، إلا أنه لم يذكر أنه نفلهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعيراً بعيراً، بل قال: (ونفُلنا بعيراً بعيراً)، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم ما جاء في بعض الروايات من أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي نفل، وجاء في بعضها أن أميرهم هو الذي نفل، يمكن الجمع بينها بأن يقال: يكون الأمير هو الذي نفل، والنبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك، فيكون المراد بتنفيل النبي صلى الله عليه وسلم إقراره، ومعنى تنفيل الأمير السرية أنه الذي أعلن أن من فعل كذا فله كذا.(324/21)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر في نفل السرية من طريق سادسة
[قال أبو داود: رواه برد بن سنان].
برد بن سنان صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن نافع مثل حديث عبيد الله].
قد مر ذكرهما.
[ورواه أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع مثله].
مر ذكره.(324/22)
شرح حديث ابن عمر في نفل السرية من طريق سابعة
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث قال: حدثني أبي عن جدي، ح وحدثنا حجاج بن أبي يعقوب قال: حدثني حجين قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم عن عبد الله بن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة النفل سوى قسم عامة الجيش، والخمس في ذلك واجب كله)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل السرايا وأنه كان ينفل بعض السرايا بشيء لأنفسهم دون عامة الجيش، بمعنى أنه يخصهم به.
قوله: [(كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة النفل)].
معناه: أن التنفيل لا يكون دائماً وأبداً، وإنما يكون في بعض الأحيان، فليس كل جيش ينفل فيه، وليس كل سرية ينفل فيها، وإنما قد يحصل في بعض الأحيان وقد لا يحصل.
قوله: [(سوى قسم عامة الجيش)].
يعني: أن النفل زائد على ما يكون لعامة الجيش وهم منهم، فيحصلون نصيبهم من الغنيمة ثم النفل.
قوله: [(والخمس في ذلك واجب كله)].
معناه: أن الخمس يكون من أصل الغنيمة قبل التنفيل، ثم يخرج التنفيل من الباقي.(324/23)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر في نفل السرية من طريق سابعة
قوله: [حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث].
عبد الملك بن شعيب بن الليث ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبيه].
أبوه كذلك، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن جده].
جده الليث بن سعد مر ذكره.
[حدثنا حجاج بن أبي يعقوب].
حجاج بن أبي يعقوب ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثني حجين].
هو حجين بن المثنى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا الليث عن عقيل].
الليث مر ذكره، وعقيل بن خالد بن عقيل المصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم].
هو سالم بن عبد الله بن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر].
قد مر ذكره.(324/24)
وجه قسم الغنائم على كامل الجيش مع اختصاص السرية بالابتعاث
ترد هنا مسألة وهي أن يقال: فما وجه قسم الغنائم على الجيش كله، والسرية هي التي عانت وتعبت في جلب هذه الغنائم؟
و
الجواب
معلوم أن الجيش ردء للسرية وهو أصلها ومرجعها، وأيضاً لو حصل للجيش شيء، فلا يختص به دون السرية، ولا السرية دون الجيش، وإنما الغنيمة للجميع، ولكن السرية اختصت بالتنفيل فقط، وأما تحصيل الغنائم فهو مثلما لو أن الجيش حصل وهم لم يحصلوا.(324/25)
شرح حديث عبد الله بن عمرو في نفل السرية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب حدثنا حيي عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم بدر في ثلاثمائة وخمسة عشر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم، ففتح الله له يوم بدر، فانقلبوا حين انقلبوا وما منهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين واكتسوا وشبعوا)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بأصحابه يوم بدر، وكان عددهم ثلاثمائة وخمسة عشر رجلاً).
ومعنى الحديث: أنهم كانوا يمشون على أرجلهم، فحملهم الله بأن حصلوا هذا الظفر وهذا المركوب الذي غنموه، وحتى شبعوا أيضاً واكتسوا، وكل ذلك حصل من الغنائم.
وهذا الحديث لا يطابق الترجمة؛ لأن الترجمة في النفل وهذا ليس فيه ذكر شيء من النفل.(324/26)
تراجم رجال إسناد حديث عبد الله بن عمرو في نفل السرية
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[عن عبد الله بن وهب].
عبد الله بن وهب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حيي].
هو حيي بن عبد الله المصري، وهو صدوق يهم، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبي عبد الرحمن الحبلي].
هو عبد الله بن يزيد، أخرج له البخاري في الأدب المفر ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عمرو].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(324/27)
شرح سنن أبي داود [325]
شرع الله الجهاد، وأباح لأمة محمد المغانم رحمة بها، وأجاز لقائد الجيش أن ينفل من يبذل جهداً خاصاً في القتال من فرد أو سرية أو نحو ذلك، فيجعل له شيئاً زائداً على نصيبه من الغنيمة.(325/1)
من قال الخمس قبل النفل(325/2)
شرح حديث حبيب بن مسلمة في أن الخمس قبل النفل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن قال: الخمس قبل النفل.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن يزيد بن يزيد بن جابر الشامي عن مكحول عن زياد بن جارية التميمي عن حبيب بن مسلمة الفهري أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينفل الثلث بعد الخمس)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: [باب من قال الخمس قبل النفل]، يعني: أن التنفيل من الأربعة الأخماس، وأما الخمس فإنه يكون من الجميع، وهذا وجه، والوجه الثاني: أنه يخرج من أصل الغنيمة، وكل من ذلك صحيح وثابت، وهذا يرجع إلى الإمام، إن شاء أن ينفل من الأصل، وإن شاء أن ينفل مما زاد على الخمس.
قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفل الثلث بعد الخمس)].
أي أنه ينفل الثلث من الباقي الذي هو أربعة الأخماس، وما زاد على ذلك يكون للغانمين.
وهذا هو أعلى شيء ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ورد الربع إذا كانوا ذاهبين، والثلث إذا كانوا قافلين، وورد مطلقاً كما هنا.(325/3)
تراجم رجال إسناد حديث حبيب بن مسلمة في أن الخمس قبل النفل
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن يزيد بن جابر الشامي].
ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن مكحول].
هو الشامي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن زياد بن جارية التميمي].
زياد بن جارية التميمي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أبو داود وابن ماجة.
يقول الحافظ: يقال: له صحبة، وثقه النسائي.
[عن حبيب بن مسلمة الفهري].
حبيب بن مسلمة الفهري رضي الله عنه، أخرج له أبو داود وابن ماجة.(325/4)
شرح حديث حبيب في أن الخمس قبل النفل من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة الجشمي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن مكحول عن ابن جارية عن حبيب بن مسلمة: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ينفل الربع بعد الخمس، والثلث بعد الخمس إذا قفل)].
أورد أبو داود حديث حبيب بن مسلمة من طريق أخرى، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل الربع بعد الخمس، والثلث بعد الخمس إذا قفل)، ومعناه: أنه في حال الذهاب ينفل الربع، وفي حال القفول والرجوع ينفل الثلث.
فقيل في التفريق بينهما: أنه في حال الذهاب يكون الناس في قوة وعندهم الزاد، وهم مقبلون على العدو وعلى القتال فكانوا ينفلون الربع، ولكن في حال الرجوع ينفلون الثلث؛ لأن حالتهم في الرجوع تختلف عن حالتهم في الذهاب؛ فيكون فيهم ضعف، بعد ما حصل لهم من تعب ومن نصب، فينفلون الثلث.
وقيل: إن المقصود بالقفول: أنهم عندما يقفلون يطلب من بعضهم أن يرجع إلى العدو أو يرجع إلى جهة، فيكون في ذلك مشقة وتعب؛ فصاروا كأنهم ذاهبون مع أن الجيش قد انصرف.
فيكون القفول له معنيان: إما أن يكونوا راجعين، وأن هذا التنفيل حصل لهم في حال رجوعهم، أو أنهم رجعوا إلى العدو وأولئك انصرفوا، فصار لهم زيادة التعب والنصب والمشقة، فزيدوا في التنفيل إلى الثلث بدل الربع.(325/5)
تراجم رجال إسناد حديث حبيب بن مسلمة في أن الخمس قبل النفل من طريق ثانية
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة الجشمي].
هو عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري الجشمي، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الرحمن بن مهدي].
عبد الرحمن بن مهدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معاوية بن صالح].
هو معاوية بن صالح بن حدير، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن العلاء بن الحارث].
صدوق، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن مكحول عن ابن جارية عن حبيب بن مسلمة].
مر ذكر الثلاثة.(325/6)
شرح حديث حبيب في أن الخمس قبل النفل من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان ومحمود بن خالد الدمشقيان المعنى قالا: حدثنا مروان بن محمد قال: حدثنا يحيى بن حمزة قال: سمعت أبا وهب يقول: سمعت مكحولاً يقول: كنت عبداً بمصر لامرأة من بني هذيل فأعتقتني، فما خرجت من مصر وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الحجاز فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت العراق فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الشام فغربلتها؛ كل ذلك أسأل عن النفل، فلم أجد أحداً يخبرني فيه بشيء حتى لقيت شيخاً يقال له زياد بن جارية التميمي فقلت له: هل سمعت في النفل شيئاً؟ قال: نعم، سمعت حبيب بن مسلمة الفهري يقول: (شهدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفل الربع في البدأة، والثلث في الرجعة)].
أورد أبو داود حديث حبيب بن مسلمة من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، وفيه هذه القصة لـ مكحول الدالة على عنايته واشتغاله بالعلم، وأنه إذا حل في بلد ينتهز الفرصة فيحرص على لقاء الشيوخ والأخذ عنهم؛ لأن الإنسان إذا قدم بلداً فهو لن يبقى فيه ولن يستمر فيه، فيجد الفرصة سانحة لأن يبذل جهده لأخذ ما عند علماء ذلك البلد من العلم، والجلوس إليهم والاستفادة منهم، وقال: إنه كان عبداً لامرأة من هذيل في مصر، فأعتقته، وإنه ما خرج من مصر إلا وقد حوى ما فيها من علم فيما يظن، ثم جاء إلى الحجاز ففعل كذلك، ثم ذهب إلى العراق ففعل كذلك، ثم إلى الشام، وقوله: (وغربلتها)، معناه: أنه اجتهد في أخذ ما فيها من العلم.
وكان في كل ذلك يسأل عن النفل، فوجد زياد بن جارية يحدث عن حبيب بن مسلمة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة)، وهو مثل المتن الذي تقدم في الطرق المتقدمة.(325/7)
تراجم رجال إسناد حديث حبيب في أن الخمس قبل النفل من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان].
هو عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان الدمشقي، وهو صدوق، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[ومحمود بن خالد].
ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا مروان بن محمد].
مروان بن محمد ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا يحيى بن حمزة].
يحيى بن حمزة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت أبا وهب].
هو عبيد الله بن عبيد الكلاعي، وهو صدوق، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[سمعت مكحولاً].
قد مر ذكره.
لقيت شيخاً يقال له: [زياد بن جارية التميمي].
قد مر ذكره.
[سمعت حبيب بن مسلمة].
قد مر ذكره.(325/8)
السرية ترد على أهل العسكر(325/9)
شرح حديث عبد الله بن عمرو في السرية ترد على أهل العسكر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في السرية ترد على أهل العسكر.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن أبي عدي عن ابن إسحاق -هو محمد - ببعض هذا، ح وحدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثني هشيم عن يحيى بن سعيد جميعاً عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، يرد مشدهم على مضعفهم، ومتسريهم على قاعدهم، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده).
ولم يذكر ابن إسحاق القود والتكافؤ].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: [باب في السرية ترد على أهل العسكر].
أي ترد ما غنمت، فالمفعول محذوف، أي أن السرية لا تنفرد بالغنائم التي تحصلها؛ لأن الجيش ردء لها، فهو شريك لها، كما أن الجيش الأول إذا غنم فإن السرايا تغنم معه، فلا ينفرد الجيش عن السرية ولا السرية عن الجيش.
فالمقصود من الترجمة هنا أن السرية ترد ما غنمت على العسكر ولا تنفرد بالشيء الذي حصلته، وإنما تنفرد بالتنفيل إذا كان هناك تنفيل، وأما أصل الغنيمة فإنها لها وللجيش الذي انفصلت منه.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون تتكافؤ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم).
قوله: [(تتكافؤ دماؤهم)] يعني: أن بعضهم لبعض أكفاء، فيقتل الحر بالحر وإن كان المقتول شريفاً والقاتل وضيعاً أو العكس، أو كان هذا كبيراً وهذا صغيراً، فلا ينظر لكون هذا شريفاً أو كبيراً أو صاحب منزلة وذاك دونه، فإن وصف الإسلام قد سوّى بينهم فلا يميز فيه أحد عن أحد.
قوله: [(ويسعى بذمتهم أدناهم)] معناه: إذا حصل من أحد منهم إعطاء أمان لأحد فهو معتبر ولو كان من أدناهم؛ كأن يكون عبداً، أو تكون أمة أو امرأة.
قوله: [(ويجير عليهم أقصاهم)].
أي: من يكون بعيداً وحصل منه الجوار اعتبر، وإن كان هناك من هو دونه أو كان قبله ولم يحصل منه عقد الجوار.
قوله: [(وهم يد على من سواهم)].
أي: بعضهم أعوان لبعض على من سواهم من غير المسلمين.
قوله: [(يرد مشدهم على مضعفهم)].
أي: يرد قويهم على ضعيفهم.
قوله: [(ومتسريهم على قاعدهم)] هذا هو محل الشاهد للترجمة.
والمتسري هو الذي يخرج في السرية، والقاعد هو الذي لا يخرج في السرية، ومعناه: أنه يصيب من المغنم.
قوله: [(لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده)].
أي: ما دام معاهداً فإنه لا يجوز قتله حتى ينبذ إليه عهده ويعلم ترك العهد، ثم بعد ذلك يكون هناك مجال للمقاتلة.
قوله: [ولم يذكر ابن إسحاق القود والتكافؤ].
أي: ولم يذكر ابن إسحاق التكافؤ بقوله: (تتكافؤ دماؤهم)، والقود بقوله: (لا يقتل مؤمن بكافر).(325/10)
تراجم رجال إسناد حديث عبد الله بن عمرو في السرية ترد على أهل العسكر
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن أبي عدي].
هو محمد بن إبراهيم بن مسلم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إسحاق هو محمد].
ابن إسحاق مر ذكره.
[ح وحدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة قال: حدثني هشيم].
ابن ميسرة مر ذكره.
وهشيم بن بشير الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن سعيد جميعاً عن عمرو بن شعيب].
يحيى بن سعيد هو الأنصاري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وعمرو بن شعيب صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو صدوق أيضاً، أخرج له البخاري في جزء القراءة والأدب المفرد، وأصحاب السنن.
[عن جده].
وهو عبد الله بن عمرو، وهو جد شعيب؛ لأن شعيباً هو ابن محمد، وقد سمع شعيب من جده عبد الله، وهو عبد الله بن عمرو، وقد مر ذكره.(325/11)
شرح حديث سلمة بن الأكوع في السرية ترد على أهل العسكر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عكرمة حدثني إياس بن سلمة عن أبيه قال: (أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقتل راعيها، فخرج يطردها هو وأناس معه في خيل، فجعلت وجهي قبل المدينة، ثم ناديت ثلاث مرات: يا صباحاه! ثم اتبعت القوم، فجعلت أرمي وأعقرهم، فإذا رجع إليَّ فارس جلست في أصل شجرة حتى ما خلق الله شيئاً من ظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا جعلته وراء ظهري، وحتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحاً وثلاثين بردةً يستخفون منها، ثم أتاهم عيينة مدداً، فقال: ليقم إليه نفر منكم، فقام إليَّ أربعة منهم فصعدوا الجبل، فلما أسمعتهم قلت: أتعرفوني؟ قالوا: ومن أنت؟ قلت: أنا ابن الأكوع، والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يطلبني رجل منكم فيدركني، ولا أطلبه فيفوتني، فما برحت حتى نظرت إلى فوارس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتخللون الشجر أولهم الأخرم الأسدي فيلحق بـ عبد الرحمن بن عيينة ويعطف عليه عبد الرحمن، فاختلفا طعنتين فعقر الأخرم عبد الرحمن وطعنه عبد الرحمن فقتله، فتحول عبد الرحمن على فرس الأخرم فيلحق أبو قتادة بـ عبد الرحمن فاختلفا طعنتين فعقر بـ أبي قتادة وقتله أبو قتادة فتحول أبو قتادة على فرس الأخرم، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على الماء الذي جليتهم عنه ذو قرد، فإذا نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم في خمسمائة، فأعطاني سهم الفارس والراجل)].
أورد أبو داود حديث سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه: أن إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت وقتل راعيها، وكان الذي قام بذلك عبد الرحمن بن عيينة ومعه جماعة، فلما علم بذلك سلمة بن الأكوع رضي الله عنه استقبل المدينة ونادى: يا صباحاه! وهذه كلمة يقولونها عند الفزع وعند حث الناس على النفير لهذا الذي يدعون له، فكان أن لحق بهم وعقر أفراسهم، وكان إذا انكب له أحد لاذ بشجرة، واختفى فيها، حتى خلف جميع النعم التي أخذت من راعي الرسول صلى الله عليه وسلم وراء ظهره، وحتى أنهم ولوا هاربين ورموا شيئاً من متاعهم، يريدون التخفف لما أصابهم من الذعر، ثم جاءهم مدد، فصعد سلمة على مكان مرتفع فصعد أربعة منهم إليه، فلما خاطبهم وأسمعهم، قال: أتعرفوني، أنا ابن الأكوع، وإنه لا يطلبني أحد فيدركني، ولا أطلب أحداً فيفوتني، ثم إنه رأى طلائع فرسان رسول الله -الذين تقدموا في هذا الفداء وهذا الفزع- من خلال الشجر ثم ذكر القصة.
قوله: [(فأعطاني سهم الفارس والراجل)].
أعطاه سهم الراجل لكونه راجلاً، وأعطاه سهم الفارس الذي هو ثلاثة أسهم؛ لأن الفارس له ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه.
قوله: [عن سلمة قال: (أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقتل راعيها، فخرج يطردها هو وأناس معه في خيل)] الضمير في قوله: (فخرج يطردها) راجع إلى عبد الرحمن بن عيينة.
قوله: [(فإذا رجع إلي فارس جلست في أصل شجرة، حتى ما خلق الله شيئاً من ظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا جعلته وراء ظهري)].
الظهر المقصود به: الإبل، وظهر النبي صلى الله عليه وسلم: إبله التي أخذت خلفها كلها وراءه وأولئك هربوا.
قوله: [(وحتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحاً وثلاثين بردةً يستخفون منها)].
لشدة الذعر الذي أصابهم أرادوا أن يتخففوا حتى تسرع دوابهم، يقول الشاعر: ألقى الصحيفة كي يخفف رحله والزاد حتى نعله ألقاها قوله: [(فما برحت حتى نظرت إلى فوارس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتخللون الشجر أولهم الأخرم الأسدي فيلحق بـ عبد الرحمن بن عيينة ويعطف عليه عبد الرحمن فاختلفا طعنتين فعقر الأخرم عبد الرحمن وطعنه عبد الرحمن فقتله، فتحول عبد الرحمن على فرس الأخرم فيلحق أبو قتادة بـ عبد الرحمن فاختلفا طعنتين فعقر بـ أبي قتادة، وقتله أبو قتادة فتحول أبو قتادة على فرس الأخرم، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على الماء الذي جليتهم عنه ذو قرد، فإذا نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم في خمسمائة فأعطاني سهم الفارس والراجل)].
معناه: أن هذا الذي حصله سلمة ما أخذه، وإنما رده إلى الجيش وإلى الذين خرجوا تابعين لهؤلاء، وكان قد حصل الأشياء التي رموها وتركوها غير الإبل التي كانت لهم في الأصل وليست غنيمة، وإنما رجع إليهم حقهم، والغنيمة إنما هي الشيء الذي حصلوه.(325/12)
تراجم رجال إسناد حديث سلمة في السرية ترد على أهل العسكر
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هو هارون بن عبد الله الحمال البغدادي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا هاشم بن القاسم].
هاشم بن القاسم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عكرمة].
هو عكرمة بن عمار، وهو صدوق يغلط، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني إياس بن سلمة].
هو إياس بن سلمة بن الأكوع، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(325/13)
النفل من الذهب والفضة ومن أول مغنم(325/14)
شرح حديث النفل من الذهب والفضة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النفل من الذهب والفضة ومن أول مغنم.
حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى أخبرنا أبو إسحاق الفزاري عن عاصم بن كليب عن أبي الجويرية الجرمي قال: (أصبت بأرض الروم جرة حمراء فيها دنانير في إمرة معاوية، وعلينا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بني سليم يقال له معن بن يزيد، فأتيته بها فقسمها بين المسلمين وأعطاني منها مثلما أعطى رجلاً منهم، ثم قال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا نفل إلا بعد الخمس.
لأعطيتك، ثم أخذ يعرض علي من نصيبه فأبيت)].
أورد أبو داود باباً في النفل من الذهب والفضة ومن أول مغنم، يريد من وراء ذلك أن النفل ليس خاصاً بالإبل والخيل وغير ذلك، بل يكون أيضاً في الذهب والفضة، فيقال: من أتى بشيء فله ربعه أو فله منه كذا، فلا بأس بذلك، ويكون في الذهب والفضة كما يكون في غيرها.
قوله: [ومن أول مغنم].
كأن المقصود به أنه من أصل الغنيمة قبل إخراج الخمس.
قوله: [وأعطاني منها مثلما أعطى رجلاً منهم].
يعني: أنه ما ميزه بشيء نفلاً لكونه جاء بها، وذلك لأنها اعتبرت من الفيء الذي ما أوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، وإنما هي شيء وجدوه مما تركه العدو وهرب دون أن يكون هناك قتال، فكانت فيئاً أفاء الله تعالى بها على المسلمين، فلا يعتبر غنيمة تخمس وتكون أربعة الأخماس للغانمين، وإنما يصرف كله في مصالح المسلمين، فقسمه ذلك الأمير عليهم ولم يميزه بشيء ثم قال: (لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا نفل إلا بعد الخمس.
لأعطيتك).
قوله: [(لا نفل إلا بعد الخمس)] يعني: في الغنائم؛ لأن الغنائم هي التي تخمس، وأما الفيء فإنه لا يخمس.
وقوله: [(لا نفل إلا بعد الخمس)] يدل على أن التنفيل إنما يكون في الغنائم، وأن الفيء لا يكون فيه التنفيل؛ لأنه ما حصل فيه جهد خاص من ناحية النكاية بالأعداء وقتالهم، فمحل الشاهد من الترجمة قوله: (لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا نفل إلا بعد الخمس.
لأعطيتك) ثم إنه أراد أن يرضيه ويعطيه من نصيبه الخاص به، فأبى أن يأخذ ذلك.(325/15)
تراجم رجال إسناد حديث النفل من الذهب والفضة
قوله: [حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى].
أبو صالح محبوب بن موسى صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا أبو إسحاق الفزاري].
هو إبراهيم بن محمد بن الحارث، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عاصم بن كليب].
وهو صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي الجويرية الجرمي].
هو حطان بن خفاف، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[معن بن يزيد].
معن بن يزيد رضي الله عنه، وحديثه أخرجه البخاري وأبو داود.(325/16)
حديث النفل من الذهب والفضة من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد عن ابن المبارك عن أبي عوانة عن عاصم بن كليب بإسناده ومعناه].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى، وهو بمعنى ما تقدم.
قوله: [حدثنا هناد عن ابن المبارك عن أبي عوانة].
هناد مر ذكره، وابن المبارك مر ذكره.
وأبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عاصم بن كليب].
عاصم بن كليب مر ذكره.(325/17)
الإمام يستأثر بشيء من الفيء لنفسه(325/18)
شرح حديث استئثار الإمام بشيء من الفيء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الإمام يستأثر بشيء من الفيء لنفسه.
حدثنا الوليد بن عتبة قال: حدثنا الوليد حدثنا عبد الله بن العلاء أنه سمع أبا سلام الأسود قال: سمعت عمرو بن عبسة قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بعير من المغنم، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير، ثم قال: ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا، إلا الخمس، والخمس مردود فيكم)].
أورد أبو داود [باباً في الإمام يستأثر بشيء من الفيء لنفسه] ومقتضى هذا الحديث الذي أورده أنه لا يختص بشيء، وإنما يكون له الخمس، والخمس لا يختص به كله، وإنما يأخذ منه قوته وما يلزمه، والباقي يصرف في مصالح المسلمين؛ ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي) يعني: من الغنائم، فهو لا يختص بشيء يتميز به، ولكن يأخذ نصيبه من الخمس.
أورد أبو داود حديث عمرو بن عبسة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم إلى بعير من المغنم -أي: كانت سترته بعيراً من المغنم، وكان البعير باركاً- فلما سلم أخذ وبرة من سنامه وقال: ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس، والخمس مردود فيكم).
ومعناه: أنه يأخذ منه نفقته وحاجته، والباقي يصرف في مصالح المسلمين.(325/19)
تراجم رجال إسناد حديث استئثار الإمام بشيء من الفيء
قوله: [حدثنا الوليد بن عتبة].
مر ذكره.
[حدثنا الوليد].
هو الوليد بن مسلم مر ذكره.
[حدثنا عبد الله بن العلاء].
وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[أنه سمع أبا سلام الأسود].
هو ممطور الحبشي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[قال: سمعت عمرو بن عبسة].
عمرو بن عبسة رضي الله عنه، وحديثه أخرجه مسلم وأصحاب السنن.(325/20)
شرح سنن أبي داود [326]
الوفاء بالعهود من الأمور التي أكد عليها الإسلام، وأوجب الالتزام بها وعدم نقضها حتى مع الكفار، فإذا قامت معاهدة بين المسلمين فيجب الالتزام بأحكامها وما تقتضيه حسب ما يمليه الشرع، وقد بين الشرع من يعقد العهد مع الكفار، وبين أن للمسلم أن يجير كافراً، وأنه يجب الوفاء بذمة المعاهد، والإمساك عن قتل الرسل، وغير ذلك مما ذكر في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.(326/1)
الوفاء بالعهد(326/2)
شرح حديث الوفاء بالعهد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الوفاء بالعهد.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في الوفاء بالعهد]، أي: في لزومه ووجوب الوفاء به، وعدم الغدر فيه.
وأورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان بن فلان) والمقصود من ذلك: إعلان فضيحته، وأنه يكون هناك علامة تدل على أن الذي تحتها غادر، كما أن اللواء في الدنيا يكون عند الأمير أو عند الكبير في الجيش ليدل على مكانه، وهو شيء محمود، وأما الغادر فإنه ينصب له لواء يدل على أن الذي تحته رجل غادر، ويقال: (هذه غدرة فلان بن فلان)، ويذكر باسمه واسم أبيه، وهذا يدل على تحريم الغدر، ووجوب الوفاء بالعهود.(326/3)
تراجم رجال إسناد حديث الوفاء بالعهد
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن دينار].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد من الأسانيد العالية عند أبي داود؛ لأنه رباعي، إذ ليس بين أبي داود وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعة أشخاص هم: القعنبي ومالك وعبد الله بن دينار وعبد الله بن عمر.(326/4)
الإمام يستجن به في العهود(326/5)
شرح حديث الاستجنان بالإمام في العهود
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الإمام يستجن به في العهود.
حدثنا محمد بن الصباح البزاز قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الإمام جنة يقاتل به)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في الإمام يستجن به في العهود] أي: أنه يتابع ويستتر به، ومعنى هذا: أنه في العقد والعهد بين المسلمين وبين الكفار الإمام هو الذي يتولى هذه المهمة وغيره يكون تبعاً له، وليس لأحد أن يعقد عقداً بين المسلمين والكفار إلا الإمام، فهو جنة، أي: وقاية، كما يقال للمغفر والترس: مجن؛ لأنه يستر، والجنة هو الساتر، ومنه الحديث: (الصوم جنة) أي: الوقاية من النار، أو الوقاية من المعاصي بإضعاف النفس بالصيام لله عز وجل.
فالإمام جنة يقاتل به، والناس يقاتلون تبعاً له، ويأتمون به، ويكون هو إمامهم في القتال وفي إبرام العقود والعهود، فيكونون تبعاً له ولا يتقدمون عليه، وإنما يسيرون وفقاً لأوامره ووفقاً لتعليماته، فهو الذي يقود الجيوش وهو الذي يرسل من يرسل ويقدم من يقدم ويؤخر من يؤخر، ويتابع في ذلك.
وأيضاً هو الذي يتولى إبرام العهود، وليس لأحد من أفراد الناس أن يقوم بهذه المهمة دونه، فهو جنة يستجن به -أي: يستتر به- ويكون هو الستر والوقاية بين الناس وبين من أبرم العهد معهم؛ ولهذا مر قريباً في الحديث الذي فيه قصة خالد بن الوليد والشخص الذي تكلم عليه، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (هل أنتم تاركون لي أمرائي، ثم قال: لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره)، معناه: أنكم قد كفيتم، وإنما أنتم تبع للأمير، فعليكم السمع والطاعة فيما هو معروف، ولا تخرجوا عليه بأن تعملوا أعمالاً فيها خروج عليه، وفيها تقدم عليه، فالأصل أنه هو الذي يكون مرجعاً في الحرب، وهو الذي يكون مرجعاً في إبرام العهد.(326/6)