شرح سنن أبي داود [213]
كان أهل الجاهلية يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبطل هذا الاعتقاد الباطل فأمر من حج من أصحابه ولم يسق الهدي أن يجعل حجه عمرة، وقد اختلف العلماء في حكم نسخ الحج إلى عمرة، وهل كان خاصاً بالصحابة أم عاماً لكل من حج مفرداً ولم يسق الهدي؟(213/1)
تابع إفراد الحج(213/2)
شرح حديث: (أهلي بالحج ثم حجي واصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت ولا تصلي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عائشة رضي الله عنها ببعض هذه القصة، قال: عند قوله: وأهلي بالحج، ثم حجي واصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت ولا تصلي)].
سبقت جملة من الأحاديث التي تتعلق بالإفراد، وعرفنا التوفيق بينها وبين ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه كان قارناً، وعرفنا كيف تحمل، فمر معنا جملة من الأحاديث عن عائشة، ومر حديث عن جابر رضي الله عنه، وهذا هو الحديث الثاني من الأحاديث التي جاءت عن جابر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقد أحاله على الحديث الذي قبله، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة وقد حاضت وهي تبكي، فقال لها: (أهلي بالحج، ثم حجي واصنعي ما يصنع الحاج) أي: أنها تُدخل الحج على العمرة، وتفعل جميع ما يفعل الحاج، قال: (غير ألّا تطوفي بالبيت، ولا تصلي)، ومعلوم أن المرأة الحائض لا تصلي، وقد جاء ذلك في حديث عائشة المعروف عندما سئلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت عائشة: (كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة) ومعنى ذلك: أننا نتبع السنن، ونعول على ما جاءنا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن يقال أيضاً: إن المقصود بهذه الصلاة التي تكون بعد الطواف، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يطوف يصلي ركعتين، ومعلوم أن الحائض لا تصلي مطلقاً سواء أكانت الصلاة فرضاً أو نفلاً، كما أنها لا تصوم إلا أنها تقضي الصوم، وأما الصلاة فلا تقضيها، وسبق أن مر الكلام عن طهر عائشة متى كان، وقد مر بنا حديثان أحدهما: أنها لما كانت ليلة الحصبة طهرت، فأمرها بالذهاب إلى التنعيم فاعتمرت، وفي رواية سابقة: (فلما كانت ليلة البطحاء طهرت)، وقد حصل إشكال في ذلك، ولكن جاء التصريح أن عائشة رضي الله عنها إنما طهرت يوم النحر، فقد جاء في صحيح مسلم: (فلما كان يوم النحر طهرت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فأفضت)، فقد طافت وأفاضت يوم النحر، وعلى هذا فالروايات التي سبق ذكرها محمولة على الحال كما سبق أن أشرنا إلى ذلك فيما يتعلق بليلة الرابع عشر، (فلما كانت ليلة الحصبة وقد طهرت) أي: والحال أنني قد طهرت، وليس معنى ذلك أنها طهرت في ذلك الوقت، بل قد طهرت قبل ذلك، وعلى هذا فالذي جاء في صحيح مسلم أنها طهرت يوم النحر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها فأفاضت، فيه بيان الوقت الذي طهرت فيه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، فعلى هذا كانت في اليوم الثامن بمنى وعليها الحيض، وفي يوم عرفة وعليها الحيض، وفي ليلة النحر وعليها الحيض، وطهرت يوم النحر وطافت، فيحمل ما سبق على ما ذكرناه.
وما جاء من أمر النبي صلى الله عليه وسلم لها أن تنقض رأسها وتغتسل فذلك للإحرام؛ لأن الحيض لم ينته إلا يوم النحر، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تدخل الحج على العمرة عندما ذهب الناس إلى الحج، فقد جاء وقت الحج وهي لم تطهر بعد، فأمرها أن تدخل الحج على العمرة وتكون قارنة.(213/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أهلي بالحج ثم حجي واصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت ولا تصلي)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المشهور أحد أصحاب المذاهب المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديث أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يحيى بن سعيد].
يحيى بن سعيد القطان البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني أبو الزبير].
أبو الزبير هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمع جابراً].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(213/4)
شرح حديث: (يا رسول الله! أرأيت متعتنا هذه ألعامنا هذا أم للأبد؟
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد أخبرني أبي حدثني الأوزاعي حدثني من سمع عطاء بن أبي رباح قال حدثني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحج خالصاً لا يخالطه شيء، فقدمنا مكة لأربع ليال خلون من ذي الحجة، فطفنا وسعينا، ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نحل، وقال: لولا هديي لحللت، ثم قام سراقة بن مالك رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! أرأيت متعتنا هذه ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بل هي للأبد) قال الأوزاعي: سمعت عطاء بن أبي رباح يحدث بهذا فلم أحفظه حتى لقيت ابن جريج فأثبته لي].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه أنهم خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يهلون بالحج خالصاً لا يخالطه شيء.
يعني: ليس معه عمرة، وهذا إنما حصل من بعض الصحابة رضي الله عنهم، فقد كان فيهم القارن، وفيهم المفرد، وفيهم المتمتع، فكان هذا في حق من كان مفرداً؛ فإنه لم يكن معه عمرة، وإنما هو حج مفرد، فلما طافوا بالبيت، وسعوا بين الصفا والمروة أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوا ذلك عمرة، وأن يحلوا، أي: أن كل من كان قارناً أو مفرداً وليس معه هدي فإنه يفسخ إحرامه إلى عمرة، ويكون بذلك متمتعاً، وأما من كان قارناً أو مفرداً ومعه الهدي فإنه لا يحل من إحرامه حتى يأتي يوم النحر فيتحلل؛ لأن القارن والمفرد لا يتحللان قبل يوم النحر، وأما المعتمر فإنه يتحلل قبل ذلك، ويأتي بالعمرة مستقلة، ثم يحرم بالحج في اليوم الثامن، ويأتي بالحج مستقلاً، ففي هذا الحديث أن من الصحابة من كان حاجاً حجاً مفرداً لا يخالطه شيء من نسك العمرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم لما طافوا وسعوا أن يتحللوا.
قوله: (لولا هديي لحللت) يعني: لولا أني سقت الهدي لكنت مثلكم، ولكنكم لم تسوقوا الهدي فعليكم أن تحلوا، وأنا قد سقت الهدي فلا يقع مني الإحلال {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]، وذلك يوم النحر كما سبق أن عرفنا ذلك.
قوله: (فقام سراقة بن مالك بن جعشم رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! أرأيت متعتنا هذه ألعامنا هذا أم للأبد؟) يعني: هل هي خاصة بهذه السنة، فيفسخ الحج إلى العمرة، (أم أنها للأبد) أي: مستمرة ودائمة، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنها مستمرة ودائمة، وليست خاصة بهم.(213/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (يا رسول الله! أرأيت متعتنا هذه ألعامنا هذا أم للأبد؟
قوله: [حدثنا عباس بن وليد بن مزيد].
عباس بن الوليد بن مزيد صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرني أبي].
وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثني الأوزاعي].
الأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني من سمع عطاء].
أبهمه هنا، ولكنه بعد ذلك ذكر أن ابن جريج ثبته به، أي: لم يحفظ الخبر ولم يتقنه، فثبته له ابن جريج كما ذكر ذلك فيما بعد.
وعطاء بن أبي رباح ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله مر ذكره.
[ثم قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يحدث بهذا فلم أحفظه حتى لقيت ابن جريج فأثبته لي].
أي: عرف منه ذلك الذي خفي عليه، فلعله كان بعيداً منه في المجلس، فأحياناً يكون المجلس كبيراً، فلا يُسمع صوت الشيخ كما ينبغي، فبعض الناس يبلغه الصوت، وبعضهم لا يبلغه، وقد يكون هناك عارض آخر من العوارض التي شغلته عن ضبط الحديث في حينه.
[قال: فلقيت ابن جريج فأثبته لي] وعلى هذا فيكون من طريق ابن جريج عن عطاء.(213/6)
شرح حديث: (اجعلوها عمرة إلا من كان معه الهدي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح عن جابر رضي الله عنه أنه قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأربع ليال خلون من ذي الحجة، فلما طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: اجعلوها عمرة إلا من كان معه الهدي، فلما كان يوم التروية أهلوا بالحج، فلما كان يوم النحر قدموا فطافوا بالبيت ولم يطوفوا بين الصفا والمروة)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه من طريق أخرى، وفيه أنهم حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما طافوا وسعوا قال لهم: (اجعلوها عمرة) يعني: الذين لم يسوقوا الهدي، وأما الذين ساقوا الهدي فيبقون على إحرامهم.
قوله: (فلما كان يوم النحر قدموا فطافوا بالبيت، ولم يطوفوا بين الصفا والمروة) والمقصود بذلك الذين كانوا قارنين ومفردين، وأما المتمتعون فقد جاء ما يدل على أنهم وقع منهم السعي كما وقع منهم السعي في الأول، وذلك في حديث عائشة المتقدم الذي فيه: أن الذين لم يسوقوا الهدي، والذين أحلوا طافوا طوافاً آخر بعد الإفاضة لحجهم، والمقصود بالطواف هنا السعي بين الصفا والمروة كما عرفنا ذلك سابقاًَ؛ لأن طواف الإفاضة ركن لازم في حق الجميع، فبعدما يأتي الناس من عرفة يلزمهم كلهم أن يطوفوا بالبيت كما قال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، وأما الشيء الذي لا يلزمهم جميعاً فهو السعي بين الصفا والمروة، فإن هذا يكون للمعتمرين المتمتعين دون القارنين والمفردين، إلا إذا كان القارنون أو المفردون لم يسعوا بين الصفا والمروة قبل الحج فيتعين عليهم أن يسعوا بعد طواف الإفاضة، فقد سبق أن عرفنا أن السعي للقارن والمفرد واحد، وأن له محلين: محل بعد القدوم، ومحل بعد الإفاضة، فإن فعله في المحل الأول فلا يفعله في المحل الثاني، وإن لم يفعله في المحل الأول تعين عليه أن يفعله في المحل الثاني، وأما المفرد المتمتع فإن عمرته مستقلة بإحرامها وبطوافها وسعيها وتحللها، والحج مستقل بإحرامه وطوافه وسعيه وتحلله، فيحمل حديث جابر على القارنين والمفردين، وبذلك تجتمع الأدلة.(213/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (اجعلوها عمرة إلا من كان معه الهدي)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن قيس بن سعد].
قيس بن سعد وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عطاء بن أبي رباح عن جابر].
عطاء وجابر مر ذكرهما.(213/8)
شرح حديث: (لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الوهاب الثقفي حدثنا حبيب -يعني: المعلم - عن عطاء حدثني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أهل هو وأصحابه بالحج، وليس مع أحد منهم يومئذ هدي إلا النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة، وكان علي رضي الله عنه قدم من اليمن ومعه الهدي فقال: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة، يطوفوا ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي، فقالوا: أننطلق إلى منى وذكورنا تقطر؟! فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هو وأصحابه بالحج) وهذا الحديث يدل على الإفراد، ولكن الأحاديث الكثيرة التي جاءت عن ستة عشر صحابياً فيها أنه صلى الله عليه وسلم كان قارناً، وعرفنا سابقاً أن هذا يحمل على وجوه، منها: أن بعض الصحابة سمعه يلبي بالحج، ولم يسمع التلبية بالعمرة، فظن أنه أحرم بالحج، وفسر أيضاً بأنه أهل بالحج، وأنه أتى بأعماله خاصة، من طواف وسعي، وأن العمرة جاءت تبعاً؛ لأن خروجهم كان للحج، أما وجود العمرة وعدمها فالرسول صلى الله عليه وسلم كان معه عمرة مع حجه، وغيره كان مفرداً أو محرماً بعمرة فقط، وبهذا يوفق بين الأحاديث، وتفسر على وجه يتفق مع ما جاء عن جماعة من الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم كان قارناً ولم يكن متمتعاً ولا مفرداً.
وذكر هنا أنه كان معه الهدي، ومعلوم أن الهدي يكون مع الحاج القارن ويكون مع الحاج المفرد، وكذلك المعتمر إذا جاء ومعه هدي فإنه يدخل الحج على العمرة، فيصير قارناً لا يحل إلا يوم النحر، وقد أخبر هنا أن الهدي لم يكن إلا مع الرسول صلى الله عليه وسلم وطلحة، وهذا على حسب علمه، وجاء علي رضي الله عنه من اليمن وأهل بما أهل به رسول الله عليه الصلاة والسلام، أي: أنه أهل إهلالاً معلقاً؛ لأنه يريد أن يكون مثل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: (أهللت بما أهل به رسول الله عليه الصلاة والسلام).
قوله: [(وإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة يطوفوا ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي)] أي: لما وصلوا إلى مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين كانوا قارنين ومفردين وليس معهم هدي أن يطوفوا ويسعوا ويحلوا، وأما الذين معهم هدي فإنهم يبقون، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم منهم فبقى، فلما قال لهم ذلك، كأنهم تأثروا من أن يكون حالهم يخالف حال الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنهم جاءوا محرمين بما أحرم به الرسول صلى الله عليه وسلم من القران أو الإفراد، فالرسول صلى الله عليه وسلم أحرم بالقران، وأما هم ففيهم من كان قارناً، وفيهم من كان مفرداً، فأُمر القارنون والمفردون الذين ليس معهم هدي أن يتحولوا إلى عمرة، وقال لهم عليه الصلاة والسلام: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولولا أن معي الهدي لأحللت، ولجعلتها عمرة) وهذا يبين لنا فضل التمتع، وأنه أفضل الأنساك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تمناه، وهو لا يتمنى إلا الأفضل، ولا يرشد أصحابه إلا إلّا إلى الأفضل، ولو كان غيره أفضل منه لأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إليه؛ لأنه أنصح الناس للناس صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: (قالوا: أننطلق إلى منى وذكورنا تقطر؟!) وهذه مبالغه، ومعنى ذلك: أننا نترفه ونستمتع بالنساء، فيأتي يوم التروية الذي نحرم فيه ونحن حديثو عهد بالاستمتاع بالنساء، فنذهب إلى منى وقد استمتعنا واغتسلنا، فهو مبالغه في أنهم يدخلون الحج وقد استمتعوا بأنواع الاستمتاع لاسيما إتيان النساء.
قوله: (وقدم علي من اليمن وقال: أهللتُ بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما جاء علم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي، فأهل مثل إهلاله، ومعنى ذلك أنه سيبقى على إحرامه حتى يأتي يوم النحر.(213/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن حنبل مر ذكره.
[حدثنا عبد الوهاب الثقفي].
عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حبيب يعني: المعلم].
حبيب المعلم صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء حدثني جابر].
عطاء وجابر مر ذكرهما.(213/10)
شرح حديث: (هذه عمرة استمتعنا بها، فمن لم يكن عنده هدي فليحل الحل كله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة أن محمد بن جعفر حدثهم عن شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (هذه عمرة استمتعنا بها، فمن لم يكن عنده هدي فليحل الحلَّ كله، وقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة).
قال أبو داود: هذا منكر، إنما هو قول ابن عباس].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم مكة قال: (هذه عمرة استمتعنا بها)، والمقصود من ذلك أصحابه الذين لم يكن معهم هدي سواء كانوا قارنين أو مفردين وليس هو، فاستمتاعهم كان بأمره؛ لذلك أضاف ذلك إليه؛ لأنه هو الآمر به، وهو المرشد إليه، وإلا فإنه لم يستمتع، بل كانت عمرته مع حجته، وهو باقٍ على إحرامه حتى يوم النحر.
قوله: (فمن لم يكن معه هدي فليحل الحل كله) أي: أنه يفسخ إحرامه إلى عمرة، ويكون متمتعاً، فيحصل له هذا الاستمتاع الذي قال فيه: (هذه عمرة استمتعنا بها)، والمراد بذلك أصحابه الذين كانوا على هذا الوصف، فكانوا قارنين ومفردين ولا هدي معهم، فهولاء هم الذين استمتعوا، وأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه لم يستمتع، وقد يكون مستمتعاً على اعتبار أن معه عمرة مقرونة بالحج، فيقال له: تمتُّع بالمعنى العام، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان متمتعاً بالمعنى العام، وهو جمْع النسكين في سفرة واحدة، فهذا استمتاع في الجملة، وأما الاستمتاع الكامل فهو الذي يكون فيه عمرة مستقلة وحج مستقل، وبينهما يأتي النساء، ويتطيب، ويلبس المخيط وغير ذلك، والقران يقال له: متعة، ويقال له: تمتع بالمعنى العام، وقد فسر أهل العلم قول الله عز وجل: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196] أنه يشمل التمتع الخاص المعروف عند الفقهاء، الذي هو قسيم للقران والإفراد، ويشمل القران أيضاً؛ لأنه تمتع بالمعنى العام، فكون الإنسان يسافر سفراً واحداً فيؤدي فيه نسكه فهذا تمتع، فبدلاً من أن يسافر للعمرة سفراً ويسافر للحج سفراً؛ فإنه يسافر سفراً واحداً ويؤدي فيه النسكين، فهذا تمتع بالمعنى العام.
إذاً: النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يستمتع الاستمتاع الذي فيه إتيان النساء، ولبس الثياب، والتطيُّب بين العمرة والحج، وإنما هذا في المتمتعين الذين أحرموا بعمرة وانتهوا منها، أو كانوا محرمين بحج وعمرة وفسخوا إحرامهم إلى العمرة فكانوا متمتعين، وأما من كان مفرداً أو قارناً ومعه الهدي، فهذا باقٍ على إحرامه، ومنهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان قارناً ولم يكن مفرداً.
قوله: (وقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) أي: إما أن تكون دخلت في أعماله، وهذا يكون في القران، وإما في وقته، وهذا هو التمتع؛ لأنه في وقت الحج، قال الله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، فالإنسان إذا أحرم بالعمرة في أشهر الحج وحج من عامه فإن العمرة تكون قد حصلت في أشهر الحج، وليس في ذلك ما يدل على وجوب التمتع؛ لأن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يفردون، ولو كان التمتع واجباً ما تركوه وعدلوا عنه، فلما كانوا يأتون بالإفراد، ويريدون من الناس أن يترددوا على البيت، وتقوى صلتهم به؛ علمنا أن التمتع ليس واجباً، وإنما هو مستحب، وهو أفضل الأنساك وأولاها.
[قال أبو داود: هذا منكر، إنما هو قول ابن عباس].
وهذا ليس بواضح، فـ ابن القيم رحمة الله عليه يقول: إن قوله: (من طاف بالبيت، وسعى بين الصفا فقد حل) هذا الذي هو قول ابن عباس، وأما قوله: (استمتعنا بها) فهو ثابت من هذه الطريق الصحيحة التي رجالها ثقات، وكذلك من طريق أخرى غير هذه الطريق.(213/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (هذه عمرة استمتعنا بها فمن لم يكن عنده هدي فليحل الحل كله)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي، وإنما أخرج النسائي في عمل اليوم والليلة.
[أن محمد بن جعفر حدثهم].
محمد بن جعفر هو الملقب غندر، وهو بصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحكم].
الحكم بن عتيبة الكندي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجاهد].
مجاهد بن جبر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأحد العبادله الأربعة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(213/12)
شرح حديث: (إذا أهل الرجل بالحج ثم قدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل، وهي عمرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثني أبي حدثنا النهاس عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا أهل الرجل بالحج، ثم قدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل، وهي عمرة).
قال أبو داود: رواه ابن جريج عن رجل عن عطاء: (دخل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهلين بالحج خالصاً، فجعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمرة)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله عنه أنالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من طاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل)، قال ابن القيم: وهذا هو المنكر، ولعله حصل خطأ من بعض النساخ، فتحول من حديث إلى حديث؛ لأن الحديث السابق رجاله كلهم ثقات، وأما هذا ففيه كلام من حيث رفعه، وأما كونه من قول ابن عباس فهذا معروف عنه.
قوله: (فقد حل وهي عمرة) هذا هو الذي رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي وقعت فيه نكارة، وأما كونه من قول ابن عباس فهذا معروف ومشهور عنه، وكان يقول: حلَّ من طاف بالبيت شاء أم أبى، فقد كان يرى وجوب الفسخ، وأن الإنسان إذا لم يكن معه هدي فإنه يلزمه ذلك.
[قال أبو داود: رواه ابن جريج عن رجل عن عطاء: (دخل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج خالصاً، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم عمرة)].
وهذا مثل الذي مرَّ في الحديث السابق التي فيها: عثمان بن أبي شيبة عن محمد بن جعفر عن شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس، ورجاله ثقات، وأما المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو الذي فيه نكارة، فيكون كما قال ابن القيم: لعله وقع خطأ من الناسخ فانتقل من حديث إلى حديث.(213/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا أهل الرجل بالحج ثم قدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل، وهي عمرة)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن معاذ].
عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثني أبي].
أبوه هو معاذ بن معاذ ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا النهاس].
النهاس هو ابن قهم القيسي ضعيف، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن عطاء عن ابن عباس].
عطاء وابن عباس مر ذكرهما.(213/14)
شرح حديث: (أهل النبي صلى الله عليه وسلم بالحج، فلما قدم طاف بالبيت وبين الصفا والمروة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن شوكر وأحمد بن منيع قالا: حدثنا هشيم عن يزيد بن أبي زياد، قال ابن منيع: أخبرنا يزيد بن أبي زياد المعنى، عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (أهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحج فلما قدم طاف بالبيت وبين الصفا والمروة).
وقال ابن شوكر: (ولم يقصر، ثم اتفقا، ولم يحل من أجل الهدي، وأمر من لم يكن ساق الهدي أن يطوف وأن يسعى ويقصر، ثم يحل)، زاد ابن منيع في حديثه: (أو يحلق ثم يحل)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحج)، يعني: بالحج مع العمرة، وقد عرفنا أن هذا مما أورد في باب الإفراد، وأن هذا اللفظ يشعر بأنه كان مفرداً مع أنه ليس بمفرد، وقد عرفنا الجواب عن ذلك.
قوله: (فلما طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة) أي: وهو باقٍ على إحرامه، ولم يقصر كما قصر الذين كانوا معتمرين، أو الذين فسخوا حجهم إلى عمرة؛ لأنهم لم يسوقوا الهدي، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يقصر؛ لأنه باق على إحرامه، بل بقي على إحرامه إلى يوم النحر.
قوله: (ولم يحل من أجل الهدي) أي: لم يحل عند المروة بعد أن انتهى من الطواف والسعي، لأنه ساق الهدي، وأما الذين لم يسوقوا الهدي فأحلوا، سواء كانوا في الأصل محرمين بالعمرة أو أنهم فسخوا الحج، وسواء كانوا قارنين أو مفردين.
قوله: (وأمر من لم يكن ساق الهدي أن يطوف وأن يسعي ويقص أو يحلق ثم يحل) ذكر هنا التقصير والحلق، والمشهور التقصير في هذا الموطن؛ لأنهم قدموا في يوم رابع، ولم يبق على الحج إلا أربعة أيام، ولم يبق على يوم العيد إلا ستة أيام، وسيحتاجون إلى أن يحلقوا يوم العيد، فالأفضل والأولى في حق من جاء متأخراً وهو متمتع أن يقصر ولا يحلق، حتى يبقى شعر يحلقه يوم العيد، ولو حلقه في وقت متأخر فسيأتي يوم العيد وليس هناك شعر، لكن إذا كان سيقصر في وقت متقدم بحيث يأتي الحج وقد طلع الشعر لوجود مدة كافية لطلوعه فالحق هو الأولى، وأما إذا كان متأخراً فالأولى هو التقصير؛ حتى يبقي شعراً يُحلق يوم النحر.(213/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (أهل النبي صلى الله عليه وسلم بالحج، فلما قدم طاف بالبيت وبين الصفا والمروة)
قوله: [حدثنا الحسن بن شوكر].
الحسن بن شوكر صدوق، أخرج له أبو داود.
[وأحمد بن منيع].
أحمد بن منيع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشيم].
هشيم بن بشير الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن أبي زياد].
يزيد بن أبي زياد ضعيف، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن مجاهد عن ابن عباس].
مجاهد وابن عباس مر ذكرهما.
وهذه المعاني التي في هذا الحديث قد جاءت من غير طريق يزيد بن أبي زياد، فالحديث ثابت، وليس فيه شيء منكر.(213/16)
شرح حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن العمرة قبل الحج)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني حيوة أخبرني أبو عيسى الخراساني عن عبد الله بن القاسم عن سعيد بن المسيب أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فشهد عنده: (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي قبض فيه ينهى عن العمرة قبل الحج)].
أورد المؤلف حديث الرجل الذي شهد عند عمر رضي الله عنه: (أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه ينهى عن العمرة قبل الحج)، ومعلوم أن العمرة قبل الحج ثابتة بالأحاديث الكثيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم اعتمر قبل الحج، وعُمَرهُ كانت قبل أن يحج، فقد اعتمر ثلاث عمر قبل الحج، واعتمر مع حجته الذي قرنها معها، بل إن الذين كانوا معه وكانوا قارنين ومفردين وليس معهم هدي أمرهم أن يفسخوا إحرامهم إلى العمرة، فيكونون متمتعين، فعلى هذا فهذا المعنى لا يستقيم ولا يصح، ولا تعارَض بمثل هذه الأحاديث الأحاديثَ الأخرى؛ اللهم إلا أن يكون المقصود من ذلك أنّ الإنسان يأتي بالحج أولاً، فهذا له وجه، ولكن لا مانع أن يعتمر الإنسان ولو لم يحج، ولا يعول على هذا الحديث الذي فيه أنه إذا لم يكن قد حج فلا يعتمر، بل يحج أولاً ثم يعتمر، ولو أراد أن يعتمر قبل ذلك فليس له ذلك، فهذا ليس بصحيح، بل إذا تيسر له أن يعتمر فليعتمر ولو لم يحج، وإذا تيسر له الحج فليحج، والعمرة واجبة والحج واجب، ومتى استطاع الإنسان أن يؤدي واجباً من الواجبات المكلَّف بها سواء كان حجاً أو عمره فعل وبادر، وعلى هذا: فهذا الحديث لا يحتج به؛ لأن فيه من لا يصلح للاحتجاج به، وفيه أيضاً انقطاع بين سعيد بن المسيب وعمر، فإن سعيداً لم يسمع من عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه.(213/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن العمرة قبل الحج)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عبد الله بن وهب].
عبد الله بن وهب ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني حيوة].
حيوه بن شريح المصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني أبو عيسى الخراساني].
أبو عيسى الخراساني هو سليمان بن كيسان مقبول لا يحتج بحديثه إلا عند الاعتضاد، أخرج له أبو داود وحده.
[عن عبد الله بن القاسم].
عبد الله بن القاسم مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
إذاً: ففي هذا الحديث ثلاث علل، فيه مقبولان وانقطاع، فلا تُعارَض به تلك الأحاديث، فالعمرة سائغة قبل الحج وبعد الحج، ويمكن للإنسان أن يعتمر قبل أن يحج، وأن يحج قبل أن يعتمر، ولكنه إذا جاء إلى الحج فينبغي له أن يأتي بالعمرة، وأن يكون متمتعاً فهذا هو الأفضل، وإن قرنها مع الحج فلا بأس بذلك، ويكون قد أدى بذلك النسكين.(213/18)
شرح حديث: (هل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُقرن بين الحج والعمرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى أبو سلمة حدثنا حماد عن قتادة عن أبي شيخ الهنائي خيوان بن خلدة -ممن قرأ على أبي موسى الأشعري رضي الله عنه من أهل البصرة- أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن كذا وكذا وعن ركوب جلود النمور؟ قالوا: نعم، قال: فتعلمون أنه نهى أن يُقرن بين الحج والعمرة؟ فقالوا: أما هذا فلا، فقال: أما إنها معهن، ولكنكم نسيتم)].
أورد أبو داود حديث معاوية رضي الله عنه أنه قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن كذا وكذا وعن ركوب جلود النمور؟) يعني: جلود السباع، فيستعملها الإنسان للركوب عليها، أو وطاء يجلس عليها، (فقالوا: نعم) أي: أنهم وافقوه على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.
قوله: (فتعلمون أنه نهى أن يقرن بين الحج والعمرة؟ فقالوا: أما هذا فلا) أي: لا نعلم أنه نهى عن القران بينهما، بل هو نفسه قرن بين الحج والعمرة عليه الصلاة والسلام، وهناك من أصحابه من قرن، وأنواع الحج الثلاثة كلها جاءت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الإفراد والقران والتمتع.
(قالوا: أما هذا فلا) أي: ليس عندنا علم بذلك، (قال: أما إنها معهم ولكنكم نسيتم)، والحديث إسناده صحيح، ولكن هذا الجملة ليست بصحيحة، يقول ابن القيم رحمه الله: لعله حصل وهم؛ لأنه جاء في سنن النسائي.
(هل تعلمون أنه نهى عن المتعة؟ فقالوا: لا)، قال: ولكون القران هو متعة بالمعنى العام فربما حصلت رواية بالمعنى، أو أنه فهم أن المراد بالمتعة القران، فعبر بالقران وهذا وهم، فإما أن يكون اللفظ جاء بالمتعة أو أنه جاء بالقران، وتكون رواية القران رواية بالمعنى، والمقصود بالمتعة التي نهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم هي متعة النساء، وأما متعة الحج فقد كانت موجودة، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من كان منهم قارناً أو مفرداً إلى أن يفعلوها.(213/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (هل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُقرن بين الحج والعمرة)
قوله: [حدثنا موسى أبو سلمة حدثنا حماد].
موسى بن إسماعيل أبو سلمة وحماد مر ذكرهما.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي شيخ الهنائي خيوان بن خلدة].
أبو شيخ الهنائي خيوان بن خلدة، في (التقريب) و (التهذيب) و (تهذيب الكمال) و (تحفة الأشراف): ابن خالد) فلعل اسم أبيه خالد، ويلقب بـ خلدة، ولعله يذكر مرة باسمه، ومرة بلقبه، فهذا أمر محتمل، وهذا يحصل في بعض الرواة، يكون له اسم ولقب، ويكون اللقب مأخوذاً من الاسم، فأحياناً يذكر بالاسم وأحياناً يذكر باللقب، مثل: هدبة بن خالد وهداب بن خالد شيخ البخاري ومسلم، فيقال: هداب، ويقال: هدبة، فأحدهما اسم والثاني لقب، فاسمه هدبة، ولقبه هداب، ونجد البخاري لا يذكره إلا بلفظ هدبة، وأما مسلم فكثيراً ما يذكره بلفظ هداب، فلعل خلدة وخالداً من جنس هدبة وهداب، وذلك من جهة أن اللقب مأخوذ من الاسم، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
قوله: [ممن قرأ على أبي موسى الأشعري من أهل البصرة].
هذا بيان وتعريف به، وأنه ممن قرأ القرآن أو غيره على أبي موسى الأشعري في البصرة.
[عن معاوية بن أبي سفيان].
معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين رضي الله تعالى وأرضاه، وقد مكث في الولاية أربعين سنة: عشرين سنة أميراً، وعشرين سنة خليفة، رضي الله عنه وأرضاه، وحديثة أخرجه أصحاب الكتب الستة.(213/20)
شرح سنن أبي داود [214]
مناسك الحج ثلاثة: إفراد وتمتع وقران، وقد اختلف الفقهاء في الأفضل منها، وقد بين الفقهاء أحكام كل منها، وما يتعلق بكل نسك منها من تفريعات ومسائل، وكل ذلك مستنبط من الكتاب والسنة وما أثر عن السلف.(214/1)
الإقران(214/2)
شرح حديث: (سمعت رسول الله يلبي بالحج والعمرة جميعاً)
قال المصنف رحمة الله تعالى: [باب في الإقران.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق وعبد العزيز بن صهيب وحميد الطويل عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنهم سمعوه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعاً يقول: (لبيك عمرة وحجاً، لبيك عمرة وحجاً)].
أورد أبو داود باب: الإقران، والإقران هو القران، وأكثر ما يقال: القران، وهنا قال: الإقران، واسم الفاعل منه: مقرِن، ولكن الأكثر في الاستعمال: القران والقارن، والقارن هو الذي يجمع بين الحج والعمرة، أي: يقرن بينهما.
وقد عرفنا فيما مضى أن القران هو أن يحرم بالحج والعمرة من الميقات، وأن يستمر على إحرامه حتى يوم النحر، فهذا هو القران، فقد قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين الحج والعمرة وصارت أعمالهما واحدة: الطواف للحج والعمرة، والسعي للحج والعمرة، فلا يتميز طواف هذا من هذا، والقارن عليه هدي كما أن المتمتع عليه هدي، وأما المفرد فلا هدي عليه.
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلبي بالحج والعمرة ويقول: (لبيك عمرة وحجاً) أي: أنه يلبي بهما، وهذا هو الواضح في حجه صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعضهم ذكر أنه أهل بالحج فقط، لكن هنا ذكر الراوي أنه كان يقول: (لبيك عمرة وحجاً) فمعنى ذلك أنه جمع وقرن بينهما، فهذا دليل واضح على القران.(214/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (سمعت رسول الله يلبي بالحج والعمرة جميعاً)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق].
يحيى بن أبي إسحاق صدوق ربما أخطأ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعبد العزيز بن صهيب].
عبد العزيز بن صهيب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حميد الطويل].
حميد بن أبي حميد الطويل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(214/4)
شرح حديث أنس: (أن النبي بات بذي الحليفة حتى أصبح، ثم ركب حتى إذا استوت به على البيداء حمد الله وسبح وكبر، ثم أهل بحج وعمرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بات بها -يعني: بذي الحليفة- حتى أصبح، ثم ركب حتى إذا استوت به على البيداء حمد الله وسبح وكبر، ثم أهلَّ بحج وعمرة، وأهلَّ الناس بهما، فلما قدمنا أمر الناس فحلوا، حتى إذا كان يوم التروية أهلُّوا بالحج، ونحر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبع بدنات بيده قياماً).
قال أبو داود: الذي تفرد به -يعني: أنساً - من هذا الحديث أنه بدأ بالحمد والتسبيح والتكبير، ثم أهل بالحج].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها -يعني بذي الحليفة-) وهذا فيه اختصار؛ لأنه إنما ركب بعد صلاة الظهر، فقد صلى بها الظهر، ولم يمش فيها في الصباح، وقد جاء في بعض الروايات: (أنه صلى الظهر وأحرم بعد صلاته صلى الله عليه وسلم).
قوله: (حتى إذا استوت به على البيداء حمد الله، وسبح وكبر، ثم أهل بحج وعمره)، وسبق أن عرفنا أنه أهل من المسجد بعد الصلاة، أو حين انبعثت به ناقته، وجاء في بعض الروايات: (أنه أهل عندما كان على البيداء)، وعرفنا أن وجه الجمع هو ما جاء في حديث ابن عباس الذي سبق معنا، وهو: أن الناس كانوا كثيرين، فكانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسالاً، فمنهم من سمعها في المسجد، ومنهم من سمعها عند الانبعاث، ومنهم من لم يسمع إلّا في البيداء، وكلٌّ أخبر عما سمع، ويكون حصول ذلك منه في البيداء إنما هو إعادة، أو أن البيداء على طرف ذي الحليفة الذي هو قريب من البيداء كما سبق أن عرفنا ذلك.
قوله: (وحمد وهلل وكبر) أي: لبى بالحج والعمرة.
قوله: (وأهل الناس بهما) يعني: بعض الناس وليس كلهم؛ لأن بعض الناس لم يكن قارناً، فقد كان فيهم المفرد، وفيهم المتمتع، وأمهات المؤمنين كلهن كنّ متمتعات.
وقوله: (أهل الناس) أي: أهل بعض الناس بهما معاً كما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقصود -كما قلنا- بعض الناس وليس كلهم، فهذا من العام الذي أريد به الخصوص، وليس من العام الباقي على عمومه.
قوله: (أمر الناس فحلوا) أي: الذين لم يسوقوا الهدي من القارنين أو المفردين، وأما الذين كانوا معتمرين فإنهم إذا طافوا بالبيت وسعوا وقصروا تحللوا، وأما القارنون والمفردون فقد أمروا أن يطوفوا ويسعوا، ويكون ذلك عمرة.
(حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج) أي: أن الذين تحللوا أحرموا بالحج من الأبطح من منى، وهو المنزل الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم نازلاً فيه، فأحرموا من الأبطح، ثم ذهبوا إلى منى وهم محرمون، وصلوا بها الظهر في اليوم الثامن.
قوله: (ونحر النبي صلى الله عليه وسلم سبع بدنات بيده قياماً) يعني: هذا من جمله ما نحر، وإلا فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بيده ثلاثاً وستين، وأمر علياً أن ينحر ما غبر، أي: ما بقي.
[قال أبو داود: الذي تفرد به -يعني: أنساً - من هذا الحديث: أنه بدأ بالحمد والتسبيح والتكبير، ثم أهل بالحج].
قال أبو داود: الذي تفرد به أنس -يعني: من هذا الحديث- هو: التسبيح والتكبير والتحميد ثم أهل بالحج، ومادام أن التسبيح والتحميد ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فينبغي على الإنسان أن يفعله، وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه، وبوب له باباً.(214/5)
تراجم رجال إسناد حديث أنس: (أن النبي بات بذي الحليفة حتى أصبح، ثم ركب حتى إذا استوت به على البيداء حمد الله وسبح وكبر، ثم أهل بحج وعمرة)
قوله: [حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب].
وهيب هو ابن خالد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أيوب].
أيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قلابة].
أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس رضي الله عنه مر ذكره.(214/6)
شرح حديث علي: (أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن معين حدثنا حجاج حدثنا يونس عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أنه قال: (كنت مع علي حين أمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على اليمن، قال: فأصبت معه أواقي، فلما قدم علي رضي الله عنه من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وجدت فاطمة رضي الله عنها قد لبست ثياباً صبيغاً، وقد نضحت البيت بنضوح، فقالت: ما لك؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر أصحابة فأحلوا، قال: قلت لها: إني أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي: كيف صنعت؟ فقال: قلت: أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فإني قد سقت الهدي وقرنت، قال: فقال لي: انحر من البدن سبعاً وستين أو ستاً وستين، وأمسك لنفسك ثلاثاً وثلاثين، أو أربعاً وثلاثين، وأمسك لي من كل بدنة منها بضعة)].
أورد أبو داود حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أنه كان مع علي رضي الله عنه لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم على اليمن، وقدم في حجة الوداع، وكان أهلّ بإهلال الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه هدي، ولما قدم وجد فاطمة رضي الله عنها قد أحلت، ولبست ثياباً صبيغة، ونضحت البيت بنضوح، أي: أنها قد تحللت، والمتحلل يحل له كل شيء، فقال: إني أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وأخبره، وقال: إني سقت الهدي، فأمره أن يبقى على إحرامه؛ لأنه قد ساق الهدي، وقد أهل بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له.
(انحر من البدن سبعاً وستين أو ستاً وستين، وأمسك لنفسك ثلاثاً وثلاثين)، وقد ورد في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بيده ثلاثاً وستين، ونحر علي ما غبر منها) أي: ما بقي، فما في الصحيح أصح وأرجح مما جاء في هذا الحديث.(214/7)
تراجم رجال إسناد حديث علي: (أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم)
قوله: [حدثنا يحيى بن معين].
يحيى بن معين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حجاج].
حجاج بن محمد المصيصي الأعور وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يونس عن أبي إسحاق].
يونس بن أبي إسحاق وهو صدوق يهم قليلاً، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.(214/8)
الأسئلة(214/9)
أخوة أهل البدع
السؤال
هل يصح أن نقول عن أصحاب البدع غير المكفرة: إنهم إخوان لنا في الإسلام؟
الجواب
نعم، فالمسلمون إخوة كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، فمن كان مسلماً فهو أخ لنا في الإسلام ولو كان قد ارتكب بعض المعاصي والبدع غير المكفرة، وإنما تكون الأخوة منتفية بين المسلمين وبين الكفار، ولشيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه مقال قيم منشور في فتاواه، عنوانه: (لا أخوة بين المسلمين والكفار، ولا دين حق إلا الإسلام)، وقد كتبه رداً على بعض الكتاب الذين يكتبون في الصحف، ويقولون عن النصارى: إخواننا النصارى، وغيرها من العبارات التي يذكرها بعض الكتاب، فكتب رحمه الله هذا المقال القيم ردّاً عليهم.(214/10)
استئذان أصحاب الديون من أجل الحج
السؤال
أنا شاب علي ديون في بلدي، وأنا الآن موظف في المدينة، ولدي النية في أداء فريضة الحج، فهل يجوز لي -رغم الديون- أن أحج بمناسبة أني موجود في المدينة؟
الجواب
تستأذن أصحاب الديون وتحج.(214/11)
عدم مشروعية تكرار العمرة من التنعيم
السؤال
أخ يستشكل مسألة العمرة من التنعيم، فيقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر عائشة رضي الله عنها بالعمرة، وهو الذي أقر عائشة على فعل عمرة، ولا يوجد مانع في الإتيان بالعمرتين في سفر واحد؟
الجواب
نعم لا يوجد مانع في حق من كان مثل عائشة، وأما غير ذلك فلا يوجد دليل يدل على مشروعية تكرار العمرة في سفرة واحدة من التنعيم، أما كون الإنسان يأتي من بلده للحج ثم يدخل مكة ويعتمر، ثم يأتي إلى المدينة ثم يذهب إلى مكة ويعتمر، فهذه العمرة الثانية لا بأس بها، وأما كونه يجلس في مكة ويتردد بين مكة والتنعيم ويأتي بخمس عمر أو بثلاث عمر أو بعشر عمر في اليوم؛ فهذا ليس من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، ولو كانت هذه العمرة مشروعه لفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم، أو رغب فيها، وعبد الرحمن أخو عائشة الذي ذهب معها لم يعتمر معها مع أنه قد ذهب معها مرافقاً لها، وإنما اعتمرت هي بعد إلحاح، وكانت جاءت بعمرة مستقلة، والحيض منعها من أن تأتي بها، وأمهات المؤمنين طفن طوافين وسعين سعيين، وهي لم تطف إلا طوافاً واحداً وسعياً واحداً لحجها وعمرتها، فأرادت أن يوجد منها الطوافان والسعيان، فبعد إلحاح أذن لها، فلو كان ذلك مشروعاً لأرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولقال لأصحابه الذين كانوا بالآلاف نازلين في الأبطح وهم ينتظرون عائشة: اذهبوا إلى التنعيم وائتوا بعمرة ما دمتم جالسين، والنبي صلى الله عليه وسلم عُمره كلها كانت وهو داخل إلى مكة، والترغيب إنما هو في عمرة الإنسان الذي يدخل إلى مكة، أما إنسان تحت الكعبة يذهب مسافة كيلو أو أكثر ويرجع ويقول: لبيك عمرة، ومعنى لبيك: دعوتني فأجبتك، فهذا لا يناسب، بل يناسب من أتى بعمرة بسفره من خارج مكة، فمن حصل لها من النساء مثلما حصل لـ عائشة فلها أن تفعل مثلما فعلت عائشة، أما كون الإنسان يقول: العمرة من التنعيم سائغة ومشروعة، ونأتي بعشر عمر أو خمس عمر أو ثلاث عمر؛ فهذا لا يوجد شيء يدل عليه.(214/12)
ميقات أهل مكة
السؤال
هل ميقات أهل مكة التنعيم أم الحرم؟
الجواب
ميقات أهل مكة بالنسبة للحج هو الحرم، فيحرمون من منازلهم، وأما بالنسبة للعمرة فليس التنعيم وحده، بل كل مكان خارج الحرم من الحل من أي جهة كان، سواء كان من جهة عرفة بعد مزدلفة أو غيرها، فحدود الحرم بين عرفة ومزدلفة، فإذا ذهب الإنسان إلى عرفة وأحرم منها فهي من الحل، أو ذهب للتنعيم أو ذهب إلى هنا أو هناك، فالمهم أن يحرم من خارج الحرم.(214/13)
حكم إفطار النفساء
السؤال
إذا أفطرت النفساء في رمضان فهل حكمها كحكم الحائض تقضي الصوم أو أنها تطعم عن كل يوم أفطرت فيه؟
الجواب
الحائض مثل النفساء، وأحكام الحائض والنفساء واحدة، فكل منهما لا تصلي، وكل منهما تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة.(214/14)
تعارض الدراسة مع الحج في الوقت
السؤال
رجل تعارض الحج مع دراسته في هذه السنة فماذا يعمل؟
الجواب
أوقات الحج -كما هو معلوم- قصيرة وقليلة، فلا تتعارض مع الدراسة، فالدراسة تحتاج إلى سنة أو سنوات، والحج كله أيام معدودة، فكيف يكون التعارض؟! فيدرس، حتى إذا قرب وقت الحج استأذن أسبوعاً أو أسبوعين من الدراسة وذهب كي يحج.(214/15)
حكم تعليق نية الإحرام بإحرام الغير
السؤال
هل في فعْل علي رضي الله عنه وقوله: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على جواز أن يعلق المحرم نيته على نية غيره؟
الجواب
الأولى أن يحدد المحرم نوع إحرامه؛ لأن الأحكام مستقرة، ولكن لو أنه علقه بإحرام غيره فإنه يصح، إلّا أن الأولى للإنسان أن يحدد، وأما فعل علي رضي الله عنه فقد كان في وقت التشريع، وهو يريد أن يوافق النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو أن إنساناً أهل بإهلال فلان فإنه يصح الإحرام، ولا يقال: إنه تجاوز الميقات وهو غير محرم.(214/16)
التلبية المبهمة
السؤال
لو أبهم المحرم تلبيته فقال: لبيك اللهم فقط، ولم يذكر حجاً، ولا عمرة، ولم يعلق على نية فلان، فهل يصح؟
الجواب
الإحرام يحتاج إلى تعيين إما بهذا أو بهذا، وبعض الناس يدخل في النسك، وهو لا يدري ما الذي يلزمه فيه، فإذا بيّن له أن هذا أفضل وفعله لا يقال: إنه لم يحرم، بل هو قد أحرم بالنسك، لكنه لم يعينه بسبب كونه جاهلاً، وأما إذا كان عالماً أو عارفاً بالأنساك فليختر الأفضل والأكمل منها، وهو التمتع.(214/17)
كيفية سوق الهدي لمن حج قارناً
السؤال
أرغب في الحج قارناً، فكيف أسوق الهدي؟
الجواب
الأولى لك ألا تسوق الهدي، وأن تحرم بعمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولولا أن معي الهدي لأحللت ولجعلتها عمرة)، فالأفضل لك ألا تسوق الهدي، وأن تحرم بعمرة، لكنك إذا أردت أن يحصل لك هذا فتستطيع الآن مع وجود السيارات أن تحمل الهدي معك في السيارة، وهذا بمعنى سوقه؛ لأن الهدي معك، وكانوا قبل يسوقون الهدي وهم يمشون على الأرض، فيجوز سوقه بحمله، ويجوز أيضاً بسوقه على الأرض إذا كان الإنسان يمشي في البر، فكونه يحرم بعمرة متمتعاً بها إلى الحج أفضل من كونه يسوق الهدي ويقرن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي).(214/18)
حكم العمرة في أشهر الحج
السؤال
من اعتمر في أشهر الحج هل عليه دم؟ وهل يجب عليه نسك معين؟
الجواب
إذا اعتمر الإنسان ورجع إلى بلده فإن هذه العمرة لا علاقة لها بالحج، فإذا أراد أن يذهب إلى الحج فإنه يحرم بعمرة ثانيه، وهذا هو المتمتع، وأما إذا جاء من بلده بعمرة ووصل إلى مكة وطاف وسعى وقصر، وجاء إلى المدينة فهو لا يزال متمتعاً؛ لأنه لم يرجع إلى بلده، فسفرة الحج واحدة عنده، فقد جاء من بلده، وسافر إلى بلده، فمجيئه إلى المدينة لا يخرجه عن كونه متمتعاً، ولا ينقطع تمتعه؛ لأنه لم يرجع إلى بلده، أما إذا رجع إلى بلده فإن تمتعه ينقضي، ومن كان مسكنه في المدينة فرجع إليها انقطع تمتعه.(214/19)
تابع الإقران(214/20)
شرح حديث الصبي بن معبد: (أهللت بهما معاً، فقال عمر: هديت لسنة نبيك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الإقران.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير بن عبد الحميد عن منصور عن أبي وائل أنه قال: قال الصبي بن معبد: أهللت بهما معاً، فقال عمر رضي الله عنه: هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
حدثنا محمد بن قدامة بن أعين وعثمان بن أبي شيبة المعنى قالا: حدثنا جرير بن عبد الحميد عن منصور عن أبي وائل قال الصبي بن معبد: كنت رجلاً أعرابياً نصرانياً فأسلمت، فأتيت رجلاً من عشيرتي يقال له: هذيم بن سرملة فقلت له: يا هناه! إني حريص على الجهاد، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فكيف لي بأن أجمعهما؟ قال: اجمعهما، واذبح ما استيسر من الهدي، فأهللت بهما معاً، فلما أتيت العذيب لقيني سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وأنا أهلّ بهما جميعاً، فقال أحدهما للآخر: ما هذا بأفقه من بعيره! قال: فكأنما ألقي علي جبل، حتى أتيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقلت له: يا أمير المؤمنين! إني كنت رجلاً أعرابياً نصرانياً، وإني أسلمت، وأنا حريص على الجهاد، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي، فأتيت رجلاً من قومي فقال لي: اجمعهما، وأذبح ما استيسر من الهدي، وإني أهللت بهما معاً، فقال لي عمر رضي الله عنه: هُديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم].
مرت بنا جملة من الأحاديث في القرآن، وهذا الحديث -وهو حديث الصبي بن معبد عن عمر رضي الله عنه- يدل على القران، أي: الجمع بينهما، وقد ذكره أبو داود رحمه الله من طريقين: الطريق الأولى: مختصرة، وفيها: أنه أحرم بالحج والعمرة وأهلّ بهما، وأن عمر رضي الله عنه قال له: (هديت لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم).
والطريق الثانية: فيها قصة، وهي أنه كان أعرابياً نصرانياً، وأن الله تعالى هداه للإسلام، وأنه رأى أن الجهاد من أعظم اأإعمال، إلا أنه وجد أن الحج والعمرة مكتوبين عليه، فسأل رجلاً من عشيرته عن جمع ذلك، فقال له: اجمعهما، واذبح ما استيسر من الهدي، ففعل ذلك، وجعل يهل ويلبي، فلقيه رجلان وسمعاه يلبي بهما، فقال أحدهما للآخر: ما هذا بأفقه من بعيره! فتأثر بهذه الكلمة، وقال: كأنما ألقي علي جبل، يعني لثقل هذه الكلمة على نفسه، فلقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه وأخبره أنه كان نصرانياً ثم أسلم، وأنه كان يرى الجهاد من أعظم الأعمال، ولكنه رأى أن العمرة والحج مكتوبين عليه، فسأل رجلاً من عشيرته عن جمع ذلك، فقال: اجمعهما، واذبح ما استيسر من الهدي، فقال له عمر رضي الله عنه: هُديت لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
ومحل الشاهد منه هو قول عمر رضي الله عنه: هُديت لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه جمع بينهما، ونحر ما استيسر من الهدي.
وقوله في أول القصة أنه رآهما مكتوبين عليه فيه دلالة على وجوب العمرة؛ لأنه ذكر أنه وجدهما مكتوبين عليه، وحكى ذلك لـ عمر فأقره على ذلك، بل وقال له: هديت لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في أحاديث أخرى ما يدل على أن العمرة واجبة كالحج، ومنه الحديث الذي سيأتي: (حج عن أبيك واعتمر).
وفيه أيضاً أن القِران نسك من المناسك، وأنه من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو دليل على ما ترجم له المصنف من القران، وهو الجمع بين الحج والعمرة في سفر واحد.
وفيه أيضاً دليل على وجواب الهدي على القارن كالمتمتع؛ فقد قيل له: واذبح ما استيسر من الهدي، وقال له عمر: هديت لسنة نبيك، ومما يدل على أن الهدي واجب على القارن أن بعض أهل العلم فسّر قول الله عز وجل: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] بأنه يشمل التمتع الذي هو قسيم القران والإفراد، ويشمل التمتع بالمعنى العام الذي يدخل تحته القران؛ لأن القران تمتع بالمعنى اللغوي العام، فقد وُجد منه الإتيان بنسكين في سفرة واحدة، وهذا هو التمتع، فبدلاً من أن يأتي بهذا في سفرة وهذا في سفرة، جعل الاثنين في سفرة واحدة.
إذاً: فهذا الحديث دليل على وجوب الهدي على القارن، كما أنه واجب على المتمتع، وقد جعل عمر هذا من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته.(214/21)
تراجم رجال إسناد حديث الصبي بن معبد: (أهللت بهما معاً، فقال عمر: هديت لسنة نبيك)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجة.
[حدثنا جرير بن عبد الحميد].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
منصور بن المعتمر الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي وائل].
أبو وائل هو: شقيق بن سلمة ثقة، مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بكنيته أبي وائل.
[عن الصبي بن معبد].
الصبي بن معبد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عمر].
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن قدامة بن أعين].
محمد بن قدامة بن أعين ثقة أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وعثمان بن أبي شيبة عن جرير بن عبد الحميد عن منصور عن أبي وائل عن الصبي بن معبد عن عمر].
قد مر ذكرهم في الإسناد السابق.(214/22)
شرح حديث: (أتاني الليلة آتٍ من عند ربي عز وجل فقال: صل في هذا الوادي المبارك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي حدثنا مسكين عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أتاني الليلة آتٍ من عند ربي عز وجل -قال: وهو بالعقيق- وقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة).
قال أبو داود: رواه الوليد بن مسلم وعمر بن عبد الواحد في هذا الحديث عن الأوزاعي: (وقل عمرة في حجة).
وقال أبو داود: وكذا رواه علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير في هذا الحديث، وقال: (وقل عمرة في حجة)].
أورد أبو داود حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في ذي الحليفة: (أتاني الليلة آتٍ من ربي، وقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة).
وهذا الحديث يدل على فضل القران، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به فحج قارناً، وأنه جاءه الوحي بذلك من الله عز وجل؛ لأنه قال: (أتاني الليلة آتٍ من ربي، وقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة)، وفي بعض الروايات: (عمرة وحجة)، وهذا هو القران، وقد حج النبي صلى الله عليه وسلم قارناً، وساق الهدي من المدينة صلوات الله وسلامة وبركاته عليه، فهذا الحديث دال على ما ترجم له المصنف من القران.
وفيه أيضاً: وصف وادي العقيق بأنه مبارك، وأن من ذهب للحج أو للعمرة وصلى فيه فإن الصلاة فيه مشروعة، بخلاف الأماكن الأخرى التي لم يأت فيها ذكر الصلاة كالمواقيت الأخرى، فإنه ليس هناك دليل يدل على فضل مخصوص للصلاة فيها، وقد قال بعض الفقهاء: إنه يصلي للإحرام ركعتين، لكن الذي جاء فيه النص هو الصلاة في هذا الوادي المبارك، وسواء كانت تلك الصلاة فريضة أو نافلة، فمن أراد أن يفعل ذلك فقد وُجد الدليل الدال عليه، ومن أراد ألا ينزل في هذا الوادي، وأن يحرم وهو في السيارة وهي تسير في الطريق فإنه عندما يحاذي المسجد ينوي ويلبي، ولا يلزمه أن ينزل.
والمقصود من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارناً، وهذا الحديث من أدله القران، وهو ما ترجم له المصنف.
وتلك الليلة التي أُتي فيها يبدو أنها الليلة التي بات فيها في ذي الحليفة، فقد خرج من المدينة بعد أن صلى بها في مسجده الظهر أربعاً، وصلى العصر في ذي الحليفة ركعتين، وصلى المغرب والعشاء والفجر والظهر، ثم مشى بعد صلاة الظهر من الغد، أي أنه صلى خمس صلوات في ذي الحليفة، وكان جلوس النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان ليتوافد الناس إليه، وليجتمعوا في ذلك المكان، وليشهدوا أعماله في حجه من أولها، ومعلوم أن أولها إنما يكون بالإحرام من الميقات.
وقصد هذا الوادي المبارك في غير النسك لا يشرع، فلا يشرع للإنسان أن يقصد إليه، وأن يأتي فيه بشيء، فكون الإنسان يذهب إليه لغير النسك لا وجه له في ذلك، ومثل ذلك أيضاً جبل أحد، فقد قال فيه صلى الله عليه وسلم: (جبل يحبنا ونحبه)، ولكن ليس للناس أن يذهبوا إليه، ولا أن يصعدوا عليه.
وقد يستشكل على بعضهم: كيف أن الله جل وعلا يأمر نبيه أن يقول: عمرة في حجة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي وجعلتها عمرة)؟!
و
الجواب
أنه ساق الهدي وأرشد إلى ذلك أولاً، وفي آخر الأمر بيّن صلى الله عليه وسلم أن الإحرام بالتمتع أولى من الإحرام بالقران، وبعض أهل العلم يفصل فيقول: إذا كان سيأتي بعمرة مستقلة في أثناء السنة فالإفراد أفضل، وإذا كان قد ساق الهدي فالقران أفضل، وإذا لم يكن هذا ولا هذا فالتمتع أفضل، لكن كون النبي صلى الله عليه وسلم يرشد أصحابه إلى أن يتحولوا من القران الذي لا هدي معه، ومن الإفراد الذي لا هدي معه إلى التمتع ويقول: (إن هذا للأبد، وأبد الأبد)، فهذا يدلنا على أن هذا هو الأفضل والأكمل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يرشدهم إلى أن ينتقلوا من فاضل إلى مفضول، بل يرشدهم إلى أن ينتقلوا من مفضول إلى فاضل؛ لأنه أنصح الناس للناس صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن كل ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم هو وحي، فالأول وحي والآخر وحي، وهو لا يأتي بشيء من عند نفسه، كما قال الله عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، لكن من كان معه هدي فإنه يتعين عليه أن يأتي بالقران أو الإفراد.(214/23)
تراجم رجال إسناد حديث: (أتاني الليلة آتٍ من عند ربي عز وجل فقال: صل في هذا الوادي المبارك)
قوله: [حدثنا النفيلي].
هو: عبد الله بن محمد النفيلي، ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا مسكين].
هو ابن بكير الحراني، وهو صدوق، يخطئ، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ثقة فقيه، وهو فقيه الشام ومحدثها، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن أبي كثير].
يحيى بن أبي كثير اليمامي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
عكرمة مولى ابن عباس وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[عن عمر].
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، قد مر ذكره.
[قال أبو داود: رواه الوليد بن مسلم وعمر بن عبد الواحد في هذا الحديث عن الأوزاعي: (وقل عمرة في حجة)].
الوليد بن مسلم الدمشقي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعمر بن عبد الواحد].
عمر بن عبد الواحد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن الأوزاعي].
الأوزاعي مر ذكره.
[قال أبو داود: وكذا رواه علي بن المبارك].
علي بن المبارك ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(214/24)
شرح حديث سراقة بن مالك: (إن الله قد أدخل عليكم في حجكم هذا عمرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري حدثنا ابن أبي زائدة أخبرنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: حدثني الربيع بن سبرة عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كنا بُعسفان قال له سراقة بن مالك المدلجي رضي الله عنه: يا رسول الله! اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم، فقال: إن الله تعالى قد أدخل عليكم في حجكم هذا عمرة، فإذا قدمتم فمن تطوّف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل إلا من كان معه هدي)].
أورد أبو داود حديث سبرة بن معبد رضي الله عنه: (أن سراقة بن مالك بن جعشم قال للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بعسفان: اقض لنا يا رسول الله! بقضاء كأنما ولدنا اليوم) أي: كأننا ولدنا اليوم، فنحن بحاجة إلى أن تعلمنا شيئاً نسير عليه، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى قد أدخل عليكم في حجكم هذا عمرة)، وإدخال الحج على العمرة إما أن يكون عن طريق القران، أو عن طريق التمتع، والمقصود أنها دخلت في أعماله؛ لأن أعمال العمرة مع الحج لا ينفصل شيء منها عن شيء؛ لأن الطواف للحج والعمرة، والسعي للحج والعمرة، ولهذا سمي قراناً؛ لأن الأعمال واحده، ويؤدى فعل واحد لشيئين، أو المراد به في وقت الحج وهو التمتع، فيأتي بالعمرة أولاً، وإذا دخل مكة طاف وسعى وقصر وتحلل، ثم في الثامن من ذي الحجة يحرم، ومن كان قد أحرم بالعمرة ابتداء فهذا يبقى على عمرته ويطوف ويسعى ويقصر، ويوم ثمانية يحرم بالحج، ومن لم يكن ساق الهدي من القارنين والمفردين فإن عليهم أن يتحولوا إلى عمرة، فيكونون بذلك متمتعين، أما الذين ساقوا الهدي فإنهم يبقون على إحرامهم إلى يوم النحر، ولا يحلون حتى يبلغ الهدي محله.(214/25)
تراجم رجال إسناد حديث سراقة بن مالك: (إن الله تعالى قد أدخل عليكم في حجكم هذا عمرة،)
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هناد بن السري أبو السري ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا ابن أبي زائدة].
ابن أبي زائدة هو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز].
عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز صدوق يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني الربيع بن سبرة].
الربيع بن سبرة بن معبد ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه سبرة بن معبد رضي الله عنه، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.(214/26)
شرح حديث: (قصّرتُ عن النبي بمشقص على المروة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا شعيب بن إسحاق عن ابن جريج، وحدثنا أبو بكر بن خلاد حدثنا يحيى المعنى، عن ابن جريج أخبرني الحسن بن مسلم عن طاوس عن ابن عباس أن معاوية بن أبي سفيان أخبره قال: (قصرت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمشقص على المروة أو رأيته يقصر عنه على المروة بمشقص).
قال ابن خلاد: إن معاوية، لم يذكر أخبره].
أورد أبو داود حديث ابن عباس، وهو في بعض الطرق من مسند معاوية، فالطريق التي فيها أن معاوية أخبره، تكون من مسند معاوية، وأما التي فيها: عن ابن عباس: أن معاوية قصر، فهذا يكون من مسند ابن عباس.
وقد كان هذا في عمرة من العُمَر، وليس في حجه صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حجه كان قارناً، وإنما أتى إلى المروة وطاف بين الصفا والمروة قبل الحج، ولم يأت للصفا والمروة بعد الحج، فليس هناك تقصير، وإنما يبقى على النسك، وهذا كما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (قد حلّ الناس وأنت لم تحل؟ فقال: إني لبّدت شعري، وسقت الهدي، فلا أحل حتى أنحر)، إذاً كان هذا في عمرة، ولكن ما هذه العمرة؟ الذي يناسب أنها عمرة الجعرّانة؛ لأنها هي التي كانت بعد الفتح، ومعاوية رضي الله عنه إنما أسلم عام الفتح، والعُمَر التي كانت من النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك هي: عمرة الحديبية، وعمرة القضية، فالأولى في السنة السادسة، والثانية في السابعة، فلا يناسب في تلك العمر أن يكون معاوية قصر له، وإنما يناسب ذلك كونه في عمرة الجعرانة، إلا أن الرواية الثانية فيها: (ورأيت النبي يقصر عنه بمشقص) فيمكن أن يكون ذلك في عمرة القضاء التي في السنة السابعة، حيث رأى غيره يقصر له، ويكون هذا مما تحمله في حال كفره وأداه في حال إسلامه، وعلى هذا: فإن التقصير كان من معاوية رضي الله عنه أو من غيره ومعاوية يرى، ولا يكون ذلك إلا في عمرة، وقد جاء مصرحاً به في الصحيح، وهذه العمرة هي إما الجعرانة، وهذا هو الذي يناسب حاله بعد إسلامه؛ لأن إسلامه كان في عام الفتح في السنة الثامنة، وعمرة الجعرانة كانت بعد الفتح، أو أنها في عمرة القضاء، وهو الذي يناسب رواية: (ورأيته يقصر عنه بمشقص) أي: أنه رأى غيره يقصر له، فيكون هذا من قبيل ما تحمل في حال كفره، وأداه في حال إسلامه، ومن المعلوم عند المحدثين أن الكافر إذا تحمل في حال كفره وأدى بعد إسلامه فذلك صحيح، وكذلك الصغير إذا تحمله في حال صغره وأداه بعد بلوغه فذلك صحيح معتبر، ومن أمثلة تحمل الكافر في حال كفره وتأديته بعد إسلامه: حديث هرقل وقصة أبي سفيان معه، وذكْر الكتاب الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم، وما اشتمل عليه الكتاب بعد أن قرئ الكتاب وأبو سفيان ومن معه يسمعون، وقالوا ما قالوا بعد ذلك عندما سألهم، وفيه: أنه قال: كان يأمرنا بالصدق وكذا وكذا إلى آخره، وهذا إنما قاله في حال كفره، وتحمله في حال كفره، ولكنه أداه بعد إسلامه.(214/27)
تراجم رجال إسناد حديث: (قصرت عن النبي بمشقص على المروة)
قوله: [حدثنا عبد الوهاب بن نجدة].
عبد الوهاب بن نجدة ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا شعيب بن إسحاق].
شعيب بن إسحاق ثقة، أخرج له أصحاب الكتب إلا الترمذي.
[عن ابن جريج].
ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحدثنا أبو بكر بن خلاد].
أبو بكر بن خلاد هو محمد بن خلاد وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
ابن جريج مر ذكره.
[أخبرني الحسن بن مسلم].
الحسن بن مسلم بن يناق وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن طاوس].
طاوس بن كيسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.
[عن معاوية].
معاوية رضي الله عنه أمير المؤمنين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال ابن خلاد: إن معاوية، لم يذكر أخبره].
ابن خلاد هو الموجود في الطريق الثانية، وقوله: إن معاوية، ولم يذكر أخبره، أي: أنه جعله من مسند ابن عباس.(214/28)
شرح حديث: (قصرت عن النبي بمشقص) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي ومخلد بن خالد ومحمد بن يحيى المعنى، قالوا: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معاوية رضي الله عنه قال له: (أما علمت أني قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمشقص أعرابي على المروة).
زاد الحسن في حديثه: لحجته].
أورد أبو داود حديث ابن عباس من طريق أخرى، وهو أيضاً من مسند معاوية؛ لأنه قال: أما علمت أني فعلت كذا وكذا، وقال: زاد الحسن -وهو أحد الشيوخ الثلاثة لـ أبي داود، وهو الحسن بن علي الحلواني -: في حجته، وهذه اللفظة التي فيها: لحجته، شاذة؛ لأن حجته لم يكن فيها تقصير على المروة، وإنما كان فيها حلق في منى، حلق عليه الصلاة والسلام شعره فأخذه الناس ووُزَّع عليهم، وأما المروة فلم يكن عندها تقصير في الحج، وإنما كان هذا في العمرة كما جاء في الصحيح أنه كان في عمرة، فهذه الزيادة التي جاءت من طريق الحسن في هذا الإسناد شاذة.(214/29)
تراجم رجال إسناد حديث: (قصرت عن النبي بمشقص) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[ومخلد بن خالد].
مخلد بن خالد ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[ومحمد بن يحيى].
محمد بن يحيي الذهلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن طاوس].
ابن طاوس هو عبد الله بن طاوس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن طاوس عن ابن عباس عن معاوية].
طاوس وابن عباس ومعاوية مر ذكرهم.(214/30)
شرح حديث: (أهل النبيّ صلى الله عليه وسلم بعمرة، وأهل أصحابه بحجّ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن معاذ أخبرنا أبي حدثنا شعبة عن مسلم القري أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (أهلّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعمرة، وأهلّ أصحابة بحج)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بعمرة، وأهل أصحابة بحج)، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يهل بعمرة مفردة وهو التمتع المعروف، وإنما أهل بعمرة معها حج، وأهلّ بعض أصحابه بالحج مفرداًَ، فقد ساق النبي صلى الله عليه وسلم الهدي، والمعتمر إذا طاف وسعى يقصر، بل إن المعتمر إذا ساق الهدي وهو في وقت الحج فعليه أن يدخل الحج على العمرة؛ حتى يكون قارناً، ولا يذبح الهدي إلا يوم النحر إذا كان قد ساق معه الهدي.
وقوله: (أهل أصحابة بحج) يعني: بعض أصحابه.(214/31)
تراجم رجال إسناد حديث: (أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة وأهل أصحابه بحج)
قوله: [حدثنا ابن معاذ].
ابن معاذ هو عبيد الله بن معاذ العنبري ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[أخبرني أبي].
أبوه هو معاذ بن معاذ العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسلم القري].
مسلم القري صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.(214/32)
شرح حديث: (تمتع رسول الله في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث حدثني أبي عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (تمتع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، فأهدى وساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعمرة إلى الحج، وكان من الناس من أهدى وساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل له شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
وطاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قدم مكة فاستلم الركن أول شيء، ثم خب ثلاث أطواف من السبع، ومشى أربعه أطواف، ثم ركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين، ثم سلم، فانصرف فأتى الصفا، فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف، ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه، ونحر هديه يوم النحر، وأفاض فطاف بالبيت، ثم حل من كل شيء حرم منه، وفعل الناس مثلما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من أهدى وساق الهدي من الناس)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فأهدى، وساق معه الهدي من ذي الحليفة)، قوله: (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج) أي: أنه قرن بين الحج والعمرة، وهذا التمتع هو التمتع اللغوي، وهو التمتع العام الذي يشمل القران، ويشمل التمتع المشهور الذي هو قسيم الإفراد والقران؛ وذلك لأن القران فيه تمتع من جهة أنه أدى نسكين في سفرة واحدة، فبدلاً من أن يسافر سفرتين: سفرة للعمرة وسفرة للحج فإنه يأتي بالنسكين في سفرة واحدة.
قوله: (وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحج)، الذي جاء في الحديث أنه أهل بهما جميعاً، فقال: (لبيك عمرة وحجة)، ولم يأت بالعمرة أولاً ثم بعد ذلك أدخل الحج عليها ثانياً، وبعض أهل العلم يقول: إنه أتى بها أولاً وأتى بالحج ثانياً، لكن الذي جاء في الروايات الأخرى أنه جمع بينهما، وهو المقدم والثابت عنه صلى الله عليه وسلم، فأحرم وأهل بهما، وقال: (أتاني الليلة آت وقال لي: قل: عمرة في حجة)، وسمعه أنس يلبي ويقول: (لبيك عمرة وحجة).
قوله: (وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى وساق الهدي، ومنهم من لم يهد) أي: تمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التمتع الذي حصل من الناس على ضربين: ضرب هو التمتع بالمعنى الخاص، وهم أصحابه الذين أحرموا بالعمرة ولم يهدوا، وضرب الذين أحرموا بالقران وحصل منهم الجمع بين النسكين، فإنه يقال له: تمتع.
قوله: (فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل له شيء حرم منه حتى يقضي حجه).
أي: لا يحل له شيء حرم عليه بالإحرام حتى يقضي حجه.
قوله: (ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصّر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليُهدِ) أي: أن المتمتع يتحلل بعد فراغه من العمرة، ثم يحرم بالحج بعد ذلك في يوم التروية، ويكون عليه هدي.
قوله: (فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله) إما أنه لم يجد هدياً يباع أصلاً، أو أنه وجده يباع بثمن لا يستطيعه، أو أنه لم يكن عنده نقود يشتري بها هدياً، فينتقل إلى أن يصوم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، ولو كان غنياً في بلده، فلا يقال: إنه إذا كان غنياً فإنه يؤخر، ثم يقضي بعد ذلك، وإنما عليه أن يفعل ذلك حيث لا يجد في نفس الوقت هدياً يذبحه، فينتقل إلى الصيام.
وهذا الحديث فيه بيان لما أجمل في الآية: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196]، فإنه هنا بين أن الرجوع هو إلى أهله، فالآية لم تبين هل الرجوع إلى الأهل أو الرجوع من الحج إلى مكة، فيصوم في الأيام التي تكون بعد الحج، فبيّن الحديث ذلك فقال: (وسبعة إذا رجع إلى أهله).
قوله: (وطاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قدم مكة، فاستلم الركن أول شيء، ثم خب ثلاث أطواف من السبع، ومشى أربعة أطواف) أي: أن أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم هو الطواف، وخب ثلاث أشواط، أي: أنه رملها، والرمل والخبب هو الإسراع مع مقاربة الخطا، فلا يركض ركضاً خارجاً عن المشي المعتاد، أي: أنه رمَل وأسرع إسراعاً خفيفاً من الحجر إلى الحجر، والرمل إنما حصل في عمرة القضية، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قدم هو وأصحابه في عمرة القضاء سنة سبع، كان الكفار جالسين في الجهة التي وراء الحجر يتحدثون ويقولون: إنه يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يسرعوا وأن يرملوا في الأشواط الثلاثة، وإذا كانوا بين الركنين -حيث تحجز الكعبة بينهم وبين الكفار الذين يتحدثون بهذا الحديث- أمرهم أن يمشوا؛ شفقة عليهم، ورفقاً بهم، ولما كان في حجة الوداع رمَل من الحجر إلى الحجر، وهذا الفعل فيه تذكير بما كان عليه المسلمون أولاً، وما كان من الكفار في من معاداة المسلمين وإيذائهم، وهذه سنة مستمرة، وهذه إحدى السنن التي تتعلق بالطواف، فأول ما يقدم الإنسان سواء كان معتمراً أو حاجاً فإنه يطوف طواف القدوم.
والسُّنَّة الثانية: أن يضطبع، وذلك أن يجعل رداءه من الجهة اليمنى تحت إبطه، ويلف طرفه على كتفه الأيسر، ويكون ذلك في الأشواط السبعة كلها، أي: في الطواف الذي يكون عند الوصول إلى مكة أولاً، فإن كان معتمراً فهو طواف العمرة، وإن كان حاجاً متمتعاً أو قارناً أو مفرداً فطواف القدوم.
ويكون الطواف من الحجر إلى الحجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع رمل في الأشواط الثلاثة كلها، وأما في عمرة القضاء فلم يرمل بين الركنين، قال الراوي: (ولم يمنعهم من أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم) يعني: شفقة عليهم أمرهم أن يتركوا الرمل بين الركنين، وكان هذا من قبيل إظهار القوة للأعداء، وهو يدخل تحت قوله: (الحرب خدعة).
قوله: (ثم ركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ثم سلم)، فيه دليل على صلاة ركعتين خلف المقام للطواف.
قوله: (ثم سلم) أي: من الركعتين.
وجاء في بعض الأحاديث أنه ذهب إلى الحجر واستلمه بعدما فرغ من الركعتين.
قوله: (فانصرف فأتى الصفا، فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف)، فيبدأ بالصفا، ويختم بالمروة.
قوله: (ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر)، أي: أنه بقي على إحرامه، فقد طاف وسعى وبقي على إحرامه، وأما الذين ما كان معهم هدي فقد قصروا وتحللوا وأحرموا في الحج يوم ثمانية.
قوله: (وأفاض فطاف بالبيت) أي: أفاض يوم النحر، ثم طاف بالبيت دون سعي؛ لأنه قد سعى مع طواف القدوم.
قوله: [ثم حل من كل شيء حرم منه، وفعل الناس مثلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أهدى وساق الهدي من الناس] أي: أن من أهدى وساق الهدي من الناس فعل مثلما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: أنهم بقوا على إحرامهم، والقارنون يفعلون كما فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام، والذين ساقوا الهدي يكون هذا شأنهم، ويفعلون مثلما فعل رسول الله، وهذا فيمن أهدى وساق الهدي من الناس، وأما الذين لم يكونوا كذلك بأن كانوا متمتعين وفسخوا الحج أو القران إلى العمرة، وكانوا متمتعين فإنهم قد حصل لهم أمور أخرى قبل ذلك، وهي أنهم تحللوا من العمرة، وأتوا كل ما يأتيه المحلون، وبعد ذلك دخلوا في الحج، وأتوا بأمور أخرى منها: السعي بالنسبة للمتمتعين، فإنهم سعوا مرة أخرى بين الصفا والمروة، ولكن الذي فعلوا كفعله هم الذين إحرامهم كإحرامه صلى الله عليه وسلم، وهو القران.(214/33)
تراجم رجال إسناد حديث: (تمتع رسول الله في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج)
قوله: [حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث].
عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبيه].
أبوه ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن عقيل].
عقيل بن خالد بن عقيل المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
ابن شهاب هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم].
سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(214/34)
شرح حديث: (إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر الهدي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن حفصة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها قالت: (يا رسول الله! ما شأن الناس قد حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك؟! فقال: إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر الهدي)].
أورد أبو داود حديث حفصة أنها قالت: (ما بال الناس حلوا من عمرتهم وأنت لم تحلل من عمرتك؟!) أي: من عمرتهم المقرونة مع الحج، وكذلك الذين ليس معهم عمرة مقرونة مع الحج وهم المتمتعون، فالذين حلوا صنفان من الناس: الذين كانوا متمتعين أصلاً كأمهات المؤمنين، والذين كانوا قارنين ومفردين ولا هدي معهم، وقد أمروا أن يفسخوا إحرامهم إلى عمرة، وأن يكونوا متمتعين، فهؤلاء كلهم حلوا.
قولها: (وأنت لم تحلل من عمرتك) أي: عمرتك المقرونة مع حجك، وليس المقصود أنه كان معتمراً فقط، بل كان قارناً، فقد جمع بين الحج والعمرة، كما أن بعض الناس كان عندهم عمرة مقرونة مع الحج وقد حلوا.
قوله: (إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر الهدي) أي: يوم النحر.(214/35)
تراجم رجال إسناد حديث: (إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر الهدي)
قوله: [حدثنا القعنبي].
القعنبي هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وقد مر ذكره.
[عن حفصة].
حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(214/36)
شرح سنن أبي داود [215]
التلبية من شعائر الحج الظاهرة، وقد اشتملت على معان عظيمة، وقد بين العلماء كيفية التلبية عن النفس وكذلك عن الغير لمن حج عن غيره، وبينوا ما يستحب في التلبية من رفع الصوت ونحوه، وبينوا متى تقطع التلبية.(215/1)
إهلال الرجل بالحج، ثم جعلها عمرة(215/2)
شرح أثر أبي ذر في فسخ الحج إلى عمرة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: الرجل يهل بالحج ثم يجعلها عمرة.
حدثنا هناد -يعني: ابن السري - عن ابن أبي زائدة أخبرنا محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود، عن سليم بن الأسود أن أبا ذر رضي الله عنه كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة: لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم].
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب من أحرم بالحج ثم يجعلها عمرة، وقد مر بنا جملة من الأحاديث الدالة على أن الإنسان الذي ليس معه هدي سواءً كان قارناً أو مفرداً أنه يفسخ إحرامه إلى عمرة، وأنه يكون متمتعاً، ومر أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك: (هل هي لنا أو للأبد؟ قال: بل لأبد الأبد)، وهي أحاديث صحيحة دالة على أن ذلك لم يكن خاصاً بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه حكم مستمر ودائم.
وأورد أبو داود رحمه الله تحت هذه الترجمة أثراً وحديثاً فيهما أن هذا الذي حصل كان خاصاً بأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فالأول عن أبي ذر، وهو موقوف عليه، أنه كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة: لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو يخبر أن الركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسخوا إحرامهم إلى عمرة، وصاروا متمتعين، وذكر أن ذلك لم يكن إلا لهم، وهذا قول ورأي له، ويقابل هذا الرأي الأحاديث الكثيرة الصحيحة الدالة على أن ذلك ليس خاصاً بهم، وإنما هو للأبد، وقال بعض أهل العلم: إن قول أبي ذر هذا يحمل على أن الفسخ الواجب الذي يتعين هو الذي كان لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما غيرهم فإنه يبقى على الاستحباب، وقد ذكر هذين القولين ابن القيم رحمه الله.(215/3)
تراجم رجال إسناد أثر أبي ذر في فسخ الحج إلى عمرة
قوله: [حدثنا هناد يعني: ابن السري].
هناد مر ذكره.
[عن ابن أبي زائدة عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن الأسود].
عبد الرحمن بن الأسود ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليم بن الأسود].
سليم بن الأسود ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي ذر].
أبو ذر هو جندب بن جنادة رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(215/4)
شرح أثر بلال بن الحارث في خصوصية فسخ الحج بالصحابة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي حدثنا عبد العزيز -يعني: ابن محمد - أخبرني ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن بلال بن الحارث عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: (قلت: يا رسول الله! فسخ الحج لنا خاصة أو لمن بعدنا؟ قال: بل لكم خاصة)].
أورد أبو داود حديث بلال بن الحارث رضي الله عنه (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة؟ قال: بل لكم خاصة)، وهذا دال على ما دل عليه كلام أبي ذر المتقدم، وهذا مرفوع إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكنه غير صحيح ولا ثابت، بل الثابت خلافه، فقد تُكلِّم في بعض رواته، والذين رووا خلاف ذلك كثيرون، وليس فيهم كلام، بل هي أحاديث صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مر جملة منها.(215/5)
تراجم رجال إسناد أثر بلال بن الحارث في خصوصية فسخ الحج بالصحابة
قوله: [حدثنا النفيلي عن عبد العزيز يعني: ابن محمد].
عبد العزيز بن محمد هو الدراوردي وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن].
ربيعة بن أبي عبد الرحمن وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بلال بن الحارث].
بلال بن الحارث مقبول أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبيه].
أبوه هو بلال بن الحارث وهو صحابي، أخرج حديثه أصحاب السنن.(215/6)
حج الرجل عن غيره(215/7)
شرح حديث: (إن فريضة الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: الرجل يحج عن غيره.
حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كان الفضل بن عباس رضي الله عنهما رديف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم، وذلك في حجة الوداع)].
أورد أبو داود باب: الرجل يحج عن غيره، وكلمة الرجل هنا لا مفهوم لها، بل إن المرأة كذلك أيضاً، فللرجل أن يحج عن غيره، وللمرأة أن تحج عن غيرها.
وأورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن الفضل بن العباس -أي: أخاه الأكبر- كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم) أي: في حجة الوداع، وذلك في انصرافهم من مزدلفة إلى منى، فقد أردف النبي صلى الله عليه وسلم خلفه في حجه من عرفة إلى مزدلفة أسامة بن زيد، وأردف خلفه من مزدلفة إلى منى الفضل بن العباس، وهو الذي لقط له الجمرات السبع التي أخذهن وجعل يقلبهن، وقال: (بمثل هذا فارموا، وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين).
فـ الفضل بن العباس رضي الله عنه كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم من مزدلفة إلى منى، فجاءت امرأة من خثعم تستفيه عن حجها عن أبيها، وكان شيخاً كبيراً لا يستطيع الثبوت على الراحلة، فقالت: (إن فريضة الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع الثبوت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم)، وذلك في حجة الوداع، فدل هذا على أن المرأة تحج عن الرجل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أفتاها بأن تحج عن أبيها، وفيه دليل على الحج عن الغير، وأن الرجل يحج عن الرجل، والمرأة تحج عن الرجل، والحديث واضح وصريح الدلالة في حج المرأة عن الرجل، ويحج عن الميت، وأما الحي فإنه لا يحج عنه إلا في حالتين: إحداهما: ما جاء في هذا الحديث، وهي أن يكون هرماً كبيراً، لا يستطيع السفر والركوب.
والثانية: أن يكون مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه، وأما غير هذين الصنفين من الناس فإنه لا يحج عنه وهو حي.
وفي هذا الحديث: أن الفضل كان ينظر إلى هذه المرأة وهي تنظر إليه، فصرف النبي صلى الله عليه وسلم وجهه إلى الشق الآخر، وهذا من الأحاديث التي يستدل بها من يقول بجواز كشف النساء وجوههن، وعدم وجوب تغطيتها، وقد جاءت عدة نصوص دالة على الحجاب وستر الوجوه، وقد عُلِّل ذلك كما جاء في أمهات المؤمنين: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53].
وإذا كان هذا في أمهات المؤمنين فهو مطلوب من غيرهن من باب أولى؛ لأنهن إذا كان ذلك مع طهارتهن ونزاهتهن رضي الله عنهن وأرضاهن فغيرهن من باب أولى والعلة واحدة، ثم أيضاً إذا كانت الشريعة قد جاءت بأن المرأة ترخي ثوبها من وراءها حتى تستر قدميها، فكيف تأمر الشريعة بستر القدمين وتبيح كشف الوجه، والزينة إنما تكون في الوجه لا في الرجلين؟! وهذا الحديث الذي معنا وهو قصة الخثعمية، ونظر ابن العباس إليها ونظرها إلى الفضل بن العباس رضي الله تعالى عنهما، يمكن أن يقال: إنه لا يلزم أن يكون الجمال فقط في الوجه، والنظر يكون إلى الوجه، فكما يكون الجمال في الوجه فإنه يكون أيضاً في التفاصيل، وفي هيئة الجسم وشكله، فإن المرأة ولو كانت متحجبة قد يظهر جمالها في الشكل والهيئة، وليس الأمر مقصوراً على الوجه والنظر إليه، بل الهيئة أيضاً لها دخل في معرفة جمال النساء، وذلك في طلعتهن وهيئتهن وتفاصيل أجسامهن وإن لم يكن الوجه ظاهراً.
وبعض أهل العلم يقول: إن هذا كان في الحج، والمرأة إحرامها في وجهها، ولكن قد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: كنا نكشف وجوهنا فإذا حاذانا الركبان سدلت إحدانا خمارها على وجهها.
والحاصل أن كشف الوجوه لا يأتي إلى الناس بخير، فكثير من الفتن والشرور التي جاءت إنما هي ناتجة عن كشف الوجوه، فبعد كشف الوجوه جاء كشف الرءوس، ثم كشف النحور، ثم كشف الصدور، ثم كشف الأرجل والأفخاذ! وصار شأن كثير من المسلمات في كثير من بلاد العالم الإسلامي على هيئة الرجال، وهذه الهيئة مخالفة لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرجال يسبلون ويغطون أعقابهم، والنساء تتعرى، فتظهر المرأة صدرها وعضديها وساقيها وجزءاً من فخذيها، وكل هذا نتيجة للتهاون بالسفور.(215/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن فريضة الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً)
قوله: [حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار].
سليمان بن يسار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين.
[عن عبد الله بن عباس].
عبد الله بن عباس مر ذكره.(215/9)
الأسئلة(215/10)
حكم من حج متمتعاً ثم رجع إلى بلده من غير صيام ولا هدي
السؤال
كيف يصنع من تمتع بالعمرة إلى الحج ورجع إلى بلده من غير أن يصوم ثلاثة أيام؛ لأنه كان مريضاً، ولم يهد؛ لأنه كان عاجزاً، فهل يهدي الآن في بلده أو يصوم العشرة في بلده؟
الجواب
يصوم العشرة أيام في بلده.(215/11)
وقت صيام الثلاثة أيام في الحج لمن لم يجد الهدي
السؤال
متى يكون صيام الثلاثة أيام في الحج لمن لم يجد الهدي؟
الجواب
الأفضل أن يصومها قبل يوم عرفة، وإن أخر ولم يفعل ذلك فإنه يجوز صيامها في أيام التشريق، ولا يصوم في يوم العيد، وقد قال بعض الصحابة: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي، فمن لم يجد الهدي جاز له أن يصوم أيام التشريق، والأولى أن يصومها قبل يوم عرفة.
وإذا كان مقيماً في المدينة للدراسة أو للعمل فإنه يصوم في المدينة، فهذا هو محل إقامته، وليس المراد أن يأخرها ولو إلى بعد سنة حتى يرجع إلى بلده.(215/12)
حكم لبس جلود النمور أو جعلها أحذية
السؤال
هل يصح لبس جلود النمور أو جعلها أحذية؟
الجواب
الحديث الذي مر بنا قريباً يدل على أنه لا يجوز ذلك.(215/13)
حكم التلفظ بالإحرام
السؤال
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني الليلة آت من ربي فقال لي: قل: حجة في عمرة) هل يؤخذ منه أنه لابد من التلفظ بالإحرام؟
الجواب
لا يؤخذ منه ذلك، وإنما الذي لابد منه هو النية التي محلها القلب، وإذا تلفظ الإنسان بما نوى بما يتعلق بالحج فهذا هو الذي ينبغي، وليس بواجب، وذلك أن الأنساك متعددة، فإذا تلفظ الإنسان بالشيء حتى يعرف غيره ما هو النسك الذي أهل به فلا بأس به، لكن لو لم يتلفظ بذلك فإنه يكفيه أن ينوي بقلبه، والتلفظ بالنية بدعة في العبادات إلا في الحج، فإن الإنسان يتلفظ بما نوى؛ لأن هناك عمرة مستقلة، وحج مستقل، وحج مقرون مع عمرة، فإذا أتى بهذا أو بهذا فقد جاءت السنة بذلك كله، لكن التلفظ بذلك ليس بلازم.
وليس معنى ذلك أنه يقول: نويت، وإنما ينوي بقلبه ويقول: لبيك عمرة، أو لبيك حجة، أو لبيك عمرة وحجة.(215/14)
هل رأي الصحابي حجة
السؤال
هل يعتبر رأي الصحابي حجة؟
الجواب
المسائل التي للصحابة فيها أقوال مختلفة يرجع فيها إلى الأقوى من حيث الدليل، وأما إذا كانت المسألة ليس فيها أقوال، وإنما فيها قول لأحد الصحابة فلاشك أن لقوله قوة؛ لأنه رأي وقول لرجل من خير هذه الأمة، وهم خيرة سلف هذه الأمة، وهم خير الناس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه على رسله ورضي الله تعالى عن الصحابة أجمعين، وإذا كان قول الصحابي له شيء يعضده، أو عموم يندرج تحته الحكم، فالمعول عليه هو الدليل، ولكن حيث لا دليل فلاشك أن آراء الصحابة لها وزنها ولها قيمتها.(215/15)
أخوّة أهل البدع في الإسلام
السؤال
عرفنا بالأمس أنه يصح أن يقال لأهل البدع غير المكفرة: إنهم إخوان لنا في الإسلام، لكن هل كان من منهج السلف إطلاق الأخوة على رءوس أهل البدع منهم، وذلك في مقام التحذير أو التعريف بهم؟
الجواب
لا يفعل ذلك في مقام التحذير، وإنما يحذر بدون أن يقول ذلك، لكن ذلك القول جائز؛ لأن كل مسلم هو أخ في الإسلام، والذين حصلت المباينة بينهم وبين المسلمين هم الكفار، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] أي: الذين يقتل بعضهم بعضاً إخوان، فيصلح بينهم، وإن كان قد حصل اعتداء من بعضهم على بعض، وأما في مقام التحذير فلا يقال: أخونا فلان، أو إخواننا، وإنما يحذر منهم دون أن تذكر الأخوة، لكن هل هم إخوة لنا في الإسلام أو ليسوا بإخوة؟ فكل من لم يكن كافراً فهو أخ لنا في الإسلام.(215/16)
تابع حج الرجل عن غيره(215/17)
شرح حديث: (احجج عن أبيك واعتمر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: الرجل يحج عن غيره.
حدثنا حفص بن عمر ومسلم بن إبراهيم بمعناه قالا: حدثنا شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبي رزين رضي الله عنه أنه قال حفص في حديثه رجل من بني عامر أنه قال: (يا رسول الله! إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، قال: احجج عن أبيك واعتمر)].
سبق البدء في هذه الترجمة وهي: باب الرجل يحج عن غيره، وقلنا: إن ذكر الرجل لا مفهوم له، والمقصود من ذلك هو الحج عن الغير، سواءً كان الحاج رجلا ً أو امرأة، ولهذا أورد أبو داود رحمه الله ثلاثة أحاديث: الحديث الأول: حج امرأة عن رجل، وهو حديث الخثعمية.
والحديث الثاني: حج رجل عن رجل.
ثم أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي رزين العقيلي رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن).
أي: لا يستطيع أن يركب ولا يستطيع أن يمشي، أي: أنه قد بلغ به الكبر بحيث إنه يتمكن من أن يمشي أو يركب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (حج عن أبيك واعتمر)، فدل هذا على أن الرجل يحج ويعتمر عن غيره.
وهذا من الأدلة التي يستدل بها على وجوب العمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (حج عن أبيك واعتمر) وذلك عندما ذكر له أنه لا يستطيع الحج والعمرة.
فأمره أن يحج عن أبيه ويعتمر، فدل ذلك على وجوب العمرة، وقد مر بنا حديث الصبي بن معبد، وفيه أنه كان نصرانياً فأسلم، وأنه كان يحب الجهاد، ولكنه وجد أن الحج والعمرة مكتوبين عليه، فجاء إلى رجل من قومه فأرشده أن يجمع بينهما -أي بين الحج والعمرة- فجاء إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه وذكر له القصة، فقال له: (هديت لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم)، وهذا الحديث هو أقوى ما يستدل به على وجوب العمرة، وقد جاء عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: هذا أصح شيء جاء في وجوب العمرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث مطابق للترجمة من جهة أن يحج الرجل عن غيره، فهذا يدل على أن للإنسان أن يحج عن غيره، وهذا إذا كان ميتاً، وأما إذا كان حياً، فيجوز ذلك في حالتين اثنتين: إحداهما: أن يكون هرماً كبيراً لا يستطيع السفر، كما جاء في هذا الحديث وحديث الخثعمية السابق، والثانية: أن يكون مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه، وهو في معناه.(215/18)
تراجم رجال إسناد حديث: (احجج عن أبيك واعتمر)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
[ومسلم بن إبراهيم].
مسلم بن إبراهيم الفراهيدي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن النعمان بن سالم].
النعمان بن سالم ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن أوس].
عمرو بن أوس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي رزين].
أبو رزين العقيلي رضي الله عنه صحابي أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.(215/19)
شرح حديث: (حُجّ عن نفسك ثم حُجَّ عن شبرمة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني وهناد بن السري المعنى واحد، قال إسحاق: حدثنا عبدة بن سليمان عن ابن أبي عروبة عن قتادة، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، قال: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي، قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ومن شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب).
أي: شك الراوي هل قال: أخ أو قريب، (قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة)، وهذا مطابق للترجمة من جهة أن الرجل يحج عن الرجل، وأن الرجل يحج عن غيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة).
وفيه دليل على أن الإنسان لا يحج عن غيره إلا إذا كان قد حج عن نفسه.
فيبدأ بنفسه أولاً، ثم يحج عن غيره، فلا يحج عن غيره وهو لم يحج عن نفسه، وفيه دليل أيضاً على أنه يمكن للإنسان أن يظهر في التلبية لمن يكون النسك، فيقول: لبيك لفلان، أو لبيك عن فلان، إذا كان يحج عن غيره.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب) يدل على أن الحج قد يكون من الأخ عن أخيه، وليس خاصاً بالولد عن والده كما جاء في حديث الخثعمية وحديث أبي رزين العقيلي المتقدمين، فذاك فيه حج الولد عن والده، والآخر فيه حج البنت عن والدها، وحديثنا هذا فيه حج الأخ عن أخيه أو قريبه.
وفي هذا دليل على أن الإنسان إذا كان قد أحرم بالنسك عن غيره ولم يحج عن نفسه فإنه يقلب ذلك إلى نفسه، فيلبي عن نفسه، ويكون النسك له، ولا يستطيع الإنسان أن يحج حجاً واحداً عن شخصين، بل يكون الحج من واحد عن واحد، إما عن نفسه، أو عن واحد من الناس، لكن يمكن إذا كان الإنسان متمتعاً أن يجعل العمرة لشخص والحج لشخص، لأن كل واحد منهما مستقل عن الثاني بإحرامه وتحلله وما بين ذلك.(215/20)
تراجم رجال إسناد حديث (حجّ عن نفسك ثم حجّ عن شبرمة)
قوله: [حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني].
إسحاق بن إسماعيل الطالقاني ثقة، أخرج له أبو داود.
[وهناد بن السري].
هناد بن السري أبو السري ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبدة بن سليمان].
عبدة بن سليمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي عروبة].
ابن أبي عروبة هو: سعيد بن أبي عروبة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عزرة].
عزرة بن يحيى وهو مقبول، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير رضي الله عنه، تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث صحيح.(215/21)
كيفية التلبية(215/22)
شرح حديث: (أن تلبية رسول الله: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: كيف التلبية؟ حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، قال: وكان عبد الله بن عمر يزيد في تلبيته: لبيك لبيك لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: كيف التلبية؟ أي: كيف تكون التلبية؟ وما هي صيغتها؟ والتلبية: مصدر لبى يلبي تلبيةً، أي: أنه قال: لبيك اللهم لبيك! لبيك لا شريك لك لبيك، وهذه هي تلبية رسول الله.
وأورد أبو داود حديث ابن عمر أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لبيك اللهم لبيك! لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)، فهذه هي تلبية رسول الله عليه الصلاة والسلام التي كان يقولها، وكان ابن عمر يزيد على ذلك: (لبيك لبيك لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل)، وجاء -كما سيأتي- أنهم كانوا يزيدون والنبي عليه الصلاة والسلام يسمع ولا ينكر عليهم، فدل هذا على جواز ذلك، ومعلوم أن السنة: قول وفعل وتقرير، ولكن الأولى هو الاقتصار على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكلمة (لبيك) معناها: إجابة بعد إجابة، فيؤتى بكلمة لبيك في الإجابة، فالإنسان إذا نودي فإنه يقول: لبيك، وقد كان معاذ بن جبل رديفاً للنبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! فقال له: لبيك يا رسول الله!) وكرر ذلك، فكلمة (لبيك) هي جواب، وهو جواب حسن ممن ينادى، وأصل ذلك أن الله عز وجل دعا الناس إلى حج بيته الحرام، فمن وفقه الله عز وجل لأن يأتي إلى هذه العبادة، فإنه عندما يلبس لباس الإحرام، ويدخل في النسك، يلبي بهذه التلبية فيقول: لبيك اللهم لبيك! أو يقول: لبيك عمرة، أو لبيك عمرة وحجة، أو لبيك حجة، فمعنى قوله: لبيك، أنك دعوتني فأجبتك، فلبيك اللهم لبيك، إجابة بعد إجابة؛ لأن تكرار لبيك يعني تكرار الإجابة.
قوله: (لا شريك لك) أي: أنه بعد تكرار التلبية ذكر إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وكل عمل من الأعمال لا ينفع صاحبه إلا إذا كان خالصاً لوجه الله، ومطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالعمل المقبول عند الله لابد فيه من هذين الشرطين، فلا بد من تجريد الإخلاص لله وحده، وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يعبد إلا الله، ولا يعبد الله إلا طبقاً لما جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإذا اختل أحد هذين الشرطين فلا ينفع العمل، ويرد على صاحبه، فإذا فقد الشرط الأول وهو الإخلاص، فالعمل مردود، ولو كان العمل خالصاً لله ولكنه مبني على بدعة فإنه يكون مردوداً عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وقوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وقال: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
ولا يكفي أن يقول الإنسان: هذا عمل طيب، وأنا قصدي حسن، فهذا الكلام لا ينفع، ولابد من هذين الشرطين: الإخلاص والمتابعة، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، قال بعض أهل العلم: العمل المقبول عند الله هو ما كان خالصاً صواباً، فالخالص ما كان لله، والصواب ما كان على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقوله: (لبيك لا شريك لك) توضيح وبيان أن العبادة لله وحده، وأن الحج يكون لله وحده، ولهذا فكلمة: لبيك لا شريك لك هي بمعنى: لا إله إلا الله، فلبيك هي بمعنى: (إلا الله)، ولا شريك لك: هي بمعنى (لا إله)، فلبيك لا شريك لك فيها نفي وإثبات، فهي تنفي العبادة عن كل ما سوى الله، وتثبتها لله وحده لا شريك له، وقول الملبي: لبيك لا شريك لك فيها خطاب لله تعالى، أي: أجيبك وأجيب دعوتك، ولا أشرك معك أحداً في العبادة، كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
ثم بين بعد ذلك أن كل النعم من الله، وأن الحمد لله، وأن الملك لله، قال: (إن الحمد والنعمة لك والملك)، فالله تعالى هو المنعم بكل النعم ظاهرها وباطنها، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] وقال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، فنعم الله تعالى لا تعد ولا تحصى، والنعم كلها من الله، ولو أنعم عليك أحد من الخلق وأحسن إليك فإنما حصل ذلك من الله عز وجل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف)، فالنعم كلها من الله، والله تعالى يجعل للنعم أسباباً تحصل بها، والكل من الله عز وجل، والحمد لله تعالى، فهو المحمود على كل حال، فهو صاحب النعمة والمتفضل بها، وهو المستحق للحمد، وهو أيضاً مالك الملك، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء سبحانه وتعالى، ففي التلبية توحيد وثناء، فالتوحيد في قوله: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك)، والثناء في قوله: (إن الحمد والنعمة لك والملك) فكما أنه لا شريك لك في الملك، ولا شريك لك في الرزق، ولا في الإحياء، ولا في الإماتة؛ فلا شريك لك أيضاً في العبادة.
وقول ابن عمر رضي الله عنه في الزيادة: (لبيك لبيك لبيك وسعديك) كلمة (سعديك) هذه كلمة يؤتى بها معطوفة على لبيك، فلا تأتي لوحدها، وإنما تأتي معطوفة على سعديك، فهي كلمة تابعة لكلمة، وكلمة سعديك تضاف إلى الله عز وجل، ويخاطب بها الله سبحانه وتعالى، ومعناها: مساعدة منك بعد مساعدة، أو إسعاد منك بعد إسعاد، أي: لي.
وقوله: (والخير بيديك) أي: كل النعم هي من الله، والخير بيد الله، فهو الذي يجود ويتفضل على عباده، فالخير بيد الله يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء.
قوله: (والرغباء إليك) أي: الرغبة وطلب الحصول على الشيء إنما تكون إلى الله، فهي نوع من أنواع العبادة، فأنواع العبادة كثيرة منها: الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والإنابة والاستعانة والاستعاذة والذبح والنذر وغيرها، فيجب أن تكون أنواع العبادة كلها لله وحده لا شريك له، ولا يصرف أي نوع من أنواع العبادة لغيره، وهذا هو توحيد الألوهية، وهو توحيد الله تعالى بأفعال العباد، كالدعاء والنذر والخوف والرجاء وغيرها، وأما توحيد الربوبية فهو توحيد الله بأفعاله، فهو الخالق الرازق المحيي المميت، فهذه أفعال الله عز وجل.(215/23)
تراجم رجال إسناد حديث (أن تلبية رسول الله: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك)
قوله: [حدثنا القعنبي].
القعنبي هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد رباعي، وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود، وهي التي يكون فيها بين أبي داود وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أشخاص، وهم هنا: القعنبي ومالك ونافع وابن عمر.(215/24)
شرح حديث جابر في التلبية (لبيك ذا المعارج)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا جعفر قال: حدثنا أبي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: (أهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر التلبية مثل حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: والناس يزيدون: ذا المعارج ونحوه من الكلام، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمع فلا يقول لهم شيئاً)].
أورد أبو داود حديث جابر وهو مثل حديث ابن عمر في التلبية، وزاد فيه: (والناس يزيدون: ذا المعارج ونحوه من الكلام الذي فيه ثناء على الله عز وجل، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلا يقول لهم شيئاً) أي: لا ينكر عليهم، وقد سبق أن عرفنا أن الاقتصار على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم هو الأولى والأفضل، وهو وإن كان قد أقرهم فهو لم يأت بذلك، فالاقتصار على ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام لاشك أنه هو الأولى.
وبعض الناس قد يأتون ويزيدون شيئاً غير سائغ، وأما الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فما كانوا يأتون إلا بشيء سائغ، ولهذا لا يصح أن يزيد الإنسان ما يريد، لكن إذا أتى بشيء مما جاء عن الصحابة فلا بأس بذلك، وأما أن يأتي بشيء من عنده فلا يصلح ولا ينبغي، والاقتصار على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم هو الأولى.(215/25)
تراجم رجال إسناد حديث جابر في التلبية (لبيك ذا المعارج)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن سعيد].
يحيى بن سعيد القطان البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جعفر].
جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه هو محمد بن علي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما صحابي بن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وجعفر وأبوه محمد بن علي من أهل البيت، وهما من أئمة أهل السنة، وأهل السنة يعظمون أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وينزلونهم منازلهم، ويعرفون قدرهم، وهذان الرجلان العظيمان رحمة الله تعالى عليهما من علماء أهل السنة، ومن أئمة أهل السنة، الذين يعرف أهل السنة فضلهم، وينزلونهم منازلهم من غير جفاء ولا غلو، وإنما باعتدال وتوسط.(215/26)
شرح حديث رفع الصوت بالإهلال
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن خلاد بن السائب الأنصاري عن أبيه رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: أتاني جبريل صلى الله عليه وسلم فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال أو قال: بالتلبية، يريد أحدهما)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث السائب بن خلاد رضي الله عنه: (أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فأمرني أني آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال أو بالتلبية، يريد أحدهما) أي: أن رفْع الصوت بالتلبية لا يحصل مضرة على الناس، وهذا بالنسبة للرجل، وأما المرأة فتلبي بدون رفع الصوت، ويكون ذلك بحيث تسمعها صاحباتها، ولا يسمعها الرجال، والذين يرفعون أصواتهم هم الرجال، لكن بلا مشقة، وبلا إزعاج.
وهذا فيه دليل على أن الإنسان يرفع صوته بالتلبية والإهلال، وهذا ليس بلازم؛ لأن التلبية نفسها ليست بلازمة، فلو لم يأت بها لا يترتب على ذلك شيء، ولا يلزمه شيء، فهي من المستحبات التي ينبغي أن يأتي بها، ولكن لو لم يأت بها لا يقال: إن حجه نقص، أو أنه ترك أمراً يحتاج فيه إلى جبر، فالتلبية سنة، ورفع الصوت بها سنة.(215/27)
تراجم رجال إسناد حديث رفع الصوت بالإهلال
قوله: [حدثنا القعنبي، عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم].
عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث].
عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خلاد بن السائب].
خلاد بن السائب بن خلاد وهو ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه هو السائب بن خلاد، أخرج له أصحاب السنن.(215/28)
متى يقطع التلبية(215/29)
شرح حديث: (أن رسول الله لبّى حتى رمى جمرة العقبة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: متى يقطع التلبية؟ حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عن الفضل بن عباس رضي الله عنهم: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبى حتى رمى جمرة العقبة)].
أورد أبو داود باب: متى يقطع التلبية؟ والمقصود به هنا الحاج الذي أحرم بالحج، أو بالحج والعمرة أي: سواء كان قارناً أو مفرداً، وهو الذي يبقى على إحرامه حتى يوم النحر، وحتى يرمي جمرة العقبة، فتقطع التلبية عند رمي جمرة العقبة، فالإنسان من حين يدخل في الإحرام يلبي إلى أن يرمي جمرة العقبة، فإذا رمى جمرة العقبة قطع التلبية، لكن هل يقطعها عند البدء أو يقطعها عند الانتهاء؟ قال بعض أهل العلم: إنه يقطعها عندما يبدأ، وقال بعضهم: إنه يقطعها عندما ينتهي، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان يرمي لم يأت عنه أنه كان يلبي، وإنما كان يكبر، فدل هذا على أن الأظهر هو القطع عند البدء؛ لأنه بعد ذلك يكبر ولا يلبي عند الرمي، فالحالة التي يرمي فيها لم يعرف عنه أنه لبى، ولم يأت ذلك عنه، وهذا يقوي القول الأول القائل: إنه يقطع التلبية عندما يبدأ برمي جمرة العقبة، وبعد ذلك يكبر، وكذلك في يوم العيد وأيام التشريق، فهي أيام تكبير.
وهذا الحديث الذي أورده أبو داود هو حديث الفضل بن عباس، وهو أكبر أولاد العباس، وأمه لبابة بنت الحارث الهلالية، وهي أم أولاد العباس، وكان من أعلم الناس بهذه الحالة؛ لأنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان يلبي حتى رمى، فهو على علم بتلبيته وبانتهائها.(215/30)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله لبّى حتى رمى جمرة العقبة)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل عن وكيع].
وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء].
عطاء بن أبي رباح المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.
[عن الفضل].
عبد الله بن عباس يروي عن أخيه الفضل رضي الله عنهما، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(215/31)
شرح حديث (غدونا مع رسول الله من منى إلى عرفات، منا الملبي، ومنا المكبر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن أبي سلمة عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه رضي الله عنه قال: (غدونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من منى إلى عرفات، منا الملبي، ومنا المكبر)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر: (أنهم غدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفات يوم عرفة، منهم الملبي ومنهم المكبر) أي: منهم الذي يكبر، ومنهم الذي يلبي، وكل ذلك سنة وحق، ولا يعني بذلك أن بعضهم يفعل هذا دون هذا، وبعضهم يفعل هذا دون هذا، لا؛ وإنما المراد أن هناك من يكبر، وهناك من يلبي، فالكل موجود.(215/32)
تراجم رجال إسناد حديث: (غدونا مع رسول الله من منى إلى عرفات منّا الملبّي ومنا المكبِّر)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل عن عبد الله بن نمير].
عبد الله بن نمير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن سعيد].
يحيى بن سعيد الأنصاري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن أبي سلمة].
عبد الله بن أبي سلمة الماجشون وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن عبد الله بن عبد الله بن عمر].
عبد الله بن عبد الله بن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن أبيه].
أبوه هو عبد الله بن عمر، وقد مر ذكره.(215/33)
وقت قطع التلبية للمعتمر(215/34)
شرح حديث: (يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب متى يقطع المعتمر التلبية.
حدثنا مسدد حدثنا هشيم عن ابن أبي ليلى، عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر)].
أورد أبو داود رحمه الله باب: متى يقطع المعتمر التلبية، وهذا يتعلق بالعمرة، فالإنسان الذي أحرم بعمرة سواءً كان في وقت الحج، أو في غير وقت الحج، متى يقطع التلبية؟ للعلماء في ذلك قولان: فمنهم من يقول: إنه يقطعها عندما يبدأ بالطواف ويستلم الحجر، وقد جاء في ذلك حديث ضعيف رواه أبو داود، والصحيح فيه الوقف على ابن عباس، وعلى هذا أكثر أهل العلم كما قال ذلك الإمام الترمذي.
والقول الثاني: إنه يقطع التلبية إذا دخل مكة، وقد جاء في صحيح البخاري (أن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه دخل مكة، فلما رأى البيوت قطع التلبية، وبات بذي طوى، واغتسل، وقال: هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل)، فقوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل)، محتمل أن يكون راجعاً إلى الكلام السابق كله، ويحتمل أن يكون راجعاً إلى الاغتسال المذكور أخيراً، وقد بوب عليه البخاري باغتسال المحرم، فهو محتمل لهذا ولهذا، وقال الحافظ الأظهر أنه يرجع للجميع، لكن الدلالة -كما هو معلوم- غير واضحة تماماً، فالأمر محتمل، نعم هذا حصل من ابن عمر، أما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك فمحتمل، والله تعالى أعلم.(215/35)
تراجم رجال إسناد حديث (يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن هشيم].
هشيم بن بشير الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي ليلى].
ابن أبي ليلى هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه، وهو صدوق سيئ الحفظ جداً، أي: أنه مع تمكنه في الفقه كان في الحديث سيئ الحفظ جداً، ولهذا لا يعول على ما ينفرد به، إذاً وهو سبب ضعف هذا الحديث.
وهناك اثنان يقال لهما: ابن أبي ليلى، وهما محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو هذا الضعيف، وأما الثاني فهو عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو ثقة معروف، ومخرج له في الصحيحين، وهو الذي يروي عن الصحابة كثيراً، والذي يذكر في كتب الفقه هو محمد عبد الرحمن بن أبي ليلى الذي هو سيئ الحفظ جداً.
وقد أخرج له أصحاب السنن.
[عن عطاء عن ابن عباس].
عطاء وابن عباس قد مر ذكرهما.(215/36)
شرح حديث (يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر) من طريق ثانية موقوفاً
[قال أبو داود: رواه عبد الملك بن أبي سليمان وهمام، عن عطاء عن ابن عباس موقوفاً].
ذكر المؤلف طريقاً أخرى صحيحة، رواها عبد الملك بن أبي سليمان وهمام عن عطاء عن ابن عباس موقوفاً عليه، وهو ليس من طريق ابن أبي ليلى المتكلم فيه، فالمحفوظ إذاً هو الوقف؛ لأن الطريق المرفوعة ضعيفة، والطريق الموقوفة رجالها أحسن حالاً من تلك، فـ عبد الملك بن أبي سليمان صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
وأما همام بن يحيى فهو ثقة، وقد أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهما قرينان في هذه الرواية، فكل منهما يروي عن عطاء.(215/37)
المحرم يؤدب غلامه(215/38)
شرح حديث تأديب أبي بكر لغلامه وهو محرم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: المحرم يؤدب غلامه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا ح وحدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة أخبرنا عبد الله بن إدريس أخبرنا ابن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجاجاً، حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلنا، فجلست عائشة رضي الله عنها إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجلست إلى جنب أبي بكر رضي الله عنه، وكانت زمالة أبي بكر وزمالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واحدة مع غلام لـ أبي بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه فطلع وليس معه بعيره، قال: أين بعيرك؟ قال أضللته البارحة، قال أبو بكر: بعير واحد تضله؟ فطفق يضربه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم ويقول: انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع! قال ابن أبي رزمة: فما يزيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن يقول: انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع! ويتبسم)].
أورد أبو داود باب: المحرم يؤدب غلامه، أي: يؤدب غلامه بالضرب غير المبرح، وأورد حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: (أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حجاجاً، وأنهم كانوا في مكان يقال له: العرج، فنزلوا وكان الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً وعائشة بجواره، وجلست هي بجوار أبيها أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وكان هناك غلام لـ أبي بكر، وكان ينتظره فلما جاء وليس معه بعير، قال: أين بعيرك؟ قال: أضللته البارحة، فقال له: بعير واحد تضله؟) أي: إنها ليست إبلاً كثيرة بحيث يشذ عنك منها واحد وأنت مشغول عنه، فهو واحد وأنت واحد، فكان اللائق بمثل هذا ألا يفوت منك، (فجعل يضربه والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ويبتسم، ويقول: انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع! ولا يزيد على ذلك) فيقول هذا ويبتسم صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وكانت زماله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة) أي: كان مركوبهما وما كان معهما من أدوات السفر واحداً.
فيدل هذا الحديث على أنه لا بأس للمحرم أن يؤدب غلامه من غير كلام سيئ.(215/39)
تراجم رجال إسناد حديث تأديب أبي بكر لغلامه وهو محرم
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل ومحمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة].
محمد بن أبي رزمة ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن إدريس].
عبد الله بن إدريس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إسحاق].
ابن إسحاق هو محمد بن إسحاق، صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير].
يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه هو عباد بن عبد الله وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أسماء بنت أبي بكر].
أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(215/40)
شرح سنن أبي داود [216]
من واجبات الحج التجرد عن اللباس المخيط، ولبس إزار ورداء بالنسبة للرجل، والمرأة تلبس ما شاءت غير أنها لا تلبس القفازين ولا تنتقب، ويحرم على المحرم أن يمس طيباً حال إحرامه، وإذا فعل فيجب عليه أن يزيله بغسله أو باستبدال لباس آخر، وعليه فدية، إلا إذا فعل ذلك جاهلاً أو ناسياً.(216/1)
إحرام الرجل في ثيابه(216/2)
شرح حديث: (اغسل عنك أثر الخلوق واخلع الجبة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: الرجل يحرم في ثيابه.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا همام قال: سمعت عطاء أخبرنا صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وعليه أثر خلوق -أو قال: صفرة- وعليه جبة، فقال: يا رسول الله! كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ فأنزل الله تبارك وتعالى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوحي، فلما سُرِّي عنه قال: أين السائل عن العمرة؟ قال: اغسل عنك أثر الخلوق، أو قال: أثر الصفرة، واخلع الجبة عنك، واصنع في عمرتك ما صنعت في حجتك)].
أورد أبو داود باب: الرجل يحرم في ثيابه، أي: الثياب التي اعتادها، فيصح إحرامه فيها، ولكن لا يجوز له أن يلبس الثياب المخيطة كالقميص والفنايل والسراويل وما إلى ذلك، فكل ذلك لا يلبسه المحرم، ولكن لو حصل أنه دخل وهو كذلك فإنه يصح إحرامه، فلو أن إنساناً احتاج إلى أن يحرم وليس معه لباس الإحرام، وكان عند الميقات أو في الطائرة، ولم يتمكن من الحصول على ثياب الإحرام، فإنه يحرم في ثيابه، لكن ليس على هيئة اللبس، بل يخلع ثوبه ويتزر به، ولا يؤثر ذلك، وإنما الذي يؤثر أن يلبسه على الهيئة المعروفة كما يلبس القميص.
قوله: (لما كان بالجعرانة جاءه رجل عليه أثر خلوق)، هو نوع من الطيب، قوله: (وعليه جبة) هذا هو معنى أن الرجل يحرم في ثيابه، فهذا الرجل أحرم وعليه هذه الجبة، والجبة لباس غليظ يتقى به البرد، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس جبة، كما في حديث المغيرة بن شعبة في مسألة التيمم، وكان المغيرة يصب عليه الماء، ولما أراد أن يغسل يديه أراد أن يخرجهما من الجبة فإذا كم الجبة ضيق، فأدخل يديه من الداخل، ورفع الجبة وجعل يتوضأ والجبة مرفوعة، أي: من تحتها، فهي لها أكمام، وهي مثل القميص والثوب، إلا أنها غليظة، وهي تقي من البرد، وليست كالجبب التي عندنا في هذا الزمان، فهذه التي معنا مفتوحة، والإنسان يدخل يديه في أكمامها، وأما رأسه فإنه لا يدخل في جيب، وإنما هو مفتوح، فهي مثل الكوت إلا أنها كبيرة.
قوله: (قال: كيف تأمرني أن أصنع في العمرة؟ فأنزل عليه الوحي) وكان عليه الصلاة والسلام إذا أنزل عليه الوحي يصيبه شيء من التعب والمشقة، (ولما سُرِّي عنه) أي: ذهب عنه ما كان يجد بسبب نزول الوحي عليه، قال: (أين السائل عن العمرة؟ قال: اغسل عنك أثر الخلوق، واخلع الجبة، واصنع في عمرتك ما تصنعه في حجك)، ولعلهم كانوا يفهمون أن العمرة تختلف عن الحج، وأنه يمكن للإنسان أن يلبس ألبسة في العمرة خلاف الألبسة التي يلبسها في الحج، فسأل: (ما يصنع في عمرته؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اغسل عنك الخلوق، واخلع الجبة، واصنع في عمرتك ما تصنعه في حجك)، والخلوق قيل: إنه الزعفران، والرجل لا يجوز أن يتزعفر مطلقاً، وقيل: إن المقصود من ذلك أنه فعل ذلك أولاً، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتطيب قبل الإحرام ويستديمه بعد الإحرام، وقد فعل ذلك في حجة الوداع، ومرت بنا أحاديث تدل على أن الاستدامة غير الابتداء، فيحتمل أن يكون هذا قد حصل بعد الإحرام، ويحتمل أن يكون حصل قبل الإحرام، والزعفران لا يستعمله الرجل.(216/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (اغسل عنك أثر الخلوق واخلع الجبة)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن همام عن عطاء عن صفوان بن يعلى بن أمية].
همام وعطاء مر ذكرهما، وصفوان بن يعلى بن أمية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه] يعلى بن أمية وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(216/4)
شرح حديث: (اغسل عنك أثر الخلوق) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عيسى حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن عطاء عن يعلى بن أمية رضي الله عنه وهشيم عن الحجاج عن عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه بهذه القصة قال فيه: فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اخلع جبتك، فخلعها من رأسه، وساق الحديث)].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى وفيه أنه قال: (اخلع جبتك فخلعها من رأسه)، ولا شك أن خلعه لا يكون إلا من رأسه، فهي تدخل من الرأس، ولا يمكن التخلص منها إلا بإخراجها من الرأس أو بتمزيق الثوب، والتمزيق إتلاف للمال، فلا يصلح، فلم يبق إلا إخراجها من الرأس، وهذا بيان للواقع الذي ليس هناك غيره.(216/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (اغسل عنك أثر الخلوق) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
محمد بن عيسى هو: الطباع وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي عوانة].
أبو عوانة هو الوضاح بن عبد الله اليشكري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بشر].
أبو بشر هو جعفر بن إياس بن أبي وحشية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء عن يعلى بن أمية].
عطاء ويعلى بن أمية قد مر ذكرهما.
[وهشيم عن الحجاج].
هشيم بن بشير الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، والحجاج هو ابن أرطأة، وهو صدوق كثير الخطأ والتدليس، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن صفوان بن يعلى عن أبيه].
صفوان بن يعلى وأبوه قد مر ذكرهما.
يقول الألباني: إن ذكر الإخراج من الرأس منكر؛ لأنه من جهة الحجاج وحده، فقد خالف الثقات.
أقول: لكن الطريق الأولى رجالها ثقات، ثم إن إخراجها من الرأس هو الواقع، وما عداه ففيه إتلاف الجبة وشقها.
وبعض أهل العلم يقول: إذا خلعها من رأسه فيلزم من ذلك أنه يغطي رأسه، لكن هذا شيء لابد منه، وأيضاً لا توجد تغطية؛ لأن أكثر ما في الأمر أنها تمر من الجوانب، وتذهب إلى فوق، وهو لن يغطي رأسه حتى تلزمه فدية، فله أن يسحبها من فوق الرأس، ولو حصلت تغطية فهذا لا يؤثر.(216/6)
شرح حديث: (اغسل عنك أثر الخلوق) من طريق ثالثة وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني الرملي حدثنا الليث عن عطاء بن أبي رباح عن ابن يعلى بن منية عن أبيه رضي الله عنه بهذا الخبر قال فيه: (فأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزعها نزعاً، ويغتسل مرتين أو ثلاثاً وساق الحديث)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وفيه: (أن النبي أمره أن ينزعها نزعاً وأن يغتسل مرتين أو ثلاثاً) أي: يغسل الطيب.
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني].
يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن الليث].
الليث بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء عن ابن يعلى].
عطاء مر ذكره.
[عن ابن يعلى بن منية].
ابن يعلى هو صفوان الذي مر ذكره، ويعلى بن منية هو يعلى بن أمية، فـ منية أمّه، وأمية أبوه، فهو أحياناً ينسب إلى أمه، وأحياناً ينسب إلى أبيه.(216/7)
شرح حديث: (اغسل عنك أثر الخلوق) من طريق رابعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي سمعت قيس بن سعد يحدث عن عطاء عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجعرانة وقد أحرم بعمرة وعليه جبة وهو مصفر لحيته ورأسه، وساق هذا الحديث)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه: (أنه مصفر لحيته ورأسه) أي: بالطيب، وساق الحديث الذي تقدم، ومعلوم أن الغسل إنما يكون للجسد، وأما الجبة فإنها تنزع وما فيها، فإذا نزعها فلا يحتاج إلى أن يتخلص منها ومن الطيب الذي فيها، لكن يغسل التصفير الذي كان على لحيته ورأسه، وليس للإنسان أن يلبس الجبة وهي من المخيط، والتطيب بالزعفران قد جاء ما يدل على عدم استعماله، وقد يكون المقصود من ذلك أنه تطيب قبل الإحرام أو بعد الإحرام، فإذا كان بعد الإحرام فلا يجوز، ويغسله فلا يستديمه، وإنما يزيله، وإما إذا تطيب قبل إحرامه فاستدامته سائغة، وقد جاء في الأحاديث الصحيحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان على مفرقه أثر وبيص المسك وهو محرم، وقد وضعه قبل الإحرام.(216/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (اغسل عنك أثر الخلوق) من طريق رابعة
قوله: [حدثنا عقبة بن مكرم].
عقبة بن مكرم ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن وهب بن جرير].
وهب بن جرير بن أبي حازم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قيس بن سعد].
قيس بن سعد ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه].
عطاء وصفوان بن يعلى مر ذكرهم.(216/9)
أسئلة(216/10)
حكم العمرة عن شخص والحج عن آخر
السؤال
إذا حج الإنسان عن شخص واعتمر عن آخر هل يعتبر متمتعاً؟ وعلى من يكون الهدي؟
الجواب
يكون متمتعاً وعليه هدي، فالحاج الذي حج يذبح الهدي، يعني الحاج الذي تصدق وأعطى هذا عمرته، وأعطى هذا حجه؛ يجب عليه أن يهدي، وإذا لم يستطع صام.(216/11)
حكم تغيير النية في الحج عن الغير بعد المرور من الميقات
السؤال
هل يجوز تغيير النية في الحج بعد المرور من الميقات لمن نوى الحج لشخص ثم يغير النية في الطريق؟
الجواب
لا يجوز إلا إذا كان الإنسان يقلبها إلى نفسه لكونه لم يحج، وأما كونه يغير النية من شخص إلى شخص فليس له ذلك إذا حج فرضه.
ولو أن إنساناً حج عن غيره، وهو لم يحج عن نفسه، فإن الحج ينقلب له، حتى ولو بدأ بمناسك الحج؛ لأن الحج وجد ولا يذهب سدى، ولا يمكن أن يكون لشخص غيره، فيكون له، وإذا كان أعطي نقود ليحج بها عن غيره فيرجع النقود إلى أهلها.(216/12)
حكم السلام على رسول الله بلفظ الخطاب من بعيد
السؤال
هل يجوز للرجل أن يقول: السلام عليك يا رسول الله! في كل مكان؟
الجواب
لا يجوز أن يقول هذا في كل مكان، وإنما يقول ذلك عند زيارة قبره، وأما في غير ذلك فإنه يقول: صلى الله عليه وسلم، أو عليه الصلاة والسلام، أو اللهم! صل وسلم وبارك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الملائكة تبلغ ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.(216/13)
حكم التحدث في المجالس عن عيوب ولاة الأمور
السؤال
ما حكم من يتحدث في المجالس عن عيوب ولاة الأمور، ويذكر أشياءً عن أحوالهم من غير تثبت؟ وهل هذا من منهج السلف؟
الجواب
ليس هذا من منهج السلف، وحتى لو كان متثبتاً فليس له أن يتكلم علناً؛ لأن هذا ليس فيه مصلحة، بل فيه مضرة، وإنما المصلحة في النصح، فعليه أن يبلغ النصيحة إلى من تنفع فيه النصيحة، وأما أن ينشر الكلام في ذلك من غير تثبت فهذا فيه وصفان ذميمان: الأول: أنه ينشر ذلك، والنشر هنا لا يصلح، والثاني: أنه لم يتثبت من ذلك، فمطية الرجل: زعموا، فأي شيء يسمعه فإنه يشيعه من غير تثبت، وهذا لا يصلح، وكما أنه هو نفسه لا يحب أن يعامل هذه المعاملة، فعليه أن يعامل غيره بهذه المعاملة، وإذا أراد أن يعرف هل يصلح هذا أو لا فعليه أن يقيس الناس على نفسه، فهل يرضى أن تنشر عيوبه بين الناس من غير تثبت، فيتحدث الناس بها في المجالس؟! فإذا كان يرى أن مثل هذا لا يعجبه ولا يناسبه فعليه أن يعامل الناس كما يحب أن يعاملوه به، قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وهو حديث طويل: (فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه) أي: أن تعامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).(216/14)
حكم قراءة القرآن ومس المصحف للحائض والجنب
السؤال
سبق أن مر بنا حديث عندما سأل صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة قائلاً: (لعلك نفست؟ فقالت: نعم، قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري)، وأعمال الحج مشتملة على ذكر وتلبية ودعاء وقراءة قرآن، ولم يمنعها صلى الله عليه وسلم من قراءة القرآن سواءً في سرها أو من المصحف، وأما حديث ابن عمر المرفوع: (لا تقرأ الحائض ولا الجنب) فقيل: إنه ضعيف من جميع طرقه كما قال الحافظ في (فتح الباري) (1/ 409)، ولا يصح في نهي الحائض والجنب عن قراءة القرآن حديث، فما توجيه فضيلتكم؟
الجواب
لا نعلم دليلاً يدل على منع الحائض من أن تقرأ القرآن من حفظها، وأما أن تقرأ من المصحف فليس لها أن تمس المصحف، بل كل من كان غير متوضئ سواءً كان رجلاً أو امرأة فليس له أن يمس القرآن، كما جاء في الحديث: (لا يمس القرآن إلا طاهر)، فمس المصحف يحتاج إلى وضوء، وأما القراءة عن ظهر قلب فلا بأس بها لمن كان على غير وضوء، وكذلك الحائض لها أن تقرأ القرآن من حفظها، إما قراءتها من المصحف فقد منعنا صاحب الحدث الأصغر فهي من باب أولى.
وأما الجنب فيختلف عن الحائض؛ لأن التخلص من الجنابة بيده، فإن كان عنده ماء يغتسل، وإن لم يكن فإنه يتيمم، وأما الحائض فليس التخلص من الحيض بيدها، بل لها أمد تنتظره حتى ينتهي ثم تغتسل، وأما الجنب فأمره بيده، فيغتسل أو يتيمم وبعد ذلك يقرأ القرآن.(216/15)
لباس المحرم(216/16)
شرح حديث (لا يلبس المحرم القميص ولا البرنس ولا السراويل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما يلبس المحرم.
حدثنا مسدد وأحمد بن حنبل قالا: حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: (سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما يترك المحرم من الثياب؟ فقال: لا يلبس القميص، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا العمامة، ولا ثوباً مسه ورس ولا زعفران، ولا الخفين إلا لمن لا يجد النعلين، فمن لم يجد النعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب ما يلبس المحرم] يعني: من الثياب، والمقصود من هذه الترجمة: بيان الألبسة التي يُمنع منها الإنسان المحرم.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عما يترك المحرم من الثياب) أي: عما يترك لبسه، وفي بعض الروايات في الصحيحين: (سأل عما يلبس المحرم من الثياب)، فأجاب عليه الصلاة والسلام بالشيء الذي لا يلبس؛ لأنه محصور ومحدود، وفي حديث ابن عمر هذا عند أبي داود كان الجواب مطابقاً للسؤال، فقد كان السؤال عما يترك، والجواب بما يترك.
وأما ما في الصحيحين من السؤال عما يلبس، وإجابته صلى الله عليه وسلم بما لا يلبس، فيسمى هذا الأسلوب: أسلوب الحكيم، وهو أن يجيب المسئول بالصيغة التي تجعل الجواب مختصراً.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن اللباس الذي يتركه المحرم هو اللباس الذي كان قد اعتاده؛ كالقميص المفصل على الجسد كله، أو ما فُصِّل على بعضه كالسراويل، أو ما هو خاص بالرأس كالعمامة، وهي التي يغطى بها الرأس وتكون منفصلة، وكذلك أيضاً إذا كانت متصلة بغيرها وليست منفصلة كالبرانس، وهي الثياب التي يكون غطاء الرأس فيها متصلاً بها، وكذلك لا يلبس الخفين، وهما اللذان يغطيان الكعبين، وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل الكعبين.
والمقصود من ترك لبس القميص أن يلبسه الإنسان على الهيئة المعروفة، أما لو احتاج الإنسان إلى أن يجعل القميص إزاراً؛ كأن يكون آتٍ في الطائرة وليس معه إزار ورداء، أو أنه لم يكن ينوي الحج والعمرة ثم بدا له أن يعتمر أو أن يحج وهو مقبل على الميقات، فلا بأس بأن يتجرد من ثوبه ويلبسه على هيئة الإزار حتى يجد إزاراً ورداءً، فلبسه هنا ليس على الهيئة المعروفة المعتادة المنهي عنها، والمقصود من الإحرام أن يكون الإنسان على هيئة تخالف ما كان عليه من هيئة في المعتاد، ثم إن الإزار والرداء كان من ألبسة العرب ومن ألبسة المسلمين، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس الإزار والرداء في غير الحج والعمرة، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم هنا في الحديث ما لا يجوز من اللباس، وعليه فإن غيره من اللباس يجوز لبسه، فيجوز له أن يلبس ما شاء من الثياب ما دام أنه ليس مما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه من اللباس.
وقد كان هذا السؤال في المدينة قبل سفره صلى الله عليه وسلم إلى الحج.
قوله: (ولا ثوباً مسه ورس ولا زعفران) أي: لا يلبس الإنسان الثياب المطيبة، ولا يطيب ثيابه إذا أراد الإحرام، وإنما يطيب جسده كرأسه ولحيته، ويترك الطيب فيما بعد ذلك، والثوب المزعفر لا يستعمله الرجل لا في الحج ولا في غيره، فقد جاء نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه.
والتنصيص هنا على الورس والزعفران ليس من باب التخصيص لهما، إنما هذا الحكم يشمل جميع أنواع الطيب، فلا يستعمل الطيب لا في الطعام ولا في الشراب، ولا يستعمل أيضاً على جسد الإنسان ولا في ثيابه، فأي شيء رائحته طيبة ويقصد منه الرائحة الطيبة فذلك لا يجوز.
قوله: (ولا الخفين إلا لمن لا يجد النعلين، فمن لم يجد النعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين)، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء: هل إذا لم يجد النعلين يلبس الخفين ويقطعهما كما جاء في هذا الحديث، أو أنه لا يقطعهما كما جاء في حديث ابن عباس الذي سيذكره المصنف، وقد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة، والحجاج متوافرون من مختلف الآفاق، وهو يبين للناس ما ينبغي لهم أن يفعلوه، فإنه لم يذكر القطع في عرفة، ولكنه ذكره في أول الأمر قبل أن يسافر.
فقال بعض أهل العلم: يحمل المطلق على المقيد، فيحمل حديث ابن عباس على حديث ابن عمر، وأنه يقطع، وبهذا قال جمهور أهل العلم.
وقال بعض أهل العلم: إن حديث ابن عباس متأخر، وقد قاله النبي صلى الله عليه وسلم في مكان اجتمع فيه الناس من مختلف الآفاق، فسمعه من جاء من المدينة، ومن جاء من غير المدينة، وهذا بيان من الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو كان القطع مطلوباً أو مشروطاً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
فقالوا: إن حديث ابن عمر منسوخ بحديث ابن عباس المتأخر، وأنه يؤخذ بآخر الأمرين مما جاء عنه صلى الله عليه وسلم.
وقالوا أيضاً: إن هذا مثل السراويل فقد جاء في الحديث أن من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل، ولم يذكر أنه يشقها، إذاً فكما أن السراويل يلبسها المحرم كما هي ويكون معذوراً في ذلك، ويكون لبسها رخصة لمن لم يجد الإزار، فكذلك أيضاً من لم يجد النعلين فليلبس الخفين ولا يقطعهما.
وهذا القول -فيما يبدو- هو الأرجح من جهة أنه آخر ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الناس الذين سمعوه كانوا قد جاءوا من مختلف الآفاق، وكذلك الرخصة فيه كالرخصة في السراويل.(216/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يلبس المحرم القميص ولا البرنس ولا السراويل)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[وأحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الإمام، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
سفيان هو ابن عيينة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم].
سالم بن عبد الله بن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبو هو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(216/18)
شرح حديث: (لا يلبس المحرم القميص) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعناه].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى وقال: بمعناه، أي: بمعنى الحديث المتقدم، مع اختلاف في الألفاظ والإسناد.(216/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يلبس المحرم القميص) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
ابن عمر مر ذكره.(216/20)
شرح حديث: (لا يلبس المحرم القميص) من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما (عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، وزاد: ولا تنتقب المرأة الحرام، ولا تلبس القفازين)].
أورد المصنف حديث ابن عمر من طريق أخرى، وهو كالذي قبله وفيه زيادة: (ولا تنتقب المرأة الحرام) أي: المحرمة، (ولا تلبس القفازين)، فالمرأة ليست كالرجل في الإحرام، فلها أن تلبس ما تشاء، وإنما تمنع من لبس النقاب، فلا تنتقب ولا تلبس القفازين، وهما اللذان تدخل فيهما اليدان؛ لاتقاء البرد أو غير ذلك، فهذا تمنع منه المرأة، وقد جاء الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تلبس النقاب، وإنما تغطي وجهها إذا كان هناك رجال أجانب كما سيأتي ذلك عن عائشة أنها قالت: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نكشف وجوهنا، فإذا حاذانا الركبان سدلت إحدانا خمارها على وجهها)، فتغطية الوجه للمحرمة قد جاءت به السنة، ولكن لا يكون ذلك بالنقاب ولا البرقع، وأما استعمال الخمار وتغطية الوجه عند الرجال الأجانب فهو مشروع.(216/21)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يلبس المحرم القميص) من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
الليث بن سعد المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن ابن عمر].
نافع وابن عمر مر ذكرهما.(216/22)
ثبوت حديث: (لا يلبس المحرم القميص) مرفوعاً وموقوفاً وتراجم رجال الإسناد
[قال أبو داود: وقد روى هذا الحديث حاتم بن إسماعيل ويحيى بن أيوب عن موسى بن عقبة عن نافع على ما قال الليث، ورواه موسى بن طارق عن موسى بن عقبة موقوف على ابن عمر، وكذلك رواه عبيد الله بن عمر ومالك وأيوب موقوفاً، وإبراهيم بن سعيد المديني عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (المحرمة لا تنتقب، ولا تلبس القفازين).
قال أبو داود: إبراهيم بن سعيد المديني شيخ من أهل المدينة ليس له كثير حديث].
ذكر أبو داود أن هذا الذي جاء من ذكر النهي عن الانتقاب ولبس القفازين جاء مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء في بعض الطرق موقوفاً على ابن عمر، والمرفوع ثابت وصحيح، وهو في الصحيحين، والطريق التي أوردها أبو داود من طريق الليث هي مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر بعض الطرق التي تماثل هذه الطريق المرفوع، وذكر بعض الطرق التي فيها أنه موقوف على ابن عمر، فيكون الحديث جاء عنه موقوفاً وجاء عنه مرفوعاً.
قوله: [وقد روى هذا الحديث حاتم بن إسماعيل].
حاتم بن إسماعيل صدوق يهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ويحيى بن أيوب].
يحيى بن أيوب صدوق ربما أخطأ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن موسى بن عقبة].
موسى بن عقبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع على ما قال الليث].
أي: أنه مرفوع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ورواه موسى بن طارق].
موسى بن طارق ثقة، أخرج له النسائي.
[عن موسى بن عقبة موقوف على ابن عمر].
أي: أنه جاء عن موسى بن عقبة مرفوعاً وموقوفاً.
[وكذلك رواه عبيد الله بن عمر].
عبيد الله بن عمر هو: العمري المصغر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومالك وأيوب].
مالك بن أنس مر ذكره، وأيوب هو أيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وإبراهيم بن سعيد المديني].
إبراهيم بن سعيد المديني مجهول الحال، أخرج له أبو داود، وقال عنه أبو داود: شيخ من أهل المدينة ليس له كبير حديث.
[عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم].
أي: أنه جاء من طريق هذا الرجل المجهول مرفوعاً، والطرق السابقة أيضاً جاءت مرفوعة، وقد أشار أبو داود رحمه الله إلى حاله وقلة حديثه.(216/23)
شرح حديث: (المحرمة لا تنتقب) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا إبراهيم بن سعيد المديني عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين)].
هذا طريق آخر عن ابن عمر مرفوع، وإبراهيم بن سعيد الذي في إسناده هو الذي رفعه، وهو موافق لما جاء في الصحيحين.
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد عن إبراهيم بن سعيد المديني عن نافع عن ابن عمر].
كلهم مر ذكرهم.(216/24)
شرح حديث: (أن رسول الله نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق قال: فإن نافعاً مولى عبد الله بن عمر حدثني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب، وما مس الورس والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب معصفراً، أو خزاً، أو حلياً، أو سراويل، أو قميصاً، أو خفاً)].
هذا الحديث مثل الحديث السابق، إلا أن فيه زيادة أن المرأة تمتنع من القفازين، ومن النقاب، ومن الطيب، ولتلبس ما شاءت بعد ذلك، أي: سواءً كان سراويل أو ثياباً أو حلياً أو خفاً، فكل ذلك لا تمنع منه المرأة، لكن لا يكون زينة ولا فتاناً، فالمرأة تختلف عن الرجل.
والمحرمة لها أن تلبس الحلي، بشرط ألا يظهر ويفتتن به الناس، ولا يلزمها إذا كان عليها حلي أن تخلع حليها إذا أرادت أن تحرم.
ويصح إحرام المرأة وهي مختضبة بالحناء، ولكن لا ينبغي أن تفعل ذلك، لكن إذا وجد فإنها تخفيه بثيابها، ولا تخفيه بالقفازين.(216/25)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
مر ذكره.
[حدثنا يعقوب].
يعقوب بن إبراهيم بن سعد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبي].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إسحاق].
محمد بن إسحاق صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن نافع وابن عمر].(216/26)
طريق أخرى لحديث: (أن رسول الله نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب)
[(ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب)].
[قال أبو داود: روى هذا الحديث عن ابن إسحاق عن نافع: عبدة بن سليمان ومحمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق إلى قوله: (وما مس الورس والزعفران من الثياب)، ولم يذكرا ما بعده] أي: أنه وقع في هذه الطريق اختصار، فذكر ما مسه الزعفران والورس، ولم يذكر ما عدا ذلك، وهو مذكور في الطريق السابقة، وهو صحيح ثابت.
[قال: روى هذا الحديث: عن ابن إسحاق عن نافع: عبدة بن سليمان].
عبدة بن سليمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومحمد بن سلمة].
محمد بن سلمة الباهلي وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.(216/27)
شرح حديث ابن عمر في نهي النبي عن لبس المحرم للبرنس
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه وجد القر فقال: ألق علي ثوباً يا نافع! فألقيت عليه برنساً، فقال: تلقي علي هذا وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلبسه المحرم؟!].
أورد المصنف حديث ابن عمر أنه وجد القر -أي البرد- فقال لـ نافع: ألق علي ثوباً.
أي: شيئاً يغطيه ويستدفئ به، قال: (فألقيت عليه برنساً، فقال: تلقي علي هذا وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلبسه المحرم؟!) فهذا يدل على أن المحرم لا يستعمل الشيء الذي منع منه حتى ولو كان على سبيل الغطاء، لكن إذا أراد الإنسان أن يحرم وليس معه إزار ورداء، فله أن يتزر به مؤقتاً حتى يجد إزاراً، وليس عليه شيء؛ لأنه لم يلبسه على الهيئة التي منع منها.(216/28)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر في نهي النبي عن لبس المحرم للبرنس
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أيوب عن نافع عن ابن عمر].
مر ذكر هؤلاء الثلاثة.(216/29)
شرح حديث: (السراويل لمن لا يجد الإزار والخف لمن لم يجد النعلين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: السراويل لمن لا يجد الإزار، والخف لمن لا يجد النعلين)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السراويل لمن لا يجد الإزار، والخف لمن لا يجد النعلين)، وهذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة، والناس يشهدون ذلك من مختلف الآفاق، وتلقوا عنه هذا الكلام، فقال بعض أهل العلم: إنه يؤخذ بهذا ويترك القطع؛ لأن ذاك متقدم وهذا متأخر، وقال بعض أهل العلم: إنه يحمل المطلق على المقيد، ومما يقوي أنه لا يقطع، أن السراويل بدل عن الإزار، والسراويل لا يحصل فيها شق ولا قطع، فتكون الخفاف كذلك، ولو كان القطع مطلوباً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الذين جاءوا من مختلف الآفاق، فالقول بأن المحرم يلبسه ولا يقطعه هو الأظهر.
وإذا أراد الإنسان أن يلبس ثياباً من أجل مرض فيه فعليه الفدية، وهذا مثل الذي يحلق رأسه، فإن عليه الفدية إذا كان مضطراً إلى ذلك، فالإنسان إذا كان به مرض ويريد أن يلبس ثيابه سواءً كانت سراويل، أو قميصاً أو غير ذلك مما يحتاج الإنسان إلى لبسه لمرض به، فإن عليه الفدية، لكن من لم يجد الإزار فليلبس السراويل وليس عليه فدية، ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليس عليه فدية.
وهذه الأوقات مع برودة الجو قد يحتاج كبار السن إلى ثياب داخلية للتدفئة، فإذا خشي عليهم الضرر، فإن لهم أن يلبسوا ويفدوا، ولكن يمكن أن يحصل ما يريدون بأن يلتحف الواحد منهم بأي لحاف من الألحفة التي مثل البطانية فوق الإحرام، ولا بأس بذلك.(216/30)
تراجم رجال إسناد حديث: (السراويل لمن لا يجد الإزار والخف لمن لا يجد النعلين)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد بن زيد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن دينار].
عمرو بن دينار المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن زيد].
جابر بن زيد هو: أبو الشعثاء، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود: هذا حديث أهل مكة، ومرجعه إلى البصرة إلى جابر بن زيد، والذي تفرد به منه ذكر السراويل، ولم يذكر القطع في الخف].
يعني بأهل مكة ابن عباس وعمرو بن دينار، وسليمان بن حرب وإن كان بصرياً إلا أنه كان قاضياً بمكة، وجابر بن زيد بصري، وكذلك حماد بن زيد.(216/31)
شرح حديث عائشة: (كنا نخرج مع النبي إلى مكة فنضمد جباهنا بالسك المطيب عند الإحرام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسين بن الجنيد الدامغاني حدثنا أبو أسامة أخبرني عمر بن سويد الثقفي حدثتني عائشة بنت طلحة أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حدثتها قالت: (كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالسك المطيب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها، فيراه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا ينهاها)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: (أنهن كن يخرجن مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فكن يضمدن جباههن بالسك المطيب، فإذا عرقت إحداهن سال على وجهها، فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره) وهذا الطيب كأنه من الطيب الذي يختص بالنساء، فيرى ولا تظهر رائحته.(216/32)
تراجم رجال إسناد حديث: (كنا نخرج مع النبي إلى مكة فنضمد جباهنا بالسك المطيب عند الإحرام)
قوله: [حدثنا الحسين بن الجنيد الدامغاني].
هو لا بأس به، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثنا أبو أسامة].
أبو أسامة هو حماد بن أسامة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر بن سويد الثقفي].
عمر بن سويد الثقفي ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن عائشة بنت طلحة].
عائشة بنت طلحة بن عبيد الله وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة أم المؤمنين].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(216/33)
شرح حديث: (أن رسول الله قد كان رخص للنساء في الخفين فترك ذلك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن أبي عدي عن محمد بن إسحاق قال: ذكرت لـ ابن شهاب فقال: حدثني سالم بن عبد الله (أن عبد الله -يعني: ابن عمر رضي الله عنهما- كان يصنع ذلك، يعني: يقطع الخفين للمرأة المحرمة ثم حدثته صفية بنت أبي عبيد أن عائشة رضي الله عنها حدثتها: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد كان رخص للنساء في الخفين فترك ذلك)].
أورد أبو داود هذا الأثر عن ابن عمر أنه كان يقطع الخفين للمرأة المحرمة، فلما حدثته صفية بنت أبي عبيد -وهي زوجته- أن عائشة -وهي أم المؤمنين- رضي الله عنها حدثتها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان رخص للنساء في الخفين ترك ذلك).
أي: رخص لهن أن يلبسن الخفاف من دون قطع، فترك ذلك الذي كان يأمرهن به، فلعل ابن عمر اجتهد أولاً وقاس النساء على الرجال، ولما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص ذلك للنساء، ترك الأمر بالقطع.(216/34)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله قد كان رخص للنساء في الخفين فترك ذلك)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن أبي عدي].
ابن أبي عدي هو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إسحاق عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر عن صفية بنت أبي عبيد].
صفية بنت أبي عبيد هي زوجة ابن عمر، وهي ثقة، أخرج لها البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عائشة].
عائشة رضي الله عنها مر ذكرها.(216/35)
شرح سنن أبي داود [217]
يجوز للمحرم فعل أشياء قد يظنها بعض الناس غير جائزة، فمن ذلك أنه يجوز له أن يتظلل من الشمس، ويجوز للمحرمة أن تستر وجهها بخمارها بحضرة الرجال الأجانب، ويجوز للمحرم أن يحتجم، لكن إن حلق بعض شعره بسبب الحجامة فعليه فدية على الراجح من قولي العلماء رحمهم الله تعالى.(217/1)
حمل المحرم للسلاح(217/2)
شرح حديث: (لما صالح رسول الله أهل الحديبية صالحهم على ألا يدخلوها إلا بجلبان السلاح)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: المحرم يحمل السلاح.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء رضي الله عنه يقول: (لما صالح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل الحديبية صالحهم على ألا يدخلوها إلا بجلبان السلاح، فسألته: ما جلبان السلاح؟ قال: القراب بما فيه)].
أورد أبو داود باب المحرم يحمل السلاح، أي: عند الحاجة إلى ذلك، كأن يكون هناك خوف، أو يخشى أن يلقى عدواً، فإن له أن يحمل السلاح في هذه الحالة، لكن يحمله مغمداً ليس مشهراً.
وأورد أبو داود حديث البراء بن عازب في صلح الحديبية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صده المشركون عن الإتيان بعمرته عام الحديبية في السنة السادسة كان مما جرى في العقد الذي أبرم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين سهيل بن عمرو زعيم المشركين في ذلك الوقت: أنهم يعتمرون من السنة الآتية، لكن لا يدخلونها إلا ومعهم جلبان السلاح، أي: وفيها السلاح من سيف وسوط وغير ذلك، ومعنى ذلك أنهم يحملون ويكون مغمداً غير مشهر.(217/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية صالحهم على ألا يدخلوها إلا بجلبان السلاح)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل عن محمد بن جعفر].
محمد بن جعفر هو الملقب غندر، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق].
أبو إسحاق السبيعي هو عمرو بن عبد الله الهمداني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن البراء].
البراء بن عازب رضي الله عنهما، صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(217/4)
تغطية المحرمة وجهها(217/5)
شرح حديث: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله محرمات فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: تغطية المحرمة وجهها.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم أخبرنا يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزنا كشفناه)].
أورد أبو داود باب المحرمة تغطي وجهها، أي: تغطي وجهها عند الرجال الأجانب.
وأورد فيه حديث عائشة: (أنهن كن مع النبي صلى الله عليه وسلم وهن محرمات، فإذا حاذاهن الركبان سدلت إحداهن خمارها على وجهها، فإذا جاوزوهن) أي: تعدوهن الركبان، (فإنها تكشف وجهها)؛ لأن التغطية كانت من أجل ذلك وقد زال، إذاً فهن يغطين من أجل الركبان، ويكشفن إذا جاوزهن الركبان.
وهذا الحديث فيه رجل متكلم فيه؛ لذا ذكره الألباني في ضعيف السنن، ولكنه حسنه في المشكاة، وفي كتاب حجاب المرأة المسلمة، وله شاهد عن أسماء رضي الله عنها من طريق صحيح، فهو حديث ثابت بشواهده.(217/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله محرمات فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم].
هشيم بن بشير الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا يزيد بن أبي زياد].
يزيد بن أبي زياد ضعيف، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن مجاهد].
مجاهد بن جبر المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة رضي الله عنها مر ذكرها.(217/7)
تظليل المحرم(217/8)
شرح حديث أم الحصين في تظليل بعض الصحابة للنبي في حجة الوداع
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المحرم يظلل.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنيسة عن يحيى بن حصين عن أم الحصين رضي الله عنها حدثته قالت: (حججنا مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالاً رضي الله عنهما وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والآخر رافع ثوبه ليستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة)].
أورد أبو داود رحمه الله باب: المحرم يظلل، أي: يوضع فوق رأسه شيء لا يكون ملاصقاً له؛ كي يظلله من حر الشمس.
وأورد حديث أم الحصين رضي الله عنها: (أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فكان بلال وأسامة بن زيد أحدهما آخذ بخطام الناقة، والثاني رافع ثوبه يظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم به) أي: وهو راكب على راحلته، وقد رمى الجمرات وهو راكب صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهذا يدل على ما ترجم له المصنف، وأن مثل ذلك سائغ، والمحذور إنما هو أن يضع على رأسه شيئاً ملاصقاً، وأما إذا رفعه فوق رأسه بحيث يكون شبيهاً بالخيمة فلا مانع من ذلك ولا بأس به.
وفي هذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى أن يظلل من الشمس، كما فعل ذلك أصحابه معه، وفي هذا رد على الذين فتنوا بالغلو بالنبي صلى الله عليه وسلم من الصوفية الذين يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا ظل له؛ لأنه نور يعكس نور الشمس، وهذا من أكبر الغلط، وهو من الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أعطى الله نبيه صلى الله عليه وسلم من الفضائل والخصائص ما يكفيه مما صح وثبت عنه صلى الله عليه وسلم، فلا يحتاج إلى هذا الغلو، فقولهم هذا غير صحيح، وتظليله في هذا الحديث من حرارة الشمس أن تصل عليه صلى الله عليه وسلم يدلنا على بطلان مثل هذا الكلام.(217/9)
تراجم رجال إسناد حديث أم الحصين في تظليل بعض الصحابة للنبي في حجة الوداع
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم].
أبو عبد الرحيم هو: خالد بن أبي يزيد الحراني وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن زيد بن أبي أنيسة].
زيد بن أبي أنيسة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن حصين].
يحيى بن حصين ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أم الحصين].
أم الحصين رضي الله عنها صحابية، أخرج حديثها مسلم وأصحاب السنن.(217/10)
احتجام المحرم(217/11)
شرح حديث: (أن النبي احتجم وهو محرم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: المحرم يحتجم.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء وطاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم احتجم وهو محرم)].
أورد أبو داود باب: المحرم يحتجم، أي: عند الحاجة للاحتجام، فلا مانع من ذلك، فقد احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم، وهذا دال على أن الاستشفاء بهذا العلاج للمحرم سائغ لا بأس به.
وأورد فيه حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم).(217/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي احتجم وهو محرم)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء].
عطاء بن أبي رباح المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وطاوس].
طاوس بن كيسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.(217/13)
شرح حديث: (أن رسول الله احتجم وهو محرم في رأسه من داء كان به)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا هشام عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم احتجم -وهو محرم- في رأسه؛ من داء كان به)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم -وهو محرم- في رأسه من داء كان به)، وهذا مثل الذي قبله، إلا أن ذاك مجمل، وهذا فيه بيان أن الحجامة كانت في الرأس، والحجامة في الرأس إذا كان الرأس لا شعر فيه لا إشكال فيها، فيحتجم ولا كلام في ذلك، وأما إذا كان فيه شعر فهذا فيه خلاف بين العلماء، فمن أهل العلم من قال: إنه يفدي؛ لإزالة الشعر، ومنهم من قال: إنه لا يفدي.
وهذا الحديث ليس فيه إلا أنه صلى الله عليه وسلم احتجم في رأسه، ومعلوم أن رأسه صلى الله عليه وسلم كان فيه شعر، والراجح-والله أعلم- أن الإنسان يفدي الفدية التي خير فيها بين ثلاثة أشياء، وهي: صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة، فهذا هو الأولى؛ لأن هذا العمل فيه إزالة شعر بتعمد للحاجة، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لـ كعب بن عجرة أن يحلق رأسه من أجل القمل، وأرشده إلى الفدية، فالقول بأنه يفدي عن الشعر الذي يزيله عند الحجامة هو الأحوط.(217/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله احتجم وهو محرم في رأسه من داء كان به)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجة.
[حدثنا يزيد بن هارون].
يزيد بن هارون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا هشام].
هشام هو ابن حسان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
عكرمة مولى ابن عباس وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.(217/15)
شرح حديث: (أن رسول الله احتجم وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم احتجم وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به)].
أورد المصنف حديث أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به)، وهذا يدل على الاحتجام في حال الإحرام، وقد احتجم النبي صلى الله عليه وسلم في رأسه كما مر.(217/16)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله احتجم وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
[قال أبو داود: سمعت أحمد قال: ابن أبي عروبة أرسله، يعني: عن قتادة].
أي: أن قتادة أضافه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسعيد بن أبي عروبة من أوثق الناس في قتادة، لكن مادام أنه قد جاء من طريق صحيح فالرفع هو المعتمد.(217/17)
اكتحال المحرم(217/18)
شرح حديث عثمان في اكتحال المحرم بالصبر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: يكتحل المحرم.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن أيوب بن موسى عن نبيه بن وهب قال: (اشتكى عمر بن عبيد الله بن معمر عينيه فأرسل إلى أبان بن عثمان -قال سفيان وهو أمير الموسم-: ما يصنع بهما؟ قال: اضمدهما بالصبر، فإني سمعت عثمان رضي الله عنه يحدث ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
أورد أبو داود باب: يكتحل المحرم، واكتحال المحرم للحاجة أو للعلاج وللدواء لا بأس به، وأما أن يكتحل للزينة، فليس له ذلك؛ لأن المحرم مطلوب منه أن يبتعد عن الترفه والزينة؛ فذلك غير مناسب له، وأما إذا كان للعلاج والاستشفاء فهذا لا بأس به.
وأورد حديثاً فيه أنه: (اشتكى عمر بن عبيد الله بن معمر عينيه فأرسل إلى أبان بن عثمان -قال سفيان: وهو أمير الموسم-: ما يصنع بهما؟ قال: اضمدهما بالصبر، فإني سمعت عثمان رضي الله عنه يحدث ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
وهذا يدل على جواز استعمال ذلك للحاجة، والصبر من الأشياء التي يتعالج بها، وليس فيه طيب، وإذا استخدم الكحل المعروف كالإثمد أو الكحل الأسود للعلاج فلا بأس بذلك.(217/19)
تراجم رجال إسناد حديث عثمان في اكتحال المحرم بالصبر
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن أيوب بن موسى].
أيوب بن موسى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نبيه بن وهب].
نبيه بن وهب ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبان بن عثمان].
أبان بن عثمان وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[سمعت عثمان] عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أمير المؤمنين، وثالث الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وقوله عن أبان بن عثمان: كان أمير الموسم، أي: أمير الحجاج الذي يحج بالناس.(217/20)
شرح حديث اكتحال المحرم وتراجم رجال إسناده من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية عن أيوب عن نافع عن نبيه بن وهب بهذا الحديث].
هذه طريق أخرى للحديث السابق.
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن إسماعيل بن إبراهيم بن علية].
إسماعيل بن إبراهيم بن علية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب عن نافع عن نبيه بن وهب].
قد مر ذكرهم.(217/21)
الاغتسال للمحرم(217/22)
شرح حديث أبي أيوب الأنصاري في غسل المحرم رأسه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: المحرم يغتسل.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين عن أبيه: (أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة رضي الله عنهم اختلفا بالأبواء، فقال ابن عباس: يغسل المحرم رأسه، وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه، فأرسله عبد الله بن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه فوجده يغتسل بين القرنين وهو يستر بثوب، قال: فسلمت عليه، قال: من هذا؟ قلت: أنا عبد الله بن حنين أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغسل رأسه وهو محرم؟ قال: فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه، ثم قال لإنسان يصب عليه: اصبب، قال: فصب على رأسه، ثم حرك أبو أيوب رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، ثم قال: هكذا رأيته يفعل صلى الله عليه وسلم)].
أورد أبو داود: باب المحرم يغتسل، واغتسال المحرم إذا كان لاحتلام أو نحو ذلك أمر متعين لابد منه، وإذا كان لغير ذلك من إزالة أوساخ، أو لطول العهد فإن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل بذي طوى عند دخوله مكة.
وأورد أبو داود حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فقد (اختلف ابن عباس والمسور بن مخرمة في الأبواء، فقال ابن عباس: يغسل المحرم رأسه، وقال المسور بن مخرمة: لا يغسله، فأرسلوا عبد الله بن حنين إلى أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه يسأله، فوجده يغتسل بين قرنين وكان يستر بثوب، فسلم عليه فرد عليه السلام، فذكر أن ابن عباس أرسله إليه كي يسأله، فطأطأ الثوب حتى بدى رأسه، وقال لإنسان كان يصب عليه: اصبب، فحرك رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل) أي: أن المحرم يغسل رأسه، ولكنه لا يدلكه الدلك الشديد؛ حتى لا يتساقط الشعر، وسواء كان هذا الغسل للجنابة وهو أمر لابد منه، أو لغير الجنابة، فإن السنة جاءت بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمحرم له أن يغتسل ولا مانع من ذلك.
قوله: [كان بين قرنين]، القرنان هما عودان يكونان على البئر تعلق بهما البكرة, وقد جعل بينهما ستاراً يستره عند الغسل.
قوله: [فسلمت عليه]، فيه دليل على جواز السلام على من يغتسل أو يتوضأ، وأنه يرد السلام، وإنما يمنع أن يسلم على من يقضي حاجته، ولا يرد هو السلام في تلك الحال.
وفيه أيضاً أنه عند الاختلاف يرجع إلى ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فـ المسور وابن عباس لما حصل بينهما الاختلاف أرسلا رجلاً إلى أبي أيوب فلما جاءه الرسول أخبره بالسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن المحرم يغسل رأسه.(217/23)
تراجم رجال إسناد حديث أبي أيوب الأنصاري في غسل المحرم رأسه
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم].
زيد بن أسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين].
إبراهيم بن عبد الله بن حنين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
عبد الله بن حنين وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي أيوب].
هو خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه، وهو صحابي مشهور، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
فائدة: ذكرنا سابقاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع التلبية حين رمى جمرة العقبة، وقد جاء في صحيح ابن خزيمة (أنه قطع التلبية مع آخر حصاة رماها) وقد صححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى.
ففي صحيح ابن خزيمة الجزء (4/ 281) قال رحمه الله تعالى: باب قطع التلبية إذا رمى الحاج جمرة العقبة يوم النحر.
حدثنا علي بن حجر حدثنا إسماعيل -يعني: ابن جعفر - حدثنا محمد -وهو ابن أبي حرملة - عن كريب مولى ابن عباس، قال كريب: فأخبرني عبد الله بن العباس رضي الله عنهما أن الفضل رضي الله عنه أخبره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة).
قال أبو بكر -وهو ابن خزيمة -: خرجت طرق أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة في كتابي الكبير، وهذه اللفظة دالة على أنه لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة بسبع حصيات، إذ هذه اللفظة: (حتى رمى الجمرة) و (حتى رمى جمرة العقبة) ظاهرها حتى رمى جمرة العقبة بتمامها، إذ غير جائز من جنس العربية إذا رمى الرامي حصاة واحدة أن يقال: رمى الجمرة، وإنما يقال: رمى الجمرة إذا رماها بسبع حصيات، وروي عن ابن مسعود: (فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة بأول حصاة) حدثناه علي بن حجر أخبرنا شريك عن عامر عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه قال: (رمقت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة بأول حصاة).
قال أبو بكر: ولعله يخطر ببال بعض العلماء أن في هذا الخبر دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع التلبية عند أول حصاة يرميها من جمرة العقبة، وهذا عندي من الجنس الذي أعلمت في غير موضع من كتابنا أن الأمر قد يكون إلى وقت موقت في الخبر، والزجر يكون إلى وقت موقت في الخبر، ولا يكون في ذكر الوقت ما يدل على أن الأمر بعد ذلك الوقت ساقط، ولا أن الزجر بعد ذلك الوقت ساقط، كزجره صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد الصلاة حتى تطلع الشمس، فلم يكن في قوله دلالة على أن الشمس إذا طلعت فالصلاة جائزة عند طلوعها؛ إذ النبي صلى الله عليه وسلم قد زجر أن يتحرى بالصلاة طلوع الشمس وغروبها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أعلم أن الشمس تطلع بين قرني شيطان، فزجر عن الصلاة عند طلوع الشمس، وقال: (وإذا ارتفعت فارقها)، فدلهم بهذه المخاطبة أن الصلاة عند طلوعها غير جائزة حتى ترتفع الشمس، وقد أمليت من هذا الجنس مسائل كثيرة في الكتب المصنفة، والدليل على صحة هذا التأويل: الحديث المصرح الذي حدثناه محمد بن حفص الشيباني حدثنا حفص بن غياث حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن حسين عن ابن عباس عن أخيه الفضل رضي الله عنهم أنه قال: (أفضت مع النبي صلى الله عليه وسلم في عرفات، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة يكبر مع كل حصاة، ثم قطع التلبية مع آخرها حصاة).
قال أبو بكر: فهذا الخبر يصرح أنه قطع التلبية مع آخر حصاة لا مع أولها، فإن لم يفهم بعض طلبة العلم هذا الجنس الذي ذكرنا في الوقت، فأكثر ما في هذين الخبر من أساس لو قال: لم يلب النبي صلى الله عليه وسلم بعد أول حصاة رماها، وقال الفضل: لبى بعد ذلك حتى رمى الحصاة السابعة، فكل من يفهم العلم، ويحسن الفقه، ولا يكابر عقله ولا يعاند؛ علم أن الخبر هو من يخبر بكون الشيء أو بسماعه لا ممن يدفع الشيء وينكره، وقد بينت هذه المسألة في مواضع من كتبنا.
قال الشيخ الألباني: إسناده صحيح، أخرجه النسائي من طريق ابن عباس وليس فيه (ثم قطع التلبية مع آخرها) لكن في السنن الكبرى للبيهقي في (5/ 137) من طريق ابن خزيمة مثله، قال البيهقي: (ثم قطع التلبية في آخرها) زيادة غريبة، انظر الفتح (3/ 533).
والنبي صلى الله عليه وسلم تلبيته معروفة، وكان يزيد عليها، وهي: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، فهي طويلة، فكيف يقولها عند رمي كل حصاة؟! لكن إذا صح هذا الحديث فإنه يجب الأخذ به، لكن ينبغي أن يرجع إلى كلام الحافظ ابن حجر وينظر ماذا قال في هذه الزيادة؛ لأن التلبية عند الرمي بكل حصاة غريبة!(217/24)
كلام ابن خزيمة في وقت قطع الحاج للتلبية
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم].
زيد بن أسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين].
إبراهيم بن عبد الله بن حنين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
عبد الله بن حنين وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي أيوب].
هو خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه، وهو صحابي مشهور، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
فائدة: ذكرنا سابقاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع التلبية حين رمى جمرة العقبة، وقد جاء في صحيح ابن خزيمة (أنه قطع التلبية مع آخر حصاة رماها) وقد صححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى.
ففي صحيح ابن خزيمة الجزء (4/ 281) قال رحمه الله تعالى: باب قطع التلبية إذا رمى الحاج جمرة العقبة يوم النحر.
حدثنا علي بن حجر حدثنا إسماعيل -يعني: ابن جعفر - حدثنا محمد -وهو ابن أبي حرملة - عن كريب مولى ابن عباس، قال كريب: فأخبرني عبد الله بن العباس رضي الله عنهما أن الفضل رضي الله عنه أخبره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة).
قال أبو بكر -وهو ابن خزيمة -: خرجت طرق أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة في كتابي الكبير، وهذه اللفظة دالة على أنه لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة بسبع حصيات، إذ هذه اللفظة: (حتى رمى الجمرة) و (حتى رمى جمرة العقبة) ظاهرها حتى رمى جمرة العقبة بتمامها، إذ غير جائز من جنس العربية إذا رمى الرامي حصاة واحدة أن يقال: رمى الجمرة، وإنما يقال: رمى الجمرة إذا رماها بسبع حصيات، وروي عن ابن مسعود: (فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة بأول حصاة) حدثناه علي بن حجر أخبرنا شريك عن عامر عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه قال: (رمقت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة بأول حصاة).
قال أبو بكر: ولعله يخطر ببال بعض العلماء أن في هذا الخبر دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع التلبية عند أول حصاة يرميها من جمرة العقبة، وهذا عندي من الجنس الذي أعلمت في غير موضع من كتابنا أن الأمر قد يكون إلى وقت موقت في الخبر، والزجر يكون إلى وقت موقت في الخبر، ولا يكون في ذكر الوقت ما يدل على أن الأمر بعد ذلك الوقت ساقط، ولا أن الزجر بعد ذلك الوقت ساقط، كزجره صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد الصلاة حتى تطلع الشمس، فلم يكن في قوله دلالة على أن الشمس إذا طلعت فالصلاة جائزة عند طلوعها؛ إذ النبي صلى الله عليه وسلم قد زجر أن يتحرى بالصلاة طلوع الشمس وغروبها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أعلم أن الشمس تطلع بين قرني شيطان، فزجر عن الصلاة عند طلوع الشمس، وقال: (وإذا ارتفعت فارقها)، فدلهم بهذه المخاطبة أن الصلاة عند طلوعها غير جائزة حتى ترتفع الشمس، وقد أمليت من هذا الجنس مسائل كثيرة في الكتب المصنفة، والدليل على صحة هذا التأويل: الحديث المصرح الذي حدثناه محمد بن حفص الشيباني حدثنا حفص بن غياث حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن حسين عن ابن عباس عن أخيه الفضل رضي الله عنهم أنه قال: (أفضت مع النبي صلى الله عليه وسلم في عرفات، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة يكبر مع كل حصاة، ثم قطع التلبية مع آخرها حصاة).
قال أبو بكر: فهذا الخبر يصرح أنه قطع التلبية مع آخر حصاة لا مع أولها، فإن لم يفهم بعض طلبة العلم هذا الجنس الذي ذكرنا في الوقت، فأكثر ما في هذين الخبر من أساس لو قال: لم يلب النبي صلى الله عليه وسلم بعد أول حصاة رماها، وقال الفضل: لبى بعد ذلك حتى رمى الحصاة السابعة، فكل من يفهم العلم، ويحسن الفقه، ولا يكابر عقله ولا يعاند؛ علم أن الخبر هو من يخبر بكون الشيء أو بسماعه لا ممن يدفع الشيء وينكره، وقد بينت هذه المسألة في مواضع من كتبنا.
قال الشيخ الألباني: إسناده صحيح، أخرجه النسائي من طريق ابن عباس وليس فيه (ثم قطع التلبية مع آخرها) لكن في السنن الكبرى للبيهقي في (5/ 137) من طريق ابن خزيمة مثله، قال البيهقي: (ثم قطع التلبية في آخرها) زيادة غريبة، انظر الفتح (3/ 533).
والنبي صلى الله عليه وسلم تلبيته معروفة، وكان يزيد عليها، وهي: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، فهي طويلة، فكيف يقولها عند رمي كل حصاة؟! لكن إذا صح هذا الحديث فإنه يجب الأخذ به، لكن ينبغي أن يرجع إلى كلام الحافظ ابن حجر وينظر ماذا قال في هذه الزيادة؛ لأن التلبية عند الرمي بكل حصاة غريبة!(217/25)
أسئلة(217/26)
حكم اعتمار الإنسان للتمتع ثم رجوعه إلى بلاده
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يعتمر للتمتع، ثم يرجع لبلاده ثم يأتي في وقت آخر للحج، ويكون متمتعاً كذلك؟
الجواب
لا يجوز، فإذا رجع الإنسان إلى بلده فإن تمتعه ينقطع، وإنما عليه إذا أراد أن يتمتع أن يأتي بعمرة أخرى.(217/27)
هل خروج الدم والصديد والقيء يبطل الوضوء
السؤال
هل خروج الدم والصديد والقيء يبطل الوضوء؟
الجواب
يوجد خلاف بين أهل العلم في هذا، فمنهم من قال: إذا كان فاحشاً فإنه يبطل، وإذا كان قليلاً يسيراً فإنه لا يبطل، ولا نعلم دليلاً واضحاً يدل على أنه ينقص الوضوء إذا كان فاحشاً، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم تحصل لهم الجراح فيصلون، لكن قال بعض أهل العلم: إنهم كانوا مضطرين إلى ذلك، والمضطر يصلي على حسب حاله، والله تعالى أعلم.
وأما من حيث النجاسة: فقد قالوا بنجاسة الدم، وأما خروج الصديد فلا أدري هل هو مثله باعتبار أن فيه اختلاط الدم مع غيره أم لا.
وأما القيء فلا أعلم دليلاً خاصاً به.(217/28)
حكم تكرار العمرة في الشهر ثلاث أو أربع مرات
السؤال
ما حكم تكرار العمرة في الشهر ثلاث أو أربع مرات؟
الجواب
ما أعلم شيئاً يدل على تكرارها من مكة، أما إذا كانت العمرة من المواقيت المعروفة فلا بأس بها، أما العمرة التي تكرر من التنعيم فهذه لا نعلم شيئاً يدل عليها، ولكن كون الإنسان يعتمر داخلاً إلى مكة ولو تكررت العمرة في الشهر ثلاث مرات ما نعلم شيئاً يمنع منه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).(217/29)
حكم حلق بعض الرأس وترك بعضه لأجل الحجامة
السؤال
هل يصح فعل كثير من الناس من حلق بعض الرأس وترك الباقي؛ لأجل الحجامة؟
الجواب
لا بأس أن يحلق مكان المحجم، ولا يكون ذلك من القزع؛ لأن هذا علاج، فليس بلازم أن يحلق الرأس كله.(217/30)
حكم لبس الأصفر غير المزعفر
السؤال
هناك أكوات لونها أصفر، فما حكم لبسها؟
الجواب
الصفرة التي ليست ناتجة عن الزعفران لا بأس بها، ولا مانع يمنع منها.(217/31)
شرح سنن أبي داود [218]
من محظورات الإحرام النكاح، فلا يَنْكِح المحرم ولا يُنْكِح ولا يخطب، ومن المحظورات أيضاً الصيد، فلا يجوز للمحرم أن يصيد شيئاً من صيد البر، ولا أن يأكل مما صاده الحلال لأجله، أما إذا صاد الحلال لنفسه ثم أهدى منه للمحرم فلا بأس به.(218/1)
زواج المحرم(218/2)
شرح حديث: (لا ينكح المحرم ولا ينكح)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: المحرم يتزوج.
حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن نبيه بن وهب أخي بني عبد الدار أن عمر بن عبيد الله أرسل إلى أبان بن عثمان بن عفان يسأله، -وأبان يومئذ أمير الحاج وهما محرمان-: إني أردت أن أنكح طلحة بن عمر ابنة شيبة بن جبير فأردت أن تحضر ذلك، فأنكر ذلك عليه أبان وقال: إني سمعت أبي عثمان بن عفان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاينكح المحرم، ولا ينكح)].
قال المصنف رحمه الله تعالى: باب المحرم يتزوج، أي: ما حكم ذلك؟ والجواب أنه لا يجوز للمحرم أن يتزوج، أي: أن يعقد النكاح، سواء كان له أو لغيره، فلا يكون متزوجاً ولا ولياً أو وكيلاً في زواج، فالمحرم عليه أن يبتعد عن الجماع، وعن كل ما هو مفض إلى الجماع، ومن ذلك العقد والخطبة، وكذلك أي شيء يؤدي إليه فإنه لا يسوغ للإنسان أن يفعله في حال إحرامه.
وليس المقصود بالنكاح في هذا الحديث مجرد الجماع، فإن ذلك كما هو معلوم غير سائغ، ولكن المقصود به العقد؛ لأنه قد جاء بعده: (ولا ينكح ولا يخطب).
أورد أبو داود حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا ينكح المحرم ولا ينكح)، فقوله: (لا يَنكح المحرم) أي: لا يتزوج ولا يعقد بنفسه، (ولا يُنكح) أي: لا يعقد لغيره، وذلك بأن يكون ولياً عن المرأة، فليس له أن يزوج المرأة في حال إحرامه، بل يكون الزوج والولي ووكيلاهما حلالاً عند العقد وليسوا بمحرمين، وسيأتي لفظ آخر بعد هذا بزيادة: (ولا يخطب) أي: الخطبة التي هي التقدم بطلب الزواج، فلا يخطب، سواء تمت أو لم تتم، سواء حصلت موافقة أو لم تحصل موافقة، فذلك لا يجوز، والمقصود أن الجماع وكل وسائله وما يؤدي إليه ممنوع منه المحرم، ولهذا منع المحرم من الطيب؛ لأنه من وسائله، وفيه ترفه أيضاً، وقد جاء في القرآن الكريم: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، وفسر الرفث بأنه الجماع ومقدماته، وفسر أيضاً بأنه الفاحش من الكلام، وكل ذلك حق وصحيح، فليس للمحرم أن يجامع، ولا أن يأخذ بالوسائل التي تؤدي إليه، وليس له أن يأتي بالفاحش من الكلام وهو في حال إحرامه، والجماع ووسائله ممنوعة في حال الإحرام، وهي مباحة في غير حال الإحرام، وأما الكلام البذيء فإنه ممنوع في حال الإحرام وغير حال الإحرام.
وهذا الحديث فيه قصة: (وهي أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج ابنه طلحة بن عمر بابنة شيبة بن جبير، فطلب من أبان أن يحضر ذلك) أي: أن يحضر العقد، لعله أن يكون شاهداً أو غير ذلك، فأنكر عليه ذلك، وروى عن أبيه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا ينكح المحرم، ولا ينكح) والذي يبدو أنهم كلهم كانوا محرمين، وأن ذلك كان في الحج، فلا يجوز ذلك ولو كان العروسان غير محرمين والوليان محرمين.
ولا يجوز للإنسان أن يحضر ذلك ولو كان غير محرم؛ لأنه فعل محرم لا يجوز المشاركة فيه، وإن ذهب فإنما يذهب لينكره فقط، أو ينكره قبل أن يأتي إليه.
ولو كان الزوج حلال والمرأة حلالاً فلا يحضره المحرم ولو كان شاهداً أو غير ذلك؛ هذا هو الأولى، فهو متلبس بالإحرام، فيكون ذلك شبيهاً بالخطبة، وإنما يشهده غير محرم، فمن كان محرماً فلا يجوز له شهود ذلك، حتى ولو كان المحرم مدعواً إلى الوليمة في العقد فالأحوط أن يبتعد، مع أن فعل الوليمة في العقد ولو كانت يسيرة فيه تكلف، ولا ينبغي التكلف في أمور الزواج.(218/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا ينكح المحرم ولا يُنكح)
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نبيه بن وهب].
نبيه بن وهب هو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبان بن عثمان].
هو أبان بن عثمان بن عفان وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[قال: إني سمعت أبي عثمان بن عفان].
عثمان بن عفان أمير المؤمنين، وثالث الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(218/4)
طريق أخرى لحديث: (لا ينكح المحرم ولا ينكح) وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد أن محمد بن جعفر حدثهم حدثنا سعيد عن مطر ويعلى بن حكيم عن نافع عن نبيه بن وهب عن أبان بن عثمان عن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم ذكر مثله، زاد: (ولا يخطب)].
أورد المصنف رحمه الله الحديث من طريق أخرى وفيه ما في الذي قبله وزيادة الخطبة أيضاً، وأن المحرم لا يفعلها.
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن محمد بن جعفر].
محمد بن جعفر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سعيد].
هو سعيد بن أبي عروبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مطر].
هو مطر الوراق، وهو صدوق كثير الخطأ، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ويعلى بن حكيم].
يعلى بن حكيم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن نافع عن نبيه بن وهب عن أبان بن عثمان عن عثمان] قد مرَّ ذكرهم.(218/5)
شرح حديث: (تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن يزيد بن الأصم ابن أخي ميمونة عن ميمونة رضي الله عنها أنها قالت: (تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف)].
في حديث ميمونة رضي الله عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام تزوجها وهما حلالان هي وهو، وكان ذلك في سرف، فدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما تزوج ميمونة وهو حلال وكذلك كانت هي حلالاً، ولم يكن منهما أحد محرماً، وهذا هو الذي جاء عن ميمونة وهي صاحبة القصة، وجاء عن أبي رافع أيضاً، وهو السفير بينهما، وجاء عن ابن عباس في الحديث الذي سيأتي أنه تزوجها وهو محرم، وحديث ابن عباس يعارض حديث ميمونة وحديث أبي رافع السفير بينهما، فأهل العلم قالوا: إن المسائل التي لا يمكن فيها الجمع، كأن وردت في واحدة وليس فيها تاريخ تقدم وتأخر حتى يكون المتأخر ناسخاً المتقدم؛ يصار إلى الترجيح، والترجيح يكون لكلام صاحب القصة ومن له علاقة بالقصة؛ لأنه أدرى من غيره.
فهنا ميمونة حدثت عن نفسها وهي صاحبة الشأن، وأبو رافع السفير بينهما والواسطة بينهما له علاقة بالموضوع، فيكون الخبر بأنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال هو للراجح، أضف إلى هذا أنه متفق مع حديث عثمان: (لا ينكح المحرم ولا ينكح) يعني: أن المحرم لا يحصل منه شيء من ذلك، وكون النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم يخالف ما جاء من قوله: (لا ينكح المحرم ولا ينكح).
إذاً: ما جاء عن ميمونة وعن أبي رافع متفق مع ما جاء عن عثمان رضي الله تعالى عنه وهو أنه تزوجها وهو حلال ولم يكن محرماً.
وبعض الناس ذكروا أوجهاً للجمع فيها تكلف، ولكن الأظهر هو أن قول ميمونة وأبي رافع هو المقدم، وهو المتفق مع حديث أمير المؤمنين عثمان كما في الحديث الذي في صحيح مسلم وعند أبي داود وغيرهما.
ومن الأشياء التي ذكروها أنه كان في الحرم، وكان حلالاً عند العقد، فلما عقد عليها في الحرم قيل له: محرم؛ لأنه في الحرم، مثل ما يقال: أتهم وأنجد، فأحرم معناه صار في الحرم، مثل أنجد وأتهم إذا كان في نجد وتهامة، لكن المعروف أن المحرم هو المتلبس بالإحرام وليس المقصود أنه الذي في الحرم.(218/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن حبيب بن الشهيد].
حبيب بن الشهيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ميمون بن مهران].
ميمون بن مهران وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد بن الأصم].
يزيد بن الأصم وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ميمونة].
هي ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها وأرضاها أم المؤمنين، وحديثها عند أصحاب الكتب الستة.(218/7)
شرح حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم)].
قوله: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم)] الحديث صحيح، ولكنه مخالف لحديث ميمونة وأبي رافع رضي الله عنهما ولا يمكن النسخ ولا الجمع بينهما، فلم يبق إلا الترجيح، والترجيح أن ميمونة صاحبة القصة وأبا رافع السفير بينهما يرويان أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهما حلالان، ومن جهة هو مطابق لما جاء من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عثمان: (لا ينكح المحرم ولا ينكح).(218/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم)
قوله: [قال حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا حماد بن زيد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(218/9)
شرح أثر: (وهم ابن عباس في تزويج ميمونة وهو محرم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن إسماعيل بن أمية عن رجل عن سعيد بن المسيب قال: وهم ابن عباس في تزويج ميمونة وهو محرم].
قوله: وهم ابن عباس في تزويج ميمونة وهو محرم يعني: أن الذي تقدم من حديث عثمان ومن حديث ميمونة وكذلك ما جاء من حديث أبي رافع مقدم على قوله، وهذا من الأوهام، مثل ما مر بنا في قضية أن معاوية قصر له عند المروة في حجتة بمشقص، والرسول صلى الله عليه وسلم حال إحرامه، مع أنه صلى الله عليه وسلم كان قد ساق الهدي ولم يقصر له عند المروة إلا في العمرة، فهذا من الأوهام.(218/10)
تراجم رجال إسناد أثر: (وهم ابن عباس في تزويج ميمونة وهو محرم)
قوله: [حدثنا ابن بشار].
هو محمد بن بشار الملقب بندار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرحمن بن مهدي].
عبد الرحمن بن مهدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسماعيل بن أمية].
إسماعيل بن أمية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رجل عن سعيد بن المسيب].
عن رجل مبهم، وسعيد بن المسيب ثقة فقيه، أحد الفقهاء السبعة المعروفين في عصر التابعين في المدينة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
قال الشيخ الألباني عن هذا الأثر: صحيح مقطوع.
وابن القيم أطال الكلام في جلاء الأفهام عند قصة ميمونة؛ لأنه ترجم لأمهات المؤمنين، وأتى بالأشياء التي فيها إشكال بالنسبة لأمهات المؤمنين كزواج ميمونة، وكذلك زواج أم حبيبة وغيرهما.
إذاً: إذا عقد الرجل وهو محرم فإنه يبطل العقد، وهو عقد فيه شبهة، فلابد أن يجدد العقد.(218/11)
ما يقتل المحرم من الدواب(218/12)
شرح حديث: (خمس لا جناح في قتلهن على من قتلهن في الحل والحرم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يقتل المحرم من الدواب.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه رضي الله عنه قال: (سئل النبي صلى الله عليه وآله سلم عما يقتل المحرم من الدواب، فقال: خمس لا جناح في قتلهن على من قتلهن في الحل والحرم: العقرب، والفأرة، والحدأة، والغراب، والكلب العقور)].
هذه الخمس جاءت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها تقتل في الحل والحرم، وجاء في بعض الأحاديث تقييد الغراب بأنه الأبقع، يعني: ليس كل غراب يقتل، وإنما يقتل الغراب الأبقع الذي في ظهره وبطنه بياض، وفي بعض الأحاديث الصحيحة: (والحية والعقرب والحدأة والغراب والكلب العقور والفأرة).
والكلب العقور هو الذي يعقر ويفتك ويحصل منه الأذى، ومعنى هذا أن الكلب الهادئ الذي ما يحصل منه شيء من الأذى فإنه لا يقتل في الحرم بل يترك.
أما الحية فسيأتي ذكرها في الحديث الذي بعد هذا.
إذاً: بدل ما كن خمساً صرن ستاً، والعدد لا مفهوم له.(218/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (خمس لا جناح في قتلهن على من قتلهن في الحل والحرم)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن حنبل أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان بن عيينة].
هو سفيان بن عيينة المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم].
هو سالم بن عبد الله بن عمر وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(218/14)
شرح حديث: (خمس قتلهن حلال في الحرم) من طريق ثانية وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا علي بن بحر حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثني محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خمس قتلهن حلال في الحرم: الحية، والعقرب، والحدأة، والفأرة، والكلب العقور)].
حديث أبي هريرة مثل الذي قبله، إلا أن فيه ذكر الحية بدل الغراب.
قوله: [حدثنا علي بن بحر].
علي بن بحر ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي.
[حدثنا حاتم بن إسماعيل].
حاتم بن إسماعيل صدوق يهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني محمد بن عجلان].
محمد بن عجلان وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن القعقاع بن حكيم].
القعقاع بن حكيم وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي صالح].
هو ذكوان السمان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(218/15)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل حدثنا هشيم حدثنا يزيد بن أبي زياد حدثنا عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم، قال: الحية، والعقرب، والفويسقة، ويرمي الغراب ولا يقتله، والكلب العقور، والحدأة، والسبع العادي)].
قوله: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم، قال: الحية، والعقرب، والفويسقة، ويرمي الغراب ولا يقتله، والكلب العقور، والحدأة، والسبع العادي)].
هذه الأشياء التي جاءت في الحديث مر ذكرها، كالحية والعقرب والحدأة والكلب العقور والغراب، إلا أن السبع العادي هذا يشمل السباع المعتدية كلها، كالذئاب وغير ذلك، فإنها تقتل بمجرد ما يراها الإنسان، ولا يتركها حتى تعتدي عليه؛ لأن من شأنها الاعتداء والافتراس بطبعها، فهي من جنس هذه الأشياء التي فيها الضرر، والحديث فيه يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف، ولكن أكثر ما جاء فيه جاء في الأحاديث الصحيحة.
وأما قوله: (يرمي الغراب ولا يقتله) فهذا جاء في هذا الحديث وهو منكر؛ لأنه مخالف للثقات، وكأن المقصود بذلك أنه يزعجه وينفره، ولو صح الحديث فيحمل على الغراب الذي ليس بأبقع، وهو الذي لا يحصل منه أذى، ولكنه قد يحصل منه ضرر كأن يأكل الحب وما إلى ذلك، فالرمي فيه إزعاج من دون أن يتعمد قتله، لكن هذا اللفظ مخالف لما جاء في الأحاديث الصحيحة، وإنما جاء من هذه الطريق التي فيها يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف.(218/16)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم)
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل حدثنا هشيم].
هشيم بن بشير الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يزيد بن أبي زياد].
يزيد بن أبي زياد ضعيف، أخرج له، البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي].
عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد].
هو سعد بن مالك بن سنان الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(218/17)
الأسئلة(218/18)
وجه الجمع بين الفواسق الخمس الجائز قتلها في الحل والحرم
السؤال
ما الجامع بين هذه الفواسق الخمس؟
الجواب
إن الجامع بين هذه الفواسق هو كونها مؤذية، والحدأة هي التي جاءت في قصة الجارية التي كانت عند عائشة وكانت تتمثل بقولها: ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني كانت هذه الجارية عند قوم، وكان لهم بنت لها وشاح أحمر، واتهموها به، فجعلوا يضربونها وقالوا: إنه عندك فأخرجيه، فبينما هم كذلك إذا جاءت الحدأة ومعها الوشاح ورمته؛ فعرفوا أنهم مخطئون، وأن الحدأة هي التي أخذته، ولكونه كان أحمر نزلت عليه الحدأة وكانت تحسبه لحماً فذهبت به.(218/19)
المراد بالكلب العقور
السؤال
الكلب العقور هنا هل المراد به الكلب أو جنس المفترس من أسد ونمر وغيرهما؟
الجواب
قيل: إن المراد به الجنس المفترس؛ ولهذا جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم سلط عليه كلباً) يعني: على ابن أبي لهب؛ فسلط الله عليه الأسد فافترسه، فهو كلب، ولكن بالإطلاق المشهور يطلق على هذا النوع من الحيوانات الذي يكون منه ما هو عقور ويكون منه ما ليس بعقور، وأما جنس السباع المؤذية المعروفة كالذئاب وغيرها فهذه تقتل مطلقاً؛ لأنها مؤذية دائماً.
أما الكلب المشهور المعروف عند الناس والذي يأتي ذكره في الأحاديث، فإنه يباح اتخاذه في بعض الأمور كالزرع والماشية والصيد، فالعقور منه هو الذي يقتل، والذي ليس كذلك يترك، كالكلاب الوديعة التي لا تؤذي الناس.(218/20)
لحم الصيد للمحرم(218/21)
شرح حديث: (أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى إليه رجل حمار وحش وهو محرم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب لحم الصيد للمحرم.
حدثنا محمد بن كثير حدثنا سليمان بن كثير عن حميد الطويل عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث عن أبيه: (وكان الحارث خليفة عثمان على الطائف، فصنع لـ عثمان رضي الله عنه طعاماً فيه من الحجل واليعاقيب ولحم الوحش، قال: فبعث إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فجاءه الرسول وهو يخبط لأباعر له، فجاءه وهو ينفض الخبط عن يده، فقالوا له: كل، فقال: أطعموه قوماً حلالاً فإنا حرم، فقال علي رضي الله عنه: أنشد الله من كان هاهنا من أشجع: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى إليه رجل حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله؟ قالوا: نعم)].
قوله: [باب لحم الصيد للمحرم] يعني: المحرم لا يصيد ولا يأكل ما صيد من أجله، ولا يساعد على الصيد ولا يعين عليه، وهذا هو الذي دل عليه القرآن ودلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اختلفت الأحاديث فيما يتعلق بالذي يصيده الحلال، هل يأكله المحرم أو لا يأكله؟ فقد جاء في بعض الأحاديث كما في حديث علي هذا، وكما في حديث الصعب بن جثامة الليثي الذي في الصحيحين ولم يأت عند أبي داود (أنه صلى الله عليه وسلم رد الذي أهدي إليه وقال: إنا لم نرده إلا أنّا حرم)، ولكن جاء في حديث أبي قتادة الذي في الصحيحين وقد أورده أبو داود: (أن أبا قتادة رضي الله عنه كان مع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وكانوا محرمين وهو غير محرم)، وجاء في بعض الروايات: (أنهم كانوا خرجوا حجاجاً)، وهذا الذي سبق أن أشرت إليه أن العمرة يطلق عليها حج بالمعنى العام، ويقال لها: الحج الأصغر، ففي حديث أبي قتادة: (أنهم خرجوا مع النبي وهم محرمون والرسول صلى الله عليه وسلم محرم، وأبو قتادة لم يكن محرماً، فرأى حماراً وحشياً فطلب من بعض الناس أن يساعدوه وأن يعطوه سوطه ورمحه فلم يجيبوه) وذلك لأنهم محرمون، وكانوا يعلمون أن المحرم لا يقتل الصيد ولا يعين على قتله.
(فنزل هو وأخذ الرمح شد على الحمار حتى عقره، فأكل منه بعض الصحابة وبعضهم لم يأكل، فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك، فقال: إنما هي طعمة أطعمكموها الله تعالى).
وفي هذا الحديث أن الحلال إذا صاد شيئاً من أجل المحرم فلا يأكله المحرم، وإن كان لم يصده من أجله ولكنه أعطاه، فهذا هو الذي يجوز.
فيجمع بين الأحاديث في هذا الباب بهذا التفصيل وبهذا التوفيق.
قوله: [(وكان الحارث خليفة عثمان رضي الله عنهما على الطائف فصنع لـ عثمان طعاماً فيه من الحجل واليعاقيب ولحم الوحش، قال: فبعث إلى علي بن أبي طالب فجاءه الرسول وهو يخبط لأباعر له، فجاءه وهو ينفض الخبط عن يده، فقالوا له: كل)].
يعني: كان الحارث أميراً على الطائف لـ عثمان رضي الله عنه، وصنع له طعاماً فيه حجل وفيه يعاقيب، واليعاقيب هي ذكور الحجل، وقيل غير ذلك، والمقصود أنها من الصيد، فبعث بطعام إلى علي رضي الله عنه، وكان علي يخبط لأباعر له، والخبط هو أن يضرب الشجرة حتى يسقط ورقها، ويعلفها الإبل، وتبقى الأصول والأغصان، وينبت الورق مرةً ثانية، هذا هو الخبط، فجعل علي رضي الله عنه ينفض يديه من أثر الخبط الذي كان بمباشرته ذلك العمل.
قوله: [(فقال: أطعموه قوماً حلالاً فإنا حرم)].
يعني: أن الذي صاده الحلال إنما يأكله الحلال، ولا يأكله المحرم، ونحن محرمون، ثم بعد ذلك سأل من كان عنده علم من أشجع ممن كانوا حاضرين، فقالوا مثل ما قال رضي الله عنه وأرضاه، ومثله حديث الصعب بن جثامة الذي في الصحيحين: (أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حمار وحش فرده عليه، فلما رأى في نفسه شيئاً من التأثر قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم).
قالوا: فيحمل على ما صيد من أجل المحرم فإنه يمنع منه، وما لم يصد من أجله له أن يأكل منه.(218/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى إليه رجل حمار وحش وهو محرم)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سليمان بن كثير].
سليمان بن كثير لا بأس به، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد الطويل].
هو حميد بن أبي حميد الطويل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث].
إسحاق بن عبد الله بن الحارث وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
هو عبد الله بن الحارث قيل: له رؤية، وقيل: ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[فقال علي].
هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، رابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، أبو السبطين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(218/23)
حكم خبط الشجر للمحرم وغيره في الحل والحرم
المحرم له أن يخبط ورق الشجر لإبله أو أغنامه فجائز كما فعل علي رضي الله عنه، لكن يحمل فعل علي رضي الله عنه أنه كان في الحل، أما الحرم فليس للإنسان أن يخبط الشجر فيه، سواء كان حلالاً أو محرماً، وإنما الذي يمكن للمحرم ولغير المحرم أن يفعله هو خارج الحرم مثل: عرفات، فعرفات من الحل وليست من الحرم، لكن ليس للإنسان أنه يفسد الشجر الذي فيها؛ لأن الذي فيها اعتني به حتى يظلل الناس، وكونه يأخذ منه شيئاً لغير حاجة فيه إفساد على الناس، وخاصة من الشيء الذي عمل من أجل كونهم يستظلون به من الشمس، فكون الإنسان يقطع شيئاً في الحل ليس عليه شيء أبداً.
إذاً: لا يجوز الصيد للمحرم خارج الحرم وداخله، وما كان داخل الحرم فإنه يمنع منه المحرم وغير المحرم، وأما الشجر فما كان داخل الحرم فممنوع منه المحرم وغير المحرم، وما كان خارج الحرم فهو حلال للمحرم وغير المحرم.(218/24)
شرح حديث إهداء الصيد للنبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن قيس عن عطاء عن ابن عباس أنه قال: (يا زيد بن أرقم! هل علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهدي إليه عضد صيد فلم يقبله، وقال: إنا حرم؟ قال: نعم)].
هذا الحديث مثل حديث علي، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الأكل من الصيد وقال: (إنا حرم)، ومثله حديث الصعب بن جثامة الذي أشرت إليه، ويحمل ذلك على أنه صيد من أجله.
قوله: [حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل حدثنا حماد].
مر ذكرهما.
[عن قيس] هو قيس بن سعد المكي وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عطاء].
هو عطاء بن أبي رباح وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
وقد مر ذكره.(218/25)
شرح حديث: (صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب -يعني الإسكندراني القاري - عن عمرو عن المطلب عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (صيد البر لكم حلال، ما لم تصيدوه أو يصد لكم).
قال أبو داود: إذا تنازع الخبران عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينظر بما أخذ به أصحابه].
قوله: [(صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم)].
يعني: أن المحرمين إذا صادوه بأنفسهم أو صاده لهم غيرهم فإنه يكون حراماً، وهذا فيه التوفيق بين ما جاء من الأدلة الدالة على المنع وعلى عدم المنع، وأن الحل فيما إذا لم يصد من أجلهم، والمنع فيما إذا صيد من أجلهم.
وحديث المطلب عن جابر هذا فيه كلام؛ لأن المطلب لم يسمع من جابر، فالحديث ضعيف منقطع، وهو من قبيل المرسل، ولكن معناه صحيح من جهة أن الجواز فيما إذا كان لم يصد من أجله كما جاء في حديث أبي قتادة، وأنه إذا صيد لأجله فإنه يمنع منه كما جاء في حديث علي وحديث الصعب بن جثامة وحديث ابن عباس.(218/26)
تراجم رجال إسناد حديث: (صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة مر ذكره.
[حدثنا يعقوب -يعني الإسكندراني -].
هو يعقوب بن عبد الرحمن القاري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن عمرو].
عمرو بن أبي عمرو، ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المطلب].
هو المطلب بن عبد الله بن حنطب صدوق كثير التدليس والإرسال، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن جابر بن عبد الله].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري الصحابي الجليل، صحابي ابن صحابي وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.(218/27)
معنى قوله: إذا تنازع الخبران عن النبي صلى الله عليه وسلم ينظر بما أخذ به أصحابه
[قال أبو داود: إذا تنازع الخبران عن النبي صلى الله عليه وسلم ينظر بما أخذ به أصحابه].
هذا فيما إذا حصل من أصحابه الأخذ بأحد الخبرين، لكن إذا كان الأصحاب قد اختلفوا فإنه ينظر إلى أمور أخرى غير الأخذ، لكن إذا كان خبران أحدهما جاء عن الصحابة الأخذ به، والآخر ما جاء عن الصحابة الأخذ به؛ فالذي أخذ به الصحابة يكون مقدماً على القول الآخر، لكن هنا المعول عليه هو التوفيق بين الأدلة؛ لأن ما صيد للمحرم لا يأكله، وما لم يصد له وأهدي إليه فله أن يأكله.(218/28)
شرح حديث: (إنما هي طعمة أطعمكموها الله تعالى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله التيمي عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري عن أبي قتادة رضي الله عنه: (أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كان ببعض طريق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم، فرأى حماراً وحشياً فاستوى على فرسه، قال: فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه، فأبوا، فسألهم رمحه، فأبوا، فأخذه ثم شد على الحمار فقتله، فأكل منه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبى بعضهم، فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وآله سلم سألوه عن ذلك، فقال: إنما هي طعمة أطعمكموها الله تعالى)].
حديث أبي قتادة رضي الله عنه هو في الصحيحين أيضاً، وفيه: أن الذين أكلوا من صيد الحلال -وهو أبو قتادة رضي الله عنه- أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنما هي طعمة أطعمكموها الله تعالى)، فدل ذلك على أن ما جاء فيه الأكل محمول على أنه لم يصد من أجل المحرم، وما كان فيه الامتناع محمول على أنه ما صيد لأجله.(218/29)
تراجم رجال إسناد حديث: (إنما هي طعمة أطعمكموها الله تعالى)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله التيمي].
أبو النضر هو سالم بن أبي أمية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري].
نافع مولى أبي قتادة الأنصاري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قتادة].
أبو قتادة الأنصاري هو الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه صحابي مشهور، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(218/30)
حكم صيد الجراد للمحرم(218/31)
شرح حديث: (الجراد من صيد البر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الجراد للمحرم.
حدثنا محمد بن عيسى حدثنا حماد عن ميمون بن جابان عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الجراد من صيد البحر)].
حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن حبيب المعلم عن أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أصبنا صرماً من جراد، فكان رجل منا يضرب بسوطه وهو محرم، فقيل له: إن هذا لا يصلح، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنما هو من صيد البحر).
سمعت أبا داود يقول: أبو المهزم ضعيف، والحديثان جميعاً وهم.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ميمون بن جابان عن أبي رافع عن كعب قال: الجراد من صيد البحر].
قوله: باب: في الجراد للمحرم يعني: هل يصيده أولا يصيده؟ وأورد أحاديث تدل على أنه من صيد البحر، وإذا كان من صيد البحر فإنه يكون حلالاً؛ لأن الله تعالى أحل صيد البحر للمحرم، وإنما منع المحرم من صيد البر، ولكن هذه الأحاديث كلها غير صحيحة وغير ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيها أبا المهزم وهو متروك لا يحتج بحديثه، وميمون بن جابان مقبول لا يحتج به إلا عند الاعتضاد، وليس هناك شيء يدل على ذلك، ولعل الظن أن الجراد من صيد البحر؛ لأنه شبيه به من ناحية أن ميتته حلال كصيد البحر، فكان شبيهاً به، فقيل: إنه من صيد البحر، فيكون له حكم صيد البحر من جهة أن المحرم يصيده، لكن لم يأت شيء يدل على ذلك، ومعلوم أنه من صيد البر، والناس يحصلونه في البر، فليس للمحرمين أن يصيدوه، وجاء عن بعض الصحابةأن فيه الجزاء، وهذا يدل على المنع من صيده، فعلى هذا لا يصاد الجراد، وحكمه غير حكم صيد البحر.(218/32)
تراجم رجال إسناد حديث: (الجراد من صيد البر)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
هو محمد بن عيسى الطباع ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ميمون بن جابان].
ميمون بن جابان وهو مقبول، أخرج حديثه أبو داود.
[عن أبي رافع].
هو أبو رافع المدني، وهو نفيع الصائغ وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي مر ذكره.
وقوله: [حدثنا مسدد] مسدد مر ذكره.
[حدثنا عبد الوارث] هو عبد الوارث بن سعيد العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حبيب المعلم].
حبيب المعلم وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي المهزم].
اسمه يزيد وقيل: عبد الرحمن بن سفيان وهو متروك، أخرج حديثه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.
وقوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ميمون بن جابان عن أبي رافع عن كعب].
كعب الأحبار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة في التفسير.(218/33)
الأسئلة(218/34)
حكم الاتزار بالبنطلون
السؤال
من يكون لابساً للبنطلون كيف يتزر به؟
الجواب
الظاهر أنه لا يصح الاتزار بالبنطلون؛ وذلك لأنه ضيق، وإذا عرضه على نفسه ظهرت عورته.(218/35)
حكم استعمال الكحل لغير المحرم
السؤال
هل يجوز استعمال الكحل لغير المحرم؟
الجواب
كون الإنسان يستعمله لا بأس؛ لأنه علاج من أجل جلاء البصر.(218/36)
حكم الاغتسال لمن دخل مكة اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل للمحرم أن يغتسل إذا دخل مكة وهو لا يحتاج إلى ذلك، ولكن تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
الأمر في ذلك واسع، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم ظل تسعة أيام يمشي في الطريق، ومعلوم أنه يحصل في هذه المدة شيء من العرق ومن الأوساخ ومن الأشياء التي يحتاج الناس إلى أن يزيلوها، وأما الآن فالواحد خلال أربع ساعات من المدينة يصل إلى مكة، ولا بأس أن يغتسل، وإن لم يغتسل فليس هناك أمر يقتضيه من ناحية الأوساخ، لكن لو اغتسل الإنسان فلاشك أن هذا جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن تركه فليس عليه شيء.(218/37)
حكم تكرار الحج من المرأة
السؤال
هل الأولى للمرأة أن تكرر الحج أم تحج الفريضة ثم تبقى في منزلها؟
الجواب
كما هو معلوم أن الحج الآن مع كثرة الناس ومع شدة الزحام لابد أن يلحق المرأة به شيء من الضرر، فنقول والله تعالى أعلم: الأمر في ذلك واسع، إن حجت وكررت الحج فلها ذلك، وإن لم تحج ولم تكرر الحج فلها ذلك.(218/38)
حكم ذكر المحرم للراغب في الزواج امرأة تصلح له
السؤال
لو أن المحرم دل على أهل بيت عندهم امرأة تصلح للزواج، فما حكم ذلك؟
الجواب
الذي يبدو أنه لا يصلح ذلك، فكونه يشتغل بالكلام عن النساء والبحث عن النساء، وذكر من يصلح ومن لا يصلح منهن، والجميلة وغير الجميلة؛ هذا لا يناسب المحرم.(218/39)
حكم حضور وليمة عرس فيها منكرات وإسراف
السؤال
إذا دعي شخص إلى وليمة عرس، وفي العرس إسراف من حيث استئجار المكان، أو هناك منكر عند النساء؛ فهل يحضر؟
الجواب
إذا كان يعلم أن المنكر موجود فلا يذهب، وأما مسألة الإسراف فالناس قد ابتلوا بهذا، فله أن يحضر ولكن ينصح حتى لا يحصل شيء من ذلك في المستقبل، أما ما قد حصل من الإسراف فإنه يوصي بإيصال الزائد من الطعام إلى من يحتاج إليه ومن يستفيد منه؛ لأن بعض الناس قد يتساهل ويتهاون في ذلك ويرمى به في أماكن لا يستفيد منه أحد من الناس الذين هم بحاجة إليه.(218/40)
حكم قتل المحرم للوزغ
السؤال
في الحج الماضي قمت بقتل وزغ وأنا محرم؛ ظاناً مني أنه من المأمور قتله في الحل والحرم، فما الحكم؟
الجواب
ليس عليك شيء ولا بأس بذلك؛ لأن كل ما يؤذي فإن للإنسان أن يقتله في أي مكان.(218/41)
الفرق بين الحمر الوحشية والحمر الإنسية
السؤال
المشهور عند الناس أن حمار الوحش هو الحمار المخطط، ولكن منهم من يقول: بل هو حيوان له قرون، وليس هو المخطط، فما رأيكم؟
الجواب
حمار الوحش هو ضد الحمار الإنسي، وهو يعيش في البر والناس يصيدونه، سواء كان مخططاً أو غير مخطط، ولكنه من صيد البر، وليس من حمر البيوت وحمر المزارع، بل هو في الفلاة يصاد كما تصطاد الظباء والأرانب وغيرها.(218/42)
قياس ما كان مؤذياً على الفواسق الخمس في قتله في الحل والحرم
السؤال
إذا كان الجامع بين هذه الأنواع الخمسة المأمور بقتلها في الحل والحرم هي كونها مؤذية، فهل يقاس عليها غيرها؟
الجواب
نعم يقاس عليها كل ما هو مؤذ، فيقتل المؤذن من الحيوانات في الحل والحرم، لكن هذه أشدها.(218/43)
حكم بيع الكلب وشرائه أو صيده بمقابل
السؤال
هل يجوز دفع المال لشخص كي يصيد له كلباً، وقد يكون محتاجاً له للماشية وللزرع؟
الجواب
إن بيع الكلب وشراءه جاء ما يدل على منعه، فكونه يعطي شخصاً مالاً من أجل أن يصطاد له كلباً، فهذا مثل بيع الكلب وشرائه، وهذا لا ينبغي ولا يصلح.
أما كونه يحتاج إليه للماشية والزرع، فلا يتفق معه على أن يصيد له بكذا وكذا، حتى لو كان هذا الشخص مالكه، فلا يبيعه منه، وإنما يدفعه له بدون قيمة إذا كان قد استغنى عنه؛ لأنه لا يجوز بيع الكلب ولا شراؤه، فمتى استغنى عنه الإنسان فإنه يدفعه إلى من يحتاج إليه، ولا يأخذ عليه ثمناً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثمن الكلب خبيث) أو يرسله، إلا إذا كان مؤذياً فإنه يقتله.(218/44)
حكم قطع شجر الغرقد في الحل والحرم
السؤال
ما حكم قطع شجرة الغرقد في الحل والحرم؛ لكونها من شجر اليهود؟
الجواب
لا أعلم شيئاً يدل على الأمر بقطعها.(218/45)
حكم طلاق المرأة حال حيضها
السؤال
إذا طلق الرجل زوجته حال حيضها، هل طلاقه باطل مثل العقد في الإحرام؟
الجواب
جمهور العلماء على أنه يقع الطلاق، ولكن عليه أن يراجعها وتحسب طلقة، كما جاء في حديث ابن عمر وقصة تطليقه في حال الحيض.(218/46)
حكم الصلاة على السجاد المصور فيه الكعبة وغيرها
السؤال
ما حكم الصلاة على السجاد الذي عليه صورة الكعبة؟
الجواب
لا بأس بذلك، لكن السجاد ينبغي أن يكون سالماً من النقوش، سواءً كان مصوراً فيه الكعبة أو غير الكعبة، وينبغي أن يكون شكله على هيئة واحدة؛ حتى لا يشوش على المصلي، لاسيما والإنسان ينظر إلى موضع سجوده.(218/47)
حكم اصطحاب الرجل من عقد بها ولم يدخل بها إلى الحج
السؤال
رجل عقد القران على امرأة لكنه لم يدخل بها بعد، وينوي اصطحابها معه إلى الحج، فما الحكم؟
الجواب
ما دام أنه عقد عليها والعقد موجود فله أن يصطحبها؛ لأنها زوجته، لكن ينبغي أن يعلم أنه إذا وجد العقد أصبحت زوجة له، فلو حصل موت بينهما فإنهما يتوارثان؛ لأن الزوجية موجودة، ولو مات عليها عدة، وعليها إحداد؛ لأنها زوجة بعد وجود العقد، لكن كونه يعلن الزواج أفضل؛ حتى لا يتهم الإنسان أو يساء به الظن، أو قد تحمل ثم يعلن الزواج بعد مدة، وتلد لمدة قصيرة؛ فيحصل سوء ظن واتهام وغير ذلك من المشاكل، والله أعلم.(218/48)
شرح سنن أبي داود [219]
من يسر الشريعة أن المحرم يحتاج إلى ترفه بفعل بعض محظورات الإحرام، فله ذلك، كحلق الشعر، ولبس المخيط، وتغطية الرأس، ولكن عليه الفدية، وهي ذبح شاة أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين، فيخير بين هذه الثلاث، وهذا من رحمة الله بعباده.(219/1)
ما جاء في الفدية(219/2)
شرح حديث كعب بن عجرة في فدية حلق الرأس
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في الفدية.
حدثنا وهب بن بقية عن خالد الطحان عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مر به زمن الحديبية، فقال: قد آذاك هوام رأسك؟ قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وآله سلم: احلق ثم اذبح شاةً نسكاً، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين)].
قوله: [باب في الفدية].
الفدية المقصود بها ما يفعله الإنسان مقابل ارتكاب محظور منع منه في حال الإحرام، وهذا الذي تحت هذه الترجمة يتعلق بفدية الرأس من أجل السلامة من الأذى الذي فيه، وذلك في حال الإحرام.
قوله: [(قد آذاك هوام رأسك؟)] يعني: ما فيه من القمل.
قوله: [(احلق ثم اذبح شاة نسكاً، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين)].
هذه هي الفدية عند ارتكاب هذا المحظور الذي رخص فيه وكان ممنوعاً منه، لكن الإنسان لا يحلق شعره ولا يتعرض لشعره في حال إحرامه إلا عندما يقتضي الأمر ذلك؛ كأن يكون هناك ضرورة تدعو إليه كهذه التي حصلت لـ كعب رضي الله عنه، فإن له أن يفعل ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد رخص في ذلك، ويكون عليه فدية.
والفدية مخير فيها بين هذه الأمور الثلاثة: إما أن يذبح شاة، أو يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أي: ثلاثة آصع تقسم على ستة مساكين، يكون لكل مسكين نصف صاع، هذه هي فدية الأذى، ومثل ذلك اللبس فإن كفارته وفديته هي هذه الفدية التي هي التخيير بين الأمور الثلاثة: وهي الذبح أو الصيام أو الإطعام، وقد جاء ذلك مجملاً في القرآن: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فجاءت السنة وفسرت وبينت المقصود بالنسك وأنه شاة، والمقصود بالصيام وأنه ثلاثة أيام، والمقصود بالإطعام وأنه إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، وهذا يدلنا على أن السنة توضح القرآن وتبينه وتفسره وتدل عليه.(219/3)
تراجم رجال إسناد حديث كعب بن عجرة في فدية حلق الرأس
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
وهب بن بقية ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن خالد الطحان].
خالد الطحان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد الحذاء].
هو خالد بن مهران الحذاء وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قلابة].
هو عبد الله بن زيد الجرمي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن أبي ليلى].
عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن كعب بن عجرة].
كعب بن عجرة رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(219/4)
حكم التخيير في فدية الأذى
والتخيير في فدية الأذى حاصل، ولكن لا شك أن ما يكون أنفع -وهو الشاة- هو الأولى، ولكن التخيير حاصل، ومعلوم أن التخيير يكون في الأشياء المتفاوتة، مثل ما جاء في كفارة اليمين: إعتاق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، ومن لم يجد صام ثلاثة أيام، ولا شك أن عتق الرقبة أفضل من إطعام عشرة مساكين ولكن التخيير موجود، وكذلك هنا ذبح الشاة أولى وأفضل من الصيام أو الإطعام، ولكن التخيير حاصل، وأي شيء فعل الإنسان مما خير به فإنه يجزئه، ويكون قد أدى ما وجب في ذمته.(219/5)
شرح حديث كعب بن عجرة في الفدية من طريق ثانية وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن داود عن الشعبي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (إن شئت فانسك نسيكة، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، وإن شئت فأطعم ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين)].
هذا الحديث مثل الذي قبله، وفيه جواز التخيير في الفدية، إن شئت كذا، وإن شئت كذا، وإن شئت كذا.
فإن اختار الصيام مثلاً فعليه أن يبادر إلى الإتيان به حتى يتخلص مما في ذمته، وليس للصيام وقت محدود يفوت بفواته.
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن داود].
هو داود بن أبي هند وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الشعبي].
هو عامر بن شراحيل الشعبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة].
عبد الرحمن بن أبي ليلى وكعب قد مر ذكرهما.(219/6)
شرح حديث كعب بن عجرة في الفدية من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن المثنى حدثنا عبد الوهاب ح وحدثنا نصر بن علي حدثنا يزيد بن زريع -وهذا لفظ ابن المثنى - عن داود عن عامر عن كعب بن عجرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم مر به زمن الحديبية، فذكر القصة، فقال: أمعك دم؟ قال: لا، قال: فصم ثلاثة أيام أو تصدق بثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين بين كل مسكينين صاع)].
قوله: (أمعك دم؟ قال: لا، قال: فصم ثلاثة أيام أو تصدق بثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين) هذا لا يدل على أنه يلزم الدم، وإذا لم يجد فإنه يتحول إلى الصوم أو الإطعام، بل هو مخير بين الثلاثة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم سأله عن الدم هل هو موجود، وإذا كان موجوداً فإنه يخيره بينه وبين الصيام والإطعام، لا أن الدم مقدم على غيره، وأنه ليس له أن يطعم وليس له أن يصوم إلا إذا لم يكن قادراً على الدم، بل من كان قادراً على الدم فلا يلزمه، بل هو مخير بينه وبين الإطعام والصيام كما جاء ذلك في الروايتين السابقتين، ويكون المقصود من قوله: (أمعك دم؟)، أنه إذا كان معه فإنه يخيره بينه وبين الصوم والإطعام، وبذلك يتفق مع الروايات الأخرى، لكن لو كان يجد الدم ففعله فإنه الأكمل والأولى والأفضل، لا أنه لازم.(219/7)
تراجم رجال إسناد حديث كعب بن عجرة في الفدية من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا ابن المثنى].
هو محمد بن المثنى العنزي أبو موسى الملقب بـ الزمن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، رووا عنه مباشرة بدون واسطة.
[حدثنا عبد الوهاب].
هو عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا نصر بن علي].
ح للتحول من الإسناد إلى إسناد، أما الراوي فهو نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن داود عن عامر عن كعب بن عجرة].
داود وعامر وكعب بن عجرة قد مر ذكرهم.
وهنا جاء ذكر عامر باسمه، وفي الأول الشعبي، وهذا يدلنا على أن الشخص إذا عرف لقبه أو عرفت نسبته أو عرفت كنيته أن ذلك من الأمور المهمة؛ لأن من يعرف ذلك لا يظن الشخص الواحد شخصين، ومن لا يدري يظن أن الشعبي شخص وأن عامراً شخص آخر، لكن من يعرف أن عامراً اسم للشعبي والشعبي نسبة له؛ فإن ذلك لا يلتبس عليه.(219/8)
شرح حديث كعب بن عجرة من طريق رابعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن نافع أن رجلاً من الأنصار أخبره عن كعب بن عجرة رضي الله عنه: (وكان قد أصابه في رأسه أذى فحلق، فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يهدي هدياً بقرة)].
قوله: (وكان قد أصابه في رأسه أذى فحلق، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدي هدياً بقرة)، هذا مخالف للروايات السابقة، فإن كان الرجل من الأنصار معلوماً فيكون من قبيل الشاذ؛ لأن الإسناد صحيح، وإن كان الرجل غير معلوم فإنه يكون منكراً؛ لأن فيه شخصاً مجهول غير معروف، ولكن ذكر الحافظ أن هذا المبهم هو عبد الرحمن بن أبي ليلى الذي جاء ذكره في بعض الروايات السابقة في هذه القصة كما في الحديث الأول فهو يروي عن كعب بن عجرة، فإذا كان هذا سيكون الحديث شاذاً، وإن كان غير معلوم وإنما هو رجل مبهم لا يدرى من هو فسيكون من قبيل المنكر الضعيف؛ لأن مخالفة الضعيف للثقة يقال له: منكر، ومخالفة الثقة لمن هو أوثق منه يقال له: شاذ.(219/9)
تراجم رجال إسناد حديث كعب بن عجرة في الفدية من طريق رابعة
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
الليث بن سعد المصري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن رجلاً من الأنصار أخبره عن كعب بن عجرة].
كعب بن عجرة قد مر ذكره.(219/10)
شرح حديث كعب بن عجرة في الفدية من طريق خامسة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن منصور حدثنا يعقوب حدثني أبي عن ابن إسحاق حدثني أبان -يعني ابن صالح - عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: (أصابني هوام في رأسي وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله سلم عام الحديبية، حتى تخوفت على بصري، فأنزل الله سبحانه وتعالى فيّ: ((فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ)) [البقرة:196] الآية، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وآله سلم فقال لي: احلق رأسك وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين فرقاً من زبيب، أو انسك شاة، فحلقت رأسي ثم نسكت)].
هذا حديث كعب بن عجرة من طريق أخرى وفيه: أن الآية المذكورة آنفاً نزلت فيه، وهي مجملة والسنة فسرتها وبينتها.
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره وبين له المراد بهذه الأمور المجملة التي جاءت في الآية الكريمة، وهي: إما أن يذبح شاة أو يطعم ستة مساكين ثلاثة آصع من زبيب، أو يصوم ثلاثة أيام، وسبق ذكر الآصع من التمر، ولا شك أن أي نوع من أنواع الطعام الذي يتعاطاه الناس والذي يستعمله الناس إذا أطعم منه كل مسكين من المساكين الستة نصف صاع، فإنه يحصل به المقصود، سواء كان ذلك من التمر أو الزبيب أو غير ذلك من طعام الناس الذي اعتادوه، كما هو معلوم في زكاة الفطر أن الإنسان يخرج صاعاً من تمر أو بر أو شعير أو زبيب؛ لأنها كانت طعام الناس، وكذلك لو أخرج أرزاً أو غير ذلك من الأشياء التي يعتادها الناس في أي زمان وفي أي مكان، فإنه يحصل بذلك المقصود.(219/11)
تراجم رجال إسناد حديث كعب بن عجرة في الفدية من طريق خامسة
قوله: [حدثنا محمد بن منصور].
هو محمد بن منصور الطوسي وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا يعقوب].
هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبي].
هو إبراهيم بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق وهو صدوق يدلس، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني أبان يعني ابن صالح].
أبان بن صالح وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن.
[عن الحكم بن عتيبة].
هو الحكم بن عتيبة الكندي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب].
عبد الرحمن بن أبي ليلى وكعب مر ذكرهما.
وهذا الإسناد فيه ذكر الزبيب، وفيه محمد بن إسحاق وهو مدلس، فذكر التنصيص على الزبيب فيه شيء من ناحية أنه جاء من طريق هذا الرجل المدلس، والمحفوظ هو التمر كما سبق أن مر، لكن كما هو معلوم كل طعام يقتات سواء كان تمراً أو زبيباً أو غير ذلك فإنه يحصل به المقصود، لكن هنا محمد بن إسحاق صرح بالتحديث حيث قال: حدثني أبان فالأمر مثل ما ذكرنا أن أي شيء يكون به الإطعام سواءٍ كان زبيباً أو تمراً، فإنه يحصل به المقصود.(219/12)
معنى قوله: (فحلقت رأسي ثم نسكت)
وقوله: (فحلقت رأسي ثم نسكت ليس بلازم أن يفعل الإنسان المحظور ثم يأتي بالفدية، وإنما هذا فيه بيان الشيء الذي فعله كعب، وأنه فعل النسك الذي هو الذبح، وليس فيه أنه لابد أن تكون الكفارة أو الفدية مقدمة على ارتكاب الشيء الذي أذن له في ارتكابه.
ليس بلازم أن تكون الفدية متقدمةً على فعل المحظور، بل يمكن أن يفعل الشيء الذي أمر به ويفعل الكفارة فيما بعد، كأن يصوم فيما بعد أو يطعم فيما بعد، وليس بلازم أن يكون قبل فعل المحظور، ويمكن أن يكون عند الإنسان ذبيحة فيذبحها من أجل أن يحلق، ولا بأس بذلك.(219/13)
شرح حديث كعب بن عجرة في الفدية من طريق سادسة وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن عبد الكريم بن مالك الجزري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة رضي الله عنه في هذه القصة زاد: (أي ذلك فعلت أجزأ عنك)].
قوله: (أي ذلك فعلت أجزأ عنك) يعني: أي واحد من الأمور الثلاثة فعلته أجزأك، وهذا يوضح أن المسألة فيها تخيير وأنه لا ترتيب بل تخيير.
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الكريم بن مالك الجزري].
عبد الكريم بن مالك الجزري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة].
عبد الرحمن بن أبي ليلى وكعب قد مر ذكرهما.(219/14)
الأسئلة(219/15)
بيان ما يندرج تحت فدية حلق شعر الرأس حال الإحرام
السؤال
هل فدية حلق الشعر تشمل من تطيب أو قلم أظفاره أو لبس مخيطاً أو جامع أو قتل صيداً؟
الجواب
ليس كل المحظورات تكون فديتها هذه، ولكن بعض أهل العلم جعل الترفه من تقليم الأظفار أو التطيب وما إلى ذلك يكون فيه التخيير بين هذه الأمور الثلاثة، وأما الجماع فله حكم يخصه، والصيد له حكم يخصه، وكذلك ترك واجبات الحج لها أحكام تخصها.(219/16)
التوفيق بين رواية نفي النسك وبين رواية فعل النسك من كعب
السؤال
جاء في الحديث السابق أن كعباً لما سئل: أمعك دم؟ قال: لا، وجاء في رواية أخرى أنه نسك نسيكة، فكيف نوفق بين الروايتين؟
الجواب
لم يكن معه دم حينئذ، لكنه بعد ذلك نفذ أكمل الأمور الثلاثة وأفضلها، وقد يكون بعد ذلك اشترى نسكاً أو حصله بأي طريقة من الطرق المشروعة.(219/17)
حكم دخول اللحوم والنقود في مطلق الطعام
السؤال
هل مطلق الطعام يدخل فيه جميع أنواع الأطعمة مثل اللحوم؟
الجواب
لا يدخل فيه كل الأطعمة، وإنما الشيء الذي يقتاته الناس؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر الأطعمة المعتادة عند العرب في زكاة الفطر، كان اللحم موجوداً، والنقود كذلك كانت موجودة، ولم يقل: أو كذا درهماً أو لحماً، وإنما ذكر ما يمكن أن يؤكل منه ويقتات ويدخر بخلاف اللحم، فإن اللحم كما هو معلوم في ذلك الوقت لا يستفاد منه إلا في يومه، ولو تأخر بعد ذلك لم يستفد منه، اللهم إلا ما كانوا يفعلونه من القديد، حيث كانوا يشرحونه ويملحونه ويبقى، فالأطعمة المقصود بها أقواتهم.(219/18)
حكم الإحصار(219/19)
شرح حديث: (من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الإحصار.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن حجاج الصواف حدثني يحيى بن أبي كثير عن عكرمة قال سمعت الحجاج بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل) قال عكرمة: سألت ابن عباس وأبا هريرة رضي الله عنهما عن ذلك فقالا: صدق)].
قوله: باب الإحصار، الإحصار هو حصول شيء يمنع من الحج أو من العمرة، كأن يصد عن البيت ولا يمكن من الوصول لأداء الحج أو العمرة، أو يكون لمرض، أو يحصل له كسر أو عرج؛ بسبب حادث، فهذا هو المقصود بالإحصار، والمشهور أن الإحصار هو المنع والصد عن دخول البيت وعن الوصول إلى البيت، وقد جاء بيان ذلك في القرآن، وأن الإنسان إذا أحصر فإنه ينحر ما استيسر من الهدي، والنبي صلى الله عليه وسلم في عام الحديبية صد عن البيت ونحر هدية في الحديبية قريباً من الحرم.
واختلف العلماء في الإحصار على قولين: منهم من قال: إن الإحصار مقصور على ما كان من صد عن البيت ومنع من الوصول إلى البيت، إما من عدو، أو يكون لمصلحة مثل ما هو موجود في هذا الزمان من ناحية الدولة، وذلك بناءً على فتوى من كبار العلماء رأوا أنه لكثرة الزحام وكون الناس الذين في الداخل -سواءً من المقيمين أو من المواطنين- يقدمون على الحج بكميات هائلة، ويترتب على ذلك ازدحام شديد وأضرار بسبب كثرة الزحام، فمن ثم يحصل الإحصار وهو الرد عن الوصول إلى البيت.
ومن أهل العلم من قال: إن ذلك يشمل هذا ويشمل ما كان عن مرض أو كسر أو عرج أو ما إلى ذلك من الأمور التي قد تطرأ وتحصل، وعمدة هؤلاء ما جاء عن الحجاج بن عمرو رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كسر أو عرج فقد حل، وعليه الحج من قابل).
قوله: (فقد حل) يعني: له أن يترك ذلك الذي دخل فيه ويحل، وعليه الحج من قابل.
وبعض أهل العلم يقول: إن الإحصار إنما هو خاص بالعدو، وأن ما جاء في هذا الحديث مبني على ما إذا اشترط كما جاء في قصة ضباعة بنت الزبير رضي الله تعالى عنها: (أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني أريد الحج أأشترط؟ قال: نعم، قالت: فكيف أقول؟ قال: قولي: لبيك اللهم لبيك، ومحلي من الأرض حيث حبستني) قالوا: فلو لم يكن الاشتراط له معنى لم يكن لها حاجة إلى الاشتراط، ولو حصل أي مرض أو حصل أي شيء، فهل للإنسان أن يحل بمجرد حصول المرض وبمجرد حصول أي شيء له مع أنه متمكن من الوصول إلى البيت؟ قالوا: بل يبقى على إحرامه، فإذا شفي فإنه يكمل عمرته، وأما الحج إذا لم يتمكن منه وذهب وقته فإنه يحوله إلى عمرة، مثل الإنسان الذي فاته الحج فإن كان فرضاً فإن عليه أن يحج من قابل، وأما إذا كان تطوعاً فإنه لا يلزمه ذلك.
إذاً: حمل بعض العلماء حديث الحجاج بن عمرو على ما إذا حصل اشتراط؛ وذلك أن أي مرض وأي شيء يحصل مع إمكان الوصول إلى البيت ولو بعد حين، فإن الإنسان يبقى على إحرامه، حتى لو دخل المستشفى فإنه يبقى على إحرامه، وعندما يشفى فإنه يؤدي الشيء الذي دخل فيه، وإن كان الحج قد ذهب ولم يتمكن من الوقوف بعرفة وهو مريض فإنه يفسخ الحج إلى عمرة ويتحلل.
ومستند قول هؤلاء أن الإحصار المذكور في القرآن إنما هو بسبب العدو، قال الله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، وعلى هذا فإن الذي يكون بسبب المرض فإنه يكون محمولاً على ماجاء في حديث ضباعة؛ لأنه لو لم يكن للاشتراط حاجة لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ ضباعة هذا الكلام، وهذا الحكم يشمل ضباعة وغير ضباعة، ثم أيضاً مثل هذا يمكن أن يحصل للإنسان الشيء اليسير من المرض أو من الزكام أو من الحمى أو ما إلى ذلك، فيتعلل به ويترك الحج بحجة أنه محصر! كذلك من منع من البيت للمصلحة فلا ينبغي له أن يقدم على ذلك الشيء؛ لأنه ممنوع من البيت؛ لأن الإحصار إما حصر بعدو، وإما حصر لمصلحة، ومنع لمصلحة، ومن منع بسبب مصلحة فيترتب عليه ألا يقدم على الحج.
كذلك من إذا أحصر بعدو مثل ما جاء في القرآن: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، وقال: {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196]، فعليه دم، وكذلك الحلق؛ لأن الحلق يتحلل به.
أما بالنسبة للمحصر إذا ذبح بعيداً عن الحرم كما حصل في الحديبية فإنهم أكلوا هم ومن معهم، ولم ينقلوه إلى الحرم؛ وكان بإمكان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد صلح الحديبية أن ينقلوه إلى الحرم، ومع ذلك لم يفعلوا.(219/20)
تراجم رجال إسناد حديث (من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حجاج الصواف].
حجاج الصواف ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني يحيى بن أبي كثير].
هو يحيى بن أبي كثير اليمامي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت الحجاج بن عمرو الأنصاري].
الحجاج بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج حديثه أصحاب السنن.
[قال عكرمة: (سألت ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك فقالا: صدق)].
يعني: أن ما جاء عن الحجاج جاء عن ابن عباس وعن أبي هريرة فهو حديث عن الثلاثة.(219/21)
شرح حديث: (من كسر أو عرج) من طريق ثانية وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني وسلمة قالا: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن عبد الله بن رافع عن الحجاج بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كسر أو عرج أو مرض) فذكر معناه، قال سلمة بن شبيب: قال: أنا معمر].
هذه طريق أخرى لحديث الحجاج بن عمرو، وهو مثل الذي قبله، وزاد (المرض) وهو أعم، وفيه من حيث الإسناد أن سلمة بن شبيب قال: أنبأنا، والشيخ الثاني قال: عن.
قوله: [حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني].
محمد بن المتوكل العسقلاني صدوق له أوهام كثيرة، أخرج له أبو داود.
[وسلمة].
هو سلمة بن شبيب وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة].
يحيى بن أبي كثير وعكرمة قد مر ذكرهما.
[عن عبد الله بن رافع].
عبد الله بن رافع وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن الحجاج بن عمرو].
الحجاج بن عمرو قد مر ذكره.(219/22)
شرح حديث (فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: سمعت أبا حاضر الحميري يحدث أبي ميمون بن مهران قال: (خرجت معتمراً عام حاصر أهل الشام ابن الزبير بمكة، وبعث معي رجال من قومي بهدي، فلما انتهينا إلى أهل الشام منعونا أن ندخل الحرم، فنحرت الهدي مكاني، ثم أحللت، ثم رجعت، فلما كان من العام المقبل خرجت لأقضي عمرتي، فأتيت ابن عباس رضي الله عنهما فسألته، فقال أبدل الهدي، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء).
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفيه: [سمعت أبا حاضر الحميري يحدث أبي ميمون بن مهران قال: خرجت معتمراً عام حاصر أهل الشام ابن الزبير بمكة].
يعني: لما جاء الحجاج بن يوسف ليحاصر ابن الزبير رضي الله عنهما بمكة، وحصلت محاصرته ثم قتله رضي الله عنه بعد ذلك في ذلك العام.
قوله: [(وبعث معي رجال من قومي بهدي، فلما انتهينا إلى أهل الشام منعونا أن ندخل الحرم)].
يعني: أن الحجاج ومن معه الذين كانوا يحاصرون مكة ردوا أبا حاضر ومن معه.
قوله: [(فنحرت الهدي مكاني، ثم أحللت، ثم رجعت، فلما كان من العام المقبل خرجت لأقضي عمرتي، فأتيت ابن عباس فسألته، فقال: أبدل الهدي، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء)].
هذا غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام في عمرة الحديبية ذبح الهدي، وعندما أتى بالعمرة في السنة الثانية لم يثبت أنه قال لهم: أبدلوا الهدي؛ لأن هذه العمرة ليست عوضاً عن العمرة السابقة، بل تلك عمرة مستقلة وهذه عمرة مستقلة، وليست قضاءً وإنما هي عمرة مقاضاة، ولهذا يقال لها: عمرة القضية وليس القضاء، والمقصود المقاضاة التي حصلت مع كفار قريش على أنهم يرجعون هذه السنة ويأتون معتمرين السنة الآتية؛ ولهذا عمرة الحديبية لم تبطل وأتي بشيء عوض عنها، بل عمر الرسول صلى الله عليه وسلم أربع: عمرة الحديبية، وعمرة القضية، وعمرة الجعرانة، والعمرة التي كانت مع حجته صلى الله عليه وسلم.
ثم أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية لم يقل: كل من كان معنا في السنة الماضية عليه أن يأتي بهدي بدل الهدي الذي نحر في الحديبية، وإنما ذهب معه منهم ومن غيرهم؛ لأنها لا علاقة لها بقضاء ما فات، وإنما هي عمرة مستقلة حصل الاتفاق مع كفار قريش على أن يرجعوا هذا العام، وأن يعتمروا في السنة القادمة، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية وليس فيها أنه أبدل الهدي، ولا أمر بإبدال الهدي، وليس فيها أنه ذبح هدياً عليه الصلاة والسلام، فالحديث غير صحيح.(219/23)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي)
قوله: [حدثنا النفيلي].
هو عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن سلمة].
محمد بن سلمة الباهلي وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق صدوق يدلس، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن، وهنا روى بالعنعنة.
[عن عمرو بن ميمون].
عمرو بن ميمون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت أبا حاضر الحميري].
هو عثمان بن حاضر وهو صدوق، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[فأتيت ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(219/24)
شرح سنن أبي داود [220]
يستحب لمن قدم مكة أن يبيت بذي طوى، ثم إذا أصبح اغتسل ودخل مكة نهاراً، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل مكة من كداء من ثنية البطحاء، ويخرج من الثنية السفلى، وهذا لأنه كان أسمح لدخوله وخروجه، أما رفع اليدين عند رؤية البيت فلا يصح في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما جاءت آثار عن الصحابة رضوان الله عليهم، ولا يستلم من البيت إلا الركنان، ولا يقبل إلا الحجر الأسود.(220/1)
ما جاء في دخول مكة(220/2)
شرح حديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة نهاراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب دخول مكة.
حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع: (أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا قدم مكة بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل، ثم يدخل مكة نهاراً، ويذكر عن النبي صلى الله عليه وآله سلم أنه فعله)].
قوله: [باب: دخول مكة] أورد المصنف رحمه الله فيه حديث ابن عمر [(أنه كان رضي الله عنه يبيت بذي طوى حتى يصبح ويغتسل ويدخل مكة نهاراً ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله)] يعني: أنه إذا جاء مكة ليلاً بات بذي طوى، و (ذو طوى) هي بئر قريبة من مكة أو على حدود مكة، وأنه كان إذا أصبح اغتسل ودخل مكة ضحى هكذا كان يفعل صلى الله عليه وسلم.
ودخول مكة في النهار لا شك أنه حسن، ولكن دخولها بالليل جائز، وقد دخلها صلى الله عليه وسلم في عمرة الجعرانة ليلاً.
إذاً: لا بأس أن يدخل الإنسان مكة ليلاً أو نهاراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في حجة الوداع ضحى ودخلها في عمرة الجعرانة ليلاً.(220/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة نهاراً)
قوله: [حدثنا محمد بن عبيد].
هو محمد بن عبيد بن حساب، صدوق، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد بن زيد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(220/4)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل مكة من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن جعفر البرمكي حدثنا معن عن مالك (ح) وحدثنا مسدد وابن حنبل عن يحيى (ح) وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة جميعاً عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدخل مكة من الثنية العليا) قالا عن يحيى: (إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدخل مكة من كداء من ثنية البطحاء، ويخرج من الثنية السفلى) زاد البرمكي: يعني ثنيتي مكة، وحديث مسدد أتم].
قوله: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل مكة من الثنية العليا)]، وهي التي من جهة الأبطح قريبة من مقبرة المعلاة.
قوله: [(ويخرج من الثنية السفلى)] يعني: يدخل مكة من أعلاها ويخرج من أسفلها صلى الله عليه وسلم، ويقال -كما سيأتي- لهذه الثنية: كَداء التي هي مكان الدخول، ويقال للثنية التي يخرج منها: كُداء، الأولى بالفتح والثانية بالضم؛ ولهذا يقال في معرفة التمييز بين الدخول والخروج: افتح وادخل وضم واخرج؛ لأن كَداء بفتح الكاف مكان الدخول، وكُداء بضم الكاف مكان الخروج.
فكان صلى الله عليه وسلم يدخل مكة من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلى، ويدخل مكة من أعلاها ويخرج من أسفلها صلى الله عليه وسلم.(220/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل مكة من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلى)
قوله: [حدثنا عبد الله بن جعفر البرمكي].
عبد الله بن جعفر البرمكي ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا معن].
هو معن بن عيسى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس، وقد مر ذكره.
[(ح) وحدثنا مسدد وابن حنبل].
مسدد مر ذكره، أما أحمد بن حنبل فهو الإمام الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[(ح) وحدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة، وابن ماجه.
[حدثنا أبو أسامة].
هو حماد بن أسامة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[جميعاً عن عبيد الله].
هو عبيد الله بن عمر العمري المصغر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن ابن عمر].
نافع وابن عمر مر ذكرهما.(220/6)
حكم دخول مكة من الثنية العليا والخروج من الثنية السفلى
الدخول من الثنية العليا كان مناسباً لطريق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الذي يأتي من المدينة هذا هو الذي يناسبه، والخروج من الثنية العليا فيه صعوبة ومشقة على الجمال وعلى الناس، فكان من المناسب أن يخرج من الثنية السفلى، أما الآن فليس هناك مشقة، لكن إذا تيسر للإنسان أن يدخل من المكان الذي دخل منه النبي صلى الله عليه وسلم فلاشك أن هذا هو الأولى، وإن لم يفعل فلا حرج عليه وله أن يأتي مكة من أي مكان، وكذلك لو أن الإنسان بات بذي طوى واغتسل في الصباح ثم دخل مكة نهاراً فلا بأس بذلك، لكن الأمر ليس بلازم، وفي هذا الزمان مع كثرة الناس لو باتوا بذي طوى لصار فيها من الزحام الشديد ما لا يعلمه إلا الله.(220/7)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من طريق الشجرة وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج من طريق الشجرة ويدخل من طريق المعرس)].
هذا يتعلق بالمدينة وليس بمكة، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من المدينة خرج من طريق الشجرة الذي هو مكان الميقات الذي كان يحرم منه صلى الله عليه وسلم، أما المعرس فهو أقرب منه إلى المدينة، وهو الذي كان يدخل منه صلى الله عليه وسلم المدينة.
إذاً: هذا يتعلق بدخول المدينة وليس له علاقة بدخول مكة، ولكنه جاء تبعاً من جهة التماثل، من ناحية أن هذا فيه دخول وهذا فيه دخول.
أما مكان المعرس فهو أقرب من مكان المسجد الآن إلى المدينة.
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر].
هؤلاء مر ذكرهم في الحديث الذي قبله.(220/8)
شرح حديث: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح من كداء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا أبو أسامة حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الفتح من كداء من أعلى مكة، ودخل في العمرة من كُدي) قال: وكان عروة يدخل منهما جميعاً، وكان أكثر ما كان يدخل من كُدي، وكان أقربهما إلى منزله].
في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح من كَداء، ودخلها في العمرة من كدي، وكان عروة بن الزبير يدخل من الثنيتين، وأكثر ما كان يدخل من كدي؛ لأنها أقرب إلى منزله.
إذاً: هذا يدل على أن الأمر في هذا واسع؛ لكون النبي صلى الله عليه وسلم دخل من هنا ودخل من هنا.(220/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح من كداء)
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هو هارون بن عبد الله الحمال البغدادي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو أسامة حدثنا هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو عروة بن الزبير، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(220/10)
شرح حديث دخول رسول الله عام الفتح من كداء من طريق ثانية وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن المثنى حدثنا سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا دخل مكة دخل من أعلاها وخرج من أسفلها)].
قوله: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل مكة دخل من أعلاها وخرج من أسفلها)] وهو مثل ما تقدم.
قوله: [حدثنا ابن المثنى].
مر ذكره.
[حدثنا سفيان بن عيينة].
هو سفيان بن عيينة المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة].
وقد مر ذكرهم.(220/11)
رفع اليدين عند رؤية البيت الحرام(220/12)
شرح حديث: (سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت يرفع يديه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في رفع اليدين إذا رأى البيت.
حدثنا يحيى بن معين أن محمد بن جعفر حدثهم حدثنا شعبة قال: سمعت أبا قزعة يحدث عن المهاجر المكي أنه قال: (سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت يرفع يديه، فقال: ما كنت أرى أحداً يفعل هذا إلا اليهود، وقد حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يكن يفعله)].
قوله: [باب في رفع اليدين إذا رأى البيت].
لم يأت شيء يدل على ثبوته، وفي هذا الحديث أنهم حجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكونوا يرفعون أيديهم عند رؤية البيت.
إذاً: لم يأت شيء يدل على رفع اليدين، لكن هذا الحديث غير صحيح وغير ثابت؛ لأن فيه رجلاً مقبولاً، فالأصل هو عدم رفع الأيدي حتى يأتي دليل يدل على الرفع، ولم يأت شيء يدل على الرفع، وقد جاء حديث ضعيف في رفع الأيدي عند رؤية البيت، وعند الوقوف بعرفة، وفي مزدلفة، وعند الجمرة الأولى والثانية، وفي الصلاة، وكل الألفاظ التي جاءت فيه لها أصل وهي ثابتة من طرق أخرى، إلا ما يتعلق برفع اليدين عند رؤية البيت فهو غير ثابت، وقد ذكر الحديثين الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة رقم (1053) و (1054)، والحديثان أحدهما: من طريق عطاء بن السائب، والذي يروي عنه هنا سمع منه بعد الاختلاط وهو ورقاء بن عمر، والثاني: من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو صدوق سيئ الحفظ جداً، فلا يحتج بما انفرد به وبما جاء عنه.
إذاً: الحديث الذي ورد في هذا غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصل هو عدم الثبوت حتى يأتي شيء يدل على الثبوت.(220/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت يرفع يديه)
قوله: [حدثنا يحيى بن معين].
يحيى بن معين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن محمد بن جعفر].
هو محمد بن جعفر غندر، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت أبا قزعة].
هو سويد بن حجير، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن المهاجر المكي].
المهاجر المكي مقبول، أخرج حديثه أبو داود والترمذي والنسائي.
[سئل جابر بن عبد الله].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(220/14)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة طاف بالبيت وصلى ركعتين خلف المقام)
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا سلام بن مسكين حدثنا ثابت البناني عن عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله سلم لما دخل مكة طاف بالبيت وصلى ركعتين خلف المقام) يعني: يوم الفتح].
قوله: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة طاف بالبيت وصلى ركعتين خلف المقام ركعتين)] وذلك عام الفتح، وإيراد هذا الحديث تحت هذه الترجمة لا وجه له، إلا أنه لم يذكر فيه أنه رفع يديه لما رأى البيت.(220/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة طاف بالبيت وصلى ركعتين خلف المقام)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سلام بن مسكين].
سلام بن مسكين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا ثابت البناني].
ثابت البناني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن رباح الأنصاري].
عبد الله بن رباح الأنصاري ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً.(220/16)
حكم الشيخ الألباني على الأحاديث والآثار الواردة في رفع الأيدي عند رؤية مكة
أما الأحاديث التي ذكرها الشيخ الألباني في رفع الأيدي عند رؤية البيت كلها مرفوعة، وهي في السلسلة الضعيفة برقم (1053) و (1054).
فالقول أن الشيخ الألباني يقول باستحباب رفع الأيدي عند رؤية الكعبة، كما يقول بعض الإخوة: إن الشيخ الألباني ذكر ذلك في مناسك الحج والعمرة وقال: إنه ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه كان يرفع يديه إذا رأى البيت، لكن الحديث المرفوع الذي ذكره صاحب عون المعبود هو حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ترفع الأيدي في سبعة مواطن).
هذا هو المرفوع الذي ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة.
ثم قال: وروي عن ابن عمر (أنه كان يرفع يديه عند رؤية البيت) وعن ابن عباس مثل ذلك، وقال ابن الهمام: أسند البيهقي إلى سعيد بن المسيب قال: (سمعت من عمر كلمة من بقي أحد من الناس سمعها غيري، سمعته يقول: إذا رأى البيت قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحينا بالسلام).
وأسند الشافعي عن ابن جريج: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه، وقال: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابةً).
وهذا الحديث مرسل مقطوع.
إذاً: لا توجد إلا آثار عن الصحابة، والشيخ الألباني معروف من عادته أنه لا يأخذ بالآثار، ومن ذلك قضية رفع اليدين في التكبير، فإنه ما كان يقول به، مع أنه ثابت عن ابن عمر.(220/17)
شرح حديث: (أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل مكة ثم أقبل إلى الحجر فاستلمه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا بهز بن أسد وهاشم -يعني ابن القاسم - قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عبد الله بن رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخل مكة، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحجر فاستلمه، ثم طاف بالبيت، ثم أتى الصفا فعلاه حيث ينظر إلى البيت، فرفع يديه، فجعل يذكر الله ما شاء أن يذكره ويدعوه، قال: والأنصار تحته) قال هاشم: (فدعا وحمد الله ودعا بما شاء أن يدعو)].
في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة فأقبل على الحجر فاستلمه، فأول شيء بدأ به هو استلام الحجر، ثم طاف صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(ثم أتى الصفا فعلاه)].
يعني: رقى على الصفا واستقبل القبلة ورفع يديه، وهذا يدلنا على أن الصفا من الأماكن التي ترفع عليها الأيدي.
قوله: [(فجعل يذكر الله ما شاء أن يذكره ويدعو)].
يعني: أنه كان يجمع بين الذكر والدعاء.
قوله: [(والأنصار تحته)].
قيل: جاء في بعض الألفاظ (الأنصار)، وفي بعضها: (الأنصاب)، والمقصود بالأنصاب: الحجر الذي يصعد عليه إلى الصفا.
أما الأنصار فهم أنصاره صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(تحته)] يعني: أنه كان فوق وهم تحت، لكن لا يعني ذلك أنهم صعدوا أو ما صعدوا، وإنما الإشارة إلى وجودهم.(220/18)
تراجم رجال إسناد حديث: (أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل مكة ثم أقبل إلى الحجر فاستلمه)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن حنبل مر ذكره.
[حدثنا بهز بن أسد] بهز بن أسد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وهاشم يعني ابن القاسم].
هاشم بن القاسم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سليمان بن المغيرة].
سليمان بن المغيرة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثابت عن عبد الله بن رباح عن أبي هريرة].
وقد مر ذكر هؤلاء الثلاثة.(220/19)
حكم رفع اليدين عند الصفا وصفته
أما مسألة رفع اليدين عند الصفا مثل رفع اليدين في الدعاء، فإن بعض الناس يشير ويقول: الله أكبر، مثلما يكبر عند دخول الصلاة، وهذا خطأ، والصواب أنه يرفع يديه يذكر الله ويدعو مثل رفع اليدين في الأماكن الأخرى، ورفع اليدين جاء في مواضع منها هذا الموضع، ومنها عند الجمرة الأولى والثانية، وبعرفة، ومزدلفة، وفي أماكن متعددة.(220/20)
الأسئلة(220/21)
حكم الاشتراط في الحج والعمرة خوف الزحام
السؤال
هل للإنسان أن يشترط خوفاً من الزحام مثل ليلة سبع وعشرين من رمضان؟
الجواب
بعض العلماء أجاز الاشتراط مطلقاً، وبعضهم قال: لمن كان خائفاً، والأمر في ذلك واسع.(220/22)
إعطاء تكاليف حج النافلة لمن لم يحج الفريضة
السؤال
هل الأفضل لمن حج أكثر من مرة أن يحج أم يعين شخصاً على حج الفريضة؟
الجواب
حجه فيه خير، وإعانته غيره فيه خير، وإذا كان قادراً أن يحج ويعين غيره فحسن.(220/23)
حكم إخراج تصريح بالحج بذريعة المحرمية
السؤال
هل للشخص أن يخرج تصريح الحج على أنه محرم لأهله، مع أن أهله قد لا يريدون الحج؟
الجواب
إذا كان أهله لم يحجوا الفرض فهذا شيء طيب؛ لأن أداء الفرض أمر مطلوب، وبعض الناس يحب أن يحج، ولكن حيث لا يتيسر له كل سنة يحب أن يكون محرماً لامرأة لم تحج من محارمه، وهذا لا بأس به.(220/24)
حكم الإتيان بالحج من قابل للمحصر
السؤال
هل يجب من منع عن الحج للحصر أن يحج من العام المقبل؟
الجواب
إذا كان منع من الفرض فإنه يجب عليه، وإذا كان منع من غير الفرض فلا يجب عليه.(220/25)
حكم المكث بمكة للمتمتع بعد تحلله من العمرة
السؤال
من حج متمتعاً هل يلزمه الجلوس بمكة إلى وقت الحج؟
الجواب
لا يلزمه ذلك، بل لو أن إنساناً أراد أن يذهب إلى جدة، ويجلس بها فترة فإنه يكون متمتعاً.(220/26)
ما جاء في تقبيل الحجر الأسود(220/27)
شرح حديث: (لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في تقبيل الحجر.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة عن عمر رضي الله عنه: (أنه جاء إلى الحجر فقبله، فقال: إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقبلك ما قبلتك)].
قوله: [باب: في تقبيل الحجر].
الحجر: هو الحجر الأسود الذي هو في زاوية من زوايا الكعبة، وهي الزاوية التي عندها باب الكعبة، فالترجمة تتعلق بتقبيله، وكذلك استلامه وتقبيل ما يستلم به، والإشارة إليه عند عدم تمكن الوصول إليه، فإذا لم يتمكن من الوصول إليه فلا يؤذي أحداً في الوصول إليه، بل يكفي أن يشير إليه فقط، وإن تمكن من أن يمد يده ويلمسه ويمسحه بيده يقبل يده أو يقبل الذي مسحه به، وإذا لم يمكن لا هذا ولا هذا فإنه إذا حاذاه يشير إليه ويكبر، فهذه أمور ثلاثة تتعلق بالحجر الأسود.
قوله: [(عن عمر رضي الله عنه: (أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال: إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)]، هذا يدلنا على أن المعتبر أو المعول عليه في تقبيله هو اتباع النبي عليه الصلاة والسلام، ولولم يقبله صلى الله عليه وسلم لما قبله عمر رضي الله عنه، وهو إنما قبله اتباعاً للنبي عليه الصلاة والسلام، وليس تقبيله من أجل تحصيل البركة منه، أو من أجل كون الإنسان يريد منه نفعاً أو ضراً، فالأمر كما قال عمر رضي الله عنه: [(إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)].
إذاً: تقبيل الحجر الأسود إنما هو اتباع للسنة، وامتثال لما جاء عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، واقتداء به عليه الصلاة والسلام، فما دام أنه قد قبل الحجر فنحن نقبله؛ ولهذا فإن بقية الأركان وبقية الجدران لا تقبل ولا تمسح إلا الركن اليماني فإنه يمسح ولا يقبل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسحه واستلمه ولم يقبله، وكذلك لا يشار إليه؛ لأن التقبيل والمسح والإشارة تتعلق بالحجر الأسود، وأما الركن اليماني فإنه يمسح إذا تمكن من الوصول إليه، ولا يقبل ولا يشار إليه ولا تقبل اليد إذا لمسه بها، بخلاف الحجر الأسود.
فالمتبع والمعول عليه في ذلك ما جاء عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو تقبيل الحجر الأسود، وهذا يدلنا على أنه لا يشرع أن يقبل أي حجر في الدنيا إلا الحجر الأسود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبله، ولولم يقبله ما قبلناه كما قال ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فلا يجوز أن تقبل جدران قبر من القبور أو ضريح من الأضرحة أو أي حجر من الأحجار، وإنما التقبيل خاص بالحجر الأسود، والمسح يكون للحجر الأسود ويكون للركن اليماني، هذا هو الذي جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام.
قوله: [(ولولا أني رأيت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقبلك ما قبلتك)] هذا يدلنا على أن الإنسان يعول على السنة ويتبع السنة ولو لم يعلم الحكمة من ذلك، فإنه لا يتوقف العمل بالأحكام الشرعية على معرفة الحكمة، فالواجب هو الاستسلام والانقياد لما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا عرفت الحكمة وجاء شيء يدل عليها فيكون ذلك زيادة بصيرة وزيادة معرفة، وإلا فالاستسلام والانقياد يكون بمجرد ما يأتي الأمر من الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، كما قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، ويقول سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] ويقول سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].(220/28)
تراجم رجال إسناد حديث: (لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم].
هو إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عابس بن ربيعة].
عابس بن ربيعة ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر].
هو عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب الفضائل الجمة والمناقب الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(220/29)
بيان ما يستلم من الأركان(220/30)
شرح حديث: (لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح من البيت إلا الركنين اليمانيين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب استلام الأركان.
حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا ليث عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (لم أر رسول الله صلى الله عليه وآله سلم يمسح من البيت إلا الركنين اليمانيين)].
قوله: [باب استلام الأركان] يعني: أركان الكعبة، والكعبة لها أربعة أركان: ركنان يمانيان، وهما الحجر الأسود، والركن اليماني، وركنان شاميان اللذان هما من جهة الحِجْر، والذي يستلم منها هما الركنان اليمانيان، أما بقية الأركان فلا تستلم؛ لأن الاستلام خاص بالركنين اليمانيين، فالحجر الأسود يستلمه ويقبله، أو يستلمه بيده ويقبل يده، أو يستلمه بشيء لو طاف راكباً، كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه طاف راكباً واستلمه بمحجن وقبل المحجن الذي استلمه به، وأما الركن اليماني فإنه يمسح فقط كما ذكرنا، وأما الركنان الآخران فإنهما لا يمسحان ولا يستلمان ولا يقبلان.
إذاً: المقصود والمعول عليه في ذلك ما جاء عن المصطفى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، من تقبيل واستلام الحجر الأسود، واستلام الركن اليماني.(220/31)
تراجم رجال إسناد حديث: (لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح من البيت إلا الركنين اليمانيين)
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
هو هشام بن عبد الملك الطيالسي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ليث] هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم].
هو سالم بن عبد الله بن عمر، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر] هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(220/32)
شرح حديث ابن عمر في ترك استلام الركنين الشاميين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مخلد بن خالد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه أُخبر بقول عائشة رضي الله عنها: إن الحجر بعضه من البيت، فقال ابن عمر: والله إني لأظن عائشة إن كانت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إني لأظن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك استلامهما إلا أنهما ليسا على قواعد البيت، ولا طاف الناس وراء الحجر إلا لذلك)].
قوله: [(أخبر بقول عائشة: إن الحجر بعضه من البيت)].
وحديث عائشة المعروف المشهور الذي فيه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة ولبنَيَْتهُا على قواعد إبراهيم) يعني: أدخل الذي أخرجت قريش من الحجر فيها؛ وذلك أن قريشاً قصرت بهم النفقة، فتركوا جزءًا منها، وجعلوا ذلك الجدار الدائري الذي يدخل تحته الحجر؛ حتى يعرف أنه من الكعبة فيطاف من ورائه، فـ ابن عمر رضي الله عنهما لما بلغه هذا الحديث قال: [(إن كانت سمعت هذا)] وليس هذا شكاً في رواية عائشة، ولكنه إخبار عن الشيء، ومثل هذا التعبير يأتي في الكتب وليس المقصود به الشك أو التردد في أن ذلك صحيح أو غير صحيح.
فـ ابن عمر كان يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك استلام الركنين الشاميين إلا أنهما لم يكونا على قواعد إبراهيم، وهذا فهم ابن عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، والله أعلم بالحقيقة هل الرسول صلى الله عليه وسلم تركهما لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم، أو أنه لم يؤمر إلا بأن يمسح هذين الركنين فقط وهما الركنان اليمانيان؟ أما كون الناس طافوا من وراء الحجر لأن الحجر جزء من البيت، فهذا صحيح؛ لأن من طاف من داخل الحجر لم يطف بالكعبة كلها، ومن شرط الطواف أن يكون بالكعبة كلها، والحجر جزء منها لم يبن.
إذاً: الطواف يكون من وراء الحجر ولا يكون من داخل الحجر، ولو طاف الإنسان من داخل الحجر لما صح طوافه؛ لأنه لم يطف بالكعبة كلها؛ لأن الحجر جزء من الكعبة.(220/33)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر في ترك استلام الركنين الشاميين
قوله: [حدثنا مخلد بن خالد].
مخلد بن خالد، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري مر ذكره.
[عن سالم عن ابن عمر].
سالم وابن عمر مر ذكرهما.(220/34)
شرح حديث: (كان لا يدع أن يستلم الركن اليماني)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوفة).
قال: وكان عبد الله بن عمر يفعله].
قوله: [(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوفة)] يعني: في كل شوط من الأشواط كان صلى الله عليه وسلم يستلم الركن اليماني ويستلم الحجر الأسود.(220/35)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان لا يدع أن يستلم الركن اليماني)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد العزيز بن أبي رواد].
عبد العزيز بن أبي رواد صدوق ربما وهم، أخرج له البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن.
[عن نافع عن ابن عمر].
هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وابن عمر قد مر ذكره.(220/36)
شرح سنن أبي داود [221]
الطواف ركن من أركان الحج والعمرة، ويأتي الطواف سنة ويأتي واجباً، وقد جاء في صفة الطواف وسننه وبيان الواجب منه والمندوب أحاديث كثيرة.(221/1)
الطواف الواجب(221/2)
شرح حديث: (أنه صلى الله عليه وسلم طاف على بعير يستلم الركن بمحجن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الطواف الواجب.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله -يعني ابن عبد الله بن عتبة - عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن)].
قوله: [باب الطواف الواجب].
الطواف الواجب في العمرة هو طواف العمرة، وهو ركن من أركان العمرة، أما الطواف الواجب في الحج فطواف الإفاضة، وهو ركن من أركان الحج، وطواف الوداع واجب من واجبات الحج، وكذلك إذا نذر الإنسان أن يطوف فإنه يكون واجباً عليه، وقال بعض أهل العلم: إن طواف القدوم واجب.
وقد عقد المصنف رحمه الله هذه الترجمة وأتى بالأحاديث التي فيها طواف القدوم، ولعل في إيراد الأحاديث تحت هذه الترجمة إشارة إلى أنه يرى أن طواف القدوم واجب، وذلك في حق من كان قارناً أو مفرداً، أما من كان متمتعاً فإنه يطوف طواف العمرة وهو يغني عن طواف القدوم، وهذا مثل كون الإنسان إذا دخل المسجد والصلاة قائمة فإنه يصلي الفرض وهو يغني عن تحية المسجد، فكذلك عندما يدخل المسجد الحرام فإنه يطوف طواف العمرة وهذا الطواف يغني عن طواف القدوم، وأما من كان حاجاً مفرداً أو قارناً فإنه يطوف طواف القدوم؛ لأن الذي عليه من الطواف الواجب هو طواف الحج والعمرة إذا كان قارناً وكذلك إذا كان مفرداً، أما طواف الإفاضة فإنه يكون بعد الحج، سواء كان قراناً أو إفراداً أو تمتعاً؛ لأن طواف الإفاضة لازم في حق الجميع، وهو إنما يكون بعد الإفاضة من عرفة ومن مزدلفة.
وعلى هذا فطواف القدوم من العلماء من قال بوجوبه، ومنهم من قال: إنه من قبيل المستحب؛ لأن الإنسان يمكن أن يتركه، كما لو جاء الحاج متأخراً وذهب إلى عرفات رأساً ولم يدخل مكة إلا بعد الحج فليس بلازم عليه أن يطوف طواف القدوم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم فعله أول ما دخل مكة، فدل هذا على أن القارنين والمفردين إذا دخلوا مكة فإنهم يطوفون طواف القدوم، ويسعون سعي العمرة والحج بعد طواف القدوم، هذا في حق القارن والمفرد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سعى بعدما طاف طواف القدوم وكان قارناً صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن)].
يعني: أنه عليه الصلاة والسلام طاف على بعير، وجاء في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما طاف لأن الناس غشوه وازدحموا حوله، فأراد أن يكون على بعير حتى يشرف على الناس، وحتى يأخذ الناس عنه المناسك، وحتى يسمعوا كلامه ويرون فعله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في حديث جابر: (فإن الناس غشوه) يعني: ازدحموا حوله صلى الله عليه وسلم فركب البعير.
قوله: [(وكان يستلم الركن بمحجن)] المحجن: هو عصا منحنية الرأس، كان صلى الله عليه وسلم يضعها على الحجر ثم يقبلها، ودل هذا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم طاف أول ما قدم مكة وكان على بعير، وأيضاً يدل على صحة طواف الراكب، ويدل أيضاً على أن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهر؛ لأن كون البعير يدخل المسجد ويطاف عليه حول الكعبة قد يكون هناك روث وبول، فدل ذلك على طهارة الأبوال والأرواث مما هو مأكول اللحم، ومما يدل على طهارته أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للعرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل للاستشفاء، ولو كان بولها نجساً لما أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نهى عن التداوي بالحرام، فدل هذا على أن روث وبول ما يؤكل لحمه طاهر وليس بنجس.(221/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أنه صلى الله عليه وسلم طاف على بعير يستلم الركن بمحجن)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة].
ابن شهاب مر ذكره، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(221/4)
شرح حديث: (لما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح طاف على بعير يستلم الركن بمحجن في يده)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مصرف بن عمرو اليامي حدثنا يونس -يعني ابن بكير - حدثنا ابن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن صفية بنت شيبة رضي الله عنها قالت: (لما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح طاف على بعير يستلم الركن بمحجن في يده، قالت: وأنا أنظر إليه)].
في هذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام لما قدم عام الفتح مكة طاف على بعير يستلم الركن بمحجن، وهذا ليس فيه طواف قدوم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدخل مكة معتمراً، وإنما دخل وعلى رأسه المغفر عليه الصلاة والسلام، وإنما طاف عليه الصلاة والسلام تطوعاً، وهذا من الأدلة الدالة على جواز التطوع بالطواف في أي وقت، وأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف وهو بمكة عام الفتح، ولم يكن ذلك طواف عمرة وإنما كان طواف تطوع، فدل هذا على أن التطوع بالطواف مشروع، وأما السعي فلا يأتي الإنسان إلا بالسعي الواجب، أي: لا يسعى الإنسان بين الصفا والمروة تطوعاً مثلما يتطوع بالطواف؛ لأن السعي بين الصفا والمروة إنما يكون للحج والعمرة، سواء كانت عمرة مستقلة لا علاقة لها بالحج، أو عمرة تمتع أو قران مع الحج، أما سعي الحج فيكون بعد الحج أو قبله.
إذاً: هذا الحديث فيه أنه طاف عليه الصلاة والسلام على بعير وكان يستلم الركن بمحجن ولم يكن محرماً.(221/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (لما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح طاف على بعير يستلم الركن بمحجن في يده)
قوله: [حدثنا مصرف بن عمرو اليامي].
مصرف بن عمرو اليامي ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا يونس يعني ابن بكير].
يونس بن بكير صدوق يخطئ، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
[حدثنا ابن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني محمد بن جعفر بن الزبير].
محمد بن جعفر بن الزبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور].
عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن صفية بنت شيبة].
صفية بنت شيبة رضي الله عنها، أخرج حديثها أصحاب الكتب الستة.(221/6)
شرح حديث: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على راحلته يستلم الركن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله ومحمد بن رافع المعنى، قالا: حدثنا أبو عاصم عن معروف -يعني ابن خربوذ المكي - حدثنا أبو الطفيل رضي الله عنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يطوف بالبيت على راحلته، يستلم الركن بمحجنه ثم يقبله) زاد محمد بن رافع: (ثم خرج إلى الصفا والمروة فطاف سبعاً على راحلته)].
قوله: [(رأيت النبي عليه الصلاة والسلام طاف على بعير يستلم الركن بمحجنه ويقبله)] يعني: يقبل الذي لامس الحجر من المحجن.
إذاً: هذا يدل على أن الحجر يقبل مباشرةً، وإذا لم يتمكن الإنسان من ذلك استلمه بيده أو بمحجن أو بعصا أو ما إلى ذلك ثم يقبل ما استلمه به، والأمر الثالث الذي أشرنا إليه آنفاً أنه يشار إليه، هذا إذا كان الإنسان ليس قريباً منه ولا يستطيع التقبيل مباشرة ولا الاستلام بمحجن ونحوه.
قوله: [(ثم خرج إلى الصفا والمروة فطاف سبعاً على راحلته)].
يعني: أنه عليه الصلاة والسلام خرج إلى الصفا والمروة وطاف بينهما على راحلته، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم طاف وسعى بين الصفا والمروة على البعير، وفعل ذلك ليراه الناس صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(221/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على راحلته يستلم الركن)
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هو هارون بن عبد الله الحمال البغدادي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[ومحمد بن رافع] هو محمد بن رافع النيسابوري القشيري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
[حدثنا أبو عاصم].
هو الضحاك بن مخلد النبيل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معروف يعني ابن خربوذ المكي].
معروف بن خربوذ المكي صدوق ربما وهم، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه.
[حدثنا أبو الطفيل].
هو عامر بن واثلة رضي الله عنه، وهو آخر الصحابة موتاً، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(221/8)
شرح حديث: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: (طاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة؛ ليراه الناس وليشرف وليسألوه، فإن الناس غشوه)].
قوله: [(طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة؛ ليراه الناس وليشرف وليسألوه، فإن الناس غشوه)] يعني: أحاطوا به وازدحموا عليه، كل يريد أن يقرب منه وأن يشاهده ويعاينه صلى الله عليه وسلم، فركب على بعيره يطوف عليه ويسعى عليه صلى الله عليه وسلم؛ ليراه الناس عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.(221/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يحيى عن ابن جريج].
يحيى هو القطان وقد مر ذكره، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني أبو الزبير].
هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنه سمع جابر بن عبد الله].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(221/10)
شرح حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا خالد بن عبد الله حدثنا يزيد بن أبي زياد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدم مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته، كلما أتى على الركن استلم الركن بمحجن، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين)].
قوله: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته)].
يعني: أن السبب في طوافه على الراحلة كونه يشتكي، لكن تقدم في حديث جابر رضي الله عنه أن السبب في ذلك ليشرف فإن الناس غشوه.
فقوله: [(وهو يشتكي)] هذه اللفظة جاءت من طريق يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، وكونه طاف على بعير واستلم الركن بمحجن هو ثابت في الأحاديث الأخرى.(221/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته)
قوله: [حدثنا مسدد].
مر ذكره.
[حدثنا خالد بن عبد الله].
هو خالد بن عبد الله الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يزيد بن أبي زياد].
يزيد بن أبي زياد ضعيف، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس] مر ذكره.(221/12)
حكم الاستلام في أول الطواف وآخره في الشوط السابع
قوله: [(كلما أتى على الركن استلم الركن بمحجن)].
هذا كما مر في الحديث السابق أنه كان يستلمه في كل طوفة.
وهذا لم ينفرد به يزيد بن أبي زياد، بل قد رواه غيره كما مر.
أما الاستلام في آخر الطواف في الشوط السابع فالذي يظهر أنه كلما أتى على الحجر فإنه يستلمه، سواء كان في الأول أو في الآخر، كلما حاذاه يستلمه.
قوله: [(فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين)].
يعني: ركعتي الطواف.(221/13)
شرح حديث أم سلمة: (طوفي من وراء الناس وأنت راكبة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة بن الزبير عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله سلم أنها قالت: (شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أني أشتكي، فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة، قالت: فطفت ورسول الله صلى الله عليه وآله سلم حينئذ يصلي إلى جنب البيت، وهو يقرأ بالطور وكتاب مسطور)].
قول أم سلمة: [(شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي)] يعني: من المرض.
قولها: [(فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة)] وذلك لأنه قد يحصل من المركوب بعض الإيذاء للناس، فكونه يكون من وراء الناس يكون أسلم لهم، وحتى لا يتعرض أحد منهم لشيء من الأذى من المركوب، فهذا يدل على جواز الطواف راكباً، والنبي صلى الله عليه وسلم طاف راكباً ليراه الناس، وأما هي فلأنها كانت تشتكي، فدل هذا على أنه يسوغ للإنسان أن يطوف راكباً، وأنه إذا كان يشتكي فالأمر كما قال الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وإذا كان لا يشتكي، ولكن قد تناله مشقة فله أن يطوف وهو محمول على العربة، وكذلك الأمر في السعي بين الصفا والمروة.(221/14)
تراجم رجال إسناد حديث أم سلمة: (طوفي من وراء الناس وأنت راكبة)
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل].
محمد بن عبد الرحمن بن نوفل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن زينب بنت أبي سلمة].
زينب بنت أبي سلمة هي ربيبة النبي عليه الصلاة والسلام، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أم سلمة].
أم سلمة رضي الله عنها أم المؤمنين، وهي هند بنت أبي أمية، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
أما كونه صلى الله عليه وسلم قرأ بالطور وكتاب مسطور فذلك كان في صلاة الفجر، وأم سلمة كانت تطوف من ورائهم وهم يصلون؛ لأن صلاة الجماعة ليست واجبة على النساء.(221/15)
الاضطباع في الطواف(221/16)
شرح حديث: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم مضطبعاً ببرد أخضر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: الاضطباع في الطواف.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن ابن جريج عن ابن يعلى عن يعلى رضي الله عنه أنه قال: (طاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم مضطبعاً ببرد أخضر)].
قوله: [باب: الاضطباع في الطواف].
الاضطباع: هو أن يجعل المحرم رداءه تحت إبطه الأيمن، ثم يسدله على كتفه الأيسر، فتكون اليد اليمنى كلها مكشوفة بارزة، هذا هو اضطباع.
وقيل: الاضطباع مأخوذ من الضبع، والضبع هو العضد.
والحكمة في ذلك أنه أنشط، ولأنه أيضاً يكون مع الرمل الذي يكون في الثلاثة الأشواط الأولى، وأما الاضطباع فيكون في الأشواط السبعة، والرمل هو الإسراع في الثلاثة الأشواط الأولى فقط، جاء ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، والاضطباع إنما يكون في طواف القدوم لمن كان قارناً أو مفرداً، وفي طواف العمرة في حق من كان معتمراً، سواء كان في وقت الحج متمتعاً أو في أي شهر من السنة.
قوله: [(ببرد أخضر)] هذا يدل على أن الإنسان يحرم بأي شيء من اللباس، سواء كان أخضر أو أبيض أو غير ذلك.(221/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم مضطبعاً ببرد أخضر)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير مر ذكره.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان الثوري، وقد مر ذكره.
[عن ابن جريج عن ابن يعلى].
ابن جريج مر ذكره، وابن يعلى هو صفوان بن يعلى بن أمية وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يعلى].
هو يعلى بن أمية رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(221/18)
شرح حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو سلمة موسى حدثنا حماد عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم قد قذفوها على عواتقهم اليسرى)].
قوله: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة)] وكان ذلك في السنة الثامنة بعد الفتح.
قوله: [(فرملوا بالبيت)] يعني: رملوا في الأشواط الثلاثة الأولى.
قوله: [(وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم قد قذفوها على عواتقهم اليسرى)].
يعني: بحيث يكون العاتق الأيسر عليه الرداء الذي كان موجوداً من الأصل، ثم ألقي عليه طرفه الذي كان على الكتف الأيمن، أي: جعل تحت العضد الأيمن ثم ألقي على الكتف الأيسر، فيكون الكتف الأيمن كله مكشوفاً، والأيسر عليه الطرفان الطرف الذي كان عليه من الأصل، والطرف الذي كان على الكتف الأيمن جُعل على الكتف الأيسر، وهذا الحديث فيه بيان الاضطباع وتفسيره؛ لأنه قال في الحديث السابق: (مضطبعاً)، وهنا فسر الاضطباع بأنه أن يجعل الرداء تحت إبطه الأيمن ويلقي به على كتفه الأيسر.
وهذا في طواف العمرة، وكذلك في طواف القدوم إذا كان قارناً أو مفرداً.(221/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم)
قوله: [حدثنا أبو سلمة موسى].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عثمان بن خثيم].
عبد الله بن عثمان بن خثيم صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس قد مر ذكره.(221/20)
ما جاء في الرمل وحكمه(221/21)
شرح حديث ابن عباس في رمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الأشواط الثلاثة الأولى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [بابٌ في الرمل.
حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا أبو عاصم الغنوي عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: قلت لـ ابن عباس رضي الله عنهما (يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قد رمل بالبيت، وأن ذلك سنة.
قال: صدقوا وكذبوا، قلت: وما صدقوا وما كذبوا؟ قال: صدقوا، قد رمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذبوا ليس بسنة، إن قريشاً قالت زمن الحديبية: دعوا محمداً وأصحابه حتى يموتوا موت النغف، فلما صالحوه على أن يجيئوا من العام المقبل فيقيموا بمكة ثلاثة أيام، فقدم رسول الله صلى الله عليه وآله سلم والمشركون من قبل قعيقعان، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: ارملوا بالبيت ثلاثاً، وليس بسنة.
قلت: يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طاف بين الصفا والمروة على بعيره، وأن ذلك سنة، فقال: صدقوا وكذبوا، قلت: ما صدقوا وما كذبوا؟ قال: صدقوا، قد طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة على بعيره، وكذبوا ليس بسنة؛ كان الناس لا يدفعون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يصرفون عنه، فطاف على بعير ليسمعوا كلامه، وليروا مكانه، ولا تناله أيديهم)].
قوله: [باب في الرمل].
الرمل: هو الإسراع مع مقاربة الخطا، أي: دون الجري والعدو والركض، وإنما هو إسراع خفيف لا يحصل فيه مشقة على الإنسان، وأصل هذا الرمل أن النبي عليه الصلاة والسلام لما جاء في عمرة القضية في السنة السابعة من الهجرة، وهي العمرة التي اتفق النبي عليه الصلاة والسلام مع كفار قريش عام الحديبية أن يرجع ذلك العام ويأتي معتمراً في السنة القادمة، فقدم عليه الصلاة والسلام وكان الكفار قد جلت مجموعة منهم وراء المطاف من جهة الحجر، فكانوا يقولون: يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب، أي: أضعفتهم حمى يثرب، ويثرب هي المدينة، فأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يرملوا في الأشواط الثلاثة الأولى، وإذا كانوا بين الركنين في الجهة التي تحجب الكعبة بينهم وبين الكفار يمشون؛ ليخففوا على أنفسهم، ولكنه عليه الصلاة والسلام بعد ذلك رمل من الحجر إلى الحجر، فدل ذلك على أنها سنة سنها رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأنه يسن لكل معتمر أن يرمل، ويسن لكل حاج عندما يقدم مكة قارناً أو مفرداً أن يرمل في طواف القدوم.
قوله: [(يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمل بالبيت وأن ذلك سنة، قال: صدقوا وكذبوا، قلت: وما صدقوا وما كذبوا؟)] هذا الحديث عن ابن عباس لما قيل له: إن قومك يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم رمل وأنه سنة فقال: صدقوا وكذبوا، قال السائل: ما صدقوا وما كذبوا؟ قال: صدقوا في أنه رمل، وكذبوا في أنه سنة، ثم بين السبب في ذلك وهو: أنه من أجل أن يروا الكفار شيئاً من الجلد والقوة، وهذا من المعاريض، والمعاريض تكون بالقول وتكون بالفعل، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحرب: (الحرب خدعة) فكون المسلمين يظهرون شيئاً من القوة -وإن كان عندهم شيء من الضعف-؛ ليرهبوا العدو، فهذا من المعاريض الفعلية، وكون الإنسان يقول كلاماً هو صادق فيه يريد شيئاً وغيره يفهم شيئاً آخر، فهذا من المعاريض القولية.
لكن جاء عن ابن عباس نفسه ما يدل على أنه سنة.
إذاً: فهو سنة، ولكنه في الأصل لم يكن للتشريع والتسنين وإنما كان لإظهار القوة؛ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك رمل في حجة الوداع من الحجر إلى الحجر، فدل هذا على أنه سنة؛ لأنه لو كان المقصود هو إظهار القوة أمام الكفار فقط لاقتصر على الرمل في تلك السنة التي هي عمرة القضية، ولكن كونه فعل ذلك في عمرة الجعرانة في السنة الثامنة، وفعل ذلك في حجة الوداع يدل على أنه سنة.
فقوله: [ليس بسنة] في هذا تذكير للمسلمين بأصل الرمل وسبب الرمل في الأصل، وأن المسلمين كان فيهم ضعف، وبعد ذلك أعزهم الله، والرسول صلى الله عليه وسلم صُدَّ عن البيت ثم دخله، وقال الكفار فيه وفي أصحابه ما قالوا، ولكنه بعد ذلك دخل مكة فاتحاً صلى الله عليه وسلم، وصارت مكة تحت ولايته وتحت حكم الإسلام، فكان القول بأنه ليس سنة مخالفاً لما جاء في الصحيح من أنه رمل في حجة الوداع، وكذلك ما جاء في حديث عمرة الجعرانة.
وقوله: [ليس بسنة] هذا كلام ابن عباس وليس كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: [(ارملوا)] يعني: في الأشواط الثلاثة، وأمرهم -كما جاء في الصحيح- أن يمشوا بين الركنين حيث تحجب الكعبة بينهم وبين الكفار؛ لأنهم من جهة الحجر، فإذا اختفوا عنهم مشوا، وإذا ظهروا عليهم من الجهة الأخرى رملوا.(221/22)
حكم الطواف بين الصفا والمروة على الراحلة
قوله: [(قلت: يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بين الصفا والمروة على بعير وأن ذلك سنة، فقال: صدقوا وكذبوا، قلت: ما صدقو وما كذبوا؟ قال: صدقوا، قد طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة على بعيره، وكذبوا، ليس بسنة؛ كان الناس لا يدفعون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يصرفون عنه، فطاف على بعير ليسمعوا كلامه، وليروا مكانه، ولا تناله أيديهم)].
يعني: كونه طاف على بعير صدقوا فيه، وكونه سنة هذا كذبوا فيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما فعله للحاجة، وهو أن الناس غشوه وأنهم لا يصرفون عنه ولا يدفعون عنه، فركب حتى يراه الناس وحتى يشرف عليهم عليه الصلاة والسلام، فكون الناس يطوفون راكبين ليس بسنة، لكن عند الحاجة لهم أن يطوفوا راكبين، مثلما أذن عليه الصلاة والسلام لـ أم سلمة رضي الله عنها أن تطوف وهي راكبة من وراء الناس؛ لأنها كانت تشتكي من المرض.
إذاً: لا يقال: إن الركوب سنة وأن الإنسان يفعله رأنه سنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما طاف راكباً ليراه الناس ويسمعوا كلامه عليه الصلاة والسلام، وهذا كما يقال: إن الإنسان له أن يصلي جالساً في النافلة وله نصف الأجر، بخلاف ما لو صلى النافلة قائماً فإن له الأجر كاملاً، لكن لا يقال: إن من السنة أن يصلي النافلة جالساً، فإنه من العموم أنه ليس بسنة.(221/23)
تراجم رجال إسناد حديث رمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الأشواط الثلاثة الأولى
قوله: [حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا أبو عاصم الغنوي].
أبو عاصم الغنوي مقبول، أخرج له أبو داود وحده.
[عن أبي الطفيل قال: قلت لـ ابن عباس].
أبو الطفيل وابن عباس مر ذكرهما.(221/24)
معنى النغف الوارد في الحديث وسبب ركوب النبي صلى الله عليه وسلم أثناء الطواف
قوله: [(حتى يموتوا موت النغف)] النغف هو دود يسقط من أنوف الدواب، فإذا سقط مات، ومعناه: أنهم قوم ضعاف أضعفتهم الحمى وأنهم يأتون هزالى، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يظهروا التجلد والقوة.
قوله: [(ليسمعوا كلامه، وليروا مكانه، ولا تناله أيديهم)].
معناه: أنهم كانوا يزدحمون عليه ويصافحونه ويلمسونه أو ما إلى ذلك، فإذا ركب رآه الناس وسمعوه ورأوه فعله عليه الصلاة والسلام.(221/25)
شرح حديث: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقد وهنتهم حمى يثرب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن سعيد بن جبير أنه حُدِّث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شراً، فأطلع الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على ما قالوه، فأمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين، فلما رأوهم رملوا، قالوا: هؤلاء الذين ذكرتم أن الحمى قد وهنتهم! هؤلاء أجلد منا).
قال ابن عباس: (ولم يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا إبقاء عليهم).
].
في هذا الحديث أن الكفار قالوا: [(يقدم عليكم قوم قد وهنتهم الحمى)] فالنبي صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على هذا الكلام الذي جرى بينهم وهم بعيدون، فأمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين، يعني: حيث يكون الكفار في الجهة الأخرى وتحجب الكعبة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبين الكفار.
قوله: [(فلما رأوهم رملوا قالوا: هؤلاء الذين ذكرتم أن الحمى قد وهنتهم! هؤلاء أجلد منا)] يعني: حركاتهم وسرعتهم في مشيهم يدل على أن كلامكم ليس بصحيح؛ فهم أجلد منا.
قوله: [ولم يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا إبقاء عليهم] يعني: أنه عليه الصلاة والسلام لم يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا خوف المشقة عليهم؛ لأن المقصود من ذلك هو أن يروا الكفار قولهم، ولكن جاءت بعد ذلك السنة بالرمل في الأشواط الثلاثة الأولى كلها.(221/26)
تراجم رجال إسناد حديث: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقد وهنتهم حمى يثرب)
قوله: [حدثنا مسدد عن حماد بن زيد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.(221/27)
شرح حديث: (فيم الرملان اليوم والكشف عن المناكب؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (فيم الرملان اليوم والكشف عن المناكب وقد أطأ الله الإسلام ونفى الكفر وأهله؟ مع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
قوله: [(فيم الرملان اليوم والكشف عن المناكب وقد أطأ الله الإسلام؟)].
يعني: وقد ثبت الله الإسلام، وأعز الإسلام وأهله.
قوله: [(مع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
يعني: إنما رمل عليه الصلاة والسلام أولاً من أجل أن يري المشركين في عمرة القضية، ولكنه فعله بعد ذلك، فنحن نفعل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نتركه.
والنبي صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع، ورمل في عمرة الجعرانة، فهذا يدل على مشروعية الرمل.(221/28)
تراجم رجال إسناد حديث: (فيم الرملان اليوم والكشف عن المناكب؟)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الملك بن عمرو].
عبد الملك بن عمرو هو أبو عامر العقدي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام بن سعد].
هشام بن سعد صدوق له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن زيد بن أسلم].
زيد بن أسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو أسلم العدوي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت عمر بن الخطاب] عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(221/29)
شرح حديث: (إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا عبيد الله بن أبي زياد عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)].
قوله: [(إنما جعل الطواف بالبيت والسعي وبين الصفا والمروة ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله)] معلوم أن جميع أعمال الحج إنما هي لإقامة ذكر الله، كلها من أولها إلى آخرها جعلت لذكر الله عز وجل، فالطواف والسعي والوقوف بعرفة والمبيت مزدلفة، كل ذلك هو لإقامة ذكر الله، والحديث في إسناده من تكلم فيه، وهو عبيد الله بن أبي زياد، والباقون في الإسناد ثقات، ولعل الشيخ الألباني ضعفه بسبب عبيد الله بن أبي زياد.(221/30)
تراجم رجال إسناد حديث: (إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبيد الله بن أبي زياد] عبيد الله بن أبي زياد ليس بالقوي، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجه.
[عن القاسم].
هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وهو ثقة فقيه، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(221/31)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اضطبع فاستلم وكبر ثم رمل ثلاثة أطواف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا يحيى بن سليم عن ابن خثيم عن أبي الطفيل رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وآله سلم اضطبع فاستلم وكبر، ثم رمل ثلاثة أطواف، وكانوا إذا بلغوا الركن اليماني وتغيبوا من قريش مشوا، ثم يطلعون عليهم يرملون، تقول قريش: كأنهم الغزلان).
قال ابن عباس: فكانت سنة].
قوله: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم اضطبع)] قد عرفنا الاضطباع.
قوله: [(فاستلم وكبر)].
يعني: أنه كان عندما يستلم الحجر يكبر.
قوله: [(ثم رمل ثلاثة أطواف)].
يعني: في الأشواط الثلاثة الأولى.
قوله: [(وكانوا إذا بلغوا الركن اليماني وتغيبوا من قريش مشوا، ثم يطلعون عليهم يرملون)].
وهذا مثلما ما تقدم، يعني: أنه أمرهم أن يمشوا بين الركنين، وإذا طلعوا عليهم من الجهة التي يراهم الكفار يرملون.
قوله: [(تقول قريش: كأنهم الغزلان)].
هذا مثل قولهم في الحديث السابق: (هؤلاء أجلد منا) وهنا قالوا: (كأنهم الغزلان) يعني: لم تضعفهم الحمى.
قوله: [قال ابن عباس: فكانت سنة].
يعني: أن هذا هو سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك فيما بعد، فهو في الأصل لم يكن للتشريع، وإنما كان من أجل إراءة المشركين القوة، ثم كان بعد ذلك ليس من أجل إظهار القوة أمام المشركين، فكان سنة كما قال ابن عباس، وهذا يبين لنا صحة أنه سنة، وأن القول الذي تقدم من ابن عباس أنه ليس بسنة يحمل على أنه في الأصل لم يكن سنة، ولكنه بعد ذلك صار سنة.(221/32)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اضطبع فاستلم وكبر ثم رمل ثلاثة أطواف)
قوله: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري].
محمد بن سليمان الأنباري صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا يحيى بن سليم].
يحيى بن سليم صدوق سيء الحفظ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن خثيم].
مر ذكره.
[عن أبي الطفيل عن ابن عباس].
مر ذكرهما.(221/33)
شرح حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا) وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الطفيل رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت ثلاثاً ومشوا أربعاً)].
قوله: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة)] كان ذلك في السنة الثامنة بعد الفتح.
قوله: [(فرملوا ثلاثاً ومشوا أربعاً)] وهذا ليس فيه شيء يتعلق بالمشركين وإظهار القوة للمشركين، فدل ذلك على أن الرمل سنة.
لكن لو أن الإنسان نسي الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى فلا يرمل في الباقي؛ لأنها سنة فات محلها.
وعمرة الجعرانة كانت بعد الفتح بعد ما ذهب إلى الطائف.
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الطفيل عن ابن عباس].
قد مر ذكرهم جميعاً.(221/34)
شرح حديث: (أن ابن عمر رمل من الحجر إلى الحجر وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو كامل حدثنا سليم بن أخضر حدثنا عبيد الله عن نافع: (أن ابن عمر رمل من الحجر إلى الحجر، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك)].
قوله: [(أن ابن عمر رمل من الحجر إلى الحجر وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك)]، يعني: ليس الأمر كما كان في أول الأمر أنهم كانوا إذا وصلوا بين الركنين مشوا، بل الرمل من الحجر إلى الحجر، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم فيما بعد عمرة القضية وذلك في عمرة الجعرانة أو في حجة الوداع أو فيهما جميعاً.(221/35)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن ابن عمر رمل من الحجر إلى الحجر وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك)
قوله: [حدثنا أبو كامل].
هو الفضيل بن حسين الجحدري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا سليم بن أخضر].
سليم بن أخضر ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبيد الله].
هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم العمري المصغر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع أن ابن عمر].
نافع وابن عمر قد مر ذكرهما.(221/36)
الأسئلة(221/37)
حكم مس المحرم الركنين اليمانيين إذا كان فيهما طيب
السؤال
إذا كان الركنان فيهما طيب، فهل يجوز للحاج والمعتمر أن يمسهما؟
الجواب
يجوز للإنسان أن يقبل الحجر، سواء كان مطيباً أو غير مطيب.
وكذلك الركن اليماني له أن يستلمه وإن كان مطيباً.(221/38)
حكم دفع الزكاة للخالة البعيدة عن زوجها بسبب الخلاف بينهما
السؤال
يقول السائل: لي خالة تعيش مع زوجها في حالة جيدة، لكن اختلفت مع زوجها منذ شهرين، وهناك احتمال ضعيف في العودة إليه، فهل تستحق الزكاة؟
الجواب
إذا كانت فقيرة وليس عندها نفقة فله أن يعطيها، لكن الأقارب بصفة عامة ينبغي أن يعلم أن لهم حقوقاً غير الزكاة، فإن بعض الناس يجعل زكاته ليصل بها رحمه لأجل أن يتخلص من الزكاة التي عليه، وهذا لا يصلح ولا يليق، بل على المسلم أن يعطي الزكاة لمن يستحقها، ولكن إذا كانت الزكاة قليلة والمستحقون هم الأقارب فالأقارب أولى، وهي حينئذٍ صدقة وصلة، ولكن كون الإنسان يقي ماله بإخراج الزكاة للأقارب ويصل رحمه من الزكاة فهذا لا يصلح ولا يجوز للإنسان فعله.(221/39)
التوفيق بين قول عمر: (إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر) وبين كون الحجر يشهد يوم القيامة لمن قبله بحق
السؤال
كيف يجمع بين قول عمر رضي الله عنه (إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر) وبين ما جاء أن الحجر يشهد لمن قبله بحق يوم القيامة؟
الجواب
كونه يشهد لمن قبله بحق لا أدري عن صحته، لكن لو ثبت فكما هو معلوم أن كل الأرض تشهد بما حصل عليها من خير وشر، كما قال الله عز وجل: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4].
ولكن المقصود من قول عمر هو أن الحجر نفسه لا ينفع ولا يضر، وإنما النافع والضار هو الله سبحانه وتعالى، وأما كونه يشهد لمن قبله إذا ثبت ذلك فيكون داخل تحت ما جاء في قوله عز وجل: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4]؛ لأن الأرض تشهد بما حصل على ظهرها من خير وشر.(221/40)
متى يقبل الحجر الأسود
السؤال
هل تقبيل الحجر الأسود خاص بالطواف أم يجوز في غير الطواف؟
الجواب
هو خاص بالطواف وبما يكون بعد الطواف، يعني: بعدما يطوف الإنسان ويصلي ركعتين فإنه يرجع إلى الحجر ويقبله إذا تيسر له ذلك.(221/41)
حكم الوقوف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم مع قراءة أذكار غير معروفة
السؤال
نرى كثيراً من الذين يزورون قبر النبي صلى الله عليه وسلم يقفون عند القبر زمناً طويلاً ويقرءون أذكاراً عجيبة، فما توجيهكم؟
الجواب
هذا غلط، فلا يصح للإنسان أن يطيل الوقوف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح للإنسان أن يأتي بكلام لا يعرف هل هو سليم أو غير سليم، وإنما عليه أن يختصر في تسليمه عند الزيارة.(221/42)
صحة قول كفار قريش: يقدم عليكم قوم قد وهنتهم الحمى
السؤال
هل قول كفار قريش: يقدم عليكم قوم قد وهنتهم الحمى، افتراء أم حقيقة؟
الجواب
لاشك أنه كان فيهم ضعف؛ ولهذا جاء في حديث ابن عباس السابق: (قد وهنتهم الحمى).(221/43)
شرح سنن أبي داود [222]
يستحب الدعاء في الطواف بأي نوعه من أنواع الأدعية، ولا يصح تخصيص دعاء بعينه في كل شوط من أشواط الطواف، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بين الركنين: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ويجوز الطواف بالبيت في أي وقت من ليل أو نهار، وليس على القارن إلا سعي واحد وطواف واحد، والسعي ركن عند الجمهور، ولا بأس بالالتزام، والملتزم هو ما بين الباب والحجر.(222/1)
الدعاء في الطواف(222/2)
شرح حديث الدعاء بين الركنين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الدعاء في الطواف.
حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا ابن جريج عن يحيى بن عبيد عن أبيه عن عبد الله بن السائب رضي الله عنهما قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما بين الركنين: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)].
قوله: [باب الدعاء في الطواف].
يعني: أن الإنسان يذكر الله عز وجل ويقرأ القرآن ويدعو في الطواف، وليس هناك أدعية مقيدة للأشواط في كل شوط يقول هذا الدعاء، كما يوجد في بعض الكتيبات التي فيها: الشوط الأول يقول فيه كذا والشوط الثاني كذا؛ كل هذا لا أساس له وإنما هو مما أحدثه الناس، والإنسان لا يخصص كل شوط بدعاء، وإنما يحرص على أن يكون على علم ومعرفة بالأدعية الجامعة التي وردت عن النبي عليه الصلاة والسلام فيدعو بها في طوافه، وأما كونه يخصص كل شوط بدعاء معين فهذا لا أساس له، ولكن كونه يكون على علم بشيء من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم في الدعاء فيدعو به في طوافه، أو يقرأ القرآن أو يذكر الله عز وجل، كل ذلك حق، وقد جاء في بعض الأحاديث ما يدل على أنه يدعو في الطواف، كما في حديث عبد الله بن السائب هذا الذي أورده أبو داود رحمه الله، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول بين الركنين: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار).
وهذا دعاء عظيم من أدعية القرآن، وهو من جوامع الكلم؛ لأنه مشتمل على كل خير في الدنيا وكل خير في الآخرة؛ لأن حسنة الدنيا كل خير في الدنيا، فمن حسنة الدنيا المال الحلال والمرأة الصالحة والأولاد الصالحون والصحة والعافية وما إلى ذلك، كل هذا من خير الدنيا، وكل نعيم في الآخرة هو من حسنة الآخرة.
إذاً: هذا الدعاء من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، ولكن بعض المفسرين عندما يفسرون مثل هذه الكلمة العامة يفسرونها بأمثلة أو ببعض الأمثلة التي تندرج تحتها، ولا تنافي بين تلك التفسيرات؛ لأنها من قبيل اختلاف التنوع، وليست من قبيل اختلاف التضاد، وكلها حق، فإذا فسرت حسنة الدنيا بالزوجة الصالحة فهو حق، وإذا فسرت بالولد الصالح فهو حق، وإذا فسرت بالمال الحلال فهو حق، وكلها تدخل تحت حسنة الدنيا، ولأن هذا تفسير بالمثال لا يقصد حصر المعنى بأنه في هذا المثال، ولكنه مثال من جملة الأمثلة التي تندرج تحت هذا اللفظ العام الذي هو حسنة الدنيا، فالإنسان إذا حصل على حسنة الدنيا، فحسنة الدنيا هل كل سعادة في الدنيا، وكذلك إذا حصل على حسنة الآخر فهي كل خير في الآخرة مع السلامة من عذاب النار، فهذا هو المبتغى وهذا هو المطلوب وهذا هو الخير العظيم الذي يحصل للإنسان في دنياه وفي أخراه.
وقد سبق أن أنساً رضي الله عنه لما سئل عن أدعية النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الدعاء، وأنه رضي الله عنه كان إذا دعا بدعوة واحدة دعا بهذا الدعاء، وإذا دعا بأدعية متعددة جعل هذا الدعاء من جملة ما يدعو به، فهو لا يخلي دعاءه من أن يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار؛ لأنه من جوامع الكلم، وقد سبق قول الإمام أحمد رحمة الله عليه حيث قال: أحب إلي أن يدعا بما جاء في القرآن.
إذاً: هذا من أدعية القرآن التي جاء ذكرها فيما يتعلق بالحج، فمن الناس من يسأل الدنيا ولا تهمه الآخرة، ومنهم من يسأل الدنيا والآخرة بقوله: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.(222/3)
تراجم رجال إسناد حديث الدعاء بين الركنين
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عيسى بن يونس].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن عبيد].
يحيى بن عبيد ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبيه].
أبوه هو عبيد المخزومي، وهو مقبول، أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
[عن عبد الله بن السائب].
عبد الله بن السائب رضي الله عنهما، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
وهذا الحديث فيه هذا المقبول، ولكن له شواهد أشار إلى بعضها ابن كثير عند تفسير هذه الآية من سورة البقرة.(222/4)
شرح حديث الرمل في طواف القدوم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا طاف في الحج والعمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أطواف ويمشي أربعاً، ثم يصلي سجدتين)].
قوله: [(أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا طاف في الحج والعمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أطواف ويمشي أربعاً، ثم يصلي سجدتين)].
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول طواف يحصل منه إذا قدم مكة أن يسعى ثلاثاً ويمشي أربعاً، والسعي هنا هو الرمل الذي مر الكلام عليه في الدرس الماضي، وهو الإسراع مع مقاربة الخطا، وقد عرفنا أصله وأنه كان في عمرة القضية وأن الكفار كانوا يقولون: (يقدم عليكم قوم وهنتهم الحمى)، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وإذا جاءوا بين الركنين حيث يكونون متوارين عن الكفار فإنهم يمشون، ثم يمشون في الأشواط الأربعة الباقية، وجاء في الحديث أنه لم يمنعهم من أن يرملوا الأشواط كلها إلا من أجل الإبقاء عليهم وعدم المشقة عليهم من النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أطواف)] هذا يدل على أن هذه الهيئة التي هي الرمل إنما تكون في أول طواف، وهو طواف العمرة في حق من كان معتمراً وطواف القدوم في حق من كان قارناً أو مفرداً، فإنه يسن في هذا الطواف شيئان: أحدهما: الرمل، وذلك في الأشواط الثلاثة الأولى فقط، والثاني: الاضطباع، وهو جعل الرداء تحت الإبط الأيمن وسدله على الكتف اليسرى، فتكون اليد اليمنى مكشوفة كلها من المنكب إلى الأصابع، واليسرى مغطاة بالرداء الذي هو موضوع عليها في الأصل، والرداء الذي سدل فوق الرداء الذي كان عليها، فهاتان سنتان من سنن الطواف التي تحصل من الإنسان إذا قدم مكة، إن كان متمتعاً فطواف العمرة، وإن كان قارناً أو مفرداً فطواف القدوم.
قوله: [ثم يصلي سجدتين]، يعني: ركعتي الطواف، والمقصود بالسجدتين الركعتين؛ لأنه يعبر عن الركعة بالسجدة، ويأتي كثيراً ذكر السجدة ويراد بها الركعة الكاملة.
ووجه إيراد هذا الحديث في الدعاء في الطواف: هو أن ركعتي الطواف من الأمور المسنونة والتي هي مكملة للطواف، والدعاء في الصلاة مشروع، يعني: على اعتبار أن الركعتين التابعتين للطواف يكونان في نهاية الطواف، وهما يشتملان على الدعاء.(222/5)
تراجم رجال إسناد حديث الرمل في طواف القدوم
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يعقوب].
هو يعقوب القاري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
[عن موسى بن عقبة].
هو موسى بن عقبة المدني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(222/6)
الطواف بعد العصر(222/7)
شرح حديث: (لا تمنعوا أحداً يطوف بهذا البيت ويصلي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الطواف بعد العصر.
حدثنا ابن السرح والفضل بن يعقوب وهذا لفظه، قالا: حدثنا سفيان عن أبي الزبير عن عبد الله بن باباه عن جبير بن مطعم يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا أحداً يطوف بهذا البيت ويصلي أي ساعة شاء من ليل أو نهار)، قال الفضل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً)].
قوله: [باب الطواف بعد العصر]، يعني: أن الطواف ليس كالصلاة التي جاء النهي عنها بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس وبعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الطواف يختلف، وكذلك الصلاة التي هي تابعة للطواف أيضاً حكمها حكم الطواف، يأتي بها الإنسان بعد الطواف في أي ساعة من ليل أو نهار؛ لأنها ذات سبب وهي متعلقة بالطواف، ومن العلماء من قال: إن الصلاة في المسجد الحرام في أوقات الكراهة تستثنى من أحاديث النهي، لكن الاستثناء غير واضح، والاحتمال الأقوى أن يكون المقصود هو الطواف والصلاة التي هي متعلقة به، وهما ركعتا الطواف؛ لأنهما تابعتان للطواف، وهي ذات سبب، أما كون الإنسان يكون جالساً في المسجد الحرام ويقوم يتنفل بعد العصر وبعد الفجر فلا نعلم دليلاً واضحاً يدل عليه.
وقد ذكر الخطابي أن هذا الحديث تابع للترجمة السابقة التي هي: (الدعاء في الطواف)، وعلى هذا فيكون إيراده مثل إيراد الحديث السابق الذي فيه: (ثم يصلي سجدتين).
قوله: [عن جبير بن مطعم يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم].
كلمة (يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم) هذه بمعنى المرفوع؛ لأن قول الراوي: يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، أو ينميه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كل هذه تدل على أنه من قبيل المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(لا تمنعوا أحداً يطوف بهذا البيت ويصلي أي ساعة شاء من ليل أو نهار)].
يعني: لا تمنعوا أحداً يطوف بالبيت أو يصلي أي ساعة شاء من ليل أو نهار، فهذه تشمل ما بعد العصر وما بعد الفجر، والمصنف عقد الترجمة للطواف بعد العصر ومثله بعد الفجر؛ لأن الحكم واحد.
قوله: [وقال الفضل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً)].
يعني: أن الفضل الذي هو الشيخ الثاني لـ أبي داود قال: (يا بني عبد مناف) ففيه تعيين من خوطب بهذا الكلام.
(لا تمنعوا أحداً) يعني: طاف بالبيت.(222/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تمنعوا أحداً يطوف بهذا البيت ويصلي)
قوله: [حدثنا ابن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح المصري، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
[والفضل بن يعقوب].
الفضل بن يعقوب صدوق أخرج له أبو داود وابن ماجه.
[قالا: حدثنا سفيان] هو سفيان بن عيينة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن باباه].
عبد الله بن باباه ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن جبير بن مطعم].
هو جبير بن مطعم النوفلي رضي الله تعالى عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(222/9)
قرب نسب جبير بن مطعم من النبي صلى الله عليه وسلم
جبير بن مطعم من بني نوفل ونوفل من أبناء عبد مناف؛ لأن أولاد عبد مناف أربعة وهم: هاشم الذي ينتمي إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد شمس الذي ينتمي إليه عثمان رضي الله عنه، والمطلب الذي أولاده حكمهم حكم بني هاشم حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا وبني المطلب شيء واحد) ونوفل الذي ينتمي إليه جبير بن مطعم.
وهاشم والمطلب نسلهما لا يعطون الزكاة، ويكون لهم من الفيء، ولهذا جاء عثمان بن عفان -كما في الصحيح- وجبير بن مطعم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالا: (إنا وبنو المطلب شيء واحد -يعني: في القرب إليك سواء- وإنك أعطيت بني المطلب من الخمس، فقال: إنا وبني المطلب شيء واحد، أو إن هاشماً والمطلب لم يفترقا في جاهلية ولا في إسلام).(222/10)
طواف القارن(222/11)
شرح حديث: (لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب طواف القارن.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: (لم يطف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً، طوافه الأول)].
قوله: [باب طواف القارن].
يراد بالطواف هنا السعي بين الصفا والمروة، ويراد به الطواف بالبيت، والقارن هو الذي يقرن بين الحج والعمرة ويلبي بهما، ويجب عليه هدي، وهذا ليس عليه إلا طواف واحد وسعي واحد، طواف للحج والعمرة، وسعي للحج والعمرة، فهذا وجه تسميته قراناً؛ لأنه قرن بين الحج والعمرة ووحدت أعمالهما ولم يتميز عمل العمرة من عمل الحج، الذي هو الطواف والسعي؛ فصار الطواف والسعي للحج والعمرة واحداً، الطواف الذي هو طواف الإفاضة، والسعي الذي يكون بعد طواف القدوم أو يكون بعد طواف الإفاضة؛ لأن طواف الإفاضة ركن في حق الحجاج جميعاً ومنهم القارنون، ولا يكون إلا بعد عرفة ومزدلفة، وهو الذي ذكره الله بقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29].
وكذلك السعي أيضاً يقال له: طواف، ولهذا أورد أبو داود رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا طوافهم الأول، أي: الذي مع طواف القدوم ولم يسعوا بعد طواف الإفاضة.
فالقارن عليه سعي واحد وله محلان: بعد طواف القدوم، وبعد طواف الإفاضة، فإن فعله في المحل الأول لم يفعله في المحل الثاني، وإن لم يفعله في المحل الأول، أو لم يأت مكة إلا بعد الوقوف بعرفة فإن السعي يكون بعد طواف الإفاضة.
إذاً: القارن عليه طواف واحد وهو طواف الإفاضة لحجه وعمرته، وعليه سعي لحجه وعمرته، والسعي له محلان: محل بعد القدوم ومحل بعد الإفاضة، إن فعل في المحل الأول لا يفعله في المحل الثاني، وإن لم يفعله في المحل الأول تعين أن يفعله في المحل الثاني.
قوله: [(لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً)] يعني: أنه ليس عليهم سعي إلا الذي حصل مع طواف القدوم، وهذا في حق القارنين والمفردين الذين ساقوا الهدي، أما الذين لم يسوقوا هدياً فإنهم تحولوا إلى عمرة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فصاروا متمتعين، فيكون حكمهم حكم الذين كانوا متمتعين من الأصل من الميقات كأمهات المؤمنين؛ لأنهن كن متمتعات من الميقات أحرمن بعمرة، والذين دخلوا مكة ولم يكن معهم هدي وهم قارنون أو مفردون أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفسخوا إحرامهم إلى عمرة وأن يكونوا متمتعين، ولم يبق على الإحرام إلا من كان قد ساق الهدي؛ لأن الذي ساق الهدي ليس له أن يتحلل إلا يوم النحر حيث يبلغ الهدي محله، ومعلوم أن القارن عليه هدي كما أن المتمتع عليه هدي، والمفرد لا هدي عليه.(222/12)
سوق الهدي وحكم التوكيل فيه
بعض الناس قد يشكل عليه فما يتعلق بسوق الهدي، مع أن سوق الهدي لا وجود له في هذا الزمان؛ لأن الناس يركبون السيارات ولا يسوقون الإبل ولا الغنم مثلما كانوا قبل ذلك؛ فقد كانوا قديماً يمشون مع هديهم ويسوقونه، لكن هنا ليس إلا الحمل، فإن حمل أحد الهدي فحكمه حكم السوق، ولكن الأولى للإنسان ألا يحمل هدياً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له أصحابه: (إن الناس حلوا وأنت لم تحلل.
قال: إنني سقت الهدي ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولولا أن معي الهدي لأحللت ولجعلتها عمرة) فدل هذا على أن الأفضل للإنسان أن يكون متمتعاً، وأن يذبح هدياً، والهدي يذبحه بمنى أو بمكة، وما يفعله كثير من الناس من توكيل البنك الإسلامي هذا لا يقال له: سوق هدي؛ لأن هذه مجرد وكالة، كما لو أعطيت واحداً من أصحابك نقوداً وقلت له وأنت في المدينة: إذا وصلت مكة أريد منك أن تشتري ذبيحة وتذبحها عني على أنها هدي في يوم العيد أو في أيام التشريق فهذا مجرد توكيل.(222/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني أبو الزبير].
هو محمد بن مسلم وقد مر ذكره.
[قال: سمعت جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله الأنصاري صحابي ابن صحابي رضي الله عنهما، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(222/14)
شرح حديث: (أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه لم يطوفوا حتى رموا الجمرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: (أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه لم يطوفوا حتى رموا الجمرة)].
قوله: [(أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه لم يطوفوا إلا حتى رموا الجمرة)] يعني: طواف الإفاضة، وهذا في حق كل الحجاج، طوافهم للإفاضة إنما هو بعد عرفة ومزدلفة، والنبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بدأ بالرمي ثم النحر ثم الحلق ثم الطواف والسعي بين الصفا والمروة، هذا لمن كان عليه سعي كالمتمتعين، أو القارنين والمفردين الذين لم يسعوا مع طواف القدوم.
إذاً: طواف الإفاضة ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به، ومحله بعد الوقوف بعرفة ومزدلفة، لكن لو قدم الطواف على الرمي جاز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب هذا الترتيب: رمى ثم نحر ثم حلق ثم طاف ولكنه ما سئل عن شيء قدم ولا أخر في ذلك اليوم إلا قال: (افعل ولا حرج)، فدل على جواز التقديم والتأخير بين أعمال يوم النحر، ولكن الترتيب كما رتب رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرمي ثم النحر ثم الحلق ثم الطواف، وهناك كلمة يذكرها بعض الناس من أجل أن تضبط بها الترتيب، وهي كلمة (رنحط) التي ذكرها الصاوي في تعليقه على الجلالين، يعني: رمي فنحر فحلق فطواف؛ حتى يستطيع الإنسان أن يحفظ ترتيبها بترتيب هذه الحروف، لكن التقديم والتأخير سائغ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما سئل عن شيء قدم ولا أخر في ذلك اليوم إلا قال: (لا حرج)، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(222/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه لم يطوفوا حتى رموا الجمرة)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا مالك بن أنس].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه الإمام، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بنسبه الزهري ومشهور بنسبته إلى أحد أجداده وهو شهاب، فيقال له: ابن شهاب ويقال له: الزهري.
[عن عروة].
هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وهي خالة عروة بن الزبير؛ لأن عروة هو ابن أسماء بنت أبي بكر أخت عائشة، فـ عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها هي الصديقة بنت الصديق، وهي راوية السنة وحافظتها، وهي التي أنزل الله براءتها مما رميت به من الإفك في آيات تتلى في كتاب الله عز وجل، ومع هذا التشريف والتكريم الذي حصل لها حيث أُنزلت براءتها في قرآن يتلى في سورة النور، ومع ذلك تقول عن نفسها: (ولشأني في نفسي أهون من أن ينزل الله فيّ آيات تتلى، كنت أتمنى أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه رؤيا يبرئني الله بها)، ورؤيا الأنبياء وحي، وما كانت تظن أنه ينزل فيها قرآن، وهذا هو كلام الكمل وأهل الكمال فهم يتواضعون لله عز وجل، رضي الله تعالى عن أم المؤمنين عائشة وعن الصحابة أجمعين.(222/16)
شرح حديث عائشة: (طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجتك وعمرتك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن أخبرني الشافعي عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها: (طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجتك وعمرتك)].
قوله: [(طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجتك وعمرتك)]، يعني: طواف الإفاضة؛ لأن عائشة رضي الله عنها ما تمكنت من دخول البيت قبل الحج؛ لأن الحيض منعها من ذلك، وأمرها النبي عليه الصلاة والسلام أن تدخل الحج على العمرة فتكون قارنة، أما العمرة التي أحرمت بها من الميقات فهي باقية معها، ولكن لكونها لم تتمكن من الإتيان بأعمالها قبل الحج أمرها النبي عليه الصلاة والسلام أن تدخل الحج على العمرة فتكون قارنة، والقارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد كما قال لها عليه الصلاة والسلام.(222/17)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة: (طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجتك وعمرتك)
قوله: [حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن].
الربيع بن سليمان المؤذن ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[أخبرني الشافعي].
هو محمد بن إدريس الشافعي الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن.
[عن ابن عيينة].
ابن عيينة مر ذكره.
[عن ابن أبي نجيح].
هو عبد الله بن أبي نجيح وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء].
هو عطاء بن أبي رباح المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
وقد مر ذكرها.(222/18)
ذكر اختلاف سفيان في رفع الحديث ووقفه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الشافعي: كان سفيان ربما قال: عن عطاء عن عائشة، وربما قال: عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لـ عائشة رضي الله عنها].
ذكر الشافعي أن سفيان بن عيينة شيخه ربما قال: عن عطاء عن عائشة، فيكون مرفوعاً، وربما قال: عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة، فيكون من قبيل المرسل؛ لأن عطاء تابعي لم يشهد ما حصل لـ عائشة وإنما شهده الصحابة.
إذاً: على القول الأول يكون مرفوعاً متصلاً وليس فيه انقطاع، وعلى القول الثاني فيه انقطاع.
ولكن أقول: إن الحديث ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.(222/19)
ما جاء في الملتزم(222/20)
شرح حديث استلام الملتزم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الملتزم.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن عبد الرحمن بن صفوان قال: (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة قلت: لألبسن ثيابي -وكانت داري على الطريق- فلأنظرن كيف يصنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فانطلقت فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد خرج من الكعبة هو وأصحابه، وقد استلموا البيت من الباب إلى الحطيم، وقد وضعوا خدودهم على البيت ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسطهم)].
قوله: [باب الملتزم].
الملتزم: هو المكان الذي يقع بين باب الكعبة والحجر الأسود هذا يقال له: الملتزم، وقال عنه هنا: الحطيم، يعني: الحجر الأسود، والحطيم يطلق ويراد به الحجر، وقيل: إنه يراد به الحجر الذي من جهة الشام الذي فيه الركنان الشاميان، وما يقوله بعض الناس أنه حجر إسماعيل فهذا لا أساس له، وليس حجراً لإسماعيل؛ لأن إبراهيم وابنه إسماعيل لما بنيا الكعبة لم يكن هناك حجر، وإنما كانت الكعبة كلها مبنية والحجر داخل فيها، لكن لما بنتها قريش قصرت بهم النفقة فلم يبنوها كاملة، بل تركوا جزءاً من جهة الشام هو هذا الحجر، ولهذا لا يطاف من داخل الحجر وإنما يطاف من وراء الجدار الدائري؛ لأن الإنسان لو طاف من داخل الحجر طاف ببعض الكعبة ولم يطف بكل الكعبة، والطواف لابد أن يكون بكل الكعبة.
ومن العلماء من يقول: إن الحطيم هو من الحجر إلى الحجر وإلى المقام هذه المنطقة يقال لها: الحطيم، لكن الذي ورد في الحديث أن الحطيم يراد به الحجر؛ لأن الملتزم يقع بين الحجر الأسود وبين باب الكعبة، والالتزام هو كون الإنسان يأتي ويلصق نفسه بالملتزم ويضع خده ويديه على تلك المنطقة، وقد ورد فيه حديثان فيهما ضعف، في أحدهما يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف، وفي الثاني المثنى بن الصباح وهو ضعيف، والشيخ الألباني رحمه الله ضعف الأحاديث التي وردت في هذا الباب كلها، ولكنه ذكر في المنسك أن للإنسان أن يأتي الملتزم ويضع خده عليه على الصفة التي تحصل في الملتزم، وقال: إن الحديثين يحصل تقويتهما، والحقيقة أن الرجلين اللذين فيهما ضعيفان.
وهناك شخص آخر متابع وهو علي بن عاصم وهو أحسن منهما، حيث قال فيه الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ، وأما أولئك فقد قال عن كل واحد منهما: ضعيف.
وأحال الشيخ الألباني إلى السلسلة الصحيحة رقم (2138) وذكر هذين الحديثين وذكر المتابعة التي من علي بن عاصم، وذكر آثاراً عن بعض الصحابة ثابتة عنهم في الإتيان إلى الملتزم.
وعلي بن عاصم لم يأت ذكره هنا في الأسانيد التي أوردها أبو داود، لكن كونه جاء عن بعض الصحابة وثبت ذلك عنهم يمكن أن يكون له وجه، ولكن كما هو معلوم المنطقة الآن هي بجوار الحجر وذاك محل زحام، والقضية ليست قضية الاستلام، فالاستلام أمره سهل فيمكن للمرء أن يقبله أو يلمسه، ولكن المشكلة هذا الالتصاق الذي يكون فيه تزاحم، فإذا فعل الإنسان ذلك لكونه جاء عن بعض الصحابة فهذا له وجه، وإن تركه فإنه لا يترتب عليه ترك شيء واجب.
قوله: [(لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قلت: لألبسن ثيابي -وكانت داري على الطريق- فلأنظرن كيف يصنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فانطلقت فرأيت النبي صلى الله عليه آله وسلم قد خرج من الكعبة هو وأصحابه، وقد استلموا البيت من الباب إلى الحطيم، وقد وضعوا خدودهم على البيت ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسطهم)].
هذا فيه وصف الالتزام، وفيه بيان مكان الملتزم وأنه بين الباب والحطيم الذي هو الحجر الأسود.
وكون الرسول صلى الله عليه وسلم كان وسطهم يحتمل أن يكون ملتزماً، ويحتمل أن يكون وسطهم وهو غير ملتزم، وقال بعض أهل العلم: كان النبي صلى الله عليه وسلم وسط الجماعة الذين كانوا في هذه المنطقة.
لكن كونهم يفعلونه وهو يقرهم فهو دليل على جوازه وإن لم يفعله صلى الله عليه وسلم، ولكن الشأن في الثبوت؛ لأن فيه يزيد بن أبي زياد الضعيف الذي مر ذكره في مواضع عديدة في أحاديث متعددة، وضعف الحديث بسببه.(222/21)
تراجم رجال إسناد حديث استلام الملتزم
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود، والنسائي في عمل اليوم والليلة، وابن ماجه.
[حدثنا جرير بن عبد الحميد].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن أبي زياد].
يزيد بن أبي زياد ضعيف، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن مجاهد].
هو مجاهد بن جبر المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن صفوان].
عبد الرحمن بن صفوان مختلف في صحبته، أخرج له أبو داود وابن ماجه، قال عنه الحافظ: يقال: له صحبة، وقال البخاري: لا يصح.
وعلى هذا يكون الحديث مرسلاً، لكن فيه التنصيص على أنه كان معهم وأنه رآهم، ولكن كون الإسناد فيه يزيد بن أبي زياد فيكون فيه شيء، وكذلك فيه علة ثانية من جهة أن الصحبة فيها إشكال، وإن كان الحديث نفسه فيه تنصيص على أنه صحابي، لكن الشأن في ثبوت هذا الكلام.(222/22)
شرح حديث استلام الملتزم من طريق ثانية وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه قال: (طفت مع عبد الله فلما جئنا دبر الكعبة قلت: ألا تتعوذ؟ قال: نعوذ بالله من النار، ثم مضى حتى استلم الحجر، وأقام بين الركن والباب فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه هكذا، وبسطهما بسطاً، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعله)].
هذا الحديث في إسناده المثنى بن الصباح وهو ضعيف.
ودبر الكعبة هي الجهة التي خلف الباب.
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد مر ذكره.
[حدثنا عيسى بن يونس].
مر ذكره.
[حدثنا المثنى بن الصباح].
المثنى بن الصباح ضعيف، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجه.
[عن عمرو بن شعيب].
هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو شعيب بن محمد، وهو صدوق أيضاً، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[قال: طفت مع عبد الله].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(222/23)
شرح حديث ابن عباس أنه كان يصلي في الملتزم حيث صلى النبي صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا السائب بن عمر المخزومي حدثني محمد بن عبد الله بن السائب عن أبيه رضي الله عنه: (أنه كان يقود ابن عباس فيقيمه عند الشقة الثالثة مما يلي الركن الذي يلي الحجر مما يلي الباب، فيقول له ابن عباس: أنبئت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي هاهنا؟ فيقول: نعم، فيقوم فيصلي)].
كان عبد الله بن السائب رضي الله عنه يقود ابن عباس لما عمي، وكان يفيء إلى ذلك المكان ويقول له: [(أنبئت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي هاهنا؟ فيقول: نعم، فيقوم فيصلي)] أي: كان ابن عباس يقوم فيصلي، ويحتمل أن يكون المقصود الصلاة التي هي ذات الركعات، ويحتمل أن يكون المقصود الدعاء، والحديث ليس فيه ذكر الالتزام، لكن فيه هذا العمل في هذه المنطقة التي هي منطقة الملتزم.
قوله: [عند الشقة الثالثة مما يلي الركن الذي يلي الحجر مما يلي الباب].
الشقة الثالثة هي بين الباب والحجر.(222/24)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس أنه كان يصلي في الملتزم حيث صلى النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة].
هو عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا السائب بن عمر المخزومي].
السائب بن عمر المخزومي ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والنسائي.
[حدثني محمد بن عبد الله بن السائب].
محمد بن عبد الله بن السائب مجهول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبيه].
أبوه هو عبد الله بن السائب رضي الله عنه، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.(222/25)
أمر الصفا والمروة(222/26)
شرح حديث سبب نزول قوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب أمر الصفا والمروة.
حدثنا القعنبي عن مالك عن هشام بن عروة (ح) وحدثنا ابن السرح حدثنا ابن وهب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال: (قلت لـ عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا يومئذ حديث السن: أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] فما أرى على أحد شيئاً ألا يطوف بهما، قالت عائشة: كلا، لو كان كما تقول كانت (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا) إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يهلون لمناة وكانت مناة، حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158])].
قوله: [باب أمر الصفا والمروة].
يعني: شأن الصفا والمروة وما ورد في الصفا والمروة من الشعائر وهي السعي بينهما، والسعي بين الصفا والمروة ركن عند جمهور العلماء، وبعض أهل العلم قال: إنه واجب يجبر بدم، ولكن جمهور أهل العلم على أنه ركن وأنه لا يجبر بدم، وأنه على الإنسان إذا لم يأت به أن يرجع إلى مكة ليأتي به، كالشأن في طواف الإفاضة أو طواف العمرة.
فقول أبي داود رحمه الله: [باب أمر الصفا والمروة] يعني: ما يتعلق بهما وما يتعلق بشأنهما.
وحديث عائشة رضي الله عنها فيه أن عروة بن الزبير الذي هو ابن أختها فهم أنه لا حرج على من لم يطف بين الصفا والمروة، واستدل بقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158].
واعتذر رحمه الله لنفسه بكونه كان حديث السن، وتبين في النهاية أنه مخطئ في فهمه للآية، وأن المقصود أن الإنسان لا يترك السعي بين الصفا والمروة، فقالت عائشة: كلا، لو كان كما تقول لكانت: (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما).
إذاً: عروة رحمه الله اعتذر عن نفسه بكونه حديث السن، وهذا يدل على أن حدثاء الأسنان يحصل منهم أمور وأخطاء لا تنبغي؛ بسبب سوء الفهم، ولكن الكبار هم الذين يرجع إليهم ويعول على كلامهم، كما حصل من عائشة رضي الله عنها وأرضاها حيث بينت له أن الأمر ليس كما يفهم ولو كان الأمر كذلك لكانت الآية: (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما)، ثم بينت له سبب نزول الآية، وأن الأنصار الذين هم أهل المدينة من الأوس والخزرج كانوا يعبدون صنماً يقال له: مناة التي جاء ذكرها في القرآن، وكانت عند قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا أو يسعوا بين الصفا والمروة، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] يعني: هذا الشيء الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية ويتحرجون منه في الإسلام، فقد جاء الإسلام بإذهاب هذا الشيء الذي كانوا يتحرجون منه، وأنه لا حرج أن يطوفوا بهما.
إذاً: السعي بين الصفا والمروة جاءت الأحاديث فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تدل على أنه واجب بل إنه فرض، ولهذا قال جمهور أهل العلم بفرضه وأنه ركن من أركان العمرة وركن من أركان الحج، لا يتم الحج إلا به ولا تتم العمرة إلا به.
إن معرفة سبب النزول يعين على فهم المعنى، فـ عروة رحمه الله لما عرف من عائشة رضي الله عنها وأرضاها أن الأنصار كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية ويتحرجون بعد الإسلام، فجاء الإسلام بأنه لا حرج وأن الإنسان عليه أن يفعل ذلك الشيء، فهم معنى الآية فهماً صحيحاً.(222/27)
تراجم رجال إسناد حديث سبب نزول قوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله)
قوله: [حدثنا القعنبي عن مالك عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[(ح) وحدثنا ابن السرح حدثنا ابن وهب].
ابن السرح مر ذكره، وابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه قال: قلت لـ عائشة].
عروة وعائشة قد مر ذكرهما.(222/28)
شرح حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر فطاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا خالد بن عبد الله حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن أبي أوفى: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعتمر فطاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين ومعه من يستره من الناس، فقيل لـ عبد الله رضي الله عنه: أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة؟ قال: لا)].
قوله: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر فطاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين)].
قيل: إن هذه العمرة هي عمرة القضاء.
قوله: [(أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة؟ قال: لا)] قيل: إن السبب في ذلك: أن الكعبة كان فيها الأصنام وكان ذلك قبل الفتح؛ لأن عمرة القضاء في السنة السابعة، أو أن دخولها لم يدخل في الشرط الذي بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، وكان بينهم أنهم يأتون ويجلسون ثلاثة أيام ثم بعد ذلك يرجعون، فلم يدخل الكعبة في ذلك الوقت، ولكنه دخلها عام الفتح بعدما كسرت الأصنام التي فيها.
قوله: [(ومعه من يستره من الناس)] يعني: كان في أناس من أصحابه يسترونه من غشيان الناس له حماية له.
وهذا الحديث ليس فيه ذكر الصفا والمروة.(222/29)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر فطاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا خالد بن عبد الله].
هو خالد بن عبد الله الواسطي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسماعيل بن أبي خالد].
إسماعيل بن أبي خالد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن أبي أوفى].
عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(222/30)
شرح حديث: (ثم أتى الصفا والمروة فسعى بينهما سبعاً ثم حلق رأسه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا تميم بن المنتصر أخبرنا إسحاق بن يوسف أخبرنا شريك عن إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه بهذا الحديث زاد: (ثم أتى الصفا والمروة فسعى بينهما سبعاً ثم حلق رأسه)].
هذا حديث عبد الله بن أبي أوفى من طريق أخرى وفيه زيادة: [(أنه أتى الصفا والمروة فسعى بينهما)] وهذا هو محل الشاهد في الترجمة، يعني في أمر الصفا والمروة.
قوله: [(ثم حلق رأسه)] هذا في عمرة القضاء، وقد سبق أن معاوية رضي الله عنه قصر للنبي صلى الله عليه وسلم عند المروة، وسبق أن الذي يناسب أن تكون تلك عمرة الجعرانة؛ لأنها هي التي كانت بعد الفتح، ومعاوية رضي الله عنه أسلم عام الفتح، أما في عمرة القضاء فلم يكن معاوية قد أسلم، وهنا ذكر أنه حلق، فاحتمال الحلق ظاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحث على الحلق ويفضله على التقصير، وكان يقول: (رحم الله المحلقين، رحم الله المحلقين، رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين، قال والمقصرين) فالحلق أفضل من التقصير؛ لأن الإنسان الذي يقصر يبقي شيء من شعره، وقد يكون بعض الناس يرغب في الشعر فيقصر بعضه ويحتفظ بالباقي لتحقيق رغبته، لكن من يزيله لله عز وجل ويحلقه حلقاً يكون أفضل، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاث مرات أما المقصرين فمرة واحدة.
فيحتمل أن يكون ذلك في عمرة القضية وأنه حلق؛ لأنه مطابق لما كان معروفاً عنه عليه الصلاة والسلام أنه حلق في حجته وحلق في الحديبية، وعمرة الجعرانة قصر له معاوية، وعمرة القضية الذي يغلب على الظن أن الذي حصل فيها هو الحلق.
قال الألباني رحمه الله: إن الحديث صحيح بدون ذكر الحلق، لأن في الإسناد شريكاً القاضي وهو صدوق يخطئ كثيراً، لكن الأقرب إلى فعله صلى الله عليه وسلم هو الحلق؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحث عليه ويرغب فيه، ودعا للمحلقين ثلاث مرات أما المقصرين فمرة واحدة؛ لأن الحلق أكمل وأبلغ في ترك الشيء من أجل الله وقربة إلى الله عز وجل.(222/31)
تراجم رجال إسناد حديث: (ثم أتى الصفا والمروة فسعى بينهما سبعاً ثم حلق رأسه)
قوله: [حدثنا تميم بن المنتصر].
تميم بن المنتصر ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه.
[أخبرنا إسحاق بن يوسف].
هو إسحاق بن يوسف الأزرق وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا شريك].
هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي وهو صدوق يخطئ كثيراً وتغير حفظه لما ولي القضاء، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى].
إسماعيل بن أبي خالد وابن أبي أوفى قد مر ذكرهما.(222/32)
شرح حديث: (إني أراك تمشي والناس يسعون)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا عطاء بن السائب عن كثير بن جمهان: (أن رجلاً قال لـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بين الصفا والمروة: يا أبا عبد الرحمن! إني أراك تمشي والناس يسعون، قال: إن أمش فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمشي، وإن أسع فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسعى، وأنا شيخ كبير)].
قوله: [(إن أمش فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، وإن أسع فقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسعى وأنا شيخ كبير)] يعني: أن عدم سعيه كان بسبب الكبر والشيخوخة، ومعلوم للإنسان أن يمشي بين الصفا والمروة إلا عند المكان الذي فيه خطان أخضران يدلان على ذلك الموقع فإنه يسعى فيه ويسرع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يسرع فيه، وما سوى ذلك فإنه كان يمشي عليه الصلاة والسلام.
ولعل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لكونه شيخاً كبيراً لم يتمكن من أن يسعى في المنطقة التي فيها السعي، واعتذر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم وجد منه السعي ووجد منه المشي، والمشي في غير مكان السعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سعى في بطن الوادي، وكذلك أصحابه سعوا معه، واعتذر ابن عمر بكونه شيخاً كبيراً، وهذا يدل على أن الأمر في ذلك واسع، وأن الإنسان إذا كان عليه مشقة فإن السعي ليس بلازم الذي هو الإسراع في جزء من المسعى، وهو بين العلمين الأخضرين، وقد كان في الأول في بطن الوادي.(222/33)
تراجم رجال إسناد حديث: (إني أراك تمشي والناس يسعون)
قوله: [حدثنا النفيلي].
هو عبد الله بن محمد النفيلي وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عطاء بن السائب].
عطاء بن السائب صدوق اختلط، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن، ولكن زهيراً ممن روى عنه قبل الاختلاط، وهو أحد الأشخاص الذين سماعهم منه صحيح.
[عن كثير بن جمهان].
كثير بن جمهان مقبول، أخرج له أصحاب السنن.
[أن رجلاً قال لـ عبد الله بن عمر] عبد الله بن عمر مر ذكره.(222/34)
الأسئلة(222/35)
حكم طواف التطوع عن الميت
السؤال
ما حكم طواف التطوع عن الميت؟
الجواب
لا أعلم شيئاً يدل عليه، الذي ورد هو أن الإنسان يحج عن غيره ويعتمر عن غيره، أما مسألة التطوع بالطواف وحده فلا أعلم شيئاً يدل عليه، وبعض أهل العلم يجيز ذلك بناء على أن أي قربة فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم نفعه ذلك، لكن الأولى والأظهر في هذا أن يوقف عندما جاءت به الأدلة، وقد جاءت الأدلة بأنه يعتمر عنه ويحج، وجاءت أنه يتصدق عنه، وجاءت أنه إذا كان عليه صيام يصوم عنه وليه وهكذا.(222/36)
حكم الطواف بالبيت أثناء خطبة الجمعة
السؤال
هل يطاف بالبيت أثناء خطبة الجمعة؟
الجواب
خطبة الجمعة كما هو معلوم هي تابعة لصلاة الجمعة، والاستماع إليها مطلوب، والإنسان لا يشتغل بشيء أثناء الخطبة وإنما عليه أن يسمع ويتهيأ للصلاة، فلا يطاف في حال الخطبة.(222/37)
حكم الدعاء الجماعي في الطواف والسعي
السؤال
ما حكم الدعاء الجماعي في الطواف والسعي؟
الجواب
لا نعلم له دليلاً، ثم أيضاً هذه الأدعية التي يأتي بها الناس يكررونها ولا يفهمون معناها؛ لأنهم يأتون بالكلام مفككاً ومقطعاً، بحيث يقطعون الكلمة عن التي تليها فيختل المعنى، ولكن ينبغي للإنسان أن يدعو بما عنده من الأدعية؛ لأنه ليس هناك دعاء للشوط الأول، ودعاء للشوط الثاني إلى آخر الأشواط، بل للإنسان أن يقرأ ما يحفظ من القرآن ويذكر الله عز وجل ويكبر الله ويهلله، ويدعو بالأدعية التي كان يدعو بها في صلاته وفي جميع أحواله، ولا يحتاج إلى هذا الذي يفعله بعض الناس من كونه يطوف بهم ويدعو بدعاء في الشوط الأول والشوط الثاني والثالث والرابع والخامس فالسادس فالسابع وهكذا، فهو شيء لا أساس له.(222/38)
حكم الرمل للنساء
السؤال
ما حكم الرمل بالنسبة للنساء؟
الجواب
ليس على النساء رمل؛ لأن هذا من شأن الرجال وليس من شأن النساء.(222/39)
وجه جعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الجعرانة ميقاتاً لهم
السؤال
ما معنى قول ابن عباس: (اعتمروا من الجعرانة فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه جعلوها ميقاتاً لهم)؟
الجواب
لم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الجعرانة ميقاتاً لهم، ولكنهم عندما رجعوا من حنين طرأت لهم العمرة في ذلك المكان أي الجعرانة، وليست بميقات لهم وهي على حدود الحرم، بل من أبعد الأماكن عن الحرم، بخلاف التنعيم فهو أقرب الحل للحرم، لكن ليس معنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم منها على أنها ميقات، بل كما هو معلوم أن الإنسان إذا جاء من خارج المواقيت وطرأت عليه العمرة فإنه يحرم من حيث أنشأ، وأما إذا مر بميقات فإنه يحرم من الميقات، فمثلاً: لو جاء من المدينة ولم يرد لعمرة، فلما وصل إلى وادي فاطمة طرأت عليه العمرة، فإنه يحرم من وادي فاطمة؛ لأنه المكان الذي طرأت عليه العمرة فيه.(222/40)
مذهب الشيخ في الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس
السؤال
أُثر عنك يا شيخ أنك تقول: لا صلاة بعد العصر مطلقاً ولو كانت الشمس مرتفعة، فهل هذا صحيح؟
الجواب
لا، ما قلت هذا، هذا الذي يقوله الشيخ الألباني رحمه الله، وأنا أقول: إنه لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس) أن الإنسان لا يصلي بعد العصر حتى تغرب الشمس.(222/41)
حكم المرور بين يدي المصلي في المسجد الحرام
السؤال
ما حكم المرور بين يدي المصلي في المسجد الحرام؟
الجواب
قال جماعة من أهل العلم: إن المسجد الحرام مكان يكثر فيه الزحام ويشق فيه عدم المرور بين يدي المصلي، لكن حتى لو قال ذلك بعض أهل العلم فالذي ينبغي أن يحرص الإنسان على أنه لا يمر بين يدي مصل إلا إذا كان مضطراً فليفعل، وإن كان في سعة فلا يمر بين يدي أحد وهو يصلي.(222/42)
حكم طواف الإفاضة قبل صلاة الفجر من يوم النحر
السؤال
ما حكم طواف الإفاضة قبل صلاة الفجر من يوم النحر؟
الجواب
يصح؛ لأن أمهات المؤمنين حصل منهن ذلك.(222/43)
شرح سنن أبي داود [223]
حديث جابر رضي الله عنه في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم من أجمع الأحاديث وأحسنها في بيان صفة الحج، فقد كان جابر رضي الله عنه ملازماً للنبي صلى الله عليه وسلم منذ خروجه من المدينة إلى إتمامه أعمال الحج، وكان يراقب كل أعماله وحركاته وسكناته، فحفظ ذلك كله، وأداه كما سمعه ورآه، فجاء حديثاً كاملاً متكاملاً في بيان صفة الحج، ففيه من الأحكام والفوائد الجمة ما لا يوجد فيما سواه.(223/1)
صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم(223/2)
شرح حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي وعثمان بن أبي شيبة وهشام بن عمار وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، وربما زاد بعضهم على بعض الكلمة والشيء، قالوا: حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه قال: (دخلنا على جابر بن عبد الله، فلما انتهينا إليه سأل عن القوم حتى انتهى إلي، فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين، فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زري الأعلى، ثم نزع زري الأسفل، ثم وضع كفه بين ثديي وأنا يومئذ غلام شاب، فقال: مرحباً بك وأهلاً يا ابن أخي! سل عما شئت، فسألته وهو أعمى، فجاء وقت الصلاة فقام في نساجة ملتحفاً بها -يعني: ثوباً ملفقاً- كلما وضعها على منكبيه رجع طرفاها إليه من صغرها، فصلى بنا ورداؤه إلى جنبه على المشجب، فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال بيده فعقد تسعاً ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل بمثل عمله، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر رضي الله عنهم، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف أصنع؟ فقال: اغتسلي واستذفري بثوب وأحرمي، فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد، ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء قال جابر: نظرت إلى مد بصري من بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله، فما عمل به من شيء عملنا به، فأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً منه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته.
قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] فجعل المقام بينه وبين البيت، قال: فكان أبي يقول: قال ابن نفيل وعثمان: ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال سليمان: ولا أعلمه إلا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الركعتين بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وبـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1].
ثم رجع إلى البيت فاستلم الركن، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] نبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقِيَ عليه حتى رأى البيت فكبر الله ووحده، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك وقال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبَّت قدماه رمل في بطن الوادي، حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة، فصنع على المروة مثلما صنع على الصفا، حتى إذا كان آخر الطواف على المروة قال: إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليَحلل وليجعلها عمرة، فحل الناس كلهم وقصروا، إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي، فقام سراقة بن جعشم رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه في الأخرى ثم قال: دخلت العمرة في الحج، هكذا مرتين: لا بل لأبد أبد، لا بل لأبد أبد.
قال: وقدم علي رضي الله عنه من اليمن ببُدن النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر علي رضي الله عنه ذلك عليها، وقال: من أمرك بهذا؟ قالت: أبي، قال: وكان علي رضي الله عنه يقول بالعراق: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محرشاً على فاطمة رضي الله عنها في الأمر الذي صنعته مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا، فقال: صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فإن معي الهدي فلا تحلل.
قال: وكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة مائة، فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي، قال: فلما كان يوم التروية ووجهوا إلى منى أهلوا بالحج، فركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة له من شعر فضربت بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فركب حتى أتى بطن الوادي فخطب الناس فقال: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضعه دماؤنا دم قال عثمان: دم ابن ربيعة وقال سليمان: دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وقال بعض هؤلاء: كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل-، وربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضعه ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله، اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم مسئولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، ثم قال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثم أذن بلال رضي الله عنه، ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب القصواء حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، فاستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حين غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، فدفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، وهو يقول بيده اليمنى: السكينة أيها الناس! السكينة أيها الناس! كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فجمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، قال عثمان: ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اتفقوا: ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح، قال سليمان: بنداء وإقامة، ثم اتفقوا: ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فرقي عليه، قال عثمان وسليمان: فاستقبل القبلة فحمد الله وكبره وهلله، زاد عثمان: ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، ثم دفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس رضي الله عنهما، وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً، فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر بالظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده على وجه الفضل، وصرف الفضل وجهه إلى الشق الآخر، وحول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده إلى الشق الآخر، وصرف الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، حتى أتى محسراً فحرك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطى الذي يخرجك إلى الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها، بمثل حصى الخذف، فرمى من بطن الوادي، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المنحر فنحر بيده ثلاثاً وستين، وأمر علياً رضي الله عنه فنحر ما غبر، يقول: ما بقي، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها، قال سليمان: ثم ركب، ثم أفاض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى البيت فصلى بمكة الظهر، ثم أتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم فقال: انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلواً فشرب منه)].
قوله: [باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم] هذه الترجمة عقدها المصنف رحمه الله وأورد تحتها حديث جابر رضي الله عنه الطويل المشتمل على وصف حجة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو حديث عظيم مشتمل على صفة الحج من بدايته إلى نهايته، ولهذا أتى أبو(223/3)
مكانة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين
هذا الحديث يدل على ما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من تعظيم أهل البيت ومعرفة قدرهم، وتمييزهم على غيرهم وإنزالهم منازلهم اللائقة بهم؛ لأن جابراً رضي الله عنه عندما عرفه محمد بن علي بن الحسين بنفسه اتجه إليه، وفتح زراريه، وجعل يده بين ثدييه، وذلك لتأنيسه لاسيما وهو شاب صغير، وفيه توقير له، ثم هذا الذي فعله جابر رضي الله عنه فيه بيان عظيم قدر منزلة محمد بن علي بن الحسين رحمة الله عليه، ومما يوضح هذا أن الخليفتين الراشدين أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما جاءت عنهما نصوص تدل على تعظيم أهل البيت، وعلى بيان منزلتهم وعظيم قدرهم، فقد ذكر الإمام البخاري في صحيحه أثرين عن أبي بكر رضي الله عنه: أحدهما أن أبا بكر قال: (والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليّ أن أصل من قرابتي)، أي: أنه يحب أن يصل قرابة محمد عليه الصلاة والسلام أعظم مما يصل به قرابته.
والأثر الثاني ذكره البخاري في صحيحه عن أبي بكر رضي الله عنه قال: (ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته)، أي: راعوا وصيته في أهل بيته.
أما عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه فقد ذكر البخاري عنه أثراً في صحيحه: (أنه حصل جدب فخرج رضي الله عنه بالناس يستسقي، وطلب من العباس أن يدعو، وتوسل بدعاء العباس، وقال في دعائه: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا، قم يا عباس فادع الله).
يعني: أنهم كانوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يتوسلون بدعائه صلى الله عليه وسلم، ولماذا اختار عمر العباس؟ لقرابته من رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه عم النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا قال: (وإنا نتوسل إليك بعم نبينا)، ولم يقل: وإنا نتوسل إليك بـ العباس، مع أن عمر بن الخطاب أفضل من العباس، فهو في الفضل بعد أبي بكر، ولكن من أجل قرابة العباس من رسول الله عليه الصلاة والسلام خصه بهذا التقديم وميزه على غيره.
أما الأثر الثاني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره عند قول الله عز وجل: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] في سورة الشورى وهي مكية، قال: إن عمر رضي الله عنه قال للعباس: (إن إسلامك يوم أسلمت أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على إسلامك)، فهو يحب أن يسلم العباس لحرص النبي صلى الله عليه وسلم على إسلامه.
وقد ذكر ابن كثير عند تفسير هذه الآية هذه الآثار الأربعة كلها عن أبي بكر وعمر؛ مبيناً أن هذه الآية ليس المقصود بها أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم الذين هم قرابته، وفي مقدمتهم علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عن الجميع، وقد نقل ابن كثير أثراً عن ابن عباس ذكره البخاري في صحيحه، وفيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لكفار قريش وهو بمكة: (إن بيني وبينكم قرابة، وإذا لم تقوموا بنصرتي وتأييدي فلا أقل من أن تتركوني أبلغ رسالة ربي لما بيني وبينكم من القرابة).
فقوله: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] يعني: أجر ما بيني وبينكم من القرابة أن تتركوني أبلغ رسالة ربي إذا لم تتقبلوا أنتم دعوتي، وهذا من جنس ما جاء في الآية: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1] فالإنسان القريب عندما يأتي إلى قريبه يقول له: للصلة التي بيني وبينك حقق لي كذا، أو لما بيني وبينك من قرابة ساعدني على كذا.
هذا الأثر الصحيح الذي أورده البخاري في صحيحه عن ابن عباس يبين المراد بالآية، وأن المقصود بها كفار قريش، وليس المقصود بها علياً وفاطمة ونسلهما رضي الله تعالى عنهم، فإن زواج علي بـ فاطمة ووجود النسل إنما كان ذلك بالمدينة، والآية مكية؛ ولهذا جاء تفسيرها عن ابن عباس وهو حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه بهذا المعنى الذي يتفق مع كونها مكية.
وعلى هذا فإن هذا الذي حصل من جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما من توقير محمد بن علي بن الحسين رحمة الله عليه دال على ما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من توقير أهل البيت وإنزالهم منازلهم، وقد عرفنا من الآثار التي ذكرتها أن مقدمة الصحابة وخير الصحابة وأفضلهم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يعظمان أهل البيت.(223/4)
مشروعية الترحيب بالقادم وكونه بعد السلام
قوله: (قال: مرحباً بك وأهلاً يا ابن أخي).
هذا فيه دليل على استعمال مثل هذه الألفاظ في الترحيب بالقادم ومن يرحب به، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عندما جاءه وفد عبد القيس قال لهم: (مرحباً)، وجاء ذلك أيضاً في مواضع عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: مرحباً، وهذا إنما يكون بعد السلام، ليس كما يفعله بعض الناس الذين يتركون السلام ويقولون: مرحباً، أو مساء الخير وما إلى ذلك ويتركون السنة، بل السلام هو أول شيء، وإذا حصل السلام ورد السلام يأتي بعده الترحيب، ويأتي بعد ذلك الألفاظ التي يكرم بها الإنسان.
قوله: (سل عما شئت).
يعني: يسأله عما شاء.(223/5)
الأحكام المستنبطة من قوله (فسألته وهو أعمى فجاء وقت الصلاة)
قوله: [(فسألته وهو أعمى، فجاء وقت الصلاة فقام في نساجة ملتحفاً بها -يعني: ثوباً ملفقاً- كلما وضعها على منكبيه رجع طرفاها إليه من صغرها، فصلى بنا ورداؤه إلى جنبه على المشجب)].
لما جاء وقت الصلاة قام جابر وصلى بهم، وهذا دليل على أن صاحب البيت وصاحب المنزل أولى من غيره بالإمامة، ويدل أيضاً على جواز إمامة الأعمى، ويدل أيضاً على أن الإنسان له أن يصلي بالثوب الواحد إذا كان كافياً وساتراً ولو كان عنده غيره؛ لأنه استعمل هذه النساجة التي هي ملفقة، وعندما جعلها على منكبيه وسحبها من جهة تحركت إلى الجهة الأخرى لصغرها، مع أن معه ثوباً معلقاً على المشجب، وكان بإمكانه أن يضيف ذلك الثوب الذي على المشجب إليه، فدلنا هذا على كفاية الثوب الواحد حيث يكون ساتراً ولو كان معه غيره من الثياب ويمكن أن تضاف إليه.
والمشجب: هو أعواد كانوا يحزمونها وتكون أطرافها بارزة من فوق يعلقون عليها الثياب؛ ولهذا يقولون: فلان كالمشجب، من أين أتيته وجدته.
أيضاً هذا ما أن جابراً فتح الأزرار يدل على أن الثياب يكون لها زر، وأن الثياب تتخذ فيها الأزرة بحيث تكون مفتوحة الصدور، وقد جاء في بعض الأحاديث: (أن النبي عليه الصلاة والسلام جاءه وفد وكان إزراره محلولاً)، وبعض الشباب يتعلقون بهذا الحديث فيفتحون أزرتهم باستمرار، وهذا ليس بصحيح؛ لأن هذه الهيئة الخاصة والحالة الخاصة التي وجدت منه صلى الله عليه وسلم في حالة من الحالات ربما كانت في غرض من الأغراض، كتبرد أو نسيان زر من الأزرار أو ما إلى ذلك، أما أن تكون الأزرار موجودة ثم يترك الصدر مكشوفاً دون أن يزر فما فائدة الأزرار إذن؟! ولهذا كان مع محمد بن علي رحمة الله عليه هذان الزراران، وقد فكهما جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما وأدخل يده وجعلها بين ثدييه، وذلك تأنيساً له لكونه شاباً صبياً رحمة الله عليه.
قوله: [(فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
هذا السؤال من محمد بن علي بن الحسين رحمة الله عليه وجابر رضي الله عنه هو الذي طلب منه أن يسأل، وقدمه على غيره لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.(223/6)
حج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة
قوله: [(فقال بيده فعقد تسعاً)].
كان العقد باليد عند العرب مشهور، وله هيئات تدل على الأعداد، فقد يقبض أصبعاً أو أصبعين، ويرفع أصبعاً أو أصبعين، وكل هيئة تدل على رقم معين، فعقد تسعاً.
قوله: [(ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج)] يعني: مضى عليه تسعة أعوام في المدينة ولم يحج إلا في السنة العاشرة، وسبق أن عرفنا أن العلماء اختلفوا في فرض الحج متى كان؟ فمنهم من قال: في السنة السادسة، ومنهم من قال قبل ذلك، ومنهم من قال: إنما كان في السنة التاسعة؛ ولهذا أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليحج بالناس في السنة التاسعة، وينادي: (ألا يحج بعد العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان) حتى إذا جاءت السنة التي حج فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا هذه الهيئات والصفات السيئة التي اعتادها بعض الناس قد قضي عليها وقد انتهي منها، فالكفار منعوا من الحج فلم يحجوا بعد ذلك العام، وكذلك العراة منعوا من العري، وأنه لا يطوف بالبيت عريان كما كان بعض الجاهليين يطوفون عراة، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يبلغ الناس ذلك.(223/7)
إعلام الناس في السنة العاشرة بحج النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: [(ثم أذن في الناس في العاشرة)].
يعني: في السنة العاشرة.
قوله: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج)] إما أذن هو وأخبر بنفسه، أو أذن غيره بأمره، وإنما حصل الإخبار بحجه صلى الله عليه وسلم حتى يأتي الناس ليصحبوه في حجه ويتلقوا عنه الحج، ويعرفوا كيف يحجون وما هي صفة الحج، وحتى يتلقوا منه صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) فأعلن في الناس أنه حاج، فتوافد الناس على المدينة يريدون أن يصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى الحج.
قوله: [(فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل بمثل عمله)].
يعني: بعدما أُعلن بأن النبي صلى الله عليه وسلم حاج، توافد إلى المدينة أعداد كبيرة من الناس؛ كل يريد أن يأتم برسول الله عليه الصلاة والسلام ويقتدي به في الحج، ويسير على نهجه، وينظر إلى حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم، فيقتدي به، وهو نفسه عليه الصلاة والسلام حث بقوله: (خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(223/8)
مكث النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة يوماً وليلة بعد خروجه من المدينة للحج
قوله: [(فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة)].
أخبر جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة، وكان خروجه بعد صلاة الظهر في هذا المسجد المبارك، صلى بالناس الظهر أربعاً، ثم خرج إلى ذي الحليفة وصلى فيها العصر ركعتين، ثم صلى فيها المغرب والعشاء والفجر والظهر، فيكون صلى فيها خمس صلوات، وجلس يوماً وليلة، ولعل جلوسه صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان حتى يتوافد الناس إليه، وحتى يكونوا على علم بصفة حجه من بدايته؛ لأن الحج يبدأ من الميقات حيث يكون الإحرام منه.
إذاً: مكثه صلى الله عليه وسلم يوماً وليلة في ذي الحليفة ليتوافد الناس إليه، وليكونوا معه من أول عمل من أعمال الحج، ومن حين إهلاله بالحج، فيقتدوا به ويأتسوا به صلى الله عليه وسلم، فصلى العصر بذي الحليفة ركعتين، وهذا يدلنا على أن المسافر إذا خرج من البلد وتجاوزها فإنه يبدأ بأحكام السفر ورخصه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وقصر العصر في ذي الحليفة، ولا يلزم أن يسير المسافر مسافة طويلة جداً حتى يترخص برخص السفر، ولكنه إذا خرج وبدأ بالسفر بدأ بالترخص؛ ولهذا بدأ عليه الصلاة والسلام القصر بذي الحليفة في صلاة العصر، حيث صلى بالمدينة الظهر أربعاً، وصلى بذي الحليفة العصر ركعتين، ولكن إذا امتدت المدينة ودخل ذو الحليفة في البنيان واتصل العمران فإنه لا يجوز أن يقصر في ذي الحليفة؛ لأنها عند ذلك تكون من المدينة، وقد انتشر البنيان الآن وكاد أن يتصل بذي الحليفة، فإذا اتصل فإن ذا الحليفة تكون من جملة المدينة وليس من أطرافها، ولا يجوز القصر فيه، وإنما يقصر إذا تجاوز العمران نهائياً، عند ذلك يبدأ بالترخص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في ذي الحليفة؛ لأنه كان خارج المدينة، وبينه وبين المدينة مسافة قريبة من عشرة كيلو متر.(223/9)
ولادة أسماء بنت عميس في ذي الحليفة وحكم من كانت معها
قوله: [(فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ فقال: اغتسلي واستذفري بثوب وأحرمي)].
ولدت أسماء رضي الله عنها بذي الحليفة، وأسماء بنت عميس هذه كانت زوجة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد استشهد في غزوة مؤتة، ثم تزوجها بعده أبو بكر رضي الله عنه، وبعد موت أبي بكر تزوجها علي، وولدت من الثلاثة، وهذا الذي ولدته في ذي الحليفة هو محمد بن أبي بكر، ولا أدري هل ولدت له غيره أو لا؟ ولكنها ولدت من الثلاثة: من جعفر ومن أبي بكر ومن علي رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين، فلما ولدت أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأل: كيف تصنع؟ وقد حصلت لها الولادة وحصل لها النفاس، فأمرها النبي عليه الصلاة والسلام أن تغتسل وأن تستذفر بثوب، وذلك بأن تجعل ثوباً على فرجها يمنع من نزول الدم، وأمرها أن تغتسل للإحرام، وهذا يدل على استحباب الاغتسال للإحرام، وأنه سنة حتى الحائض والنفساء يسن لهما أن يغتسلا للإحرام، وأن يحصل منهما النظافة والنزاهة لأجسامهما بهذه المناسبة.(223/10)
إحرام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ذي الحليفة
قوله: [(فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء قال جابر: نظرت إلى مد بصري من بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله، فما عمل به من شيء عملنا به)].
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمسجد بذي الحليفة صلاة الظهر، ثم أحرم بعدها وانطلق في رحلته إلى الحج عليه الصلاة والسلام.
إذاً: فهو صلى في ذي الحليفة خمسة أوقات: العصر والمغرب والعشاء والفجر والظهر، وبعد صلاة الظهر انطلق ومعه أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم للحج، ولما استوت ناقته على البيداء نظر جابر رضي الله عنه وإذا الناس منهم الراكب والماشي مد البصر، أمامه ويمينه وشماله وخلفه، والنبي صلى الله عليه وسلم وسطهم، وما فعله فعلوه، فهم يتابعونه ويسيرون على نهجه وعلى طريقته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهو صلى الله عليه وسلم الذي ينزل عليه القرآن وهو الذي يعلم تأويله، ومن المعلوم أن خير ما يفسر به القرآن هو القرآن، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا فالسنة تبين القرآن وتشرحه وتوضحه وتدل عليه؛ ولهذا قال جابر رضي الله تعالى عنه: (وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله) يعني: وهو صلى الله عليه وسلم يعلم تفسيره وبيان معناه.
وما عمله من شيء عمله أصحابه، ومن المعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان في ذي الحليفة خير الناس بين أنساك ثلاثة: خيرهم بين الإفراد، وهو أن يحرم بالحج وحده، وإذا وصل مكة طاف وسعى وبقي على إحرامه حتى يذهب إلى عرفة، ويرجع إلى مزدلفة، ثم يأتي إلى منى ويرمي الجمرة، ويحلق رأسه، ويطوف ويتحلل، وليس عليه هدي، وبين القران، وهو أن يحرم من الميقات بحج وعمرة يلبي بهما معاً، وإذا وصل مكة طاف وسعى وقصر وبقي على إحرامه حتى يأتي يوم النحر مثله مثل المفرد، وبين التمتع، وهو أن يحرم الإنسان بالعمرة من الميقات، فإذا وصل مكة طاف وسعى وقصر وتحلل، وإذا جاء اليوم الثامن أحرم بالحج، ثم أتى بالحج وأكمله، فخير عليه الصلاة والسلام الناس بين الأنساك الثلاثة، وقد كان عليه الصلاة والسلام ساق الهدي، وأحرم بالقران صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فجمع بين الحج والعمرة.(223/11)
إهلال النبي صلى الله عليه وسلم بالتوحيد ومعاني التلبية
قوله: [(فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)].
أهل عليه الصلاة والسلام بالتوحيد، والتوحيد: هو إفراد الله بالعبادة، وهذه التلبية مشتملة على لا إله إلا الله، ومقتضى لا إله إلا الله أي: لا معبود بحق إلا الله؛ لأن لا إله إلا الله تشتمل على ركنين: نفي، وإثبات، نفي عام في أولها، وإثبات خاص في آخرها.
وكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) هي المفتاح للدخول في الإسلام، وهي مفتاح الجنة؛ ولهذا أول ما بعث الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمشي في مكة ويقول: (يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) وأول شيء يدعى إليه هو التوحيد؛ ولهذا جاء في حديث معاذ بن جبل لما أرسله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) فأول شيء يدعى إليه هو التوحيد، الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة.
فالتلبية مشتملة على التوحيد؛ لأن (لبيك) معناها: أنك يا رب! لما دعوتني لحج بيتك استجبت لدعوتك ولبيت نداءك، فلبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.
فالتلبية هي بمعنى لا إله إلا الله؛ لأن (لبيك اللهم لبيك) هي بمعنى (إلا الله)، و (لا شريك لك) بمعنى (لا إله)؛ ولهذا قال جابر رضي الله عنه: [(فأهل بالتوحيد)] يعني: أهل بإعلان إخلاص العبادة لله عز وجل؛ ولهذا كل عمل من الأعمال لا ينفع صاحبه عند الله إلا إذا توافر فيه أمران: الإخلاص لله وحده، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم.
فإذا فقد الشرطان أو أحدهما، فإن العمل لاغ ومردود على صاحبه، فمن فقد الإخلاص في العمل، وإن كان العمل على طبق السنة، مادام أن فيه رياء وصُرِفَ العمل لغير الله؛ فإنه يكون مردوداً على صاحبه؛ ولهذا يقول الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] يعني: كل عمل يعمله الكفار من الأعمال الطيبة التي فيها خير وفيها بر ومصلحة وفائدة وإحسان مردودة عليهم ولا تنفعهم عند الله عز وجل؛ لأنها لم تبن على التوحيد، ومن شرط العمل المقبول عند الله أن يكون خالصاً لوجه الله، هذا هو الشرط الأول.
الشرط الثاني: أن يكون مطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذان الشرطان هما مقتضى الشهادتين، مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، ومقتضى شهادة أن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام.
إذاً: إنما يعبد الله طبقاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فقد الإخلاص رد العمل وكان حابطاً، وإن وجد الإخلاص وكان مبنياً على بدعة ومبنياً على محدثات الأمور، فإنه أيضاً يكون مردوداً على صاحبه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وقال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وقال: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) فرغب في اتباع السنة، ورهب من اتباع المحدثات التي هي البدع المنكرة؛ ولهذا فإن العمل ولو كان خالصاً لله لابد أن يكون مطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قد يقول بعض الناس: إن الإنسان قد يأتي بعمل صالح يتقرب به إلى الله مع أنه لم يأت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن قصد الإنسان حسن، فهل يشفع له حسن قصده؟ وهل يكون عمله مقبولاً عند الله، مع أنه ليس مبنياً على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود عليه.
ومما يدل على أن حسن القصد لا يكفي: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما ذبح أحد أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم أضحيته قبل صلاة العيد، يريد من وراء ذلك أن يطبخ اللحم، حتى إذا جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المصلى وهم بحاجة إلى اللحم يقدم لهم لحم أضحيته، فهذا قصد حسن وقصد طيب، لكن ماذا قال رسول الله عليه الصلاة والسلام بعد أن علم أنه ذبحها قبل صلاة العيد؟ قال: (شاتك شاة لحم) يعني: ليست أضحية؛ لأنها ما وقعت طبقاً للسنة في الوقت المحدد، فهي مثل الشاة التي تذبح في محرم وصفر وربيع، حينما يذبح الناس الشياه ويأكلون لحمها، هذه من جنسها، والأضحية هي التي تكون بعد صلاة العيد إلى آخر أيام التشريق، أربعة أيام: يوم العيد، وثلاثة أيام بعده، هذا هو وقت ذبح الأضاحي، فلا تذبح قبل الصلاة، وإذا غابت الشمس من آخر أيام التشريق انتهى وقت الذبح، فهذا الصحابي رضي الله عنه كان قصده حسناً، ومع ذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (شاتك شاة لحم) يعني: ليست أضحية.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري نقلاً عن بعض أهل العلم: وفي هذا الحديث دليل على أن العمل لا يعتبر إلا إذا وقع طبقاً للسنة، وأنه لا يكفي حسن قصد الفاعل.
ومما يدل على ذلك أيضاً: أن أبا عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن أناساً يتحلقون في المسجد، ومع كل واحد منهم حصى، وفيهم واحد يقول: هللوا مائة، فيهللون مائة ويعدون بالحصى، ثم يقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، ثم يقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، فوقف على رءوسهم أبو عبد الرحمن رضي الله عنه وأرضاه وقال: ما هذا يا هؤلاء؟! قالوا: حصى نسبح به، فقال رضي الله عنه وأرضاه: إما أن تكونوا على طريقة أهدى مما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أنكم مفتتحو باب ضلالة، فقالوا: سبحان الله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير، فقال رضي الله عنه: وكم من مريد للخير لم يصبه.
ولهذا يقول الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].
قال بعض السلف: العمل الصالح هو الذي يكون خالصاً صواباً، فالخالص ما كان لله وحده، والصواب ما كان على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم أهل بالتوحيد، والتوحيد: هو إفراد الله بالعبادة، والعبادة أنواع كثيرة: فالدعاء عبادة، والذبح عبادة، والنذر عبادة، والاستعانة عبادة، والاستغاثة عبادة، والاستعاذة عبادة، والرغبة عبادة، والرهبة عبادة، والخوف عبادة، والتوكل عبادة.
وتوحيد الله تعالى في ألوهيته: هو توحيد الله تعالى في أفعال العباد بحيث تكون خالصةً لله، فلا يجعلون مع الله شريكاً في عباداتهم التي يتقربون بها إلى الله، وإنما يجعلونها خالصةً لوجه الله عز وجل، فعلى هذا الذي فعله هؤلاء الذين أنكر عليهم عبد الله بن مسعود مردود عليهم مع حسن قصدهم، فكم من مريد للخير لم يصبه.
وبعدما أهل بالتوحيد صلى الله عليه وسلم وأعلن إخلاص العبادة لله عز وجل والناس يسمعون، وقد رفع صوته بذلك عليه الصلاة والسلام، أثنى على الله عز وجل بما هو أهله، وأنه المستحق للعبادة؛ لأنه المنعم بكل نعمة، والمحمود على كل حال، وهو مالك الملك ذو الجلال والإكرام، فقال: [(إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)] يعني: أنت المتفرد بإسداء النعم إلى كل منعَم عليه، وأنت المحمود على كل حال، وأنت مالك الملك ذو الجلال والإكرام، فلا شريك لك في الملك، ولا شريك لك في العبادة، وأنت المتفرد بالخلق والإيجاد لا شريك لك في ذلك، فكما أنه لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا محيي إلا الله، ولا مميت إلا الله، فلا يعبد إلا الله، ولا تصرف العبادة إلا لله عز وجل، فلا تصرف لملك مقرب ولا لنبي مرسل، وهذا هو مقتضى لا إله إلا الله، فلا يصرف من أنواع العبادة شيء لغير الله عز وجل، فلا يدعى إلا الله، ولا ينذر إلا لله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يستغاث إلا بالله، ولا يذبح إلا لله، ولا يحلف إلا بالله، ولا ينذر إلا لله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18].
فهذه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان يلبي بها: [(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)].(223/12)
عدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على من كانوا يزيدون في التلبية
قوله: [(وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً منه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته)].
من الناس من كان يزيد على هذه التلبية، كما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه فيما مضى أنه كان يقول: (لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل)، وجاء عن بعض الصحابة أنه قال: (لبيك حقاً حقاً)، وهناك ألفاظ أخرى، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يسمعهم ولا ينكر عليهم، فدل ذلك على جواز الزيادة في التلبية، ولكن الأولى الاقتصار على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ما كان يزيد عليها شيئاً، ولكنه أقر الذين كانوا يلبون ويضيفون إلى التلبية بعض الإضافات مثل: (لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل).
فإن أتى الإنسان بشيء مما جاء عن السلف وعن الصحابة، فلا بأس بذلك، لكن الأولى الاقتصار على ما اقتصر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.(223/13)
معنى قوله: (لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة)
قوله: [(قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة)].
يعني: أنهم ذهبوا من أجل الحج، وأنهم كانوا لا يعرفون العمرة، ولعل المقصود من ذلك العمرة التي تفسخ القران والإفراد مع عدم سوق الهدي، وإلا فإن العمرة موجودة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قد اعتمر في أشهر الحج، اعتمر عمرة الحديبية في ذي القعدة، التي صده المشركون عنها، واعتمر عمرة القضية في ذي القعدة من السنة السابعة، واعتمر في السنة الثامنة عمرة الجعرانة، وكانت في ذي القعدة، واعتمر مع حجته؛ لأنه كان قارناً، وكان الدخول في الإحرام في ذي القعدة، وأداء الحج والعمرة في وقت الحج.
إذاً: المقصود من قوله: (ما كنا نعرف العمرة) أنهم ما كانوا يعرفون أن من يلبي بالحج أنه سيتحول من كونه حاجاً إلى كونه معتمراً، وقد كان في الصحابة من هو محرم بالعمرة، وأمهات المؤمنين كلهن كن محرمات بالعمرة متمتعات، والنبي صلى الله عليه وسلم خير أصحابه في الميقات بين الثلاثة الأنساك: بين التمتع والقران والإفراد، وأمهات المؤمنين كلهن أحرمن بالعمرة، وكلهن أكملن العمرة إلا عائشة فقد حصل لها الحيض، وجاء الحج وهي لم تطهر، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تدخل الحج على العمرة وتكون قارنة.(223/14)
استلام النبي صلى الله عليه وسلم للركن وطوافه بالبيت مع الرمل في الثلاثة الأشواط الأولى
قوله: [(حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً)].
دخل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، ولما وصلوا إلى البيت أول شيء بدأ به صلى الله عليه وسلم أن استلم الركن، أي: الحجر الأسود، والاستلام يكون بالتقبيل لمن يتمكن من ذلك، ومن لم يتمكن ومد يده ولمس الحجر، فإنه يقبل يده، وإذا كان راكباً يلمس الحجر بعصا ويقبلها، كما فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإنه كان قد ركب صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وكان يستلم الركن بمحجن.
ثم رمل ثلاثة أشواط، والرمل: هو الإسراع مع مقاربة الخطا، فرمل في الأشواط الثلاثة كلها من الحجر إلى الحجر، وأصل الرمل كان في عمرة القضية كما سبق، لما اتفق النبي صلى الله عليه وسلم وكفار مكة على أن يرجعوا عام الحديبية ويعتمروا من العام القادم، كان جماعة من كفار مكة من جهة الحجر، وكانوا يتحدثون فيما بينهم ويقولون: إنه يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يرملوا الأشواط الثلاثة الأول، وإذا كانوا بين الركنين يمشون؛ وذلك لأن الكعبة تحجب بينهم وبين الكفار، ولكنه في حجة الوداع رمل من الحجر إلى الحجر، فدل ذلك على أنه سنة، وأن الرمل يكون في الأشواط الثلاثة كلها من أولها إلى آخرها.
قوله: (ومشى أربعاً) هذا يدل على أن الطواف بالبيت سبعة أشواط، وأن الثلاثة الأشواط الأول يرمل فيها، وذلك في حق من يدخل مكة أول طواف يطوفه إن كان متمتعاً أو معتمراً فطواف العمرة، وإن كان قارناً أو مفرداً فطواف القدوم.
وبالنسبة للرمل فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم طاف على بعير، لكن هذه الرواية عن جابر فيها أنه استلم الركن فرمل، لكنه جاء في بعض الأحاديث عن جابر: (أن الناس غشوه فركب البعير صلى الله عليه وسلم) ولعله صلى الله عليه وسلم استلم الحجر ثم بعد ذلك غشاه الناس فركب البعير؛ حتى يشرف وحتى يراه الناس صلى الله عليه وسلم، وقد أمر بالرمل، فيكون معنى قوله: (فرمل) أي: أمر أصحابه بالرمل، ويكون أضاف إليه الرمل لأنه الآمر به صلى الله عليه وسلم.(223/15)
صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ركعتي الطواف عند مقام إبراهيم
قوله: [(ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125]، فجعل المقام بينه وبين البيت، قال: فكان أبي يقول: قال ابن نفيل وعثمان: ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال سليمان: ولا أعلمه إلا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الركعتين بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وبـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ})].
ذكر هنا الاختلاف بين الرواة الذين روى عنهم أبو داود رحمه الله فيما يتعلق بالركعتين، وفيما يتعلق بالقراءة في الركعتين، وأنه كان يقرأ فيهما: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}.
و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} كما هو معلوم دالة على على توحيد الأسماء والصفات، وأن الله تعالى واحد في ذاته وأسمائه وصفاته، فهو سبحانه وتعالى الأحد الصمد الذي تصمد إليه الخلائق بحوائجها، وهو مستغن عن الأصول والفروع والنظراء، فهو: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]، وسورة الكافرون فيها توحيد العبادة: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:2 - 3] فهذه فيها توحيد العبادة، وتلك فيها توحيد الأسماء والصفات.(223/16)
استلام النبي صلى الله عليه وسلم للركن بعد ركعتي الطواف
قوله: [(ثم رجع إلى البيت فاستلم الركن)].
يعني: ثم رجع إلى البيت بعدما صلى خلف المقام ركعتين، فاستلم الحجر الأسود، وهذا يدل على أنه يشرع للقادم إذا انتهى من الطواف بالبيت وصلى ركعتين أن يأتي إلى الحجر الأسود ويستلمه، وهذا استلام ليس متعلقاً بطواف وإنما هو استلام مستقل، فذلك جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الاستلام الآن والذهاب إلى الحجر في غاية المشقة، ولا ينبغي للإنسان أن يستلم الحجر إذا كان هناك مشقة؛ بل إن تيسر له أن يستلمه بدون أن يؤذي أحداً فعل، وإن كان لا يصل إليه إلا بالإيذاء فإنه لا يفعل؛ لأن استلامه سنة وإيذاء الناس حرام، ولا يرتكب الأمر المحرم من أجل الوصول إلى أمر مستحب، بل يترك الأمر المستحب إذا لم يوصل إليه إلا بإيذاء الناس.
والحاصل: أن الإنسان يستلم الحجر في كل طوفة، وأيضاً في هذا الموضع بعد ركعتي الطواف يأتي ويستلمه، أما ما يفعله بعض الناس عندما يأتي ويصلي قريباً من الحجر وما أن يسلم الإمام حتى يثب على الحجر ويقبله، فهذا ما جاءت به السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأن السنة جاءت بأنه يقبل ويستلم في حال الطواف، وفي هذا الموضع الذي هو بعد ركعتي الطواف.
واستلام الحجر على ثلاث مراتب: أن يقبله، فإن لم يستطع فإنه يستلمه بشيء ويقبل ما استلمه به، فإن لم يستطع فإنه يشير إليه ويكبر، وفي هذا الموضع استلمه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا تيسر للإنسان أن يستلم فهذا هو المطابق لفعله صلى الله عليه وسلم، وأما أن يشير إليه فمحتمل ولا أجزم بذلك، والله تعالى أعلم؛ لأن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموطن بالذات هو الاستلام.(223/17)
خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصفا
قوله: [(ثم خرج من الباب إلى الصفا)].
يعني: خرج من باب المسجد إلى الصفا؛ لأن الصفا والمروة كانتا خارج المسجد، وكان المسعى إلى وقت قريب في وسط السوق، والدكاكين عن يمينه وشماله، وكان الناس يسعون بين الدكاكين والناس يبيعون ويشترون، وكان ذلك موجوداً إلى سنة (1370هـ)، وكانت السيارات تمشي من بطن الوادي وتقطع المسعى، والناس يقفون وينتظرون حتى تمضي السيارات، فذكر أنه خرج من الباب لأن المسعى كان خارج المسجد.(223/18)
بداية النبي صلى الله عليه وسلم من الصفا
قوله: [(فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] نبدأ بما بدأ الله به)].
يعني: أن الله تعالى بدأ بالصفا في الذكر، فنحن نبدأ بها فعلاً وعملاً، لا نبدأ من المروة، وإنما نبدأ بما بدأ الله به؛ لأن الله قال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة:158]، فقدم الصفا في الذكر على المروة، فنحن نبدأ بالصفا ونختم بالمروة، ولو أن إنساناً أخطأ وبدأ بالمروة فإنه يلغي الشوط الأول الذي بدأ فيه بالمروة، ويبدأ من الصفا؛ اقتداءً برسول الله عليه الصلاة والسلام، ولقوله: (نبدأ بما بدأ الله به).(223/19)
صعود النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا
قوله: [(فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فكبر الله ووحده، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك وقال مثل هذا ثلاث مرات)].
لما وصل صلى الله عليه وسلم إلى الصفا صعد عليه، واستقبل القبلة حتى رأى البيت، وجعل يهلل الله ويوحده ويكبره، ويقول: [(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ويدعو بين ذلك)] وهذا يدل على أن هذا الموطن فيه ذكر، وفيه الإشارة إلى الدعاء، فهذا ذكر لله عز وجل وثناء عليه وتعظيم له، وإعلان إفراد العبادة له وحده لا شريك له.
فكلمة (لا إله إلا الله) هي كلمة التوحيد، وهي -كما ذكرنا- مفتاح الإسلام، وهي كذلك ختام الدنيا ونهايتها، والنبي صلى الله عليه وسلم -كما أسلفت- كان يقول لأهل مكة: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) وقال عليه الصلاة والسلام: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، فإنه من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)، والتلقين يكون قبل الموت لا بعده كما يفعله بعض المبتدعة حينما يلقنون الميت بعد الدفن، ويقولون: يا فلان ابن فلانة اذكر كذا وقد وردت فيه أحاديث ضعيفة غير ثابتة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكن الثابت هو التلقين ما دام الإنسان في الحياة الدنيا؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، فإنه من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)، والإنسان إنما ينتهي من الدنيا بالموت، فإذا قالها قبل أن يموت فقد ختم له بكلمة التوحيد.
وقوله: (موتاكم) أي: الذين قاربوا الموت، وليس المقصود به الذي مات بالفعل، حتى تكون كلمة التوحيد آخر ما ينطقون به، وهي أيضاً مفتاح الجنة، قيل لـ وهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح.
يعني: أن مجرد كلمة التوحيد بدون ما تقتضيه وبدون ما تتطلبه فهي مثل المفتاح الذي ليس له أسنان، والمفتاح إنما يفتح إذا كان له أسنان.(223/20)
شرح سنن أبي داود [224]
حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فكانت حجته تطبيقاً عملياً لجميع أعمال الحج، بأركانه وواجباته وسننه، وقد رواها جابر رضي الله عنه مفصلة في حديثه الطويل، فكان منسكاً متكاملاً لمن أراد أن يحج كما حج النبي صلى الله عليه وسلم.(224/1)
تابع صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم(224/2)
صفة سعيه صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال جابر رضي الله عنه: (ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي، حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة فصنع على المروة مثلما صنع على الصفا)].
قد وصلنا إلى السعي بين الصفا والمروة، وأنه بعدما وقف على الصفا وذكر الله ووحده وقال: (لا إله إلا اله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) وأنه كان يدعو بين ذلك، ويأتي بذلك ثلاثاً، وقد عرفنا أن هذا الدعاء مشتمل على التوحيد، وعلى إخلاص العبادة لله عز وجل، وذلك في قوله: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)، فإن قوله: (لا إله إلا الله)، هذه كلمة الإخلاص وكلمة التوحيد.
وقوله: (وحده لا شريك له) تأكيد لكلمة التوحيد؛ فهي كلمة مؤكدة للنفي الذي هو (لا إله).
ثم بعد ذلك الثناء على الله عز وجل بما هو أهله من أن له الحمد وله الملك، فهو مالك الملك، وهو المحمود على كل حال، وهو الذي يعبد وحده لا شريك له، وهو على كل شيء قدير.
قوله: (لا إله إلا الله وحده) وهذا أيضاً تكرار لكلمة التوحيد، وتأكيد لقوله: (إلا الله).
قوله: [(أنجز وعده)] أي: وعده لنبيه صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(ونصر عبده)] وهو النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(وهزم الأحزاب وحده)] إما أن يكون المراد بهم الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله عليه الصلاة والسلام يوم الأحزاب، وأرسل الله عليهم ريحاً وجنوداً لم يرها الناس، وهزمهم الله، وإما أن يكون المراد ما يحصل للمؤمنين من نصر على أعداء الله عز وجل، فهو الذي ينصر عباده، وهو الذي ينصر أولياءه، وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير.
ثم ذكر أنه دعا بين ذلك وكرر ذلك ثلاثاً، وأنه نزل من الصفا متجهاً إلى المروة، وصار يمشي صلى الله عليه وسلم مشياً حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي أسرع وسعى، حتى إذا ارتفع من بطن الوادي إلى جهة المروة صار يمشي حتى وصل إلى المروة، فتبين بهذا أن السنة في السعي أن يمشي ما بين الصفا والمروة إلا في المكان الذي هو بطن الوادي، والذي جعل له في هذا الزمان علامة، وهي طلاء أخضر وإضاءة خضراء تكون على الجوانب، فإذا كان بين هذه العلامة فإنه يسعى، وإذا تجاوزها فإنه يمشي، هكذا كان يفعل في سعيه صلى الله عليه وسلم، حتى إذا وصل إلى المروة فعل عليها مثل ما فعل على الصفا، حيث وقف يدعو ويذكر الله عز وجل ويهلله، وهو مستقبل القبلة، وفيه أيضاً أنه كان يرفع يديه عليه الصلاة والسلام وهو يدعو ويذكر الله ويهلله.(224/3)
أمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي أن يتحلل ويجعلها عمرة
قوله: [(حتى إذا كان آخر الطواف على المروة قال: إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فلْيَحْلُل وليجعلها عمرة، فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن كان معه هدي)].
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما انتهى من الطواف بين الصفا والمروة قال لأصحابه: [(لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة)] فدل هذا على أن التمتع أفضل من القران والإفراد، وأنه في حالة سوق الهدي يبقى القارن والمفرد على إحرامه حتى يوم النحر، وإذا لم يكن معه هدي فإنه يتحول من كونه قارناً أو مفرداً إلى كونه متمتعاً، أي: محرماً بعمرة ويقصر ويتحلل، ثم في اليوم الثامن يحرم بالحج من مكة، ويذهب إلى منى ويكمل أعمال الحج.
وهنا ذكر التقصير وأنهم قصروا، ومعلوم أن الحلق أفضل من التقصير، ولكن لكون الزمن متأخراً؛ لأنهم وصلوا في رابع ذي الحجة ولم يبق إلى الحج إلا أيام قليلة، فقصروا حتى يبقى شعر يحلق يوم العيد بعد رمي جمرة العقبة، وهذا يدل على أن الإنسان إذا أتى بعمرة وهو قريب من الحج وليس هناك وقت ينبت الشعر معه، فإن الأولى في حقه أن يقصر كما فعل الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فإنهم قصروا عند المروة، وأما إذا كان الإنسان جاء في وقت مبكر ويمكن أن ينبت الشعر كأن يكون جاء في أول ذي القعدة، أو جاء في أثناء ذي القعدة أو قبل ذلك في أشهر الحج، فإن الأولى في حقه أن يحلق؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام دعا للمحلقين ثلاث مرات وللمقصرين مرة واحدة، فدل على أن الحلق أفضل من التقصير، ولكن التقصير هنا من الذين فسخوا إحرامهم من الحج والعمرة إلى العمرة فصاروا متمتعين؛ لأن الحج قريب، وقصروا ليكون هناك شعر يبقى ليحلق يوم العيد.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم قسم الناس قسمين: من كان معه هدي سواء كان قارناً أو مفرداً فيبقى على إحرامه إلى يوم النحر حيث يبلغ الهدي محله، ومن لم يكن معه هدي من القارنين والمفردين، فإنه ينتقل من كونه قارناً أو مفرداً إلى كونه معتمراً فيكون بذلك متمتعاً، وهذا -كما سبق أن أسلفت- يدل على أن التمتع أفضل من القران والإفراد، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد القارنين والمفردين الذين لم يسوقوا هدياً أن يكونوا متمتعين وأن يتحولوا إلى عمرة، ولو كان القران والإفراد أفضل لما أرشدهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يتحولوا إلى العمرة وهي دون ذلك، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرشد إلا إلى ما هو الأكمل والأفضل؛ لأنه عليه الصلاة والسلام هو أنصح الناس للناس.(224/4)
دخول العمرة في الحج للأبد
قوله: [(فقام سراقة بن جعشم رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصابعه في الأخرى ثم قال: دخلت العمرة في الحج -هكذا مرتين- لا بل لأبد أبد، لا بل لأبد أبد)].
لما أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يتحللوا وتحللوا سأله سراقة بن مالك بن جعشم: أرأيت عمرتنا هذه ألعامنا هذا أم للأبد؟ يعني: هل هي خاصة بنا هذه السنة فقط أو أنها مستمرة ودائمة وباقية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [(لا بل لأبد الأبد)] يعني: أنها مستمرة، وليست خاصة بكم.
قوله: [(وشبك بين أصابعه، وقال: دخلت العمرة في الحج)] وهذا بالنسبة للعمرة التي هي عمرة التمتع، والتي هي منفصلة عن الحج، يعني: دخلت العمرة في وقت أشهر الحج؛ لأن العمرة التي هي عمرة التمتع تكون في أشهر الحج.
إذاً: العمرة التي تكون مستقلة عن الحج ليست مقرونةً معه، وهي التي سئل عنها وقال عليه الصلاة والسلام: (لأبد الأبد)، فدل ذلك على أن هذه ليست خاصة بأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه لما كان أهل الجاهلية يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام قبل ذلك كان قد اعتمر في السنة السادسة، وفي السنة السابعة، وفي السنة الثامنة، وكلها كانت في ذي القعدة وهي من أشهر الحج، فقد عرفوا الحكم في ذلك، وأيضاً هذه الحجة كان معهم من هو محرم بالعمرة فقط، والنبي صلى الله عليه وسلم خيرهم بين الإفراد والقران والتمتع، وكان أمهات المؤمنين متمتعات وكن محرمات بالعمرة والعمرة موجودة، ولكن إما أن العمرة المنفردة دخلت في الحج في وقته، وهي التي سئل عنها، أو أن العمرة التي مع الحج دخلت في أعمال الحج، لكن إذا كان الإنسان أحرم بحج وعمرة وساق الهدي، فإن العمرة موجودة مع الحج وهي داخلة في أعماله وليست منفصلةً عنه، ولكن الحديث والسؤال إنما جاء فيما يتعلق بالعمرة المنفصلة التي هي عمرة التمتع.
إذاً: التمتع حكم مستمر وليس خاصاً بأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهم وأرضاهم.(224/5)
تمتع فاطمة رضي الله عنها وإحرام علي رضي الله عنه بما أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: [(وقدم علي رضي الله عنه من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وآله سلم فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر علي ذلك عليها، وقال: من أمرك بهذا؟ قالت: أبي، فكان علي يقول بالعراق: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محرشاً على فاطمة في الأمر الذي صنعت مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الذي ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا، فقال: صدقت صدقت)].
قدم علي رضي الله عنه من اليمن ومعه بدن للنبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قدم ببدن من المدينة، ومجموع ذلك هو مائة كما سيأتي في حديث جابر هذا، ولما جاء كان قد أحرم بإحرام النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي كان قارناً وقد ساق الهدي، وعلي أحرم بإحرام النبي صلى الله عليه وسلم ومعه هدي، إذاً يكون إحرامه كإحرام النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنه لما جاء وجد فاطمة رضي الله عنها قد لبست ثياباً صبيغة واكتحلت فأنكر ذلك عليها، وقال: إن هذا ليس شأن الحجاج وشأن المتلبسين بالإحرام، ولم يعرف الحكم الذي قد حصل، فقال: من أمرك بهذا؟ قالت: أبي، فقام علي وذهب محرشاً بـ فاطمة رضي الله عنها ذاكراً ذلك الذي أنكره عليها للنبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقت، صدقت) وفاطمة رضي الله عنها كانت متمتعة؛ لأنها تحللت من العمرة ولبست وفعلت ما يفعل المحلون، وعلي رضي الله عنه استغرب هذا منها؛ لأنه لم يعرف هذا الحكم، ولكنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله أخبره بذلك، ثم إنه سأله عن إحرامه وقال: إنه أحرم بما أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم وقد ساق الهدي هو، فأمره أن يبقى على إحرامه.
قوله: [(ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وآله سلم، قال: فإن معي الهدي فلا تحلل، قال: وكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة مائة، فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وآله سلم ومن كان معه هدي)].
سأل النبي صلى الله عليه وسلم علياً: ماذا فعلت في إحرامك؟ قال: إني أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني قد سقت الهدي، وهو أيضاً ساق الهدي، فأمره أن يبقى على إحرامه، وكان جملة الهدي الذي جاء من المدينة ومن اليمن مائة من الإبل، وليس هذا فرضاً، وإنما الفرض ما استيسر من الهدي، كما قال الله عز وجل: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، وهذا العدد الكبير من الإبل إنما هو تطوع وتقرب إلى الله عز وجل بنحر تلك البدن، والقارن عليه هدي وهو ما استيسر من الهدي وهو شاة، والمتمتع عليه شاة، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما نحر هذا المقدار تطوعاً صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وقد سبق حديث الرجل الذي جاء إلى عمر وقال: (إني كنت نصرانياً وإني أحب الجهاد، ووجدت أن العمرة والحج مكتوبان علي، فسألت رجلاً من عشيرتي، فقال: اجمعهما واذبح ما تيسر من الهدي).
إذاً: القارن عليه ما تيسر، والله تعالى يقول: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] وهي تشمل القارن والمتمتع؛ لأن القران تمتع بالمعنى العام الذي هو كون القارن أتى بنسكين في سفرة واحدة، فيشمل المتمتع ويشمل القارن، أي: كل منهما عليه هدي وهو ما استيسر من الهدي.
فالنبي عليه الصلاة والسلام نحر مائة من الإبل، وقد نحر بيده الشريفة ثلاثاً وستين، ونحر علي الباقي.
وعلي رضي الله عنه أراد أن يقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهو لا يعرف إهلال الرسول، فأراد أن يهل بإهلاله، وقال: (اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم) وعلي نفسه ساق الهدي، فآل أمره وانتهى إلى أن إهلاله يكون مثل إهلال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد ساق الهدي، لكن لو لم يسق الهدي وقد أهل بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم -وهو القران- فإنه يفسخ إلى عمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كل من لم يسق الهدي من القارنين والمفردين أن يتحولوا إلى عمرة.
كذلك من جاء إلى الحج، ولكنه لم يعين النسك، فإنه يتحول إلى ما هو الأفضل الذي هو التمتع، فعليه أن يطوف ويسعى ويتحلل؛ لأنه مثل من لم يسق الهدي.(224/6)
إهلال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحج يوم التروية
قوله: [(فلما كان يوم التروية ووجهوا إلى منى أهلوا بالحج)].
يوم التروية هو اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، وفيه توجه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى منى، فالذين كانوا قارنين ومفردين وتحولوا إلى عمرة، فهؤلاء في يوم التروية دخلوا في الحج، وأما الذين كانوا قارنين فبقوا على إحرامهم وهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان معه الهدي، وكل من ساق الهدي باق على إحرامه.
والإهلال يكون في المكان الذي ينزل فيه الإنسان، والصحابة كانوا نازلين مع النبي صلى الله عليه وسلم في الأبطح، فأحرموا من الأبطح، وأهل مكة الذين يريدون الحج يحرمون من منازلهم، ولو كان الإنسان نازلاً في منى قبل اليوم الثامن فإنه يحرم من منزله في منى، ولا يلزمه أن يأتي إلى مكة ويحرم منها ثم يذهب إلى منى، بل يجوز له أن يحرم من منى من منزله.
أما كون الإنسان يريد أن يدخل في الإحرام فيذهب ويطوف فليس له ذلك، وليس هناك طوافاً عند الإحرام، وإنما على الإنسان أن ينوي الإحرام من منزله ثم يذهب إلى منى، لا يذهب إلى البيت ولا يطوف به ولا يحرم من هناك وإنما يحرم من منزله كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح)].
يعني: ذهب النبي صلى الله عليه وسلم ضحى إلى منى من الأبطح ونزل في منى، وصلى فيها خمسة أوقات: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، وهذه سنة فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست واجبة، من تركها ليس عليه شيء، ولكن الأولى والأفضل للإنسان أن يأتي بهذا الذي جاء عن الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، بأن يصلي الصلوات الخمس في منى، يقصر الرباعية بدون جمع، كما فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام، كل صلاة يصليها في وقتها بدون أن يجمع بين الصلاتين.
أما أهل مكة فحكمهم حكم الحجاج في قصر الصلوات الرباعية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لأهل مكة: أتموا فإنا قوم سفر، وقد قال ذلك لهم وهو عند الكعبة حينما صلى بهم قال: (أتموا فإنا قوم سفر) أما في منى فلم يقل لهم ذلك، بل صلى معه الحجاج كلهم من أهل مكة ومن غير أهل مكة، لكن لا يقال: إن هذا سفر، وإنما هذا من أجل النسك بالنسبة لأهل مكة، وأما بالنسبة للحجاج فهم مسافرون.
ولهذا لو أن إنساناً من أهل مكة ذهب إلى منى أو ذهب إلى عرفات في غير الحج فليس له أن يقصر؛ لأن هذا ليس بسفر، ولكن بالنسبة للحجاج لهم أن يقصروا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس ومعهم أهل مكة، ولم يقل: إنا قوم سفر، كما قال ذلك وهو عند الكعبة صلى الله عليه وسلم.(224/7)
ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عرفة ووقوفه بها
قوله: [(ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة له من شعر فضربت بنمرة)].
مكث صلى الله عليه وسلم قليلاً بعد صلاة الفجر حتى طلعت الشمس، فدل هذا على أن السنة أن الناس ينطلقون من منى إلى عرفة بعد طلوع الشمس.
قوله: [(وأمر بقبة له من شعر فضربت بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وآله سلم، ولا تشك قريش أن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم واقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة كما كانت قريش تصنع في الجاهلية)].
يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بخيمة من شعر فنصبت في نمرة، ونمرة قريبة من عرفة، وليست في عرفة، وكانت قريش لا تشك أنه لا يتجاوز مزدلفة وأنه يقف بها، وهو الموقف الذي كانت تقف به قريش في الجاهلية، وذلك أنهم أرادوا أن يتميزوا عن الناس، فالناس كانوا يقفون بعرفة وهم يقفون بمزدلفة، ويقولون: نحن أهل الحرم فلا نخرج من الحرم.
والوقوف بعرفة جاء عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، فإنه تجاوز المزدلفة وذهب إلى عرفة؛ ولهذا جاء في القرآن: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199] يعني: عموم الناس، وليس الذي أحدثته قريش وأتت به، بل الشريعة جاءت بالوقوف بعرفة وأن هذا الذي كان موجوداً في الجاهلية ومعمولاً به في الجاهلية من الوقوف بعرفة هو الحق، وأن ما أحدثته قريش من الاقتصار على الوقوف بمزدلفة دون الذهاب إلى عرفة أمر محدث، والنبي صلى الله عليه وسلم تجاوز وذهب إلى عرفة صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [(فأجاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له)].
نزل النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القبة التي ضربت له بنمرة وهي قريبة من عرفة، ثم عندما جاء وقت الزوال أمر براحلته فرحلت.
قوله: [(فركب حتى أتى بطن الوادي)].
يعني: فأتى بطن الوادي الذي هو وادي عرنة.(224/8)
خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة
قوله: [(فخطب الناس فقال: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)].
صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس في ذلك الوادي جمعاً وقصراً، صلى الظهر والعصر جمعاً في أول وقت الظهر، صلى الظهر ركعتين، وصلى العصر ركعتين، وخطب الناس قبل الصلاة خطبة بين فيها كثيراً من الأمور العامة فقال: [(إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)] وهذا فيه بيان حرمة هذه الأمور التي ذكرت كحرمة اليوم والشهر والبلد، وأن تلك محرمة كحرمة هذه، وهذا يدل على أن شأنها عظيم وأن أمرها خطير، وأنه يجب الابتعاد عن سفك الدماء، وأخذ الأموال، وانتهاك الأعراض، وأنها محرمة كحرمة هذا الزمان والمكان؛ لأن مكة بلد حرام والشهر شهر حرام.
قوله: [(ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع)].
يعني: أنه لا يتشبث بالأمور التي كانت في الجاهلية؛ مثل: الربا والزنا وسفك الدماء بغير حق، وغير ذلك من الأمور التي كانوا يتعلقون بها، فالنبي صلى الله عليه وسلم ألغاها وأبطلها.
قوله: [(ودماء الجاهلية موضوعة)] يعني: التقاتل والمطالبة بالدماء التي كانت بينهم في الجاهلية موضوعة، وقد انتهت بما فيها من شر بعد أن جاء هذا الخير، فلا يتشبث أحد بشيء مما كان في الجاهلية.
قوله: [(وأول دم أضعه دماؤنا)] كونه يبدأ بنفسه وبقرابته أدعى لأن تميل النفوس إلى هذا الشيء الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يجعل الذين خوطبوا بهذا الخطاب يستسلمون لهذا الحكم العام؛ لأن أول من توضع دماؤهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(دم ابن ربيعة، أو دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب)].
قيل: إن ابن الحارث هو إياس، كان مسترضعاً في هذيل فقتلته، فكان الدم عند هذيل، فوضعه النبي صلى الله عليه وسلم لأن كل ما كان في الجاهلية انتهى بعد أن جاء الإسلام، ثم تأتي الأحكام تبعاً لما يقع في الإسلام.
قوله: [(وربا الجاهلية موضوع)].
يعني: وكذلك ربا الجاهلية موضوع، فلا يأت أحد يطالب أحداً بشيء من الربا.
قوله: (وأول ربا أضعه ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله)].
وهذا مثل الذي قبله، فقد بدأ بالتخلص من الشيء الذي يتعلق بأهله وقرابته صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(فاتقوا الله في النساء)].
أوصى عليه الصلاة والسلام بالنساء خيراً لضعفهن.
قوله: [(فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)] أي: لأنكم تزوجتم بهن بشرع الله، وهن أمانات عندكم، فعليكم أن تقوموا برعاية هذه الأمانة، وعدم الإضرار بهن، وعدم الإساءة إليهن، وإنما تحسنون إليهن، وتعاشرونهن بالمعروف، وتعاملونهن بالمعروف.
قوله: [(وإن لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح)].
ليس المقصود من وطء الفرش ما يتعلق بالزنا، فإن هذا أمر خطير، ولا يكتفى فيه بالضرب غير المبرح الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذلك يتعلق بما كان معروفاً في الجاهلية من أن المرأة كانت تكلم الرجل وتتحدث معه مع البعد عن الريبة، ولكن الإسلام جاء بمنع ذلك، وأمر بالحجاب، وحرم خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يخلو رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) فإذا حصل شيء من هذا الذي لا يليق ولا ينبغي، فإنكم تؤدبونهن التأديب الذي هو الضرب غير المبرح، أما ما يتعلق بالزنا فإن له حكماً يخصه إما الرجم وإما الجلد، ولا يجوز للزوج أن يتمسك بالمرأة العاهرة الزانية.
قوله: [(ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)].
يعني من حقهن عليكم أن ترزقوهن وتكسوهن بالمعروف.
قوله: [(وإني قد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله)].
هنا لم يذكر سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنها داخلة في كتاب الله؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] فهي داخلة في القرآن، والأمر بالاعتصام بالقرآن هو أمر بالاعتصام بالسنة؛ لأن الأخذ بالسنة أخذ بالقرآن، ولهذا كما في الحديث المشهور عن ابن مسعود رضي الله عنه في قصة المرأة التي اعترضت على قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله النامصة والمتنمصة)، فقال: ما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله، فقالت المرأة: يا أبا عبد الرحمن! إنك قلت كذا وكذا وإني نظرت في المصحف من أوله إلى آخره فما وجدت فيه: لعن الله النامصة والمتنمصة، فقال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
إذاً: السنة كلها داخلة في هذه الآية وداخلة في هذه الجملة، وكذلك في قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، وفي قوله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59] والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إلى سنته صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(وأنتم مسئولون عني فما أنتم قائلون؟)].
المرسلون سوف يسألون والمرسل إليهم سوف يسألون، قال عز وجل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6] فالمرسلون يسألون عن التبليغ، والمرسل إليهم يسألون عن كونهم بلغوا.
قوله: [(قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت، ثم قال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس)] يعني: قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فعند ذلك رفع أصبعه الشريفة إلى السماء ونكتها عليهم وقال: [(اللهم اشهد)] رفع أصبعه إلى السماء يشير إلى الله عز وجل ويستشهد الله عليهم، وينكتها عليهم قائلاً: [(اللهم اشهد)] أي: اشهد عليهم.
ورفعه صلى الله عليه وسلم أصبعه إلى السماء يدل على علو الله، وأنه تعالى فوق العرش، وهذا من أدلة علو الله سبحانه وتعالى وفوقيته، وأنه فوق المخلوقات وأنه فوق العرش وهو مستو عليه.
قوله: [(ثم أذن بلال رضي الله عنه، ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً)].
هذا يدل على أن الخطبة تكون واحدة في يوم عرفة، وتكون قبل الصلاة، وأن للإمام أو نائب الإمام أن يقوم بالخطبة ثم يصلي بالناس، فـ بلال بعدما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الخطبة أذن للصلاة ثم أقام للظهر وصلاها ركعتين، ثم أقام للعصر وصلاها ركعتين، وكان ذلك في يوم الجمعة الذي هو يوم عرفة، فهو صلى الله عليه وسلم صلى الظهر ولم يصل جمعة، ولهذا أسر في القراءة صلوات الله وسلامه وبركاته عليه في الصلاتين.(224/9)
ركوب النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة وذهابه إلى الموقف في عرفة
قوله: [(ثم ركب القصواء حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه فاستقبل القبلة)].
أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى المكان الذي وقف فيه وجعل بطن ناقته إلى الصخرات.
وحبل المشاة هو الطريق الذي يمشي منه المشاة، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعله أمامه بين يديه واستقبل القبلة وجعل يدعو الله عز وجل، وهذا هو الوقوف، ويكون بعد الزوال وبعد تأدية صلاة الظهر والعصر جمع تقديم، ولهذا يشرع الجمع جمع تقديم في أول وقت الظهر، لأنه بعد بذلك يبدأ الوقوف ويستمر إلى الغروب، وليس هناك صلاة تفصل، وإنما هي الظهر والعصر قد فرغ منهما في أول الوقت، فيمتد وقت الوقوف من وقت الفراغ من الصلاتين إلى أن تغرب الشمس، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في ذلك المكان وقال: (عرفة كلها موقف وارفعوا عن بطن عرنة) فليس معنى ذلك أن هذا الموقف الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم هو مكان الوقوف، بل عرفة كلها موقف.
قوله: [(فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حين غاب القرص)].
هذا يدل على أن الإنسان يقف بعرفة حتى تغيب الشمس ويذهب القرص ويتحقق الغروب، وبعد ذلك يأتي وقت الانصراف والإفاضة من عرفات إلى مزدلفة، فيستمر الإنسان إلى الغروب، ولا يصلي المغرب والعشاء في عرفة وإنما يصليهما في مزدلفة إذا وصل إليها.
إذاً: عندما تغرب الشمس ويتحقق الغروب يحصل الانطلاق والإفاضة من عرفة إلى مزدلفة، ولكن هناك أمر مهم للحجاج وهو أن الإنسان عليه أن يتحقق أنه في داخل حدود عرفة، ولا يكفي أن يرى الجبل الذي يسمى جبل الرحمة من مكان بعيد ويقول: هذه عرفة، فإنه يرى من أماكن بعيدة جداً خارج عرفة، ولكن المهم في الأمر هو الوقوف بعرفة وبأرض عرفة، وأرض عرفة قد جعل لها بنايات وعلامات وكتب عليها كتابات من مختلف اللغات، فإذا كان الإنسان يريد أن يخرج من عرفة يجد مكتوباً منتهى عرفة، وإذا كان مقبلاً على عرفة تجد مكتوباً عليها من الجهة الأخرى مبتدأ عرفة، فالإنسان عليه أن يتحقق من أنه في داخل هذه الحدود ولا يتهاون في الأمر؛ لأنه لو وقف خارج عرفة فلا يعتبر وقف بعرفة، والوقوف بعرفة ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به، ولو حصل منه أن خرج من الحدود لأمر من الأمور قبل الغروب فعليه أن يرجع حتى تغرب عليه الشمس وهو بعرفة، وبعد أن تغرب الشمس ويتحقق الغروب ينطلق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما غابت الشمس وذهبت الصفرة انطلق صلى الله عليه وسلم وأفاض ومعه أصحابه متجهين إلى مزدلفة.
والوقوف -كما هو معلوم- هو المكث بعرفة سواء كان الإنسان واقفاً أو راكباً أو جالساً، وليس معنى الوقوف بعرفة أن يكون الإنسان واقفاً على رجليه، بل يكون راكباً ويكون وافقاً ويكون جالساً كل ذلك يطلق عليه وقوف.(224/10)
دفع النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى مزدلفة
قوله: [(وأردف أسامة رضي الله عنه خلفه، فدفع رسول صلى الله عليه وآله وسلم)].
أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف أسامة بن زيد رضي الله عنهما خلفه على دابته وعلى راحلته، وذلك في طريقه من عرفة إلى مزدلفة، وهذا يدل على جواز الإرداف على الدابة بشرط أن تكون مطيقة، وأما إذا كانت الدابة لا تطيق فإنه لا يردف عليها، بل ولا يركب الراكب عليها إذا كانت لا تطيق الركوب، كما لو كانت هزيلة ضعيفة مريضة.
قوله: [(وقد شنق للقصواء الزمام)].
يعني: أنه ردها حتى لا يحصل منها إسراع؛ لأنه إذا مسك الخطام وجر رأسها إلى أن يكون عند مورك رحله عند رجليه التي هي متدلية من جهة الأمام، فهذا يمنعها من الحركة والسرعة والإقدام في المشي؛ حتى لا يحصل منها أذى للناس، وأمر الناس أن يمشوا؛ حتى لا يضر بعضهم بعضاً.
قوله: [(وهو يقول بيده اليمنى: السكينة أيها الناس! السكينة أيها الناس!)].
يعني: وهو يشير إليهم السكينة السكينة، فقد قام بشنق زمام راحلته حتى يمنعها من الإسراع في المشي، وهو يشير للناس السكينة السكينة، أي: عليكم بالهدوء، عليكم بالسكينة؛ حتى لا يحصل ضرر، وهذا من رفقه بأمته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهو رءوف رحيم بالمؤمنين كما وصفه الله عز وجل بذلك في كتابه العزيز.
قوله: [(كلما أتى حبلاً من الحبال)].
الحبل: هو التل من الرمل.
قوله: [(أرخى لها قليلاً حتى تصعد)] يعني: أرخى زمام ناقته؛ لأن السرعة لا تحصل مع الصعود، والصعود فيه تعب، لكن إذا كان هناك انحدار ونزول، أو كانت الأرض مستوية وترك الزمام لها فقد تسرع، فهو صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن في صعود سحب رأسها بالخطام حتى يكون قريباً من الرحل، وإذا كان في صعود أرخى لها حتى تتمكن من الصعود.(224/11)
وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى مزدلفة ومبيته بها وما يفعل بمزدلفة
قوله: [(حتى أتى المزدلفة فجمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين)].
استمر صلى الله عليه وسلم سائراً حتى وصل إلى مزدلفة، وجمع فيها بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين.
وأول عمل يعمله الحجاج إذا وصلوا إلى مزدلفة هو الصلاة، لكن بعض الحجاج يتصورون أن المهم في مزدلفة هو لقط الحصى لرمي الجمار، فتراهم حين يصلون إلى مزدلفة من أول الليل ينتشرون في الأرض لأجل لقط الحصى، وليس هذا من السنة، بل السنة أن يصلي المغرب والعشاء جمعاً، وسواء كان ذلك في وقت العشاء فيكون جمع تأخير، أو كان جمع تقديم في وقت المغرب كما يحصل الآن بالنسبة لسرعة السيارات، لكن إذا اشتد الزحام وتأخر في الطريق حتى انتصف الليل أو قارب الانتصاف، فلا يؤخر الإنسان الصلاة إلى أن يصل إلى مزدلفة؛ لأن الصلاة لا تؤخر عن وقتها بل يصليها في الطريق، وعلى هذا فالرسول صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء لما وصل إلى مزدلفة، ومعلوم أن ذلك كان في وقت العشاء، ولكنه إذا حصل الوصول قبل العشاء فإن الحجاج يصلون حين يصلون، وأول عمل يعملونه هو الصلاة، فلا يشتغلون بلقط الحصى، والحصى لا يلزم أن يلقط من مزدلفة، ولا يلزم أن يكون من مكان معين، بل للإنسان أن يلقط من مزدلفة وله أن يلقط من منى، ويوم العيد لا يلقط إلا سبع حصيات فقط، فليس بلازم أن يجمع سبعين حصاة ويجعلها في كيس، وإنما يجمع سبع حصيات فقط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم وفي أثناء انصرافه من مزدلفة إلى منى أمر الفضل بن عباس أن ينزل وأن يلقط له سبع حصيات، فلقطهن ورمى بهن جمرة العقبة صلى الله عليه وسلم.
قوله: [قال عثمان].
عثمان هو أحد الشيوخ الأربعة الذين روى عنهم أبو داود هذا الحديث الطويل وهو عثمان بن أبي شيبة.
قوله: [(ولم يسبح بينهما شيئاً)] يعني: لم يتنفل بين المغرب والعشاء؛ لأنه جمع بينهما فلا يسبح بينهما، فالمراد بالتسبيح هو التنفل.
قوله: [(ثم اتفقوا: ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى طلع الفجر)].
أي: اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة المغرب والعشاء حتى طلع الفجر، وهذا يدل على أن السنة في مزدلفة المبيت حتى يطلع الفجر.
وهنا مسألة: هل أوتر صلى الله عليه وسلم أو لم يوتر؟ ليس في الحديث شيء يدل على هذا، لكن الأحاديث الأخرى الدالة على أن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يترك الوتر لا في حضر ولا في سفر، وكذلك ركعتي الفجر لم يتركها لا في حضر ولا في سفر، فهذا يدل على أن الإنسان عليه أن يوتر في تلك الليلة، ولا يترك الوتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم المعروف عنه أنه كان يحافظ على الوتر وعلى ركعتي الفجر في الحضر والسفر، وهذا سفر، لكن لا يتهجد في تلك الليلة ولا يخصها بتهجد وعبادة، وإنما يكتفي بالوتر؛ لأن الوتر وركعتي الفجر هما آكد السنن.
قوله: [(فصلى الفجر حين تبين له الصبح)].
صلى النبي صلى الله عليه وسلم الفجر في أول وقتها، وهذا بعد صلاته ركعتي الفجر.
قوله: [قال سليمان].
سليمان هو سليمان بن عبد الرحمن أحد الشيوخ الأربعة الذين روى عنهم أبو داود هذا الحديث الطويل.
قوله: [(بنداء وإقامة)]؛ وذلك لأنها صلاة واحدة، بخلاف الصلاتين فإنه يشرع لهما أذان واحد وإقامتان عند الجمع.(224/12)
ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشعر الحرام
قوله: [(ثم اتفقوا: ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فرقي عليه)].
المشعر الحرام: هو جبل في مزدلفة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما وقف هناك قال: (وقفت هاهنا وجمع كلها موقف) كما قال في عرفة: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) يعني: أن هذا الموقف الذي أنا فيه لا يلزم الناس أن يقفوا فيه، بل أي مكان يوقف فيه من مزدلفة فإنه يحصل المقصود.
قوله: [قال عثمان وسليمان: (فاستقبل القبلة فحمد الله وكبره وهلله -زاد عثمان -: ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً)].
يعني أنه صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الصبح جاء إلى المشعر الحرام الذي يطلق على ذلك المكان الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً يطلق على مزدلفة كلها، فيقال لها: المشعر الحرام، وهي مشعر حرام؛ لأنها من المشاعر وهي داخل الحرم؛ لأن حدود الحرم وراءها بينها وبين عرفة، وأما عرفة فهي مشعر ولكنها ليست حراماً؛ لأنها في الحل وليست في الحرم.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة فحمد الله وهلله ووحده ودعا واستمر حتى أسفر جداً، يعني: حتى اتضح النهار وحصل الإسفار ولكن الشمس لم تطلع، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك يريد أن يخالف أهل الجاهلية؛ لأن أهل الجاهلية كانوا لا ينتقلون إلا بعد أن تطلع الشمس، فالنبي صلى الله عليه وسلم حصل منه المغادرة والانصراف قبل طلوع الشمس حين أسفر جداً.(224/13)
دفع النبي صلى الله عليه وسلم من مزدلفة إلى منى
قوله: [(ثم دفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس رضي الله عنهما، وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً، فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر الظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده على وجه الفضل، وصرف الفضل وجهه إلى الشق الآخر، وحول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده إلى الشق الآخر، وصرف الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر)].
يعني: أنه صلى الله عليه وسلم عند انصرافه من مزدلفة إلى منى أردف الفضل بن عباس، كما كان رديفه أسامة بن زيد من عرفة إلى مزدلفة، والفضل بن عباس هو أكبر أولاد العباس رضي الله تعالى عنهم، وفي أثناء الطريق مرت الظعن -وهن النساء- فجعل ينظر إليهن والنبي صلى الله عليه وسلم يضع يده على وجهه، فالتفت إلى الشق الآخر ينظر؛ لأن الظعن من هنا ومن هنا، ثم إنه صلى الله عليه وسلم وضع يده على وجهه، فانصرف إلى الشق الآخر.
قوله: [(حتى أتى محسراً)].
محسر: هو الوادي الذي يفصل بين مزدلفة وبين منى.
قوله: [(حرك قليلاً)] يعني: أسرع.
ووادي محسر قيل: إنه الوادي الذي حسر فيه الفيل الذي جاء لهدم الكعبة، وأنه حصل ما ذكره الله عز وجل في سورة الفيل في ذلك المكان الذي هو وادي محسر.
فكونه أسرع قليلاً؛ لأن الإسراع مطلوب عند أماكن العذاب، والنبي صلى الله عليه وسلم لما ذهب إلى تبوك ومر بديار قوم صالح أسرع قليلاً وقنع رأسه حتى تجاوز صلى الله عليه وسلم تلك الديار.
قوله: [(ثم سلك الطريق الوسطى الذي يخرجك إلى الجمرة الكبرى)].
يعني: أن هناك طرقاً متعددة، ولكنه بعدما دخل منى سلك الطريق الوسطى التي توصل إلى جمرة العقبة؛ لأن يوم العيد لا يرمى فيه إلا جمرة العقبة.(224/14)
رمي النبي صلى الله عليه وسلم جمرة العقبة
قوله: [(حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات)].
وهي جمرة العقبة، وقيل لها: جمرة العقبة لأنها كانت موجودة في سفح جبل، وكان ذلك الجبل موجوداً إلى عام (1370هـ) والناس كانوا يأتون ويرمون هذه الجمرة من جهة واحدة التي هي من بطن الودي.
قوله: [(يكبر مع كل حصاة منها بمثل حصى الخذف)].
يعني: الحصى الذي يخذف بالأصابع، وهو فوق الحمص ودون البندق فهو حصى متوسط.
وقد جاء في بعض الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم لما كان في أثناء الطريق من مزدلفة إلى الجمرة -لا يدري هل هو في مزدلفة أو في منى- أمر الفضل بن عباس أن ينزل فيلقط له حصى، فلقط سبع حصيات مثل حصى الخذف، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبهن بيده والناس يرون، فقال عليه الصلاة والسلام: (بمثل هذا فارموا، وإياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) يعني: لا ترموا بحصى كبيرة؛ لأن المعتبر هو السنة، وليس المعتبر كون الإنسان يكبر الحصى ويغلو ويزيد ويتجاوز، بل يقف عند السنة، والسنة في حصى الجمار أنها مثل حصى الخذف.
قوله: [(فرمى من بطن الوادي)].
يعني: بحيث تكون مكة عن يساره ومنى عن يمينه إذا رماها من بطن الوادي.(224/15)
نحر النبي صلى الله عليه وسلم للهدي
قوله: [(ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المنحر فنحر بيده ثلاثاً وستين، وأمر علياً فنحر ما غبر، يقول: ما بقي، وأشركه في هديه)].
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى المنحر بعدما رمى جمرة العقبة ونحر بيده ثلاثاً وستين بدنه من المائة، وأمر علياً أن ينحر ما بقي منها.
قوله: [(وأشركه في هديه)].
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرك معه علياً في الهدي الذي هو مائة من الإبل؛ لأنه الهدي مائة وبعضها من المدينة وبعضها من اليمن.
قوله: [(ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها)].
هذا يدل على أن الحاج يأكل من هديه، والله تعالى يقول: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]، والنبي صلى الله عليه وسلم أكل من هديه وشرب من المرق، فهو أكل وشرب من مجموع الهدي؛ لأن اللحم كان مائة بضعة، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أكل شيئاً قليلاً، وأما المرق فإنه شرب من الجميع.(224/16)
ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة لطواف الإفاضة
قوله: [قال سليمان: (ثم ركب ثم أفاض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى البيت فصلى بمكة الظهر)].
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما نحر وحلق أفاض إلى مكة لطواف الإفاضة، وعلى هذا فيكون عمل يوم النحر أربعة أمور: الرمي ثم النحر ثم الحلق ثم الطواف.
فقوله: [(ثم أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت وصلى بمكة الظهر)] يعني: أنه صلى الظهر في مكة صلى الله عليه وسلم، وطاف طواف الإفاضة فقط ولم يسع بين الصفا والمروة؛ لأنه كان قارناً وكان قد سعى مع طواف القدوم، وكذلك المفرد ليس عليه إلا سعي واحد إن كان قد سعى مع طواف القدوم، أما إن كان القارن والمفرد لم يسعيا مع القدوم، أو لم يقدما مكة إلا بعد عرفة ومزدلفة فإنهما بعدما يطوفان يسعيان؛ لأن القارن ليس عليه إلا سعي واحد وطواف واحد لحجه وعمرته، والمفرد كذلك عليه سعي واحد وطواف واحد لحجه.
قوله: [(ثم أتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم فقال: انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلواً فشرب منه)].
أي: أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عبد المطلب وهم يخرجون الماء من بئر زمزم ليسقوا الحجاج، فقال لهم: (فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم) يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لاقتدى به الناس وعملوا مثلما يعمل.(224/17)
تراجم رجال إسناد حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[وعثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة، وابن ماجة.
[وهشام بن عمار].
هو هشام بن عمار الدمشقي وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[وسليمان بن عبد الرحمن].
هو سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
قوله: [وربما زاد بعضهم على بعض الكلمة أو الشيء].
يعني: أنهم متفقون على أكثره وربما زاد بعضهم على بعض الكلمة أو الشيء.
[حدثنا حاتم بن إسماعيل].
حاتم بن إسماعيل صدوق يهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا جعفر بن محمد].
هو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رحمة الله عليه وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه هو محمد بن علي بن الحسين وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(224/18)
شرح حديث جابر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم من طريق ثانية وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا سليمان -يعني ابن بلال - (ح) وحدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الوهاب الثقفي، والمعنى واحد، عن جعفر بن محمد عن أبيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر بأذان واحد بعرفة ولم يسبح بينهما وإقامتين، وصلى المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما)].
أورد المصنف رحمه الله طريقاً أخرى لحديث جابر وهو مختصر وذكر فيه: أنه صلى الظهر والعصر بعرفة ولم يسبح بينهما وكان ذلك بأذان وإقامتين، وكذلك في المزدلفة صلى المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين.
وهو حديث مرسل؛ لأنه انتهى إلى محمد ولم يذكر جابراً، ولكنه قد جاء في الطريق السابقة المتصلة أنه صلى بأذان واحد وإقامتين.
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن سليمان يعني ابن بلال] سليمان بن بلال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[(ح) وحدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن حنبل الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الوهاب الثقفي].
هو عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جعفر بن محمد عن أبيه].
جعفر بن محمد وأبوه قد مر ذكرهما.(224/19)
شرح حديث جابر في صفة حجة النبي من طريق ثالثة وتراجم رجاله
[قال أبو داود: هذا الحديث أسنده حاتم بن إسماعيل في الحديث الطويل، ووافق حاتم بن إسماعيل على إسناده محمد بن علي الجعفي عن جعفر عن أبيه عن جابر رضي الله عنه إلا أنه قال: (فصلى المغرب والعتمة بأذان وإقامة)].
هذا الذي ذكره في هذه الطريق أسنده حاتم بن إسماعيل في الحديث الطويل؛ لأنه ذكر جابراً وهنا ما ذكر جابراً، وقد وافق حاتم بن إسماعيل محمد بن علي الجعفي إلا أنه قال: (بأذان وإقامة)، وهذا الذي جاء في هذا الطريق غير صحيح؛ لأن الثابت هو أذان واحد وإقامتان؛ لأنه في عرفة صلى بأذان واحد وإقامة للظهر ثم إقامة العصر، وكذلك في مزدلفة أذان واحد وإقامة للمغرب ثم إقامة للعشاء، فذكر الإقامة هنا غير صحيح؛ لأنه مخالف للرواية الأخرى.
ووافق حاتم بن إسماعيل على إسناده محمد بن علي الجعفي، حيث ذكر جابراً رضي الله عنه، لكنه خالف في هذه الفقرة التي هي غير صحيحة وهي أنه صلى المغرب والعتمة بأذان واحد وإقامة.
قوله: [محمد بن علي الجعفي].
محمد بن علي الجعفي من أهل الكوفة، وهو أخ لـ حسين بن علي الجعفي، يروي عن جعفر بن محمد عن أبيه وهو مترجم في التاريخ الكبير.(224/20)
شرح حديث: (قد نحرت هاهنا ومنى كلها منحر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا جعفر حدثنا أبي عن جابر رضي الله عنه قال: ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (قد نحرت هاهنا ومنى كلها منحر، ووقف بعرفة فقال: وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، ووقف بالمزدلفة فقال: قد وقفت هاهنا ومزدلفة كلها موقف)].
هذه طريق أخرى أيضاً في حديث جابر، وهذه الطريق فيها: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة فقال: وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف)] يعني: أنه لا يختص الوقوف بعرفة بالمكان الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الناس قد يظنون أن مكان وقوفه هو مكان الوقوف فقط، فبين عليه الصلاة والسلام أنه وقف هاهنا وعرفة كلها موقف، ولكن كما جاء في بعض الأحاديث: (يرفع عن بطن عرنة) فلا يوقف فيه.
ومما ينبغي أن ينبه عليه: أن عرفة لها حدود وقد كتب عليها كتابات بمختلف اللغات، والحاج لا يستهين بهذا الأمر الذي هو الوقوف، بل يحرص على معرفة أن وقوفه في داخل الحدود، ولا يكتفي بأن ينظر إلى الجبل الذي يقال له: جبل الرحمة، فإنه يرى من مكان بعيد، والإنسان إذا لم يقف بأرض عرفة فإنه لا يكون قد وقف؛ لأن الوقوف إنما هو بعرفة، والوقوف بعرفة ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به، فهذا أمر ليس بالهين وليس بالأمر السهل، بل يحتاج إلى انتباه ويقظة وحرص على معرفة أنه في داخل الحدود؛ لأن الإنسان قد يكون جاء من أماكن بعيدة، فكونه يتساهل في هذا الأمر ثم يكون وقوفه خارج عرفة فيكون قد تعب من غير فائدة، فعلى كل حاج أن يعرف أنه في داخل عرفة، ويستمر فيها حتى غروب الشمس ولا يخرج منها إلا بعد الغروب، وإن خرج منها قبل الغروب رجع إليها حتى يكون غروب الشمس وهو فيها، أو حتى لو رجع إليها بعد الغروب فإنه يكون قد أدى ما عليه.
ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام وقف بمزدلفة وفي المكان الذي وقف فيه فقال: [(وقفت هاهنا وجمع كلها موقف)] جمع هي مزدلفة.
ثم قال: [(نحرت هاهنا - يعني في منى - ومنى كلها منحر)] يعني: لا يختص النحر بالمكان الذي نحر فيه النبي عليه الصلاة والسلام، بل ينحر في أي مكان من منى، بل قد جاء كما سيأتي: (منى كلها منحر وفجاج مكة كلها طريق ومنحر) يعني: أن الإنسان يدخل إلى مكة من أي جهة أراد، وكذلك الحاج لو نحر هديه بمكة فنحره صحيح؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن مكة أيضاً منحر كما أن منى منحر.(224/21)
تراجم رجال إسناد حديث: (قد نحرت هاهنا ومنى كلها منحر)
قوله: [قال: حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا جعفر].
هو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا أبي].
هو محمد بن علي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما وهو صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(224/22)
شرح حديث: (قد نحرت هاهنا ومنى كلها منحر) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا حفص بن غياث عن جعفر بإسناده زاد: (فانحروا في رحالكم)].
ورد هذا الحديث من طريق أخرى وفيه مثل الذي قبله وزاد: (فانحروا في رحالكم)، والرحال هي المساكن التي يسكنها الناس، سواء كانت بيوتاً من شعر أو من قطن أو خياماً أو غير ذلك، وقد مر ذكر الحديث الذي فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بأصحابه ولما سلم رأى رجلين لم يصليا فدعا بهما، فأتي بهما ترتعد فرائصهما، فقال: ما لكما لا تصليا؟ قالا: صلينا في رحالنا، قال: إذا أتيتما والإمام يصلي فصليا معه وتكون لكما نافلة)، فالرحل هو منزل الإنسان.
قوله: [(نحرت هاهنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم)] أي: الأماكن التي أنتم ساكنون فيها في منى انحروا فيها، ولا يلزمكم أن تذهبوا إلى مكان معين، لكن الآن لما حصل من الناس إهمال وتساهل في أمر الأنساك، وأن الناس يأتون بالهدي ويذبحونه ويرمونه ثم ينتن ويلحق أذى بالناس صار هناك مكان معين للذبح؛ حتى لا يكون هذا الضرر الذي يلحق بالناس، وهذا فيه مصلحة، لكن لو أن كل إنسان ذبح في محله وأكل الذبيحة والسواقط هذه دفنها أو رماها في النفايات فلا بأس بذلك، لكن بعض الناس لا يراعون مثل هذه الأشياء بل تجده يذبحها ويتركها.(224/23)
تراجم رجال إسناد حديث: (قد نحرت هاهنا ومنى كلها منحر) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا حفص بن غياث].
حفص بن غياث ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جعفر].
جعفر قد مر ذكره.(224/24)
شرح حديث (فقرأ فيهما بالتوحيد وقل يا أيها الكافرون)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن جعفر حدثني أبي عن جابر رضي الله عنه فذكر هذا الحديث وأدرج في الحديث عند قوله: ({وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] قال: فقرأ فيهما بالتوحيد و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وقال فيه: قال علي رضي الله عنه بالكوفة -قال أبي: هذا الحرف لم يذكره جابر -: فذهبت محرشاً، وذكر قصة فاطمة رضي الله عنها)].
أورد المصنف رحمه الله الحديث من طريق أخرى، وفيه بعض الزيادات المدرجة في هذه الرواية، وأنه قرأ بالتوحيد، يعني: بسورة الإخلاص، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1].
لكن جاء في الروايات الأخرى التي سبق أن مرت أنه قرأ بسورتين.
وأيضاً قال: هنا حرف لم يذكره في هذه الرواية، وأنه سبق أن مر في رواية حاتم بن إسماعيل.(224/25)
تراجم رجال إسناد حديث (فقرأ فيهما بالتوحيد وقل يا أيها الكافرون)
قوله: [حدثنا يعقوب بن إبراهيم].
هو يعقوب بن إبراهيم الدورقي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة أخرجوا عنه مباشرة وبدون واسطة.
[عن يحيى بن سعيد القطان عن جعفر عن أبيه عن جابر].
وقد مر ذكرهم.(224/26)
شرح سنن أبي داود [225]
الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج، بل هو ركن الحج الأعظم الذي إذا فات فقد فات الحج، فينبغي أن يحرص الحاج على الوقوف داخل حدود عرفة، حتى لا يبطل حجه إذا ما وقف خارج حدود عرفة، والنبي صلى الله عليه وسلم أتى عرفة فنزل بنمرة، حتى إذا كان عند صلاة الظهر قام صلى الله عليه وسلم فجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم، ثم خطب الناس، ثم وقف على الموقف من عرفة، فلما غابت الشمس دفع من عرفة جهة المزدلفة بالسكينة والوقار، فلما وصل المزدلفة بدأ بصلاة المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين.(225/1)
الوقوف بعرفة(225/2)
شرح حديث: (كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكان سائر العرب يقفون بعرفة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الوقوف بعرفة.
حدثنا هناد عن أبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة -وكانوا يسمون الحمْس- وكان سائر العرب يقفون بعرفة، قالت: فلما جاء الإسلام أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتي عرفات فيقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: ((ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)) [البقرة:199])].
الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به، ومن فاته الوقوف فاته الحج، فلو جاء الإنسان حاجاً ثم طلع الفجر من ليلة العيد وهو لم يصل إلى عرفة فإن الحج قد فاته، وعليه أن يحول إحرامه من حج إلى عمرة ويتحلل فقد فاته الحج.
وقول عائشة رضي الله عنها: [(كانت قريش ومن دان دينها)] يعني: من تابعهم على ما هم عليه.
قولها: [(يقفون بالمزدلفة)] يعني: كانوا لا يتجاوزون مزدلفة إلى عرفة.
قولها: [(وكانوا يسمون الحمس)] قيل: إنه مأخوذ من الحماسة والشجاعة والقوة.
قولها: [(وكان سائر العرب يقفون بعرفة، قالت: فلما جاء الإسلام أمر الله تعالى نبيه أن يأتي عرفات فيقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: ((ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)) [البقرة:199])] غالبية الناس كانوا من غير قريش، فصار الحكم الشرعي أن الوقوف يكون بعرفة، وأنه لا يجوز أن يقتصر على مزدلفة كما كانت قريش تفعل في الجاهلية، حيث كانوا يقفون في المزدلفة ويقولون: إنهم أهل الحرم فلا يتجاوزون الحرم بل يبقون في الحرم، مع أن الشرائع السابقة والناس كانوا يحجون ويقفون بعرفة، والإسلام أمر بأن يوقف بعرفة، وأن يفيض النبي صلى الله عليه وسلم وقريش من حيث أفاض الناس.(225/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكان سائر العرب يقفون بعرفة)
قوله: [حدثنا هناد].
هو هناد بن السري وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في خلق أفعال العباد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي معاوية].
هو محمد بن خازم الضرير الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عروة بن الزبير بن العوام وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وأرضاها، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(225/4)
الخروج إلى منى يوم التروية(225/5)
شرح حديث: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر يوم التروية والفجر يوم عرفة بمنى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الخروج إلى منى.
حدثنا زهير بن حرب حدثنا الأحوص بن جواب الضبي حدثنا عمار بن رزيق عن سليمان الأعمش عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر يوم التروية والفجر يوم عرفة بمنى)].
قوله: [باب الخروج إلى منى].
الخروج من مكة إلى منى يعتبر أول أعمال الحج في المشاعر، والذهاب إلى منى في يوم التروية والمبيت ليلة التاسع فيها من سنن الحج، والنبي صلى الله عليه وسلم كان نازلاً بالأبطح أربعة أيام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الرابع من شهر ذي الحجة ودخلها ضحى، فجلس فيها اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع، وفي اليوم الثامن ضحى خرج منها وصلى الظهر بمنى، فدل هذا على أن السنة أن يصلي الناس الظهر بمنى وهم محرمون، وأن الذين كانوا متحللين وكذلك أهل مكة الذين يريدون الحج يحرمون من منازلهم في اليوم الثامن، ويذهبون إلى منى ويصلون بها الظهر، أما من كان نازلاً بمنى من الأصل فإنه يحرم من منزله في منى، وكونه نازلاً قبل اليوم الثامن بمنى هذا لا علاقة له بالحج، فهو مثل نزوله في محرم وفي صفر وفي ربيع، وإنما الذي له علاقة بالحج هواليوم الثامن، حيث يصلي بها الظهر وهو محرم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنه كان باقياً على إحرامه وكان في الأبطح، وأصحابه الذين كانوا قد أحلوا أحرموا في الأبطح ودخلوا في الإحرام، ثم ذهبوا إلى منى وصلوا بها الظهر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(والفجر يوم عرفة بمنى)] يعني: أنه صلى خمس صلوات بمنى عليه الصلاة والسلام: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، وخرج بعد طلوع الشمس من منى إلى عرفات.
إذاً: السنة أن يكون الإنسان في منى من وقت صلاة الظهر وهو محرم.(225/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر يوم التروية والفجر يوم عرفة بمنى)
قوله: [حدثنا زهير بن حرب].
زهير بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا الأحوص بن جواب الضبي].
الأحوص بن جواب الضبي صدوق ربما وهم، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عمار بن رزيق].
عمار بن رزيق لا بأس به، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن سليمان الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي لقبه الأعمش وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحكم].
هو الحكم بن عتيبة الكندي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مقسم].
هو مقسم مولى ابن عباس، وهو صدوق أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(225/7)
شرح حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم التروية بمنى والعصر يوم النفر بالأبطح
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا إسحاق الأزرق عن سفيان عن عبد العزيز بن رفيع قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه قلت: (أخبرني بشيء عقلته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أين صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر يوم التروية؟ فقال: بمنى.
قلت: فأين صلى العصر يوم النفر؟ قال: بالأبطح، ثم قال: افعل كما يفعل أمراؤك)].
قوله: [(أخبرني بشيء عقلته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أين صلى الظهر يوم التروية؟ فقال: بمنى، قلت: فأين صلى العصر يوم النفر؟)] أي: النفر الثاني؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تأخر إلى اليوم الثالث عشر؛ لأن أيام النحر أربعة: يوم العيد، واليوم الحادي عشر، ويقال له: يوم القر، أي: أن كل الحجاج قروا بمنى واستقروا بها لم ينفر أحد؛ لأنه لابد من المكث في منى، واليوم الثاني عشر هو يوم النفر الأول للمتعجل، واليوم الثالث عشر هو يوم النفر الثاني، وذلك لمن تأخر وأراد أن يجلس في منى ثلاثة أيام بعد يوم العيد ويرمي الجمار بعد الزوال ثم ينفر، والنبي صلى الله عليه وسلم صلى العصر في يوم النفر بعد رمي الجمار في الأبطح الذي هو المحصب الذي كان نازلاً فيه أولاً لما قدم من المدينة، فلما رجع بات به تلك الليلة، ثم سافر إلى المدينة بعد أن طاف طواف الوداع.
قوله: [(افعل كما يفعل امراؤك)].
يعني: أن الإنسان يتابع الأمراء فيما هو سائغ وفيما هو مشروع، والإنسان له أن يتعجل ولا ينتظر إلى ذلك اليوم الذي مكث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أيضاً كون الناس ينزلون في الأبطح هذا ليس بلازم؛ لأن النزول في الأبطح -كما سيأتي- ليس من سنن الحج وليس من المناسك، وإنما نزل به صلى الله عليه وسلم لأنه أسمح لطريقه، وفي المسألة خلاف لكن الصحيح أنه ليس بنسك.(225/8)
تراجم رجال إسناد حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم التروية بمنى والعصر يوم النفر بالأبطح
قوله: [حدثنا أحمد بن إبراهيم].
هو أحمد بن إبراهيم الدورقي، وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
[حدثنا إسحاق الأزرق].
هو إسحاق بن يوسف الأزرق وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد العزيز بن رفيع].
عبد العزيز بن رفيع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(225/9)
الخروج إلى عرفة(225/10)
شرح حديث: (غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى حين صلى الصبح يوم عرفة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الخروج إلى عرفة.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (غدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من منى حين صلى الصبح صبيحة يوم عرفة، حتى أتى عرفة فنزل بنمرة -وهي منزل الإمام الذي ينزل به بعرفة- حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مهجِّراً فجمع بين الظهر والعصر، ثم خطب الناس، ثم راح فوقف على الموقف من عرفة)].
قوله: [باب الخروج إلى عرفة].
يعني: الخروج من منى إلى عرفة، ويكون في صبيحة يوم عرفة، ويكون ذلك بعد طلوع الشمس كما جاءت في ذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام نزل بنمرة وهي قريبة من عرفة، ولكن النزول بها ليس أمراً لازماً، فالناس يمكن أن يذهبوا إلى عرفة وينزلوا بها، ومن تيسر له أن يأتي ويحضر إلى المسجد ويصلي مع نائب الإمام الذي يصلي في مسجد نمرة ويستمع الخطبة فهذا حسن، وإلا فإن الإنسان يكون في أي مكان من عرفة ويستقر به، ويبقى حتى غروب الشمس، والنبي صلى الله عليه وسلم نزل بنمرة، ولما زالت الشمس تقدم وصلى بالناس ثم خطب بهم، وقد سبق في حديث جابر أنه خطبهم قبل الصلاة ولم يخطب بعد الصلاة، فيحتمل أن تكون هذه الخطبة الثانية غير محفوظة وأن الخطبة الأولى التي قبل الصلاة هي المحفوظة، أو أنه تحدث معهم بشيء يتعلق بالمناسك، فقيل له خطبة، وإلا فإنه ليس هناك خطبتان خطبة قبل الصلاة وخطبة بعد الصلاة، وإنما الخطبة قبل الصلاة، كما سبق في حديث جابر الطويل الذي ذكر فيه جملة مما اشتملت عليه الخطبة: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلخ).
فإما أن تكون هذه الخطبة التي بعد الصلاة غير محفوظة، أو أن المقصود بها أنه تحدث معهم بشيء يتعلق بالمناسك فسمي خطبة.
قوله: [(ثم راح فوقف على الموقف بعرفة)].
يعني: مشى صلى الله عليه وسلم بعد الزوال حتى وقف في المكان الذي وقف فيه، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما سبق: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف).(225/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى حين صلى الصبح يوم عرفة)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يعقوب].
هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبي].
أبوه هو إبراهيم بن سعد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني نافع].
هو نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(225/12)
الرواح إلى عرفة(225/13)
شرح حديث: (لما أن قتل الحجاج ابن الزبير أرسل إلى ابن عمر أية ساعة كان رسول الله يروح في هذا اليوم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الرّواح إلى عرفة.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع حدثنا نافع بن عمر عن سعيد بن حسان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لما أن قتل الحجاج ابن الزبير أرسل إلى ابن عمر: أية ساعة كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يروح في هذا اليوم؟ قال: إذا كان ذلك رحنا، فلما أراد ابن عمر أن يروح قالوا: لم تزغ الشمس، قال: أزاغت؟ قالوا: لم تزغ أو زاغت، قال: فلما قالوا: قد زاغت ارتحل)].
قوله: [باب الرواح إلى عرفة].
في الترجمة السابقة: [باب الخروج إلى عرفة] أي: الخروج من منى إلى عرفة، وهنا الرواح يعني: بعدما يصلي الظهر والعصر جمع تقديم والخطبة قبل ذلك فإنه يرتحل إلى عرفة بحيث يقف بها.
فـ الحجاج لما قتل ابن الزبير وكان عبد الملك بن مروان قد أمره أن يتابع ويرجع إلى عبد الله بن عمر، ويسير في الحج وفقاً لتعليمه وإرشاده، فـ الحجاج سأل عن ساعة الذهاب والرواح، فقال له ابن عمر: (إذا كان ذلك رحنا) يعني: إذا جاءت الساعة التي يشرع لنا أن نمشي فيها مشينا.
قوله: [فلما أراد ابن عمر أن يروح.
قالوا: لم تزغ الشمس، قال: أزاغت؟ قالوا: لم تزغ أو زاغت، قال: فلما قالوا: قد زاغت ارتحل].
يعني: لما قالوا: زاغت الشمس ارتحل.(225/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (لما أن قتل الحجاج ابن الزبير أرسل إلى ابن عمر: أية ساعة كان رسول الله يروح في هذا اليوم)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا نافع بن عمر].
نافع بن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن حسان].
سعيد بن حسان مقبول، أخرج له أبو داود وابن ماجه.
[عن ابن عمر].
ابن عمر قد مر ذكره.(225/15)
الخطبة على المنبر بعرفة(225/16)
شرح حديث: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر بعرفة) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الخطبة على المنبر بعرفة.
حدثنا هناد عن ابن أبي زائدة حدثنا سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن رجل من بني ضمرة عن أبيه أو عمه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر بعرفة)].
قوله: [عن رجل من بني ضمرة عن أبيه أو عمه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر بعرفة)] والحديث ضعيف؛ لأن فيه رجلاً مجهولاً، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما خطب على ناقته كما جاءت بذلك الأحاديث.
إذاً: ذكر المنبر فيما يتعلق بعرفة غير ثابت؛ لأنه جاء عن طريق رجل مبهم غير معروف.
قوله: [حدثنا هناد عن ابن أبي زائدة].
هو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان بن عيينة].
سفيان بن عيينة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن أسلم].
زيد بن أسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رجل من بني ضمرة عن أبيه أو عمه].
الرجل هذا مجهول وأبوه أو عمه وهو صحابي أيضاً غير معروف، لكن جهالة الصحابي لا تؤثر، وإنما الذي يؤثر جهالة غير الصحابة.(225/17)
شرح حديث: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً بعرفة على بعير أحمر يخطب) وترجمة رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود عن سلمة بن نبيط عن رجل من الحي عن أبيه نبيط رضي الله عنه: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم واقفاً بعرفة على بعير أحمر يخطب)].
حديث نبيط بن شريط رضي الله عنه: [(أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً بعرفة على بعير أحمر يخطب)] يعني: أنه كان يخطب على ناقته صلى الله عليه وسلم.
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود].
مسدد بن مسرهد مر ذكره، وعبد الله بن داود الخريبي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن سلمة بن نبيط].
سلمة بن نبيط ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي في الشمائل، والنسائي وابن ماجه.
[عن رجل من الحي عن أبيه نبيط].
هو نبيط بن شريط، صحابي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجه.(225/18)
شرح حديث: (رأيت رسول الله يخطب الناس يوم عرفة على بعير قائم في الركابين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري وعثمان بن أبي شيبة قالا: حدثنا وكيع عن عبد المجيد قال: حدثني العداء بن خالد بن هوذة رضي الله عنهما، قال هناد: عن عبد المجيد أبي عمرو قال: حدثني خالد بن العداء بن هوذة قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب الناس يوم عرفة على بعير قائم في الرِّكابين)].
قوله: [(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم عرفة على بعير قائم في الرّكابين)] يعني: أنه صلى الله عليه وسلم كان جالساً على البعير، وليس معناه أنه واقف على البعير، فهو مثل الوقوف بعرفة بحيث يشمل الجالس والواقف.
قوله: [(في الركابين)].
المقصود بالركابين: محل الرجلين، أو المقصود أنه قائم في الناس، ولا يلزم أن يكون الناس كلهم على إبل، ويمكن أن يكون معناه: أنه الركاب الذي يجلس الإنسان عليه ويضع رجليه عليه.(225/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (رأيت رسول الله يخطب الناس يوم عرفة على بعير قائم في الركابين)
قوله: [حدثنا هناد بن السري وعثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة، وابن ماجه.
[حدثنا وكيع].
مر ذكره.
[عن عبد المجيد].
عبد المجيد أبو عمرو وثقه ابن معين وأخرج له أصحاب السنن.
[حدثني العداء بن خالد بن هوذة].
العداء بن خالد بن هوذة هو صحابي أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[قال هناد: عن عبد المجيد أبي عمرو].
هناد هو أحد الشيخين زاد على كلمة عبد المجيد عن أبي عمرو، وأبو عمرو هي كنية عبد المجيد.
[قال: حدثني خالد بن العداء بن هوذة].
هنا قلب في الاسم، بدل العداء بن خالد خالد بن العداء.
[قال أبو داود: رواه ابن العلاء عن وكيع كما قال هناد].
ابن العلاء هو محمد بن العلاء أبو كريب وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن وكيع كما قال هناد].
هناد الذي قال: عن عبد المجيد أبي عمرو، وقال: خالد بن العداء، لكن الصواب مع عثمان بن أبي شيبة الذي قال: العداء بن خالد.(225/20)
طريق أخرى لحديث: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم عرفة على بعير قائم في الركابين) وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عباس بن عبد العظيم حدثنا عثمان بن عمر حدثنا عبد المجيد أبو عمرو عن العداء بن خالد بمعناه].
فيه تقديم العداء على خالد، كما قال عثمان بن أبي شيبة، وفيه زيادة أبي عمرو كما قال هناد.
قوله: [حدثنا عباس بن عبد العظيم].
هو عباس بن عبد العظيم العنبري وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عثمان بن عمر].
عثمان بن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد المجيد أبو عمرو عن العداء بن خالد بمعناه].
وقد مر ذكرهما.(225/21)
موضع الوقوف بعرفة(225/22)
شرح حديث (قفوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب موضع الوقوف بعرفة.
حدثنا ابن نفيل حدثنا سفيان عن عمرو -يعني ابن دينار - عن عمرو بن عبد الله بن صفوان عن يزيد بن شيبان رضي الله عنه قال: (أتانا ابن مربع الأنصاري رضي الله عنه ونحن بعرفة في مكان يباعده عمرو عن الإمام فقال: أما إني رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليكم يقول لكم: قفوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم)].
قوله: [عن يزيد بن شيبان قال: (أتانا ابن مربع الأنصاري ونحن بعرفة)].
يعني: أن ابن مربع الأنصاري أتاهم وهم بعرفة، ويزيد بن شيبان صحابي وابن مربع صحابي.
قوله: [(في مكان يباعده عمرو عن الإمام)] أي: أنه بعيد عن المكان الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: [(أما إني رسول رسول الله إليكم يقول لكم: قفوا في مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم) يعني: هذه الأماكن التي أنتم فيها هي موقف، وليس الأمر مقصوراً على موقف الإمام، بل كل عرفة موقف، وأنتم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم، ولهذا لما وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة قال: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) ولما جاء مزدلفة قال: (وقفت هاهنا ومزدلفة كلها موقف) ولما جاء منى قال: (نحرت هاهنا ومنى كلها منحر) يعني: أن الحكم لا يقتصر على المكان الذي هو فيه عليه الصلاة والسلام، بل هو شامل للبقعة التي هي عرفة ومزدلفة ومنى.
ويدل أيضاً على أن هذه المشاعر موروثة عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.(225/23)
تراجم رجال إسناد حديث: (قفوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم)
قوله: [حدثنا ابن نفيل].
هو عبد الله بن محمد النفيلي وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة.
[عن عمرو يعني ابن دينار].
عمرو بن دينار المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن عبد الله بن صفوان].
هو عمرو بن عبد الله بن صفوان الجمحي المكي صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
[عن يزيد بن شيبان].
يزيد بن شيبان صحابي، أخرج له أصحاب السنن.
[أتانا ابن مربع الأنصاري].
ابن مربع هو زيد أو يزيد وحديثه أخرجه أصحاب السنن.
أما كيف كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسمعون خطبته مع هذا الجمع الغفير؟! فيبدو والله أعلم أنه كان يسمعه من حوله ويبلغ بعضهم بعضاً، أما أنه كان هناك شيء خارق للعادة فما علمناه.(225/24)
صفة الدفع من عرفة(225/25)
شرح حديث: (أيها الناس! عليكم بالسكينة فإن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الدفعة من عرفة.
حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن الأعمش (ح) وحدثنا وهب بن بيان حدثنا عبيدة حدثنا سليمان الأعمش المعنى، عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (أفاض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عرفة وعليه السكينة ورديفه أسامة رضي الله عنه، وقال: أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل، قال: فما رأيتها رافعة يديها عادية حتى أتى جمعاً، زاد وهب: ثم أردف الفضل بن العباس رضي الله عنهما وقال: أيها الناس إن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل، فعليكم بالسكينة.
قال: فما رأيتها رافعة يديها حتى أتى منى)].
قوله: [باب الدفعة من عرفة].
يعني: كيف يدفع الناس من عرفة إلى مزدلفة، وكما بينا سابقاً إذا غربت الشمس فإنه يحصل الدفع من عرفة إلى مزدلفة والاتجاه إليها، وكيفية الدفع وطريقته مثلما جاء في هذا الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [(أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة وعليه السكينة ورديفه أسامة، وقال: عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل)] يعني: ليس البر بالإسراع.
قوله: [(فما رأيتها رافعة يديها عادية حتى أتى جمعاً)].
يعني: أنه عليه الصلاة والسلام -كما جاء عنه- شنق زمام ناقته حتى إنه ليصيب مورك رحله، أي: موضع رجليه، وإذا جاء حبل من الحبال أرخى لها حتى تصعد، وما رآها رافعة يديها تعدو وتسرع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بخطامها ومنعها من السرعة، وإنما كان يرخي لها إذا كان أمامها حبل من الحبال، أي: تل من التلال؛ لأنها لا تستطيع أن تسرع في ذلك المكان، ولهذا قال: [(فما رأيتها رافعة يديها عادية حتى أتى جمعاً)] أي: حتى أتى مزدلفة، وكان الدفع بالسكينة والهدوء وعدم الإسراع، ولهذا قال: [(ليس البر بإيجاف الخيل)] وجاء في بعض الروايات: (ليس البر بالإيضاع) الذي هو الإسراع.(225/26)
تراجم رجال إسناد حديث: (أيها الناس! عليكم بالسكينة فإن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران وقد مر ذكره.
[(ح) وحدثنا وهب بن بيان].
وهب بن بيان ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا عبيدة].
هو عبيدة بن حميد وهو صدوق ربما أخطأ، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا سليمان الأعمش عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس].
سليمان الأعمش والحكم ومقسم وابن عباس قد مر ذكرهم.(225/27)
شرح حديث أسامة: (أخبرني كيف فعلتم عشية ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا زهير (ح) وحدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان -وهذا لفظ حديث زهير - (حدثنا إبراهيم بن عقبة أخبرني كريب أنه سأل أسامة بن زيد رضي الله عنهما قلت: (أخبرني كيف فعلتم أو صنعتم عشية ردفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: جئنا الشعب الذي ينيخ الناس فيه للمعرس، فأناخ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناقته، ثم بال -وما قال زهير: أهراق الماء- ثم دعا بالوضوء فتوضأ وضوءاً ليس بالبالغ جداً، قلت: يا رسول الله! الصلاة؟ قال: الصلاة أمامك.
قال: فركب حتى قدمنا المزدلفة فأقام المغرب، ثم أناخ الناس في منازلهم ولم يحلوا حتى أقام العشاء وصلى، ثم حل الناس) زاد محمد في حديثه: (قال: قلت: كيف فعلتم حين أصبحتم؟ قال: ردفه الفضل وانطلقت أنا في سباق قريش على رجلي)].
قوله: [(قلت: أخبرني كيف فعلتم أو صنعتم عشية ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)] يعني: عندما كنت رديفه من عرفة إلى مزدلفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين انطلاقه من عرفة إلى مزدلفة كان رديفه أسامة بن زيد، وحين انطلاقه من مزدلفة إلى منى كان رديفه الفضل بن العباس، وأخبر أنه صلى الله عليه وسلم لما جاء عند الشعب وهو في الطريق من عرفة إلى مزدلفة ويقال له: المعرس، نزل فبال.
قوله: [(وما قال زهير: أهراق الماء)] يعني: أنه قال: بال ولم يقل: أهراق الماء، وأهراق الماء كناية عن البول، فهنا نص على أنه بال ولم يقل: أهراق المال.
قوله: [(ثم دعا بالوضوء فتوضأ وضوءاً ليس بالبالغ جداً)].
يحتمل أن يكون وضوءاً لغوياً وهو كونه غسل يديه، ويحتمل أن يكون وضوءاً شرعياً الذي هو غسل أعضاء الوضوء، ولكن ليس فيه تكرار وليس فيه إسباغ.
قوله: [(قلت: يا رسول الله الصلاة؟)].
فيه إشارة إلى أنه كان وضوءاً شرعياً؛ لأنه نبهه على الصلاة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: [(الصلاة أمامك)] يعني: ليست الصلاة هنا، وهذا يدل على أن الحجاج يؤخرون الصلاة إلى مزدلفة ولا يصلون لا بعرفة ولا في الطريق، إلا إن جاء نصف الليل ولم يصلُوا إلى مزدلفة فإنهم يصلون قبل أن ينتصف الليل في الطريق؛ لأن العشاء ينتهي وقتها بنصف الليل فلا تؤخر الصلاة عن وقتها، لكن حيث كان ممكناً أن يصلوا إلى مزدلفة قبل نصف الليل وأن يصلُّوا الصلاتين في مزدلفة قبل نصف الليل فهذا هو المشروع، ولكن حيث يغلب على ظنهم أنهم لا يصلون مزدلفة إلا بعد نصف الليل فإنهم يصلون في الطريق.
قوله: [(فركب حتى قدمنا المزدلفة فقام المغرب)].
يعني: فركب حتى وصلنا إلى مزدلفة فأقيمت صلاة المغرب؛ وهنا ليس فيه ذكر الأذان، ولكن جاء في بعض الأحاديث أنه بأذان واحد وإقامتين، يعني: أذن للصلاة ثم أقيمت صلاة المغرب ثم بعد ذلك أقيمت صلاة العشاء وصلوا العشاء.
قوله: [(ثم أناخ الناس في منازلهم)].
يعني: بين الصلاتين، وجاء في بعض الروايات (أنهم حلوا عن الرحال) وهذا يدلنا على المبادرة إلى الصلاة، وأن الإنسان إذا وصل إلى مزدلفة فأول شيء يفعله الصلاة، لا يشتغل بشواغل أخرى كأن يلقط الحصى مثلما يفعله بعض الناس، وكأن أهم شيء في مزدلفة هو لقط الحصى، بل ينبغي للإنسان حين يصل إلى مزدلفة أن يبدأ بالصلاة ثم ينام إلى طلوع الفجر، ثم بعد ذلك يقف ويدعو، وعند قرب طلوع الشمس يتجه إلى منى، هذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه: أنهم أناخوا أو حلوا عن الرحال بين الصلاتين، وهذا يدل على أن العمل اليسير بين الصلاتين المجموعتين الذي يحتاج إليه لا يؤثر على الجمع.
قوله: [زاد محمد في حديثه: (قال: قلت: كيف فعلتم حين أصبحتم؟ قال: ردفه الفضل وانطلقت أنا في سباق قريش على رجلي)].
يعني أن أسامة بن زيد رضي الله عنه كان ردفه إلى مزدلفة، وبعد ذلك ردفه الفضل وانطلق أسامة رضي لله عنه في سباق قريش على رجليه.(225/28)
تراجم رجال إسناد حديث أسامة: (أخبرني كيف فعلتم عشية ردفت رسول الله؟)
قوله: [حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس].
أحمد بن عبد الله بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[(ح) وحدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان وهذا لفظ حديث زهير حدثنا إبراهيم بن عقبة].
إبراهيم بن عقبة ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
[أخبرني كريب].
هو كريب مولى ابن عباس وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنه سأل أسامة بن زيد].
أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(225/29)
شرح حديث: (السكينة أيها الناس! ودفع حين غابت الشمس)
قال المصنف رحمه اله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن آدم حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن عياش عن زيد بن علي عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي رضي الله عنه قال: (ثم أردف أسامة رضي الله عنه فجعل يعنق على ناقته، والناس يضربون الإبل يميناً وشمالاً لا يلتفت إليهم، ويقول: السكينة أيها الناس! ودفع حين غابت الشمس)].
في هذا الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام انصرف حين غابت الشمس، وهذا يدل على أن الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، وأنه ليس للإنسان أن ينصرف منها قبل الغروب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفع كان يعنق على ناقته، يعني: يسير سيراً خفيفاً يقال له: العنق، وقد جاء في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص) يعني: أسرع إسراعاً خفيفاً.
قوله: [(والناس يضربون الإبل يميناً وشمالاً)].
يعني: يمشون يريدون أن يسرعوا، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يلتفت إليهم كما قال هنا، ولكن الصحيح أنه كان يلتفت إليهم كما جاء عند الترمذي وأشار إليه الألباني رحمه الله، وهذا هو الذي يناسب المعنى؛ لأنه كان يلتفت إليهم ويشير لهم: (السكينة السكينة).
قوله: [(ويقول: السكينة أيها الناس! ودفع حين غابت الشمس)].
يعني: لا تسرعوا ولا تضربوا الإبل من أجل أن تسرع، بل سيروا بالسكينة والهدوء.
وقد مر أنه قال: (ليس البر بإيجاف الخيل) وقال: (ليس البر بالإيضاع) الذي هو الإسراع.(225/30)
تراجم رجال إسناد حديث: (السكينة أيها الناس! ودفع حين غابت الشمس)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن آدم].
أحمد بن حنبل مر ذكره، ويحيى بن آدم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن عياش].
هو عبد الرحمن بن الحارث بن عياش، وهو مقبول أخرج له أبو داود.
[عن زيد بن علي].
هو زيد بن علي بن الحسين ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي، وابن ماجه.
[عن أبيه].
هو علي بن الحسين وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن أبي رافع].
عبيد الله بن أبي رافع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي].
هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين أبو السبطين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(225/31)
شرح حديث أسامة: (كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا القعنبي عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: (سئل أسامة بن زيد رضي الله عنه وأنا جالس: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسير في حجة الوداع حين دفع؟ قال: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص) قال هشام: النص فوق العنق].
حديث أسامة فيه وصف سير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يسير العنق وهو سير خفيف.
قوله: [(فإذا وجد فجوة نص)] يعني: زاد عن هذا المشي حتى يتقدم، ما دام أنه لا يوجد زحام ولا إيذاء لأحد فإنه يسرع إسراعاً خفيفاً، لكنه ليس الإسراع الذي يكون فيه عدو، كما مر قوله: (ما رفعت يديها عادية) يعني: الإسراع الشديد.
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عروة بن الزبير وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سئل أسامة بن زيد].
مر ذكره.(225/32)
شرح حديث: (فلما وقعت الشمس دفع رسول الله) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه اله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني إبراهيم بن عقبة عن كريب مولى عبد الله بن عباس عن أسامة رضي الله عنه أنه قال: (كنت ردف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما وقعت الشمس دفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)].
هذا الحديث أيضاً عن أسامة، وأنه كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لما وقعت الشمس وغابت وتوارت دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى مزدلفة، وهذا يدل على أن الدفع إنما يكون بعد الغروب.
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يعقوب عن أبيه عن ابن إسحاق حدثني إبراهيم بن عقبة عن كريب عن أسامة].
كلهم مر ذكرهم.(225/33)
شرح حديث: (دفع رسول الله من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال وتوضأ) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن موسى بن عقبة عن كريب مولى عبد الله بن عباس عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه سمعه يقول: (دفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عرفة، حتى إذا كان بالشعب نزل فبال فتوضأ ولم يسبغ الوضوء، قلت له: الصلاة؟ فقال: الصلاة أمامك، فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها، ولم يصل بينهما شيئاً)].
في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم دفع ونزل بالشعب وقضى حاجته وتوضأ وضوءاً لم يسبغه، فقال له: [(الصلاة؟ فقال: الصلاة أمامك)] كما مر في الرواية السابقة، وفيه أنه لما وصل إلى مزدلفة توضأ وأسبغ الوضوء، ويمكن أن يكون وضوءاً على وضوء، أو أنه حصل منه حدث بعد الوضوء الأول.
قوله: [(ولم يصل بينهما شيئاً)].
يعني: لم يتنفل بينهما.
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن موسى بن عقبة].
موسى بن عقبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن كريب عن أسامة بن زيد].
قد مر ذكرهما.(225/34)
الأسئلة(225/35)
حكم من استمنى في منى وهو حاج
السؤال
شخص يذكر أنه حج قبل عشرين سنة، وكان جاهلاً بأحكام الحج، وأنه استمنى في منى جاهلاً بالحكم، فماذا عليه وقد حج بعد تلك الحجة مرات؟
الجواب
الاستمناء حرام لا يجوز، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7]، يعني: كل ما وراء الزوجة وملك اليمين فهو عدوان، ومن ذلك الاستمناء؛ لأنه قضاء للشهوة فيما حرم الله.
والله تعالى لم يحل إلا الأزواج وملك اليمين من الإماء اللاتي يملكهن الإنسان، وما عدا ذلك فهو عدوان لا يجوز له ذلك، وعليه أن يتوب إلى الله عز وجل، وأن يندم على ما قد حصل منه، وإذا كان هذا في منى فالأمر هين، وأما إن كان قبل ذلك فإن الأمر أخطر، ولكن كل ما في الأمر أن الإنسان يتوب إلى الله عز وجل ولا يعود إلى مثل هذا العمل السيئ المحرم الذي لا يسوغ ولا يجوز.
أما من ناحية الكفارة عن الاستمناء فلا نعلم عليه كفارة؛ لأنه ما حصل جماع، والذي يفسد الحج هو الجماع، أما غيره فلا يفسد الحج، وكذلك لو حصل ملامسة فلا كفارة فيها، لكن الإنسان يأثم.(225/36)
المقصود بقوله: (يخطب الناس يوم عرفة على بعير قائم)
السؤال
قوله: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم عرفة على بعير قائم في الركابين) قوله: (قائم) ألا تكون صفة للبعير؟
الجواب
النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطب على البعير وهو بارك؛ لأنه خطب على البعير وهو قائم حتى يراه الناس، ويبدو أن المقصود بقوله: (قائم) النبي صلى الله عليه وسلم وليس البعير.(225/37)
حكم حج المرأة أثناء عدة الوفاة
السؤال
حضر الوالد والوالدة لأداء العمرة في رمضان، ومرض الوالد وتوفي بالمدينة، فهل يجوز للوالدة الحج، مع العلم أنها الآن في حال عدة الوفاة، وكانت نية الوالد العمرة فقط؟
الجواب
ما دام أنها وصلت وهي لم تحج فكونها تحج مع ولدها فهذا شيء طيب، ولو كان في نية الوالد أنه يعتمر ويرجع، ويجوز للإنسان أن يحج ولو جاء لقصد العمرة، لكن مادام أنها في العدة فالأولى لها ألا تحج وإنما ترجع إلى بلدها.(225/38)
حكم من أوقف بعض كتبه بعد وفاته دون تعيين
السؤال
لي مكتبة وقد قلت: أوقفت بعض كتبي بعد وفاتي؟
الجواب
هذا مبهم لا يصلح؛ لأن الموقوف لابد أن يحدد، إما أن يحدد كتباً معينة أو نوعاً من الكتب، أما قوله: أوقفت بعض كتبي، فهذا الوقف غير محدد وغير معروف.
أما كون الوقف بعد وفاته فبعد وفاته تصير وصية، والوصية يمكن للإنسان أن يغيرها.(225/39)
علاج الخجل الزائد
السؤال
عندي حياء فوق العادة لا أستطيع أن أقرأ أمام الناس حتى سورة الفاتحة، ولا أستطيع أن أؤم الناس للصلاة وأنا حافظ لكتاب الله كاملاً، أرشدوني كيف أدفع هذا الأمر؟
الجواب
عليه أن يتعلم الشجاعة، وأن يمرن نفسه على أن يقرأ عند الناس ويصلي بالناس، ويعالج نفسه بأن يترك هذا الشيء الذي يجعله لا يستفيد منه أحد ولا يفيد أحداً، عليه أن يتعود على أن يخطب وأن يقرأ، ويمكن أن يقرأ بحضرة أقاربه أمه وإخوانه، ثم ينتقل بعد ذلك إلى أن يقرأ في المسجد.
وهذا لا يسمى حياء، بل هو في الحقيقة ضعف، كذلك عليه أن يدعو بالأدعية النافعة التي منها: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل)، وغير ذلك من الأدعية النافعة.(225/40)
حكم لحم الهرة وسؤرها
السؤال
ما حكم أكل لحم الهرة وسؤرها؟ الشيخ: لحم الهرة حرام، أما سؤرها فكما هو معلوم أنه طاهر، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ فجاءت هذه فأمال لها الإناء فصارت تشرب، فسؤرها طاهر.(225/41)
حكم رفع الإزار إلى نصف الساق
السؤال
رفع الإزار إلى نصف الساق هل هو الحد الأعلى لرفع الإزار أم أنه الأفضل في ذلك؟
الجواب
الذي يبدو أن رفع الإزار إلى نصف الساق هو الحد الأعلى، وله أن ينزله إلى ما دون الكعبين.(225/42)
حكم من ذهب إلى مكة للحج وأراد الذهاب إلى جدة لغرض معين
السؤال
شخص نوى الحج فلما وصل إلى مكة أراد أن يذهب إلى جدة لزيارة الأقارب قبل وقت الحج ثم يرجع لأداء مناسك الحج، فهل يجوز له ذلك؟
الجواب
إذا كان قارناً أو مفرداً وذهب إلى جدة وعليه الإحرام فلا بأس بذلك.
وإن كان متمتعاً وقد طاف وسعى وقصر، فله أن يذهب إلى جدة وأن يرجع ولا بأس بذلك ويحج في وقت الحج.(225/43)
حكم السعي في الأدوار الثلاثة وبيان أفضلها
السؤال
هل الأفضل السعي في الدور الأول أو الثاني أو الثالث؟
الجواب
الأفضل السعي في الدور الأول الأرضي فهو الأصل، أما الأدوار الأخرى فإنما يصار إليها عند الحاجة.(225/44)
حكم حديث: (إنا كنا في رحالنا والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفة ونحن نسمع)
السؤال
رأيت في كتاب معجزة النبي صلى الله عليه وسلم قول الصحابي: (إنا كنا في رحالنا والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفة ونحن نسمع؟)
الجواب
الكلام على وجود ذلك بالإسناد، فإذا وجد وصح الإسناد يسلم به، والله تعالى قادر على كل شيء، ومن ذلك أن يوصل الكلام إلى حيث شاء من الناس، لكن لا يكفي مجرد الظن أو مجرد الذكر بدون أساس؛ لأن هذه أمور لا يصار إليها إلا بالدليل.
والله تعالى أعلم.(225/45)
شرح سنن أبي داود [226]
إذا وصل الحاج إلى مزدلفة فإنه يصلي المغرب والعشاء جمعاً، فإن وصل في وقت المغرب صلاهما جمع تقديم، وإن وصل في وقت العشاء صلاهما جمع تأخير، ولا يبدأ بأي عمل قبل الصلاة، فإذا صلى بات بها إلى أن يصلي الفجر ثم ينتظر حتى يسفر جداً ثم يدفع، ويجوز للضعفة من النساء والصبيان ونحوهم أن يتعجلوا فيدفعوا من مزدلفة آخر الليل قبل الفجر.(226/1)
الصلاة بالمزدلفة(226/2)
شرح حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الصلاة بجمع.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعاً)].
قوله: [باب الصلاة بجمع].
أي: يجمع بين صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة ليلة يوم النحر؛ لأن الإنسان يدفع من عرفة إذا غابت الشمس ولا يصلي بعرفة المغرب والعشاء ولا بالطريق، وإنما يستمر في السير حتى يصل المزدلفة ويصلي بها المغرب والعشاء جميعاً.
لكن إذا تأخر الإنسان في السير أو حصل له مانع يمنعه من الوصول إلى مزدلفة قبل نصف الليل، فإنه يصلي المغرب والعشاء قبل منتصف الليل في الطريق؛ لأن الصلاة لا تؤخر عن وقتها، والإنسان إذا مشى من عرفة إلى مزدلفة فإن وصل إليها مبكراً في وقت المغرب جمع بين المغرب والعشاء جمع تقديم، وإن لم يصل إليها إلا بعد دخول وقت العشاء فإنه يجمع بين المغرب والعشاء جمع تأخير، وقد جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، كما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هذا الحديث: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعاً)] يعني: جمع بينهما، على خلاف ما كان معروفاً عنه في منى، فإنه كان يصلي كل صلاة في وقتها قصراً في الرباعية بدون جمع، وأما في عرفة فيجمع فيها بين الظهر والعصر جمع تقديم في أول الوقت، ويجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة إذا وصل إلى مزدلفة قبل نصف الليل، سواء وصل في وقت المغرب فيكون جمع تقديم، أو وصل في وقت العشاء فيكون جمع تأخير، ويكون ذلك بأذان واحد وإقامتين، كما حصل بالنسبة للظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين.
فالمقصود من قول أبي داود رحمه الله: [باب الصلاة بجمع] يعني: صلاة المغرب والعشاء.
وأما التطوع والتنفل فلا يشرع في تلك الليلة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام رقد بعد أن جمع بين المغرب والعشاء، ولكن الوتر لا يترك، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ على الوتر في الحضر والسفر، ولم يكن يحافظ على شيء في الحضر والسفر كما كان يحافظ على ركعتي الفجر والوتر صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(226/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعاً)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم بن عبد الله].
هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة وهم: عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير، هؤلاء هم العبادلة الأربعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام الذين اشتهروا بهذا اللقب، وكانوا من صغار الصحابة، وكانوا متقاربين في السن رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وهو أيضاً أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله الأنصاري وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين.(226/4)
شرح حديث الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا حماد بن خالد عن ابن أبي ذئب عن الزهري بإسناده ومعناه وقال: (بإقامة إقامة، جمع بينهما) قال أحمد: قال وكيع: (صلى كل صلاة بإقامة)].
أورد حديث ابن عمر من طريق أخرى وفيه زيادة: (بإقامة إقامة) يعني: جعل لكل صلاة إقامة، وأيضاً فيه أذان، كما جاء في بعض الأحاديث وكما جاء في حديث جابر بن عبد الله الذي وصف فيه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه بأذان وإقامتين، وهنا ذكر الإقامتين، وأن كل صلاة لها إقامة، تقام المغرب وتصلى ثم تقام صلاة العشاء وتصلى، والمغرب تصلى ثلاثاً والعشاء ركعتين؛ لأن الرباعية تقصر.
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد بن خالد].
حماد بن خالد ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن أبي ذئب].
هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري مر ذكره.(226/5)
شرح حديث الجمع بين الصلاتين بجمع وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا شبابة (ح) وحدثنا مخلد بن خالد المعنى، أخبرنا عثمان بن عمر عن ابن أبي ذئب عن الزهري -بإسناد ابن حنبل عن حماد ومعناه- قال: (بإقامة واحدة لكل صلاة، ولم يناد في الأولى، ولم يسبح على إثر واحدة منهما) قال مخلد: (لم يناد في واحدة منهما)].
أورد حديث ابن عمر رضي الله عنه وفيه: أنه صلى المغرب والعشاء، وأن كل واحدة منهما بإقامة، وأنه لم يناد لهما، وهذا النفي الذي جاء هنا قد جاء ما يدل على خلافه وهو الإثبات، وهو أنه حصل الأذان ثم الإقامة للمغرب ثم الإقامة للعشاء.
فالثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه نادى نداء واحداً لكل من الصلاتين.
قوله: [(ولم يسبح على إثر واحدة منهما)] يعني: لم يتنفل بعد المغرب ولم يتنفل بعد العشاء.
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجة.
[حدثنا شبابة].
هو شبابة بن سوار وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا مخلد بن خالد].
(ح) تعني التحول من إسناد إلى إسناد، ومخلد بن خالد ثقة أخرج له مسلم وأبو داود.
[أخبرنا عثمان بن عمر].
عثمان بن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي ذئب عن الزهري بإسناد ابن حنبل عن حماد].
مر ذكرهم.(226/6)
شرح حديث ابن عمر أنه صلى مع رسول الله المغرب والعشاء بمزدلفة بإقامة واحدة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن عبد الله بن مالك قال: (صليت مع ابن عمر رضي الله عنهما المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين، فقال له مالك بن الحارث: ما هذه الصلاة؟ قال: صليتهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المكان بإقامة واحدة)].
قوله: [(صليت مع ابن عمر المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين)] يعني: جمع بينهما، وكونه صلى المغرب ثلاثاً؛ لأن المغرب لا تقصر، وصلى العشاء ركعتين؛ لأنها رباعية فتقصر.
قوله: [(فقال له مالك بن الحارث: ما هذه الصلاة؟ قال: صليتهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المكان بإقامة واحدة)] إن كان المقصود أنها إقامة واحدة فهذا غير صحيح؛ لأن الذي جاء عنه وعن غيره أنها إقامتان، ويمكن أن يقال: إنها بإقامة واحدة لكل منهما، وبذلك يتفق هذا الحديث مع الروايات السابقة، ومع حديث جابر الذي وصف فيه حجة النبي عليه الصلاة والسلام، وذكر أنه صلى المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين.
ولما ذكر ابن القيم رحمه الله هذه المسألة -وهي مسألة الأذان الواحد والإقامتين- قال: إن الراجح أنها أذان واحد وإقامتان، وذلك من وجهين: الوجه الأول: أن حديث جابر رضي الله عنه جاء مثبتاً للأذان والإقامتين، والأحاديث التي سواه فيها اضطراب، فمرة يقال: إقامة، ومرة يقال: إقامتان، أما حديث جابر فإنه ذكر أنه صلى المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين.
الوجه الثاني: أن الحكم في صلاة المغرب والعشاء مثل الحكم في صلاة الظهر والعصر، وقد جاءت الأحاديث في صلاته لهما بأذان واحد وإقامتين، إذاً المغرب مع العشاء مثلها.
إذاً: الأذان الواحد والإقامتان هو القول الراجح؛ لأن حديث جابر ليس فيه اضطراب، ولأن الحكم في صلاة المغرب والعشاء كالحكم في صلاة الظهر والعصر، وقد حصل أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر في أول وقت الظهر بأذان واحد وإقامتين.(226/7)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر أنه صلى مع رسول الله المغرب والعشاء بمزدلفة بإقامة واحدة
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق].
هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن مالك].
عبد الله بن مالك مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي.
[قال صليت مع ابن عمر].
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مر ذكره.(226/8)
شرح حديث ابن عمر أنه صلى مع رسول الله المغرب والعشاء بمزدلفة من طريق ثانية وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا إسحاق -يعني ابن يوسف - عن شريك عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير وعبد الله بن مالك قالا: (صلينا مع ابن عمر رضي الله عنهما بالمزدلفة المغرب والعشاء بإقامة واحدة) فذكر معنى حديث ابن كثير].
وهذا مثل الذي قبله، يعني: إقامة واحدة لكل من الصلاتين حتى يكون متفقاً مع الأحاديث الصحيحة الواردة في حصول الإقامة لكل صلاة.
قوله: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري].
محمد بن سليمان الأنباري صدوق، أخرج له أبو داود وحده.
[حدثنا إسحاق يعني ابن يوسف].
هو إسحاق بن يوسف الأزرق وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شريك].
هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي، وهو صدوق يخطئ كثيراً واختلط لما ولي القضاء، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير].
أبو إسحاق مر ذكره، وسعيد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
الملقي: [وعبد الله بن مالك قالا: صلينا مع ابن عمر].
عبد الله بن مالك وابن عمر مر ذكرهما.(226/9)
شرح حديث ابن عمر أنه صلى مع رسول الله المغرب والعشاء بمزدلفة من طريق ثالثة وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن العلاء حدثنا أبو أسامة عن إسماعيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير قال: (أفضنا مع ابن عمر رضي الله عنهما، فلما بلغنا جمعاً صلى بنا المغرب والعشاء بإقامة واحدة، ثلاثاً واثنتين، فلما انصرف قال لنا ابن عمر: هكذا صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله عليه وسلم في هذا المكان)].
وهو مثلما تقدم، وفيه ذكر الإقامة، والكلام فيه كالكلام فيما تقدم.
قوله: [حدثنا ابن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو أسامة].
هو حماد بن أسامة البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسماعيل].
هو إسماعيل بن أبي خالد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عمر].
هؤلاء مر ذكرهم.(226/10)
شرح حديث ابن عمر أنه صلى مع رسول الله المغرب والعشاء بمزدلفة من طريق رابعة وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة حدثني سلمة بن كهيل قال: (رأيت سعيد بن جبير أقام بجمع فصلى المغرب ثلاثاً ثم صلى العشاء ركعتين، ثم قال: شهدت ابن عمر رضي الله عنهما صنع في هذا المكان مثل هذا، وقال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صنع مثل هذا في هذا المكان)].
وهو أيضاً مثلما تقدم، وفيه: أنه صلى المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين، وأنه أقام للمغرب ولم يذكر إقامة للعشاء، والكلام فيه كالكلام فيما قبله.
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنى سلمة بن كهيل].
سلمة بن كهيل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[رأيت سعيد بن جبير شهدت ابن عمر].
سعيد بن جبير وابن عمر مر ذكرهما.(226/11)
شرح حديث: (فلم يكن يفتر من التكبير والتهليل حتى أتينا المزدلفة) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا أبو الأحوص حدثنا أشعث بن سليم عن أبيه قال: (أقبلت مع ابن عمر رضي الله عنهما من عرفات إلى المزدلفة، فلم يكن يفتر من التكبير والتهليل حتى أتينا المزدلفة، فأذن وأقام، أو أمر إنساناً فأذن وأقام، فصلى بنا المغرب ثلاث ركعات، ثم التفت إلينا فقال: الصلاة، فصلى بنا العشاء ركعتين، ثم دعا بعشائه، قال: وأخبرني علاج بن عمرو بمثل حديث أبي عن ابن عمر، قال: فقيل لـ ابن عمر في ذلك، فقال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هكذا)].
حديث ابن عمر من طريق أخرى، وفيه ذكر الأذان، وأنه أقام المغرب ثم بعد ذلك قال: الصلاة، وصلى العشاء، لكن المحفوظ أنه بإقامة لكل من الصلاتين.
قوله: [(أقبلت مع ابن عمر من عرفات إلى المزدلفة فلم يكن يفتر من التكبير والتهليل)].
وهذا يدل على أن الإنسان وهو في طريقه من عرفة إلى مزدلفة يحمد الله ويهلله ويكبره ويلبيه أيضاً؛ لأن التلبية مستمرة إلى حين رمي جمرة العقبة، كل هذا وقت للتلبية، ولكن له أن يجمع بين التكبير والتحميد والتهليل والتلبية.
قوله: [حدثنا مسدد].
مر ذكره.
[حدثنا أبو الأحوص].
هو سلام بن سليم الحنفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أشعث بن سليم].
أشعث بن سليم هو ابن أبي الشعثاء وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أقبلت مع ابن عمر].
ابن عمر مر ذكره.
[قال: وأخبرني علاج بن عمرو بمثل حديث أبي].
علاج بن عمرو مقبول أخرج له أبو داود.(226/12)
شرح حديث: (ما رأيت رسول الله صلى صلاة إلا لوقتها إلا بجمع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد أن عبد الواحد بن زياد وأبا عوانة وأبا معاوية حدثوهم عن الأعمش عن عمارة عن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة إلا لوقتها إلا بجمع، فإنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصلى صلاة الصبح من الغد قبل وقتها)].
قوله: [(ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لوقتها إلا بجمع، فإنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع) هذا النفي ليس على إطلاقه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع بعرفة قبل ذلك، وكذلك فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمع في السفر، وأما في الحج فما جمع إلا في عرفة والمزدلفة، وكان يجمع إذا جد به السير، وقد جمع وهو مقيم، كما حصل ذلك في تبوك حيث كان نازلاً وصلى جامعاً بين الصلاتين؛ ليبين أن ذلك جائز للمسافر حتى ولو كان مقيماً، ولكن الأولى ألا يجمع الإنسان إلا في حال كون السير جاداً به.
إذاًَ: في هذا الحديث إثبات الجمع بين المغرب والعشاء.
قوله: [(وصلى صلاة الصبح من الغد قبل وقتها)] يعني: قبل وقتها المعتاد حيث إنه بعد الأذان كان يمكث مدة، وليس معنى ذلك أنه قبل طلوع الفجر، وإنما المقصود منه المبادرة إلى الصلاة بعد طلوع الفجر؛ لأن الناس كانوا موجودين معه فلا حاجة إلى الانتظار، إذاً: معنى قوله: (قبل وقتها) أي: المعتاد الذي هو في داخل الوقت؛ لأنه قبل ذلك يمكث بعد الأذان مدة ينتظر الناس، كما جاء في بعض الأحاديث في السحور في رمضان فقيل له: (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاة، قال: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية) يعني: بمقدار قراءة خمسين آية بين الأذان والإقامة.
أما قول مسدد: [حدثوهم] فمعناه: أنهم حدثوه هو وغيره وليس وحده، وهو الذي يعبرون عنه بأخبرنا وحدثنا.(226/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (ما رأيت رسول الله صلى صلاة إلا لوقتها إلا بجمع)
قوله: [حدثنا مسدد أن عبد الواحد بن زياد].
عبد الواحد بن زياد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأبا عوانة].
هو الوضاح بن عبد الله اليشكري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأبا معاوية].
هو محمد بن خازم الضرير الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمارة].
هو عمارة بن عمير وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن يزيد].
هو عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن مسعود].
هو عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(226/14)
شرح حديث (هذا قزح وهو الموقف وجمع كلها موقف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن آدم قال: حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن عياش عن زيد بن علي عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي رضي الله عنه قال: (فلما أصبح - يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وقف على قزح فقال: هذا قزح وهو الموقف، وجمع كلها موقف، ونحرت هاهنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم)].
في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه ذكر الصلاة بجمع وهي صلاة الفجر؛ لأن صلاة المغرب والعشاء ما ذكرت في هذا الحديث وإنما ذكرت في الأحاديث السابقة، ولكن الترجمة هنا هي [الصلاة بجمع] وهنا صلاة الصبح وهي بجمع.
قوله: [(فلما أصبح -يعني النبي عليه الصلاة والسلام- وقف على قزح)] قزح هو الجبل الذي كان يقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(هذا قزح وهو الموقف، وجمع كلها موقف)] يعني: ليس الأمر قاصراً على هذه البقعة التي أنا فيها بل جمع كلها موقف، وكذلك قال بعرفة أيضاً كما سبق: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف).
وقال بمنى: [(نحرت هاهنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم).
يعني: انحروا في منازلكم بمنى.
وقد عرفنا أن الذبح في أي مكان من منى سائغ، ولكن الذبح على وجه يؤذي الناس، وكون الإنسان يذبح الذبيحة ويتركها تنتن ويؤذي الناس بذلك فهذا لا يسوغ ولا يجوز.
ولا يطلق المشعر الحرام على الجبل الذي هو قزح، وإنما يطلق على مزدلفة كلها أنها المشعر الحرام.
أما مسألة الذهاب إلى الصخرات والوقوف عندها، والذهاب إلى قزح والوقوف عنده، وسلوك الطريق الوسطى التي تخرج إلى العقبة والمشي فيها، فهذا لا يفعل، وبعض الناس يذهب إلى الجبل الذي يسمى جبل الرحمة، والرسول صلى الله عليه وسلم ما فعل هذا، فعلى الإنسان أن يهون على نفسه ولا يتعب نفسه في الذهاب والإياب في عرفة، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (جمع كلها موقف)، فما دام أن عرفة كلها موقف وجمع كلها موقف فعلى الإنسان أن يريح نفسه من العناء والتعب والمشقة، وقد يحصل منه أمر لا يصلح، مثلما يحصل من بعض الناس الذين يذهبون في حر الشمس ويصعدون وينزلون في الجبل، وهذا ليس من السنة بل هو خلاف السنة، وشقوا على أنفسهم وأتعبوا أنفسهم.
أما الوقوف عند الصخرات في سفح الجبل فإنه لا يتيسر لكل أحد أن يأتي إليه، والإنسان إذا تيسر له فلا بأس، لكن لا يفعل المحذور الذي يفعله بعض الناس من الإيذاء بسبب الزحام وغيره، ولكن الحمد لله الأمر فيه سعة، جمع كلها موقف، وعرفة كلها موقف، ومنى كلها منحر والإنسان لا يشق على نفسه.(226/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (هذا قزح وهو الموقف وجمع كلها موقف)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن آدم].
يحيى بن آدم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن عياش].
هو عبد الرحمن بن الحارث بن عياش، وهو مقبول أخرج له أبو داود.
[عن زيد بن علي].
هو زيد بن علي بن الحسين وهو ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي وابن ماجة، وهو الذي تنسب إليه الزيدية.
[عن أبيه].
هو علي بن الحسين وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن أبي رافع].
عبيد الله بن أبي رافع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي].
علي رضي الله عنه أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(226/16)
شرح حديث: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (وقفت هاهنا بعرفة وعرفة كلها موقف، ووقفت هاهنا بجمع وجمع كلها موقف، ونحرت هاهنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم)].
في حديث جابر رضي الله عنه لم يتعرض لذكر الصلاة بجمع، ولكن فيه بيان الموقف في عرفة والمزدلفة، وفيه بيان النحر بمنى.(226/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا حفص بن غياث].
حفص بن غياث ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جعفر بن محمد].
جعفر بن محمد صدوق، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو محمد بن علي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(226/18)
شرح حديث: (وكل فجاج مكة طريق ومنحر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا أبو أسامة عن أسامة بن زيد عن عطاء قال: حدثني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كل عرفة موقف، وكل منى منحر، وكل المزدلفة موقف، وكل فجاج مكة طريق ومنحر)].
قوله: [(وكل فجاج مكة طريق ومنحر)] الفجاج: هي المنافذ التي بين الجبال، وكلها طريق، والإنسان له أن يدخل إلى مكة من أي جهة، ولكن المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حيث قدم من المدينة أتى من الثنية العليا وخرج من الثنية السفلى.
فقوله: [(وفجاج مكة كلها طريق ومنحر)] هذا يدل أيضاً على أن الذبح كما يكون بمنى فإنه يكون بمكة، وأنه لا بأس بذلك ولا مانع منه، وإن كان الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو في منى، ولكن من حيث الجواز فهو جائز وسائغ لهذا الحديث وغيره.(226/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (وكل فجاج مكة طريق ومنحر)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا أبو أسامة عن أسامة بن زيد].
أسامة بن زيد صدوق يهم أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عطاء].
هو عطاء بن أبي رباح المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني جابر بن عبد الله].
قد مر ذكره.(226/20)
شرح حديث: (كان أهل الجاهلية لا يفيضون حتى يروا الشمس على ثبير)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن كثير حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون أنه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (كان أهل الجاهلية لا يفيضون حتى يروا الشمس على ثبير، فخالفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدفع قبل طلوع الشمس)].
في حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ذكر أن أهل الجاهلية كانوا لا يفيضون من المزدلفة إلى منى إلا عندما يرون الشمس على ثبير، وهو جبل من الجبال العالية هناك، فكانوا إذا رأوا الشمس على ثبير وطلعت الشمس انصرفوا ودفعوا من مزدلفة إلى منى، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم خالفهم فدفع من مزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس.
وقد جاء في حديث جابر السابق: (حتى أسفر جداً) يعني: أنه اتضح النهار إلا أن الشمس لم تطلع، فهذا يدل على أن الدفع من مزدلفة إلى منى إنما يكون قبل طلوع الشمس.(226/21)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان أهل الجاهلية لا يفيضون حتى يروا الشمس على ثبير)
قوله: [حدثنا ابن كثير حدثنا سفيان].
مر ذكرهما.
[عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون].
أبو إسحاق مر ذكره، وعمرو بن ميمون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر بن الخطاب].
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(226/22)
التعجيل من جمع(226/23)
شرح حديث ابن عباس: (أنا ممن قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب التعجيل من جمع.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان أخبرني عبيد الله بن أبي يزيد أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (أنا ممن قدَّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله)].
قوله: [باب التعجيل من جمع].
يعني: مغادرة جمع في آخر الليل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلى بها الفجر في أول وقتها ووقف يدعو حتى أسفر جداً، ثم انصرف عليه الصلاة والسلام من مزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس، هذه هي السنة وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن المزدلفة يبات فيها ويصلى فيها الصبح، ويدعو الإنسان بعد صلاة الصبح، ويغادرها قبل طلوع الشمس، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام رخص للضعفة من النساء والصبيان أن ينصرفوا آخر الليل.
قوله: [(أنا ممن قّدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله) يعني: أنه رخص لهم في الانصراف آخر الليل، والترخيص لهم في الانصراف آخر الليل يدل على أن المبيت في مزدلفة واجب؛ لأنه لو لم يكن واجباً لما كان هناك حاجة إلى الترخيص، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم يبقى فيها إلى الصباح، بل من العلماء من قال: إنه ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به، فالأمر ليس بالهين.
ولكن الصحيح من أقوال أهل العلم أنه واجب، وأن الإنسان إذا تركه فعليه فدية وهي شاة يذبحها في مكة ويوزعها على فقراء الحرم، وإن لم يستطع صام عشرة أيام مكانها.
إذاً: ينبغي ألا يتساهل في مسألة المبيت في مزدلفة، بل على الإنسان أن يبيت بها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصلي بها المغرب والعشاء والفجر ويدعو ويكثر من الدعاء، وينصرف منها قبل طلوع الشمس، ولكن كون النبي صلى الله عليه وسلم رخص لبعض أصحابه -وهم الضعفة من النساء والصبيان- أن ينصرفوا آخر الليل يدل على جوازه وأن ذلك سائغ، وهو دال أيضاً على وجوب المبيت بمزدلفة؛ لأن الترخيص يدل على الوجوب.(226/24)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس: (أنا ممن قدّم رسول الله ليلة المزدلفة في ضعفة أهله)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان].
أحمد بن حنبل مر ذكره، وسفيان بن عيينة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عبيد الله بن أبي يزيد].
عبيد الله بن أبي يزيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنه سمع ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس وقد مر ذكره.(226/25)
شرح حديث ابن عباس: (أُبينيّ! لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثني سلمة بن كهيل عن الحسن العرني عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (قدمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات، فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: أُبينيَّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) قال أبو داود: اللطح: الضرب اللين].
حديث ابن عباس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهم أن ينصرفوا، وكانوا أغيلمة، تصغير غلمان، وكانوا على حمر فجعل يلطح أفخاذهم -وهو الضرب الخفيف اللين يداعبهم ويقول: (أبيني) وهو مأخوذ من الأبناء.
قوله: [(لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس)] هذا الحديث يدل على أن الرمي يكون بعد طلوع الشمس وأنه لا يكون قبلها.
وبعض أهل العلم تكلم في هذا الحديث من جهة إسناده، وقالوا: إن العرني لم يسمع من ابن عباس، وحديثه عنه مرسل، ولكنه جاء من طرق أخرى وأيضاً لا تسلم من مقال، ولكن قد صححه بعض أهل العلم.
وجاء عن بعض الذين قدمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رموا قبل طلوع الفجر، فهذا يدل على أن الرمي جائز في آخر الليل إذا انصرفوا، ولكن كون الرمي يكون بعد طلوع الشمس هو الأولى والأفضل.
قوله: [(فجعل يلطح أفخاذنا)].
يعني: يضربها ضرباً ليناً، وهو بذلك يداعبهم ويؤنسهم صلى الله عليه وسلم.
أما كون الأقوياء الذين ذهبوا مع محارمهم يرمون بعد طلوع الشمس والضعفة يجوز لهم الرمي قبل طلوع الفجر فلا وجه للتفرقة، وأنه لا بأس بأن يرمي الأقوياء مع الضعفاء قبل الفجر، لكن الأولى ألا يرمون إلا بعد طلوع الشمس، وإذا رموا قبل ذلك فقد صح رميهم.(226/26)
تراجم رجال إسناد حديث (أُبينيّ! لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثني سلمة بن كهيل عن الحسن العرني].
هو الحسن بن عبد الله العرني، وهو ثقة أرسل عن ابن عباس، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن ابن عباس].
ابن عباس قد مر ذكره.(226/27)
شرح حديث: (كان رسول الله يقدم ضعفاء أهله بغلس ويأمرهم لا يرمون الجمرة حتى تطلع الشمس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا الوليد بن عقبة قال: حدثنا حمزة الزيات عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقدم ضعفاء أهله بغلس ويأمرهم، يعني لا يرمون الجمرة حتى تطلع الشمس)].
قوله: [(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم ضعفاء أهله بغلس)] يعني: في آخر الليل.
قوله: [(ويأمرهم لا يرمون الجمرة حتى تطلع الشمس)] هذا الحديث مثل الذي قبله من ناحية أنه دل على ما دل عليه الذي قبله، إلا أن فيه حبيب بن أبي ثابت وهو كثير التدليس وقد روى بالعنعنة، ولكن إذا ضم بعضهما إلى بعض يتقوى هذا بهذا، ولكن الأمر كما قلت: إنه يحمل على الاستحباب؛ لأن الذي حصل من أهله الذين قدمهم أنهم رموا قبل طلوع الفجر، فهذا يدل على الجواز.(226/28)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان رسول الله يقدم ضعفاء أهله بغلس ويأمرهم لا يرمون الجمرة حتى تطلع الشمس)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة مر ذكره.
[حدثنا الوليد بن عقبة].
الوليد بن عقبة صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا حمزة الزيات].
هو حمزة بن حبيب الزيات وهو صدوق ربما وهم، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن حبيب بن أبي ثابت].
حبيب بن أبي ثابت ثقة كثير التدليس والإرسال، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء عن ابن عباس].
عطاء وابن عباس قد مر ذكرهما.(226/29)
شرح حديث (أرسل النبي بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا ابن أبي فديك عن الضحاك -يعني ابن عثمان - عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بـ أم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعني عندها)].
قولها: [(أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بـ أم سلمة ليلة النحر)].
أي: مع الذين تقدموا من الضعفة.
قولها: [(فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعني عندها) أي: تلك الليلة كانت نوبتها عند النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدل على أن من رخص له أن ينصرف آخر الليل له أن يرمي قبل الفجر، وهو يدل على الجواز، وما جاء في حديث ابن عباس المتقدم من الطريقين أن الرمي لا يكون إلا بعد طلوع الشمس إنما يدل على الاستحباب.
كذلك الإفاضة قبل الفجر جائزة لمن رخص له في الانصراف من آخر الليل، أي: لهم أن يرموا ولهم أن يذهبوا إلى مكة وأن يطوفوا طواف الإفاضة.(226/30)
تراجم رجال إسناد حديث (أرسل النبي بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر)
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هو هارون بن عبد الله الحمال البغدادي وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا ابن أبي فديك].
هو محمد بن إسماعيل بن مسلم وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الضحاك يعني: ابن عثمان].
الضحاك بن عثمان صدوق يهم، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عروة بن الزبير، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(226/31)
شرح حديث أسماء أنها رمت الجمرة قبل طلوع الفجر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن خلاد الباهلي حدثنا يحيى عن ابن جريج أخبرني عطاء أخبرني مخبر عن أسماء رضي الله عنها: (أنها رمت الجمرة، قلت: إنا رمينا الجمرة بليل، قالت: إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
قوله: [(أنها رمت الجمرة، قلت: إنا رمينا الجمرة بليل، قالت: إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) هذا يدل على ما دل عليه حديث أم سلمة المتقدم من أن الذين رخص لهم في الانصراف لهم أن يرموا قبل طلوع الفجر، ولهذا قالت: (كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم).(226/32)
تراجم رجال إسناد حديث أسماء أنها رمت الجمرة قبل طلوع الفجر
قوله: [حدثنا محمد بن خلاد الباهلي].
محمد بن خلاد الباهلي ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى القطان.
[عن ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عطاء].
هو عطاء بن أبي رباح.
[أخبرني مخبر].
هذا المخبر هو مولى لـ أسماء، جاء في بعض الأسانيد أنه مولى لها واسمه عبد الله بن كيسان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أسماء].
هي أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(226/33)
شرح حديث: (أفاض رسول الله وعليه السكينة وأمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان حدثني أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: (أفاض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليه السكينة، وأمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف، وأوضع في وادي محسر)].
في حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض من مزدلفة إلى منى وعليه السكينة، وقد سبق أنه كان في طريقه من عرفة إلى مزدلفة شنق الزمام، وأن دابته ما رفعت يديها عادية ومسرعة، وأنه كان يقول للناس: (السكينة السكينة، ليس البر بإيجاف الخيل وليس البر بالإيضاع)، ولما جاء محسراً أسرع، ومحسر هو الوادي الذي بين مزدلفة ومنى، وهو الذي حبس فيه الفيل الذي جيء به لهدم الكعبة، فهو موطن عذاب، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسرع في مواطن العذاب وهذا منها، ولما ذهب إلى تبوك ومر بديار ثمود قنع رأسه وأسرع السير حتى تجاوز صلى الله عليه وسلم تلك المنطقة.(226/34)
تراجم رجال إسناد حديث: (أفاض رسول الله وعليه السكينة وأمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان حدثني أبي الزبير].
أبو الزبير هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما وقد مر ذكره.
وهذا من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود، فبين أبي داود وبين النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أشخاص وهم: محمد بن كثير وسفيان الثوري وأبو الزبير وجابر بن عبد الله الأنصاري.(226/35)
الأسئلة(226/36)
حكم من لم يطف طواف الإفاضة يوم النحر
السؤال
من لم يطف طواف الإفاضة يوم النحر حتى غربت عليه الشمس، هل يعود محرماً كما كان في الصباح؟
الجواب
جاء في حديث تكلم فيه بعض أهل العلم، وهو مخالف للأحاديث الأخرى الدالة على أن الإنسان إذا تحلل صار حلالاً، وقد سبق أن مر بنا قول أبي داود: إذا تنازع الخبران نظرنا فيما أخذ به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكون الإنسان يصير حلالاً وأنه لا يعود إلى إحرامه إذا غربت الشمس هو الذي عليه الصحابة وغير الصحابة.(226/37)
حكم من لم تجد محرماً في الحج مع القدرة المالية والبدنية
السؤال
إذا لم يوجد للمرأة محرم هل يسقط عنها الحج مع أنها قادرة مالياً؟
الجواب
نعم؛ لأن من شروط وجوب الحج عليها وجود المحرم ولو كانت غنية، فليس لها أن تحج وليس لها أن تحجج عن نفسها، وإنما إذا يسر الله لها وجود محرم بأن تزوجت وهي غنية وحج بها زوجها، أو هي أنفقت على زوجها ليصحبها، فإنها تؤدي ما فرض الله عليها، وإلا فإن الحج ليس بواجب عليها ما دام أنه ليس لها محرم.(226/38)
حكم الصلاة في مسجد أمامه مقبرة منفصلة عنه
السؤال
يوجد في قريتي مسجد وأمامه مقبرة، فهل تصح الصلاة فيه مع أن المقبرة منفصلة؟
الجواب
إذا كانت المقبرة منفصلة فإن الصلاة تصح فيه، وإنما المحظور أن تكون المقبرة في المسجد أو من جملة المسجد، وأما إذا كان المسجد منفصلاً والمقبرة منفصلة فتصح الصلاة فيه.(226/39)
وجه حمل قول ابن عمر: (بإقامة واحدة) على أنه أذان واحد
السؤال
ما جاء في حديث ابن عمر: (بإقامة واحدة) ألا يمكن أن يحمل على أذان واحد؟
الجواب
لا يحمل على أذان واحد، وإنما الإقامة إقامة والأذان أذان، والإقامة يطلق عليها أذان؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة) لكن الذي يبدو أن المقصود بها الإقامة، ولهذا جاء في بعض الروايات: (بإقامة إقامة)، وهذا هو الذي جعل ابن القيم يقول: إن حديث ابن عمر مضطرب؛ لأنه مرة يقول: (إقامة) ومرة يقول: (بإقامة إقامة)، ومرة يقول: (بأذان) ومرة يقول: بكذا.
ثم قال: وحديث جابر هو الذي ليس فيه اضطراب وإنما فيه الأذان والإقامتان.(226/40)
اختلاف الكفارات باختلاف المحظورات في الإحرام
السؤال
ارتكبت محظوراً من محظورات الإحرام فهل يكفي أن أدفع ستين ريالاً لستة مساكين؟
الجواب
المحظور يختلف؛ لأن هناك محظوراً تكون فيه الكفارة المخير فيها بين ذبح شاة أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين، وهناك من المحظورات يكون فيها شاة وليس هنا تخيير بينها وبين غيرها، ليس فيها إلا الدم، وإن عجز صام عشرة أيام، فلا أدري هل سؤاله هذا هو من قبيل ما يكون فيه الإطعام، أي: إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، يعني تسعة كيلو تقسم على ستة مساكين، هذه كفارة الحلق أو كفارة اللبس، أما أن يدفع نقوداً فلا، بل الطعام يقدم طعاماً ولا يقدم نقوداً.(226/41)
حكم نحر الإنسان هديه بنفسه
السؤال
هل من السنة أن ينحر الإنسان هديه بنفسه؟
الجواب
إذا كان الإنسان يستطيع أن يذهب إلى المجزرة ويشتري ذبيحة سمينة ويذبحها بنفسه ويأخذ لحمها ويوزعه ولا يضيع منه شيئاً فهذا شيء طيب، والرسول صلى الله عليه وسلم نحر بيده ثلاثاً وستين بدنة كما سبق في حديث جابر رضي الله عنه، وإن لم يتمكن فليوكل غيره.(226/42)
حكم التنظف والاغتسال في الميقات
السؤال
هل الأفضل للإنسان أن يتنظف ويغتسل في الميقات ويعتبر ذلك من السنة؟
الجواب
الأمر في ذلك واسع، وكون الإنسان يفعل ذلك عندما يسافر ويتهيأ ويستعد وينوي من الميقات فذلك سائغ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كما هو معلوم جلس في الميقات يوماً وليلة، لكن كون الإنسان يكون على مهل وعلى سعة في الاغتسال وتهيئة نفسه في بيته فهذا هو الذي ينبغي.(226/43)
أين يصلي المغرب والعشاء من لم يصل إلى مزدلفة إلا بعد نصف الليل
السؤال
إذا لم يصل الحجاج إلا بعد منتصف الليل بعد الدفع من عرفة إلى مزدلفة، ولا يستطيعون إيقاف السيارة للنزول للصلاة وهم على غير وضوء فماذا يفعلون؟
الجواب
الواجب عليهم أن يعملوا على إيقاف السيارة، لكن لا يقفون في الشارع وسط الطريق، هذا هو الذي لا يمكنون منه، وإنما يدخلون في أي مكان من مزدلفة، ومزدلفة واسعة جداً تكفي للناس كلهم وليس فيها ضيق، فعليهم أن يتوضئوا وألا يصلوا بالتيمم؛ لأن الماء موجود بمزدلفة وعليهم أن يبحثوا عنه بمزدلفة، وأن يتوضئوا ويصلوا ولا يؤخروا الصلاة عن نصف الليل، وإنما ينزلون في الطريق ويصلون.(226/44)
أداء العمرة في أشهر الحج
السؤال
هل هناك أفضلية في أداء العمرة في أشهر الحج؟
الجواب
الفضل جاء في رمضان، والنبي صلى الله عليه وسلم كانت عمره كلها في ذي القعدة وهي من أشهر الحج، ولا شك أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك في شهر ذي القعدة وهو من أشهر الحرم يدل على فضل ذلك.(226/45)
ضابط قول العلماء: هذه حادثة عين
السؤال
ما هو الضابط لمسألة قضية العين، كقول العلماء: هذه حادثة عين لا عموم لها؟
الجواب
حادثة العين إذا كانت خاصة بشخص معين لا يبنى عليها حكم عام؛ لأنها قضية عين لا عموم لها، لكن كما هو معلوم إذا كانت هذه القضية خاصة وليس هناك شيء يدل على التخصيص، فإن هذا يدل على أن هذا تشريع، مثل الرجل الذي قبل امرأة أجنبية ونزل قول الله عز وجل: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فقال: ألي هذا وحدي؟ قال عليه السلام: (بل لأمتي كلها) فدل هذا على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص الأسباب.
لكن ذكر حادثة العين يأتون بها إذا جاءت على وجه لا يتكرر، أو يوجد هناك نصوص تدل على خلافه، مثل قضية رضاع الكبير فهذه حادثة عين وقضية عين، ولا يقال: إن كل كبير يرضع من امرأة ثم يكون ولداً لها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء عنه ما يدل على أن الرضاعة من المجاعة، وأن الرضاعة في الحولين، وأن المقصود بالرضاعة هو الذي يفيد، وأما رضاع الكبير فغير سائغ؛ إلا ما كان من أمر سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه، فهذه قضية عين وحادثة عين.
ولو كان ذلك سائغاً لأمكن كل امرأة لا تريد زوجها أن تتخلص منه بأن تحلب من ثديها ثم تسقيه، وبعد ذلك تقول: أنا حرام عليك؛ لأنك ابني من الرضاعة.
أما كون كثير من النساء تأخذ طفلاً وتربيه فإذا كبر وقد شغف قلبها به ترضعه بعد الكبر فهذا لا يصح؛ لأن الرضاعة من المجاعة، لكن لو أنها عندما أخذته وهو صغيراً أرضعته لصار ابناً لها من الرضاعة ولكانت المحرمية موجودة، والاحتجاج بقصة سالم مولى أبي حذيفة غير صحيح؛ لأنها حادثة عين، وهي خاصة به.(226/46)
صفة إحرام الصبي
السؤال
هل الصبي الذي لم يميز هل يلبس في إحرامه إزاراً ورداء أم أنه يحرم بما شاء من الثياب؟
الجواب
الصبي الذكر مثل الذكر الكبير يعمل مثل ما يعمل الكبار، يلبس إزاراً ورداء ويعامل معاملة المحرمين الكبار.
السؤال
ما حكم النية للصغير حين الطواف والسعي؟ وهل تكفي نية الكبير عنه وعن الطفل؟
الجواب
ينوي عنه وعن الطفل؛ لأن الكل وجد منه الدوران حول الكعبة؛ وذلك لحديث المرأة التي رفعت صبياً وقالت: (ألهذا حج يا رسول الله؟! قال: نعم ولك أجر) فهذا يكون محمولاً.
ومعلوم أن غير المميز ينوي عنه وليه ويعامل معاملة الكبير.(226/47)
الصبي ينوي عنه وليه
السؤال
هل الصبي الذي لم يميز هل يلبس في إحرامه إزاراً ورداء أم أنه يحرم بما شاء من الثياب؟
الجواب
الصبي الذكر مثل الذكر الكبير يعمل مثل ما يعمل الكبار، يلبس إزاراً ورداء ويعامل معاملة المحرمين الكبار.
السؤال
ما حكم النية للصغير حين الطواف والسعي؟ وهل تكفي نية الكبير عنه وعن الطفل؟
الجواب
ينوي عنه وعن الطفل؛ لأن الكل وجد منه الدوران حول الكعبة؛ وذلك لحديث المرأة التي رفعت صبياً وقالت: (ألهذا حج يا رسول الله؟! قال: نعم ولك أجر) فهذا يكون محمولاً.
ومعلوم أن غير المميز ينوي عنه وليه ويعامل معاملة الكبير.(226/48)
كيف تخرج الزكاة عن المال الذي مضى عليه سنوات غير معلومة
السؤال
عندي مال وجبت زكاته منذ فترة، لكن لا أعرف كم مضى عليه من السنوات، سنة أو سنتان فماذا أصنع؟
الجواب
يقطع الشك باليقين ويخرج الزكاة عن السنوات التي يكون مستيقناً أنه أدى ما عليه، فإذا كان متردداً بين سنتين أو ثلاث فليجعلها ثلاثاً، وكونه يجعلها ثلاثاً يقطع الشك باليقين ويؤدي ما عليه، وإن كان الواقع أنها ثلاث فقد أدى ما عليه، وإن كان الواقع أنها ثنتان فإن الثالثة يكون ثوابها وأجرها له، بخلاف لو أخذ بالشيء الأدنى فإنه قد يبقى عليه شيء مما هو واجب.
إذاً: الذي ينبغي للإنسان أن يفعل الذي يعتقد أن ذمته برئت بذلك، وإذا كان الإنسان قد ادخر شيئاً لا يبلغ النصاب فليس عليه زكاة حتى يبلغ النصاب، فإذا بلغ النصاب وصار يزيد بعد ذلك فإنه يزكيه، وإذا كانت المبالغ التي يضيفها في شهر معين تبلغ النصاب فإنه إذا حال الحول عليها يزكيها في ذلك الشهر، وإن أراد أن يجعل له وقتاً معيناً من السنة يزكي ما هو موجود فله أن يفعل ذلك.(226/49)
حكم من استمنى في نهار رمضان جاهلاً بالحكم
السؤال
استمنيت في نهار رمضان وأنا لا أعرف الحكم فماذا علي الآن؟
الجواب
كيف لا يعرف أن هذا محرم؟ وكيف لا يسأل أهل العلم إذا كان جاهلاً؟ والله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5 - 6].
والإنسان الذي فعل ذلك عليه أن يتوب إلى الله عز وجل، ويقضي ذلك اليوم الذي أفسده.(226/50)
حج أهل الجاهلية بين الابتداع والاتباع
السؤال
هل حجُّ أهل الجاهلية مبتدع من عندهم أم كان من بقايا دين سابق؟
الجواب
الذي يبدو أن فيه شيئاً من بقايا دين سابق وفيه أمور مبتدعة، فمثل الوقوف بعرفة فإنه من ميراث إبراهيم، ولكن كون قريش لا يقفون بعرفة قد خالفوا دين إبراهيم، وكذلك بقاؤهم في مزدلفة وكونهم لا ينصرفون من مزدلفة إلا بعد طلوع الشمس وبعد أن يروا الشمس على الجبل، وكانوا يقولون: (أشرق ثبير كيما نغير)، وهذا يدل على أنه من فعل الجاهلية.
إذاً: هناك أشياء من أعمال الجاهلية موجودة وهي من ميراث الأنبياء كالوقوف بعرفة ومزدلفة، وهذا الذي جاء بأنهم كانوا لا ينصرفون إلا إذا طلعت الشمس على ثبير هذا من الأمور المحدثة؛ لأنه لو كان مشروعاً لما خالفه الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم خالفه وجعله من فعل الجاهلية، وليس من ميراث الأنبياء.(226/51)
حكم من دفع من مزدلفة قبل صلاة الفجر
السؤال
ما حكم من وقف بمزدلفة مدة ثم غادرها قبل صلاة الفجر؟
الجواب
إذا كان قد غادرها قبل صلاة الفجر وفي آخر الليل فإنه ليس عليه شيء؛ لأنه وجد الترخيص في الجملة في المغادرة في آخر الليل من مزدلفة إلى منى، فإذا كان هذا قد وقع فلا ينبغي للإنسان أن يعود إليها إذا كان ليس من الضعفة، والذي قد مضى ليس فيه شيء إن شاء الله.(226/52)
النساء من الضعفة الذين يجوز لهم أن ينصرفوا من مزدلفة آخر الليل
السؤال
ما حد الضعفاء الذين رخص لهم في الانصراف من مزدلفة في آخر الليل، هل يدخل فيه عموم النساء ولو كانت شابة؟
الجواب
النساء كلهن شابات وغيرهن يدخلن في الضعفاء.(226/53)
حكم النحر بمزدلفة
السؤال
ما حكم النحر في مزدلفة؟
الجواب
الذي ورد أنه في منى وفي مكة.(226/54)
الضابط في معرفة الركن من الواجب في الحج وغيره
السؤال
ما هو الضابط لمعرفة الركن من الواجب في الحج وغيره؟
الجواب
الأركان هي التي لابد من الإتيان بها، ولو لم يأت بها الإنسان فإنه يعتبر لم يؤد ذلك الفرض الذي عليه.(226/55)
شرح سنن أبي داود [227]
يوم الحج الأكبر هو يوم النحر، وذلك لأنه تجتمع فيه أكثر أعمال الحج والتي هي: الرمي والنحر والحلق والطواف، والأشهر الحرم هي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، ومن لم يدرك الوقوف بعرفة فقد فاته الحج.(227/1)
يوم الحج الأكبر(227/2)
شرح حديث: (هذا يوم الحج الأكبر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: يوم الحج الأكبر.
حدثنا مؤمل بن الفضل حدثنا الوليد حدثنا هشام -يعني: ابن الغاز - حدثنا نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم النحر، قال: هذا يوم الحج الأكبر)].
قوله: [باب يوم الحج الأكبر].
أي: يوم الحج الأكبر هو يوم النحر، وهو يوم عيد الأضحى، وهو العاشر من شهر ذي الحجة، هذا هو يوم الحج الأكبر.
ومن أهل العلم من يقول: إنه يوم عرفة، ولكن الأحاديث واضحة الدلالة على أن المراد به يوم النحر الذي هو اليوم العاشر من شهر ذي الحجة.
وقيل له: الحج الأكبر؛ لأنه يجتمع فيه عدة أعمال من أعمال الحج التي هي الرمي والنحر والحلق والطواف والسعي لمن كان عليه سعي بعد طواف، فهذه الأعمال إنما تكون يوم النحر يوم الحج الأكبر.
قوله: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم النحر، قال: هذا يوم الحج الأكبر)] هذا دليل على تعيين هذا اليوم، فقد سبق أن مر بنا الحديث الذي هو: (خير الأيام يوم الحج الأكبر ثم يوم القر) الذي هو اليوم الحادي عشر، فهذا فيه دلالة على أن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر وأن هذا أرجح ما قيل في ذلك؛ بدلالة الأحاديث في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها كذلك المناداة التي حصلت في ذلك اليوم يوم الحج الأكبر بـ: (ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان).
فالحاصل أن الأدلة دلت على أن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر.(227/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (هذا يوم الحج الأكبر)
قوله: [حدثنا مؤمل بن الفضل].
هو مؤمل بن الفضل الحراني وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا الوليد].
هو الوليد بن مسلم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام يعني: ابن الغاز].
هشام بن الغاز ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن.
[حدثنا نافع].
هو نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(227/4)
شرح حديث أبي هريرة: (بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس أن الحكم بن نافع حدثهم حدثنا شعيب عن الزهري حدثني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: (بعثني أبو بكر رضي الله عنه فيمن يؤذن يوم النحر بمنى: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان)، ويوم الحج الأكبر يوم النحر، والحج الأكبر الحج].
قوله: (بعثني أبو بكر) هذا كان في السنة التاسعة عندما حج بالناس أبو بكر رضي الله عنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(فيمن يؤذن يوم النحر: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان)] كان أهل الجاهلية والكفار يحجون، فجاء النهي ألا يحج بعد ذلك العام الذي هو في السنة التاسعة التي جاءوا فيها مشرك وألا يطوف بالبيت عريان، كما كان يفعله بعض الناس في الجاهلية، فقد كانوا يطوفون بالبيت عراة، فهذا كذلك يمنع؛ حتى تأتي السنة التي بعدها ولا يحصل شيء من ذلك، وهي السنة التي حج فيها النبي عليه الصلاة والسلام، فيكون عندما يأتي إلى الحج وقد طهرت مكة من الكفار الذين يأتون إلى الحج، وكذلك من الذين كانوا يتعرون وهم يطوفون، وهذه من أعمال الجاهلية فبعد هذا العام لا تُفْعَل، وتكون حجة النبي صلى الله عليه وسلم سليمة من أن يجد شيئاً من ذلك فيها.
قوله: [(ويوم الحج الأكبر يوم النحر)] هذا فيه دلالة لما ترجم له المصنف من أن يوم النحر هو يوم الحج الأكبر.
قوله: [(والحج الأكبر الحج)].
قيل: إن هذا في مقابل العمرة؛ لأنها الحج الأصغر، وكون الحج الأكبر في ذلك اليوم فهذا يعني تمامه وكماله، وأن الإنسان في ذلك اليوم يأتي بالأمور المتعددة التي منها ما هو ركن ومنها ما هو واجب، الركن الذي هو الطواف والسعي بعده لمن كان عليه سعي، والأمور الأخرى التي هي الرمي والحلق فهذه من الأمور الواجبة، أما النحر فإنه واجب على المتمتعين والقارنين، وأما المفردون فإنه لا هدي عليهم، وعلى هذا فإن الأربعة الأعمال التي هي: الرمي والنحر والحلق والطواف ثلاثة منها لازمة على جميع الحجاج، وهي: الرمي والحلق أو التقصير والطواف والسعي لمن كان عليه سعي كالمتمتعين أو القارنين والمفردين الذين لم يسعوا مع طواف القدوم.
وأما النحر فليس على الحجاج جميعاً؛ لأن من الحجاج من لا نحر عليهم وهم المفردون، وأما القارنون والمتمتعون فإنه يجب عليهم الهدي وهي شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة.(227/5)
تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة: (بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[أن الحكم بن نافع].
الحكم بن نافع هو أبو اليمان وهو مشهور بكنيته ويذكر بكنيته دون اسمه، وهنا ذكر باسمه بدون كنيته وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعيب].
هو شعيب بن أبي حمزة الحمصي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني حميد بن عبد الرحمن].
هو حميد بن عبد الرحمن بن عوف وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن أبا هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(227/6)
الأشهر الحرم(227/7)
شرح حديث: (إن الزمان قد استدار كهيئته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الأشهر الحرم.
حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن محمد عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب في حجته فقال: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم: ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)].
قوله: [باب الأشهر الحرم].
الأشهر الحرم هي أربعة من أشهر السنة: ثلاثة متوالية وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد منفرد في أثناء السنة وهو رجب، أما الثلاثة فإنها متوالية واحد منها شهر الحج وواحد قبله وواحد بعده، وكان أهل الجاهلية يحرمون القتال فيها ويستعظمونه، وكانوا إذا أرادوا أن يقاتلوا في شهر حرام أخروا حرمة ذلك الشهر إلى غيره، فمثلاً: يستحلون القتال في شهر محرم ويحرمون صفر مكانه، وهذا الفعل كانوا يسمونه النسيء، يقول عز وجل: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37] فكانوا يعظمون الأشهر الحرم، ولكنهم كان يحتالون فيها بتأخير حرمتها إلى غيرها، وقيل: إنه عند تغيرهم لها اختلطت عليهم الشهور، فصاروا لا يميزون بعضها من بعض؛ ولهذا جاء في الحديث: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض) يعني: رجع ترتيب الشهور إلى ما كان عليه الترتيب الذي كان موجوداً قبل أن يحصل النسيء وكما كانت يوم خلق الله السماوات والأرض، وهذا الرجوع كان في السنة التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
والخطأ الذي كان موجوداً بسبب النسيء والاختلاط الذي حصل من أهل الجاهلية قد زال بإخبار النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض) وهذا قد يحصل لبعض الناس فتختلط عليهم الأيام، ففي فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه قصة عجيبة فيها اختلاط الأيام على الناس، وهو أن جماعة من أهل قرية التبست عليهم الأيام فصلوا الجمعة يوم الخميس يظنون أنها الجمعة، ولما جاء الغد كان هناك أناس يأتون عادة من الأطراف ليصلوا الجمعة، فلما جاءوا إليهم يوم الجمعة قال الذين صلوا الجمعة يوم الخميس: بل الجمعة أمس، وقال هؤلاء: بل الجمعة اليوم وليست أمس، فكتبوا للشيخ يستفتونه، فأفتاهم بأن يعيدوا الصلاة التي صلوها يوم الخميس جمعة وأن يعيدوها ظهراً.
الحاصل: أن اختلاط الأيام واختلاط الشهور قد يحصل، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن هذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: [(إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر) سمي رجب مضر لأن مضر كانوا يعظمونه.
قوله: ((الذي بين جمادى وشعبان) بعد إضافته إلى مضر ذكر أيضاً أنه الشهر الذي يكون بين جمادى وشعبان، هذه هي الأشهر الحرم.
وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن القتال الذي كان محرماً فيها قد نسخ، وقال بعض أهل العلم: إنه لا يزال تعظيم القتال في أشهر الحرم محكماً غير منسوخ، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام معلوم أنه غزا الطائف وحنيناً في أشهر الحرم؛ لأنه بعد الفتح وكان ذلك في شهر ذي القعدة وهو أول أشهر الحرم.
أما علاقة الأشهر الحرم بأشهر الحج: فإن أشهر الحج تتداخل مع الأشهر الحرم في بعضها؛ لأن أشهر الحج سبعون يوماً شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، هذه أشهر الحج، وأما الأشهر الحرم فهي الثلاثة التي هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الفرد، فشهر ذي القعدة من الأشهر الحرم ومن أشهر الحج، والعشر الأول من ذي الحجة هي من أشهر الحرم ومن أشهر الحج، وأما شوال فهو من أشهر الحج وليس من أشهر الحرم، ومحرم وبقية شهر ذي الحجة هي من الأشهر الحرم وليست من أشهر الحج.(227/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن الزمان قد استدار كهيئته)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا إسماعيل].
هو إسماعيل بن علية وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد].
هو محمد بن سيرين وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بكرة].
هو نفيع بن الحارث رضي الله عنه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(227/9)
طريق أخرى لحديث: (إن الزمان قد استدار كهيئته) وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فياض حدثنا عبد الوهاب حدثنا أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن ابن أبي بكرة عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه].
أورد المصنف رحمه الله حديث أبي بكرة رضي الله عنه من طريق أخرى، وأحال على الذي قبله وهو أنه متفق بالمعنى، وإن كان يختلف معه في الألفاظ.
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فياض].
محمد بن يحيى بن فياض ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الوهاب].
هو عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أيوب السختياني عن محمد بن سيرين].
قد مر ذكر الاثنين.
[عن ابن أبي بكرة].
هو عبد الرحمن بن أبي بكرة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بكرة].
أبو بكرة رضي الله عنه مر ذكره.
[قال أبو داود: وسماه ابن عون فقال: عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة في هذا الحديث].
يعني: أنه جاء تسميته في سند آخر وأنه عبد الرحمن؛ لأنه كان في الحديث الأول مبهماً وهنا مسمى.
[وسماه ابن عون].
هو عبد الله بن عون وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(227/10)
حكم من لم يدرك عرفة(227/11)
شرح حديث: (الحج يوم عرفة من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من لم يدرك عرفة.
حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان حدثني بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة، فجاء ناس أو نفر من أهل نجد فأمروا رجلاً فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف الحج؟ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فنادى: الحج الحج يوم عرفة، من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع فتم حجه، أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه, قال: ثم أردف رجلاً خلفه فجعل ينادي بذلك).
قال أبو داود: وكذلك رواه مهران عن سفيان قال: (الحج الحج) مرتين، ورواه يحيى بن سعيد القطان عن سفيان قال: (الحج) مرة].
قوله: [باب من لم يدرك عرفة].
يعني: من لم يدرك الوقوف بعرفة فقد فاته الحج, والوقوف فيها يستمر إلى طلوع الفجر من ليلة العيد, فإذا طلع الفجر والإنسان لم يصل إلى عرفة فإنه قد فاته الحج هذا العام، ويتحول إلى عمرة, ويتحلل.
والحج له زمان ومكان, له مكان هو عرفة, فلا بد من الوقوف فيها, وله زمان هو يوم عرفة, وليلة العيد إلى طلوع الفجر, فمن لم يصل إلى عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة العيد, فإنه قد فاته الحج؛ لأن له نهاية وله غاية.
وأما الأركان الأخرى مثل: طواف الإفاضة، فإنه ليس له وقت محدد فلا يفوت بوقت من الأوقات، بل يمكن أن يفعل في أي وقت.
ولو أن إنساناً نسي طواف الإفاضة ومضى عليه أشهر، فإنه يمكن أن يأتي به، وأما الوقوف بعرفة فإن له أمداً ينتهي عنده وهو طلوع الفجر.
كذلك هناك مكان للوقوف بعرفة, فلا يجوز للإنسان أن يقف خلف عرفة, ولو وقف خارج عرفة لم يحصل منه وقوف, وكذلك الزمان وهو يوم عرفة وليلة العيد إلى طلوع الفجر, فإذا طلع الفجر ولم يصل إلى عرفة -ولو جاء من أقصى الدنيا- فاته الحج.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث عبد الرحمن بن يعمر رضي الله عنه قال: [(أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة، فجاء ناس أو نفر من أهل نجد فأمروا رجلاً فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف الحج؟ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فنادى: الحج الحج يوم عرفة)].
يعني: أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينادي حتى يسمع الناس ويرفع صوته: الحج الحج يوم عرفة.
ومعنى ذلك: أن أهم أعمال الحج أو الشيء الذي له أمد ينتهي ولا يمكن أن يتدارك هو يوم عرفة، أما غيرها من الأمور الأخرى مثل الطواف والسعي فإنها تتدارك أو فاتت ولو نسيت، ولكن الوقوف لو ذهب زمانه فإنه لا مجال لتداركه.
قوله: (الحج الحج يوم عرفة) فيه إشارة إلى أهميته وعظم شأنه؛ لأنه الركن الذي لا بد منه, حيث إنه الركن الذي يفوت الحج بفواته؛ لأن له أمداً محدداً وزمناً محدداً.
قوله: (من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع فتم حجه).
يعني: من جاء إلى عرفة قبل صلاة الصبح من ليلة مزدلفة فقد تم حجه، وذلك قبل طلوع الفجر, ويسقط عنه المبيت بمزدلفة، ومن جاء بعد ذلك فقد فاته الحج ويتحول إلى عمرة، فيطوف ويسعى ويقصر ويتحلل.
قوله: [(أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه)].
يعني: أيام منى ثلاثة أيام وهي أيام التشريق, وليس منها يوم العيد؛ لأن يوم العيد ليس من أيام منى الثلاثة المعدودة، التي من تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه.
والأيام الثلاثة هي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، هذه أيام منى التي قال الله تعالى عنها: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203] يعني: الحادي عشر والثاني عشر، فإذا رمى الجمار بعد الزوال من اليوم الثاني، وأراد أن يتعجل فله أن يتعجل، ومن أراد أن يتأخر إلى اليوم الثالث عشر فله ذلك، والتأخر إلى اليوم الثالث عشر أكمل وأفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله, وفيه زيادة مبيت ليلة وفيه رمي الجمار من الغد، والنبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك, ولكن التعجل سائغ وجائز.
فهذه هي أيام منى التي قال الله تعالى عنها: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203] وليس يوم العيد من الثلاثة الأيام، ولذلك بعض الناس ينفرون يوم الحادي عشر, وهذا لا يجوز؛ لأن الأيام الأربعة هي: يوم النحر، ويوم القر، وهو يوم الحادي عشر، وسمي بيوم القر لأن الناس مستقرون في منى، لا يخرج أحد من منى، بل لا بد من المبيت ليلة الثاني عشر في منى، أما اليوم الثاني عشر فهو يوم النفر الأول، من أراد أن ينفر فيه بعد الزوال والرمي فله ذلك، أما اليوم الثالث عشر فهو يوم النفر الثاني.
فقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203] المراد بذلك الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، ويوم العيد ليس معها.
قوله: (ثم أردف رجلاً خلفه فجعل ينادي بذلك)].
يعني: جعل ينادي بهذا الذي قاله صلى الله عليه وسلم: [(من جاء إلى عرفة قبل صلاة الفجر ليلة جمع فتم حجه، وأيام منى ثلاثة)].(227/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (الحج يوم عرفة من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان الثوري، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني بكير بن عطاء].
بكير بن عطاء ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي].
عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه صحابي جليل، أخرج له أصحاب السنن.
[قال أبو داود: وكذلك رواه مهران عن سفيان قال: (الحج الحج) مرتين].
هو مهران بن أبي عمر العطار، وهو صدوق له أوهام سيء الحفظ، أخرج له أبو داود في المراسيل وابن ماجه.
قوله: [ورواه يحيى بن سعيد القطان عن سفيان قال: (الحج) مرة].
يعني: يحيى بن سعيد القطان روى عن سفيان الثوري وقال: (الحج) يعني: مرة واحدة الحج عرفة.(227/13)
شرح حديث: (من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن إسماعيل حدثنا عامر أخبرني عروة بن مضرس الطائي رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموقف -يعني: بجمع- قلت: جئت يا رسول الله من جبل طيء، أكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه)].
أورد أبو داود حديث عروة بن مضرس رضي الله عنه وكان قد جاء من طيء، وجاء متأخراً، ولكنه كان يقف في الأماكن كلها، يعني: ما ترك حبلاً من الحبال إلا وقف عليه، والحبل هو التل من الرمل وعرفة فيها شيء من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه).
يعني: أن من أدرك الوقوف بعرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه، ويبقى الشيء الذي لا يفوت، مثل الطواف والسعي والأعمال الأخرى.
يقول بعض أهل العلم: إن الوقوف بمزدلفة ركن من أركان الحج، ويستدلون على ذلك بحديث عروة بن مضرس هذا، حيث قال فيه: (من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه) لكن الحديث الذي سبق أن مر: (من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع فتم حجه) فهذا يدل على أن الركن هو عرفة، لكن أمر مزدلفة لا يستهان به؛ لأن بعض أهل العلم قال بركنيته، والركن لا يتم الحج إلا به، لكن القول الصحيح أنه ليس بركن وإنما هو واجب.
قوله: (وقضى تفثه)، يعني: قضى الأشياء التي يطلب منه أن يأتي بها، كتقليم الأظفار وحلق الرأس، وما إلى ذلك من الأشياء التي يباح للإنسان أن يأتي بها بعدما يكون قد أدى ما هو مطلوب منه، ولكن كما هو معلوم إنما يكون ذلك بعد الرمي.(227/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسماعيل].
هو إسماعيل بن أبي خالد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عامر].
هو عامر بن شراحيل الشعبي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عروة بن مضرس].
هو عروة بن مضرس الطائي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب السنن.(227/15)
شرح سنن أبي داود [228]
يجب على جميع الحجاج أن يبيتوا بمنى أيام التشريق، يومين للمتعجل وثلاثة أيام للمتأخر، ومن كان به عذر ولا يستطيع المبيت بمنى فله أن يبيت خارجها، ويلحق بأهل السقاية والرعاة، ويستحب للإمام أن يخطب بمنى خطبة يبين فيها أحكام الحج ويبين للحجاج ما يلزم بيانه لهم.(228/1)
النزول بمنى(228/2)
شرح حديث: (خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس بمنى ونزلهم منازلهم…)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب النزول بمنى.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن حميد الأعرج عن محمد بن إبراهيم التيمي عن عبد الرحمن بن معاذ رضي الله عنه عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس بمنى، ونزلهم منازلهم، فقال: لينزل المهاجرون هاهنا، وأشار إلى ميمنة القبلة، والأنصار هاهنا، وأشار إلى ميسرة القبلة، ثم لينزل الناس حولهم)].
قوله: [باب النزول بمنى].
يعني: بعدما يأتي الحجاج من عرفة ومن مزدلفة ينزلون بمنى ويستقرون فيها، ويكون ذلك في يوم العيد وأيام التشريق: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر لمن أراد أن يتأخر.
وأبو داود رحمه الله أورد حديث رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أنه صلى الله عليه وسلم خطب الناس بمنى، ونزلهم منازلهم، وأمر بأن يكون المهاجرون عن ميمنة القبلة، والأنصار عن ميسرتها، وسائر الناس تبعاً لهم، وذلك في مسجد الخيف، وجاء في رواية: أن المهاجرين كانوا أمام القبلة وعلى ميمنتها، والأنصار على ميسرة القبلة وراء المسجد.
ومعنى ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين للناس هذه المنازل، وأمر عليه الصلاة والسلام الناس أن ينزلوا بمنى وأن يبيتوا ليالي التشريق بمنى.
والنزول بمعنى في النهار مطلوب، ولكن في النهار يمكن للإنسان أن يذهب ويأتي ولا يترتب على عدم بقائه في النهار شيء، وأما في الليل فإنه يجب المبيت؛ لأنه يترتب على عدم مبيته لزوم الفدية.
أما عن الحكمة من هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم: فلعل النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكون المهاجرون على حدة، ويكون الأنصار على حدة، بحيث تعرف مساكن المهاجرين وتعرف مساكن الأنصار.(228/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس بمنى ونزلهم منازلهم…)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد الأعرج].
حميد الأعرج ليس به بأس، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إبراهيم التيمي].
محمد بن إبراهيم التيمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن معاذ].
عبد الرحمن بن معاذ صحابي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أبو داود والنسائي.
[عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم].
المجهول في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ثقة؛ لأن جهالة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لا تؤثر.(228/4)
اليوم الذي يخطب فيه بمنى(228/5)
شرح حديث: (رأينا رسول الله يخطب بين أوسط أيام التشريق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب أي يوم يخطب بمنى.
حدثنا محمد بن العلاء حدثنا ابن المبارك عن إبراهيم بن نافع عن ابن أبي نجيح عن أبيه عن رجلين من بني بكر قالا: (رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بين أوسط أيام التشريق، ونحن عند راحلته، وهي خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي خطب بمنى)].
أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر، وخطبهم في أوسط أيام التشريق كما جاء هنا، وأوسط أيام التشريق هو اليوم الثاني عشر.
قوله: [عن رجلين من بني بكر قالا: (رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بين أوسط أيام التشريق ونحن عند راحلته، وهي خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي خطب بمنى)].
هذان الرجلان من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، رأيا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب وهم عند راحلته قريبون منه، وكان ذلك في أوسط أيام التشريق.(228/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (رأينا رسول الله يخطب بين أوسط أيام التشريق)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم بن نافع].
إبراهيم بن نافع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي نجيح].
هو عبد الله بن أبي نجيح وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو يسار المكي، وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن رجلين من بني بكر].
يعني: من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.(228/7)
شرح حديث: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرءوس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عاصم حدثنا ربيعة بن عبد الرحمن بن حصن حدثتني جدتي سراء بنت نبهان رضي الله عنها، وكانت ربة بيت في الجاهلية قالت: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرءوس، فقال: أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: أليس أوسط أيام التشريق؟).
قال أبو داود: وكذلك قال عم أبي حرة الرقاشي: (إنه خطب أوسط أيام التشريق)].
ذكر المصنف رحمه الله حديث سراء بنت نبهان رضي الله عنها قالت: [(خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرءوس، فقال: أي يوم هذا؟)] سمي يوم الرءوس لأنهم كانوا يأكلون رءوس الأضاحي فيه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم خطبهم في أوسط أيام التشريق الذي هو يوم الرءوس.(228/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرءوس)
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
محمد بن بشار هو الملقب بـ بندار البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو عاصم].
هو الضحاك بن مخلد أبو عاصم النبيل وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ربيعة بن عبد الرحمن بن حصن].
ربيعة بن عبد الرحمن بن حصن مقبول، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد، وأبو داود.
[حدثتني جدتي سراء بنت نبهان].
سراء بنت نبهان أخرج حديثها البخاري في خلق أفعال العباد وأبو داود.
[قال عم أبي حرة الرقاشي].
أبو حرة مشهور بكنيته، واسمه حنيفة، وقيل: اسمه حكيم، وهو ثقة أخرج له أبو داود.
وعمه اسمه حذيم بن حنيفة السعدي، صحابي أخرج له النسائي وحده.
وأبو حرة هذا هو ابن أخيه، ذكر في التقريب لكن في المبهمات.(228/9)
خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر(228/10)
شرح حديث: (رأيت النبي يخطب الناس على ناقته العضباء يوم الأضحى بمنى) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من قال: خطب يوم النحر.
حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا هشام بن عبد الملك حدثنا عكرمة حدثني الهرماس بن زياد الباهلي رضي الله عنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على ناقته العضباء يوم الأضحى بمنى)].
قوله: [باب من قال: خطب يوم النحر].
وأورد فيه حديث الهرماس بن زياد الباهلي رضي الله عنه قال: [(رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على ناقته العضباء يوم الأضحى بمنى)].
فيه إثبات الخطبة في يوم النحر.
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هو هارون بن عبد الله الحمال البغدادي وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا هشام بن عبد الملك].
هو أبو الوليد الطيالسي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وأبو داود يروي عنه بواسطة وبغير واسطة، وهنا روى عنه بواسطة، لكن كثيراً ما يروي عنه أبو داود بدون واسطة.
[حدثنا عكرمة].
هو عكرمة بن عمار وهو صدوق يغلط، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني الهرماس بن زياد الباهلي].
الهرماس بن زياد الباهلي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج حديثه أبو داود والنسائي.(228/11)
شرح حديث: (سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى يوم النحر) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مؤمل -يعني ابن الفضل الحراني - حدثنا الوليد حدثنا ابن جابر حدثنا سليم بن عامر الكلاعي قال: سمعت أبا أمامة يقول: (سمعت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى يوم النحر)].
أورد أبو داود حديث أبي أمامة صدي بن عجلان رضي الله عنه قال: [(سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى يوم النحر)] وهذا يدل على أنه خطب يوم النحر صلى الله عليه وسلم.
قوله: [حدثنا مؤمل يعني ابن الفضل الحراني حدثنا الوليد حدثنا ابن جابر].
هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سليم بن عامر الكلاعي].
سليم بن عامر الكلاعي ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[سمعت أبا أمامة].
هو صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(228/12)
خطب الحج
الخطب في الحج في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت في يوم عرفة، وفي يوم النحر، وفي اليوم الثاني عشر أوسط أيام التشريق، لكن المعروف الآن والمشهور خطبة عرفة فقط؛ فهي التي فيها الصلاة بالناس والخطبة، لكن في هذا الزمان يوجد في مسجد الخيف كلمات كثيرة وخطب فيها توجيهات وبيان للمناسك وما إلى ذلك.(228/13)
وقت الخطبة في يوم النحر(228/14)
شرح حديث: (رأيت رسول الله يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب أي وقت يخطب يوم النحر؟ حدثنا عبد الوهاب بن عبد الرحيم الدمشقي حدثنا مروان عن هلال بن عامر المزني حدثني رافع بن عمرو المزني رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء وعلي رضي الله عنه يعبر عنه، والناس بين قاعد وقائم)].
قوله: [باب أي وقت يخطب يوم النحر].
ذكر فيما مضى يوم النحر، كما في حديث أبي أمامة وغيره، وهنا أراد أن يبين وقت الخطبة من النهار، فأورد حديث رافع بن عمرو المزني قال: [(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حيث ارتفع الضحى على بغلة شهباء)].
أي: في الساعة التي يصلي فيها الضحى، وكان على بغلة شهباء.
قوله: [(وعلي رضي الله عنه يعبر عنه)].
أي: كان رضي الله عنه يبلغ كلام النبي صلى الله عليه وسلم حتى يصل إلى الناس البعيدين؛ وذلك لكثرتهم.
قوله: [(والناس بين قاعد وقائم)].
يعني: كان بعضهم قائمين وبعضهم قاعدين يستمعون الخطبة.(228/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (رأيت رسول الله يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى)
قوله: [حدثنا عبد الوهاب بن عبد الرحيم الدمشقي].
عبد الوهاب بن عبد الرحيم الدمشقي صدوق أخرج له أبو داود.
[حدثنا مروان].
هو مروان بن معاوية الفزاري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هلال بن عامر المزني].
هلال بن عامر المزني ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثني رافع بن عمرو المزني].
رافع بن عمرو المزني رضي الله عنه، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.(228/16)
ما يذكر الإمام في خطبته بمنى(228/17)
شرح حديث: (خطبنا رسول الله ونحن بمنى ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا فطفق يعلمهم مناسكهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يذكر الإمام في خطبته بمنى.
حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن حميد الأعرج عن محمد بن إبراهيم التيمي عن عبد الرحمن بن معاذ التيمي رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى، فَفُتِحَتْ أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا، فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار، فوضع أصبعيه السبابتين، ثم قال: بحصى الخذف، ثم أمر المهاجرين فنزلوا في مقدم المسجد، وأمر الأنصار فنزلوا من وراء المسجد، ثم نزل الناس بعد ذلك)].
قوله: [باب ما يذكر الإمام في خطبته بمنى].
لما ذكر فيما مضى الأيام التي يخطب فيها أتى بهذه الترجمة لبيان المواضيع التي جاءت في الخطب.
وقد أورد حديث عبد الرحمن بن معاذ رضي الله عنه قال: [(خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى ففتحت أسماعنا)] يعني: أن الله تعالى فتح أسماعهم حتى بلغهم صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا في أماكن بعيدة، بل كان منهم من يكون في رحله، وهذه من معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أن الله تعالى يبلغ صوته للناس عن بعد، وهذا -كما هو معلوم- يحصل في بعض الخطب، وفي بعضها لا يحصل؛ لأن الحديث الذي مر سابقاً أن علياً رضي الله عنه كان يبلغ الناس، وهنا الصوت يصل إلى الناس جميعاً، حتى الذين في رحالهم ولم يأتوا ليصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ويحضروا خطبته وصل إليهم صوت النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(فطفق يعلمهم مناسكهم)] يعني: جعل يعلمهم المناسك وما هو مطلوب منهم.
قوله: [(حتى بلغ الجمار فوضع أصبعيه السبابتين ثم قال: بحصى الخذف)] يعني: حتى بلغ في الخطبة إلى ذكر ما يتعلق بحصى الجمار، فأشار أنها مثل حصى الخذف، وأنها تكون حين يرمي بها بين الأصابع.
وحصى الخذف: هو حجر صغير فوق الحمص ودون البندق، أي: مثل نواة التمر تقريباً.
وليس معنى ذلك أن حصى الخذف ترمى بين السبابتين وإنما ترمى بيد واحدة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين حصى الخذف الذي يكون بالأصابع؛ لأن الحجر الكبير لا يرمى بالأصابع وإنما يرمى بها الحجارة الصغيرة، وهذا ليس بياناً لكيفية الرمي وإنما هو بيان لحصى الخذف.
قوله: [(ثم أمر المهاجرين فنزلوا في مقدم المسجد، وأمر الأنصار فنزلوا من وراء المسجد، ثم نزل الناس بعد ذلك)].
وهذا لا ينافي ما تقدم من كون هؤلاء كانوا عن ميمنة القبلة وهؤلاء عن مسيرتها، فإن معناه: أن المهاجرين في مقدمة القبلة مع الميمنة وأولئك في ميسرتها مع المؤخرة.(228/18)
تراجم رجال إسناد حديث: (خطبنا رسول الله ونحن بمنى ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا فطفق يعلمهم مناسكهم)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد الأعرج عن محمد بن إبراهيم التيمي عن عبد الرحمن بن معاذ التيمي].
هؤلاء مر ذكرهم.(228/19)
حكم المبيت بمكة ليالي منى(228/20)
شرح حديث ابن عمر: (أما رسول الله فبات بمنى وظل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب يبيت بمكة ليالي منى.
حدثنا أبو بكر محمد بن خلاد الباهلي حدثنا يحيى عن ابن جريج حدثني حريز -أو أبو حريز الشك من يحيى - أنه سمع عبد الرحمن بن فروخ يسأل ابن عمر رضي الله عنهما قال: (إنا نتبايع بأموال الناس فيأتي أحدنا مكة فيبيت على المال، فقال: أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فبات بمنى وظل)].
قوله: [باب يبيت بمكة ليالي منى].
يعني: ما حكم المبيت بمكة ليالي منى؟ والجواب عن هذا: أن من كان معذوراً كالذين يسقون الحجاج ومن كان في حكمهم كالرعاة فلهم أن يتركوا المبيت بمنى، وأما غيرهم فعليهم أن يبيتوا بمنى، والنبي صلى الله عليه وسلم بات بمنى، وأذن للرعاة والسقاة وغيرهم أن يبيتوا خارج منى، أما من ليس في حكمهم فليس له أن يبيت خارج منى.
وعلى هذا فإن المبيت بمكة ليالي منى لا يسوغ إلا لمن كان معذوراً، ولمن رخص له مثل الترخيص للسقاة؛ لأن هؤلاء وأمثالهم هم الذين يمكن أن يبيتوا بمكة، وأما غيرهم من الحجاج فإن الأصل في المبيت أن يكون بمنى، ويجب أن يكون الحاج أغلب الليل في منى، كأن يكون في مكة في أول الليل ثم يأتي إلى منى ويكون فيها أكثر الليل، المهم أن يكون في منى أكثر الليل وأغلب الليل؛ لأن المبيت واجب، ولو كان غير واجب لما احتيج إلى أن يُستَأذن في تركه للسقاة والرعاة، فهذا الاستئذان يدل على أنه واجب.
قوله: [سمع عبد الرحمن بن فروخ يسأل ابن عمر رضي الله عنهما قال: (إنا نتبايع بأموال الناس فيأتي أحدنا مكة فيبيت على المال، فقال: أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فبات بمنى وظل).
] أخبر ابن عمر لما سئل أنهم كانوا يتبايعون ويجلسون في مكة من أجل المال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بات بمنى ليلاً ومكث بها نهاراً، فكلمة (بات) تدل على الليل، وكلمة (ظل) تدل على النهار.
فمعنى ذلك أن مكان مكثه في الليل والنهار عليه الصلاة والسلام إنما هو منى.
لكن كما عرفنا أن النهار لو ذهب والإنسان ليس في منى فلا يترتب عليه شيء، وأما المبيت لو ذهب وليس هو في منى، فإنه يترتب عليه شيء، إلا من أذن له كالسقاة والرعاة، وكذلك من في حكمهم، مثل المسئولين عن الشئون الصحية وما إلى ذلك من الأمور التي يحتاج الناس فيها إليهم.
والحديث في إسناده رجل مجهول، لكن كما عرفنا أن المبيت بمنى مطلوب، وأن الإنسان إذا تركه وهو غير معذور فإنه يكون عليه فدية، وأما من كان معذوراً بالأعذار التي جاء ذكرها في السنة فليس عليه شيء.(228/21)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر: (أما رسول الله فبات بمنى وظل)
قوله: [حدثنا أبو بكر محمد بن خلاد الباهلي].
أبو بكر محمد بن خلاد الباهلي ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا يحيى عن ابن جريج].
يحيى مر ذكره، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني حريز أو أبو حريز].
حريز أو أبو حريز رجل مجهول، أخرج له أبو داود.
[الشك من يحيى].
يعني: الذي قال: حريز أو أبو حريز هو يحيى شيخ شيخ أبي داود.
[يسأل ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر وقد مر ذكره.(228/22)
شرح حديث: (استأذن العباس رسول الله أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير وأبو أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (استأذن العباس رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فأذن له)].
أورد المصنف رحمه الله حديث ابن عمر قال: [(استأذن العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له)] وهذا يدل على أن بعض الحجاج يمكن أن يرخص لهم في ترك المبيت بمنى، كالذين هم بحاجة إلى خدمة الحجاج في أماكن أخرى؛ كرعاية الإبل، أو الشرط الذين يحتاج إليهم في الأعمال الأخرى، وكذلك أهل الطب الحجاج الذين يحتاج لهم في أماكن أخرى، فإنهم في حكم هؤلاء.
والاستئذان في ترك المبيت بمنى يدل على وجوب المبيت لغير أصحاب الأعذار.(228/23)
تراجم رجال إسناد حديث: (استأذن العباس رسول الله أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجة.
[حدثنا ابن نمير].
هو عبد الله بن نمير وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأبو أسامة].
هو حماد بن أسامة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم العمري المصغر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
مر ذكره.(228/24)
الأسئلة(228/25)
حكم من ترك المبيت في ليالي منى
السؤال
من ترك المبيت في منى في الثلاث الليالي فهل تجب عليه فدية واحدة أو ثلاث؟
الجواب
تجب عليه فدية واحدة، سواء ترك المبيت في الليالي الثلاث أو ليلة واحدة، وكذلك الجمرات من ترك واحدة فعليه فدية، ومن تركها كلها فعليه فدية.(228/26)
وجه الارتباط بين الحج وزيارة المسجد النبوي
السؤال
هل هناك ارتباط بين الحج وزيارة المسجد النبوي؟ وهل الزائر يمكث أياماً معلومة؟
الجواب
ليس هناك ارتباط، فيمكن أن يسافر الإنسان من بلده للحج ويرجع إلى بلده دون أن يأتي إلى المدينة، ويمكن أن يأتي الإنسان من بلده للمدينة وزيارة هذا المسجد ويرجع دون أن يحج، فلا ارتباط بين هذا وهذا، بل يمكن أن ينشئ لهذا سفراً مستقلاً ولهذا سفراً مستقلاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى).
أما بالنسبة للزائر فليس هناك أيام معلومة يمكث فيها في المدينة، بل الأمر في ذلك واسع، والصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة فكلما زاد فهو خير، ولكنه ليس مقيداً بأيام ولا بصلوات معلومة، والحديث الذي ورد أنه (يصلي أربعين صلاة) أي: ثمانية أيام، غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الثابت عنه عليه الصلاة والسلام أن الصلاة فيه بألف صلاة، أي: أن الصلاة فيه خير من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام، وإذا كان الإنسان سيذهب من المدينة إلى مكة، فسينتقل من مكان الصلاة فيه بألف إلى مكان الصلاة فيه بمائة ألف صلاة.(228/27)
متى يسعى المفرد والقارن
السؤال
الحاج المفرد إذا عاد من عرفة في يوم النحر، هل يطوف طواف الإفاضة ويسعى أم يطوف فقط؟
الجواب
إذا كان قد سعى مع القدوم فإنه لا يسعى مع الإفاضة، وإن كان لم يدخل مكة إلا بعد الحج فلا بد بعد الطواف من السعي؛ لأن المفرد عليه سعي واحد، وعليه طواف واحد وهو طواف الإفاضة، وكذلك القارن إذا دخل مكة قبل الحج وطاف طواف القدوم فله أن يسعى مع القدوم.
إذاً: القارنون والمفردون إذا سعوا مع القدوم فلا يسعون مع الإفاضة، أما إذا لم يكونوا دخلوا مكة إلا بعد الحج فيتعين عليهم أن يسعوا بعد طواف الإفاضة.(228/28)
حكم تأخير طواف الإفاضة والسعي مع طواف الوداع
السؤال
هل يصح أن يؤخر المرء طواف الإفاضة مع طواف الوداع وكذلك السعي؟
الجواب
لا بأس، له ذلك، لكن ينوي الإفاضة ويسافر بعده؛ لأن المقصود بالوداع أن يكون آخر عهده بالبيت.
أما السعي فإن كان متمتعاً فعليه سعي بعد طواف الإفاضة، وإن كان قارناً أو مفرداً فإن كان سعى مع القدوم فليس عليه سعي، وإن كان لم يدخل مكة إلا بعد الحج أو أنه طاف القدوم ولم يسع للإفاضة، فإنه يسعى بعد الحج، فإذا طاف وسعى وغادر بعد ذلك فإنه يكون آخر عهده بالبيت؛ لأن السعي تابع للطواف.(228/29)
حكم من نوى الإفراد ثم تحول بعد الإحرام إلى التمتع
السؤال
شخص نوى أن يحج مفرداً عند الميقات، وبعد قدومه مكة نصحه أحد أقرانه أن يحول حجه إلى حجة تمتع، فسعى وطاف وتحلل، ثم عندما جاء يوم التروية أحرم بالحج من مقامه بمكة، فهل فعله هذا صحيح؟
الجواب
نعم، هذا هو العمل الصحيح، إذا دخل الإنسان في القران أو الإفراد ولم يسق هدياً فإن الأولى في حقه أن يتحول إلى عمرة ويكون متمتعاً، فيطوف ويسعى ويقصر ويتحلل، وفي اليوم الثامن يحرم بالحج من منزله بمكة، أو من منى إن كان نازلاً بمنى، وعليه هدي تمتع.(228/30)
حكم لبس الساعة والحزام والخاتم والنظارات للمحرم
السؤال
ما حكم لبس الساعة والحزام للمحرم؟
الجواب
لا بأس بهما، الساعة والخاتم والحزام والنظارات، كل هذه لا بأس بها.(228/31)
خطأ القول بأن الإفراد في الحج خاص بأهل مكة
السؤال
ما مدى صحة القول بأن الإفراد خاص بأهل مكة؟
الجواب
هذا ليس بصحيح, بل أهل مكة لهم أن يتمتعوا ولهم أن يقرنوا، ولهم أن يفردوا، وليس الإفراد خاصاً بأهل مكة, بل الإفراد والقران والتمتع كلها لهم ولغيرهم.(228/32)
حكم الإحرام بالحج من جدة لمن جاء إليها للعمل
السؤال
رجل جاء من بلده للعمل في جدة, وسيسمح له في وقت الحج بأداء فريضة الحج, فهل يلزمه الإحرام من الميقات, أم يجوز له الإحرام من جدة؟
الجواب
إذا جاء في أشهر الحج وهو عالم بأنه سيمكن من الحج, فمعنى هذا أنه لا يتجاوز الميقات إلا وقد أحرم.
بمعنى: أنه إذا قدم من بلده إلى جدة وهو يعلم أنه سيمكن من الحج، فإنه يحرم بعمرة من الميقات ويدخل مكة ويطوف ويسعى ويقصر، ويرجع إلى جدة ويعمل بها, فإذا جاء وقت الحج يحرم بالحج ويكون متمتعاً, وإن كان لا يدري هل سيسمح له أو لا, وهو لا يريد عمرة في هذا السفر، فله أن يذهب إلى جدة, وبعد ذلك إن سمح له بالحج أحرم في وقت الحج، وإن لم يسمح له فإنه يبقى دون أن يحرم.(228/33)
سبب طواف بعض أهل الجاهلية عراة
السؤال
لماذا يطوف أهل الجاهلية وهم عراة؟
الجواب
هكذا شأن بعض أهل الجاهلية كانوا يفعلون ذلك, ولا أدري ما وجه ذلك, لكنه ثابت كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعلن هذا الإعلان: (ألا يحج بعد العام مشرك, ولا يطوف بالبيت عريان).(228/34)
مقدار الوقوف المجزئ بعرفة
السؤال
ما مقدار الوقوف المجزئ بعرفة؟
الجواب
أقل شيء ولو لحظة في عرفة فإنه يجزئ.(228/35)
حكم الاستراحة في الطواف للمريض ومن يرافقه
السؤال
أنا شخص لا أقدر على الطواف بسبب المرض, فهل يجوز لي أن أطوف وأجلس قليلاً ثم بعد ذلك أكمل؟ وهل يجوز أن تجلس معي زوجتي التي ترافقني في الطواف؟
الجواب
يجوز للإنسان إذا تعب في الطواف أن يجلس ويستريح, وله أن يركب، وله أن يطوف محمولاً, له هذا وله هذا, وزوجته التي معه لا بأس أن تبقى معه.(228/36)
حكم من نام أثناء الوقوف بعرفة
السؤال
إذا نام الحاج وقت الوقوف بعرفة، فهل عليه شيء؟
الجواب
الإنسان في عرفة يحرص على أن يكون متنبهاً وأن يكون يقظاً، وأن يحذر من أن يضيع ذلك الوقت عليه في نوم أو في غفلة أو سهو, ولهذا شرع للحجاج أن يكونوا في عرفة مفطرين لا أن يكونوا صائمين؛ وذلك ليكون أنشط لهم, وأبعد عن الكسل، ومعلوم أن كون الإنسان ينام أربعاً وعشرين ساعة في يوم عرفة وليلة عرفة وليلة مزدلفة، فهذا يعتبر ما وجد منه الحج, لكن كونه يكون مستيقظاً ولو لحظة واحدة في وقت الوقوف فإنه يعتبر قد وقف.(228/37)
حكم تمتع من أتى بعمرة في أشهر الحج ثم خرج من الحرم
السؤال
إذا أتى رجل بعمرة في أشهر الحج فهل يكون متمتعاً؟
الجواب
إذا جاء الإنسان من بلده وأتى بعمرة في أشهر الحج، ومكث في مكة أو مكث في أماكن أخرى ولم يرجع إلى بلده فإنه يكون متمتعاً, أما إذا رجع إلى بلده فقد انقطع تمتعه, وإذا أراد أن يتمتع فعليه أن يأتي بعمرة أخرى عندما يسافر من بلده إلى الحج.
إذاً: الإنسان إذا رجع إلى بلده الذي هو قاطن فيه ومستقر فيه فإنه ينقطع التمتع، أما لو جاء من بلده إلى مكة ثم ذهب إلى الرياض أو ذهب إلى الطائف أو ذهب إلى المدينة، فلا يعتبر خروجه من الحرم قاطعاً لتمتعه بل هو متمتع؛ لأنه جاء إلى الحج وسفره واحد، ولكنه إذا أراد أن يمر بالميقات فعليه أن يدخل محرماً ولا يجوز أن يدخل بدون إحرام، فإن أحرم بالحج فهو على تمتعه، وإن أحرم بعمرة فيطوف ويسعى ويتحلل ثم يحرم بالحج يوم الثامن، وهذا أفضل، فيكون معه عمرتان وحج، وليس عليه إلا هدي واحد الذي هو هدي التمتع.(228/38)
حكم المرأة إذا حاضت قبل طواف الإفاضة
السؤال
إذا حاضت في الحج وهي لم تطف طواف الإفاضة، ويصعب عليها الانتظار حتى تطهر، فهل لها أن تطوف وهي حائض؟
الجواب
ليس لها أن تطوف وهي حائض بل عليها أن تنتظر، وإذا كان يصعب عليها الانتظار ومن السهل أن تسافر ثم ترجع، فإنها تسافر وترجع وهي باقية على إحرامها، لكن لا يجامعها زوجها إذا كان لها زوج، وإذا طهرت فترجع وتأتي بطواف الإفاضة، والسعي إذا كان عليها سعي.(228/39)
حكم حديث (من حج فلم يزرني فقد جفاني) وعلاقة الزيارة بالحج
السؤال
( من حج فلم يزرني فقد جفاني) هل هذا صحيح؟
الجواب
لم يصح شيء من ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن الحج لا علاقة له بالزيارة؛ لأنه يمكن للإنسان أن يحج ولا يزور ويمكن للإنسان أن يزور المدينة ولا يحج؛ لأن كلاً من البلدين يمكن أن ينشئ المرء لها سفراً، فيمكن أن يسافر للحج ويرجع إلى بلده، ويمكن أن يسافر من بلده للمدينة ويرجع إلى بلده، ويمكن أن يجمع بين الحج والزيارة في سفرة واحدة، لكن حديث: (من حج ولم يزرني فقد جفاني) وغيره من الأحاديث التي تتعلق بالزيارة لقبره صلى الله عليه وسلم، خاصة التي فيها أن من زاره فله كذا وأن من لم يزره فعليه كذا، كل هذه لم تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هي إما باطلة وموضوعة وإما ضعيفة جداً، كما بين ذلك أهل العلم.(228/40)
حكم تكرار السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بعد كل صلاة من الزائر
السؤال
هل يستحب لمن زار المسجد النبوي أن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد كل صلاة؟
الجواب
ليس لمن زار مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكرر السلام بعد كل صلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن لله ملائكة سياحين يبلغونني من أمتي السلام)، فالإنسان إذا صلى وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الملائكة تبلغه، كما ثبت في هذين الحديثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتكرار الزيارة يدخل تحت مخالفة هذا الحديث حيث قال: (لا تتخذوا قبري عيداً)، والعيد هو ما يتكرر، ومعنى ذلك أنهم يكررون الزيارة، ولهذا قال بعدها: (وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) فليس معناه: أن الفائدة لا تحصل إلا إذا كنتم عند القبر، بل تحصل من أي مكان كنتم فيه.(228/41)
حكم من جامع زوجته ليلة مزدلفة
السؤال
رجل جامع زوجته ليلة مزدلفة فما حكم حجه؟
الجواب
يفسد حجه ويكمله فاسداً، ويلزمه أن يحج من السنة القادمة ويذبح بدنة.(228/42)
حكم رمي الزوج عن زوجته الحامل
السؤال
رجل معه زوجته وهي حامل، فهل يمكن أن يرمي عنها؟
الجواب
نعم، يمكن أن يرمي عنها إذا كانت حاملاً، خاصة إذا كان ذهابها إلى الجمرة فيه مشقة عليها.(228/43)
حكم المرور بمزدلفة وعدم المبيت بها
السؤال
بعض البعثات الحكومية لا يقفون بمزدلفة بل يمرون عليها مروراً فهل هذا سائغ؟
الجواب
ليس هذا بسائغ بل، الواجب هو المبيت بمزدلفة أكثر الليل، هذا الواجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رخص للضعفة في آخر الليل، وهو صلى الله عليه وسلم بقي حتى صلى الفجر في أول الوقت، ومكث يدعو حتى أسفر جداً، فدل هذا على أن المبيت واجب.(228/44)
بيان أفضل الأنساك
السؤال
أي النسك أفضل؟
الجواب
التمتع أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين كانوا قارنين ومفردين أن يفسخوا إحرامهم إلى عمرة، وأن يكونوا ممتعين، وتمناه بقوله: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي) وقوله: (لولا أن معي الهدي لأحللت ولجعلتها عمرة)، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يرشد إلى الانتقال من مفضول إلى فاضل، ولا يرشد إلى الانتقال من فاضل إلى مفضول؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أنصح الناس للناس.(228/45)
حكم الحج والعمرة عن الأبوين المتوفيين وكيفيتهما
السؤال
ما حكم الحج والعمرة عن الأبوين المتوفيين؟ وإذا كانت عمرة فمتى تكون قبل الحج أو بعده؟
الجواب
الميت يحج عنه ويعتمر، بل العمرة المشروعة هي عمرة التمتع، يحرم الإنسان بعمرة من الميقات ثم يدخل مكة ويطوف ويسعى ويقصر ويتحلل، وإذا جاء اليوم الثامن أحرم بالحج، فهذا هو المتمتع، وهذه هي العمرة المشروعة والمستحبة، والإنسان يحج لنفسه ولغيره بهذه الطريقة، ولكنه لا يجمع لأبويه حجة واحدة، وإنما يحج عن أبيه مرة وعن أمه مرة، أما أن يجعل الحج لهما جميعاً، أو العمرة لهما جميعاً فلا يصح ذلك، لكن يمكن أن يعتمر عن شخص ويحج عن شخص إذا كان متمتعاً.(228/46)
الحكمة من تقبيل الحجر الأسود
السؤال
ما الهدف من تقبيل الحجر الأسود؟
الجواب
اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال حين وقف أمام الحجر: (أما إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك).
إذاً: المعول عليه والمعتمد عليه في ذلك اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، سواء عرفت الحكمة أو لم تعرف؛ لأنه لا يلزم من الاتباع أن الإنسان لا يفعل الشيء المشروع إلا إذا عرف الحكمة، وإنما يقدم الإنسان على ما أمر به عرف الحكمة أو لم يعرفها.(228/47)
حكم من حجت ورجعت إلى أهلها دون أن تعتمر
السؤال
أتت امرأة مع زوجها إلى الحج فحجت معه، ثم توفي فرجعت إلى أهلها دون أن تعتمر فما الحكم؟
الجواب
إن كانت أحرمت بالحج فقط ولم تعتمر، فإن عمرة الإسلام باقية عليها، وإذا كان قد سبق أن اعتمرت في حياتها، وأدت عمرة الإسلام، فليس عليها شيء.(228/48)
حكم طواف القدوم
السؤال
هل طواف القدوم واجب؟
الجواب
ليس بواجب وإنما هو مستحب، ولهذا يمكن للإنسان لو جاء متأخراً أن يأتي إلى عرفة رأساً ولا يدخل مكة إلا بعد الحج.(228/49)
أيام رمي الجمرات
السؤال
ما حكم من وقف بعرفة ثم ذهب إلى مزدلفة، لكنه لم يرم الجمرات إلا في اليوم الثامن من ذي الحجة؟
الجواب
الجمرة لا ترمى إلا في يوم العيد والأيام الثلاثة التي بعده، واليوم الثامن يذهب الناس إلى منى ويبيتون بها ليلة التاسع، وفي صباح اليوم التاسع بعد طلوع الشمس يذهب الناس إلى عرفة، وإذا غربت الشمس جاءوا إلى مزدلفة، وإذا صلوا الفجر ودعوا بعد صلاة الفجر حتى يسفر جداً فإنهم يأتون إلى منى ويرمون الجمرة، فيكون أول الرمي يوم العيد، فعندما يصل الإنسان إلى منى فأول شيء يعمله هو رمي الجمرة، وفي اليوم الحادي عشر يرمي الجمرات الثلاث بعد الزوال، وفي اليوم الثاني عشر يرمي الجمرات الثلاث بعد الزوال، وإن تأخر إلى اليوم الثالث عشر فإنه يرمي الجمرات الثلاث بعد الزوال.
أما اليوم الثامن فليس فيه رمي، ويوم عرفة ليس فيه رمي، إنما يبدأ الرمي من يوم العيد، وبجمرة واحدة وهي جمرة العقبة.(228/50)
حكم صلاة المغرب والعشاء يوم عرفة بعرفة
السؤال
ما حكم من صلى المغرب والعشاء بعرفة بعد غروب الشمس من يوم عرفة، فقيل له: خالفت السنة، فقال: إذا لم أصل المغرب والعشاء بعرفة فلن أستطيع أن أصليهما إلا بعد منتصف الليل؛ لأن السيارات لا تقف ولا يسمحون بالوقوف وهذا معلوم ومجرب؟
الجواب
هذا ليس بصحيح؛ لأن كل الحجاج يذهبون بعد الغروب ويصلون بمزدلفة المغرب والعشاء، وفيهم الذي يَصِلُ في وقت العشاء، والإنسان لو صلى بعرفة صحت صلاته ولا يقال: إن صلاته باطلة، ولكنه خالف السنة؛ لأن السنة أن تصلى المغرب والعشاء بمزدلفة وليس بعرفة، وكثير من الحجاج يصلون بمزدلفة، وفيهم من يصلي في وقت المغرب؛ لأنه وصل مبكراً، ومنهم من يصلي في وقت العشاء؛ لأنه جاء متأخراً، ولكن إذا انتصف الليل وهو في الطريق فله أن يصلي في الطريق؛ لأن الصلاة لا تؤخر عن وقتها، أما أن يقول من أول الوقت: أنا لا أستطيع، فما يدريك أنك لن تصل قبل نصف الليل؟ فيمكن أن تصل بعد ساعة أو أقل أو أكثر.(228/51)
حكم توكيل البنوك والمؤسسات لذبح الهدي وتوزيعه
السؤال
هل يجوز توكيل المؤسسات والبنوك لذبح الهدي وتوزيعه؟
الجواب
الذي ينبغي للإنسان أن يقوم بذلك بنفسه، أو يوكل البنك الإسلامي للتنمية الذي رخص له من جهة الدولة أن يقوم بهذه المهمة، وهو يقوم بها ويوزع اللحوم في مكة وفي غير مكة، وترسل إلى كثير من البلاد في خارج المملكة المحتاجة إلى ذلك، أما كونه يوكل مطوفين أو يوكل مؤسسات أو ما إلى ذلك فلا ينبغي له ذلك؛ لأنه قد لا تكون هذه الجهات مأمونة، ولأنها غير مرخص لها في هذه المهمة، لكن كونه يوكل واحداً من الناس يثق به ويأمنه بأن يذهب هذا الوكيل إلى المجزرة ويشتري ذبيحة ويذبحها فلا بأس.
إذاً: كونه يوكل الناس قد يأخذون الأموال ولا يصرفونها ولا يؤدون الأمانة، فإما أن يقوم بذلك بنفسه أو يوكل شخصاً يثق به، أو يوكل البنك الإسلامي للتنمية الذي رخص له من جهة الدولة، والذي يقوم بهذه المهمة، ويوزع اللحوم في داخل المملكة وخارجها.(228/52)
الحكمة من رمي الجمار
السؤال
ما الحكمة من رمي الجمار، لأننا نسمع من بعض الناس أنها لرجم الشيطان؟
الجواب
لا يصلح أن يقول المسلم: إنه يرمي الشيطان، وإن الجمار هي الشياطين، وبعضهم عندما يرمي الجمرة يتكلم بكلام ساقط ويسب الشيطان ويتكلم عليه ويخاطبه، وقد يرمي بحصى كبار أو بنعال، فكل هذا من الجهل، ولكن على الإنسان أن يتبع السنة، وسواء عرف الحكمة أو لم يعرفها، وكذلك عند تقبيل الحجر الأسود يتبع المسلم السنة سواء عرف الحكمة أو لم يعرفها.(228/53)
حكم من حج متمتعاً وصام ثلاثة أيام في الحج ولم يصم السبعة الأيام من مدة طويلة
السؤال
حضرت قبل سبعة عشر عاماً لأداء فريضة الحج، وحججت متمتعاً وصمت ثلاثة أيام بمكة، ولكن عند رجوعي إلى بلدي لم أصم السبعة الباقية، والآن حضرت وأنا مقيم بالمملكة وأنوي أن أحج هذا العام فهل هذا ممكن؟ وما حكم تلك الحجة؟
الجواب
الواجب عليه أن يصوم السبعة الباقية؛ لأنها في ذمته، فعليه أن يتدارك ويصوم السبعة الأيام؛ لتكمل العشرة التي قال الله عز وجل عنها: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196]، فهي دين في ذمته، والواجب عليه المبادرة إلى الإتيان بها.(228/54)
حكم السعي مع الطواف في يوم العيد
السؤال
هل هناك سعي مع الطواف في يوم العيد؟
الجواب
يوم العيد فيه طواف الإفاضة، والمتمتعون عليهم سعي؛ لأن كل متمتع عليه طواف وسعي للعمرة، ثم طواف وسعي للحج؛ لأن طواف العمرة وسعيها مستقل، وطواف الحج وسعيه مستقل، فمن كان متمتعاً فعليه أن يسعى بعد طواف الإفاضة، ومن كان قارناً أو مفرداً، فإن كان قد سعى مع طواف القدوم فليس عليه سعي بعد الإفاضة، وإن كان لم يدخل مكة إلا بعد الحج، أو طاف للقدوم ولم يسع، فعليه أن يسعى بعد طواف الإفاضة؛ لأن القارن والمفرد عليهما سعي واحد، وله محلان: بعد القدوم، وبعد الإفاضة، فإن فعله في المحل الأول فلا يفعله في المحل الثاني، وإن لم يفعله في المحل الأول تعين فعله في المحل الثاني.(228/55)
حكم الذكر والدعاء الجماعي مع الإمام بعد الصلاة
السؤال
ما حكم الذكر والدعاء الجماعي مع الإمام بعد الصلاة؟
الجواب
هذا من الأمور المحدثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يذكر الله وهم يرددون وراءه، وإنما كان يذكر الله عز وجل وحده، وهم يذكرون الله ويرفعون أصواتهم كل لوحده، فلم يكن كل واحد منهم مرتبطاً بالآخر، فيمكن أن يقول أحدهم: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له)، والآخر يقول: (اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، فكل يذكر الله على حدة ويرفع صوته رفعاً خفيفاً، وأما الذكر بأن يستمع الناس للإمام ويرددون وراءه، فهذا من الأمور المحدثة.(228/56)
التحلل الأول والتحلل الثاني
السؤال
للحج تحللان، هل هما بالحلق؟
الجواب
هناك تحلل أول وتحلل ثان.
التحلل الأول: يكون بالحلق أو التقصير والرمي أو الطواف، أي: طواف الإفاضة، فإذا فعل اثنين من ثلاثة وجد التحلل الأول، وإذا أكمل الثلاثة وجد التحلل الثاني، والتحلل الأول يحل له كل شيء إلا النساء، والتحلل الثاني يحل له كل شيء حتى النساء، فإذا رمى وحلق أو قصر ثم طاف وسعى إن كان عليه سعي، فإنه يحل له كل شيء حتى النساء.(228/57)
مكان إحرام المتمتع للعمرة عن والدته
السؤال
نويت الحج متمتعاً وأريد أن أقوم بعمرة عن والدتي، فمن أين أحرم بالعمرة؟
الجواب
إذا جئت من المدينة بعد الحج وأردت أن تذهب إلى مكة فأحرم بعمرة من المدينة واجعل ذلك لوالدتك، هذه هي العمرة المشروعة التي يؤتى بها من المواقيت من خارج الحرم.(228/58)
حكم قراءة القرآن عند القبور
السؤال
هل قراءة القرآن الكريم عند القبور جائزة؟
الجواب
ليست بجائزة، فلا يجوز أن يقرأ القرآن في المقابر، ولهذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون للبيوت نصيب من الصلاة، وألا تكون مثل المقابر.
أما المقابر إذا زارها المسلم فإنه يسلم على أهلها ويدعو لهم، أما أن يجلس ويقرأ القرآن فهذا ليس من السنة.(228/59)
حكم تنفيذ وصية الأهل بقراءة الفاتحة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
أوصاني أهلي أن أقرأ الفاتحة على روح النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم عليه بدلاً عنهم، فهل يلزمني طاعتهم؟
الجواب
لا تفعل، وإذا قالوا لك هذا الكلام مرة أخرى فقل لهم: صلوا وسلموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثروا من الصلاة والسلام عليه من مكانكم، فإن الملائكة تبلغه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة سياحين يبلغونني من أمتي السلام)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) والقرآن لا يقرأ ويُهدي لأحد، لا للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لغيره.(228/60)
حكم تأبط الزوج ذراع زوجته أثناء الإحرام
السؤال
ما حكم تأبط الزوج ذراع زوجته أثناء الإحرام؟
الجواب
كونه يمسك بيدها من أجل أن يحافظ عليها حتى لا تنفلت منه، لا بأس بذلك، وأما إذا كان هناك شيء يتعلق بالشهوة ويتعلق بالميل إلى النساء فهذا لا يجوز.
والله تعالى أعلم.(228/61)
شرح سنن أبي داود [229]
من أحكام منى: قصر الصلاة فيها، ورمي الجمار، والمبيت فيها ليال التشريق، وقد جاءت السنة النبوية مبينة لما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة عندما حجوا.(229/1)
صفة الصلاة بمنى(229/2)
شرح حديث إتمام عثمان رضي الله عنه الصلاة بمنى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الصلاة بمنى.
حدثنا مسدد أن أبا معاوية وحفص بن غياث حدثاه -وحديث أبي معاوية أتم- عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد قال: (صلى عثمان رضي الله عنه بمنى أربعاً، فقال عبد الله رضي الله عنه: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين، ومع أبي بكر رضي الله عنه ركعتين، ومع عمر ركعتين، زاد عن حفص: ومع عثمان صدراً من إمارته ثم أتمها، زاد من هاهنا عن أبي معاوية: ثم تفرقت بكم الطرق، فلوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين، قال الأعمش: فحدثني معاوية بن قرة عن أشياخه: أن عبد الله صلى أربعاً، قال: فقيل له: عبت على عثمان ثم صليت أربعاً؟ قال: الخلاف شر)].
قوله: [باب الصلاة بمنى].
الصلاة بمنى سواء كانت قبل يوم عرفة أو بعد يوم عرفة، فإنه يشرع للحاج أن يقصر الرباعية ولا يجمع؛ بل يصلي كل صلاة في وقتها، والنبي صلى الله عليه وسلم صلى بمنى يوم التروية الظهر ركعتين في وقتها، والعصر ركعتين في وقتها، والمغرب ثلاثاً في وقتها كما هي، والعشاء ركعتين في وقتها، والفجر في وقتها ركعتين كما هي، ثم انطلق إلى عرفة ثم إلى مزدلفة، ثم رجع إلى منى فكان يصلي بها في يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة كل صلاة في وقتها مقصورة وبدون جمع، وهذا هو الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي سار عليه الخلفاء الراشدون من بعده، وهم: أبو بكر وعمر وعثمان في صدر من خلافته، ولكنه بعد ذلك أتم رضي الله عنه، والناس يصلون وراءه، ومعلوم أن هذا العمل الذي عمله عثمان يدل على أن الإتمام في حق المسافر جائز، والأولى هو القصر، لكن الإتمام سائغ وجائز.
وقد ذكر العلماء عدة أوجه لفعل عثمان رضي الله عنه، منها: أنه رأى أن الأعراب كثروا، وأن الناس إذا جاءوا إلى الموسم والجهل فيهم كثير، فقد يظنون أن هذه كيفية الصلاة، وأن الصلاة ركعتان وليست أربعاً، فأراد أن يعلمهم.
وقيل غير ذلك، ولكن الذي يمكن أن يقال: هو أن القصر هو الأفضل والأولى، والإتمام سائغ وجائز، وعثمان رضي الله عنه فعل ما هو سائغ وجائز، وسيأتي ذكر هذه الأوجه التي قيلت في وجه إتمام عثمان رضي الله عنه وأرضاه.
وابن مسعود رضي الله عنه أنكر هذا؛ وذلك لأن القصر هو السنة وهو الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام في أسفاره فإنه كان يقصر عليه الصلاة والسلام، ولكنه لما ذكر له أنه أنكر على عثمان وقد صلى وراءه، قال: (الخلاف شر) يعني: أنه لا يترك الصلاة وراء الإمام من أجل أنه فعل فعلاً يرى عبد الله بن مسعود أن غيره أولى منه.
فهو رضي الله عنه لم يتخلف عن الصلاة وراءه؛ لأن عثمان رضي الله عنه فعل أمراً سائغاً وليس أمراً محرماً، ولكن الشيء الذي كان يريده عبد الله رضي الله عنه هو أن تصلى الظهر والعصر والعشاء ركعتين ولا تصلى أربعاً.
إذاً: هذا يدل على أن الإتمام جائز، وأن القصر هو الأولى والأفضل، وكونه يترك ما هو الأولى والأفضل ويصلي وراء الإمام الذي عمل باجتهاد منه، هذا فيه ترك للخلاف، وفيه عدم اختلاف الناس، واتفاقهم مع إمامهم وصلاتهم وراء إمامهم، وقد بين عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الخلاف شر، يعني: كون الناس يختلفون فهذا يصلي كذا، وهذا يصلي كذا، ويخالفون الإمام، والإمام فعل أمراً سائغاً جائزاً، فهذا ليس بجيد، وفيه شيء من الضرر، واجتماع القلوب واتفاقها ومتابعة الإمام في أمر هو سائغ وجائز وغير محرم أمر مطلوب، وهذا نظير ما حصل من أبي سعيد الخدري مع مروان بن الحكم لما قدم الخطبة يوم العيد قبل الصلاة، فإنه أنكر عليه، ولكنه لما صعد جلس ولم يترك المكان، وقال: (إن هذا خلاف السنة)، فدل على أن هذا العمل الذي عمله مروان ليس فيه اختلال شرط، وإنما ترك الأولى والأفضل، وصلاة العيد وجدت والخطبة وجدت ولكن السنة هي تقديم الصلاة على الخطبة، كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جلس من أجل ترك الخلاف، وأن مثل ذلك أمر يمكن أن يتابع فيه الإمام، وألا تترك الصلاة وراءه من أجل هذه المخالفة.
قوله: [(فلوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين)] يعني: لو أن لي من الأربع الركعات التي فعلتها -وهي خلاف الأولى- ركعتين متقبلتين.
قوله: [(قال الأعمش: فحدثني معاوية بن قرة عن أشياخه: أن عبد الله صلى أربعاً، قال: فقيل له: عبت على عثمان ثم صليت أربعاً؟ قال: الخلاف شر)].
وهذا -كما أشرنا إليه- أنه تابع عثمان لأنه رأى أن الخلاف شر.(229/3)
أقسام الخلاف
مسائل الخلاف منها ما هو اختلاف تنوع، ومنها ما هو اختلاف تضاد، واختلاف التضاد الذي يكون مبنياً على الاجتهاد يتابع فيه كل واحد الآخر ولو كان يرى خلافه، فمثلاً: هناك أمور اختلف فيها العلماء تتعلق بنقض الوضوء مثل الوضوء من لحم الإبل، فبعض العلماء يرى أن من أكل لحم إبل فإنه ينتقض وضوءه وعليه أن يتوضأ، وبعضهم يرى خلاف ذلك، ولكن لم يترك واحد منهم الصلاة خلف الآخر لأنه يرى خلاف رأيه.
والمجتهدون يصلي بعضهم وراء بعض، ولم يقل أحدهم: أنا لا أصلي وراء فلان؛ لأنني أرى كذا وهو يرى كذا؛ لأن هذا من الخلاف الذي هو شر، ومعلوم أن العلماء يختلفون وكل يرى رأيه في المسألة، لكن لا يبتعد أحدهم عن الآخر؛ فمثل ذلك من الأمور الاجتهادية التي يتبع الناس فيها بعضهم بعضاً، وأما إذا كان الكل جائزاً ولكن أحد الوجهين أولى وأفضل كما هو موجود في مسألتنا، وهي أن الإتمام سائغ وجائز، بحيث لو صلى الإنسان متماً صحت صلاته ولكنه خالف الأولى، فـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يرى أن السنة هي ركعتان، وأن الإنسان لا يتم في السفر، وعثمان رضي الله عنه لما أتم لم يخالفه عبد الله رضي الله عنه ولم يتخلف عن الصلاة وراءه، وعلل ذلك بأن الخلاف شر.
إذاً: هذا من قبيل ما هو سائغ؛ لأنه ترك أمراً مفضولاً غيره أولى منه، لكن متابعة للإمام صلى خلفه متماً.(229/4)
تراجم رجال إسناد حديث إتمام عثمان رضي الله عنه الصلاة بمنى
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[أن أبا معاوية].
هو محمد بن خازم الضرير الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحفص بن غياث].
حفص بن غياث ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحديث أبي معاوية أتم عن الأعمش].
الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم].
هو إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن يزيد].
هو عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[فقال عبد الله].
هو عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال الأعمش فحدثني معاوية بن قرة].
معاوية بن قرة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أشياخه عن عبد الله].
هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(229/5)
شرح أثر الزهري في سبب إتمام عثمان للصلاة بمنى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء أخبرنا ابن المبارك عن معمر عن الزهري: أن عثمان رضي الله عنه إنما صلى بمنى أربعاً لأنه أجمع على الإقامة بعد الحج].
أورد المصنف رحمه الله أثراً عن الزهري أن عثمان إنما أتم لأنه أجمع على الإقامة بعد الحج، وهذا التعليل غير واضح من جهة أن عثمان رضي الله عنه كان مقره في المدينة، والمهاجرون لا يبقون في مكة أكثر من ثلاثة أيام، بل يعودون إلى دار هجرتهم، فقوله: أجمع على الإقامة بمكة هذا غير مستقيم.
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك المروزي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(229/6)
شرح أثر إبراهيم النخعي في سبب إتمام عثمان للصلاة بمنى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري عن أبي الأحوص عن المغيرة عن إبراهيم قال: إن عثمان صلى أربعاً لأنه اتخذها وطناً].
وهذا شبيه بالذي قبله، وهو لم يتخذها وطناً، ولم يبق بها، وإنما رجع إلى المدينة.
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هو هناد بن السري أبو السري وهو ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي الأحوص].
هو سلام بن سليم الحنفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المغيرة].
هو المغيرة بن مقسم الضبي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم].
هو إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي وقد مر ذكره.
يقول الحافظ في ترجمة المغيرة: ثقة متقن يدلس لا سيما عن إبراهيم، وهنا يقول: عن إبراهيم، فيكون الإسناد إلى إبراهيم فيه انقطاع، أو احتمال انقطاع.(229/7)
شرح أثر الزهري في سبب إتمام عثمان للصلاة بمنى من طريق ثانية وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء أخبرنا ابن المبارك عن يونس عن الزهري قال: لما اتخذ عثمان رضي الله عنه الأموال بالطائف وأراد أن يقيم بها صلى أربعاً، قال: ثم أخذ به الأئمة بعده].
وهذا أيضاً غير مستقيم؛ لأنه كما هو معلوم أن الخليفة إنما يقيم بالمدينة، وأن المهاجر لابد أن يرجع بعد هجرته إلى المدينة.
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء أخبرنا ابن المبارك عن يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري قد مر ذكره.(229/8)
شرح أثر الزهري في ذكر سبب إتمام عثمان للصلاة بمنى من طريق ثالثة وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أيوب عن الزهري: أن عثمان بن عفان أتم الصلاة بمنى من أجل الأعراب؛ لأنهم كثروا عامئذ فصلى بالناس أربعاً ليعلمهم أن الصلاة أربع].
وهذا أيضاً فيه أن الزهري علل أن عثمان رضي الله عنه إنما أتم ليعلم الأعراب الصلاة وأنها أربع، وأنهم لو رأوا الناس يصلون ثنتين لظنوا أن الصلاة الرباعية ركعتان، وأنها ليست أربعاً، وهذا هو أحسن ما قيل في التعليل؛ لأنه لا يتعلق بإقامة، ولا يتعلق بشيء فيه خلاف الواقع، ولكن كون التعليل به صحيحاً هذا لا يعرف إلا عن طريق تنصيص منه، ولكن الذي يظهر -كما أشرت- أن عثمان رضي الله عنه فعل أمراً سائغاً وأمراً جائزاً، ألا وهو الإتمام.
وكذلك ما يذكره بعض العلماء: أنه تزوج زوجة من أهل مكة، فهذا أيضاً غير مستقيم؛ لأن الرسول كان معه أزواجه لما حج حجة الوداع وكان يقصر.
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة البصري وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري قد مر ذكره.
والشيخ الألباني رحمه الله لما ذكر هذه الآثار ضعفها كلها إلا هذا؛ وقال: إنه حسن.
وهي كلها كما هو معلوم تنتهي إلى الزهري أو إلى إبراهيم، وأسانيدها صحيحة إلا التدليس الذي من المغيرة عن إبراهيم.
وهذه الآثار كلها إنما تتحدث عن تعليل فعل عثمان، وكونه فعل ذلك من أجل الأعراب أقرب من التعليلات الأخرى، لكن كان بإمكانه أن يعلم الأعراب عن طريق الكلام وعن طريق التنبيه، وأن السنة القصر للمسافر، وأنهم في الحضر يتمون، فقد كان يمكن أن يبين ذلك من غير عمل.(229/9)
حكم القصر لأهل مكة(229/10)
شرح حديث: (صليت مع رسول الله بمنى والناس أكثر ما كانوا فصلى بنا ركعتين في حجة الوداع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب القصر لأهل مكة.
حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق حدثني حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه، وكانت أمه تحت عمر رضي الله عنه، فولدت له عبيد الله بن عمر، قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى والناس أكثر ما كانوا، فصلى بنا ركعتين في حجة الوداع)، قال أبو داود: حارثة من خزاعة، ودارهم بمكة].
قوله: [باب القصر لأهل مكة].
يعني: أهل مكة في حجهم هل يقصرون أو لا يقصرون، بعض أهل العلم قال: إنهم يقصرون؟ فلأن النبي عليه الصلاة والسلام صلى معه الحجاج، ولم يقل لأهل مكة: أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، إنما قال ذلك بمكة عام الفتح، حيث أهل مكة بمكة، وأما هذا فكان في الحج، فبعض أهل العلم يرى أن أهل مكة إذا حجوا يقصرون ويصلون مع الناس في صلاتهم، وأنه لا يلزمهم الإتمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حج معه الخلق الكثير، ولم يقل لأهل مكة: أتموا، وبعض أهل العلم قال: إن ذهاب أهل مكة للحج ليس بسفر، فعليهم أن يتموا ولا يقصروا، فالمسألة فيها خلاف بين أهل العلم على ما بيناه.
وقد أورد أبو داود حديث حارثة بن وهب الخزاعي أنه قال: [(صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى والناس أكثر ما كانوا، فصلى بنا ركعتين في حجة الوداع)] يعني: أنهم بلغوا من الكثرة ما بلغوا، وأنه صلى بهم ركعتين، وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: أتموا، ومن أهل العلم من قال: إن هذا الحديث لا يدل على أن أهل مكة يتمون؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقصر؛ لأنه مسافر، وهو الذي صلى بالناس، لكن أهل مكة يمكن أنهم كانوا يصلون بغير قصر، وبعضهم يقول: إنه لو كان أهل مكة لا يقصرون وأن عليهم أن يتموا لبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأن تأخير البيان لا يجوز عن وقت الحاجة، وهذا مثلما مر في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يجد الإزار فليلبس السراويل، ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين) ولم يقل: ليقطعهما، فهنا لم يبين القطع، وقد سبق أن بينه فيما مضى، قالوا: إن الفعل الآخر يكون ناسخاً للفعل الأول، وهنا لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم لهم أن عليهم أن يتموا.
إذاً: لهم أن يصلوا كما يصلي الناس، وذلك ليس لأجل السفر، وإنما هو لأجل النسك، وإلا فإن أهل مكة إذا ذهبوا إلى منى أو ذهبوا إلى عرفة في غير وقت الحج فإنهم يتمون؛ لأن القصر هنا للنسك، وليس ذلك سفراً؛ لأن المسافة قريبة جداً.(229/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (صليت مع رسول الله بمنى والناس أكثر ما كانوا فصلى بنا ركعتين في حجة الوداع)
قوله: [حدثنا النفيلي].
هو عبد الله بن محمد النفيلي وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو إسحاق].
هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني حارثة بن وهب الخزاعي].
حارثة بن وهب الخزاعي صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قوله: [وكانت أمه تحت عمر فولدت له عبيد الله بن عمر].
هذا زيادة تعريف به، وأن عبيد الله بن عمر أخوه لأمه.
[قال أبو داود: حارثة من خزاعة ودارهم بمكة].
يعني: أنه من أهل مكة، ولم يقل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتموا يا أهل مكة.(229/12)
ما جاء في رمي الجمار(229/13)
شرح حديث: (رأيت رسول الله يرمي الجمرة من بطن الوادي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في رمي الجمار.
حدثنا إبراهيم بن مهدي حدثني علي بن مسهر عن يزيد بن أبي زياد أخبرنا سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أمه رضي الله عنها قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرمي الجمرة من بطن الوادي وهو راكب، يكبر مع كل حصاة، ورجل من خلفه يستره، فسألت عن الرجل، فقالوا: الفضل بن العباس رضي الله عنهما، وازدحم الناس، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا أيها الناس! لا يقتل بعضكم بعضاً، وإذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف).
].
قوله: [باب في رمي الجمار]، رمي الجمار يكون في يوم العيد والثلاثة الأيام التي بعده، فيوم العيد يرمي الحاج فيه جمرة واحدة وهي جمرة العقبة، وهي أقربهن إلى مكة، بل جمرة العقبة نهاية منى من جهة مكة، فما كان من بعد جمرة العقبة إلى مكة كل هذا ليس من منى، فجمرة العقبة هي نهايتها من جهة مكة، والرمي يوم النحر مقصور على هذه الجمرة، ووقت رميها من بعد طلوع الشمس إلى غروبها، والذين رخص لهم أن ينصرفوا آخر الليل لهم أن يرموا قبل الفجر، كما مر بنا بعض الأحاديث عن أم سلمة وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما.
وأما في أيام التشريق الثلاثة فالرمي يكون بعد الزوال، في اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحين ويتحرى الزوال، فإذا زالت الشمس رمى قبل أن يصلي، ثم يصلي الظهر صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أن الرمي في الأيام الثلاثة إنما يكون بعد الزوال، ومن لم يستطع أن يرمي قبل غروب الشمس بسبب شدة الزحام وكثرة الناس فله أن يؤخر الرمي إلى الليل، ولكن الرمي لا يقدم عن وقته، أي: قبل الزوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في الأيام الثلاثة كلها: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر كان موجوداً بمنى، وكان ينتظر زوال الشمس، فإذا زالت رمى الجمرات الثلاث، وبدأ بالأولى، ثم الوسطى، ثم العقبة، وهي الجمرة التي رماها يوم العيد وحدها، في الأيام الثلاثة آخر الجمرات.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث أم جندب الصحابية رضي الله عنها أنها قالت: [(رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرمي الجمرة من بطن الوادي وهو راكب، يكبر مع كل حصاة)].
يعني: أنه صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم العيد وهو راكب.
ثم قالت: [(ورجل خلفه يستره)] وقد مر في الحديث: (أنه كان يظلل بثوب حين رمى جمرة العقبة صلى الله عليه وسلم).
ثم قالت: [(وازدحم الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس! لا يقتل بعضكم بعضاً)]، يعني: لا يقتل بعضكم بعضاً بسبب الزحام، أو بسبب الحصى التي يرمى بها، خاصة إذا كانت كبيرة فتكون سبباً في قتلهم، وحتى لو كانت الحصى صغيرة فعلى الحاج ألا يرمي بها من مكان بعيد فتقع على رءوس الناس ولا تقع في المرمى، وإنما ينبغي أن يرمي بحصى صغيرة مثل حصى الخذف، ولا بد أن تكون في المرمى، وأما لو رمى من مكان بعيد فقد تقع على رءوس الناس، فيكون بذلك لم يرم الجمرة، وفي نفس الوقت ألحق الضرر بغيره، ولهذا فعلى المسلم أن يحرص أن يصل حصى الرمي إلى الحوض، أو يكون قريباً من الحوض، فيقع في المرمى، وينبغي ألا تكون الحصى كبيرة، بل بمقدار حصى الخذف، فوق الحمص ودون البندق، مثل نوى التمر تقريباً.
ثم قالت: [(فسألت عن الرجل، فقالوا: الفضل بن العباس)].
وسبق أن مر بنا أنه أسامة بن زيد أو بلال بن رباح رضي الله تعالى عنهم أجمعين.(229/14)
تراجم رجال إسناد حديث (رأيت رسول الله يرمي الجمرة من بطن الوادي
قوله: [حدثنا إبراهيم بن مهدي].
إبراهيم بن مهدي مقبول، أخرج له أبو داود.
[حدثني علي بن مسهر].
علي بن مسهر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن أبي زياد].
يزيد بن أبي زياد ضعيف، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا سليمان بن عمرو بن الأحوص].
سليمان بن عمرو بن الأحوص مقبول، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أمه].
أمه هي أم جندب وهي صحابية، أخرج لها أبو داود وابن ماجة.
هذا الحديث في إسناده مقبولان وضعيف، ولكنه صحيح من جهة أنه قد جاءت أحاديث أخرى تدل على ما دل عليه، وهو أنه صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة من بطن الوادي، أي: جعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه، ولو لم يأت إلا من هذا الطريق لما صح الحديث، لكن الحديث جاء من طرق أخرى صحيحة، فيكون صحيحاً.(229/15)
شرح حديث أم جندب في رمي جمرة العقبة من طريق ثانية وترجمة رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو ثور إبراهيم بن خالد ووهب بن بيان قالا: حدثنا عبيدة عن يزيد بن أبي زياد عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أمه رضي الله عنها قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند جمرة العقبة راكباً، ورأيت بين أصابعه حجراً فرمى ورمى الناس)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أم جندب من طريق أخرى، وأنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم راكباً عند جمرة العقبة، وفي يده حجر، أي: حصى الجمار التي هي فوق الحمص ودون البندق، فكان يرمي والناس يرمون معه صلى الله عليه وسلم.
قوله: [حدثنا أبو ثور إبراهيم بن خالد].
أبو ثور إبراهيم بن خالد ثقة، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[ووهب بن بيان].
وهب بن بيان ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا عبيدة].
هو عبيدة بن حميد، وهو صدوق ربما أخطأ، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن يزيد بن أبي زياد عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أمه].
قد مر ذكرهم.(229/16)
شرح حديث أم جندب في رمي جمرة العقبة من طريق ثالثة وترجمة رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء حدثنا ابن إدريس حدثنا يزيد بن أبي زياد بإسناده في مثل هذا الحديث زاد: (ولم يقم عندها).
].
قوله: [(ولم يقم عندها)] يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف عند الأولى والثانية ولا يقف عند الثالثة التي هي جمرة العقبة.
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
محمد بن العلاء مر ذكره.
[حدثنا ابن إدريس].
هو عبد الله بن إدريس وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن أبي زياد بإسناده].
وقد مر ذكره.(229/17)
شرح حديث ابن عمر أنه كان يأتي الجمار أيام التشريق ماشياً ذاهباً وراجعاً
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي حدثنا عبد الله -يعني ابن عمر - عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه كان يأتي الجمار في الأيام الثلاثة بعد يوم النحر ماشياً ذاهباً وراجعاً، ويخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعل ذلك)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر: [(أنه كان يأتي الجمار في الأيام الثلاثة بعد يوم النحر ماشياً ذاهباً وراجعاً ويخبر أن النبي صلى الله عليه كان يفعل ذلك)]، وهذا يحمل على غير يوم العيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء يوم العيد وهو على راحلته من مزدلفة، واستمر حتى وصل إلى الجمرة ورمى، وأما في الأيام الأخرى فكان يذهب ماشياً عليه الصلاة والسلام ويرجع ماشياً؛ لأن المنازل كانت عند مسجد الخيف، ومسجد الخيف قريب من الجمرات.(229/18)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر أنه كان يأتي الجمار أيام التشريق ماشياً ذاهباً وراجعاً
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا عبد الله يعني ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر العمري المصغر وهو ضعيف، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث بهذا الإسناد ضعيف، ولكن معناه ثابت في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب ماشياً في غير أيام العيد.(229/19)
شرح حديث: (رأيت رسول الله يرمي على راحلته يوم النحر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، يقول: لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه حيث يقول: [(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر)]، يعني: يوم العيد؛ لأنه جاء من مزدلفة إلى الجمرة رأساً ورماها وهو راكب.
قوله: [(لتأخذوا عني مناسككم)] هذا من الكلمات الجامعة والألفاظ العامة، وهو من جنس قوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
قوله: [(فلعلي لا أحج بعد حجتي هذه)]، ولهذا سميت حجته حجة الوداع؛ لأنه ودع فيها الناس صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(229/20)
تراجم رجال إسناد حديث: (رأيت رسول الله يرمي على راحلته يوم النحر)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني أبو الزبير].
هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت جابر بن عبد الله].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(229/21)
شرح حديث: (رأيت رسول الله يرمي على راحلته يوم النحر من طريق ثانية وترجمة رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ضحى، فأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس)].
هذه طريق أخرى لحديث جابر رضي الله عنه وفيه: (أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام يرمي يوم النحر على راحلته ضحى، وأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس)]، أي: بعد أيام النحر في الأيام الثلاثة، التي هي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر فإنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام يرمي بعد زوال الشمس.
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله].
قد مر ذكر هذا الإسناد.(229/22)
شرح حديث ابن عمر: (كنا نتحين زوال الشمس فإذا زالت الشمس رمينا
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد الزهري حدثنا سفيان عن مسعر عن وبرة قال: (سألت ابن عمر رضي الله عنهما: متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارم، فأعدت عليه المسألة فقال: كنا نتحين زوال الشمس فإذا زالت الشمس رمينا)].
أورد أبو داود حديث وبرة بن عبد الرحمن أنه سأل ابن عمر قال: [(متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارم)].
يعني: إنما يكون الرمي بعد الزوال، والمقصود بذلك الإمام الذي يقتدى به، والذي يكون على علم بالسنة وهو يطبق السنة، وأما إذا وجد من يخالف السنة ومن يرمي قبل الزوال فإنه لا يرمى معه، وإنما يرمى بعد الزوال؛ لأن الرمي قبل الزوال لا يجوز ولا يصح، فمن رمى قبل الزوال يجب عليه أن يعيده بعد الزوال، وإن لم يعده فإنه لم يرم، وهو كالذي يصلي الظهر قبل الزوال لا تصح صلاته، فكذلك الذي يرمي قبل الزوال لا يصح رميه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جلس في منى ثلاثة أيام متوالية وفي كلها ينتظر الشمس حتى تزول ثم يرمي، حتى في اليوم الثالث عشر انتظر حتى زالت الشمس ثم رمى، ولو كان الرمي قبل الزوال جائزاً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم في يوم واحد من الأيام الثلاثة، حتى يبين أنه جائز، لكن كونه يتحرى الزوال في أيام ثلاثة متوالية فإنه يدل على أن الرمي قبل الزوال لا يجوز، وأن من رمى قبله فعليه أن يعيد، وإن لم يعد فإنه لم يرم وعليه فدية، وهي شاة يذبحها في مكة ويوزعها على فقراء الحرم إن استطاع، وإلا صام عشرة أيام مكانها.(229/23)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر: (كنا نتحين زوال الشمس فإذا زالت الشمس رمينا
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد الزهري].
هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة الزهري، وهو صدوق أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسعر].
هو مسعر بن كدام وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن وبرة].
هو وبرة بن عبد الرحمن وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[قال: سألت ابن عمر].
ابن عمر قد مر ذكره.(229/24)
شرح حديث: (ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي التشريق يرمي الجمرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا علي بن بحر وعبد الله بن سعيد المعنى قالا: حدثنا أبو خالد الأحمر عن محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أفاض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والثانية، ويطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها).
].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها قالت: [(أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه -يعني: يوم النحر- حين صلى الظهر)] وهذا غير محفوظ وغير ثابت؛ لأن المحفوظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه أفاض ضحى، وإنما هل صلى بمكة الظهر أو صلى بمنى بعد رجوعه؟ هذا الذي فيه الخلاف، وأما كونه لم يذهب إلى مكة إلا بعد الظهر فهذا منكر وغير ثابت، وهو مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة أنه صلى الله عليه وسلم أفاض ضحى بعدما رمى وحلق وتحلل وطيبته عائشة رضي الله عنها.
قولها: [(ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق)].
أي: ليالي وأيام التشريق كان يبيت ويقيم بها.
قولهها: [(يرمي الجمرة إذا زالت الشمس)].
أي: في الأيام التي بعد يوم العيد كان يرمي الجمرة فيها إذا زالت الشمس، وهذا جاء في أحاديث كثيرة أنه كان يرمي بعد الزوال في الأيام الثلاثة.
قولها: [(كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة)].
أي: أن كل جمرة ترمى بسبع حصيات، وأنه يكبر مع كل حصاة.
قولها: [(ويقف عند الأولى والثانية فيطيل ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها)].
أي: أنه عندما يرمي الأولى يقف ويدعو ويتضرع، وعندما يرمي الثانية كذلك، وأما الثالثة فإنه لا يقف عندها.
إذاً: الوقوف ورفع اليدين والسؤال والدعاء إنما يكون بعد الأولى والثانية، وأما الثالثة فلا يقف بعدها، وكان بعض العلماء يعلل ذلك لضيق المكان، ولكن العمل هو اتباع السنة حتى وإن اتسع المكان وصارت جمرة العقبة مثل غيرها من ناحية سعة المكان، فإنه لا يفعل ذلك عند جمرة العقبة؛ لأنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في ذلك، فيقتصر على ما وردت به السنة، وهو الدعاء عند الأولى والثانية.(229/25)
تراجم رجال إسناد حديث: (ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي التشريق يرمي الجمرة)
قوله: [حدثنا علي بن بحر].
علي بن بحر ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، وأبو داود والترمذي.
[وعبد الله بن سعيد].
عبد الله بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو خالد الأحمر].
هو سليمان بن حيان، وهو صدوق يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن القاسم].
عبد الرحمن بن القاسم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو القاسم بن محمد وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة رضي الله عنها، أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(229/26)
شرح حديث: (لما انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل البيت عن يساره)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر ومسلم بن إبراهيم المعنى قالا: حدثنا شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لما انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ورمى الجمرة بسبع حصيات، وقال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة)].
أورد أبو داود حديث ابن مسعود رضي الله عنه: [(أنه لما انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ورمى الجمرة بسبع حصيات)].
فهذا مثلما جاء في حديث أم جندب الذي سبق أن مر من طريق ضعيفة، وفيه أنه رماها من بطن الوادي، والرامي من بطن الوادي يجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه.
قوله: [(هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة)] خص سورة البقرة لأن كثيراً من أعمال الحج ومسائله جاءت فيها.(229/27)
تراجم رجال إسناد حديث: (لما انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل البيت عن يساره)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
[ومسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحكم].
هو الحكم بن عتيبة الكندي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود].
قد مر ذكر الثلاثة.(229/28)
شرح حديث: (أن رسول الله رخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك (ح) وحدثنا ابن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن أبي البداح بن عاصم عن أبيه رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد، ومن بعد الغد بيومين، ويرمون يوم النفر)].
أورد أبو داود حديث عاصم بن عدي رضي الله عنه: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد، ومن بعد الغد بيومين، ويرمون يوم النفر)].
يعني: رخص لهم أن يذهبوا مع إبلهم، ولكنهم إذا جاءوا يرمون عن اليوم الحاضر ويوم آخر معه، سواء قبله أو بعده، وهذا يدل على أن رمي الجمار واجب؛ لأنه لو كان غير واجب لما احتاج إلى الترخيص فيه لرعاء الإبل.
إذاً: يجب على كل حاج أن يرمي الجمار، ورميها ليس من الأمور المستحبة التي لو تركها الإنسان لا يكون عليه شيء، بل هو من الأمور الواجبة التي من تركها عمداً أثم، ويكون عليه فدية وهي شاة يذبحها بمكة ويوزعها على فقراء الحرم.
قوله: [(يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد، ثم من بعد الغد بيومين)] قوله: [(من بعد الغد بيومين)] يتفق مع قوله: [(يرمون يوم النفر)] وهو يوم النفر الثاني؛ لأن النفر الثاني بعد الغد بيومين؛ لأن يوم الغد الذي هو يوم الحادي عشر الذي هو يوم القر بعده يومان، أحدهما يوم النفر الأول والثاني يوم النفر الثاني، فقوله: [(ومن بعد الغد بيومين، ويرمون يوم النفر)] ليس بمستقيم، إلا إذا كان المراد باليومين بعد العيد، ولكنه قال: (وبعد الغد بيومين)، وقد جاء في بعض الأحاديث أنهم يرمون يوماً ويتركون يوماً، فمعنى هذا: أنهم يرمون يوم العيد، ثم يتركون يوم الحادي عشر، ثم يرمون يوم الثاني عشر وهو يوم النفر الأول، وإن تعجلوا تعجلوا، وإن أرادوا أن يتأخروا رموا في اليوم الثالث العشر الذي هو يوم النفر الثاني.
وبعض أهل العلم يقول: إن لهم أن يقدموا وأن يؤخروا.
أي: لهم أن يقدموا الرمي في اليوم الحادي عشر ثم يرمون عن اليوم الثاني عشر، وبعضهم يقول: يرمي في اليوم الأخير عن اليوم الذي رخص له أن يتخلف من أجله، وسيأتي في حديث أنهم يرمون يوماً ويتركون يوماً، ومعنى هذا: أنهم يرمون يوم العيد، ثم يوم الثاني عشر، ويتركون الرمي يوم النفر الثاني لمن أراد أن يتأخر.
قوله: [(رخص لرعاء الإبل في البيتوتة)].
يعني: أنهم يتركون المبيت، والرمي يمكن أن يجمع بعضه إلى بعض، وكذلك يدخل في الرخصة مثل الشرطة والقائمين على الخدمات الطبية وغيرها في البيتوتة وجمع الرمي إذا كان الأمر يتطلب بقاءهم، مثل الرعاة تماماً.(229/29)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله رخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك].
القعنبي مر ذكره، ومالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[(ح) وحدثنا ابن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أخبرنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم].
عبد الله بن أبي بكر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي البداح بن عاصم].
أبو البداح بن عاصم ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو عاصم بن عدي وهو صحابي، أخرج له أصحاب السنن.(229/30)
شرح حديث الترخيص في الرمي لرعاء الإبل من طريق ثانية وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن عبد الله ومحمد ابني أبي بكر عن أبيهما عن أبي البداح بن عدي عن أبيه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص للرعاء أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً)].
أورد أبو داود حديث عاصم بن عدي من طريق أخرى، وفيه: [(أنه رخص للرعاء أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً)] يعني: أنهم يقضون ذلك الذي تركوه ولا يتركونه نهائياً، ولكنهم يجمعونه مع اليوم الذي جاءوا فيه.
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا سفيان].
مسدد وقد مر ذكره، وسفيان هو ابن عيينة مر ذكره.
[عن عبد الله ومحمد ابني أبي بكر].
عبد الله ومحمد ابنا أبي بكر كل منهما ثقة، أخرج لهما أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيهما عن أبي البداح بن عدي عن أبيه].
هؤلاء مر ذكرهم، وأبو البداح بن عاصم بن عدي في الحديث الأول نسبه إلى أبيه، وفي الثاني نسبه إلى جده.(229/31)
شرح حديث ابن عباس: (ما أدري أرماها رسول الله بست أو بسبع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الرحمن بن المبارك حدثنا خالد بن الحارث حدثنا شعبة عن قتادة قال: سمعت أبا مجلز يقول: (سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن شيء من أمر رمي الجمار، قال: ما أدري أرماها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بست أو بسبع)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس: (أنه سئل عن شيء من أمر الجمار، فقال: ما أدري أرماها رسول الله صلى الله عليه وسلم بست أو بسبع)] شك هل رماها بست أو سبع، ولكن جاء اليقين عن بعض الصحابة ومنهم جابر وابن عمر وغيرهما أنه رماها بسبع، فجزم الجازم مقدم على شك الشاك.(229/32)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس: (ما أدري أرماها رسول الله بست أو بسبع)
قوله: [حدثنا عبد الرحمن بن المبارك].
عبد الرحمن بن المبارك ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا خالد بن الحارث].
خالد بن الحارث ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
مر ذكره.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت أبا مجلز].
هو لاحق بن حميد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سألت ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(229/33)
شرح حديث: (إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الحجاج عن الزهري عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء)، قال أبو داود: هذا حديث ضعيف، p=1001306> الحجاج لم ير الزهري ولم يسمع منه.
].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء)] يعني: قد تحلل التحلل الأول الذي يحل معه كل شيء إلا النساء، والحديث كما قال أبو داود: ضعيف؛ لأنه من طريق الحجاج بن أرطأة وروايته عن الزهري منقطعة، ولكن الحديث جاء من طرق أخرى وله شواهد، وهو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض رواياته: (إذا رميتم وحلقتم)، ولكن الرواية التي فيها ذكر الحلق ضعيفة، وبعض أهل العلم يرى أنه إذا حصل رمي جمرة العقبة فإنه يحصل التحلل كما جاء في هذا الحديث، وبعضهم يرى أنه لا يتحلل إلا إذا فعل اثنين من ثلاثة، وهي: الرمي والحلق والطواف والسعي لمن كان عليه سعي مع الطواف، فإذا فعل اثنين من ثلاثة فإنه يحصل بذلك التحلل الأول، وإذا فعل الثالث حصل التحلل الأخير، الذي يحل معه كل شيء حتى النساء، وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الرمي والحلق؛ حيث قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت) والنبي صلى الله عليه وسلم رمى ونحر وحلق، ثم إنه ذهب للطواف صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا فإن التحلل يكون برمي جمرة العقبة كما جاء في هذا الحديث، والأولى للإنسان أنه بعد أن يرمي الجمرة أن يحلق أو يطوف؛ لأنه قد جاء عن عائشة -كما أسلفت- أنها كانت تطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل أن يطوف بالبيت بعد الرمي والحلق، لكن لهذا الحديث فإن من تحلل بعد الرمي فإن عمله صحيح، وإن كان لم يحلق، ولكن الأولى أن يكون مع الحلق كما جاء عن عائشة رضي الله عنها.(229/34)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد].
عبد الواحد بن زياد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الحجاج].
هو الحجاج بن أرطأة، وهو صدوق كثير الخطأ والتدليس، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الزهري عن عمرة بنت عبد الرحمن].
الزهري مر ذكره، وعمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية ثقة كثيرة الرواية عن عائشة، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
قد مر ذكرها.(229/35)
الأسئلة(229/36)
حكم رمي الجمار حال الركوب
السؤال
هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يرمي وهو راكب أم كان ينزل ثم يرمي؟
الجواب
كان صلى الله عليه وسلم يرمي وهو راكب وسبق أن مر بنا الحديث في هذا، وأنه يجوز أن ترمى الجمار عن ركوب ومن غير ركوب.(229/37)
حكم إعادة الرمي إذا سقطت الحصاة خارج المرمى
السؤال
لو سقطت حصاة واحدة خارج المرمى، فهل عليه أن يعيد الرمي؟
الجواب
عليه أن يعيد، لكن يأخذ حصاة واحدة فقط ليست من محل الرمي فيرمي بها، وإذا كانت الحصاة قد رمي بها فلا يرمي بها؛ لأن بعض أهل العلم يقول: ولا يرمى بشيء قد رمي به، لكن إذا كانت الحصى ليست عند الحوض، وإنما هي في مكان متأخر عن الحوض، وغالباً أن الحصى الذي لم يرم به رمياً شرعياً ولا أجزأ عن صاحبه هو الذي يقع على رءوس الناس، فإذا أخذ من ذلك ورمى به فلا بأس.(229/38)
حكم من رمى الجمرة بست حصيات وسافر إلى أهله
السؤال
ما حكم من رجع إلى أهله وبقيت عليه حصاة واحدة؟
الجواب
يقول بعض العلماء: إذا بقيت حصاة واحدة لم تقع في المرمى فلا بأس؛ لأنه جاء أثر عن السلف أنهم رموا بست، وأنهم قالوا: لا بأس، لكن إذا سقطت الحصاة ولم تقع في المرمى، فإنه يأخذ من الإخوة عند المرمى، أو يأخذ من الأماكن البعيدة عن المرمى، بحيث تكون الحصى لم يحصل الرمي بها رمياً شرعياً.(229/39)
حكم تحية المسجد بعد صلاة العصر
السؤال
ما حكم تأدية تحية المسجد بعد صلاة العصر؟
الجواب
إذا دخل الإنسان المسجد بعد صلاة العصر فهل يصلي تحية المسجد أو لا؟ هناك خلاف بين أهل العلم، منهم من قال: إنه يصلي؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، ومنهم من قال: إنه لا يصلي؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس)، والذي يبدو أن الأمر في ذلك واسع، وأن من دخل وصلى فلا ينكر عليه، ومن دخل وجلس فلا ينكر عليه.(229/40)
حكم لبس الخاتم والساعة والحزام للمحرم
السؤال
ما حكم لبس المحرم للخاتم والساعة والحزام؟
الجواب
كون المحرم يلبس خاتماً، أو يلبس ساعة، أو يستعمل النظارة، أو يستعمل حزاماً، كل ذلك لا بأس به.(229/41)
حكم ملامسة الرجل للمرأة أثناء الطواف بسبب الزحام
السؤال
بالنسبة للاختلاط الذي يقع في الطواف، فبسبب الازدحام قد يلامس الرجال النساء، فهل في ذلك شيء؟
الجواب
على الإنسان أن يبتعد عن ملامسة المرأة، والمرأة عليها أن تبتعد عن ملامسة الرجل، وإن حصل شيء من غير اختيار الإنسان فلا يؤثر عليه، ولكن على الإنسان أن يتقي الله ما استطاع.(229/42)
حكم تأخر الحاج بعرفات حتى الساعة الثانية ليلاً لعدم وجود الحافلات
السؤال
شخص لم يخرج من عرفات إلا بعد الساعة الثانية ليلاً، لعدم وجود الحافلات، مع العلم أن الحجاج مقيدون بهذه الحافلات، ولا يعرفون التحرك في المشاعر، وإذا فعلوا ذلك قد يتيهون، فما حكم ذلك؟
الجواب
الواجب على المسئولين عن الحافلات أن يوفروا السيارات التي تكفي للناس، حتى لا يبقى الناس في عرفات إلى آخر الليل، وإنما يذهبون بهم في أول الليل، وتأخرهم إلى الساعة الثانية من الليل أو الساعة الثالثة غلط لا يصلح، بل عليهم أن يطالبوا من يكون سبباً في ذلك ومن يحصل منه ذلك ألا يفعل ذلك، وأن يرفعوا أمره إلى الجهات المسئولة، حتى يزيدوا في السيارات، ويزيدوا في الحافلات.(229/43)
حكم رمي جمرة العقبة قبل الفجر لمن دفع مع النساء بعد منتصف الليل من مزدلفة
السؤال
هل يجوز لمن دفع مع النساء ليلة النحر بعد منتصف الليل من مزدلفة أن يرمي جمرة العقبة فوراً عند وصوله إلى منى قبل صلاة الفجر؟
الجواب
إذا كان مع النساء فله أن يرمي، وإن أخر ذلك إلى بعد طلوع الشمس فهو الأولى، وإن رمى فرميه صحيح.(229/44)
حكم هدي التمتع على أهل مكة
السؤال
إذا حج أهل مكة متمتعين فهل عليهم هدي؟
الجواب
ليس عليهم هدي؛ لأن الله تعالى قال: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196].(229/45)
حكم حلق اللحية وشرب الدخان
السؤال
هل حلق اللحية وشرب الدخان من الفسوق، خاصة أننا نرى بعض الحجاج في يوم عرفة يدخن؟
الجواب
حلق اللحية لا شك أنه من المعاصي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعفاء اللحى وأمر بتوفيرها، ونهى عن تشبه الرجال بالنساء، وكل ذلك موجود في حلق اللحى، والنبي صلى الله عليه وسلم كان كث اللحية، وكان لا يأخذ من لحيته، وكذلك أصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يعفون لحاهم، وقد اجتمع في إعفاء اللحى أوجه ثبوت السنة الثلاثة التي هي: القول والفعل والتقرير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بإعفاء اللحى وهذا قول، وكان معفياً للحيته وهذا فعل، وكان يرى أصحابه وهم ذوو لحى موفرة ويقرهم على ذلك، وهذه أوجه ثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم: القول والفعل والتقرير، وكلها مجتمعة في مسألة اللحية وإعفائها، فلا يجوز حلقها، وحلقها لا شك أن فيه إثماً، وهو معصية لله عز وجل.
أما شرب الدخان فهو من الأمور المحرمة، وهو محرم من وجوه متعددة: محرم من جهة أن فيه إضاعة للمال، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه أنه يقول: (إن الله ينهاكم عن ثلاث: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).
وكذلك أيضاً من جهة أن فيه إتلافاً للنفس وجلباً للأمراض، والله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29].
وأيضاً من جهة أن فيه إيذاء للناس بالرائحة الكريهة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنسان) مع أن هذه الأشياء من الطيبات؛ ولكن للرائحة الخبيثة قال ما قال فيها، فكيف بالدخان الذي يؤذي صاحبه به الناس ويؤذي به الملائكة، ثم أيضاً الدخان ليس من الطيبات وإنما هو من الخبائث، والله تعالى بعث نبيه ليحل الطيبات ويحرم الخبائث، فكل هذه الأمور تدل على أنه محرم، وأن الإنسان لا يجوز له أن يتعاطاه، وأن تعاطيه فيه أضرار كثيرة كما أشرت إلى جملة منها، ويمكن للإنسان أن يتصور مدى سوء عمل صاحب الدخان وأن عمله عمل سيئ لو أن إنساناً معه نقود يمزقها ويرميها في الهواء، ماذا سيقول الناس لمن رأوه يفعل ذلك؟ سيقولون: إنه سفيه، ومع ذلك فهو أحسن حالاً ممن يصرف النقود في شرب الدخان؛ لأن ذاك ضيع نقوده وصحته باقية لم يأت بما يضرها، وأما هذا فأضاع نقوده في إتلاف نفسه، وإهلاكها، وأضاع نقوده في إيذاء الناس.
فهذا يدل على فظاعة هذا العمل المنكر، وأن الإنسان الذي ابتلي به عليه أن يتوب إلى الله عز وجل منه، وأن يبقي على ماله، وأن يصرف هذه الأموال التي يصرفها في هذا الأمر المحرم يصرفها في وجوه البر، فيحصل أجرها وثوابها، في الوقت الذي إذا صرفها في شرب الدخان يحصل إثمها وعقابها، ولكنه إذا صرفها في أمور تنفع فإنه يسلم من الدخان ويحصل على الأجر والثواب من الله عز وجل.(229/46)
حكم زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم مراراً
السؤال
زرت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مراراً، فهل أكون بذلك قد ارتكبت إثماً؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم تبلغه الصلاة والسلام عليه بواسطة الملائكة ولو لم يأت الإنسان إلى القبر، فلهذا قال: (لا تتخذوا قبري عيداً فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة سياحين يبلغونني عن أمتي السلام) فتكرار الزيارة داخل تحت قوله: (لا تتخذوا قبري عيداً) يعني: أنه منهي عنه.(229/47)
حكم التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل يجوز لنا معاشر الحجاج زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسؤالنا إياه قضاء حوائجنا وطلب مغفرة الذنوب، مع العلم أننا نعلم أن الله عز وجل هو الذي يغفر الذنوب، ولكننا نتخذه وسيلة؟
الجواب
لا يجوز للإنسان أن يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أموراً لا تطلب إلا من الله عز وجل، ثم أيضاً على الإنسان أن يعمل الأعمال الصالحة ويتوسل بها إلى الله عز وجل؛ لأنها هي التي تقربه إلى الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى بابه مفتوح للعباد، ليس بينه وبينهم وسائط، بل الإنسان يسأل الله عز وجل والله تعالى يجيبه، يقول عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]، وقال عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].(229/48)
شرح سنن أبي داود [230]
الحلق والتقصير من الأمور الواجبة في الحج والعمرة، والحلق والتقصير يكونان للرجال، والحلق في حقهم أفضل، وأما النساء فليس في حقهن سوى التقصير ولا يجوز لهن الحلق، ويكون الحلق بعد النحر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام رمى ثم نحر ثم حلق ثم طاف، وإن قُدِّم أو أُخر شيء من ذلك فلا حرج كما جاء في الأحاديث، والعمرة واجبة في العمر مرة، ويجوز للحائض التي لم تتمكن من الطواف أن تنقض عمرتها وتدخلها في الحج بحيث تصبح قارنة بعد أن كانت متمتعة.(230/1)
ما جاء في الحلق والتقصير، وحكمهما في الحج والعمرة(230/2)
شرح حديث: (اللهم ارحم المحلقين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الحلق والتقصير.
حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اللهم ارحم المحلقين! قالوا: يا رسول الله والمقصرين، قال: اللهم ارحم المحلقين! قالوا: يا رسول الله! والمقصرين، قال: والمقصرين)].
قال أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب: الحلق والتقصير، والحلق والتقصير من الأمور الواجبة في الحج والعمرة، فالمعتمر عندما يدخل مكة فإنه يطوف ويسعى ثم يحلق رأسه أو يقصره، والحلق أفضل من التقصير، وكذلك الحاج عندما يأتي من مزدلفة ويرمي الجمرة فإنه يحلق رأسه أو يقصره، والحلق أفضل من التقصير.
وإذا كانت العمرة قريبة من الحج بحيث لا يكون هناك مدة ينبت فيها الشعر فإن المناسب أن يقصر الإنسان حتى يحلق يوم العيد، وذلك كأن يأتي في وقت متأخر، فعندما ينتهي من العمرة من كان متمتعاً يقصر من شعر رأسه كله، وإذا جاء اليوم العاشر فإنه يحلق رأسه كله، وأما بالنسبة للنساء فإن الواجب في حقهن التقصير فقط.
أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(اللهم ارحم المحلقين، قالوا: يا رسول الله! والمقصرين، قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: يا رسول الله! والمقصرين، قال: والمقصرين)].
فهذا الدعاء بالرحمة وتكراره من النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين يدل على أن الحلق أفضل من التقصير، ويدل على أن أي واحد منهما يحصل به أداء الواجب، ولكن الحلق أفضل وأعظم أجراً من التقصير؛ وذلك أن الإنسان عندما يكون محباً للشعر فقد يقدم على التقصير ويحتفظ بالشعر، ولكنه إذا أزاله كله بالحلق تقرباً إلى الله، فإنه يكون أكمل وأفضل.
قوله صلى الله عليه وسلم: [(اللهم ارحم المحلقين)] يدل على جواز الدعاء بالرحمة للأحياء، فهي ليست مقصورة على الأموات، بل تكون للأحياء والأموات، وقد شاع عند الناس أن الترحم إنما يكون للأموات، فإذا سمع شخصاً يقول: فلان رحمه الله، فإنه يظن أنه قد مات، فهذا الحديث يدل على الدعاء بالرحمة للأحياء وللأموات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(اللهم ارحم الملحقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله!)] وهذا يسمى عطف التلقين، فهم يطلبون منه أن يضيف المقصرين ويلحقهم بالمحلقين، فكرر عليه الصلاة والسلام الدعاء للمحلقين، ثم قال: [(والمقصرين)]، فدل على أن الحلق أفضل من التقصير.
وقد بينت الأحوال التي يكون فيها الحلق والتقصير، فالحلق أفضل في العمرة إذا كانت بعيدة عن الحج، وفي الحج يوم العيد، وأما إذا كان الحج قريباً فإن التقصير أولى وأنسب من أجل أن يحصل الحلق يوم العيد، وأما النساء فليس في حقهن إلا التقصير من شعورهن.
وقد سبق أن مر بنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة هو وأصحابه طافوا وسعوا وقصروا؛ وذلك لأن الحج قريب، فلم يبق عليه إلا خمسة أيام، فقد دخل عليه الصلاة والسلام مكة في اليوم الرابع، والحلق يكون في اليوم العاشر فقصر وقصروا.
إذاً: فالحلق يكون أفضل من التقصير إذا كان في عمرة بعيدة من الحج، أو كان في الحج في يوم العيد، وكذلك كون الحاج يزيل شعره كله تقرباً إلى الله عز وجل فإنه أكمل وأفضل، بخلاف الذي يقصر فإنه أبقى لنفسه شيئاً من الشعر؛ فهو يحبذه ويعجبه ذلك.(230/3)
تراجم رجال إسناد حديث (اللهم ارحم المحلقين)
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد من أعلى الأسانيد عند أبي داود؛ لأنه من الرباعيات.(230/4)
شرح حديث (أن رسول الله حلق رأسه في حجة الوداع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة حدثنا يعقوب -يعني: الإسكندراني - عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حلق رأسه في حجة الوداع)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق رأسه في حجة الوداع)] يعني: يوم العيد بعد أن رمى ونحر حلق، وقد فعل عليه الصلاة والسلام الأكمل والأفضل، وقد سبق الحديث أنه دعا للمحلقين ثلاث مرات، والمقصرين مرة واحدة.(230/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله حلق رأسه في حجة الوداع)
قوله: [حدثنا قتيبة].
هو قتيبة بن سعيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يعقوب -يعني: الإسكندراني -].
هو يعقوب بن عبد الرحمن الإسكندراني القاري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن موسى بن عقبة].
هو موسى بن عقبة المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن ابن عمر].
نافع وابن عمر قد مر ذكرهما.(230/6)
شرح حديث: (أن رسول الله رمى جمرة العقبة يوم النحر ثم رجع إلى منزله بمنى فدعا بذبح فذبح ثم دعا بالحلاق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حفص عن هشام عن ابن سيرين عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر ثم رجع إلى منزله بمنى فدعا بذبح فذبح، ثم دعا بالحلاق فأخذ بشق رأسه الأيمن فحلقه، فجعل يقسم بين من يليه الشعرة والشعرتين، ثم أخذ بشق رأسه الأيسر فحلقه، ثم قال: هاهنا أبو طلحة؟ فدفعه إلى أبي طلحة رضي الله عنه)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر، ثم رجع إلى منزله بمنى ودعا بذبح فذبح، ودعا بالحلاق فأخذ بشق رأسه الأيمن، فجعل يقسم بين من يليه الشعرة والشعرتين، ثم أخذ بشق رأسه الأيسر، ثم قال: هاهنا أبو طلحة؟ فدفعه إلى أبي طلحة)].
وهذا يدلنا على ما ترجم له المصنف من الحلق، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حلق في حجته، ويدل على أنه رمى ثم نحر ثم حلق.
قوله: [(بذبح)] سبق أن مر أنه نحر بيده صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بدنة، ووكل علياً بنحر الباقي وهو تمام المائة.
والحديث يدل على تبرك الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بشعر النبي صلى الله عليه وسلم وبعرقه وبفضل وضوئه وغير ذلك مما مسه جسده صلى الله عليه وسلم، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم فلا يفعل ذلك مع غيره من الناس؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لم يفعلوا هذا مع الخلفاء الراشدين، ولا مع كبار الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وهم خير وأفضل الناس، وعلى هذا فما يقوله بعض العلماء: من أن التبرك بآثار الصالحين جائز، يعتبر غلطاً؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لم يفعلوا هذا مع خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وهم أولى الناس بأن يتبرك بهم لو كان التبرك سائغاً، وأما أن يتعدى ذلك إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك ليس بصحيح، وقد نقل الشاطبي اتفاق الصحابة على ذلك، وأنهم لم يحصل منهم ذلك مع أحد إلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً فهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم ولا يتعداه إلى غيره.
قوله: [(ثم قال: هاهنا أبو طلحة؟ فدفعه إلى أبي طلحة)]، يعني: أنه أعطاه قسماً كبيراً من شعره من أجل أن يتولى توزيعه وقسمته.(230/7)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله رمى جمرة العقبة يوم النحر ثم رجع إلى منزلة بمنى فدعا بذبح فذبح ثم دعا بالحلاق)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حفص].
هو حفص بن غياث، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام].
هو هشام بن حسان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن سيرين].
هو محمد بن سيرين، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(230/8)
شرح حديث (أن رسول الله رمى جمرة العقبة يوم النحر) من طريق أخرى وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد بن هشام أبو نعيم الحلبي وعمرو بن عثمان المعنى، قالا: حدثنا سفيان عن هشام بن حسان بإسناده بهذا قال فيه: (قال للحالق: ابدأ بشقي الأيمن فاحلقه).
].
وهذا مثل الذي قبله، إلا أنه قال للحالق: [(ابدأ بشقي الأيمن)]، وهناك بدأ بالشق الأيمن ثم بالأيسر، وهذا يدل على البدء بالشق الأيمن عند الحلق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، ثم بعد ذلك ينتقل إلى الشق الأيسر.
قوله: [حدثنا عبيد بن هشام أبو نعيم الحلبي].
عبيد بن هشام أبو نعيم الحلبي صدوق، أخرج له أبو داود.
[وعمرو بن عثمان].
هو عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير الحمصي وهو صدوق، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن حسان].
هشام بن حسان قد مر ذكره.(230/9)
شرح حديث: (فسأله رجل فقال: إني حلقت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا نصر بن علي أخبرنا يزيد بن زريع أخبرنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يُسأل يوم منى فيقول: لا حرج، فسأله رجل فقال: إني حلقت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج، قال: إني أمسيت ولم أرم، قال: ارم ولا حرج)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله عنهما: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل يوم منى فيقول: لا حرج)] أي: أنه كان يسأل عن التقديم والتأخير، فكان يقول: [(لا حرج)]، وقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم الأعمال في يوم النحر على النحو التالي: رمي، ثم نحر، ثم حلق، ثم طواف، فبعض الناس قدم وأخر، فجاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ترتيبهم ليس كترتيب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كلما سئل قال: [(لا حرج)] فجاءه رجل وقال: [(حلقت قبل أن أنحر)]، والنبي صلى الله عليه وسلم نحر ثم حلق، فقال: [(اذبح ولا حرج)] أي: لا حرج عليك في تقديم وتأخير النحر لا حرج عليك، وهذا يدل على أن الترتيب ليس بلازم وليس بواجب، وأنه يجوز التقديم والتأخير، ولكن الإتيان بها وترتيبها كما رتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأولى والأفضل، لكن لو قدم بعضها على بعض وخالف هذا الترتيب فإنه سائغ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما سئل عن شيء قدم أو أخر إلا قال: [(لا حرج)].
قوله: [(قال: إنس أمسيت ولم أرم)] يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى ضحى، فهذا جاء المساء وهو لم يرم في الصباح، فقال: [(ارم ولا حرج)] فدل هذا على أن النهار كله وقت للرمي يوم العيد، وأنه يبدأ من طلوع الشمس إلى غروبها، وأن من رخص له في الانصراف من مزدلفة آخر الليل، فإن له أن يرمي كما فعل ذلك بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم وهي أم سلمة رضي الله عنها، وكذلك أيضاً أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما.
لم يتمكن من الرمي في النهار له أن يرمي في الليل الذي بعده، وليس ذلك مقصوراً على نصف الليل، بل إلى الفجر، ولكنه عن شيء سابق، ليس عن شيء قادم، لا يقدم مثلاً رمي يوم الثاني عشر ليلة إحدى عشرة، ولكنه يمكن أن يرمي عن يوم العيد في الليل، ويمكن أن يرمي عن يوم الحادي عشر ليلة اثني عشرة، إذا لم يتمكن من الرمي قبل الغروب.(230/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (فسأله رجل فقال: إني حلقت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج)
قوله: [حدثنا نصر بن علي].
هو نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا خالد].
هو خالد بن مهران، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(230/11)
شرح حديث: (ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن الحسن العتكي حدثنا محمد بن بكر حدثنا ابن جريج قال: بلغني عن صفية بنت شيبة بن عثمان رضي الله عنها قالت: أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان رضي الله عنها أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير)] يعني: أن النساء يقصرن من شعورهن ولا يحلقنها، فالحلق والتقصير للرجال، والحلق أفضل كما عرفنا، وأما النساء فإن الواجب في حقهن هو التقصير فقط، ولا يحلقن رءوسهن؛ لأن النساء بحاجة إلى شعر الرأس للتجمل به، وهن يختلفن عن الرجال.(230/12)
تراجم رجال إسناد حديث (ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير)
قوله: [حدثنا محمد بن حسن العتكي].
محمد بن الحسن العتكي صدوق يغرب، أخرج له أبو داود.
[حدثنا محمد بن بكر].
محمد بن بكر صدوق قد يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: بلغني عن صفية بنت شيبة بن عثمان].
صفية بنت شيبة صحابية، أخرج حديثها أصحاب الكتب الستة.
[عن أم عثمان بنت أبي سفيان].
أم عثمان بنت أبي سفيان صحابية أخرج لها أبو داود.
[أن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.
وهنا يقول ابن جريج: [بلغني] ففيه انقطاع إذاً، وستأتي له طريق أخرى يتقوى بها فيكون الحديث حجة.(230/13)
شرح حديث: (ليس على النساء الحلق، إنما على النساء التقصير) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو يعقوب البغدادي ثقة، حدثنا هشام بن يوسف عن ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة عن صفية بنت شيبة رضي الله عنها قالت: أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان رضي الله عنها أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس على النساء الحلق، إنما على النساء التقصير)].
قوله: [(ليس على النساء الحلق، إنما على النساء التقصير)] وهو مثل الذي قبله، ولكن ينبغي أن يعلم أن النساء لهن أن يقصرن عن أنفسهن بأنفسهن، ولا يلزم أن يقصر للمحرم غيره أو يحلقه غيره، فالمرأة تقصر عن نفسها، والرجل يقصر عن نفسه، ويحلق عن نفسه إذا تمكن من ذلك، فهذا ليس فيه ارتكاب محظور وإنما هو فعل نسك من الناسك وبعض الناس قد يتساءل كثيراً هل يحلق المحرم لنفسه أو يقصر لنفسه، وهل المرأة تقصر لنفسها؟
و
الجواب
أنها يجوز لها أن تقصر لنفسها، والرجل يقصر ويحلق لنفسه، فهذا الفعل ليس فيه ارتكاب محظور، وإنما هو فعل النسك الذي يكون به التحلل، فهو سائغ وجائز ولا بأس به.
ذكر الشيخ الألباني رحمه الله في (السلسلة الصحيحة) في الجزء الثاني رقم (157) أن ابن جريج صرح بالتحديث في رواية المخلص في جزء المنتقى من (الجزء الرابع)، وقد توبع على ذلك.(230/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (ليس على النساء الحلق، إنما على النساء التقصير) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا أبو يعقوب البغدادي ثقة].
هو إسحاق بن أبي إسرائيل صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والنسائي.
[حدثنا هشام بن يوسف].
هشام بن يوسف ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة].
ابن جريج مر ذكره، وعبد الحميد بن جبير بن شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن صفية بنت شيبة قالت: أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان أن ابن عباس].
مر ذكرهم.
وهذا الحديث يفسر الحديث السابق، والواسطة التي بلغت عن صفية هو عبد الحميد بن جبير بن شيبة، والحديثان يشد بعضهما بعضاً.(230/15)
حكم العمرة(230/16)
شرح حديث: (اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحج)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: العمرة.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا مخلد بن يزيد ويحيى بن زكريا عن ابن جريج عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (اعتمر رسول الله صلى الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبل أن يحج)].
قوله: [باب: العمرة]، العمرة واجبة كالحج، والمسلم عليه في عمره حجة واحدة وعمرة واحدة، سواء أتى بالعمرة وحدها والحج وحده، أو أتى بالعمرة مع الحج، وسواء كان تمتعاً أو قراناً، فالعمرة والحج لا زمان للمسلم في عمره مرة واحدة، وقد اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحج ثلاث عمر وهي: عمرة الحديبية، وعمرة القضية، وعمرة الجعرانة، هذه الثلاث كانت قبل حجته، فعمرة الحديبية في السنة السادسة، والقضاء أو القضية في السنة السابعة، والجعرانة في السنة الثامنة، فحجته صلى الله عليه وسلم كانت في السنة العاشرة، وقد قرن فيها بين الحج والعمرة، فكانت عمره صلى الله عليه وسلم أربعاً، ثلاث مستقلات وواحدة مقرونة مع حجته صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالإنسان له أن يحج قبل أن يعتمر، وله أن يعتمر قبل أن يحج، وله أن يأتي بهما جميعاً بالقران.(230/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحج)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في (عمل اليوم والليلة) وابن ماجة.
[حدثنا مخلد بن يزيد].
مخلد بن يزيد صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[ويحيى بن زكريا].
هو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج عن عكرمة بن خالد].
ابن جريج مر ذكره، وعكرمة بن خالد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن ابن عمر].
ابن عمر مر ذكره.(230/18)
شرح حديث (والله ما أعمر رسول الله عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري عن ابن أبي زائدة حدثنا ابن جريج ومحمد بن إسحاق عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (والله! ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك؛ فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون: إذا عفا الوبر وبرأ الدبر ودخل صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر، فكانوا يحرِّمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما أعمر عائشة بعد الحج ليقطع بذلك أمر أهل الشرك الذين كانوا لا يأتون بالعمرة في أشهر الحج ولا في الأشهر الحرم، وإنما يأتون بها بعدما ينتهي المحرّم وهو آخر الأشهر الحرم، وذلك إذا دخل صفر، فعند ذلك يأتون بالعمرة، لكن كما هو معلوم أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها ما أعمرها الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد إلحاحها وطلبها، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعمرها ابتداء ليقطع دابر أهل الجاهلية، فالرسول صلى الله عليه وسلم نفسه إنما فعل عمره كلها في ذي القعدة، وفي ذلك إبطالاً لأمر الجاهلية الذين يقولون: إن العمرة لا تكون في أشهر الحج ولا في الأشهر الحرم، وإنما كانوا يؤخرون العمرة إلى أن تنتهي الأشهر الحرم، فكانت عمره كلها في ذي القعدة، وذو القعدة من أشهر الحج ومن الأشهر الحرم، وكذلك أمهات المؤمنين كن متمتعات وعمرتهن كانت في ذي الحجة مع النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فإعمار النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة بعد الحج كان بعد إلحاح منها، ولا شك أن أمر الجاهلية هو عدم الإتيان بالعمرة في الأشهر الحرم، ولكن قد جاء ما يدل على ذلك غير هذا الحديث، ومن ذلك أن أمهات المؤمنين اللاتي دخلن في اليوم الرابع عمرهن في شهر ذي الحجة، وقد طفن وسعين وقصرن وتحللن.
إذاً: فلا شك أن هذه العمرة وغيرها مما وقع في أشهر الحج في ذي العقدة وذي الحجة أن في ذلك مخالفة للمشركين، وقد خالفهم النبي صلى الله عليه وسلم وأتى بالعمر كلها قبل حجه في السنة السادسة والسابعة والثامنة في ذي القعدة.
قوله: [(كانوا يقولون: إذا عفا الوبر)] يعني: كثر الوبر على ظهور الإبل.
قوله: [(وبرئ الدبر)] الدبر هو الذي يكون في ظهر الإبل من الجروح بسبب الركاب وكثرة السير عليها، فإنهم لا يقاتلون في الأشهر الحرم، بل يتركون الإبل تستريح حتى يبرأ الدبر، وكذلك لا يعتمرون عليها في الأشهر الحرم.
قوله: [(ودخل صفر)] ذهب بالأشهر الحرم.(230/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (والله ما أعمر رسول الله عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك)
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هناد بن السري ثقة، أخرج له البخاري في (خلق أفعال العباد)، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن أبي زائدة حدثنا ابن جريج].
ابن أبي زائدة وابن جريج قد مر ذكرهما.
[ومحمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن طاوس].
عبد الله بن طاوس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو طاوس بن كيسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس قد مر ذكره.(230/20)
شرح حديث أم معقل: (إني امرأة قد كبرت وسقمت فهل من عمل يجزئ عني من حجتي؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو كامل حدثنا أبو عوانة عن إبراهيم المهاجر عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال: أخبرني رسول مروان الذي أرسل إلى أم معقل رضي الله عنها قالت: (كان أبو معقل رضي الله عنه حاجاً مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما قدم قالت أم معقل: قد علمت أن علي حجة، فانطلقا يمشيان حتى دخلا عليه، فقالت: يا رسول الله! إن علي حجة وإن لـ أبي معقل بكراً، قال أبو معقل: صدقت، جعلته في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أعطها فلتحج عليه فإنه في سبيل الله، فأعطاها البكر، فقالت: يا رسول الله! إني امرأة قد كبرت وسقمت فهل من عمل يجزئ عني من حجتي؟ قال: عمرة في رمضان تجزئ حجة)].
أورد أبو داود حديث أم معقل رضي الله عنها، أن أبا معقل حج مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه بعدما جاء من الحج قالت أم معقل: إن عليها حجة وأنها لم تحج، وأن أبا معقل عنده بكر -والبكر هو الفتى من الإبل- فقال: إني قد حبسته في سبيل الله، فقال: أعطها إياه لتحج عليه؛ فإن الحج في سبيل الله، ثم قالت: إنني قد كبرت وضعفت فهل هناك شيء يجزئ عن حجتي؟ فقال: عمرة في رمضان تعدل حجة.
والحديث يدل على فضل العمرة في رمضان، ولكنه لا يدل على أن العمرة تغني عن الحج وتجزئ عنه؛ لأن العمرة واجبة والحج واجب، ولا يغني أحدهما عن الآخر، والإنسان مطالب بأن يعتمر ومطالب بأن يحج، ولكن الحديث يدل على فضل العمرة في رمضان، وأنها تعدل حجة، أي: من ناحية الأجر والثواب، فأجرها عظيم وثوابها عظيم عند الله سبحانه وتعالى.
وهل ذلك خاص بها أو عام لها ولغيرها؟ الذي يبدو أنه عام وليس خاصاً، فالعمرة في رمضان تعدل حجة من حيث الأجر والثواب، وهذا من جنس ما جاء في الحديث: (أن الإنسان إذا جلس في مصلاه فجعل يذكر الله، ثم صلى ركعتين، فهي تعدل حجة وعمرة تامة تامة تامة) يعني: في الأجر والثواب.
ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء وصلى فيه صلاة كانت تعدل عمرة)، وهذا يدل على عظم هذا العمل، ففيه ذلك الثواب العظيم من الله عز وجل، وأما كون العمرة تغني عن الحج فلا.(230/21)
تراجم رجال إسناد حديث أم معقل: (إني امرأة قد كبرت وسقمت فهل من عمل يجزئ عني من حجتي؟)
قوله: [حدثنا أبو كامل].
هو الفضيل بن حسين الجحدري، وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبو عوانة].
هو وضاح بن عبد الله اليشكري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم بن مهاجر].
إبراهيم بن مهاجر صدوق لين الحفظ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي بكر بن عبد الرحمن].
هو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني رسول مروان].
رسول مروان مجهول ومبهم، ولكن الحديث له طرق كما سيأتي ذكر بعضها، وهو صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[أرسل إلى أم معقل].
أم معقل صحابية، أخرج حديثها أبو داود والترمذي والنسائي.(230/22)
شرح حديث أم معقل من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عوف الطائي حدثنا أحمد بن خالد الوهبي حدثنا محمد بن إسحاق عن عيسى بن معقل بن أم معقل الأسدي أسد خزيمة، حدثني يوسف بن عبد الله بن سلام رضي الله عنهما عن جدته أم معقل رضي الله عنها قالت: (لما حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع وكان لنا جمل، فجعله أبو معقل رضي الله عنه في سبيل الله، وأصابنا مرض وهلك أبو معقل، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما فرغ من حجه جئته فقال: يا أم معقل! ما منعك أن تخرجي معنا؟ قالت: لقد تهيأنا فهلك أبو معقل، وكان لنا جمل وهو الذي نحج عليه فأوصى به أبو معقل في سبيل الله، قال: فهلا خرجت عليه فإن الحج في سبيل الله، فأما إذا فاتتك هذه الحجة معنا فاعتمري في رمضان فإنها كحجة، فكانت تقول: الحج حجة، والعمرة عمرة، وقد قال هذا لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أدري ألي خاصة)].
أورد أبو داود حديث أم معقل رضي الله عنها أنهم كانوا تهيئوا للحج فأصابهم مرض وتوفي أبو معقل، وأنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحج فقال لها: [(يا أم معقل ما منعك أن تحجي معنا؟ قالت: إنه حصل كذا وكذا، فقال: فاعتمري في رمضان فإنها كحجة)].
وهذا مثل الذي قبله، إلا أن فيه أن أبا معقل قد توفي، وفي الحديث الأول أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن يوفق بينهما بأنه حج مات بعد الحج، وأنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبرته بالسبب الذي منعها من الحج فقال مواسياً لها: [(فاعتمري في رمضان فإنها كحجة)] يعني: في الأجر، وأما حجة الإسلام فإنها لازمة؛ لأنه كما قالت: [(الحج حجة والعمرة عمرة)]، أي: أنه لا يغني الحج عن العمرة، ولا العمرة عن الحج.
قولها: [(ما أدري إلي خاصة)] والمقصود من ذلك أن هذا الذي فاتها من الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم أنها إذا اعتمرت في رمضان فإنها تحصل فيه على أجر تلك الحجة، ولكن حجة الإسلام لازمة عليها وباقية في ذمتها، وعليها أن تحج بعد ذلك.(230/23)
تراجم رجال إسناد حديث أم معقل من طريق أخرى
[حدثنا محمد بن عوف الطائي].
محمد بن عوف الطائي ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي في مسند علي.
[حدثنا أحمد بن خالد الوهبي].
أحمد بن خالد الوهبي صدوق، أخرج له البخاري في (جزء القراءة)، وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن إسحاق عن عيسى بن معقل بن أم معقل الأسدي].
محمد بن إسحاق مر ذكره، وعيسى بن معقل بن أم معقل الأسدي مقبول، أخرج له أبو داود.
[حدثنا يوسف بن عبد الله بن سلام].
يوسف بن عبد الله بن سلام صحابي أخرج له البخاري في (الأدب المفرد)، وأصحاب السنن.
[عن جدته أم معقل].
أم معقل قد مر ذكرها.
قوله: [قوله عن جدته].
هي جدة عيسى بن معقل.
وفيه أن سبب تأخرها عن الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم أنه مات الزوج وأوصى بالجمل في سبيل الله، والتوفيق بينهما يكون بأنهما جاءا يمشيان بعد الحج، لكن فيه اختلاف من ناحية أنه كان معها كما في الرواية الأولى، وهنا جاءت وحدها كما في هذه الرواية التي معنا، وأخبرت بأنه قد هلك، فالذي يبدو والله أعلم أن هذه الرواية التي فيها: أنها جاءت وقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: (فاعتمري في رمضان فإنها كحجة) أنها أولى، فهي متصلة وفيها مبهم، وهذه فيها عيسى بن معقل وهو مقبول، لكن كل هذه الروايات يشهد بعضها لبعض.
وهذا الحديث في قصة أم معقل أخرجه النسائي في الحج، باب: العمرة في رمضان مختصراً، وابن ماجة.(230/24)
شرح حديث أم معقل من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن عامر الأحول عن بكر بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحج فقالت امرأة لزوجها: أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على جملك، فقال: ما عندي ما أحجك عليه، قالت: أحجني على جملك فلان، قال: ذاك حبيس في سبيل الله عز وجل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله، وإنها سألتني الحج معك، قالت: أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: ما عندي ما أحجك عليه، فقالت: أحجني على جملك فلان، فقلت: ذاك حبيس في سبيل الله، فقال: أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله، قال: وإنها أمرتني أن أسألك ما يعدل حجة معك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أقرئها السلام ورحمة الله وبركاته، وأخبرها أنها تعدل حجة معي يعني عمرة في رمضان)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله عنهما وهو يتعلق بهذه القصة، وحكايتها وطريقتها هي نفس طريقة قصة أم معقل وأبي معقل، وهي دالة على ما دلت عليه.(230/25)
تراجم رجال إسناد حديث أم معقل من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث].
هو مسدد بن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
وعبد الوارث بن سعيد العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عامر الأحول].
عامر الأحول صدوق يخطئ، أخرج له البخاري في (جزء القراءة)، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن بكر بن عبد الله].
هو بكر بن عبد الله المزني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس قد مر ذكره.
وهذا الحديث أخرج النسائي نحوه مختصراً من رواية أبي معقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرجه ابن ماجة مختصراً كذلك بلفظ: (عمرة في رمضان تعدل حجة) عن أبي معقل.(230/26)
شرح حديث: (أن رسول الله اعتمر عمرتين: عمرة في ذي القعدة، وعمرة في شوال)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الأعلى بن حماد حدثنا داود بن عبد الرحمن عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعتمر عمرتين: عمرة في ذي القعدة، وعمرة في شوال)].
أورد أبو داود حديث عائشة: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين: عمرة في ذي القعدة، وعمرة في شوال)]، والرسول صلى الله عليه وسلم كما هو معلوم اعتمر أربع عمر، فلعلها تقصد بذلك العمر التي أتى بها مستقلة تامة، وذلك إنما هو في عمرة القضية وفي عمرة الجعرانة، وأما عمرة الحديبية فإنه صُدَّ عنها ولم يدخل مكة، وأما العمرة التي مع الحج فهي مقرونة مع الحج، وأما العمرتان المستقلتان التامتان فهما: عمرة القضية، وعمرة الجعرانة، فالقضية في السنة السابعة، والجعرانة في السنة الثامنة.
قوله: [(وعمرة في شوال)] قال بعض أهل العلم: إن هذا يحمل على أنه حصل البدء في شوال، ولكن التنفيذ كان في ذي القعدة، وبذلك تتفق النصوص على أن عُمُرَ النبي صلى الله عليه وسلم كانت كلها في ذي القعدة، أي: في نهايتها، وكانت العمرة التي مع الحجة في شهر ذي الحجة، والإحرام للحج والعمرة إنما كان في شهر ذي العقدة، وقيل: إن عمره كلها كانت في شهر ذي القعدة، باعتبار أن عمرته التي مع حجته كانت بدايتها في ذي القعدة، والإتيان بها وتنفيذها كان في ذي الحجة؛ لأنها مقرونة مع الحج.
إذاً: فيحمل قولها: [(وعمرة في شوال)] على أن العمرة بدئ بها في شوال وأتما في ذي القعدة، ومن العلماء من يقول: إن هذا وهم، وأن عمر النبي صلى الله عليه وسلم كلها كانت في ذي القعدة، وليس منها شيء في شوال، ولا في غيره من الشهور.(230/27)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله اعتمر عمرتين عمرة في ذي القعدة وعمرة في شوال)
قوله: [حدثنا عبد الأعلى بن حماد].
عبد الأعلى بن حماد لا بأس به بمعنى صدوق، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا داود بن عبد الرحمن].
داود بن عبد الرحمن وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة] هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، وهو من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(230/28)
شرح حديث (لقد علم ابن عمر أن رسول الله قد اعتمر ثلاثاً سوى التي قرنها بحجة الوداع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق عن مجاهد قال: (سئل ابن عمر رضي الله عنهما: كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: مرتين، فقالت عائشة رضي الله عنها: لقد علم ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد اعتمر ثلاثاً سوى التي قرنها بحجة الوداع)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثاً سوى عمرته التي قرنها بحجة الوداع، وابن عمر قال: اثنتين، ولعله يقصد بالاثنتين المستقلتين، وهما: عمرة القضية، وعمرة الجعرانة، وأما الباقيات: فالأولى صُدّ عنها هي عمرة الحديبية، والثانية هي العمرة التي قرنها مع الحج.
والحديث ضعفه الألباني ولا أدري ما وجه التضعيف، فالحديث مطابق للأحاديث الأخرى من جهة أن عُمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم أربع، وأن واحدة منهن مع حجته، والإسناد ليس فيه شيء، وحتى لو كان فيه كلام فالأحاديث الأخرى تشهد له وتدل عليه.(230/29)
تراجم رجال إسناد حديث: (لقد علم ابن عمر أن رسول الله قد اعتمر ثلاثاً سوى التي قرنها بحجة الوداع)
قوله: [حدثنا النفيلي].
هو عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا زهير] هو زهير بن معاوية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو إسحاق].
هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجاهد] هو مجاهد بن جبر المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سئل ابن عمر فقالت عائشة].
ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قد مر ذكرهما.(230/30)
شرح حديث: (اعتمر رسول الله أربع عمر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي وقتيبة قالا: حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (اعتمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربع عمر: عمرة الحديبية، والثانية حين تواطئوا على عمرة من قابل، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي قرن مع حجته)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عباس وفيه بيان عمر النبي صلى الله عليه وسلم وأنها أربع: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، وعمرة الجعرانة، والعمرة المقرونة مع حجته.(230/31)
تراجم رجال إسناد حديث: (اعتمر رسول الله أربع عمر)
قوله: [حدثنا النفيلي وقتيبة].
مر ذكرهما.
[حدثنا داود بن عبد الرحمن، عن عمرو بن دينار].
داود بن عبد الرحمن مر ذكره، وعمرو بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة عن ابن عباس].
قد مر ذكرهما.(230/32)
شرح حديث (أن رسول الله اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته)
[حدثنا أبو الوليد الطيالسي وهدبة بن خالد قالا: حدثنا همام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته)].
أورد أبو داود حديث أنس [(أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة إلا العمرة التي مع حجته)] وهذا مثل ما تقدم إلا أن قوله: [(إلا التي مع حجته)] لا ينافي ما تقدم؛ لأن العمرة التي مع الحجة حصل الإحرام لها في ذي القعدة، ولكن أداؤها كان في ذي الحجة، فالقول بأنها عمرة في ذي القعدة، لا ينافي ما جاء هنا من استثناء، فالبداية في ذي القعدة بلا شك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في آخر ذي القعدة، وأحرم بالحج والعمرة من الميقات قارناً، ولكن التنفيذ وهو الطواف والسعي للحج والعمرة إنما كان في شهر ذي الحجة، فلا تنافي بين ما تقدم وبين هذا؛ لأن المعتبر البداية بالنسبة للإحرام، وأما التنفيذ فكان في ذي الحجة.(230/33)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته)
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
هو هشام بن عبد الملك ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وهدبة بن خالد].
هدبة بن خالد ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود.
وهدبة بن خالد هذا هو الذي يقال له: هداب، وكثيراً ما يأتي في صحيح مسلم هداب، وقيل: إن هدبة اسمه، وهداباً لقبه، والبخاري لا يذكره إلا بـ هدبة، وأما مسلم فيذكره كثيراً بـ هداب، وأحدهما اسم والثاني لقب، واللقب يؤخذ من الاسم أحياناً، فلعل: هداب مأخوذ من هدبة.
[حدثنا همام].
هو همام بن يحيى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة] هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس] أنس قد مر ذكره.(230/34)
بيان ما أتقنه المصنف من هدبة في تفصيل عمر النبي صلى الله عليه وسلم
[قال أبو داود: أتقنت من هاهنا من هدبة، وسمعته من أبي الوليد ولم أضبطه: (عمرة زمن الحديبية، أو من الحديبية، وعمرة القضاء في ذي القعدة، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته)].
قال: أبو داود أتقنت من هاهنا عن هدبة ولم أتقنه من أبي الوليد، ثم ذكر ذلك التفصيل الذي أتقنه، حيث قال: (عمرة زمن الحديبية) وذلك عندما صده المشركون عنها، فتحلل صلى الله عليه وسلم بحلق رأسه ونحر هديه.
قوله: [(وعمرة من الجعرانة)] وهي في السنة الثامنة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته صلى الله عليه وسلم.(230/35)
حكم نقض العمرة للحائض ورفض أعمالها(230/36)
شرح حديث: (أردف أختك عائشة فأعمرها من التنعيم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: المُهلَّة بالعمرة تحيض فيدركها الحج فتنقض عمرتها وتهل بالحج هل تقضي عمرتها؟ حدثنا عبد الأعلى بن حماد حدثنا داود بن عبد الرحمن حدثني عبد الله بن عثمان بن خثيم عن يوسف بن ماهك عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيها رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وآله وسلم قال لـ عبد الرحمن: يا عبد الرحمن! أردف أختك عائشة فأعمرها من التنعيم، فإذا هبطت بها من الأكمة فلتحرم، فإنها عمرة متقبلة)].
قوله: [باب: المُهلَّة بالعمرة تحيض فيدركها الحج فتنقض عمرتها -وفي بعضها: فترفض عمرتها- وتهل بالحج هل تقضي عمرتها؟] سبق أن مر بنا الكلام في هذه المسألة، وأن عائشة رضي الله عنها لم ترفض العمرة بمعنى أنها ترفض نيتها وترفض إحرامها بها، وإنما رفضت أعمالها ككونها تطوف وتسعى؛ لأنها لم تتمكن من الطواف بسبب الحيض، فأمرها بأن ترفض أعمال العمرة وأن تدخل الحج على العمرة، وبهذا صارت قارنة، وقال لها صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لما أرادت أن تعتمر: (يكفيك طوافك وسعيك عن حجك وعمرتك)؛ وذلك لأن القارن يكفيه طواف واحد عن حجه وعمرته، وسعي واحد عن حجه وعمرته، وقد كانت عائشة رضي الله عنها من القارنين ولم تكن من المتمتعين؛ لأنها لم يتم لها ما أرادت بسبب الحيض، وأما أمهات المؤمنين فتم لهن ما أردن؛ لأنه لم يأتهن الحيض، فأتممن عمرتهن ثم أحرمن بالحج، وأرادت رضي الله عنها وأرضاها أن يكون عندها طواف وسعي مستقل كما حصل لأمهات المؤمنين، وكما أرادت في أول الأمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يكفيك طوافك وسعيك عن حجك وعمرتك)، ولما ألحت عليه أمر أخاها بأن يذهب بها إلى التنعيم وأن تحرم من هناك، وهو لم يأذن لها إلا بعد إلحاحها عليه، فهي عمرة ثانية، وليست بديلة عن العمرة السابقة؛ لأن العمرة السابقة موجودة مقرونة مع الحج، كما قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العمرة والحج، وقد قرنت عائشة بين العمرة والحج، حيث أدخلت الحج على العمرة فصارت قارنة، وهذه ليست عوضاً عنها، بل هي عمرة ثانية، ولهذا استدل بهذا أهل العلم على أنه يجوز الإتيان بعمرتين في السنة أو في الشهر، لأن عائشة رضي الله عنها حصل لها العمرة المقرونة مع الحج، وحصلت لها هذه العمرة التي بعد ذلك.
قوله: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ عبد الرحمن: يا عبد الرحمن أردف أختك عائشة فأعمرها من التنعيم، فإذا هبطت بها من الأكمة فلتحرم؛ فإنها عمرة متقبلة)].
الأكمة هي مكان في التنعيم.
قوله: [(فلتحرم فإنها عمرة متقبلة)].
يعني: أنها عمرة صحيحة مقبولة عند الله عز وجل، لكن لا يعني هذا أن الناس يترددون بين الكعبة والتنعيم، فإن هذا لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، وإنما جاء في قصة عائشة بعد إلحاح، وبعد ظرف خاص حصل لها، وعمر النبي صلى الله عليه وسلم كلها وهو داخل إلى مكة، ولم يخرج من مكة من أجل أن يأتي بعمرة.(230/37)
تراجم رجال إسناد حديث: (أردف أختك عائشة فأعمرها من التنعيم)
قوله: [حدثنا عبد الأعلى بن حماد حدثنا داود بن عبد الرحمن حدثني عبد الله بن عثمان بن خثيم].
عبد الله بن عثمان بن خثيم هو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يوسف بن ماهك] يوسف بن ماهك ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر] حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر ثقة، أخرج لها مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبيها].
هو عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(230/38)
شرح حديث (دخل النبي الجعرانة فجاء إلى المسجد فركع ما شاء الله ثم أحرم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا سعيد بن مزاحم بن أبي مزاحم حدثني أبي مزاحم عن عبد العزيز بن عبد الله بن أسيد، عن محرش الكعبي رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجعرانة فجاء إلى المسجد فركع ما شاء الله ثم أحرم، ثم استوى على راحلته فاستقبل بطن سرف حتى لقي طريق المدينة، فأصبح بمكة كبائتٍ)].
أورد أبو داود حديث محرش الكعبي رضي الله عنه، وهو يتعلق بعمرة الجعرانة، والحديث فيه تقديم وتأخير، والصحيح فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء الجعرانة وأحرم منها، ودخل مكة وطاف وسعى، ثم رجع إليها وصار فيها كبائت، ولهذا خفيت هذه العمرة؛ لأنها حصلت في الليل، فقد كان في الجعرانة في الليل، ثم ذهب إلى مكة ورجع فأصبح فيها كبائت، أي: بالجعرانة وليس بمكة، وبعدما أصبح اتجه إلى المدينة حتى التقى بطريق المدينة بمكان يقال له: سرف، وذهب إلى المدينة صلى الله عليه وسلم، فاللفظ هذا فيه إيهام، والصواب كما جاء في بعض الروايات أنه أحرم من الجعرانة في أول الليل، ثم ذهب واعتمر، ثم رجع فأصبح فيها كبائت، وبعد زوال الشمس من الغد ذهب إلى المدينة فالتقى بالطريق بسرف.
قوله: (جاء إلى المسجد) هذا منكر، يقول الألباني: غير ثابت، يعني: ذكر المسجد والصلاة فيه، وإنما فيه أنه أحرم منها ورجع إليها، ثم سافر إلى المدينة.
قوله: [(فجاء إلى المسجد فركع ما شاء الله ثم أحرم)] كأنه مسجد في الجعرانة، وليس المقصود الكعبة.
قوله: [(ثم استوى على راحلته)] يعني: حين ذهب إلى سرف، وهذا كان في الضحى بعد الزوال من الغد.
وهذه الرواية أخرجها الترمذي والنسائي.(230/39)
تراجم رجال إسناد حديث: (دخل النبي الجعرانة فجاء إلى المسجد فركع ما شاء الله، ثم أحرم)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
مر ذكره.
[حدثنا سعيد بن مزاحم بن أبي مزاحم].
سعيد بن مزاحم بن أبي مزاحم هو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثني أبي مزاحم].
مزاحم مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عبد العزيز بن عبد الله بن أسيد].
عبد العزيز بن عبد الله بن أسيد ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن محرش الكعبي] محرش الكعبي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.(230/40)
مدة المقام في عمرة القضاء(230/41)
شرح حديث: (أن رسول الله أقام في عمرة القضاء ثلاثاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب المقام في العمرة.
حدثنا داود بن رشيد حدثنا يحيى بن زكريا حدثنا محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقام في عمرة القضاء ثلاثاً)].
أورد أبو داود [باب المقام في العمرة]، والمقصود بذلك عمرة القضاء، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقام في عمرة القضاء بمكة ثلاثة أيام، وذلك للاتفاق الذي كان بينه وبين كفار قريش، وأنه يبقى ثلاثة أيام.
وهذا بيان لما قد حصل، وللإنسان أن يقيم ما تيسر له دون تحديد بثلاث أو بأقل أو أكثر، وهذا التحديد ورد بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم، وأما المهاجرون فإنهم لا يبقون أكثر من ثلاثة أيام، حتى يرجعوا إلى دارهم.(230/42)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله أقام في عمرة القضاء ثلاثاً)
قوله: [حدثنا داود بن رشيد].
داود بن رشيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا يحيى بن زكريا حدثنا محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح].
أبان بن صالح ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن.
[وعن ابن أبي نجيح] هو عبد الله بن أبي نجيح، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجاهد].
هو مجاهد بن جبر وقد مر ذكره.
[عن ابن عباس] ابن عباس مر ذكره.(230/43)
الأسئلة(230/44)
صفة التقصير الشرعي عند التحلل من الإحرام
السؤال
هل يكفي في صفة التقصير الأخذ بالمقص من جهة اليمين والشمال والخلف؟
الجواب
لا بد من تقصير الرأس كله ولا يكفي تقصير بعضه، كما أنه لا يكفي حلق بعضه، فيحلق كله أو يقصر كله، سواء كان ذلك بالمقص أو بالمكائن الكهربائية التي تأخذ الأطراف وتترك الأصول.(230/45)
صفة تقصير شعر المرأة عند التحلل من الإحرام
السؤال
كيف تقصر المرأة المحرمة؟
الجواب
تأخذ من أطراف ضفائرها مقدار الأنملة.(230/46)
حكم إدخال (الدش) إلى البيوت
السؤال
هل يجوز إدخال (الدش) إلى البيت من أجل مشاهدة قناة اقرأ التي تنقل دروساً علمية، وكذلك لرؤية صلاة الجمعة بمكة وبالمدينة، وكذلك لرؤية الأخبار المتعلقة بالمسلمين؟
الجواب
لا يجوز إدخال (الدشوش) في البيت مطلقاً؛ وذلك لما فيها من الشر الكثير، والواجب هو الحذر منها والابتعاد عنها؛ لأن أوساخ وقاذورات العالم كلها تأتي عن طريق هذه (الدشوش).(230/47)
حكم التبرك بمكان سجود النبي صلى الله عليه وسلم في المحراب
السؤال
هل يجوز التبرك بموضع سجوده صلى الله عليه وسلم في المحراب؟ وهل ذلك هو مكان سجوده حقاً؟
الجواب
لا ندري هل هذا مكان سجوده، أو لا، فالله أعلم بذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن له محراب، وإنما كان يصلي بين منبره وبيته، ويمين الصف من وراء المنبر من جهة الغرب، ولا نعلم مكاناً معيناً صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى الإنسان أن يصلي في أي مكان من المسجد، وإذا تيسر له أن يصلي في الروضة من دون أن يؤذي أحداً من الناس ويتنفل بها فإن ذلك حسن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة).(230/48)
حكم التمسح بالمنبر والمحراب في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما حكم ما يفعله بعض الزوار من مسح المنبر والمحراب في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
هذا كله من الأمور المنكرة، وعلى الإنسان عندما يأتي إلى هذا المسجد ألا يشغل نفسه بالتمسح والمسح، وإنما يصلي ويقرأ القرآن ويذكر الله عز وجل، فهذا هو الأمر المشروع، وأما كون الإنسان يمسح الجدران ويقبل الشبابيك وما إلى ذلك، فإن هذا من الأمور المحدثة والمنكرة، وقد عرفنا فيما مضى أن الله عز وجل لم يشرع للناس أن يقبلوا حجارة ولا جدراناً، وإنما شرع لهم أن يقبلوا الحجر الأسود فقط، ولو لم يقبله النبي صلى الله عليه وسلم ما قبله الناس، كما قال عمر: (أما إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) ثم إن محبة النبي عليه الصلاة والسلام يجب أن تكون في قلب كل مسلم، أعظم من محبته لنفسه وأبيه وأمه وأولاده، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)، ويقول الله عز وجل مبيناً علامة المحبة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، فعلامة المحبة هي الاتباع وليس الابتداع، وبعض أهل العلم يسمي هذه الآية: آية الامتحان؛ لأن من ادعى محبة الله ورسوله فعليه أن يقيم البينة، والبينة هي الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذه هي علامات المحبة الصادقة، وأما التمسح بالجدران والشبابيك فليس من علامات المحبة، بل هو خلاف السنة وخلاف ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وأرضاهم، وسلف هذه الأمة، فهو من محدثات الأمور، فمحبة النبي عليه الصلاة والسلام يجب أن تكون في قلب كل مسلم فوق محبة كل محبوب من الخلق؛ وذلك أن النعمة التي ساقها الله للناس على يديه هي أعظم نعمة على المسلم، وهي نعمة الهداية إلى الصراط المستقيم، ونعمة الخروج من الظلمات إلى النور، فهذا هو السبب في كون محبته يجب أن تفوق محبة كل محبوب من الخلق عليه الصلاة والسلام.
إذاً: فمحبته عليه الصلاة والسلام لا تكون بالتمسح بالجدران والشبابيك، وإنما تكون باتباعه والسير على منهاجه، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].(230/49)
بيان ما يقال عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل هناك أوراد شرعية تقال عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
ليس هناك شيء، وإذا جاء الإنسان إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فعليه أن يسلم عليه ويدعو له، ولا يدعوه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الدعاء عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله، يقول عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]، وقال عليه الصلاة والسلام: (الدعاء هو العبادة)، وقد سبق أن مر بنا الحديث في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاء غير الله شرك بالله، وصرف لحق الله إلى غير الله.(230/50)
حكم لبس الجوارب المقطوعة دون الكعبين للمحرم للحاجة، وكذلك غير المقطوعة
السؤال
أنا مريض بمرض في قدميّ، ولا أستطيع الطواف والسعي حافي القدمين، وأريد أن ألبس جوربين دون الكعبين، بحيث لا يغطيان الكعبين؛ لتخفيف الآلام، فهل يجوز لي ذلك؟
الجواب
إذا كانت الجوارب دون الكعبين فلا بأس بها، مثل الخفاف التي تكون مقطوعة دون الكعبين، ولو أراد أن يبقي الجوارب دون قطع فلا بأس بذلك ما دام أنه بحاجة إليها، لكن عليه أن يطعم ستة مساكين أو يذبح شاة، أو يصوم ثلاثة أيام، وأما إن قطع الجوارب وكانت دون الكعبين فإنه ليس عليه شيء.(230/51)
حكم التضحية عن النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما توجيهكم لرجل يريد الحج وهو يريد أن يضحي عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
إذا أراد الإنسان أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيء عن طريقه فما عليه إلا أن يعمل صالحاً لنفسه، فإن الله يعطي نبيه مثل ما أعطاه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي دل الناس على الخير، ومن دل على هدى كان له مثل أجر فاعله، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثم من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً).
إذاً: فإذا أردت أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيء بسببك، فما عليك إلا أن تعمل لنفسك عملاً صالحاً، كالصلاة والصيام والزكاة والحج وكل عمل تتقرب به إلى الله عز وجل، والله تعالى سيثيب نبيه مثل ما أثابك، ولهذا فالنبي عليه الصلاة والسلام له من الأجر مثل أجور أمته من حين بعثه الله إلى قيام الساعة؛ لأنه هو الذي دل الناس على هذا الحق والهدى، كما في الحديث: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله)، فلا تشغل نفسك بأن تضحي للنبي صلى الله عليه وسلم، بل ضح عن نفسك والله تعالى سيثيبك على فعلك، ويثيب نبيه مثل ما أثابك.(230/52)
حكم السؤال بوجه الرسول صلى الله عليه وسلم والتوسل به
السؤال
هل يجوز أن يسأل الإنسان بوجه الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
لا، لا يسأل بوجه الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يقول: أسألك بوجه الرسول، أو أتوسل إليك بالرسول، فكل هذا لا يجوز وهو من الأمور المنكرة.(230/53)
حكم الحلق للعمرة قبل الحج بثلاثة أسابيع مع إرادة الحج ذلك العام
السؤال
أريد أن أقوم بعمرة ولم يبق إلا أيام على الحج فهل الأفضل لي الآن التقصير أو الحلق؟
الجواب
بقي على الحج تقريباً خمسة وعشرون يوماً، فيمكن أن يخرج الشعر وينبت، وبالتالي يمكن أن يحلق الشعر يوم العيد.(230/54)
شرح سنن أبي داود [231]
طواف الإفاضة ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به، ولو رجع الإنسان إلى بلده ولم يطف طواف الإفاضة لم يتم حجه، وعليه أن يرجع من بلده ليطوف طواف الإفاضة، والنبي صلى الله عليه وسلم رمى ثم نحر ثم حلق ثم طاف وكان ذلك ضحىً من يوم النحر، لكن من قدم بعض هذه الأعمال على بعض فلا حرج عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما سئل يوم النحر عن شيء قدم أو أخر إلا قال: (افعل ولا حرج)، وهذا تيسير منه عليه الصلاة والسلام على الأمة.(231/1)
حكم طواف الإفاضة في الحج(231/2)
شرح حديث (أفاض النبي يوم النحر ثم صلى الظهر بمنى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الإفاضة في الحج.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أخبرنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أفاض يوم النحر، ثم صلى الظهر بمنى، يعني راجعاً).
].
قوله: باب: الإفاضة في الحج، أي: طواف الإفاضة، فعلى الحاج بعدما يرمي الجمرة وينحر هديه ويحلق رأسه أن يذهب إلى مكة، هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث رتب أعمال يوم النحر بهذه الترتيب: رمى ثم نحر ثم حلق ثم طاف، ولكنه ما سئل عن شيء قدم ولا أخر في ذلك اليوم إلا قال: (لا حرج).
وطواف الإفاضة ركن من أركان الحج، لا يتم الحج إلا به، ولا يجبر بشيء وإنما لا بد من الإتيان به، ولو رجع الإنسان إلى بلده دون أن يطوف لم يتم حجه، وعليه أن يرجع من بلده ليطوف هذا الطواف؛ لأنه ركن لا يتم الحج إلا به.
والنبي صلى الله عليه وسلم رمى ثم نحر ثم حلق، ثم طاف، وكان ذلك ضحى، ولكن هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بمكة أو صلى الظهر بمنى؟ جاءت الأحاديث الصحيحة مختلفة في ذلك، فمنها حديث ابن عمر هذا الذي فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى أفاض يوم النحر ثم صلى الظهر بمنى يعني: راجعاً) يعني: عندما رجع من مكة، وجاء عن جابر وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة) واختلف العلماء في ترجيح ما جاء في هذين الحديثين، فمن أهل العلم من رجح أنه صلى الظهر بمكة؛ وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رمى ضحى وقد ظلل عليه بثوب، من شدة حرارة الشمس، ثم ذهب إلى المنحر ونحر ثلاثاً وستين من الإبل، وطبخ منها وأكل منها وشرب من مرقها، وحلق رأسه، ثم ذهب إلى مكة فطاف طواف الإفاضة، فكونه يرجع إلى منى مع هذه الأعمال فالوقت فيه ضيق، فيكون الراجح أنه صلى الظهر بمكة، كما جاء في حديث جابر.
ومن أهل العلم من رجح ما جاء في حديث ابن عمر وأنه صلى الظهر بمنى، ومما يدل على هذا أو يقويه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه أناب أحداً أن يصلي بالناس بمنى، ولو كان ذلك حاصلاً لنقل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إمام المسلمين، وهو الذي يصلي بهم، ونيابة غيره معروفة، فلما صلى عبد الرحمن بن عوف في إحدى السفرات إماماً، نقل ذلك.
ولما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بين بني عمرو بن عوف أناب أبا بكر ليصلي بالناس إذا تأخر، وكذلك في مرض موته، فلو أنه صلى بمكة لأناب من يصلي عنه بمنى ولنقل ذلك.
وعلى كل فالأحاديث كلها صحيحة، والله تعالى أعلم بالواقع، هل صلى الظهر بمنى أو صلى الظهر بمكة؟ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض ضحىً.(231/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أفاض النبي يوم النحر ثم صلى الظهر بمنى)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرزاق] هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا عبيد الله] هو عبيد الله بن عمر العمري المصغر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع] هو نافع مولى ابن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(231/4)
شرح حديث أم سلمة في عدم الحل الكامل قبل طواف الإفاضة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين المعنى واحد، قالا: حدثنا ابن أبي عدي عن محمد بن إسحاق حدثنا أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة عن أبيه رضي الله عنه، وعن أمه زينب بنت أبي سلمة رضي الله عنهما عن أم سلمة رضي الله عنها يحدثانه جميعاً ذاك عنها قالت: (كانت ليلتي التي يصير إلي فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مساء يوم النحر، فصار إلي ودخل علي وهب بن زمعة، ومعه رجل من آل أبي أمية متقمصين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لـ وهب: هل أفضت أبا عبد الله؟ قال: لا والله يا رسول الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: انزع عنك القميص، قال: فنزعه من رأسه، ونزع صاحبه قميصه من رأسه، ثم قال: ولم يا رسول الله؟ قال: إن هذا يوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا -يعني: من كل ما حرمتم منه إلا النساء-، فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت صرتم حرماً كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندها في مساء يوم النحر، أي ليلة الحادي عشر، وأنه جاء وهب بن زمعة ومعه رجل آخر، وكانا قد لبسا قمصاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ وهب [(هل أفضت أبا عبد الله؟ قال: لا والله يا رسول الله، قال: انزع عنك القميص، قال: فنزعه من رأسه، ونزع صاحبه قميصه من رأسه، ثم قال: ولم يا رسول الله؟)] يعني: لماذا أنزع القميص؟ فقال عليه الصلاة والسلام: [(إن هذا اليوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا -يعني: من كل ما حرمتم منه إلا النساء-، فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت صرتم حرماً كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به)].
هذا الحديث يدل على أن الإنسان إذا جاء المساء من يوم النحر، وهو لم يطف بالبيت أنه يبقى محرماً كهيئته التي كان عليها قبل أن يرمي الجمرة، ويستمر في ذلك حتى يطوف بالبيت، هذا هو الذي يدل عليه هذا الحديث، والحديث صححه بعض أهل العلم، وبعضهم تكلموا في متنه وفي العمل به، وفي إسناده من هو متكلم فيه، حيث قال الحافظ فيه: مقبول، والمقبول هو الذي يقبل حديثه عند المتابعة، ولأهل العلم فيه كلام لم أتمكن اليوم من الوقوف عليه، وقد اطلعت عليه سابقاً، فأنا أرجئ الكلام على ذلك فيما يتعلق بهذا الحديث من جهة كون العلماء لم يعملوا به، حتى أقف على تلك الأقوال التي سبق أن اطلعت عليها.
هناك حديث وعدنا بأن نذكر الشيء الذي نقف عليه حوله، وهو حديث أم سلمة رضي الله عنها الذي فيه أن الإنسان إذا لم يطف طواف الإفاضة قبل غروب الشمس يوم النحر، فإنه يعود إلى إحرامه وهيئته كما كان عليه قبل رمي الجمرة حتى يطوف بالبيت.
أولاً: عرفنا فيما مضى أن الحديث فيه رجل متكلم فيه وهو مقبول، والمقبول هو الذي يقبل حديثه بعد المتابعة، وذكر جماعة من أهل العلم أنه لم يقل به أحد من الفقهاء.
قال البيهقي في كتابه السنن: إنه لا يعلم أحد من الفقهاء قال بهذا الحديث.
قال النووي: فيكون دل الإجماع على نسخه.
والحافظ ابن رجب في كتابه العلل ذكره ضمن الأحاديث التي لم يعمل بها أحد من أهل العلم، وقال بعد ذلك: ويذكر أن عروة بن الزبير قال به.
وذكر السخاوي نقلاً عن البلقيني أنه قال: هذا مثال لما دل الإجماع على نسخه من الأحاديث.
فهذا ما وقفت عليه مما ذكره أهل العلم حول هذا الحديث.
ثم إنه من حيث المعنى يترتب عليه أن الإنسان إذا كان سيعود إلى ما كان عليه قبل الرمي فمعنى ذلك أنه سيرجع إلى التلبية، وسيرجع إلى ما كان عليه قبل رمي جمرة العقبة، ويترتب على ذلك لو أن إنساناً جامع في ذلك الوقت فكأنه جامع قبل التحلل الأول، وإذا جامع قبل التحلل الأول فسد حجه، ويلزمه أن يتمه فاسداً، ويلزمه بدنه، ويحج من قابل.
والشيخ ناصر رحمه الله في كتاب مناسك الحج والعمرة قال: إن الحديث صحيح، وابن القيم يفهم من كلامه أنه محفوظ كما في تهذيب السنن، لكن هذا الذي قاله البيهقي قال في السنن: إنه لا يُعلَم أحد من الفقهاء قال بهذا الحديث، وأيضاً يترتب عليه هذه الأمور التي أشرت إليها، وأيضاً فيه هذا الشخص المقبول، وإن كان له طريق أخرى يتقوى بها، والذين قالوا بنسخه فذلك على فرض ثبوته، أما إذا كان غير ثابت فوجوده مثل عدمه.(231/5)
تراجم رجال إسناد حديث أم سلمة في عدم الحل الكامل قبل طواف الإفاضة
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين].
يحيى بن معين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن أبي عدي] هو محمد بن إبراهيم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إسحاق] هو محمد بن إسحاق المدني وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة] أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة مقبول، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبيه] وهو عبد الله بن زمعة صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[وعن أمه زينب بنت أبي سلمة].
زينب بنت أبي سلمة ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أم سلمة] هي أم المؤمنين هند بنت أمية رضي الله عنها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وقد سبق أن مر بنا حديث قبل هذا فيه الدلالة على أن ليلتها كانت ليلة العيد، وليست ليلة الحادي عشر، وهو حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بـ أم سلمة ليلة النحر، ورمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندها).
فلا أدري هل المقصود اليوم الذي سيأتي مع الليلة الآتية أو أن المقصود أن ذلك اليوم الذي هو يوم العيد، مع الليلة التي قبله؛ لأن التعجيل من أجل ذلك، ويفهم منه أن ليلة العيد كان عندها صلى الله عليه وسلم، وأنها ليلتها، وهو يختلف عما جاء في هذا الحديث الذي فيه أن ليلة إحدى عشرة كان عند أم سلمة.(231/6)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر طواف يوم النحر إلى الليل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن أبي الزبير عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخر طواف يوم النحر إلى الليل)].
أورد أبو داود حديث عائشة وابن عباس [(أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر طواف يوم النحر إلى الليل)] يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر طواف ذلك اليوم إلى الليل، وهذا يخالف ما تقدم من أنه أفاض في النهار، وأنه صلى الظهر بمنى أو بمكة على اختلاف في الأحاديث الصحيحة في ذلك، والحديث إذا صح فإنه يحمل على أنه أذن لأصحابه أن يؤخروا الطواف إلى الليل، ولهذا نظائر في كونه يأتي ذكر العمل مضافاً إليه والمراد أصحابه؛ لأن ذلك بإذنه صلى الله عليه وسلم وبإرشاده وتوجيهه، ومن العلماء من قال: إن هذا الذي أخره إلى الليل إنما هو الذهاب إلى مكة في غير يوم العيد في الليالي الأخرى وهو طواف تطوع، وأنه كان يزور البيت، لكن هذا غير واضح؛ لأن المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما دخل البيت إلا ثلاث مرات: مرة عند طواف القدوم، أول ما قدم مكة، ومرة عند طواف الإفاضة يوم العيد، ومرة عند طواف الوداع ليلة الرابع عشر، لما انصرف من منى وبات بالمحصب، ومشى آخر الليل وطاف طواف الوداع، وذهب من مكة إلى المدينة صلى الله عليه وسلم، ومن العلماء من ضعف الحديث من جهة أن أبا الزبير مدلس، وقد رواه بالعنعنة عن عائشة وعن ابن عباس، وعلى كل فالمحفوظ والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء في حديث جابر وحديث ابن عمر وغيرهما، وهناك أحاديث صحيحة تدل على أنه أفاض ضحى يوم النحر.(231/7)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي أخر طواف يوم النحر إلى الليل)
قوله: [حدثنا محمد بن بشار] محمد بن بشار الملقب بندار البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرحمن] هو عبد الرحمن بن مهدي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان] هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة] عائشة أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[وابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(231/8)
شرح حديث: (أن النبي لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب حدثني ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس [(أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه) يعني: أنه لم يحصل منه الرمل وهو الإسراع الخفيف مع مقاربة الخطا في الأشواط الثلاثة الأول، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء عنه الرمل في طواف العمرة، وفي طواف القدوم في حجته صلى الله عليه وسلم، وعرفنا أنه طاف على بعير، وأن المقصود بذلك أمره لأصحابه وأذنه لهم بأن يرملوا الأشواط الثلاثة الأول، ويمشوا في الأربعة الباقية، فـ ابن عباس رضي الله عنه يقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه) ومعنى ذلك أن الرمل إنما يكون في أول طواف يكون فيه القدوم إلى مكة، سواء كان الإنسان حاجاً أو معتمراً.(231/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود].
سليمان بن داود المهري أبو الربيع المصري ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبر ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني ابن جريج] هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن أبي رباح] هو عطاء بن أبي رباح المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس] ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قد مر ذكره.(231/10)
حكم طواف الوداع(231/11)
شرح حديث: (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: الوداع.
حدثنا نصر بن علي حدثنا سفيان عن سليمان الأحول عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت)].
قوله: باب الوداع أي: على الحاج أن يودع البيت إذا انتهى من أعمال الحج، ولم يبق إلا السفر والعودة إلى بلاده، أو الخروج من مكة إلى أي بلدة أخرى بالطواف سبعة أشواط، بحيث لا يخرج من مكة إلا وقد ودع البيت بأن يطوف به سبعة أشواط، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك وفعل ذلك، فإنه عليه الصلاة والسلام نزل المحصب، ومشى سحراً إلى مكة وطاف طواف الوداع وسافر في ليلة الرابع عشر.
أورد أبو داود حديث ابن عباس: (كان الناس ينصرفون في كل وجه)] يعني: كانوا يذهبون إلى كل جهة منصرفين إلى ديارهم بعد أداء الحج، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت).
يعني: لا ينفرن أحدكم من مكة ومن الحج متجهاً إلى بلده أو إلى أي بلد آخر، حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت.
وهذا يدلنا على أن طواف الوداع واجب، ولهذا رخص فيه للحائض والنفساء، والترخيص للحائض والنفساء يدل على أن غيرهما لم يخرص له، وإنما عليه أن يطوف، وألا يترك الطواف بل عليه أن يأتي به.(231/12)
تراجم رجال إسناد حديث (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت)
قوله: [حدثنا نصر بن علي] هو نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان] هو سفيان بن عيينة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان الأحول] سليمان الأحول وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن طاوس] هو طاوس بن كيسان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس] ابن عباس قد مر ذكره.(231/13)
حكم طواف الوداع للعمرة
طواف الوداع يشرع في الحج، وأما في العمرة فالأولى للإنسان أن يودع، ولكن إن خرج غير مودع لا شيء عليه؛ لأنه ما جاء شيء يدل على العمرة بخصوصها، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك في الحج، فدل على أن طواف الوداع في الحج واجب، وأن الإنسان لا ينفر من مكة إلا وقد ودع البيت، وأما طواف الوداع للعمرة فلم يأت شيء يخصها، ولكن الأولى للإنسان ألا يخرج إلا وقد ودع، فإن خرج غير مودع فلا شيء عليه.(231/14)
حكم الحائض تخرج بعد الإفاضة من مكة(231/15)
شرح حديث احتباس الحائض حتى تطوف بعد الطهر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: الحائض تخرج بعد الإفاضة.
حدثنا القعنبي عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر صفية بنت حيي رضي الله عنها، فقيل: إنها قد حاضت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لعلها حابستنا، قالوا: يا رسول الله! إنها قد أفاضت، فقال: فلا إذاً).
قوله: باب: الحائض تخرج بعد الإفاضة يعني: للحائض أن تخرج من مكة بعد الإفاضة غير مودعة، ولا يلزمها أن تنتظر حتى تطهر وتطوف طواف الوداع، فقد رخص لها أن تخرج بلا وداع ولا بأس بذلك، وهذا إنما هو للحائض والنفساء، فقد رخص لهن بترك طواف الوداع، وأما طواف الإفاضة، فإنه لازم في حق الجميع، ولا بد للحائض أن تبقى حتى تطهر وتطوف، وإذا كان بقاؤها لا يتيسر، وتمكنت من أن تذهب وترجع فإنها تذهب وترجع لأداء طواف الإفاضة؛ لأنه ركن لا يتم الحج إلا به، وطواف الوداع هو الذي يسقط عن الحائض والنفساء.
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر صفية، فقيل: إنها قد حاضت، فقال: لعلها حابستنا) يعني: أنه كان يظن أنها لم تطف طواف الإفاضة، وأنه سيترتب على ذلك حبس الناس بسببها حتى تطهر لتطوف، فلما أخبر بأنها قد أفاضت يوم النحر قال: (فلا إذاً) يعني: لن نحبس ولن ننتظر حتى تظهر فتطوف؛ لأن طواف الوداع يسقط عنها، وقد جاءت أحاديث أخرى تدل على سقوط طواف الوداع عن الحائض والنفساء، أما من عداهم فإنه لا يسقط عنه طواف الوداع، بل يجب عليه أن يأتي به ولكنه لو تركه يكون عليه فدية، أما طواف الإفاضة فإنه ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به، ولو خرج الإنسان من مكة ولم يطف بالبيت طواف الإفاضة، فإنه يتعين عليه أن يرجع إلى مكة وأن يأتي بهذا الطواف؛ لأنه ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعلها حابستنا)] وذلك عندما أخبر بأنها حاضت، وكان قال ذلك على اعتبار أنه كان يظن أنها لم تطف طواف الإفاضة، فهذا فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب؛ لأنه لو كان يعلم الغيب لما خفي عليه أمر صفية وأنها طافت طواف الإفاضة، فدل هذا على أنه لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، وأن هناك أموراً تكون موجودة وتكون خفية خفيت عليه صلى الله عليه وسلم، كما خفي عليه كون صفية أتاها الحيض بعد الإفاضة، وكما جاء في قضية الإفك، وكون النبي صلى الله عليه وسلم مكث مدة متألماً متأثراً مما رميت به عائشة، ولا يعلم الحقيقة حتى نزلت براءتها في آيات تتلى في سورة النور، وكذلك العقد الذي فقد في سفر من الأسفار، وكان تحت الجمل الذي كانت تركبه عائشة، وقد بقي الناس يبحثون عن العقد، ولما جاء الصباح ليس معهم ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، ثم بعد ذلك أثاروا الإبل، وإذا العقد تحت الجمل الذي كانت تركب عليه عائشة، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما علم بذلك العقد، وقد كانوا مكثوا بالليل يبحثون عن ذلك العقد، فهذا من الأدلة الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وأن علم الغيب على الإطلاق إنما هو من خصائص الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما أطلعه الله عليه من الغيوب، وقد أطلعه الله على غيوب كثيرة، وخفي عليه غيوب كثيرة.(231/16)
تراجم رجال إسناد حديث احتباس الحائض حتى تطوف بعد الطهر
قوله: [حدثنا القعنبي] هو عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك] هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة] هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة] عائشة مر ذكرها.(231/17)
شرح حديث (أتيت عمر فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ثم تحيض)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن عون أخبرنا أبو عوانة عن يعلى بن عطاء عن الوليد بن عبد الرحمن عن الحارث بن عبد الله بن أوس قال: (أتيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ثم تحيض، قال: ليكن آخر عهدها بالبيت، قال: فقال الحارث: كذلك أفتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فقال عمر: أربت عن يديك، سألتني عن شيء سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكيما أخالف!)].
أورد أبو داود حديث الحارث بن عبد الله بن أوس رضي الله عنه: (أنه جاء إلى عمر وسأله عن الحائض تطوف يوم النحر، ثم تحيض، فقال عمر: ليكن آخر عهدها بالبيت، قال: فقال الحارث: كذلك أفتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: أربت عن يديك).
يعني: دعا عمر رضي الله عنه عليه؛ لكونه سأله عن شيء قد سأل عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه قد يجيب بشيء يخالف ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم باجتهاده وعدم اطلاعه.
وفيه أن من بلغه حديث النبي صلى الله عليه وسلم ليس له أن يسأل غيره عما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الحديث بلغ هذا الرجل عن النبي عليه الصلاة والسلام فلا يحتاج أن يسأل غيره عن ذلك.
وهنا قال: (ليكن آخر عهدها البيت) وهذا إنما يكون لو طهرت قبل أن تسافر، أما إذا كان الحيض مستمراً معها وأرادوا السفر، فقد جاءت الأحاديث الأخرى كما في حديث صفية وغيره أنها تنفر ولا شيء عليها.
وهذا الحديث مخالف للأحاديث الأخرى الصحيحة، فيكون صحيحاً محفوظاً باعتبار أنها إذا طهرت فإنها تطوف، أما إذا كان الحيض مستمراً معها، فإنها لا تحبس الناس، وإنما تنفر، كما جاء في الحديث: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم البيت، إلا أنه خفف عن الحائض) وحديث عائشة الذي تقدم في قصة صفية: (فقيل: إنها قد أفاضت، فقال: فلا إذاً) يعني: أن طواف الوداع يسقط عنها.
هذه فائدة: يقول الحافظ في الفتح (3/ 587): واستدل الطحاوي بحديث عائشة وحديث أم سلمة على نسخ حديث الحارث في حق الحائض.
يعني: أن العمل بحديث الحارث منسوخ.
وهذا يشكل مع حديث قصة صفية؛ لأنه هناك ليس فيه انتظار، وأما هنا فإنه قد يفهم منه الانتظار، فيكون بذلك منسوخاً، لكن لو كان الحيض قد ذهب عنها أو كانت باقية لأمر من الأمور، أو أرادت أن تجلس، فلابد أن يكون آخر عهدها الطواف بالبيت؛ لأن سقوط ذلك عنها كان بسبب الحيض، أما وقد ذهب الحيض فلابد أن تطوف.
يقول الخطابي: قلت: وهذا على سبيل الاختيار في الحائض، إذا كان في الزمان نفس، وفي الوقت مهلة، فأما إذا أعجلها السير كان لها أن تنفر من غير وداع بدليل خبر صفية.
إذاً: لا شك أنها لو طهرت فلا يجوز لها أن تخرج إلا وقد ودعت؛ لأنها لو طهرت فليس هناك مانع يمنعها من الطواف، وإنما الكلام في قضية الاستعجال إذا أرادت أن تسافر وتنفر، فيسقط عنها الوداع كما جاء في حديث صفية وغيره: (أنه خفف عن الحائض) يعني: في حال حيضها، وأما إذا طهرت فإنه يتعين عليها أن تطوف ولا يجوز لها أن تخرج، ولو خرجت غير مودعة لزمها دم؛ لأنها خرجت وهي طاهرة.(231/18)
تراجم رجال إسناد حديث (أتيت عمر فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ثم تحيض)
قوله: [حدثنا عمرو بن عون].
عمرو بن عون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا أبو عوانة].
هو الوضاح بن عبد الله اليشكري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يعلى بن عطاء].
يعلى بن عطاء وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الوليد بن عبد الرحمن].
هو الوليد بن عبد الرحمن الجرشي وهو ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الحارث بن عبد الله بن أوس] الحارث بن عبد الله بن أوس رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.
والعجيب أن الحافظ في التقريب يقول: إنه مختلف في صحبته، لكن هذا الحديث يدل على صحبته؛ لأنه قال: (كذلك أفتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم).
ويقول الحافظ أيضاً: وذكره ابن حبان في ثقات التابعين.(231/19)
طواف الوداع(231/20)
شرح حديث عائشة في طواف الوداع
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: طواف الوداع.
حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن أفلح عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أحرمت من التنعيم بعمرة، فدخلت فقضيت عمرتي وانتظرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأبطح حتى فرغت، وأمر الناس بالرحيل، قالت: وأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البيت فطاف به ثم خرج)].
قوله: باب: طواف الوداع هذا الباب لا يختلف عن الباب الذي قبله الذي هو باب: الوداع، وكأن هذا التفريق المقصود منه أن الإنسان يودع قبل مغادرة مكة، وتلك الترجمة أورد لزوم طواف الوداع، وهنا ذكر صفة طواف الوداع، وأنه يطاف بالبيت سبعة أشواط عند مغادرة مكة، ويقال لذلك: طواف الوداع، وليس بين الترجمتين فرق، وكلها تتعلق بطواف الوداع، وأن الإنسان لا يغادر مكة إذا كان حاجاً إلا وقد ودع البيت، إلا الحائض والنفساء فإنهما قد رخص لهما في ذلك.
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أعمرها من التنعيم، كان بالأبطح ينتظرها، فلما كان في السحر في آخر الليل، نزل إلى مكة وطاف طواف الوداع، ثم خرج قافلاً إلى المدينة صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدل على أن طواف الوداع من فعله عليه الصلاة والسلام، والأحاديث التي مرت تدل على طواف الوداع من قوله صلى الله عليه وسلم، فطواف الوداع ثابت من قوله وفعله عليه الصلاة والسلام.(231/21)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة في طواف الوداع
قوله: [حدثنا وهب بن بقية] هو وهب بن بقية الواسطي وهو ثقة، وحديثه أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن خالد] هو خالد بن عبد الله الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أفلح] هو أفلح بن حميد وهو ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن القاسم].
هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
قد مر ذكرها.(231/22)
شرح حديث عائشة في طواف الوداع من طريق أخرى وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو بكر -يعني: الحنفي - حدثنا أفلح عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (خرجت معه -تعني مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم- في النفر الآخر، فنزل المحصب) قال أبو داود: ولم يذكر ابن بشار قصة بعثها إلى التنعيم في هذا الحديث، قالت: (ثم جئته بسحر، فأذَّن في أصحابه بالرحيل، فارتحل، فمر بالبيت قبل صلاة الصبح، فطاف به حين خرج، ثم انصرف متوجهاً إلى المدينة)].
أورد المصنف حديث عائشة من طريق أخرى، وفيه ما في الذي قبله.
قول عائشة: (فنزل المحصب).
يعني: أن عائشة رضي الله عنها كانت معه في النفر الآخر الذي هو اليوم الثالث عشر؛ لأن النفر نفران: النفر الأول في اليوم الثاني عشر لمن أراد أن يتعجل، والنفر الثاني في اليوم الثالث عشر بعد رمي الجمار بعد الزوال لمن أراد أن يتأخر، والنبي صلى الله عليه وسلم قد تأخر في منى إلى اليوم الثالث عشر حتى رمى الجمار، وانصرف من منى عليه الصلاة والسلام، وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء في المحصب، ثم إنه انطلق آخر الليل في السحر وطاف طواف الوداع صلى الله عليه وسلم.
قوله: [حدثنا محمد بن بشار] محمد بن بشار مر ذكره.
[حدثنا أبو بكر يعني الحنفي] هو عبد الكبير بن عبد المجيد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أفلح عن القاسم عن عائشة].
وقد مر ذكر الثلاثة.(231/23)
شرح حديث: (كان إذا جاز مكاناً من دار يعلى استقبل البيت فدعا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن معين حدثنا هشام بن يوسف عن ابن جريج أخبرني عبيد الله بن أبي يزيد: أن عبد الرحمن بن طارق أخبره عن أمه رضي الله عنها: (أن رسول صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا جاز مكاناً من دار يعلى -نسيه عبيد الله - استقبل البيت فدعا)].
أورد أبو داود حديث أم عبد الرحمن بن طارق: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جاز مكاناً من دار يعلى -نسيه عبيد الله - استقبل القبلة فدعا)].
هذا الحديث ليس فيه شيء يدل على طواف الوداع، ومعناه غير واضح، وما أعرف ما هي دار يعلى هذه، وأيضاً ذلك المكان الذي نسيه عبيد الله أنه كان يستقبل البيت ويدعو، والحديث فيه عبد الرحمن بن طارق متكلم فيه فهو مقبول، يعني: أنه يقبل حديثه عند المتابعة.(231/24)
تراجم رجال إسناد حديث (كان إذا جاز مكاناً من دار يعلى استقبل البيت فدعا)
قوله: [حدثنا يحيى بن معين].
يحيى بن معين مر ذكره.
[حدثنا هشام بن يوسف].
هشام بن يوسف ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن ابن جريج أخبرني عبيد الله بن أبي يزيد].
عبيد الله بن أبي يزيد ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[أن عبد الرحمن بن طارق].
عبد الرحمن بن طارق مقبول، أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
[عن أمه] يقول الحافظ: لم أقف على اسمها وهي صحابية، أخرج لها أبو داود والنسائي.(231/25)
حكم النزول بالمحصب(231/26)
شرح حديث: (إنما نزل رسول الله المحصب ليكون أسمح لخروجه وليس بسنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: التحصيب.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إنما نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المحصب ليكون أسمح لخروجه وليس بسنة، فمن شاء نزله، ومن شاء لم ينزل).
].
قوله: باب: التحصيب، التحصيب هو النزول بالمحصب، والمحصب هو الذي يقال له: الأبطح والبطحاء، وهو بين مكة ومنى.
أورد أبو داود حديث عائشة (أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما نزل المحصب؛ لأنه أسمح لخروجه)] يعني: أنه نزل في ذلك المكان؛ لأنه متوسط بين مكة ومنى، فقبل الحج جاء ونزل فيه، ودخل وطاف وصلى فيه أربعة أيام يقصر الصلاة، وفي اليوم الثامن قبل الزوال ذهب إلى منى من المحصب وصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، وبعد أن رمى الجمار في اليوم الثالث عشر، انصرف إلى الأبطح وصلى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وفي آخر ليلة الرابع عشر نزل منه إلى الكعبة وطاف طواف الوداع ثم اتجه إلى المدينة عليه الصلاة والسلام، فـ عائشة رضي الله عنها تقول: إنه نزل المحصب؛ لأنه أسمح لطريقه.
قولها: (وليس بسنة) يعني: ليس بسنة من سنن الحج ولا من المشاعر ولا من الأماكن التي تقصد مثل منى وعرفة ومزدلفة، وإنما كان أسمح لطريقه وليس فيه سنة، فمن شاء نزل ومن شاء لم ينزل.
وبعض أهل العلم قال: إنه يستحب أن ينزل الحاج في المحصب اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد نزله، ولكن عائشة رضي الله عنه تبين السبب في نزوله وأنه كان أسمح للطريق، لأنه جاء إليه النبي صلى الله عليه وسلم وذهب منه إلى مكة، ثم رجع إليه وذهب منه إلى منى، ثم بعد الحج نزل به، وذهب منه في آخر الليل إلى مكة وطاف طواف الوداع، وخرج إلى المدينة صلى الله عليه وسلم.
والمحصب الآن هو المنطقة التي تقع قريبة من منى، التي يسمونها العدل الآن، فتلك المنطقة هي منقطة البطحاء أو الأبطح، وقد كان الناس إلى عهد قريب -لما كان الحجاج قليلين- يأتون وينزلون بالأبطح، وإذا جاء يوم ثمانية ارتحلوا إلى منى، ومنى ينزلون فيها كيف شاءوا، ليس فيها ازدحام.(231/27)
تراجم رجال إسناد حديث: (إنما نزل رسول الله المحصب ليكون أسمح لخروجه وليس بسنة)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد].
يحيى بن سعيد القطان ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام عن أبيه عن عائشة].
قد مر ذكر الثلاثة.(231/28)
شرح حديث: (لم يأمرني رسول الله أن أنزله يعني المحصب ولكن ضربت قبته فنزل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل وعثمان بن أبي شيبة المعنى ح وحدثنا مسدد قالوا: حدثنا سفيان حدثنا صالح بن كيسان عن سليمان بن يسار قال: قال أبو رافع رضي الله عنه: (لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أنزله، ولكن ضربت قبته فنزله، قال مسدد: وكان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عثمان: يعني في الأبطح)].
أورد أبو داود حديث أبي رافع رضي الله عنه: أنه قال: [(لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنزله، ولكن ضربت قبته فنزله)] يعني: أنه هو الذي سبق واختار له المكان في المحصب فضرب القبة فيه، فنزل فيه صلى الله عليه وسلم، فهذا يدل على أنه ليس هناك أمر بأن ينزل في المكان الفلاني فيكون سنة، وإنما عندما كان أبو رافع رضي الله عنه على متاعه وعلى شئونه صلى الله عليه وسلم، فكان أن ضرب القبة له في الأبطح -أي: المحصب- فنزله النبي صلى الله عليه وسلم.(231/29)
تراجم رجال إسناد حديث: (لم يأمرني رسول الله أن أنزله يعني المحصب)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل وعثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود، والنسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجة.
[وحدثنا مسدد] هو مسدد بن مسرهد البصري ثقة، وحديثه أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا صالح بن كيسان].
صالح بن كيسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن يسار].
سليمان بن يسار ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو رافع].
أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(231/30)
شرح حديث أسامة: (نحن نازلون بخيف بني كنانة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (قلت: يا رسول الله! أين تنزل غداً؟ -في حجته - قال: هل ترك لنا عقيل منزلاً؟ ثم قال: نحن نازلون بخيف بني كنانة، حيث قاسمت قريش على الكفر، يعني: المحصب، وذلك أن بني كنانة حالفت قريشاً على بني هاشم ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يؤوهم).
قال الزهري: والخيف الوادي].
أورد أبو داود حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن نزوله بمكة، وجاء في بعض الأحاديث: (أين تنزل بدارك بمكة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وهل ترك لنا عقيل من دور، أو هل ترك لنا عقيل من رباع) أي: دور.
وعقيل هو ابن أبي طالب، وذلك أن أبا طالب ورثه ابناه الكافران وهما طالب وعقيل، وطالب قتل يوم بدر كافراً، فبقي عقيل هو الذي حاز الدار التي كان يسكنها أبو طالب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسكن مع أبي طالب فيها، ثم بعد ذلك حازها عقيل، ولم يكن لـ علي وجعفر شيء؛ لأنهما أسلما، ومن المعلوم كما في الحديث: (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم) وبعد ذلك أسلم عقيل رضي الله عنه، ولكنه كان قد ورث الدار في حال كفره، وتصرف في تلك الدار، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (وهل ترك لنا عقيل من دار) أي: أنه حازها وتصرف فيها وباعها.
قوله: (نحن نازلون بخيف بني كنانة حيث قاسمت قريش على الكفر).
خيف بني كنانة هو الأبطح، وفيه تقاسم بنو كنانة مع قريش على محاصرة بني هاشم.
والمقصود أن نزوله عليه الصلاة والسلام في ذلك المكان الذي حصل فيه إظهار الكفر وإعلان الكفر ومعاداة أهله هو من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بذلك إظهار قوة المسلمين كما قاله بعض أهل العلم، ولهذا قال بعضهم: إنه يستحب نزول المحصب؛ وذلك لكون النبي صلى الله عليه وسلم نزله.
قوله: قال الزهري: والخيف الوادي.
يعني: الخيف هو الوادي، وهو مكان منبسط في الأبطح، أما مسجد الخيف فهو في منى، وأما الخيف المذكور هنا فهو بين مكة ومنى، وهو خيف بني كنانة وهو الأبطح.(231/31)
تراجم رجال إسناد حديث أسامة: (نحن نازلون بخيف بني كنانة)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري] هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي بن حسين] هو علي بن حسين بن علي بن أبي طالب وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن عثمان] هو عمرو بن عثمان بن عفان وهو ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أسامة بن زيد] أسامة بن زيد رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(231/32)
شرح حديث أبي هريرة: (أن رسول الله قال حين أراد أن ينفر من منى: نحن نازلون غداً) وترجمة رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمود بن خالد حدثنا عمر حدثنا أبو عمرو -يعني الأوزاعي - عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال حين أراد أن ينفر من منى: نحن نازلون غداً) فذكر نحوه ولم يذكر أوله، ولا ذكر الخيف: الوادي.
].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة، وهو قريب من الذي قبله.
قوله: [حدثنا محمود بن خالد] هو محمود بن خالد الدمشقي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا عمر].
هو عمر بن عبد الواحد الدمشقي وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا أبو عمرو يعني الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن أبي سلمة] الزهري مر ذكره.
وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة] هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(231/33)
شرح حديث ابن عمر في المبيت بالبطحاء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى أبو سلمة حدثنا حماد عن حميد عن بكر بن عبد الله وأيوب عن نافع: (أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يهجع هجعة بالبطحاء، ثم يدخل مكة، ويزعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعل ذلك)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر: (أنه كان يهجع هجعة) يعني: كان ينام في أول الليل.
قوله: (ثم يدخل مكة ويزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك)] يعني: يخبر؛ لأن الزعم هنا يراد به الخبر المحقق، وهذا يدل على نزول النبي صلى الله عليه وسلم بالمحصب، وأن ابن عمر رضي الله عنهما كان يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان ينزل بالمحصب قسطاً من الليل، ثم ينصرف منه للوداع.(231/34)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر في المبيت بالبطحاء
قوله: [حدثنا موسى أبو سلمة].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي أبو سلمة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن حميد] هو حميد بن أبي حميد الطويل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بكر بن عبد الله] هو بكر بن عبد الله المزني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأيوب] هو أيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع أن ابن عمر].
نافع مولى ابن عمر وابن عمر قد مر ذكرهما.(231/35)
الفرق بين مكث الرسول صلى الله عليه وسلم ومكث ابن عمر بالمحصب
إن الذي فعله ابن عمر هو بعد الحج؛ لأنه قال: (أن ابن عمر كان يهجع هجعة بالبطحاء ثم يدخل مكة)، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان يبيت بالمحصب ليلة الرابع عشر، بل إنه جاءه بعد أن رمى الجمار بعد الزوال وصلى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، أربعة أوقات صلاها عليه الصلاة والسلام في خيف بني كنانة الذي هو المحصب.(231/36)
شرح حديث ابن عمر في المبيت بالبطحاء من طريق أخرى وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا حميد عن بكر بن عبد الله عن ابن عمر وأيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالبطحاء، ثم هجع بها هجعة، ثم دخل مكة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يفعله).
أورد أبو داود حديث ابن عمر من طريق أخرى، وهو توضيح للذي قبله، وأنه كان ذلك عند الانصراف من منى.
وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء وهجع أو نام بالبطحاء ثم ذهب لطواف الوداع، وكان ابن عمر يفعل ذلك.
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عفان].
عفان بن مسلم الصفار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا حميد عن بكر بن عبد الله عن ابن عمر، وأيوب عن نافع عن ابن عمر].
قد مر ذكرهم جميعاً.(231/37)
حكم من قدم شيئاً قبل شيء في حجه(231/38)
شرح حديث: (اذبح ولا حرج)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: فيمن قدم شيئاً قبل شيء في حجه.
حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: (وقف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حجة الوداع بمنى يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله! إني لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اذبح ولا حرج، وجاء رجل آخر فقال: يا رسول الله! لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، قال: فما سئل يومئذٍ عن شيء قدم أو أخر إلا قال: اصنع ولا حرج)].
قوله: باب: فيمن قدم شيئاً قبل شيء في حجه، والمقصود من ذلك ما يحصل يوم النحر؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام رتب ترتيباً معيناً: رمى ثم نحر ثم حلق ثم طاف، ولكن بعض أصحابه فعلوا يوم العيد فعلاً لا يتفق مع ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم، مما جعلهم يستفتونه، فقال بعضهم: (حلقت قبل أن أذبح قال: اذبح ولا حرج، وقال آخر: نحرت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، فما سئل يومئذٍ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: اصنع ولا حرج) يعني: افعل الشيء الذي بقي عليك، ولا حرج عليك في كونك قدمت غيره عليه، والسبب في السؤال هو كون فعلهم اختلف عن فعله صلى الله عليه وسلم، لأنه رمى ثم نحر ثم حلق ثم طاف، فلما علموا ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم حصل من بعضهم أنه سأل: هل يترتب على مخالفتهم لترتيب النبي صلى الله عليه وسلم إثم أو فدية أو كفارة، فكان الجواب منه عليه الصلاة والسلام ألا حرج عليهم.
وهذا يدل على أن التقديم والتأخير جائز؛ لأنه لو كان غير جائز لبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الفعل لا يجوز، وكونه أخبر بأن التقديم والتأخير سائغ، يدل على أن هذا حكم مستمر وليس مقصوراً على ذلك الزمان، حتى لو قدم ما حقه التأخير وهو عالم لا بأس بذلك.(231/39)
تراجم رجال إسناد حديث: (اذبح ولا حرج)
قوله: [حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله].
عيسى بن طلحة بن عبيد الله ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمرو بن العاص] عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما صحابي جليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(231/40)
شرح حديث (سعيت قبل أن أطوف فقال: لا حرج)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الشيباني عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: (خرجت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاجاً، فكان الناس يأتونه، فمن قال: يا رسول الله! سعيت قبل أن أطوف، أو قدمت شيئاً أو أخرت شيئاً، فكان يقول: لا حرج، لا حرج، إلا على رجل اقترض عرض رجل مسلم وهو ظالم، فذلك الذي حرج وهلك)].
أورد أبو داود حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: (خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجاً، فكان الناس يأتونه، فمن قال: يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف، أو قدمت شيئاً أو أخرت شيئاً، فكان يقول: لا حرج)، قال بعض أهل العلم: إن السعي هو الذي يكون مع طواف القدوم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حرج)، لكن الذي يبدو والله أعلم أن هذا إنما يقصد به السعي هنا الذي يكون يوم النحر، فلو سعى الإنسان قبل أن يطوف، فإنه لا يلزمه أن يعيد السعي بعد الطواف؛ لأنه طاف بعده، بل عمله صحيح، ولكن السنة كون الإنسان يأتي بالطواف أولاً ثم يأتي بالسعي ثانياً، فيكون هذا في حق المتمتعين الذين عليهم طواف وسعي، وكذلك في حق القارنين والمفردين الذين لم يسعوا مع طواف القدوم، فيكون عليهم بعد طواف الإفاضة السعي بين الصفا والمروة، فالذي يبدو أن هذا كله في أعمال يوم النحر؛ لأن التقديم والتأخير حصل في ذلك اليوم، واحد قدم وأخر، وأما ما قاله بعض أهل العلم: إن المقصود من ذلك أنه قدم السعي مع طواف القدوم، فهذا غير واضح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو نفسه سعى مع طواف القدوم، ولكن الذي يبدو ويظهر أن المقصود به هو طواف الإفاضة والسعي بين الصفا والمروة في حق المتمتعين، وكذلك في حق القارنين والمفردين الذين لم يسعوا مع طواف القدوم؛ لأنه يتعين عليهم أن يسعوا بعد طواف الإفاضة.
قوله: (فكان يقول: لا حرج لا حرج إلا على رجل اقترض عرض مسلم).
يعني: لا حرج في جواب الأسئلة المتعددة التي ذكرها.
قوله: (إلا على رجل اقترض عرض مسلم وهو ظالم، فذلك هو الذي حرج وهلك) يعني: المقصود به من نال من عرض أخيه وهو ظالم له، والاقتراض هو القطع، يعني: تكلم في عرض أخيه وهو ظالم له، فالتقيد بقوله: (وهو ظالم له) يدل على أن الكلام في عرضه إذا كان لأمر سائغ ولأمر مشروع، كجرح الرواة وتعديل الشهود، وكذلك في النصيحة والمشورة، مثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في معاوية: (أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأبو جهم لا يضع العصاة عن عاتقه) وأمثال ذلك فإن هذا ليس بظلم، وإنما هو حق، وهذا الذي نال من عرض أخيه وهو ظالم هذا هو الذي أصابه الحرج وحصل له الحرج، وحصل له الهلاك، وذلك بحصول الإثم له.(231/41)
تراجم رجال إسناد حديث (سعيت قبل أن أطوف فقال: لا حرج)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الشيباني] هو سليمان بن أبي سليمان الشيباني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زياد بن علاقة] زياد بن علاقة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أسامة بن شريك] أسامة بن شريك رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب السنن.(231/42)
حكم السترة في مكة(231/43)
شرح حديث المطلب بن أبي وداعة في المرور بين يدي المصلي في الحرم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في مكة.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان بن عيينة حدثني كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة عن بعض أهله عن جده رضي الله عنه: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي مما يلي باب بني سهم، والناس يمرون بين يديه، وليس بينهما سترة، قال سفيان: ليس بينه وبين الكعبة سترة) قال سفيان: كان ابن جريج أخبرنا عنه قال: أخبرنا كثير عن أبيه، قال: فسألته، فقال: ليس من أبي سمعته، ولكن من بعض أهلي عن جدي.
].
قوله: باب: في مكة، يعني: هل مكة تتميز على غيرها في أنه لا يتخذ فيها السترة، وأنه يمر فيها بين المصلين ولا يحتاجون إلى سترة، أو أنها كغيرها، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى إلى عنزة في الأبطح، يعني: أنه اتخذ سترة في مكة.
أورد أبو داود حديث المطلب بن أبي وداعة رضي الله عنه وفيه: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مما يلي باب بني سهم) يعني: في جهة من جهات الكعبة.
قوله: (والناس يمرون بين يديه، وليس بينهما سترة) يعني: لم يتخذ سترة.
[وقال سفيان: (ليس بينه وبين الكعبة سترة) قال سفيان: كان ابن جريج أخبرنا عنه قال: أخبرنا كثير عن أبيه، فسألته فقال: ليس من أبي سمعته، ولكن من بعض أهلي عن جدي].
الإسناد فيه من هو مبهم؛ ولهذا ضعف الحديث بهذا المبهم، فالحديث غير صحيح، ومكة كغيرها، وعلى الإنسان ألا يمر بين يدي المصلين، ويحرص على أن يبتعد، لكن في شدة الزحام الذي لا يمكن معه إلا المرور فإنه يمر، والإنسان يتقي الله ما استطاع، لكن لا يقال: إن الإنسان يمشي في أي مكان من الحرم، بحيث إذا رأى إنساناً يصلي مشى بينه وبين سترته، بحجة أن مكة لا يتخذ فيها سترة! فلم يثبت أن مكة لا يتخذ المصلي فيها سترة، بل النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ سترة في الأبطح.(231/44)
تراجم رجال إسناد حديث المطلب بن أبي وداعة في المرور بين يدي المصلي في الحرم
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان بن عيينة حدثني كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة].
كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن بعض أهله عن جده] جده هو المطلب بن أبي وداعة وهو صحابي، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.
[قال سفيان: كان ابن جريج أخبرنا عنه، قال: أخبرنا كثير عن أبيه قال: فسألته فقال: ليس من أبي سمعته، ولكن من بعض أهلي عن جدي].
يعني: اتفق مع الذي قبله على أنه من بعض أهله.
وجاء في رواية عند النسائي: قال: عن أبي عن جدي، وأبوه الذي هو كثير بن المطلب مقبول، لكن هذا فيه أنه قال: إني لم أسمعه من أبي، وإنما سمعته عن بعض أهلي، وهذا يدل على أن السماع من أبيه غير صحيح.(231/45)
الأسئلة(231/46)
حكم لبس المحرم للشراب الذي يكون دون الكعبين قياساً على النعلين
السؤال
لقد أفتيتم أن المحرم الذي يلبس الشراب دون الكعبين لأجل الألم الذي في قدميه لا حرج عليه ولا فدية، بخلاف إذا كان يلبس الشراب كاملة، لكن القطع للخفين لمن لم يجد النعلين قد نسخ في يوم عرفة؟
الجواب
نعم الخفان إذا قطعا وصارا دون الكعبين، صار شأنهما شأن النعلين، ومعنى ذلك أن الإنسان له أن يلبسهما، وأما فيما يتعلق بالخفين اللذين يغطيان الكعبين فعندما يحتاج الإنسان إليهما فإنه لا يقطعهما؛ لأنه جاء في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة في حجة الوداع قال: (من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين) ولم يذكر القطع، فدل هذا على أن من عدم النعلين ولم يمكنه الحصول عليهما، فله أن يلبس الخفين ولو كان مغطياً للكعبين ولا يلزمه قطعهما، وأما إذا كان الخف موجوداً، وهو دون الكعبين، فإنه يصير حكمه حكم النعل، مثل ما لو قطع الخف وصار دون الكعبين، فالنبي صلى الله عليه وسلم أذن في استعماله؛ لأنه يصير مثل النعلين، وكذلك الشراب الذي يكون دون الكعبين.(231/47)
حكم طلب الحاجات من الأموات
السؤال
ما حكم من يذهب من الحجاج إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم لطلب الحاجات، وكذا لقبر البدوي وقبر زينب وغير ذلك من القبور؟
الجواب
لا تطلب الحاجات إلا من الله عز وجل، قال الله عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62]، فالله تعالى هو الذي يدعى، وهو الذي يرجى، والأموات يأتي الإنسان إليهم ليدعو لهم، لا يدعوهم، ويسأل الله لهم ولا يسأل منهم أشياء.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما ذهب إلى أهل البقيع دعا لهم وقال: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أنتم سلفنا ونحن بالأثر، نسأل الله لنا ولكم العافية) وهذا دعاء.
فكذلك إذا زار المسلم قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر الصاحبين الكريمين رضي الله عنهما، أو زار أي قبر من القبور فإنه يدعو للأموات ولا يدعوهم؛ لأن الدعاء عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله عز وجل، كما قال عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]، وقال: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163].
وقال عليه الصلاة والسلام: (الدعاء هو العبادة).
فدلنا هذا على أن صاحب القبر عندما يزار لا يطلب منه شيء ولا يسأل منه شيء، وإنما يسأل الله له ويطلب من الله له.
والنبي صلى الله عليه وسلم عندما يزوره الإنسان يسلم عليه ويدعو له، فيقول: صلى الله وسلم وبارك عليك، وجزاك أفضل ما جازى نبياً عن أمته، هذا دعاء للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا نقول: يا رسول الله المدد، يا رسول الله أغثني، يا رسول الله أنا أريد زوجة، يا رسول الله أنا أريد ولداً، يا رسول الله أنا أريد كذا؛ لأن هذه أمور تطلب من الله عز وجل، وحتى الشفاعة لا يطلبها الإنسان من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يطلبها من الله فيقول: اللهم شفع فيَّ نبيك، اللهم اجعلني من الفائزين بشفاعة نبيك، اللهم اجعلني من أتباعه السائرين على نهجه، وهكذا يسأل الله عز وجل أن يوفقه لفعل الخيرات، وأن يجنبه المنكرات التي هي من محدثات الأمور التي ما أنزل الله بها من سلطان.(231/48)
حكم طواف الوداع
السؤال
ما حكم طواف الوداع إذا سافر الحاج بدونه؟
الجواب
يلزمه فدية، وهي شاة يذبحها بمكة ويوزعها على فقراء الحرم؛ لأنه ترك واجباً من واجبات الحج.(231/49)
حكم ترك المرأة لطواف الإفاضة بسبب الحيض
السؤال
طواف الإفاضة إذا تركته المرأة بسبب الحيض؟
الجواب
لا تعتبر حجت حتى ترجع وتطوف طواف الإفاضة، ولو كانت في أقصى الدنيا؛ لأنه ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به، ولا يصح أن يطوف أحد عن أحد، ولا يجبر بشيء لا بقليل ولا بكثير، وإنما لابد من الإتيان به، وإذا كانت قد سافرت قبل أن تأتي به فتعتبر ما حجت حتى ترجع وتأتي به.(231/50)
حكم الإتيان بطواف الإفاضة في اليوم الرابع عشر من ذي الحجة
السؤال
هل تصح الإفاضة في اليوم الرابع عشر؟
الجواب
نعم تصح الإفاضة في اليوم الرابع عشر وبعده وقبله، لكن كون الإنسان يبادر إلى أن يأتي بهذا الركن أولى له، وإن أخر إلى حين السفر وطاف طواف الإفاضة وسافر بعده فإنه يغني عن الوداع ويجزئ عنه.(231/51)
حكم طواف الحامل والمحمول
السؤال
إذا كان الحاج عنده طفل ولبى عنه، فهل الطواف يكون للحامل والمحمول أو لواحد؟
الجواب
إذا نوى أنه طائف هو وأن هذا المحمول معه طائف، فيكونان طافا معاً.(231/52)
حكم ترديد الأمي للأدعية والأذكار خلف من يأتي بها
السؤال
أمي امرأة أمية فهل يجوز أن تقول ورائي الكلمات الضرورية في الطواف، مثل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة:158]، {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] {رََبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ} [البقرة:201]؟
الجواب
لا يصلح مثل هذا الشيء؛ لأنها تردد شيئاً لا تفهمه، ولكن تدعو بالأدعية والأسئلة التي كانت تسأل الله عز وجل إياها، وتذكر الله تعالى في طوافها وفي سعيها؛ لأن الطواف ليس له ذكر يخصه، وإنما ينبغي أن يعلمها بعض الأذكار وبعض الأدعية، ويمكن أن يقول لها: ادعي بما شئت واقرئي ما تحفظين من القرآن، ولو كانت لا تحفظ إلا الشيء اليسير القليل منه.(231/53)
حكم حلق أو تقصير المحرم لنفسه عند التحلل
السؤال
يقول: إذا حلقت رأسي بيدي هل خالفت السنة؟
الجواب
لا، ليس هناك شيء يدل على خلاف السنة، فالإنسان إذا كان يستطيع أن يحلق رأسه بيده يفعل، وإذا حلقه غيره له يفعل، والمرأة كذلك تقصر لنفسها، وإن قصرت لها امرأة أخرى فلا بأس بذلك.(231/54)
حكم من توفي وصلت عليه النساء في بيته ولم يصل عليه الرجال
السؤال
توفي رجل فصلى عليه النساء فقط في بيته ولم يصل عليه الرجال، هل يسقط فرض الكفاية بهن؟
الجواب
كيف يصلى عليه في بيته ولا يخرجونه من بيته؟! فالرجل يجهزه الرجال، وكيف جهزته النساء؟! المرأة لا تجهز الرجل، اللهم إلا إذا كانت الزوجة فإن لها أن تجهز زوجها، أما غير الزوجة فلا تجهز الرجل ولو كان أباها، وكذلك الرجل لا يجهز ابنته، وإنما تجهز المرأة المرأة ويجهز الرجال الرجل، ويمكن للزوج أن يجهز زوجته، والزوجة أن تجهز زوجها.
والحاصل أن صلاة الجنازة فرض على الرجال، والنساء ليس من شأنهن الجماعة، وإذا كان هذا قد وقع فإنه يمكن أن يذهب بعض الرجال ويصلون عليه وهو في قبره.(231/55)
حكم استئذان أصحاب الديون في حج الفريضة
السؤال
رجل عليه دين كبير ومتفرق لعدة أشخاص، ولا يستطيع أن يستأذنهم في أن يحج الفريضة، فهل يحج دون استئذان؟
الجواب
معلوم أن الذي يؤدى به الحج قليل بالنسبة للديون الكثيرة المتفرقة، ولا يحج إلا وقد استأذنهم، والأولى له ألا يحج، وأن يوفي بالمال الذي يريد أن يحج به بعضهم، حتى يقل دينه، وبدل أن يكون مديناً لعدة أشخاص فإنه يصير مديناً لشخص أو شخصين، وما دام ليست عنده القدرة المالية فليس عليه أن يحج، اللهم إلا إذا كانت هذه الديون مؤجلة ولم تحل، وهو يتمكن أن يوفي عند وقت الأجل، فلا بأس أن يحج.(231/56)
حكم الإحرام من جدة لمن جاء إليها زائراً للأقارب
السؤال
هل يجوز للشخص أن يذهب من المدينة إلى جدة لزيارة الأقارب ثم يحرم من الحج منها؟
الجواب
إذا كانت نية الحج موجودة عنده وهو في المدينة فيجب عليه أن يحرم من ميقات المدينة، وأما إن كان ذاهباً إلى جدة وليس عنده عزم الحج، ولا يدري هل يحج أو لا، فإنه يذهب إلى جدة، وإذا جاء وقت الحج وحصل منه عزم على الحج فإنه يحرم من جده.
وإذا كان سيمكث في جدة مدة طويلة، وهو عازم على الحج، فعليه أن يذهب إلى مكة ويطوف ويسعى ويقصر، ويكون متمتعاً، ثم يذهب إلى جدة، ويمكث فيها ما شاء الله أن يمكث، ثم بعد ذلك يذهب إلى مكة إذا جاء وقت الحج.(231/57)
حكم من أعطي مبلغاً ليحج عن غيره وبقي منه شيء فصرفه على أهله
السؤال
رجل طلب منه أن يحج عن رجل قد توفي بعد أن أدى فريضة الحج، وأعطي مبلغاً من المال لأداء هذه الفريضة، فهو يريد أن يحج عن هذا الميت بنية خالصة لله عز وجل، مع ما يجد في نفسه من احتياجه إلى ما يزيد على هذا المال ليقوم به على مصالح أهله، فهل عمله هذا صحيح؟
الجواب
الشيء الذي يعطاه الإنسان ليحج عن غيره هو له، سواء كان على قدر كفايته أو زاد على ذلك، مادام أنه أتى بالحج على التمام والكمال، اللهم إلا إذا قالوا: حج من هذا المال وما بقي فأرجعه، فإنه يرجع لهم الباقي، ولكن الإنسان إذا كان قادراً على أن يحج بماله فالذي ينبغي له أن يحج بماله، وإن كان غير قادر على أن يحج بماله، وأراد أن يأخذ شيئاً ليحج به عن غيره من أجل أن يحج فإن هذا سائغ، وإنما الذي لا يسوغ كون الباعث له على الحج المال، وأما إذا كان لا يستطيع أن يحج بماله، ولكن أراد أن يحج ولو بمال غيره عن غيره فإن ذلك سائغ ومحمود، أما من حج ليأخذ فهذا مذموم؛ لأنه جعل الحج وسيلة إلى الدنيا والعكس هو الصحيح.(231/58)
حكم من أتى بعمرة التمتع من المدينة وليس من أهلها ثم رجع إليها لكونه يدرس بها
السؤال
نويت أن أحج متمتعاً، فهل لي أن أذهب إلى مكة لأداء العمرة وأرجع بعد ذلك إلى المدينة، مع العلم أن المدينة ليست مدينتي ولكني أدرس بها؟
الجواب
إذا كان الإنسان مقيماً في المدينة فحكمه حكم أهل المدينة، وكون الإنسان يذهب من المدينة إلى مكة ليعتمر ثم يرجع إلى المدينة؛ ينقطع عنه التمتع، فإذا أراد أن يتمتع في الحج فعليه أن يأتي بعمرة ثانية، ويكون بذلك متمتعاً، فمن اعتمر ثم رجع إلى بلده الأصلي أو بلد إقامته الذي هو قاطن فيه، فإنه ينقطع عنه التمتع، فإذا أراد أن يحج متمتعاً فإنه يأتي بعمرة أخرى ثم يحج.(231/59)
واجب المسلم تجاه إخوانه في أيام الحج
السؤال
ما واجبنا نحن معاشر طلاب العلم تجاه حجاج بيت الله إذا رأينا بعض المنكرات منهم، ونحن لا نستطيع التفاهم معهم بلغتهم؟
الجواب
الإنسان يحرص على أن يكون داعية إلى الله على بصيرة وعلى هدى، ويحرص على نفع إخوانه وتوجيههم وإرشادهم إلى الخير، وهذا أعظم شيء يحصلون عليه، وأنفس شيء يظفرون به أن يدلوا على الخير ويأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، والإنسان إذا كان يعرف لغة قوم ورأى منهم شيئاً يعرف أنه منكر وأنه غير جائز فإن عليه أن ينبههم وأن يفيدهم بلغتهم التي يتخاطبون بها، فيبلغهم ويبين لهم أن هذا منكر لا يجوز، وأن الواجب هو كذا وكذا، فالإنسان يحرص على نفع إخوانه، وأما إذا كان لا يفهم لغتهم وأمكن أن يتفاهم معهم بالإشارة فعل، وإلا رأى أحداً يفهم لغتهم وأرشده إلى أن ينبه هؤلاء الذين حصل منهم هذا الخطأ.(231/60)
الأمور المشروعة عند زيارة المدينة النبوية
السؤال
ما هو المشروع فعله عند زيارة المدينة النبوية؟
الجواب
المدينة النبوية عندما يزورها الإنسان يشرع له خمسة أمور فقط: الأمر الأول: أن يصلي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: أن يسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما.
الأمر الثالث: أن يزور أهل البقيع ويدعو لهم.
الأمر الرابع: أن يزور شهداء أحد ويدعو لهم.
الأمر الخامس: أن يذهب إلى مسجد قباء ويصلي فيه.
هذه أمور خمسة مشروعة في هذه المدينة زيارة مسجدين: وهما مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء، وزيارة ثلاثة مقابر: قبر النبي صلى الله عليه وسلم والصاحبين الكريمين، وزيارة البقيع، وزيارة شهداء أحد، وما سوى ذلك فإنه لا يزار، وليس في المدينة أماكن تزار شرعاً إلا هذه الأماكن الخمسة التي أشرت إليها.(231/61)
حكم من ترك المبيت والرمي عمداً بحجة قدرته على دفع الفدية
السؤال
رجل يمتلك المال الكثير فوقف بعرفة وترك الرمي والمبيت عمداً بحجة أنه يستطيع دفع الفدية؟
الجواب
هذا من التلاعب في الحج، والإنسان عندما يأتي للحج يأتي به كما هو مطلوب منه، ومعلوم أن الحج مدته وجيزة جداً لا تبلغ أسبوعاً كاملاً، بل أقل من أسبوع؛ لأن الحج يبدأ من يوم ثمانية، ويمكن أيضاً لو بدأ حجة يوم عرفة ويوم العيد ويوم الحادي عشر والثاني عشر فتكون مدته أربعة أيام فقط، وإذا تعجل بعد الزوال من اليوم الثاني عشر فإنه يرمي ويودع ويمشي، أما كونه يقف بعرفة ثم يترك الرمي ويترك المبيت فهذا من التلاعب بالحج، والإنسان يأثم لكونه ترك هذه الواجبات تعمداً، وتجب عليه الفدية مع حصول الإثم؛ لأنه تعمد فعل الأمر الذي لا يسوغ ولا يجوز.(231/62)
حكم من انتقض وضوءه أثناء الطواف والسعي
السؤال
ما حكم من يطوف بالبيت فانتقض وضوءه، هل إذا جدد الوضوء يبدأ من أول الطواف أو يبني على ما سبق، وكذلك لو انتقض وضوءه أثناء السعي؟
الجواب
الذي يبدو ويظهر أنه إذا حصل نقض الوضوء للطائف أنه يخرج ويتوضأ ثم يرجع ويستأنف من جديد؛ لأن الطواف مثل الصلاة، والإنسان إذا حصل له شيء في الصلاة وانتقض وضوءه فيها فإنه يتوضأ ويستأنفها، فكذلك الطواف.
أما السعي فلا يشترط فيه الطهارة فيمكن أن يبني، وكذلك إذا قيمت الصلاة والإنسان يطوف أو وهو يسعى فإنه يصلي في مكانه ثم يواصل الطواف والسعي.(231/63)
حكم أخذ الأموال من زوار القبور
السؤال
عندنا قبر يزوره الناس كثيراً، ولصاحب القبر أبناء وذرية يأخذون الأموال من زوار القبر، فما حكم هذه الأموال؟
الجواب
هذه الأموال التي يأخذونها هي من السحت المحرم، والواجب عليهم أن يتركوا ذلك، وأن يبحثوا عن مصادر رزق حلال، وهذا مصدر رزق حرام لا يجوز لهم ذلك، ولا يجوز لهم أن يدعوا الناس إلى الافتتان بالقبور؛ لأن كثيراً من البلاء الذي يحصل عند القبور إنما يحصل بسبب الذين يدعون الناس إلى أنفسهم من أجل أن يحصلوا على المال، ومن أجل أن يبتزوا أموال الناس، فهذا لا يسوغ ولا يجوز، بل عليهم أن يبحثوا عن رزق حلال يستفيدون منه في دينهم ودنياهم.(231/64)
الفرق بين الحكم بغير ما أنزل في القليل والكثير ومع الاستحلال وعدمه
السؤال
هل استبدال الشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية كفر في ذاته أم يحتاج إلى الاستحلال القلبي والاعتقاد بجواز ذلك؟ وهل هناك فرق بين الحكم مرة بغير ما أنزل الله وبين جعل القوانين تشريعاً عاماً مع اعتقاد عدم جواز ذلك؟
الجواب
يبدو أنه لا فرق بين الحكم في مسألة أو عشر أو مائة أو ألف أو أقل أو أكثر، فما دام الإنسان يعتبر نفسه أنه مخطئ وأنه فعل أمراً منكراً وأنه فعل معصية وهو خائف من الذنب فهذا كفر دون كفر، وأما مع الاستحلال ولو كان في مسألة واحدة وهو يستحل فيها الحكم بغير ما أنزل الله، ويعتبر ذلك حلالاً فإنه يكون كفراً أكبر.(231/65)
شرح سنن أبي داود [232]
لقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم حرم مكة، وأنها أحلت له ساعة من نهار يوم الفتح حيث دخلها عنوة، ثم عادت لها حرمتها إلى يوم القيامة، وبين أنه لا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، واستثنى من ذلك الإذخر، وذلك لحاجة الناس إليه.(232/1)
تحريم حرم مكة(232/2)
شرح حديث (إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب تحريم حرم مكة.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثني يحيى -يعني ابن أبي كثير - عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما فتح الله تعالى على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيهم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنما أحلت لي ساعة من النهار، ثم هي حرام إلى يوم القيامة، لا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، فقال عباس رضي الله عنه أو قال: قال العباس: يا رسول الله! إلا الإذخر فإنه لقبورنا وبيوتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إلا الإذخر).
قال أبو داود: حدثنا وزادنا فيه ابن المصفى عن الوليد: (فقام أبو شاه -رجل من أهل اليمن- فقال: يا رسول الله! اكتبوا لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اكتبوا لـ أبي شاه، قلت: للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لـ أبي شاه؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)].
قوله: [باب تحريم حرم مكة].
هذه الترجمة فيها ذكر جملة من النصوص الدالة على تحريم مكة وأنها حرم، وقد جاء تحريم حرمين اثنين هما: مكة والمدينة، وليس هناك مكان ثالث حصل له ذلك الوصف الذي هو التحريم ووصف بأنه حرم إلا هذين المكانين مكة والمدينة، فمكة حرم والمدينة حرم وغيرهما لم يأت شيء يدل عليه، وإنما التحريم خاص بهذين البلدين المقدسين مكة والمدينة.
والترجمة تتعلق بتحريم حرم مكة، وقد جاء فيه أحاديث كثيرة أورد أبو داود منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس بعد أن فتح الله عليه مكة ودخلها فاتحاً، وكانت مكة فتحت عنوة وليس صلحاً بينه وبين المشركين، وقد دخل صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه المغفر وخطب الناس وقال: (إن الله حبس عن مكة الفيل) كما جاء في سورة الفيل.
قوله: (وسلط عليها رسوله والمؤمنين) يعني: مكنهم من ولايتها والتغلب على أهلها.
قوله: (وإنما أحلت لي ساعة من النهار) وفي بعض الأحاديث: (وقد عادت حرمتها باليوم كما عادت حرمتها بالأمس).
قوله: (ثم هي حرام إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها) يعني: أنه لا يزعج صيدها ولا يجوز شيء يزعجه وينفره ويجعله يشرد، وإنما هو آمن ومن دخله كان آمناً، وإذا كان التنفير ممنوعاً منه فإن القتل من باب أولى، فلا يقتل الصيد، مثل ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه فيما يتعلق بحرم المدينة قال: (لو وجدت الظباء ترتع لما نفرتها أو لما زجرتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المدينة حرم)، والله عز وجل جعل الصيد إذا دخل مكة وكذلك المدينة آمناً، وجعل له من الغذاء ما يتغذى به حيث حرم قطع الشجر وقطع النبات حتى يكون ذلك الصيد عندما يدخل المكان الآمن عنده قوته وعنده الشيء الذي يرعاه، ولو قطع الشجر وصارت الأرض جرداء فإن الصيد لا يبقى، وإنما يذهب يبحث عن الرعي ويذهب عن القوت والطعام، فجاءت الشريعة بكون الصيد يكون آمناً وبكون قوته يكون موجوداً عنده.
قوله: (ولا تحل لقطتها إلا لمنشد) أي: لمن يستمر على التعريف بها، وذلك أن اللقطة إذا فقدت في مكة فإن مكة يتردد عليها الناس للحج في كل عام، ولذلك ميزت على غيرها لقطتها لا تكون كلقطة غيرها بأن تعرف ثم يستفيد منها من عرفها، بل إنها تعرف دائماً، وذلك أن صاحبها قد يأتي في حجة أخرى أو في حجة ثانية أو ثالثة وهكذا، فلا تملك لقطتها أو لا يستفاد من لقطتها كما يستفاد منها في الأماكن الأخرى غير مكة.
قوله: (قال العباس: يا رسول الله! إلا الإذخر).
يعني: هذا تلقين استثناء، يريد أن يستثني من ذلك الإذخر.
قوله: (فإنه لقبورنا وبيوتنا) يعني: لبيوتهم؛ لأنه نبت له رائحة طيبة ويجعلونه في البيوت بحيث يسقفونها به، وكذلك في قبورهم يجعلونه بين اللبن بحيث لا ينزل التراب والرمل على الميت في لحده، فقال عليه الصلاة والسلام: (إلا الإذخر) فدل هذا على أن الإذخر مستثنى، وأنه يجوز قطعه كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(فقام أبو شاه -رجل من أهل اليمن- فقال: يا رسول الله! اكتبوا لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لـ أبي شاه)] المقصود بذلك كتابة هذه الخطبة التي سمعها، فأراد أن تكتب له حتى تكون معه، وحتى يذهب بها إلى أهله في اليمن، وهذا الحديث يدل على أن مكة حرم حرمها الله عز وجل، وقد جاءت الأحاديث في تحريم المدينة.
ويدل هذا الحديث أيضاً على أن فتح مكة كان عنوة، وأنه ليس صلحاً بينه وبين الكفار، وأن هذا الحل الذي حصل له صلى الله عليه وسلم مستثنى، وأنها بعد ذلك ستعود حرمتها كما كان قبل ذلك؛ فحرمتها مستمرة إلى يوم القيامة ولا يستثنى من ذلك إلا تلك الساعة التي أحلها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ويدل أيضاً على أن الاستثناء ليس بلازم أن يكون مقصوداً عند أول الكلام، بل إذا ذكِّر به المتكلم أو لفت النظر إليه في الحال ثم أتى به فإنه يمكن، ومثل الاستثناء اليمين، لو أن إنساناً حلف وقيل له: قل: إن شاء الله فقال: إن شاء الله، فإنه يكون مستثنياً، وإن لم يحصل ذلك منه عند بداية النطق بذلك، فإن هذا الحديث يدل على نفع الاستثناء في مثل هذه الحال.
ويدل الحديث أيضاً على كتابة العلم، وقد جاء في بعض الأحاديث النهي عن كتابة الحديث في أول الأمر؛ وذلك لما كان يخشى من اختلاطه بالقرآن، ولكنه بعد ذلك رخص فيه، وهذا الحديث يدل على الترخيص، وقد قال أبو هريرة عن عبد الله بن عمرو: إنه كان يكتب ولا أكتب، ثم بعد ذلك اتفق العلماء على استحباب كتابة العلم، وأن ذلك أمر مطلوب؛ وذلك أن القرآن قد حفظ وميز عن غيره فلا يكون هناك التباس بين القرآن وبين غيره، فاتفق العلماء على استحباب كتابة العلم وعلى الاشتغال بالعلم كتابة وحفظاً.
قوله: (ولا يعضد شجرها).
العضد هو القطع، والشجر الذي يعضد هو الذي أنبته الله عز وجل، وأما الشيء الذي ينبته الناس لأنفسهم فإنهم يستفيدون منه ويستعملونه ولا يمنعون منه، أما الشيء الذي أنبته الله تعالى فكما أسلفنا -والله أعلم- أنه منع منه ليكون قوتاً للصيد الذي إذا دخل الحرم كان آمناً.
وكون الإنسان يذهب بإبله لترعى في الحرم يبدو أنه غير سليم؛ لأن هذا يؤدي إلى إزالة النبات من الحرم، لكن إذا كانت الإبل انفلتت من نفسها وأكلت فهذا شيء آخر، وأما كون الإنسان يقصد ويتعمد الرعي في الحرم فهذا وسيلة إلى تخلية الحرم من النبات، ويكون الصيد الذي يدخل الحرم ويكون آمناً لا يجد شيئاً يقتاته ويأكله.
قوله: (ولا تحل لقطتها إلا لمنشد) يعني: الشيء اليسير التافه مثل الريال والريالين والسكين والمقص وما إلى ذلك من الأشياء التافهة، فهذه يأخذها الإنسان ولا تحتاج إلى تعريف، وإنما الشيء الذي له شأن وله وزن في النفوس هذا هو الذي يوصف بأنه لقطة تنشد، وإذا كانت في غير الحرم فتعرف لمدة سنة ثم يستفيد منها صاحبها الذي عرفها، أما في الحرم فتعرف دائماً.(232/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الوليد بن مسلم].
هو الوليد بن مسلم الدمشقي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني يحيى -يعني: ابن أبي كثير -].
هو يحيى بن أبي كثير اليمامي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة] هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(232/4)
معنى قوله: (فقام أبو شاه فقال: يا رسول الله اكتبوا لي)
[قال أبو داود: وزادنا فيه ابن المصفى].
يعني: له طريق آخر من طريق محمد بن مصفى عن الوليد وفيه: [(فقام أبو شاه رجل من أهل اليمن)].
وفي الصحيحين هذا الحديث، وفيه قصة أبي شاه وكونه قال: [(اكتبوا لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لـ أبي شاه)].
قوله: [ابن المصفى].
هو محمد بن مصفى صدوق له أوهام، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.(232/5)
طريق أخرى لحديث تحريم مكة وفيه (ولا يختلى خلاها) وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه القصة قال: (ولا يختلى خلاها)].
أورد المصنف رحمه الله الحديث من طريق أخرى وقال: (ولا يختلى خلاها) يعني: لا يقطع نباتها لا الشجر الكبار ولا الشجر الصغار أو النبات الصغير الذي هو الحشيش الرطب.
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجة.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن معتمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجاهد].
هو مجاهد بن جبر المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن طاوس].
هو طاوس بن كيسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(232/6)
شرح حديث عائشة (ألا نبني لك بمنى بيتاً أو بناءً يظلك من الشمس؟ فقال: لا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن يوسف بن ماهك عن أمه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! ألا نبني لك بمنى بيتاً أو بناء يظلك من الشمس؟ فقال: لا، إنما هو مناخ من سبق إليه)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! ألا نبني لك بمنى بيتاً أو بناء يظلك به من الشمس؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا، إنما هو مناخ من سبق إليه).
هذا الحديث يدل على أن الحق في منى للسابق، وأن من سبق إلى مكان منها فهو أحق به من غيره.
والحديث تكلم في إسناده الألباني وضعفه، وابن القيم حسنه في تهذيب السنن، ومعناه صحيح من جهة أن من سبق إلى مكان فهو أحق به، وليس لأحد أن يقيمه من مكانه الذي هو فيه؛ لأن كون الإنسان يأتي بعده ويقيمه من مكانه ويجلس فيه ليس بلائق، فمعناه صحيح من جهة أن السابق إلى المكان هو أحق به، والأشياء المباحة والأشياء التي هي للناس عموماً إذا سبق أحد إلى شيء منها فإن له ذلك، ولكن من حيث الإسناد فيه كلام من جهة إبراهيم بن مهاجر ومن جهة أم يوسف بن ماهك.
والحديث يدل على عدم جواز البناء في منى.(232/7)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة (ألا نبني لك بمنى بيتاً أو بناء يظلك من الشمس؟ فقال لا)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن حنبل مر ذكره.
[حدثنا عبد الرحمن بن مهدي].
عبد الرحمن بن مهدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسرائيل].
هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم بن مهاجر].
إبراهيم بن مهاجر وهو صدوق لين الحفظ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن يوسف بن ماهك].
يوسف بن ماهك وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أمه].
هي مسيكة الملكية لا يعرف حالها، أخرج حديثها أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي من أوعية السنة وحفظتها، وواحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(232/8)
شرح حديث: (احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا أبو عاصم عن جعفر بن يحيى بن ثوبان أخبرني عمارة بن ثوبان حدثني موسى بن باذان قال: أتيت يعلى بن أمية رضي الله عنه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه)].
أورد أبو داود حديث يعلى بن أمية رضي الله عنه أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه) يعني: كونه يشترى الطعام في حال قلته ثم يحتكره حتى يزيد سعره فيباع غالياً، هذا هو الاحتكار، وهو حرام في كل مكان في مكة وفي غيرها، ولكنه في مكة لا شك أنه أشد وأخطر وأسوأ، واحتكار الطعام ظلم وهو خلاف الحق، وفيه ميل من الحق إلى الباطل، ولكن هذا الحديث غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.(232/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا أبو عاصم].
هو أبو عاصم النبيل واسمه الضحاك بن مخلد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جعفر بن يحيى بن ثوبان].
جعفر بن يحيى بن ثوبان وهو مقبول، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود وابن ماجة.
[عن عمارة بن ثوبان].
عمارة بن ثوبان وهو مستور، والمستور هو مجهول الحال، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود وابن ماجة.
[عن موسى بن باذان].
موسى بن باذان وهو مجهول، أخرج حديثه أبو داود.
[عن يعلى بن أمية].
يعلى بن أمية صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وفي الحديث ثلاثة متكلم فيهم، فيه مجهول العين ومجهول الحال الذي هو المستور وفيه المقبول الذي لا يقبل حديثه إلا إذا اعتضد.
والحديث ضعيف مرفوعاً، والصحيح أنه موقوف على عمر رضي الله عنه كما قال في الحاشية.
يقول المنذري: أخرجه البخاري في التاريخ الكبير عن يعلى بن أمية: أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: (احتكار الطعام بمكة إلحاد) ويشبه أن يكون البخاري علل المسند بهذا.
وذلك أن البخاري رواه أولاً مرفوعاً من طريق أبي عاصم به، ثم رواه من وجه آخر عن عمر موقوفاً، فيكون قد أشار إلى ما نبه إليه المنذري على أن الحديث ضعيف، وإذا صح الأثر عن عمر فهو كما ذكرنا أن المعنى صحيح ولا إشكال فيه ولا غبار عليه، واحتكار الطعام في أي مكان حرام، ويزداد حرمة في الحرم.(232/10)
درجة الحديث مرفوعاً وموقوفاً(232/11)
ما جاء في نبيذ السقاية(232/12)
شرح حديث ابن عباس (دخل رسول الله على راحلته وخلفه أسامة بن زيد فدعا بشراب فأتي بنبيذ فشرب منه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في نبيذ السقاية.
حدثنا عمرو بن عون حدثنا خالد عن حميد عن بكر بن عبد الله قال: (قال رجل لـ ابن عباس رضي الله عنهما: ما بال أهل هذا البيت يسقون النبيذ وبنو عمهم يسقون اللبن والعسل والسويق؟ أبخل بهم أم حاجة؟ فقال ابن عباس: ما بنا من بخل ولا بنا من حاجة، ولكن دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على راحلته وخلفه أسامة بن زيد رضي الله عنهما، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشراب، فأتي بنبيذ فشرب منه، ودفع فضله إلى أسامة بن زيد فشرب منه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أحسنتم وأجملتم كذلك فافعلوا، فنحن هكذا لا نريد أن نغير ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)].
قوله: باب: في نبيذ السقاية يعني: النبيذ الذي يكون في سقاية الحجاج.
والنبيذ: هو زبيب أو تمر ينبذ في الماء في أحواض، ويكون طعمه حلواً، ولا يبقى مدة حتى يصل إلى حد الإسكار؛ وإذا بلغ إلى حد الإسكار فإنه يكون محرماً؛ لكونه مسكراً، هذا هو النبيذ الذي يقاس على الخمر في التحريم، فقبل أن يصل إلى حد الإسكار فإنه يكون طعمه حلواً وشربه سائغاً، ولكنه إذا مكث ووصل إلى حد الإسكار يكون حراماً لا يجوز استعماله.
فالنبيذ نبيذان: نبيذ محرم وهو الذي وصل إلى حد الإسكار، ونبيذ لم يصل إلى حد الإسكار فإنه يكون حلالاً ويكون مباحاً فهذا هو النبيذ، ولهذا ذكروا في قصة عمر رضي الله عنه لما طعن أنهم كانوا يسقونه النبيذ فيخرج من جوفه، فالنبيذ هو الماء الذي وضع فيه تمر ليحليه، فكان يشربه ويخرج من جوفه.
قوله: [(قال رجل لـ ابن عباس: ما بال أهل هذا البيت يسقون النبيذ وبنو عمهم يسقون اللبن والعسل والسويق؟!].
يعني: بيت العباس الذين هم أهل السقاية.
قوله: (أبخل بهم أم حاجة؟!) يعني: أبخل مع وجود المال أو حاجة حيث إن المال غير موجود، وأن هذا هو الذي يستطيعونه؟ فقال: لا هذا ولا هذا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم جاء وهو راكب على دابته وخلفه أسامة فناولوه منه فشرب منه وأعطى أسامة الفضلة فشربها، وقال: (أحسنتم وأجملتم، كذلك فافعلوا، فنحن هكذا لا نريد أن نغير ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وبنو العباس كانوا يفعلون ذلك؛ لأن زمزم فيه شيء من الملوحة، وهم يضعون هذا ليذهبوا هذه الملوحة التي في الماء؛ لأن العرب كانت تستعذب الماء، أو أن المقصود منه زيادة الإحسان في تقديم شيء حلو.
ومعلوم أن ماء زمزم وإن لم يوضع فيه شيء فهو ماء طيب وشراب مبارك، والإنسان يشرب ويتزود منه، ولو سافر به إلى بلده كان ذلك طيباً وحسناً ولا مانع منه.(232/13)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس (دخل رسول الله على راحلته وخلفه أسامة بن زيد فدعا بشراب فأتي بنبيذ فشرب منه)
قوله: [حدثنا عمرو بن عون].
عمرو بن عون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا خالد].
هو خالد بن عبد الله الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حميد].
هو حميد بن أبي حميد الطويل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بكر بن عبد الله].
هو بكر بن عبد الله المزني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.(232/14)
حكم الإقامة بمكة بعد الحج للمهاجرين وغيرهم(232/15)
شرح حديث: (للمهاجرين إقامة بعد الصدر ثلاثاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: الإقامة بمكة.
حدثنا القعنبي حدثنا عبد العزيز -يعني الدراوردي - عن عبد الرحمن بن حميد أنه سمع عمر بن عبد العزيز يسأل السائب بن يزيد رضي الله عنه: (هل سمعت في الإقامة بمكة شيئاً؟ قال: أخبرني ابن الحضرمي رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: للمهاجرين إقامة بعد الصدر ثلاثاً)].
قوله: باب: الإقامة بمكة يعني: الإقامة بمكة بعد الحج.
وذكر فيه حديث العلاء الحضرمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للمهاجرين إقامة بمكة بعد الصدر ثلاثاً) يعني: أنهم إذا انتهوا من منى في اليوم الثالث عشر فلهم أن يقيموا بعد أيام منى ثلاثة أيام وهي الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر، وهذا للمهاجرين؛ لأن المهاجرين تركوا مكة وهي بلدهم لله ومن أجل الله، وهاجروا منها إلى المدينة، فليس لهم أن يبقوا فيها أكثر من ثلاثة أيام، وليس لهم أن يتخذوها وطناً.
وأما غير المهاجرين فلم يأت شيء يدل على التحديد لهم بعد الصدر من منى.
أما من هجر بلداً وتركها لله فهل يجوز له أن يقيم بها ثلاثاً بعد أن هاجر منها؟ يبدو أن هذا الحكم يخص مكة؛ لأن الهجرة منها كانت لإظهار الإسلام وإقامة الإسلام، ولهذا (لا هجرة بعد الفتح)، وهي الهجرة التي حصل لها بها وصف المهاجرين وبالمقابل وصف الأنصار، والمهاجرون أفضل من الأنصار.
إذاً: كون الإنسان إذا كان في بلد شرك وهاجر منه ثم صار ذلك البلد بلداً إسلامياً فله أن يرجع إليه؛ لأن هذا الحكم يبدو أنه خاص بالمهاجرين من مكة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا هجرة بعد الفتح)، ولأن الوصف بذلك إنما حصل لهم لكونهم تركوا مكة وخرجوا منها لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم.(232/16)
تراجم رجال إسناد حديث: (للمهاجرين إقامة بعد الصدر ثلاثاً)
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا عبد العزيز يعني الدراوردي].
هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن حميد].
هو عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[يسأل السائب بن يزيد].
السائب بن يزيد صحابي صغير، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو الذي ثبت عنه أنه قال: (حج بي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن سبع سنين).
[أخبرني ابن الحضرمي].
هو العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(232/17)
شرح سنن أبي داود [233]
ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة في فتح مكة، وذلك بعد أن أخرجت الأصنام والصور منها، وصلى فيها ركعتين، وبين أن الحجر من الكعبة، وبين سبب عدم إدخاله في الكعبة، ومن رحمته وشفقته على أمته ندم على دخوله الكعبة خشية أن يشق على أمته في الاقتداء به في ذلك.(233/1)
حكم الصلاة في الكعبة(233/2)
شرح حديث ابن عمر في صلاة رسول الله داخل الكعبة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الصلاة في الكعبة.
حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة الحجبي وبلال رضي الله عنهم فأغلقها عليه، فمكث فيها، قال عبد الله بن عمر: فسألت بلالاً حين خرج: ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: جعل عموداً عن يساره، وعمودين عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه -وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة- ثم صلى)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي باب: الصلاة في الكعبة.
يعني: الصلاة في الكعبة جاءت السنة بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا فيما يتعلق بالنافلة، ولم يثبت صلاة فرض فيها.
واختلف العلماء في صلاة الفرض فيها، فمنهم من قال: بجوازها من باب إلحاق الفرض بالنفل، ومن العلماء من قال: بمنعها؛ لأن الذي ثبت هو النفل فقط ويقتصر عليه، وأما الفرض فإنه لا يؤتى به إلا خارج الكعبة.
أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: [(أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل الكعبة ومعه أسامة بن زيد وعثمان بن طلحة وبلال فأغلقها عليه)] يعني: أغلق عثمان بن طلحة الحجبي الباب، ولعل إغلاق الباب حتى لا يدخل الناس ويحصل الزحام فيها، فدخلوا وأغلقوا الباب.
قوله: [(فمكث فيها، قال عبد الله بن عمر: فسألت بلالاً حين خرج: ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)].
يعني: مكث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من الزمن، فـ ابن عمر رضي الله عنهما لحرصه على معرفة أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم سأل: ماذا صنع في هذه المدة التي دخل فيها الكعبة؟ فقال بلال: [(جعل عموداً عن يساره وعمودين عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه -وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة- ثم صلى)] فهذا فيه إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى النافلة في البيت، فدل على أنها سائغة وأنها مشروعة.
أما مكان صلاته فما يبعد أن الباب كان وراءه من جهة الجنوب، ويكون اتجه إلى جهة الشمال إلى جهة الحجر، وما دام أنه ترك عموداً عن يساره وعمودين عن يمينه فمعنى هذا أنه كان متقدماً عن الباب شيئاً قليلاً؛ لأنه جعل عموداً عن يساره وثلاثة أعمدة وراءه، فيدل هذا أنه غير مستقبل الباب، وإنما كان إلى جهة أخرى، والله أعلم.(233/3)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر في صلاة رسول الله داخل الكعبة
قوله: [حدثنا القعنبي عن مالك].
القعنبي مر ذكره، ومالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر].
عبد الله بن عمر قد مر ذكره.(233/4)
شرح حديث صلاة رسول الله داخل الكعبة من طريق ثانية وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق الأذرمي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن مالك بهذا الحديث لم يذكر السواري قال: (ثم صلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى عن ابن عمر ولم يذكر السواري التي هي ثنتان عن اليمين وواحدة على اليسار وثلاث وراءه، وإنما قال: [(ثم صلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع)].
يعني: بينه وبين جدار القبلة ثلاثة أذرع، فهذا يدل على أنه كان متجهاً إلى الجدار وليس متجهاً للباب، والمقصود بالقبلة الجدار الذي أمامه.
وهذا الحديث هو الذي استدل به بعض أهل العلم على أن الإنسان إذا لم يكن له سترة فإنه يترك بينه وبين الذي يمر من أمامه مقدار ثلاثة أذرع من قدمه، ويمشي بعد ذلك من ورائها؛ لأن المصلي إذا لم يكن له سترة لا يحجز الذي أمامه ولو كان المقدار طويلاً، وإنما من يريد أن يمر يترك مقدار ثلاثة أذرع ويمر، أخذاً بهذا الحديث؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صلى بين عمودين وترك بينه وبين القبلة ثلاثة أذرع.
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق الأذرمي].
عبد الله بن محمد بن إسحاق الأذرمي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الرحمن بن مهدي].
عبد الرحمن بن مهدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مالك].
مالك مر ذكره.(233/5)
شرح حديث ابن عمر: (ونسيت أن أسأله كم صلى) وترجمة رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى حديث القعنبي قال: (ونسيت أن أسأله كم صلى؟)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر من طريق أخرى وفيه: [(ونسيت أن أسأله كم صلى؟)] يعني: أنه لم يسأله كم صلى في ذلك المكان.
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة مر ذكره.
[حدثنا أبو أسامة].
هو أبو أسامة حماد بن أسامة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن ابن عمر].
قد مر ذكرهما.(233/6)
شرح حديث عمر في صلاة رسول الله ركعتين في الكعبة وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زهير بن حرب حدثنا جرير عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن عبد الرحمن بن صفوان قال: قلت لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: (كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين دخل الكعبة؟ قال: صلى ركعتين)].
أورد المصنف حديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة صلى ركعتين، وأنه لم يطيل البقاء في الكعبة.
قوله: [حدثنا زهير بن حرب].
زهير بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد مر ذكره.
[عن يزيد بن أبي زياد].
يزيد بن أبي زياد ضعيف، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن مجاهد].
مجاهد مر ذكره.
[عن عبد الرحمن بن صفوان].
عبد الرحمن بن صفوان يقال: له صحبة، وقال البخاري: لا يصح، أخرج حديثه أبو داود وابن ماجة.
[عن عمر].
هو عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، الصحابي الجليل ثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
والحديث صححه الألباني وما أدري ما وجه التصحيح هل له طرق أم ماذا؟!(233/7)
شرح حديث: (دخل البيت فكبر في نواحيه وفي زواياه ثم خرج ولم يصل فيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج قال: حدثنا عبد الوارث عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، قال: فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل وفي أيديهما الأزلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قاتلهم الله! والله لقد علموا ما استقسما بها قط.
قال: ثم دخل البيت فكبر في نواحيه وفي زواياه، ثم خرج ولم يصل فيه)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة؛ لأن فيها الأصنام حتى أخرجت منها، وفيها صورة إبراهيم وإسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام.
والأزلام هي سهام مكتوب عليها: افعل، لا تفعل أو غفل، ويضعونها في وعاء، فالذي يريد أن يعمل عملاً من الأعمال إذا أراد أن يعرف هل يناسب أن يعمله أو لا يعمله يدخل يده في الوعاء ثم يأخذ منها واحداً، فإذا طلع افعل يقدم على الشيء الذي أراد أن يفعله، وإذا جاء الذي فيه لا تفعل ترك، وإن طلع الغفل أعاد الاستقسام مرة ثانية حتى يأخذ السهم الذي فيه افعل أو لا تفعل.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لما ظهرت صورة إبراهيم وإسماعيل وهما يستقسمان قال: [(قاتلهم الله لقد علموا أنهما ما استقسما بها قط)] يعني: أن هذا كذب وافتراء عليهما الصلاة والسلام.
قوله: [(ثم دخل البيت فكبر في نواحيه وفي زواياه ثم خرج ولم يصل فيه)].
وهذا فيه نفي الصلاة، ولكن حديث ابن عمر فيه أنه صلى، وعمر كذلك أثبت أنه صلى، فدل على أن الصلاة ثابتة، والمثبت مقدم على النافي.
ودخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة كان عام الفتح؛ لأن الأصنام كانت ما زالت داخل الكعبة.
وبعض العلماء يستفاد من كلامه أن تلك الأحاديث كلها في عام الفتح، حيث جمع بين من قال: إنه صلى ومن قال: إنه لم يصل، بقوله: إن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى صلاة خفيفة، وبعض الصحابة رأى هذه الصلاة الخفيفة الذي هو أسامة بن زيد الذي كان عنده، والآخر كأنه لم يتنبه لهذه الصلاة الخفيفة؛ لأنه انشغل بالتكبير والذكر والدعاء في ناحية من نواحي الكعبة، هكذا قال صاحب عون المعبود في التوفيق بين هذا وهذا.(233/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (دخل البيت فكبر في نواحيه وفي زواياه ثم خرج ولم يصل فيه)
قوله: [حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج].
أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الوارث].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقد مر ذكره.(233/9)
كلام ابن القيم في وقت دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة والصلاة فيها
قال ابن القيم عن هذه المسألة في كتابه زاد المعاد في الجزء الثاني الصفحة (296): فأما المسألة الأولى: فزعم كثير من الفقهاء وغيرهم أنه دخل البيت في حجته، ويرى كثير من الناس أن دخول البيت من سنن الحج اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والذي تدل عليه سنته أنه لم يدخل البيت في حجته ولا في عمرته وإنما دخله عام الفتح، ففي الصحيحين عن ابن عمر قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة على ناقة لـ أسامة حتى أناخ بفناء الكعبة، فدعا عثمان بن طلحة بالمفتاح فجاءه به، ففتح، فدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة فأجافوا عليهم الباب ملياً ثم فتحوه، قال عبد الله: فبادرت الناس فوجدت بلالاً على الباب فقلت: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: بين العمودين المقدمين، قال: ونسيت أن أسأله كم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟).
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة قال: فأمر بها فأخرجت، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قاتلهم الله أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط، قال: فدخل البيت فكبر في نواحيه ولم يصل فيه) فقيل: كان ذلك دخولين صلى في أحدهما ولم يصل في الآخر، وهذه طريقة ضعفاء النقد، كلما رأوا اختلاف لفظ جعلوه قصة أخرى، كما جعلوا الإسراء مراراً لاختلاف ألفاظه، وجعلوا اشتراءه من جابر بعيره مراراً لاختلاف ألفاظه، وجعلوا طواف الوداع مرتين لاختلاف سياقه، ونظائر ذلك، وأما الجهابذة النقاد فيرغبون عن هذه الطريقة، ولا يجبنون عن تغليط من ليس معصوماً من الغلط ونسبته إلى الوهم.
قال البخاري وغيره من الأئمة: والقول قول بلال؛ لأنه مثبت شاهد صلاته بخلاف ابن عباس، والمقصود أن دخوله البيت إنما كان في غزوة الفتح لا في حجه ولا عمره، وفي صحيح البخاري عن إسماعيل بن أبي خالد قال: (قلت لـ عبد الله بن أبي أوفى: أدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عمرته البيت؟ قال: لا).
وقالت عائشة: (خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عندي وهو قرير العين طيب النفس، ثم رجع إلي وهو حزين القلب، فقلت: يا رسول الله! خرجت من عندي وأنت كذا وكذا، فقال: إني دخلت الكعبة ووددت أني لم أكن فعلت، إني أخاف أن أكون قد أتعبت أمتي من بعدي) فهذا ليس فيه أنه كان في حجته، بل إذا تأملته حق التأمل أطلعك التأمل على أنه كان في غزاة الفتح، والله أعلم.
(وسألته عائشة أن تدخل البيت فأمرها أن تصلي في الحجر ركعتين)].
الأمر واضح أنه دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح، وسبق أن ذكرت أن بعض أهل العلم قال: إن أسامة مثبت، وأن ابن عباس إذا كان دخل فإنه يكون قد انشغل مع النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم في نواحي البيت بالتكبير والدعاء، ثم النبي صلى الله عليه وسلم صلى ولم يره، لاسيما والباب كان مغلقاً، وليس هناك وضوح، فالمعتمد ما جاء عن بلال أنه صلى ركعتين، وما جاء عن ابن عباس إنما يدل على حسب علمه، ويمكن أن يكون كما قال بعض أهل العلم: إنه انشغل بالذكر والدعاء والتكبير والتهليل، ولم يطلع على ما اطلع عليه غيره، والمثبت مقدم على النافي، والله تعالى أعلم.(233/10)
الصلاة في الحجر(233/11)
شرح حديث: (صلي في الحجر إذا أردت دخول البيت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: الصلاة في الحجر.
حدثنا القعنبي حدثنا عبد العزيز عن علقمة عن أمه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كنت أحب أن أدخل البيت فأصلي فيه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي فأدخلني في الحجر، فقال: صلي في الحجر إذا أردت دخول البيت، فإنما هو قطعة من البيت، فإن قومك اقتصروا حين بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها، وأنها كانت تريد أن تصلي في الكعبة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيدها وذهب إلى الحجر وقال: [(صلي في الحجر إذا أردت دخول البيت، فإنما هو قطعة من البيت، فإن قومك اقتصروا حين بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت)].
وقد جاء في الحديث الصحيح (أنها قصرت بهم النفقة) فاقتطعوا جزءاً منه وأخرجوه وجعلوا هذا الجدار الدائري الذي حوله حتى يكون علامة على هذا الجزء المقتطع، وفي هذا دليل على أن الحجر -وليس الحجر كله وإنما جزء كبير منه-من الكعبة، وأن الصلاة فيه كالصلاة في الكعبة؛ لأنه جزء من الكعبة.(233/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (صلي في الحجر إذا أردت دخول البيت)
قوله: [حدثنا القعنبي عن عبد العزيز عن علقمة].
القعنبي وعبد العزيز مر ذكرهما، وعلقمة هو علقمة بن أبي علقمة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أمه].
هي مرجانة مقبولة، أخرج حديثها البخاري في جزء رفع اليدين وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وقد مر ذكرها.
والحديث صححه الألباني، ولعل له طرقاً تؤيد؛ لأن فيه هذه المرأة المقبولة.(233/13)
ما جاء في دخول الكعبة(233/14)
شرح حديث: (إني دخلت الكعبة لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في دخول الكعبة.
حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود عن إسماعيل بن عبد الملك عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج من عندها وهو مسرور، ثم رجع إلي وهو كئيب، فقال: إني دخلت الكعبة لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها، إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي)].
قوله: [باب: في دخول مكة].
هناك ذكر الصلاة وهنا ذكر الدخول.
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها وهو مسرور، ثم رجع إلي وهو كئيب، فقال: إني دخلت الكعبة، لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها، إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي)].
يعني: أنهم قد يحرصون على دخولها ويحصل في ذلك مشقة عليهم، هذا هو المقصود من الحديث.
والحديث ضعفه الألباني.(233/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (إني دخلت الكعبة لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الله بن داود].
هو عبد الله بن داود الخريبي وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن إسماعيل بن عبد الملك].
إسماعيل بن عبد الملك صدوق كثير الوهم، أخرج حديثه البخاري في رفع اليدين وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن عبد الله بن أبي مليكة].
هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين وقد مر ذكرها.
الحديث ضعفه الألباني وفيه هذا الرجل الذي هو كثير الوهم، وقد يكون التضعيف بسببه.(233/16)
شرح حديث: (ليس ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن السرح وسعيد بن منصور ومسدد قالوا: حدثنا سفيان عن منصور الحجبي حدثني خالي عن أمي صفية بنت شيبة رضي الله عنها قالت: (سمعت الأسلمية تقول: قلت لـ عثمان رضي الله عنه: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين دعاك؟ قال: قال: إني نسيت أن آمرك أن تخمر القرنين، فإنه ليس ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي) قال ابن السرح: خالي مسافع بن شيبة].
أورد أبو داود حديث عثمان بن طلحة الحجبي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين دعاه: [(إني نسيت أن آمرك أن تخمر القرنين، فإنه ليس ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي)].
والقرنان قيل: إنهما قرنان حقيقيان، ولعل المقصود أنهما صورة قرنين داخل الكعبة، والرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يغطيهما.
والحديث صححه الألباني، لكن فيه المرأة الأسلمية لا يعرف حالها.(233/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (ليس ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي)
قوله: [حدثنا ابن السرح].
ابن السرح هو أحمد بن عمرو بن السرح ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وسعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومسدد قالوا: حدثنا سفيان].
مسدد مر ذكره، وسفيان هو ابن عيينة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور الحجبي].
منصور الحجبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن خاله].
خاله هو مسافع بن عبد الله بن شيبة وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي.
[عن صفية].
صفية بنت شيبة هي صحابية، أخرج حديثها أصحاب الكتب الستة.
[سمعت الأسلمية].
الأسلمية لا تعرف، أخرج لها أبو داود وحده.
[قلت لـ عثمان].
هو عثمان بن طلحة الحجبي صاحب رسول صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه مسلم وأبو داود.
[قال: ابن السرح: خالي مسافع بن شيبة].
يعني: أحد شيوخ أبي داود صرح باسمه في إسناده، وقد يكون الصحابي وقد يكون غيره، فقد كان الصحابة يروون عن بعضهم كثيراً، ويروون عن التابعين قليلاً، لكن الغالب أن يكون من الصحابة، ولعل هذا هو السبب الذي جعل الألباني يصحح الحديث.(233/18)
مال الكعبة(233/19)
شرح حديث شيبة في عدم تقسيم رسول الله لمال الكعبة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في مال الكعبة.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الشيباني عن واصل الأحدب عن شقيق عن شيبة -يعني ابن عثمان - قال: (قعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مقعدك الذي أنت فيه، فقال: لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة، قال: قلت: ما أنت بفاعل، قال: بلى لأفعلن، قال: قلت: ما أنت بفاعل، قال: لم؟ قلت: لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد رأى مكانه وأبو بكر رضي الله عنه، وهما أحوج منك إلى المال، فلم يخرجاه، فقام فخرج)].
قوله: [باب في مال الكعبة].
يعني: المال الذي للكعبة، وهو ما يهدى إليها وما يوقف لها، هذا يقال له: مال الكعبة، والمقصود به المال الذي كان موجوداً فيها من قبل أن يفتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، كان فيها ذلك المال وتركه صلى الله عليه وسلم ولم يتعرض له، فأراد عمر رضي الله عنه أن يقسمه ويوزعه، فقال له شيبة بن عثمان: [(ما أنت بفاعل، قال: لم؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى مكانه وأبو بكر وهما أحوج منك إلى المال فلم يخرجاه)] يعني: كانت الحاجة موجودة ومع ذلك لم يخرجاه، فتركه عمر رضي الله عنه لما ذكر له صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وأنه تركه، وهذا يدل على فضل عمر رضي الله عنه ونبله ورجوعه إلى الحق عندما يعلمه ويعرفه.
وقيل: إن مال الكعبة لا يوزع على الفقراء والمساكين؛ لأنه شيء مخصص، والأوقاف إنما يقتصر فيها على الشيء الذي وقفت له، وقيل: إن السبب في ترك ذلك أنهم كانوا حديث عهد بالجاهلية، والنبي صلى الله عليه وسلم ما فعل ذلك خشية أن يكون في نفوسهم شيء، مثلما ترك هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم كما جاء في حديث عائشة، وفيه ذكر كنز الكعبة ومال الكعبة، وأنه تركه صلى الله عليه وسلم.(233/20)
تراجم رجال إسناد حديث شيبة في عدم تقسيم رسول الله لمال الكعبة
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي].
عبد الرحمن بن محمد المحاربي لا بأس به، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن الشيباني].
الشيباني هو سليمان بن أبي سليمان أبو إسحاق ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن واصل الأحدب].
واصل الأحدب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شقيق].
هو شقيق بن سلمة أبو وائل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شيبة يعني ابن عثمان].
هو شيبة بن عثمان الحجبي صحابي رضي الله عنه، أخرج له البخاري وأبو داود وابن ماجة.(233/21)
شرح حديث: (صيد وج وعضاهه حرام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب.
حدثنا حامد بن يحيى حدثنا عبد الله بن الحارث عن محمد بن عبد الله بن إنسان الطائفي عن أبيه عن عروة بن الزبير عن الزبير رضي الله عنه قال: (لما أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لية حتى إذا كنا عند السدرة وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في طرف القرن الأسود حذوها، فاستقبل نخباً ببصره وقال مرة: واديه، ووقف حتى اتقف الناس كلهم، ثم قال: إن صيد وج وعضاهه حرام محرم لله.
وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره لثقيف)].
أورد أبو داود باباً بدون ترجمة، وهذا قليل في استعمال أبي داود رحمه الله، فقليلاً ما يذكر باباً بدون ترجمة، والبخاري يستعمله في مواضع كثيرة، والباب الذي يكون بدون ترجمة يكون من الباب الذي قبله، وله تعلق به، ولكنه يميز كما تميز الفصول التي تكون داخل الباب، فهذا هو المقصود من ذكر الباب بدون ترجمة.
والباب الأول يتعلق بمال الكعبة، وأما هذا فيتعلق بتحريم وج وعدم قطع عضاهه، يعني: شجره، ووج هو واد بالطائف، والحديث غير صحيح وغير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هناك شيء محرم إلا مكة والمدينة فقط، وما سواهما فإنه ليس بمحرم، ولو صح يمكن أن يكون ذلك حمى ومنع منه في وقت معين، ولكن الحديث غير صحيح وغير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أورد المصنف حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: (لما أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لية)].
لية مكان معين معروف عندهم.
قوله: [(حتى إذا كنا عند السدرة وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في طرف القرن الأسود حذوها)].
القرن الأسود قيل: إنه جبل صغير، يعني: أكمة صغيرة.
[(فاستقبل نخباً ببصره)].
نخب هو واد بالطائف.
[(وقال مرة: واديه، ووقف حتى اتقف الناس كلهم)].
يعني: حتى وصل الناس ووقفوا معاً، واتقف هي بمعنى وقف، وقف فاتقف.
قوله: [(ثم قال: إن صيد وج وعضاهه حرام محرم لله)].
وج واد بالطائف.(233/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (صيد وج وعضاهه حرام)
قوله: [حدثنا حامد بن يحيى].
حامد بن يحيى ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الله بن الحارث].
عبد الله بن الحارث ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن عبد الله بن إنسان الطائفي].
محمد بن عبد الله بن إنسان الطائفي لين، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
وهو أيضاً لين، أخرج له أبو داود.
[عن عروة بن الزبير].
هو عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن الزبير].
هو الزبير بن العوام رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة والله تعالى أعلم.(233/23)
الأسئلة(233/24)
الفرق بين الحكم بغير ما أنزل الله المؤدي إلى الكفر وغير المؤدي إليه
السؤال
إذا حكم المرء في مسألة واحدة بغير ما أنزل الله فهل يعد ذلك كفراً أم لابد أن يقرر القوانين الوضعية في جميع شئون الحياة؟
الجواب
لا فرق في الاستحلال بين مسألة واحدة ومسائل كثيرة، فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله ولو في مسألة واحدة فإنه يكفر، وأما إذا كان غير مستحل فلا فرق بين كونه حكم بواحدة أو بألف أو بأربعة أو بعشرة وهو يعرف أنه مذنب وأنه مخطئ، فلا يكون كفراً.(233/25)
حكم وضع النوى مع التمر في وعاء واحد
السؤال
هل هناك حديث فيه النهي عن وضع النوى مع التمر في صحن التمر؟
الجواب
ليس عندي علم في هذا، ولكن لا شك أن وضع التمر مع النوى في مكان واحد مع الشيء الذي يؤكل لا يجعل النفوس ترغبه وتشتهيه، وإنما يكون النوى على حدة والتمر يكون على حدة، ولا يجمع بين النوى والتمر في مكان واحد، لكن ما أعلم حديثاً في هذا، ولكنه كما هو معلوم ليس بجيد من ناحية الآداب، ومن ناحية كون الإنسان يقذره، وقد يجعل بعض الناس لا ترغب نفسه أن يأكل من ذلك التمر الذي وضع عليه النوى.(233/26)
حكم تسليم لقطة الحرم إلى مكتب المفقودات في الحرم
السؤال
إذا وجد الإنسان لقطة في مكة وسلمها إلى مكتب المفقودات في الحرم المكي هل تبرأ ذمته؟
الجواب
لا شك أن ذمته تبرأ بهذا.(233/27)
حكم أخذ الإحرامات التي يرميها الناس بمنى
السؤال
بعض الناس يأخذ الإحرامات المتبقية من منى التي يتركها الناس بعد رحيلهم؟
الجواب
إذا كانوا تركوها ورموها فيمكن أن تؤخذ؛ لأن الشيء الذي تركه أصحابه ولا يريدونه لا مانع من أخذه، هذا إذا كان متحققاً أنهم تركوه.(233/28)
التوفيق بين قول ابن عباس: (فأرسلت الأتان ترتع) وبين حديث: (لا يعضد شجرها)
السؤال
قول ابن عباس: (فأرسلت الأتان ترتع) فيه ذكر الرعي، فكيف نوفق بين هذا وبين حديث: (لا يعضد شجرها)؟
الجواب
كون الإنسان يسرح بإبله وغنمه ويجعلها في أرض الحرم ويتردد في أرض الحرم لا شك أن هذا لا يجوز، وأما كون حيوان أو دابة ترتع ما فيه إشكال، وإنما الإشكال في كون الإنسان يتخذ من الحرم موطناً لرعي غنمه؛ لأنه بذلك يقضي على علف الحرم وعلى النبات الذي في الحرم.(233/29)
حكم الإجهاز على الحيوان الجريح للمحرم
السؤال
إذا وجدت حيواناً مجروحاً في الحرم أو حال الإحرام بحيث إنه قد يموت قريباً، فهل يجوز أن أقتله، حتى ينتهي ألمه والموت رحمة له؟
الجواب
إذا كان الحيوان لا يؤكل ليس له أن يقتله، وإذا كان مأكول اللحم وهذا الجرح الذي فيه قد يؤدي إلى هلاكه وإلى أن يكون ميتة فيذبحه، لكن هذا لا يكون بمجرد أن فيه جرحاً يسيراً، وقد سبق أن مر بنا حديث فيما يتعلق بالهدي، وأن بعض الناس قد يقدم على ذبح الشيء الذي يؤكل لحمه، مع أن عنده قوة وعنده مناعة، والحديث مر بنا في سنن أبي داود وفي باب: الهدي إذا عطب قبل أن يبلغ.
عن ابن عباس قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاناً الأسلمي وبعث معه بثمان عشرة بدنة، فقال: أرأيت إن أزحف علي منها شيء؟ قال: تنحرها ثم تصبغ نعلها في دمها، ثم اضربها على صفحتها، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أصحابك)].
يعني: أنه إذا رخص له هو وأصحابه فيمكن إذا حصل فيها أي شيء أن يقدم على نحرها، لكن إذا كان ليس له فيها نصيب فمعناه أنه لا يذبحها إلا إذا خشي أن يحصل لها الهلاك وأن تكون ميتة.(233/30)
حكم إزالة الأشواك من المحرمين لأجل الجلوس في المكان الذي هي فيه
السؤال
كنا ننصب خيمة بمنى في السنة الماضية فظهرت لنا أشواك في المكان الذي نريد أن ننصب فيه، فاختلفنا في إزالة هذه الأشواك من مكان الخيمة، ثم اتفقنا على إزالتها فأزلناها، فهل عملنا هذا صحيح؟ وهل يلزمنا شيء؟
الجواب
الشوك المؤذي يزال، لكن هل هو أشواك في شجر أو أنه شوك متناثر في الأرض؟ إذا كان متناثراً في الأرض فلا إشكال في إزالته، وأما إذا كان في شجر فالإنسان لا يقطع الشجر بل يتركه في مكانه.(233/31)
حكم قراءة القرآن للأموات
السؤال
هل تجوز قراءة القرآن للأموات؟
الجواب
اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: إن قراءة القرآن وإهداءها للأموات سائغة، ومنهم من قال: إن الأموات ينتفعون في حدود ما ورد، والذي ورد هو الصدقة والدعاء، وكذلك الصيام في حق من كان عليه صوم واجب، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، وأما الشيء الذي لم يرد فالأولى عدم فعله، ومن أراد أن ينفع موتاه فلينفعهم بالشيء الذي قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما الصدقة التي ينتفع بها الفقراء والمساكين، ويحصل ثوابها للأموات الذين أراد الإنسان أن يتصدق عنهم.(233/32)
معنى قول بعض السلف إن الله عز وجل بائن عن خلقه
السؤال
ما معنى قول بعض السلف: إن الله عز وجل بائن عن خلقه؟ وما حكم هذه الكلمة؟
الجواب
( بائن من خلقه) يعني: أنه ليس حالاً في المخلوقات، ولا المخلوقات حالة فيه، هذا هو معناه، وهذا المعنى صحيح، فهذا كلام يوضح المعنى، وإضافته إلى الله عز وجل من باب الإخبار وليس من باب الصفات.
إذاً: فهذه العبارة عبارة صحيحة ومعناها صحيح، وليست صفة من صفات الله، وإنما هي إخبار عن الله بأنه ليس حالاً في المخلوقات.(233/33)
حكم التلفظ بالنية في الصلاة
السؤال
في الصلوات المكتوبة هل ينوي ويسمي الوقت ويقول: مقتدياً بهذا الإمام؟
الجواب
لا يقول شيئاً من ذلك، ولا يتلفظ بالنية، والتلفظ بالنية بدعة، وإنما ينوي بقلبه أنه يصلي الصلاة التي جاء من أجلها، فالإنسان عندما يسمع الأذان لصلاة العصر مثلاً، والمؤذن يقول: حي على الصلاة، يعني: تعالوا لصلاة العصر، فهو يتوضأ يريد بذلك الوضوء أن يصلي العصر، وكذلك يدخل المسجد ليصلي العصر، وإذا قامت الصلاة يريد صلاة العصر، فهو ينوي بقلبه أنه يصلي هذه الصلاة المكتوبة في هذا الوقت التي هي العصر، لكن لا يقول: نويت أن أصلي العصر أربعاً مقتدياً بهذا الإمام الله أكبر! هذه من الأمور المحدثة.(233/34)
حكم إعادة الرمي للجمرات لمن لم يتمكن من رؤية سقوط الحجر في المرمى
السؤال
حججت قبل عامين وعند رميي لجمرة العقبة يوم النحر كان الزحام شديداً ولم أتمكن من رؤية سقوط الحجر في المرمى وذلك لبعد المسافة وشدة الزحام، فسألت أحد طلبة العلم فقال لي: أعد الرمي، وكان ذلك في اليوم الثاني عشر، فأعدت رمي جمرة العقبة بعد رميي ذلك اليوم، وكنت متعجلاً فانصرفت إلى مكة، فهل فعلي صحيح؟
الجواب
يصح ذلك إن شاء الله، ولكن إذا كان قد رمى ويغلب على ظنه الوقوع في المرمى فإنه يكفيه، أما إذا كان يغلب على ظنه عدم الوقوع، وإنما الوقوع على رءوس الناس فهذا هو الذي يلزمه الإعادة.
وكونه تذكر أو ذكر بهذا الشيء الذي عليه فقضاه فلا يلزمه أنه يرجع ويرمي عن اليوم الحادي عشر وعن الثاني عشر، بل عليه هذا الشيء الذي فعله قضاءً، كما لو أنه نسي صلاة من الصلوات وبعد خمسة أيام تذكرها فإنه يقضيها فقط، ولا يقضي التي وراءها.(233/35)
حكم من يأخذ من ماء زمزم للبركة ويخلطه بغيره ويسقي به الناس
السؤال
بعض الناس يأخذ من ماء زمزم إلى بلده للبركة، ويخلط فيه ماءً عادياً ويسقي الناس الذين يزورونه، فهل هذا يعتبر غشاً؟
الجواب
هذا ليس بطيب، يعني: كون الإنسان يأخذ من ماء زمزم ويضيف إليه أضعافه هذا ما يقال له: ماء زمزم، وقد يكون الغالب هو ذلك الماء الذي ليس من ماء زمزم، فيكون ماء زمزم مغموراً ليس له أثر، فعلى الإنسان أن يتزود من ماء زمزم ويصطحبه إلى بلده وأن يهديه لغيره ولا يضيف إليه شيئاً، ولا يلزم أن يسقي الكثير من الناس إذا كان لا يستطيع، بل يسقي بعضهم، ولا يلزم أن يعطي الواحد حتى يروى بل يعطيه شيئاً قليلاً.(233/36)
حكم من أحصر وليس معه هدي
السؤال
إذا أحصر الإنسان وكان معه هدي فإنه ينحر هديه في المكان الذي أحصر فيه، لكن كيف يفعل إذا لم يكن معه هدي؟
الجواب
الإنسان الذي أحصر ويجب عليه هدي ولا يستطيعه، يصوم عشرة أيام مكان الهدي.(233/37)
حكم الحج عمن مات قبل أن يحج وهو قادر عليه
السؤال
مات شاب وقد كان قادراً على الحج أثناء حياته، وأعطاني أهله مبلغاً من المال لأحج عنه، فهل يسقط عنه الفرض؟ وهل له أجر الحجة؟ وهل لي أنا أيضاً أجر الحج؟ وأيهما أفضل أن أحج عنه بهذا المال أم يتصدق عنه صدقة جارية؟
الجواب
إذا كان الإنسان عنده مال ولم يحج فإن الحج أو نفقة الحج واجبة في ماله، ومقدمة على الميراث؛ لأن هذا دين، فيحج عنه من ماله، وإن لم يكن له مال وتصدق عنه وحجج عنه فهذا شيء طيب لا بأس بذلك، والإنسان الذي حج عن غيره بالمال إذا كان أخذ المال من أجل أن يذهب إلى مكة ويطوف بالبيت ويقف في المشاعر، ويدعو الله عز وجل في تلك الأماكن، فهذا شيء محمود، وإن كان قادراً على المال وعنده المال فالذي ينبغي له أن يحج بماله ولا يحج بمال غيره، لكن من كان قادراً على أن يشهد الموسم وأن يحج مع الناس، ولكن أخذ المال طمعاً فيه، فهذا حج ليأخذ، فالأخذ هو غاية والحج وسيلة، فهذا يكون مذموماً؛ لأنه حج من أجل الدنيا والباعث له على الحج الدنيا، فأحدهما محمود وهو من أخذ ليحج والثاني مذموم وهو من حج ليأخذ.(233/38)
حكم من يحج أو يعتمر عن نفسه ويهب ثواب ذلك لغيره
السؤال
هل يجوز أن أحج أو أعتمر وأهب ثواب حجتي أو عمرتي لوالديّ أو لأحد أقاربي؟ الشيخ: الإنسان له أن يحج عن غيره، أما أن يحج عن نفسه ويهب الثواب فلا، وإنما ينوي من الميقات أن الحج لفلان سواءً كان لأمه أو أبيه، فيكون الحج له وهو مأجور على كونه يحسن إلى غيره، ولكن كونه ينوي الحج عن نفسه ثم يهب الثواب لغيره فلا، وإنما عليه إذا أراد أن يحج عن غيره أن ينوي من الميقات بأن العمرة لأمه أو لأبيه أو لفلان بن فلان، فتكون له بهذه النية.(233/39)
عدم صحة دفن إسماعيل وأمه في الحجر
السؤال
هل صحيح أن الحجر مدفون فيه إسماعيل وأمه هاجر؟
الجواب
هذا ليس بصحيح؛ لأن الحجر هو من البيت، وإسماعيل هو الذي بنى البيت هو وأبوه إبراهيم، والحجر داخل في البيت، فكيف يكون مدفوناً فيه؟! هذا غير صحيح.(233/40)
الرد على شبهة من أجاز الصلاة في المساجد التي فيها قبور بحجة وجود قبر الرسول في المسجد
السؤال
هناك من يقول: الصلاة في المسجد الذي فيه قبر جائز، لأن المسجد النبوي فيه قبور وهي داخلة فيه فكيف يجاب عنه؟
الجواب
يمكن أن يقال: إن الإنسان لا يصلي في مكان أو في مسجد فيه قبر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ القبور مساجد، وعن بناء المساجد على القبور، وقد قال ابن القيم في زاد المعاد: إنه لا يجتمع في دين الإسلام قبر ومسجد والحكم للسابق منهما؛ فإن كان القبر موجوداً أولاً وأتي بالمسجد وبني عليه يهدم المسجد، وإن كان المسجد مبنياً أولاً وأدخل الميت في المسجد ينبش الميت ويخرج من المسجد ويبقى المسجد كما كان، ولا يجمع بين المسجد والقبر.
والرسول صلى الله عليه وسلم حذر من اتخاذ القبور مساجد في آخر حياته قبل أن يموت بخمس، ثبت في صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ثم قال: ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك) هذا قاله قبل وفاته بخمس ليال، يعني توفي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين وقاله يوم الأربعاء.
(ولما كان في النزع عليه الصلاة والسلام، طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها وقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وهذه أحاديث محكمة لا تقبل النسخ بحال من الأحوال؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قالها ومات، ولم ينزل وحي بعدها، فهو يقول: إن القبور لا تتخذ مساجد، بل هذا من آخر ما قاله صلى الله عليه وسلم في أواخر أيامه وأواخر لحظاته صلى الله عليه وسلم، فدل على أنه محكم لا يقبل النسخ بحال من الأحوال، بل هو حكم ثابت مستقر، هذا هو شأن هذه الأحاديث التي تتعلق باتخاذ القبور مساجد.
إذاً كل المساجد التي بنيت على القبور، أو دفن الموتى فيها لا يجوز اتخاذها مكاناً للصلاة.
نأتي إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ونقول: هل الرسول صلى الله عليه وسلم دفن في المسجد؟ وهل مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بني على قبر؟ كان هناك قبور المشركين ولكنها نبشت وأخرجت، وكان له عليه الصلاة والسلام بيوت متميزة في شرق المسجد، والرسول صلى الله عليه وسلم لما توفي تشاور الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أين يدفنونه صلى الله عليه وسلم، فروى بعضهم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الأنبياء يدفنون حيث يموتون) أي: المكان الذي يموت فيه النبي يدفن فيه، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم مات في حجرة عائشة دفن في حجرة عائشة، وكانت تلك الحجرة خارج المسجد، وكانت تحيض أم المؤمنين عائشة فيها، ويجامع أهله عليه الصلاة والسلام فيها، فهي ليست من المسجد، بل المسجد مستقل عن البيوت والبيوت مستقلة عن المسجد، فليس هذا المسجد مبنياً على قبر، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم دفن في المسجد وإنما دفن في بيته، وبقي الأمر على هذا الوضع، وبقيت الحجرات خارج المسجد في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وفي عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكذلك بقيت فترة من خلافة بني أمية، ثم إنه وسع المسجد وأدخل القبر في المسجد، فالصلاة فيه بألف صلاة، سواء دخل القبر أو لم يدخل.
فلا يجوز أن تترك الأحاديث المحكمة التي لا تقبل النسخ بحال من الأحوال، بسبب عمل حصل من بني أمية بعد زمن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، حيث قاموا بإدخال القبر في المسجد، ولا يجوز أن يتخذ هذا العمل حجة في مقابل الأحاديث المحكمة، وإنما المعول عليه الأحاديث المحكمة، وأما هذا المسجد فالصلاة فيه بألف صلاة سواءً دخل القبر فيه أو لم يدخل.
فهذا هو الجواب عن هذه الشبهة التي يتشبث بها بعض الناس.
وينبغي على الناس أن يعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما دفن في المسجد، وأن المسجد مستقل، وإنما دفن في بيته، وبعد ذلك أدخل القبر في جملة المسجد، فالمعول عليه ليس فعل بني أمية وإنما المعول عليه الأحاديث المحكمة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته، والتي لا تقبل النسخ بحال من الأحوال.(233/41)
حكم أهل الفترة
السؤال
ما هو القول الراجح في أهل الفترة؟ وما صحة حديث: (أبي وأبوك في النار)؟
الجواب
أهل الفترة الذين لم تبلغهم الرسالات هؤلاء أمرهم إلى الله عز وجل ويمتحنون يوم القيامة، ونتيجة الامتحان هي التي تكون النهاية مبنية عليها، إما يكون سعيداً وإما شقياً في ذلك الامتحان الذي يكون يوم القيامة، وقد ذكر العلماء الكلام على هذا في تفسير قول الله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].
وأما الذين بلغتهم الرسالة وعندهم علم عن أخبار الرسل ولم يكونوا على منهاجهم وقد عبدوا الأصنام، فإن هؤلاء كفار، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن أباه في النار وذلك في الحديث الذي فيه: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أين أبي؟ قال: أبوك في النار، فرأى أنه تغير وتأثر، فقال: إن أبي وأباك في النار) والحديث في صحيح مسلم.
وكذلك أمه ماتت كافرة، (والرسول صلى الله عليه وسلم استأذن ربه أن يستغفر لها فلم يأذن له، ثم استأذن أن يزورها فأذن له) وزيارة الكفار جائزة ليس للدعاء لهم بل لتذكر الآخرة وتذكر الموت.
إذاً: كون الرسول صلى الله عليه وسلم استأذن أن يستغفر لأمه فلم يؤذن له يدل على أنها ماتت كافرة، وكذلك أبوه مات كافراً، وجده مات كافراً الذي هو عبد المطلب، وكذلك أبو طالب لما عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مرض موته الإسلام حيث قال: (يا عم قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، وكان عنده رجلان كافران -أحدهما أسلم والثاني مات كافراً- فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فكان آخر ما قال هو على ملة عبد المطلب) ومات معلناً أنه على ملة عبد المطلب يعني: مات كافراً.(233/42)
حكم حج من أخر طواف الإفاضة إلى آخر ذي الحجة أو إلى محرم
السؤال
من أخر طوف الإفاضة إلى اليوم الخامس والعشرين من ذي الحجة أو إلى شهر محرم لضرورة أو لغير ضرورة، هل يصح حجه؟
الجواب
الحج يصح، لكن لا يصلح أن يؤخر الطواف وهو ركن من أركان الحج؛ لأن الإنسان لا يدري ما يعرض له، والركن لا يتم الحج إلا به، فليس للإنسان أن يؤخره، وأما إذا كان هناك ضرورة أو مرض أو ما إلى ذلك أو كان في المستشفى، ثم أتي به بعد ذلك وطاف محمولاً أو ماشياً فإنه لا بأس به.
وعلى كل فالطواف يصح منه في أي وقت؛ لأنه ليس له وقت مخصص، ولكن المبادرة إليه مطلوبة ولا ينبغي للإنسان أن يؤخره؛ لأنه إذا أخره أخر ركناً من أركان الحج، وقد يعرض له عارض فلا يكون قد حج.(233/43)
أفضلية مكة على سائر بقاع الأرض
السؤال
هل صحيح أن مكة أفضل البقاع ما عدا المكان الذي دفن فيه النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
لم يأت عن النبي عليه الصلاة والسلام شيء يدل على هذا، وإنما جاء ما يدل على أن مكة هي أفضل البقاع، والرسول صلى الله عليه وسلم لما أخرج من مكة قال: (أما إنك أحب بلاد الله إلى الله، ولولا أنني أخرجت منك لما خرجت) فهذا يدل على أن مكة هي أحب البلاد إلى الله وأنها خير البقاع وأفضل البقاع، ولهذا الصلاة هناك بمائة ألف صلاة.
والجواب عن الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بألف صلاة، والحديث الذي يذكر فيه فضل المدينة على مكة وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام لما هاجر من مكة إلى المدينة قال: (اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكني أحب البقاع إليك) فقالوا: هذا يدل على أن المدينة أفضل من مكة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أحب البقاع إلى الله).
أولاً: هذا يخالف الحديث الصحيح الذي سبق: (إنك أحب بلاد الله إلى الله)، فمكة هي أحب البلاد إلى الله وليست المدينة.
ثانياً: هذا الحديث موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً من حيث المعنى هو فاسد؛ لأن هذا يقتضي أن يكون الأحب إلى الرسول غير الأحب إلى الله، والأصل أن ما كان أحب إلى الله فهو الأحب إلى رسول الله، ولا يقال: إن الله تعالى أحب إليه شيء والرسول يخالف ما يحبه الله فيكون الأحب إليه شيئاً آخر.
إذاً: الحديث الصحيح: (أما إنك أحب بلاد الله إلى الله، ولولا أنني أخرجت لما خرجت) والله تعالى يقول: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8]، ولهذا فُضِّلَ المهاجرون على الأنصار؛ لأن المهاجرين عندهم الهجرة وعندهم النصرة، ولهذا قال الله عز وجل: {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:8]، فعندهم المعنى الموجود في الأنصار وعندهم زيادة على ذلك وهي الهجرة، فكان المهاجرون رضي الله عنهم أفضل من الأنصار رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وعلى هذا فالتفضيل من الأمور التي يتقيد فيها بالنصوص الشرعية، والنصوص الشرعية جاءت بتفضيل مكة على المدينة، وقد صحت بذلك الأحاديث ومنها ما ذكرت، وأما الحديث الذي ذكرته والذي يخالف ذلك فهو حديث موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.(233/44)
حكم من وقف خارج حدود عرفة
السؤال
رجل وقف خارج حدود عرفة جاهلاً بها أو متعمداً فماذا يلزمه؟
الجواب
إذا كان لم يدخل عرفة ولا لحظة وكان خارج الحدود سواءً كان عامداً أو جاهلاً، ثم طلع الفجر من يوم النحر ولم يكن في عرفة؛ فإنه لم يقف بعرفة، وعلى هذا ليس له حج؛ لأن الحج لابد فيه من الوقوف بعرفة، ويكون ذلك في وقت الوقوف الذي ينتهي بطلوع الفجر من ليلة النحر، ولهذا من الأمور المهمة للحجاج -وهي من أهم المهمات- أن الواحد منهم يتحقق أنه بعرفة، وأن ينظر للبنايات التي كتب عليها بمختلف اللغات تحديد أرض عرفة، فيكون في داخلها ولا يقف خارجها، والوقوف يحصل ولو بلحظة إذا كان في أرض عرفة، فهذا الذي يسأل إذا تحقق أنه لم يكن داخل الحدود ولا لحظة واحدة فإنه لا يعتبر وقف بعرفة، ولا يعتبر قد حج في ذلك العام.(233/45)
شرح سنن أبي داود [234]
لقد رفع الله عز وجل شأن بعض الأماكن وشرفها ومنها مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، وذكر منها مسجد المدينة النبوية، وكذلك حرم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة كما حرم إبراهيم مكة، فلا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا يحمل فيها السلاح لقتال.(234/1)
حكم إتيان المدينة وشد الرحال إليها(234/2)
شرح حديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في إتيان المدينة.
حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)].
قوله: [باب في إتيان المدينة] أي: السفر إلى المدينة وشد الرحل لزيارة هذا المسجد الذي بناه النبي صلى الله عليه وسلم، وزيارة المدينة لا تلازم بينها وبين الحج؛ فإنه يمكن أن يأتي الإنسان للحج ويرجع إلى بلاده، ويمكن أن يأتي من بلاده للمدينة ويرجع إلى بلاده، ويمكن أن يأتي للحج ويزور المدينة، كل ذلك ممكن، فليس هناك ترابط وتلازم بين الحج وزيارة المدينة.
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه في بيان المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: [(لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)] وهي المساجد التي بناها أنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأسست على التقوى من أول يوم.
وحديث أبي هريرة يدل على أن السفر إلى بقعة من البقاع من أجل التقرب إلى الله عز وجل إنما يكون لهذه المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى.
وقد قال بعض أهل العلم: إن الاستثناء ليس مقصوراً على السفر لمسجد من المساجد، وإنما المقصود البقع والأراضي، فلا تشد الرحال إلا إلى هذه المساجد الثلاثة، فلا يذهب الإنسان إلى بقعة ولو لم يكن فيها مسجد ليتقرب إلى الله عز وجل في تلك البقعة، وهذا غير سائغ، وقد استدل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بعموم هذا الحديث على عدم السفر لأي بقعة من البقاع من أجل التقرب إلى الله عز وجل فيها، ففي رواية لهذا الحديث عند النسائي أن أبا هريرة رضي الله عنه ذهب إلى الطور، ولما رجع لقيه بصرة بن أبي بصرة رضي الله عنه فقال له: من أين جئت؟ قال: جئت من الطور، قال: لو علمت لم تسافر، قال: ولم؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)، فدل هذا على أن المقصود بذلك عموم البقع، وليس المقصود به خصوص المساجد، فالمستثنى ثلاثة مساجد من عموم البقع وعموم الأراضي؛ لأن هذا الحديث استدل به بصرة بن أبي بصرة رضي الله عنه على أبي هريرة فيما يتعلق بالذهاب إلى الطور، وقال: لو علمت قبل أن تذهب لم تذهب.
والحديث أورده النسائي من حديث أبي هريرة عن بصرة بن أبي بصرة رضي الله عنه، وذلك في حديث طويل بسند صحيح عند النسائي برقم (1429).
وهذه المساجد الثلاثة هي مساجد الأنبياء المتميزة على غيرها، وهي التي يسافر من أجلها، أما غيرها فإنه لا يسافر من أجله، ولا تشد الرحال من أجله، ولم يأت شيء يدل على خلاف ما دل عليه هذا الحديث، وهو قصر السفر للقربة على هذه المساجد الثلاثة التي هي مساجد الأنبياء.(234/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب وهو ثقة من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.(234/4)
ما جاء في تحريم المدينة(234/5)
شرح حديث علي: (المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في تحريم المدينة.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: (ما كتبنا عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا القرآن وما في هذه الصحيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور، فمن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه عدل ولا صرف، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه عدل ولا صرف ومن والى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه عدل ولا صرف)].
أورد أبو داود رحمه الله [باب: تحريم المدينة] المدينة حرام كما أن مكة حرام، ولا يوجد في الأرض أماكن محرمة توصف بهذا الوصف لا يصاد صيدها ولا يقطع شجرها إلا مكة والمدينة، وإبراهيم حرم مكة والنبي صلى الله عليه وسلم حرم المدينة، والمقصود من ذلك إظهار الحرمة، فإن إبراهيم أظهر حرمة مكة والتحريم إنما هو من الله، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أظهر حرمة المدينة والتحريم إنما هو من الله، وإضافة التحريم إلى إبراهيم لمكة؛ لأنه هو الذي أظهر حرمتها، وإضافة التحريم إلى النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة؛ لأنه هو الذي أظهر حرمتها، والله هو الذي أوحى إليه بحرمتها.
إذاً: مكة والمدينة هما الحرمان، وليس هناك أماكن أخرى محرمة، وما شاع على ألسنة بعض الناس من قولهم عن المسجد الأقصى: ثالث الحرمين لا يصح، وهذا إطلاق غير صحيح؛ لأن الحرمين ليس لهما ثالث، ومكة حرم والمدينة حرم، ومن جملة مكة المسجد الحرام، ومن جملة المدينة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: ليس هناك أماكن أخرى يقال لها: حرم إلا مكة والمدينة، فإنهما حرام وهما حرم، وقول بعض الناس: ثالث الحرمين لا يصلح ولا يستقيم، وإنما يقال: ثالث المساجد المقدسة، أي: المساجد المقدسة الثلاثة التي هي مساجد الأنبياء هو ثالثها، أما كونه ثالث الحرمين فهذا لا يستقيم؛ لأنه ليس هناك حرم ثالث، وإنما الحرم حرمان هما مكة والمدينة.
والمدينة لا يقطع منها الشجر ولا يصاد الصيد، ومن دخلها يكون آمناً؛ لأنه في حرم.
أورد أبو داود حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: [(ما كتبنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا القرآن وإلا ما في هذه الصحيفة)] والصحيفة من جملة ما فيها: [(المدينة حرام من عائر إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه عدل ولا صرف، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه عدل ولا صرف ومن والى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه عدل ولا صرف)].
هذا من الأدلة على جواز كتابة العلم، وأن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يكتبون العلم، ومن الأدلة الدالة على ذلك كون علي رضي الله عنه كان عنده كتاب اشتمل على عدة مسائل من الحديث ومن العلم، ومما اشتملت عليه هذه الصحيفة ما جاء في هذا الحديث.
والمقصود منه أن المدينة حرام من عائر إلى ثور.
(عائر) هو عير، وهو ثور جبلان في المدينة، عير في جنوبها وثور جبل صغير شمال جبل أحد، هذا حد المدينة من جهة الجنوب والشمال، من الجنوب عير ومن الشمال ثور.
وكونها حرماً أو حراماً أي: لا يقطع شجرها ولا يصاد صيدها، ولهذا جاءت الأحاديث في النهي عن ذلك، ومنها ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (لو رأيت الظباء ترتع في المدينة ما ذعرتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ما بين لابتيها) فلا يزعج الصيد ولا ينفر، ومن باب أولى لا يقتل، وكذلك لا يقطع الشجر الذي ينبته الله، أما الشجر الذي ينبته الناس ويزرعه الناس فإنهم يحصدون زروعهم ويقطعون نباتهم الذي ينبتونه ويحتاجون إليه.
قوله: [(فمن أحدث فيها حدثاً)] يعني: من أتى بأمر محدث لم يكن من الدين، ولذلك جاء في الحديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
قوله: [(أو آوى محدثاً)] يعني: من آوى مَنْ أتى ببدع وأحدث في دين الله ما ليس منه، فإن المحدث والمؤوي له عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
قوله: [(فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)] هذا دعاء، وفيه بيان خطورة هذا الأمر، وأنه أمر فضيع وأمر خطير وعظيم.
قوله: [(وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم)] يعني: أنه إذا حصل الأمان من أحد من المؤمنين لشخص من الكفار، فإنه يعطى الأمان، ولو كان ذلك الذي أعطاه من أدنى الناس كالعبد، وكذلك النساء أيضاً لهن أن يؤمنَّ، كما في قصة علي بن أبي طالب مع أم هانئ في عام فتح مكة وفيها: (أن أم هاني جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: إنني أمنت فلاناً وإن علياً قال: إنه لا يتركه، فالنبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم قال: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ).
قوله: [(فمن أخفر مسلماً)] يعني: نقض عهده، أو حصل منه نقض العهد وعدم تمكينه من الشيء الذي التزم به.
قوله: [(فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه عدل ولا صرف)] العدل قيل: هو الفريضة، والصرف: هو النافلة.
قوله: [(ومن تولى قوماً بغير إذن مواليه)] أي: إذا ادعى العبد أنه مولى لغير من أعتقه فإنه متوعد بهذا الوعيد الشديد؛ لأن الولاء إنما يكون لمن أعتق ولا يكون لغير المعتق، والولاء لا يتصرف فيه ببيع أو هبة أو ما إلى ذلك؛ لأنه شيء ثابت وشيء لازم.
قوله: [(بغير إذن مواليه)] هذا ليس له مفهوم؛ لأن لا يصير مولى بالإذن؛ لأن الولاء لا يورث ولا يوهب ولا يباع، وليس لهم أن يأذنوا بأن الولاء يكون لفلان أو أن الولاء ليس لهم، بل هذا شيء لهم وهو كالنسب لا يباع ولا يوهب، وهو شيء ثابت ومستقر لمن وجدت منه نعمة العتق.
إذاً: فالموالاة ثابتة بين العتيق والمعتق، بين المنعم والمنعم عليه، المنعم الذي هو المعتق، والمنعم عليه الذي هو العتيق، فهذا شيء ثابت ومستقر مثل ثبوت النسب واستقرار النسب، ولهذا جاء في الحديث: (الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يورث).(234/6)
تراجم رجال إسناد حديث علي: (المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم التيمي].
هو إبراهيم بن يزيد التيمي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو يزيد بن شريك وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي].
هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وهو رابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(234/7)
شرح حديث: (لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن المثنى حدثنا عبد الصمد حدثنا همام حدثنا قتادة عن أبي حسان عن علي رضي الله عنه في هذه القصة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال، ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره)].
أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه من طريق أخرى وفيه من الزيادة قوله: [(لا يختلى خلاها)] يعني: لا يقطع حشيشها.
قوله: [(ولا ينفر صيدها)] يعني: لا يزعج أو يشار إليه بأن يهرب، هذا منهي عنه، وقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (لو رأيت الظباء ترتع في المدينة ما ذعرتها؛ لأن النبي صلى الله وسلم حرم ما بين لابتيها) يعني: أنه لا يتعرض لها بإيذاء ولا بتنفير، أقل شيء التنفير فكيف بما وراءه؟! كل ذلك ممنوع.
قوله: [(ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها)] هذه الجملة تدل على أن المدينة مثل مكة فيما يتعلق باللقطة، وأنها لا تحل لمن يأخذها إلا أن ينشدها، بخلاف اللقطة في الأماكن الأخرى فإن صاحبها يعرفها حولاً كاملاً وبعد ذلك يتمولها ويتملكها، ولو جاء صاحبها فيما بعد ووصفها وصفاً يطابق وصفها، فإنه يعطيه إياها.
وأما بالنسبة للقطة الحرمين مكة والمدينة فإنها تعرف دائماً، قيل: ولعل السر في ذلك أن مكة والمدينة يتردد عليها الناس في مختلف الأوقات، وقد تكون اللقطة لشخص جاء حاجاً أو زائراً وفقدت منه، وقد يأتي بعد سنتين أو ثلاث أو أربع فيحصل عليها، بخلاف الأماكن الأخرى فإنه لا يحصل عليها.
قوله: [(ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال)].
لأن حمل السلاح للقتال بحيث لا يكون له مسوغ لا يجوز في أي مكان، وفي المدينة وفي مكة من باب أولى، ولكن إذا احتيج إلى حمل السلاح لأمر يقتضي ذلك فلا بأس بذلك.
قوله: [(ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره)].
يعني: كونه يأخذ شيئاً لعلف البعير لا بأس، فيأخذ من ورقه ما يعلف به بعيره، وأما كونه يقطع الشجر ويقطع أصوله فهذا لا يجوز؛ لأن قطع الشجر فيه قضاء على منافعه وعلى فوائده، أما كونه يأخذ ما يعلف به بعيره من ورق الشجر الذي ينبت والذي يظهر مكانه فهذا هو الذي جاء به الإذن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(234/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها)
قوله: [حدثنا ابن المثنى].
هو محمد بن المثنى العنزي أبو موسى، الملقب الزمن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الصمد].
هو عبد الصمد بن عبد الوارث وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا همام].
هو همام بن يحيى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي حسان].
هو أبو حسان الأعرج مسلم بن عبد الله صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن علي].
هو أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه وقد مر ذكره.
وأبو حسان هو مسلم بن عبد الله مات سنة مائة وثلاثين، وعلي رضي الله عنه قتل سنة أربعين، وبين وفاتيهما تسعون سنة، فلا أدري هل أبو حسان هذا زاد عمره على مائة سنة، وإذا كان في هذا الحدود فسماعه من علي واضح، وأما إذا كان غير ذلك ففيه شيء، لكن لم أقف على تاريخ مدة عمره وتاريخ ولادته ومقدار حياته، وأما وفاته فذكروا أنها سنة مائة وثلاثين، وعلي رضي الله عنه قتل سنة أربعين، فبين وفاتيهما تسعون سنة، فإذا كان عمره مائة أو قريباً من المائة أو فوق المائة فالرواية ممكنة والإدراك ممكن، ولكن العلماء ذكروا هذا الحديث وصححوه، ومعنى هذا أنه كان معمراً والله أعلم.(234/9)
شرح حديث: (حمى رسول الله كل ناحية من المدينة بريداً بريداً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء أن زيد بن الحباب حدثهم حدثنا سليمان بن كنانة مولى عثمان بن عفان أخبرنا عبد الله بن أبي سفيان عن عدي بن زيد رضي الله عنه قال: (حمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل ناحية من المدينة بريداً بريداً، لا يخبط شجره ولا يعضد إلا ما يساق به الجمل)].
أورد أبو داود حديث عدي بن زيد رضي الله عنه قال: [(حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ناحية من المدينة بريداً بريداً، لا يخبط شجره ولا يعضد، إلا ما يساق به الجمل)].
يعني: لا يقطع شجر المدينة إلا ما يعلف به الجمل، ويحتمل أن يكون المعنى من قوله: [(إلا ما يساق به الجمل)] أي: العصا التي يساق بها الجمل؛ لأن الجمال وغيرها تساق بالعصي، كما جاء في القرآن: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه:18] أي: بالعصا.
والمقصود بالحمى هذا غير الحرم؛ لأن الحمى أوسع من الحرم، والمقصود به أن الشجر يترك لإبل الصدقة وللخيل، هذا هو المقصود منه، وقد جاء في أحاديث أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل حول المدينة اثني عشر ميلاً حمى، والبريد هو اثنا عشر ميلاً؛ لأن البريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، فيكون المجموع اثني عشر ميلاً.
إذاً: الحمى خارج الحرم، أما ما كان داخل الحرم فحدوده من عير إلى ثور فهذا هو الحرم الذي جاء فيه التحريم، وأما الحمى فإنه زائد، والمقصود منه تخصيص هذه الأماكن لإبل الصدقة، والحمى كان في ذلك الوقت أما الآن ما فيه إلا الحرم؛ لأنه لا يوجد إبل صدقة ولا خيل، والصيد في الحمى لا بأس به؛ لأنه خارج الحرم؛ ولأن المقصود من تركه هو من أجل إبل الصدقة ومن أجل الخيل لترعى حول المدينة.(234/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (حمى رسول الله كل ناحية من المدينة بريداً بريداً)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
محمد بن العلاء أبو كريب الهمداني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن زيد بن الحباب].
زيد بن الحباب صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا سليمان بن كنانة مولى عثمان بن عفان].
سليمان بن كنانة مولى عثمان بن عفان وهو مجهول الحال، أخرج له أبو داود.
[أخبرنا عبد الله بن أبي سفيان].
عبد الله بن أبي سفيان وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن عدي بن زيد].
عدي بن زيد رضي الله عنه، أخرج له أبو داود.
وهذا الحديث ضعفه الألباني، لكن معناه جاء في الأحاديث الصحيحة التي أشرت إليها، وهو أنه جعل حول المدينة اثني عشر ميلاً، والبريد هو اثنا عشر ميلاً، وهو مطابق لها ومماثل لها.(234/11)
شرح حديث: (إن رسول الله حرم هذا الحرم وقال من أخذ أحداً يصيد فيه فليسلبه ثيابه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو سلمة حدثنا جرير -يعني: ابن حازم - حدثني يعلى بن حكيم عن سليمان بن أبي عبد الله قال: (رأيت سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أخذ رجلاً يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسلبه ثيابه، فجاء مواليه فكلموه فيه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرم هذا الحرم وقال: من أخذ أحداً يصيد فيه فليسلبه ثيابه، فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه)].
أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه رأى غلاماً يصيد في الحرم فأخذ ثيابه، فجاء إليه أهله يطلبون منه أن يرد إليهم ثيابه، فقال: [(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم هذا الحرم -يعني: المدينة- وقال:)؟ (من أخذ أحداً يصيد فيه فليسلبه ثيابه، فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه)] يعني: أعطيكم ثمنه، أما الشيء الذي رخص له في أخذه فإنه يبقى له، وهذا يدلنا على أن الصيد وكذلك قطع الشجر لا يجوز في المدينة، وأن الجزاء هو السلب؛ لأنه لم يأت شيء يدل على أن المدينة صيدها يقوم، وأنه يكون ذا قيمة بالمماثلة أو بغير ذلك كما جاء بالنسبة لمكة، ولكن بالنسبة للمدينة يكون الجزاء هو السلب، وهذا هو الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم سواءً فيما يتعلق بالصيد أو فيما يتعلق بقطع الشجر.
وهذا الحكم مستمر، ويمكن أن يعمل به الآن، لكن إذا كان يترتب على ذلك مفسدة وضرر فلا يقدم الإنسان عليه.(234/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن رسول الله حرم هذا الحرم وقال من أخذ أحداً يصيد فيه فليسلبه ثيابه)
قوله: [حدثنا أبو سلمة].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا جرير يعني: ابن حازم].
جرير بن حازم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني يعلى بن حكيم].
يعلى بن حكيم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن سليمان بن أبي عبد الله].
سليمان بن أبي عبد الله هو مقبول، أخرج له أبو داود.
[رأيت سعد بن أبي وقاص].
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحاديثه أخرجها أصحاب الكتب الستة.(234/13)
شرح حديث: (نهى رسول الله أن يقطع من شجر المدينة) وترجمة رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن مولى لـ سعد: (أن سعداً رضي الله عنه وجد عبيداً من عبيد المدينة يقطعون من شجر المدينة، فأخذ متاعهم وقال -يعني: لمواليهم-: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهى أن يقطع من شجر المدينة شيء، وقال: من قطع منه شيئاً فلمن أخذه سلبُه)].
أورد أبو داود حديث سعد رضي الله عنه، وفيه: أن غلماناً كانوا يقطعون الشجر في المدينة فأخذ متاعهم، ولما جاء أولياؤهم يطالبون بها قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(من قطع شيئاً فلمن أخذه سلبه)] يعني: من وجد أحداً يفعل هذا الفعل فله سلبه، والسلب هو أخذ ثيابه كما سبق أن مر في الحديث السابق قبل هذا.
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجة.
[حدثنا يزيد بن هارون].
يزيد بن هارون الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن أبي ذئب].
هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن صالح مولى التوأمة].
صالح مولى التوأمة صدوق اختلط، أخرج أحاديثه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن مولى لـ سعد].
مولى لـ سعد، لم يذكر؛ لكن على كل جاء حديث في صحيح مسلم من طريق ابنه عامر بن سعد، وهو يدل على ما دل عليه هذا الحديث.
[أن سعداً].
سعد رضي الله عنه مر ذكره.(234/14)
شرح حديث: (لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله ولكن يهش هشاً رفيقاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن حفص أبو عبد الرحمن القطان حدثنا محمد بن خالد أخبرني خارجة بن الحارث الجهني أخبرني أبي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن يهش هشاً رفيقاً)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه: [(لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن يهش هشاً رفيقاً)] هذا مثل الحديث الذي تقدم في الحمى وهو (لا يخبط شجره ولا يعضد إلا ما يساق به الجمل).
قوله: (يعضد) يعني: يقطع.
وقوله: (يخبط) يعني: كونه يضرب حتى يتساقط الورق.
قوله: (ولكن يهش هشاً رفيقاً) يعني: يهش الشجر هشاً رفيقاً بحيث يتساقط الورق ولا ينقطع أغصان الشجر بسبب الخبط القوي؛ لأنه قد ينقطع الغصن بسبب الضرب الشديد، لكن إذا هش هشاً خفيفاً رفيقاً حصل المقصود الذي هو سقوط الورق، حتى تعلفه الإبل.(234/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله ولكن يهش هشاً رفيقاً)
قوله: [حدثنا محمد بن حفص أبو عبد الرحمن القطان].
محمد بن حفص أبو عبد الرحمن القطان أخرج له أبو داود.
[حدثنا محمد بن خالد].
محمد بن خالد مستور، بمعنى مجهول الحال، أخرج له أبو داود.
[أخبرني خارجة بن الحارث الجهني].
خارجة بن الحارث الجهني وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود.
[أخبرني أبي].
هو الحارث الجهني مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن جابر بن عبد الله].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما الصحابي الجليل، أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(234/16)
شرح حديث: (أن رسول الله كان يأتي قباء ماشياً وراكباً ويصلي ركعتين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى ح وحدثنا عثمان بن أبي شيبة عن ابن نمير عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأتي قباء ماشياً وراكباً -زاد ابن نمير -: ويصلي ركعتين)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله عنهما: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء ماشياً وراكباً)] يعني: كان أحياناً يأتي قباء راكباً وأحياناً ماشياً.
قوله: (ويصلي ركعتين) هذا يدل على فضل مسجد قباء، وفضل الصلاة فيه، وأن زيارته لمن كان في المدينة ثابت من فعله صلى الله وسلم، وهذا هو فعله عليه الصلاة والسلام، وأيضاً ثابت من قوله عليه الصلاة والسلام حيث قال: (من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاةً كان كأجر عمرة) فهذا يدل على فضل قباء وفضل الصلاة فيه من قوله صلى الله عليه وسلم.
والحديث الذي معنا يدل على ثبوت ذلك من فعله عليه الصلاة والسلام.
وجاء في بعض الأحاديث: (أنه كان يأتي قباء كل سبت).
قوله: زاد ابن نمير: (ويصلي ركعتين)].
يعني: جاء من طريق ابن نمير أنه كان يصلي فيه ركعتين، والحديث ثابت في الصحيحين أنه كان يزور قباء ماشياً وراكباً ويصلي فيه ركعتين.(234/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله كان يأتي قباء ماشياً وراكباً ويصلي ركعتين)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد مر ذكره.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا عثمان بن أبي شيبة عن ابن نمير].
ابن نمير هو عبد الله بن نمير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
هو عبيد الله بن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الصحابي الجليل، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(234/18)
ما جاء في زيارة القبور(234/19)
شرح حديث: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب زيارة القبور.
حدثنا محمد بن عوف حدثنا المقرئ حدثنا حيوة عن أبي صخر حميد بن زياد عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام).
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة: [باب زيارة القبور] وهذه الترجمة لا توجد في كثير من نسخ أبي داود، وزيارة القبور تتعلق بكتاب الجنائز، وكتاب الجنائز كتاب مستقل سيأتي بعد عدة كتب، وإنما الموجود في أكثر النسخ ترجمة تحريم المدينة إلى آخر هذا الباب، وإنما المقصود من ذلك ذكر جملة من الأحاديث التي تتعلق بحرم المدينة.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)] وهذا الحديث يدل على أن سلام المسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يصل إليه، ولكن ليس فيه دليل على أنه يسمع سلام المسلم، وإنما فيه دليل على أن الله يرد عليه روحه حتى يرد السلام، والسلام إنما يصل إليه عن طريق الملائكة الذين يبلغون الرسول صلى الله عليه وسلم السلام من قريب ومن بعيد، كما في الحديث: (إن لله ملائكة سياحين يبلغونني عن أمتي السلام) ولهذا جاء عن علي بن الحسين رحمه الله: (أنه رأى رجلاً يأتي إلى فرجة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ألا أحدثك بحديث سمعته عن أبي عن جدي؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) ثم قال: ما أنت ومن بالأندلس إلا سواء.
قوله: (تبلغني حيثما كنتم) يعني: بواسطة الملائكة.
فالحديث ليس فيه نص على أن هذا خاص فيمن يسلم عليه عند قبره صلى الله عليه وسلم وأنه يسمعه، وإنما هو عام، والرسول صلى الله عليه وسلم يبلغه السلام بواسطة الملائكة سواء عن قرب أم بعد، سواء كان في مسجده وعند قبره أو في أي مكان من الأرض، وهذا يدخل فيه السلام والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.(234/20)
تراجم رجال إسناد حديث: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله عليه روحي حتى أرد عليه السلام)
قوله: [حدثنا محمد بن عوف].
محمد بن عوف ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي في مسند علي.
[حدثنا المقرئ].
هو عبد الله بن يزيد المقرئ ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حيوة].
هو حيوة بن شريح المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صخر حميد بن زياد].
أبو صخر حميد بن زياد صدوق يهم، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي، والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[عن يزيد بن عبد الله بن قسيط].
يزيد بن عبد الله بن قسيط وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(234/21)
شرح حديث: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح قرأت على عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(لا تجعلوا بيوتكم قبوراً)] يحتمل معنيين وكل منهما صحيح: يعني: لا يدفنون الموتى فيها؛ لأن الدفن في البيت من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الأنبياء يدفنون حيث يموتون) فدفن في بيته صلى الله عليه وسلم، والناس ليس لهم أن يدفنوا في بيوتهم وإنما يدفنون في المقابر.
المعنى الثاني: أي: لا تجعلوها شبيهة بالمقابر التي هي ليست أماكن للصلاة، حيث تخلو من الصلاة ومن قراءة القرآن، والتعبد إلى الله عز وجل فيها، بل عليكم أن تأتوا بهذه العبادات فيها، وألا تجعلوها شبيهة بالمقابر التي ليست أماكن للصلاة.
قوله: [(ولا تتخذوا قبري عيداً)] يعني: بتكرار الترداد عليه، ولهذا جاء بعده قوله: [(وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)] يعني: ليس الأمر مقصوراً على كونكم تأتون عند قبري، بل صلوا علي من أي مكان كنتم فيه؛ فإن صلاتكم تبلغني بواسطة الملائكة، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: (إن لله ملائكة سياحين يبلغونني عن أمتي السلام).(234/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[قرأت على عبد الله بن نافع].
عبد الله بن نافع ثقة صحيح الكتاب في حفظه لين، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرني ابن أبي ذئب].
ابن أبي ذئب مر ذكره.
[عن سعيد المقبري].
هو سعيد بن أبي سعيد المقبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.(234/23)
شرح حديث: (خرجنا مع رسول الله يريد قبور الشهداء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حامد بن يحيى حدثنا محمد بن معن المدني أخبرني داود بن خالد عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن ربيعة -يعني: ابن الهدير - قال: ما سمعت طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثاً قط غير حديث واحد، قال: قلت: وما هو؟ قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد قبور الشهداء، حتى إذا أشرفنا على حرة واقم، فلما تدلينا منها وإذا قبور بمحنية، قال: قلنا: يا رسول الله! أقبور إخواننا هذه؟ قال: قبور أصحابنا، فلما جئنا قبور الشهداء قال: هذه قبور إخواننا)].
أورد أبو داود حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أنه ذهب مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبور شهداء أحد، وهم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ومن معه الذين قتلوا في سبيل الله وهم يجاهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد ودفنوا هناك، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم.
قوله: [(فلما تدلينا وإذا قبور بمحنية)].
محنية، يعني: في منعطف الوادي.
قوله: [(قال: قلنا: أقبور إخواننا هذه؟ قال: قبور أصحابنا)] يعني: هؤلاء ليسوا هم الشهداء، ولكنهم غيرهم.
قوله: [(فلما جئنا قبور الشهداء قال: هذه قبور إخواننا)] أي: الشهداء الذين استشهدوا في سبيل الله، وهم عمه حمزة رضي الله عنه ومن معه من الصحابة الذين قتلوا في سبيل الله وهم يجاهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا الحديث يدل على قصد زيارة الشهداء والذهاب إليهم والدعاء لهم.(234/24)
تراجم رجال إسناد حديث: (خرجنا مع رسول الله يريد قبور الشهداء)
قوله: [حدثنا حامد بن يحيى].
حامد بن يحيى ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا محمد بن معن المدني].
محمد بن معن المدني وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[أخبرني داود بن خالد].
داود بن خالد وهو صدوق، أخرج له أبو داود.
[عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن].
ربيعة بن أبي عبد الرحمن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ربيعة يعني: ابن الهدير].
ربيعة بن الهدير قيل: له رؤية، يعني: أنه صحابي، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وحديثه أخرجه البخاري وأبو داود.
[قال: ما سمعت طلحة بن عبيد الله].
طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(234/25)
شرح حديث: (أن رسول الله أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة فصلى بها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة فصلى بها، فكان عبد الله بن عمر يفعل ذلك)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة فصلى بها، فكان عبد الله بن عمر يفعل ذلك)].
المقصود من ذلك أنه عند رجوعه من مكة كان ينزل بالبطحاء ويبيت بها ويصلي الفجر ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل المدينة ضحى، ولا يدخلها ليلاً ولا يطرق أهله ليلاً، وإنما يبيت في البطحاء، وهو الذي يقال له: المعرس، وسبق أن مر بنا حديث يتعلق بهذا في باب دخول مكة، وهو ليس له دخل بدخول مكة وإنما يتعلق بالمعرس, وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من طريق الشجرة عند خروجه حيث يحرم، وبعد ذلك يأتي وينزل بالمعرس، والحديث عن عبد الله بن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من طريق الشجرة ويدخل من طريق المعرس).
يعني: إذا خرج من المدينة إلى مكة كان يخرج من طريق الشجرة، يعني: من مسجد الشجرة، وإذا دخل، يعني: عندما يرجع إليها كان يدخل من طريق المعرس، وهو مكان في الوادي، قيل: إنه قريب من ذي الحليفة الذي هو الميقات.
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جاء ليلاً لا يدخل المدينة ليلاً وإنما يبيت ويصلي الفجر في البطحاء، وفي الضحى يدخل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.(234/26)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة فصلى بها)
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وأحاديثه أخرجها أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن عبد الله بن عمر].
نافع وابن عمر قد مر ذكرهما.(234/27)
شرح أثر مالك: (لا ينبغي لأحد أن يجاوز المعرس إذا قفل راجعاً إلى المدينة) وترجمة رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي قال: قال مالك: لا ينبغي لأحد أن يجاوز المعرس إذا قفل راجعاً إلى المدينة، حتى يصلي فيها ما بدا له؛ لأنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرس به].
أورد المصنف رحمه الله أثراً عن مالك رحمة الله عليه أنه لا ينبغي لأحد أن يجاوز المعرس؛ لأنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي إليه ويصلي به، ومعلوم كما مر في الحديث أنه كان لا يطرق أهله ليلاً بل كان يبيت ويصلي الفجر بالمعرس، وبعد ذلك يدخل إلى المدينة صلى الله عليه وسلم.
قوله: [حدثنا القعنبي قال: قال مالك].
مر ذكرهما.(234/28)
شرح أثر: (المعرس على ستة أميال من المدينة) وترجمة رجال إسناده
[قال: أبو داود سمعت محمد بن إسحاق المدني قال: المعرس على ستة أميال من المدينة].
يعني: هذا أثر فيه بيان المعرس ومقدار المسافة بينه وبين المدينة وأنه على ستة أميال منها.
ومحمد بن إسحاق المدني هذا هو المسيبي شيخ أبي داود وهو صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود.
والمشهور بهذا الاسم هو محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي الذي يأتي ذكره كثيراً، وهو صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن، ولكن المقصود بهذا المسيبي وهو شيخ أبي داود.(234/29)
شرح سنن أبي داود [235](235/1)
الأسئلة(235/2)
حكم سفر الولد لطلب الرزق دون إذن والديه
السؤال
شاب في مقتبل عمره يعمل الآن في هذه البلاد، وقد غادر بلده وأهله غير راضين عنه، فيسأل يقول: إن الأبواب كلها مغلقة في وجهي فهل صحيح يا شيخ! أن رضا الوالدين ضروري من أجل توفيقي؟ وماذا أفعل حتى يرضيا عني، وجهوني جزاكم الله خيراً؟
الجواب
الإنسان يحرص على إرضاء الوالدين؛ لأن الوالدين حقهما كبير، وقد أوصى الله تعالى بحقهما وبالإحسان إليهما، وقرن ذلك بالأمر بعبادته، فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، وقال عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]، فحق الوالدين عظيم، فعلى الإنسان أن يحرص على رضاهما، وعلى الإحسان إليهما والعطف عليهما، وعلى تطييب خاطرهما، لأن الوالد هو الذي جعله الله سبباً في وجود الولد، وهو الذي رباه، وهو الذي نشأه، وهو الذي أحسن إليه حتى بلغ مبلغ الرجال، فمن حقه عليه أن يكافئ الجميل بالجميل، والإحسان بالإحسان ولا يقابل الحسنة بالسيئة، وإنما يأتي بالحسنى، والله تعالى يقول: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، فمن أحسن يحسن إليه، ومن جازى بالمعروف كوفئ بالمعروف.
وسفرك إذا كان من أجل أن تبحث عن الرزق، وأنك ما وجدت شيئاً في بلدك فأنت معذور، ولكن كان ينبغي عليك أن تطيب خاطر والديك باستئذانهما وإقناعهما، وبيان أنك بحاجة إلى أن تذهب وتسافر لتحصيل الرزق.(235/3)
كيفية التعامل مع من يسب الدين عند الخصومة
السؤال
أنا في بلد يكثر فيه سب الدين نعوذ بالله، فماذا أفعل لو سُبَّ الدين أمامي؟
الجواب
ينبغي إذا وجد شيء من ذلك أن يبين خطورته، وأن الإنسان إذا حصل له غضب فلا يتجه إلى سب الدين، وإذا كان ولابد أن يسب فليتجه إلى غير الدين، فكون الإنسان يغضب من إنسان آخر ثم يسب الدين هذا سفه وقلة حياء، فالتوعية والتوجيه والنصح وبيان خطورة الأمر وما يترتب عليه هو الذي ينبغي أن يفعله الإنسان، وأما أن يعاقب أو يؤدب من يفعل ذلك فهو لا يملك هذا إلا أن يكون الذي حصل منه ذلك القول هو ممن هم تحت يده كأولاده، فله أن يؤدبهم وأن يزجرهم، لأنه صاحب يد عليهم، وأما إذا كان غير ذلك فما معه إلا النصح والتحذير من هذا الأمر.(235/4)
حكم ترك السلام على الجالسين في المقاهي للهو مع تركهم للصلاة
السؤال
هل يترك الإنسان إلقاء السلام على الجالسين في المقاهي يشربون الدخان والشيشة ويلعبون بالورق والمؤذن ينادي؟
الجواب
إذا كان السلام معه نصح فهذا شيء طيب، فقبل أن ينصحهم يسلم ثم ينصحهم، وأما كونه يسلم عليهم ويمشي دون أن ينصح فلا، فإذا لم ينصحهم فعليه أن يعرض عنهم؛ لأنه إذا سلم عليهم ولم ينصحهم فمعنى ذلك أنهم لم يفعلوا شيئاً يستحقون أن ينبهوا عليه.(235/5)
حكم الإحرام بالعمرة من جدة لمن كان يعمل فيها
السؤال
إذا ذهبت إلى جدة للعمل فهل يجوز لي أن أحرم منها في أي وقت؟
الجواب
إذا كان الإنسان سيسكن في جدة ويعمل فيها فحكمه كحكم أهل جدة، فيحرم من جدة كما يحرم أهل جدة.(235/6)
حكم الصلاة في ثوب به دم
السؤال
ما حكم من صلى وبثوبه دم إنسان أو دم طير؟
الجواب
وجود النجاسة في ثوب الإنسان إذا لم يُعلم به إلا بعد فراغ الصلاة لا يؤثر، سواءٌ أكانت دماً أم بولاً أم أي شيء آخر من أنواع النجاسات، فما دام أنه لم يعلم إلا بعد الصلاة فإن صلاته تكون صحيحة ولا يلزمه أن يعيدها، فقد ثبت في الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس صلاة، فجاءه جبريل وأخبره أن نعليه فيهما شيءٌ من الأذى، فخلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه وهو في الصلاة، فخلع الصحابة نعالهم، ولما فرغ قال: لماذا خلعتم نعالكم؟ قالوا: رأيناك فعلت ففعلنا، فقال: إن جبريل جاءني وقال: كذا وكذا).
فكونه صلى الله عليه وسلم خلع وأتم الصلاة يدل على صحة الصلاة؛ لأنه لم يعد ما مضى ولم يستأنف الصلاة من جديد بل أتم، وأزال ذلك الشيء الذي نبه عليه، فكذلك الإنسان إذا كان في الصلاة وعلم وهو في الصلاة أن هناك نجاسة في غترته أو في مشلحه أو ردائه أو في شيء يستطيع أن يتخلص منه فإنه يتخلص ويتم الصلاة، وإذا كان لا يتأتى له ذلك إلا بأن تظهر عورته فإنه يقطع الصلاة ويذهب يزيل النجاسة، أو يلبس ثوباً يستر به عورته ويصلي، فهذا الحديث يدل على أن الإنسان إذا لم يعلم بالنجاسة إلا بعد انتهاء الصلاة فإن صلاته صحيحة.(235/7)
حكم الاكتفاء بتطهير البول بالماء دون الصابون
السؤال
من وقع على جسده شيء من البول فهل يكفيه الغسل بالماء أم لابد من الصابون؟
الجواب
يكفيه الماء ولا يلزم الناس بالصابون، ومَن ذا الذي يكون معهم الصابون في كل مكان وفي كل زمان؟! فالغسل إنما هو بالماء.(235/8)
حكم انتقاض الوضوء أثناء الطواف
السؤال
من انتقض وضوؤه في الطواف وذهب ليتوضأ فهل يبدأ من جديد أم يبني على ما مضى من طوافه؟
الجواب
يستأنف من جديد؛ لأن الطواف مثل الصلاة، والإنسان لو انتقض وضوؤه في الصلاة فإنه يتوضأ ويستأنفها، فكذلك يستأنف الطواف.(235/9)
حكم تعليق الحاج صورته على صدره خشية أن يضيع
السؤال
نرى بعض الحجاج يعلق صورته على صدره حتى لا يضيع، فما حكم ذلك؟
الجواب
لا يصلح هذا، وينبغي عليه أن يخفيها، وهو لو ضاع فهي موجودة معه، سواءٌ أكانت ظاهرة أم خفية، فالذي ينبغي له أن يخفيها في جيبه، وأما أن تكون بارزة فهذا لا يصلح.(235/10)
حكم قص الأظافر وحلق الشعر في عشر ذي الحجة للمهدي والمتمتع
السؤال
من أراد أن يهدي هل يلزمه ألا يقص أظافره، ولا يحلق شعره، ولا يتطيب خلال عشر ذي الحجة؟ وهل من كان متمتعاً له نفس الحكم؟
الجواب
إن كان المقصود بمن عليه الهدي من كان متمتعاً وعليه هدي فمثل هذا لا يمتنع من شيء بعد دخول العشر، والذي يمتنع بدخول العشر هو الذي يريد أن يضحي، وأما من كان متمتعاً فإنما يمتنع عند الإحرام عن ذلك، وأما قبل الإحرام فلا مانع ولو كان في عشر ذي الحجة، ولكن الذي يريد أن يضحي هو الذي لا يأخذ شيئاً من شعره، سواءٌ أراد الحج أو لم يرده، فإذا دخلت عشر ذي الحجة فمن أراد أن يضحي فلا يأخذ شيئاً من شعره ولا من أظفاره حتى يضحي.(235/11)
حكم من سلم قبل الإمام ناسياً ثم سلم بعده
السؤال
مؤتم سلم قبل الإمام ناسياً ثم رجع مع الإمام وسلم التسليمة الثانية بعد الإمام، فما حكمه؟
الجواب
ما دام أنه أخطأ ثم رجع إلى الصواب وسلم بعد الإمام فليس عليه شيء.(235/12)
حكم اغتسال الحاج والمعتمر في المدينة وإحرامه عند الميقات
السؤال
هل يمكن للحاج أو المعتمر أن يغتسل في المدينة ثم يحرم عند الميقات؟
الجواب
نعم يمكن له ذلك، وقد يكون هذا أستر له وأوسع وأهيأ، فالناس عندهم الماء في مساكنهم، وعندهم الاستعداد براحة وطمأنينة في مساكنهم في المدينة، فيفعلون هذا سواءٌ أكان السفر عن طريق الطائرة أو عن طريق السيارات، فيتجرد من ثيابه، ويقص شاربه، ويقلم أظفاره، ويحلق عانته، وينتف إبطيه، ولا يتعرض لراسه؛ لأنه سيحتاج إليه بالحلق أو التقصير، ولا يجوز له أن يتعرض للحية أبداً لا عند الإحرام ولا في أي زمان أو مكان؛ لأن إعفاءها واجب وحلقها حرام، وإذا استعد وتهيأ ولبس الإزار والرداء فإن كان سفره بالطائرات فإنه إذا ركب الطائرة وتحركت للإقلاع ينوي ويلبي؛ لأن الطائرة إذا طارت تتجاوز الميقات بسرعة، وإذا كان السفر بالسيارات فإنه إذا حاذى الميقات وأراد أن يواصل فإنه ينوي ويلبي عند محاذاة المسجد، وإن أراد أن ينزل إلى المسجد الذي في ذي الحليفة أو يصلي فيه ثم يحرم بعد ذلك فله ذلك.(235/13)
حكم قول: (أبي في الله) و (أمي في الله)
السؤال
ما حكم قولي: (أبي في الله) خاصة إذا كان له فضل علي بالإنفاق والتربية ونحو ذلك، وكذلك: (أمي في الله)، وهما ليسا كذلك في الحقيقة؟
الجواب
الأخوة في الله هي الكائنة شرعاً، وأما الأبوة أو الأمومة فليس هناك شيء يدل على هذا ويقتضيه، لكن للكبير أن يقول للصغير: (يا بني) وإن لم يكن ابنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أنس بن مالك (يا بني)، وهذا من اللطف ومن المعاملة الحسنة للصغير، وكذلك للصغير أن يقول للكبير: (يا عم) وإن لم يكن عمه من النسب، كما جاء عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يوم بدر أنه قال: كان عن يميني وعن شمالي شابان من الأنصار، فالتفت إلي أحدهما وقال: يا عم! أتعرف أبا جهل؟ قلت: وماذا تريد؟ قال: إنه كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم، فإن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا.
فقال هنا: مخاطباً عبد الرحمن بن عوف (يا عم)، وعبد الرحمن بن عوف من المهاجرين، وهذان الشابان من الأنصار، فقول الصغير للكبير: (يا عم) وقول الكبير للصغير: (يا بني) سائغ.(235/14)
حكم من بدأ السعي بالمروة ثم أسقط شوط الابتداء بها
السؤال
شخص بدأ السعي من المروة، ثم لما كان في الشوط الرابع ذكر وعلم أنه لابد من أن يبتدئ من الصفا، فأسقط الشوط الأول وأكمل سعيه ثم انتهى بالمروة، فصار سعيه ثمانية أشواط، فما حكم هذا العمل؟
الجواب
هذا هو العمل الصحيح، فما دام أنه بدأ بالمروة وأخبر بأن البدء بها لا يجوز فأسقط ذلك الشوط ولم يعتبره وألغاه، واعتبر البدء بالصفا والختم بالمروة ما دام صنع كذلك فإنه قد عمل العمل الصحيح، وليس أمامه إلا هذا.(235/15)
زمن ابتداء أذكار الصباح والمساء وحكم قضائها
السؤال
متى يبدأ وقت أذكار الصباح والمساء، وهل تقضى هذه الأذكار؟
الجواب
الصباح -كما هو معلوم- يبدأ من طلوع الفجر، والمساء يبدأ بعد الزوال، وينبغي أن يأتي بأذكار الصباح بعد الفجر، ويأتي بأذكار المساء آخر النهار، وكذلك تجوز قراءتها بعد المغرب؛ لأنه داخل في المساء أيضاً.
وأما قضاؤها فكما هو معلوم أنها سنة يفوت محلها.(235/16)
حكم حج المرأة مع أقاربها من غير المحارم
السؤال
امرأة عجوز تريد الحج مع بعض أقاربها وهم ليسوا محارم لها، علماً أنها أتت مع زوجها فأصيب بحادث، فهل لها أن تحج؟
الجواب
إذا كانت سافرت ومعها زوجها ثم حصل له حادث فيمكن أن تكمل الحج، وأما أن تبدأ وتنشيء السفر مع أجانب فلا يجوز لها، ولا يجب عليها الحج إذا لم يوجد لها محرم.(235/17)
حكم الذهاب إلى الأماكن التاريخيه للعظة والعبرة
السؤال
هل يجوز الذهاب إلى الأماكن التاريخية بقصد الاعتبار، وعملاً بقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الأنعام:11]؟
الجواب
بعض الأماكن التي هي تاريخية ويقولون عنها: إنها تاريخية وإنها آثار لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقصدها، وإذا مر بها أسرع، فعندما مر بوادي محسر أسرع، وأيضاً ديار ثمود لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقصدها، ولما ذهب إلى تبوك ومر بها أسرع وقنع رأسه صلى الله عليه وسلم حتى تجاوزها، فلا ينبغي للإنسان أن يسافر من أجل أن يطلع على ديار ثمود -مثلاً- وما إلى ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسافر إليها، ولم يرشد إلى السفر إليها، ولما مر بها وهو في طريقه إلى تبوك أسرع إسراعاً شديداً حتى تجاوزها صلى الله عليه وسلم.(235/18)
مضاعفة الصلاة في بيت المقدس
السؤال
كم تضاعف الصلاة في بيت المقدس؟
الجواب
ورد حديث أنها بخمسمائة صلاة فيما سوى المسجد الحرام والمسجد النبوي.(235/19)
ما تصنعه المرأة إذا جاءها الحيض قبل الإحرام بالعمرة
السؤال
جئت للحج ومعي زوجتي فأردنا أن ننطلق من المدينة إلى مكة لأداء العمرة -لأننا متمتعين- إلا أن زوجتي جاءتها الدورة، فكيف تصنع؟
الجواب
تستعد للإحرام وهي حائض، فتغتسل وتلبس الثياب وتنوي العمرة من الميقات وتلبي، وإذا وصلت مكة لا تدخل المسجد حتى تطهر، فإذا طهرت اغتسلت ثم تدخل وتطوف وتسعى وتقصر، وبذلك انتهت عمرتها، فلها أن تحرم وهي حائض ولا بأس بذلك، ولكنها لا تدخل المسجد حتى تطهر.(235/20)
حكم اعتبار أرض الجامعة الإسلامية وحي الفيصلية من الحرم المدني
السؤال
هل الجامعة الإسلامية وحي الفيصلية من الحرم؟
الجواب
هذا ليس أمراً واضحاً، فليسا من الحل البين ولا من الحرم البين، والاحتياط للإنسان أن يعاملهما معاملة الحرم، وفي الحديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، وقال صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثيراً من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه).(235/21)
حكم تسمية مباني الجامعات وأراضيها بالحرم الجامعي
السؤال
ما حكم تسمية الجامعة ومساكنها بالحرم الجامعي؟
الجواب
ليس بجيد أن يقال: الحرم الجامعي، إلا إذا كان المقصود به الحريم، مثل حريم البئر، فالبئر لها حريم يلحق بها إذا كانت قديمة وإذا كانت جديدة.
وأما أن تكون التسمية بمعنى التحريم الذي حصل لمكة والمدينة فهذا لا يصلح.(235/22)
معنى المخيط الذي لا يجوز للمحرم لبسه
السؤال
ما هي ضوابط المخيط الذي لا يجوز لبسه للمحرم؟
الجواب
المخيط مثل الثوب والطاقية والفنيلة والسراويل والجوارب، وسواءٌ أكانت الجوارب مخيطة أم غير مخيطة، فما دام أنها مُحيطة بالرجْل فإنها تمنع ولو لم تخط كأن تكون حيكت حياكة بدون خياطة، فإنه لا يجوز لبسها؛ لأنها محيطة بالعضو وهو الرجل، وكذلك فيما يتعلق باليدين، فلا يجوز للمحرم أن يستعمل القفازين.(235/23)
حكم الصلاة بين السواري
السؤال
ما حكم الصلاة بين السواري؟
الجواب
الصلاة بين السواري إذا احتيج إليها بأن امتلأت الصفوف التي قبل السواري وبعدها فإنه يجوز أن يصلى بينها، لكن لا يصلي مجموعة بين الساريتين، وإذا كان المسجد لم يمتلئ فليس للإنسان أن يصلي بين السواري، بل يأتي إلى الكاملة الممتدة المتصلة التي لا تفصلها سواري ولا تقطعها فيصلي فيها.(235/24)
حكم الطواف مع وجود غلبة الظن بخروج الريح
السؤال
كنت معتمراً في أواخر رمضان وفي أثناء الطواف غلب على ظني أنه قد خرج مني الريح، فأردت أن أخرج من المسجد للوضوء، لكن كان الزحام شديداً فمضيت في الطواف، فما حكم طوافي هذا؟
الجواب
إذا لم يتحقق المرء خروج الريح منه بأن يشم الرائحة أو يسمع صوتاً فلا يلزمه أن ينصرف، وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل يخيّل إليه أنه يجد شيئاً في الصلاة فقال: (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)، وبما أنه لم يتحقق فالأصل الطهارة.(235/25)
موت العلماء من علامات الساعة
السؤال
هل موت العلماء من علامات الساعة؟
الجواب
لا شك أن موت العلماء نقص كبير على المسلمين، وفقد العلماء فقد للعلم الذي معهم، وأما كون موتهم من علامات الساعة فقد ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا).
وهذا لا شك دليل على أن موت العلماء من علامات الساعة، فرفع العلم -كما هو معلوم- إنما يكون بذهاب حملته، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه، ولكن يقبض العلم بموت العلماء)، والحديث هذا يدل على أن موتهم من أشراط الساعة.(235/26)
حكم تقديم الحاج فدية عما يصدر منه من خطأ دون قصد
السؤال
هل يمكن للحاج أن يقدم فدية واحدة عن كل ما يمكن أن يصدر عنه من خطأ أو تجاوز دون قصد؟
الجواب
لا يصلح هذا العمل، فالفدية إنما هي إذا وجد الخطأ الذي يستوجب الفدية، فيأتي بفدية تقابله، ولا يأت بها إذا لم تدع إليها حاجة، فإذا وجد الخطأ فإنه يأتي بالفدية التي حُدَّدت لهذا الخطأ الذي حصل منه.(235/27)
جزاء صيد الحرم وقطع شجره
السؤال
من صاد صيداً في الحرم أو قطع شجراً فهل عليه جزاء معين أو كفارة؟
الجواب
بالنسبة للمدينة لا نعلم إلا أن الإنسان يستغفر الله عز وجل ويتوب إليه من هذا الخطأ والمعصية التي حصلت منه، وأما بالنسبة لمكة فالكفارة المثل فيما له مثل، وهناك ما ليس له مثل فبالقيمة.(235/28)
حكم استئجار الفنادق للرافضة
السؤال
قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من أوى محدثاً) هل يدخل فيه استئجار الفنادق للرافضة؟
الجواب
من كان ذا بدعة وأمور محدثة في الدين فليس للإنسان أن يُسكنه عنده.(235/29)
حكم إدخال الدش إلى المدينة المنورة
السؤال
هل من يدخل الدش إلى المدينة المنورة يكون ممن أحدث فيها أو آوى محدثاً؟
الجواب
لا شك أن فاعل ذلك قد ارتكب أمراً خطيراً عظيماً، فإدخال الدش أمر خطر في أي مكان، وإدخاله إلى الحرمين أخطر؛ لأن الدشات تأتي بقاذورات، وأوساخ العالم كلها.(235/30)
حكم جعل الوكيل في الحج عمرته عن نفسه وحجه عن موكله
السؤال
رجل جاء ليحج عن أبيه بعد أن حج عن أمه سابقاً، فهل يمكن أن يؤدي عمرة عن نفسه هو ويجعل الحج عن أبيه؟
الجواب
يمكن للإنسان المتمتع أن يجعل العمرة له والحج لغيره، أو العكس.(235/31)
حكم صيام المتمتع العاجز عن الهدي بمكة قبل الحج
السؤال
شخص يريد الحج متمتعاً، فهل له أن يصوم بمكة الثلاثة الأيام قبل الحج إذا كان ليس عنده مال لشراء الهدي؟
الجواب
نعم له ذلك، ولكن يكون صيام هذه الأيام قريبة من الحج، فتكون في السادس والسابع والثامن، أي: قبل يوم عرفة.(235/32)
حكم تقديم سعي الحج على الطواف
السؤال
هل يجوز تقديم سعي الحج على الطواف؟
الجواب
على الإنسان أنه يأتي بالطواف قبل الحج وقبل السعي، ولكن لو حصل أنه قدم السعي على الطواف لصح، لكن في الاختيار ينبغي أن يبدأ بالطواف ويختم بالسعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله سائل يوم النحر فقال: سعيت قبل أن أطوف قال: (لا حرج).(235/33)
حكم سعي المفرد قبل الوقوف بعرفة
السؤال
رجل سيحج مفرداً، ويريد أن يسعى قبل الوقوف بعرفة، فما حكم فعله؟
الجواب
المفرد يسعى بعد طواف القدوم، فإذا وصل الإنسان مكة طاف طواف القدوم وسعى بين الصفا والمروة، ولا يسعى بعد الحج؛ لأن المفرد والقارن عليهما سعي واحد، ولسعيهما محلان: محل بعد القدوم ومحل بعد الإفاضة، فإن فعله في المحل الأول -أي: بعد القدوم- لا يفعله في المحل الثاني بعد الإفاضة، وإن لم يفعله في المحل الأول -بعد القدوم- تعين عليه أن يفعله بعد الإفاضة، لكن الأولى للإنسان أن يكون متمتعاً لا أن يكون مفرداً؛ لأنه أفضل وأكمل.(235/34)
حكم دفع فدية لبس المرأة القفاز لستة مساكين بعد الرجوع من الحج
السؤال
هل يجوز إطعام ستة مساكين فدية لبس القفاز للمرأة بعد الرجوع من الحج؟
الجواب
الهدي والإطعام يكونان بمكة، والفدية تكون بمكة.(235/35)
ما يفعل عن الصغير حال الحج به
السؤال
طفل عمره ثلاث سنوات ونوينا له الحج معنا، ولبس ملابس الإحرام، فهل نلبي عنه أو نقول عنه شيئاً أثناء تأدية المناسك؟
الجواب
تنوون عنه الإحرام وأنه دخل في النسك، وترمون عنه الجمار، ويكون موجوداً معكم في باقي المناسك، ففي عرفة يقف معكم، وفي مزدلفة يبيت معكم، وفي منى يكون معكم، وفي الطواف يطوف معكم، وفي السعي يسعى معكم، وفي الرمي ترمون عنه.(235/36)
حدود المدينة من جهة الشرق والغرب
السؤال
ذكرت حدود الحرم في المدينة من الشمال إلى الجنوب، فما هي الحدود من الشرق والغرب؟
الجواب
لا نعلم ذلك بالتحديد، لكن ما بين الحرتين جاء به الحديث من جهة الشرق والغرب، وأما ما بينهما فيشك في أنه حرام.
والله أعلم.(235/37)
كيفية تقدير زكاة عروض التجارة
السؤال
لي محل أقمشة فهل تقدر زكاته من ثمن الشراء أو من ثمن البيع؟
الجواب
تقدر القيمة بالثمن وقت حلول الزكاة، فتقوم السلع بالسعر، ولا ينظر إلى ثمن الشراء، وإنما ينظر إلى قيمتها وقت حلول الزكاة.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.(235/38)
شرح سنن أبي داود [236]
الزواج أمره عظيم، وقد رغب فيه الشرع وحض عليه في حق القادر عليه، ولكون المقصد الأولي منه هو النسل فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الزواج بالولود من النساء، ولكي تدوم العشرة بين الزوجين رغب صلى الله عليه وسلم في نكاح ذات الدين وأمر بالظفر بها دون سائر النساء، كما حث على نكاح الأبكار، وليس هذا إلا عناية من الإسلام بهذا الباب العظيم.(236/1)
التحريض على النكاح(236/2)
شرح حديث (من استطاع منكم الباءة فليتزوج)
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [كتاب النكاح.
باب التحريض على النكاح.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة أنه قال: إني لأمشي مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بمنى إذ لقيه عثمان رضي الله عنه فاستخلاه، فلما رأى عبد الله أن ليست له حاجة قال لي: تعال يا علقمة.
فجئت فقال له عثمان: ألا نزوجك يا أبا عبد الرحمن! بجارية بكر لعله يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد؟ فقال عبد الله: لئن قلت ذاك لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع منكم فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)].
قوله: [كتاب النكاح] النكاح في اللغة: هو الضم والتداخل، يقال: تناكحت الأشجار إذا تداخلت وانضم بعضها إلى بعض، وفي الاصطلاح: هو عقد بين زوجين يحل به الوطء، والوطء شرعاً لا يجوز إلا بأحد طريقين: أحدهما: الزواج، والثاني: ملك اليمين، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7]، فالذي شرعه الله عز وجل في ذلك أمران اثنان لا ثالث لهما، وهما الزواج وملك اليمين، وما سوى ذلك فهو من العدوان، وهو من الخروج عن الحق إلى ما سواه.
وعقد المصنف رحمه الله باب التحريض على النكاح، والتحريض: هو الحث عليه والترغيب فيه، وأورد حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع منكم فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).
والحديث حدث به عبد الله بن مسعود بمناسبة ذكرت في الحديث، وهي أن علقمة بن قيس النخعي قال: كنت أمشي مع عبد الله بن مسعود فدعاه عثمان في منى واستخلاه، يعني: خلا به فلم يكن معهما ثالث، فلما رأى عبد الله أن ليس له حاجة دعا علقمة فجاء وجلس معهما، وقال عثمان رضي الله عنه لـ عبد الله: [يا أبا عبد الرحمن! ألا نزوجك بجارية بكر لعله يرجع إليى من نفسك ما كنت تعهد؟! -يعني: من النشاط- فقال: لئن قلت ذاك لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع منكم فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)].
وهذا الذي ذكره علقمة مما حصل بين عثمان وابن مسعود من الخلوة والانفراد والتحدث ثم قال: [فلما رأى أن ليس له حاجة] جاء في بعض الشروح أنَّ معناه: أنه ليس له حاجة في النكاح، وليس هناك شيء من الروايات يدل على هذا المعنى، والذي يظهر هو خلاف ذلك، وهو أنه لما رأى أن الكلام الذي بينهما قد انتهى ولم يبق هناك حديث يكون سراً بينهما دعا علقمة ليجلس بينهما؛ لأن المقصود من الانفراد قد انتهى، فلم يكن هناك حاجة إلى أن يبقيا منفردين، فدعا علقمة فجاء وجلس معهما، وبعد جلوسه معهما قال عثمان رضي الله عنه لـ عبد الله بن مسعود -وهو أبو عبد الرحمن -: يا أبا عبد الرحمن! ألا نزوجك بكراً لعله يرجع إليك ما كنت تعهد من نفسك؟ ثم إن عبد الله حدث بالحديث بهذه المناسبة.
يقول العلماء في علم المصطلح: إن الحديث إذا كانت له قصة فإنها تدل على ضبط الراوي، فالراوي ضبط الحديث وضبط معه القصة التي كانت فيه، فـ علقمة ضبط القصة وحدث بالمناسبة التي جرت وحصلت وعلى أثرها جاء التحديث بالحديث، فهذا من الأمور التي تدل على ضبط الراوي لما رواه.
ومثله قول ابن عمر رضي الله عنه: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، فكونه يتذكر الهيئة التي حدثه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عليها -وهي وضع يده على منكبه- يدل على ضبطه للحديث.(236/3)
سبب توجيه الخطاب إلى الشباب في الزواج
قوله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب) خطاب موجه للشباب، والسبب في ذلك أنهم عندهم القوة والنشاط والدوافع التي تدفعهم إلى ذلك، فكان الخطاب موجهاً إليهم بأنَّ عليهم أن يتزوجوا متى قدروا على ذلك ومتى تمكنوا منه.
قوله: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج): الباءة: هي النكاح وما يلزم له، وذلك بأن يكون عنده قدرة على أن يقضي شهوته بالزواج، فمن كان عنده قدرة على النكاح وعلى الزواج فعليه المبادرة إلى ذلك ولا يتخلف؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام حث ورغب وحرض على الزواج، وبعض الناس من الشباب أو الشابات قد يتعذرون في بعض الأحوال بأن الزواج قد يؤخرهم أو يكون سبباً في التأخر في الدراسة، فيترك أحدهم الزواج حتى يفرغ من الدراسة، وهذا ليس بصحيح، بل قد يكون الزواج سبباً من أسباب القوة والنشاط في الدراسة، وذلك لأنه يصرفك عن التفكيرات التي كنت تفكر بها فيما يتعلق بالزواج، فيكون عنده الإحصان والعفة، وعنده غض البصر، فيكون ذلك من أسباب نشاطه وقوته في الدراسة، وأما بالنسبة للشابات فإنه قد يكون الأمر في حقهن أخطر فيما يتعلق بالتأخير؛ لأن الفتاة إذا كانت في سن الشباب وفي السن الذي يطلب فيه زواجها ويرغب الشباب والرجال فيها ثم تأخرت عن ذلك وردت الكفؤ لأجل أن تكمل الدراسة فإنها قد تجلب على نفسها خسارة فادحة وخسارة عظيمة، وهي أنها تنصرف الرغبة عنها؛ لأنها تقدمت بها السن، ولأنها مضى عليها وقت ولم تتزوج، والوقت الذي يرغب فيها فيه قد فوتته على نفسها، فعند ذلك تضطر إلى أن تتزوج من شخص لا يكون محل رغبة عندها؛ لأنها فوتت الفرصة على نفسها، فتصبح ضرة شريكة بعد أن كان بإمكانها أن تنفرد بزوج، فترتب على ذلك حصول أضرار لها.
فالحاصل أن المبادرة إلى الزواج مطلوبة، فالشاب عليه أن يبادر إلى الزواج متى استطاع إليه سبيلاً، والفتاة إذا تقدم لها كفؤ فإن عليها المبادرة إلى الزواج وعدم التأخير.(236/4)
فوائد الزواج
لقد بين عليه الصلاة والسلام شيئاً من الحكم والأسرار والفوائد التي تترتب على النكاح، ومن ذلك غض البصر، فالرجل المتزوج يغض بصره عن النساء، والمرأة المتزوجة تغض بصرها عن الرجال؛ لأنه قد حصل الاستغناء والاكتفاء والإعفاف، وكل قد عف الآخر وأحسن إليه، فترتب على ذلك غض البصر عن النظر إلى ما لا يحل.
قوله: (وأحصن للفرج) يعني: أن الإنسان يحصل له بالزواج عفة وإحصان الفرج؛ وذلك قضاء الشهوة وقضاء الوطر، فيكون بذلك قد ظفر بمطلوبه على الوجه المشروع، وسلم من أن يتعرض لأمر محرم، سواءٌ أكان وسيلة أم غاية، فالوسيلة المحرمة هي النظر، كما في الحديث: (العين تزني وزناها النظر) والغاية المحرمة الوقوع في الفاحشة والعياذ بالله.(236/5)
العلاج عند عدم القدرة على الزواج
لما حث النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ورغب على الزواج والمبادرة إليه لمن قدر عليه أرشد بعد ذلك عليه الصلاة والسلام إلى العلاج لمن لم يقدر على ذلك، فأرشد إلى الصيام؛ لأن الصيام تضعف به القوة والنشاط والرغبة في الجماع، وأرشد عليه الصلاة والسلام إلى الصيام لأن فيه عبادة وقربة، وفيه حمية من الوقوع في المحذور وحصول الضرر الذي يحصل بقوة الشهوة مع عدم القدرة عليها، فالطريق الصحيح والطريق الشرعي الذي أرشد إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو الصيام، فقال: (ومن لم يستطع فعليه فعليه بالصوم)]، ففيه ترغيب وحث على الصوم لمن لم يستطع الزواج؛ لأنه يحصل بذلك ضعف شهوته وضعف قوته، فتحصل الفائدة الكبيرة من وراء ذلك.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين عظم فائدة الصيام في حق الشاب الذي لا يستطيع الزواج، فقال: (فإنه له وجاء) أي: هو بمثابة الخصاء، والوجاء قيل: هو رض الخصيتين، أي: أنهما لا يستفاد منهما ولا يحصل بسببهما رغبة في النساء، فهو قاطع ومضعف للشهوة، ويكون بمثابة الخصاء الذي يجعل الإنسان لا رغبة له في النساء.
فهذا هو المسلك والسبيل الذي أرشد إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم للتخلص من ذلك الضرر والبلاء الذي قد يحصل للإنسان نتيجة لقوة الشهوة من الاندفاع إلى المحذور والمحرم.(236/6)
مشروعية المخاطبة بالكنى
في هذا الحديث أن عثمان رضي الله عنه وأرضاه خاطب عبد الله بن مسعود بكنيته، وهذا يدل على أن المخاطبة بالكنى صحيحة، وهي أدب كان عليه الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وقبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يخاطب أصحابه بكناهم، وكان الصحابة يكني بعضهم بعضاً في مخاطبتهم، وهو من الآداب الحسنة والأخلاق الكريمة، وهو يؤدي إلى الألفة والمودة، فكون الرجل يخاطب بكنيته هو من الأمور المألوفة التي جاءت بها السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عليها أصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه ذلك في أحاديث كثيرة، كان يخاطب أصحابه بكناهم، وأمثلته لا تحصى.(236/7)
تراجم رجال إسناد حديث (من استطاع منكم الباءة فيلتزوج)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في (عمل اليوم والليلة) وابن ماجة.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم].
هو إبراهيم ين يزيد بن قيس النخعي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علقمة].
هو علقمة بن قيس النخعي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[إني لأمشي مع عبد الله بن مسعود].
هو عبد الله بن مسعود الهذلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد فقهاء الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(236/8)
هل وافق ابن مسعود على الزواج
إن هذا الذي عرضه عثمان رضي الله عنه على عبد الله بن مسعود يبين ما يدل على الترغيب فيه، لكن لا نعلم هل وافقه ابن مسعود وافقه على ذلك، فليس هناك ما يدل عليه، وقد كان ابن مسعود من الشباب في وقت مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، والكلام بينه وبين عثمان كان في خلافة عثمان رضي الله عنه، وعثمان رضي الله عنه تولى الخلافة سنة ثلاث وعشرين، ومكث في الخلافة اثنتي عشرة سنة، حيث توفي سنة خمس وثلاثين، وابن مسعود رضي الله عنه توفي في خلافة عثمان في سنة اثنتين وثلاثين، فمعنى ذلك أن الكلام كان في الفترة التي هي بين ثلاث وعشرين واثنتين وثلاثين.
وهنا مسألة وهي: هل لفظ النكاح يطلق على الوطء أو على العقد؟
الجواب
النكاح قيل: إنه يطلق على العقد، وقيل: إنه يطلق على الوطء، وقيل: إنه مشترك بينهما.
فمن العلماء من قال: إنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء، ومنهم من عكس، والذين يقولون: إن اللغة ليس فيها مجاز يقولون: إنه يطلق كثيراً على كذا ويطلق قليلاً على كذا، وكله إطلاق لغوي صحيح.
ومنهم من قال: إنه يطلق بالاشتراك، فهو لفظ واحد يطلق على هذا وعلى هذا، كما يطلق لفظ القرء على الطهر والحيض، وكما يطلق لفظ (عسس) على أقبل وأدبر، وهي من الألفاظ المتضادة، وكما يطلق اسم العين على العين الجارية والعين الباصرة وعلى النقد، فهذا يسمونه مشتركاً لفظياً.
وقد رجح بعض أهل العلم أنه حقيقة في العقد، وقال: إنه لم يأت في القرآن إلا بمعنى بالعقد غالباً، وقد جاء بمعنى الوطء في آية، وهي قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230].
وقالوا: إن الذي جاء في السنة من تفسير النكاح بأن المقصود به ذوق العسيلة إنما هو زيادة إيضاح وبيان على العقد، وإلا فإن العقد موجود، ولكن بينت السنة أنه لا يتم حلها للأول إلا إذا وطئها الثاني، وأن مجرد العقد لا يكفي، بل لابد من أن تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها كما جاء في ذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من قال: إنه حقيقة في الوطء؛ لأنه هو الذي يكون به المقصود، وبه حصول الغاية وحصول المطلوب.
وقد ترجم الإمام أبو داود للباب فقال: باب التحريض على النكاح، والتحريض هو الحث، ولم يذكر له حكماً من الأحكام التكليفية الخمسة، والعلماء على أن الزواج إنما هو من الأمور المستحبة، وبعض أهل العلم قال: إنه يجب إذا خاف العنت، وأما إذا لم يخف العنت فإنه لا يجب عليه.
وكثير من أهل العلم يقولون: إنه لا يجب عليه ولو خاف العنت، ويعتبرونه مستحباً.
وقول علقمة: (إني لأمشي مع عبد الله بن مسعود بمنى) يمكن أن يكون في الموسم، لكن هذا يكون بعد التحلل الأخير، فبعد التحلل الأخير يحل للمحرم كل شيء حرم عليه بالإحرام، ومعلوم أن الحاج إذا رمى في يوم العيد وحلق وطاف وسعى إذا كان عليه سعي فإنه بعد ذلك يجامع ولو كان في منى.
قول علقمة في حديثه: (فاستخلاه) يقصد عثمان مع عبد الله بن مسعود، وقد جاء النهي عن تناجي اثنين دون الثالث، ومعلوم أنهما لم يكونا جالسين وإنما كانا يمشيان فدعاه عثمان، وهذا بخلاف ما لو كانا جالسين فيتناجى اثنان دون الثالث؛ لأن ذلك يشق عليه، لكن كانا يمشيان فإنه يختلف عن أن يكونا جالسين.
ومعنى قول عثمان لـ عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهما: (لعله يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد) أي: النشاط الذي كان في شبابه، أي: لعله ينشط إذا رأى الشابة ورأى الجارية، فينشط ويعود إلى نشاطه الأول الذي كان يعرف، وهذا يدل على أنه قال له ذلك وهو ليس بشاب؛ لأنه قال: (ما كنت تعهد) يعني: في حال شبابك، فالكلام كان مع كبير وليس مع شاب، ولهذا قال: (لعله يرجع إليك ما كنت تعهد من نفسك).
وهذا يدل على أنه لا يعاب الزواج في الكبر، فـ سويد بن غفلة تزوج وهو فوق المائة، ولكن يتزوج بامرأة بينه وبينها سنوات، لا أن تكون صغيرة، بل تكون امرأة قد انقطع منها النسل أو أنها تنجب لكن تكون كبيرة في العمر.(236/9)
الحث على الزواج بذات الدين(236/10)
شرح حديث (تنكح المرأة لأربع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يؤمر به من تزويج ذات الدين.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى -يعني ابن سعيد - قال: حدثني عبيد الله قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (تنكح النساء لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة: [باب ما يؤمر به من تزويج ذات الدين]، أي: أن الإنسان يتزوج ذات الدين؛ لأن هذا هو المهم في الأمر، فالأمور الأخرى إذا جاءت مع عدم الدين فلا تكون فائدتها كبيرة، فالمهم هو الدين، وما جاء مع الدين فهو خير وبركة، وإذا وجد الفسق مع وجود الصفات الأخرى فإن هذا خلل كبير ونقص عظيم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: [(تنكح النساء لأربع: لجمالها، ولحسبها، ولمالها، ولدينها)] هذا إخبار عن الأمور التي تدفع إلى الزواج؛ لأن الجمال من الدوافع، والمال من الدوافع، والحسب من الدوافع، والدين من الدوافع، ولكن المهم في الأمر هو الدين؛ لأن الدين إذا وجد وانضاف إليه أمور أخرى حسنة كان ذلك خيراً على خير، وإذا فقد الدين أو ضعف الدين وضعف الإيمان فإن تلك الأمور لا تصلح وليست لها أهمية؛ إذا يمكن عند عدم الدين الوقوع في أمور محرمة منكرة، لكن الدين هو الذي يمنع من الوقوع في المعاصي، فلهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الدوافع التي تدفع الناس إلى الزواج بالنساء، وأن منها الجمال، ومنها المال، ومنها الحسب، ومنها الدين، ثم إن المسلم أُرشِد إلى العناية والحرص على الظفر بذات الدين، قال صلى الله عليه وسلم: [(فاظفر بذات الدين تربت يداك)].
وهذا هو محل الشاهد من قوله: [ما يؤمر به من تزويج ذات الدين]؛ لأن فيه (اظفر): فهو أمر بالزواج بذات الدين والظفر بها، فهذا هو الذي يطابق الترجمة.
وقوله: (تربت يداك) هو من الكلمات التي تقال ولا يقصد معناها، والمقصود من ذلك أنه يجدّ ويجتهد في الوصول والظفر بذات الدين.
ومعنى الحسب هنا قيل: أن تكون من أهل بيت ذوي شرف ومكانة ومنزلة وسؤدد في قومهم، فهذا من الأشياء التي ترغّب في المرأة، والمهم في الأمر هو الأخير وهو الدين، وهو مسك الختام الذي أرشد إليه وأمر به الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(236/11)
تراجم رجال إسناد حديث (تنكح المرأة لأربع)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى -يعني ابن سعيد -].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عبيد الله].
هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني سعيد بن أبي سعيد].
هو سعيد بن أبي سعيد المقبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو أبو سعيد المقبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(236/12)
تزويج الأبكار(236/13)
شرح حديث (أفلا بكراً تلاعبها وتلاعبك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في تزويج الأبكار.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتزوجتَ؟ قلت: نعم، قال: بكراً أم ثيباً؟ فقلت: ثيباً، قال: أفلا بكراً تلاعبها وتلاعبك؟)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في تزويج الأبكار] يعني: تزوّج الأبكار؛ لأن الأبكار في حال شبابهن تخلو قلوبهن من التعلق بأحد، فيكون في ذلك كمال المودة، وإذا كانت ثيباً فقد يكون هناك تعلق منها بالزوج الأول، وقد يكون هناك شيء من الوحشة بينها وبين الزوج الثاني، فتكون البكر خالية من أن تكون متعلقة بأحد، فيكون هذا زيادة في كمال المتعة واللذة بها؛ لصفاء وسلامة قلبها من أن يكون فيه تعلق بأحد.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث جابر بن عبد الله الأنصاري أنه تزوج فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [(أتزوجت؟ قلت: نعم، قال: بكراً أم ثيباً؟ فقلت: ثيباً، قال: أفلا بكراً -أي: أفلا تزوجت بكراً- تلاعبها وتلاعبك)، وسبب تزوج جابر رضي الله عنه ثيباً أن والده استشهد في غزوة أحد وترك بنات، فأراد أن يأتي لهن بامرأة كبيرة تحسن رعايتهن والعناية بهن، فآثر مصلحة أخواته على مصلحته رضي الله عنه وأرضاه، فلم يأتِ بواحدة مثلهن في عدم الخبرة والمعرفة والعناية بالبنات، وإنما أتى بامرأة تكبرهن في السن حتى تكون لهن بمثابة الأم، فترعاهن وتمشطهن وتحسن رعايتهن وتقوم بما يلزم من شئونهن، فاختار مصلحة أخواته على مصلحة نفسه، ومحل الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى تزوج البكر فقال: [(أفلا بكراً تلاعبها وتلاعبك)].(236/14)
تراجم رجال إسناد حديث (أفلا بكراً تلاعبها وتلاعبك)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المشهور الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو معاوية].
هو محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا الأعمش].
الأعمش مر ذكره.
[عن سالم بن أبي الجعد].
سالم بن أبي الجعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(236/15)
النهي عن تزويج من لم يلد من النساء(236/16)
شرح حديث (إن امرأتي لا ترد يد لامس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء.
قال أبو داود: كتب إلي حسين بن حريث المروزي قال: حدثنا الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد عن عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إن امرأتي لا تمنع يد لامس، قال: غربها، قال: أخاف أن تتبعها نفسي، قال: فاستمتع بها)].
أورد أبو داود باباً في النهي عن تزويج من لم يلد من النساء، وهذه الترجمة المقصود بها أن الزواج إنما يكون لحصول الولد وكثرة النسل مع العفة وغض البصر الذي سبق أن مر في حديث ابن مسعود: (فإنه أحصن للفرج، وأغض للبصر).
وهنا أيضاً بيان أنَّ من الأمور التي تترتب على الزواج حصول النسل وحصول الولد، والولد لا سبيل إلى حصوله إلا بالزواج وملك اليمين، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى تزوج الودود الولود، وأخبر أنه مكاثر بهذه الأمة الأمم يوم القيامة.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: [(جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن امرأتي لا ترد يد لامس، قال: غربها)] يعني: أبعدها، وذلك أن يطلقها ويتخلص منها، وفي بعض الروايات عند غير أبي داود: (طلقها)، (قال: أخشى أن تتبعها نفسي)] يعني: أن يتعلق بها، وقد يطلبها بطريق محرم، [(فقال: أمسكها)].
وهذا الحديث لا تظهر دلالته على الترجمة في النهي عن تزويج من لم يلد من النساء، ويناسبه الباب الذي سيأتي فيه ذكر حكم الزواج بالزانية.(236/17)
تفسير قوله (لا ترد يد لامس)
قول الرجل: [(إنها لا ترد يد لامس)] فسر بثلاثة تفسيرات: التفسير الأول: أنها تستسلم وتنقاد لمن أراد منها الفاحشة.
التفسير الثاني: أن ذلك في بذلها وإعطائها وتبذيرها، فالذي يريد منها مالاً أو غيره فإنها تخرج ما عندها.
التفسير الثالث: أنها رجلة، فعندها توسع في مخاطبة الرجال والكلام معهم ولا تبتعد عن الرجال، وقد يلمسها الرجال مجرد لمس من دون أن يكون هناك فاحشة، وعلى كل كونها تتوسع في مخاطبة ومخالطة الرجال هذا أمر معيب في النساء.
وقد أرشده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يطلقها ويتخلص منها، وجاء في بعض الروايات عند غير أبي داود: (طلقها، قال: أخشى أن تتبعها نفسي، قال: أمسكها).
وقد استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على أنه يجوز للإنسان -وذلك على التفسير الأول- أن يبقي المرأة الزانية عنده، ومنهم من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقره على إبقاء امرأة غير عفيفة تلوث فراشه، وإنما المقصود من ذلك أنها عندها توسع في مخالطة الرجال ولا تهتم بالابتعاد عنهم، ولعل هذا هو الأقرب؛ لأن كون الرسول يأمره بأن يمسكها وهي زانية فيه ما فيه، فالعفيف لا يتزوج الزانية وإن كان هذا ليس تزوجاً وإنما هو إبقاء على الزواج.
وقال بعض أهل العلم: إن هذا فيه إبقاء، وهناك فرق بين الاستدامة وبين الابتداء، لكن لا شك في أن المرأة إذا كانت متصفة بالفاحشة وغير تائبة فليس من اللائق بالمسلم أن يمسك من تكون كذلك بحيث تلوث فراشه.
فعلى هذا يحمل -والله تعالى أعلم- على أن المقصود من ذلك التفسير الثالث وهو: أنها ليست لديها صيانة لنفسها من ناحية التبذل ومخاطبة الرجال والتوسع في ذلك.(236/18)
التحمل بالكتابة وحكمه عند علماء الحديث
قوله: [قال أبو داود: كتب إلي حسين بن حريث المروزي].
هذا فيه دليل على المكاتبة وأنها معتبرة، وأنها من طرق التحمل، وهي طريقة معتبرة سواء في أوائل الأسانيد بين المؤلفين وبين شيوخهم، أو في أعلى الأسانيد، وفي الذكر بعد الصلاة قال: كتب معاوية بن المغيرة بن شعبة فأملى وراد: يعني أملى المغيرة على وراد بالإجابة.
فالمكاتبة معتبرة، وهي من طرق التحمل، وهذا الحديث عند أبي داود منها، قال: كتب إلي الحسين بن حريث، وقد جاء عند البخاري في موضع واحد في صحيحه: كتب إلي محمد بن بشار، وقد ذكرت هذا في ضمن الفوائد المنتقاة من فتح الباري، وهناك كتب أخرى ذكرت الموضع الذي ذكره البخاري فيه، وهو الموضع الوحيد، كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح: ليس عنده شيء بالمكاتبة بينه وبين شيوخه إلا في هذا الموضع الذي قال فيه: (كتب إلي محمد بن بشار).
وهذا مثل قول أبي داود هنا: [كتب إلي الحسين بن حريث].(236/19)
تراجم رجال إسناد حديث (إن امرأتي لا ترد يد لامس)
قوله: [كتب إلى الحسين بن حريث] الحسين بن حريث ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا الفضل بن موسى].
هو الفضل بن موسى المروزي السيناني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسين بن واقد].
الحسين بن واقد ثقة له أوهام، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمارة بن أبي حفصة].
عمارة بن أبي حفصة ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن، وعمارة بن أبي حفصة هذا هو والد حرمي بن عمارة بن أبي حفصة الذي سبق أن مر بنا في حديث ابن عمر: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)، وسبق أن أشرنا إلى الفائدة التي ذكرت في التقريب في اسمه، وكذلك ذكرها - الحافظ - في (فتح الباري)، وقال: وأبو حفصة اسمه نابت بالنون، وقيل: كالجادة.
يعني: ثابت.
أي أن التسمية بـ (نابت) قليلة، والتسمية بـ (ثابت) كثيرة، ويأتي التصحيف بين (نابت) و (ثابت) بأن يترك القليل ويؤتى بالكثير وهو ثابت، ولهذا صحفه بعضهم فقال: ثابت، ففي ترجمة حرمي بن عمارة قال: وأبو حفصة اسمه نابت وقيل: بل كالجادة.
يعني أن اسمه (ثابت)، وفي ترجمة عمارة في (التقريب): وهو بالنون، وقيل: بالمثلثة، وهو تصحيف كما ذكر ذلك الفلاس.
فالتسمية بـ (ثابت) هو الجادة، أي: الذي يكون سهلاً على الألسنة وعلى ما تألفه النفوس لكثرته، بخلاف القليل فإنه قد لا يتنبه له فيظن أنه ليس بصحيح، وهو ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(236/20)
شرح حديث (تزوجوا الودود الولود)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا مستلم بن سعيد ابن أخت منصور بن زاذان عن منصور -يعني ابن زاذان - عن معاوية بن قرة عن معقل بن يسار رضي الله عنه أنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: لا.
ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم)].
أورد أبو داود حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، وهو مطابق للترجمة: فيما جاء في النهي عن زواج من لا تلد، قال معقل بن يسار جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال)]، هذه من الأمور التي ترغب الناس في النساء، كما مر: (تنكح المرأة لأربع: لحسبها، ولجمالها، ولمالها، ولدينها)، قال: فنهاه الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعاد عليه فنهاه، ثم قال: [(تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة).
فعلى المسلم إذا أراد أن يتزوج أن يبحث عن النسل ولا يتزوج امرأة لا تلد، وقد يعرف أنها لا تلد بكونها قد تزوجت عدة مرات ولم تنجب، وتزوج أزواجها غيرها وأنجبوا، فهذا مما يستدل به على عدم الإنجاب وأنها عقيم، فأرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تزوج الولود الودود، والولود هي كثيرة الولادة، والودود هي ذات التودد إلى الزوج، ويعرف ذلك بقياس المرأة بقريباتها كأخواتها وأمهاتها وعماتها وخالاتها، ومن يكون من بيتها، وقد يعرف ذلك منها بكونها تزوجت وأنجبت، وعرف أنها ذات مودة، ولكن الذي تزوجها تركها لأمر، أو مات عنها، أو ما إلى ذلك، فيعرف كونها ولوداً إما بحصول ذلك بالفعل، أو أن تتزوج بكراً فتقاس على أخواتها وعلى لداتها.
قوله: (فإني مكاثر بكم الأمم)، أي: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن تكون أمته أكثر الأمم يوم القيامة.(236/21)
تراجم رجال إسناد حديث (تزوجوا الودود الولود)
قوله: [حدثنا أحمد بن إبراهيم].
هو أحمد بن إبراهيم الدورقي البغدادي، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا يزيد بن هارون].
هو يزيد بن هارون الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا مستلم بن سعيد ابن أخت منصور بن زاذان].
مستلم بن سعيد صدوق ربما وهم، أخرج له أصحاب السنن.
قال أبو داود: [حدثنا الحسن بن علي قال: سمعت يزيد بن هارون يقول: رأيت مستلماً فكان يقع يمنة ويسرة.
قال الحسن بن علي: لم يضع جنبه إلى الأرض أربعين سنة.
قال أبو داود: مستلم بن سعيد ابن أخي وابن أخت منصور بن زاذان مكث سبعين يوماً لم يشرب الماء].
[عن خاله منصور بن زاذان].
منصور بن زاذان أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو ثقة، وقد ذكر في ترجمته أن أحد العلماء قال: لو قيل لـ منصور بن زاذان: إن ملك الموت بالباب ما كان بإمكانه أن يأتي بشيء جديد، ومعناه أنه مستعد للموت بعبادته واستقامته والتزامه، فلن يأتي بشيء جديد ولو كان ملك الموت بالباب.
وهذا يدل على فضله وعبادته، وهذه من الكلمات الجميلة التي تأتي في أثناء التراجم، والحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) يسوق في بعض التراجم كلاماً جميلاً عن أصحاب تلك التراجم إذا كان لهم كلام جميل، فيذكر ذلك مما فيه حكم وعبر وعظات، وهي كلمات عظيمة نافعة تكتب بماء الذهب لحسنها، وهي كلمات مضيئة جميلة تدل على معنى صحيح، وقد كان شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله كثيراً ما يطلب (البداية والنهاية) ويقرأ في تلك التراجم ويبكي -رحمة الله عليه- إذا سمع تلك الكلمات الجميلة المؤثرة التي فيها عبر وعظات.
[عن معاوية بن قرة].
معاوية بن قرة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معقل بن يسار].
هو معقل بن يسار صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(236/22)
الأسئلة(236/23)
أهمية كتب التراجم لطالب العلم
السؤال
نود الكلام على أهمية كتب التراجم لطالب العلم، وهل الأفضل في هذا الباب كتاب سير أعلام النبلاء أم البداية والنهاية؟
الجواب
لا يقال: الأفضل هذا أو هذا، وإنما كتب العلم يكمل بعضها بعضاً، وفي هذا ما ليس في هذا، فعلى الإنسان أن يحرص على أن يقرأ في هذا وفي هذا؛ ليحصل على ما عند هذا وهذا من العلم، فقد يأتي في هذا ما ليس في ذلك، فكون الإنسان يقتني (سير أعلام النبلاء) للذهبي، أو (يقتني البداية والنهاية)، أو يقتني غيرها من كتب التراجم فهذا أمر طيب، فعلى طالب العلم أن يحرص عليه؛ لأنَّ من أهم المهمات الوقوف على تراجم الرجال وأحوالهم ومنزلتهم من حيث الثقة والضعف، ومن حيث قبول الرواية وعدمه، وليس أمام الناس في هذا إلا كتب الرجال، فكتب الرجال هذه من المهمات في معرفة الرجال، فهي التي تعنى بذلك وتهتم به، فعلى الطالب أن يقتنيها حتى يقف على ما فيها من الكنوز المدفونة في هذه التراجم.
وقد يأتي في الكتاب أحياناً فوائد لا يحصلها الإنسان إلا بأن يقرأ الكتاب كاملاً فيحصلها أو يعثر عليها قدراً، وذلك في مثل كتاب (فتح الباري)، فكتاب (فتح الباري) ليس كتاب تراجم، ولكنه يشتمل على ذكر التراجم عندما يذكر الإسناد، فيعرف بالرجل بعبارات دقيقة ومختصرة، وهو مشتمل على علم جم، فالإنسان يحرص على كتب العلم، سواءٌ أكانت كتب رجال أم غيرها، وعليه أن يقرأها ويطلع على ما فيها من الحكم التي تحرك القلوب، وتؤثر في النفوس، والتي تجعل الإنسان يعرف ما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الاستقامة وملازمة التقوى والعبادة، ومن الاشتغال بالعلم وبذله، فهناك كلمات عظيمة وكنوز مدفونة يجدها الإنسان في هذه الكتب، فالذي أوصي به هو اقتناء كتب الرجال، والعناية بها، ومطالعتها، والاستفادة منها؛ ففيها الخير الكثير.(236/24)
حكم الزواج بالمرأة العقيم
السؤال
هل النهي عن تزوج من لا تلد للكراهة أم للتحريم؟
الجواب
الذي يبدو أنه للكراهة وليس للتحريم؛ لأن هذه المرأة أيضاً هي بحاجة إلى ما يحتاج إليه النساء الأخريات، وإذا كان الله عز وجل لم يحقق لها إحدى النتائج والفوائد التي تترتب على النكاح فإنها لابد لها من ذلك حتى تغض البصر وتحصن الفرج، وهذا موجود عندها، وأما أن الزواج بها محرم لا يجوز فلا، وإنما المقصود به التنزيه.(236/25)
حكم الصلاة خلف الحاكم المبتدع الظالم
السؤال
ما حكم الصلاة خلف حاكم عنده ابتداع ومخالفة للسنة وعنده ظلم؟ وإذا اضطر الإنسان إلى الصلاة خلفه فهل يجوز له أن يصلي بنية الإنفراد؟
الجواب
الحكام وغير الحكام لا يخلون من أمرين: إما أن يكون عندهم كفر وخروج من الملة، فهؤلاء لا يجوز أن يُصَلَّى وراءهم؛ لأن الكافر لا صلاة له ولا تصح صلاته؛ فلا تصح إمامته، وأما من لم يصل إلى حد الكفر وعنده فسق أو عنده بدع غير مكفرة فتصح صلاته وصلاة من وراءه؛ لأن من صحت صلاته صحت إمامته، فيُصَلَّى وراءه ولا يُنْفَرد عنه، وأما الكافر فلا يجوز أن يصلى وراءه؛ لأن صلاته غير صحيحة فصلاة من وراءه لا تكون صحيحة.(236/26)
معنى قطع اليد فيما يبلغ ثمن المجن بعد حرزه في الجرين
السؤال
جاء في الحديث: (ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤيه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع)، فما معنى هذا الكلام؟
الجواب
الجرين هو المكان الذي يحرز فيه الثمر بعدما يجذ، فإنه يجمع في داخل بنيان ويوضع في الشمس ويجفف، كما أن المكان الذي يوضع فيه الحب والحنطة يسمى البيدر، فهذا يسمى البيدر وذاك يسمى الجرين، وكلها أماكن لحفظ الثمر بعد حصاده، وفيها يصفى وينقى ويتميز الحب عن غيره من القشور.
فإذا أُدخل في الحرز ثم جاء أحد وسرق منه قدر ثمن المجن فعليه القطع؛ لأنه سرق ما يقطع به من حرزه، فالجرين هو الحرز.
وقوله: (ثمن المجن) المجن هو آلة يتترس بها في الحرب، وهي جنة ووقاية، وأصله (مجنن) من أسماء الآلة، وقوله: (ثمن المجن) يعني: ما يبلغ ثمن المجن، قيل: إن قيمته ثلاثة دراهم، وهي ربع دينار.(236/27)
الأخوة الإسلامية وثبوتها للمبتدعة
السؤال
هل تثبت أخوة الدين للخوارج؟
الجواب
الأخوة بين المسلمين موجودة وقائمة ما دام أنهم لم يكفروا، ولهذا قال الله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:9 - 10]، فالبدعة التي لم تصل إلى حد الكفر لا تمنع من الأُخوة الإسلامية، ولكنها أخوة فيها نقص ومعها بغض، ففيها محبة لما عندهم من الإيمان وبغض لما عندهم من الفسوق والعصيان.(236/28)
حكم اشتراط الكفاءة في النسب في الزواج
السؤال
هل يؤخذ من حديث أبي هريرة في الحض على زواج ذات اليدين عدم اشتراط الكفاءة في النسب؟
الجواب
أهم شيء في الكفاءة هو الدين، فالعفيف يتزوج العفيفة، وهذا من التكافؤ في الدين، وبعض أهل العلم يقول: إن التزوج ممن يكون له سؤدد وله شرف ومنزلة هذا مما يرغب فيه، وهو من الأشياء التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها التي تدفع الناس إلى ذلك، وبعض أهل العلم يقول: إن العرب أكفاء للعرب، وإن الموالي لا يكونوا أكفاء لهم.
ولكن الحديث أرشد إلى شيء وهو الدين، فالمهم هو الدين وما سواه فأمره هين، لكن إذا كان عدم التكافؤ بين الموالي وبين العرب يترتب عليه فتن وشرور وتقاطع فالباب واسع بحمد الله، فعلى الإنسان أن يقدم على شيء لا محذور فيه ولا يترتب عليه فتنة، وإذا لم يترتب على ذلك شيء فإن المهم هو الدين، وما سوى ذلك فأمره سهل.(236/29)
حكم الزواج بغير المستقيمة بغية إصلاحها
السؤال
هل يجوز أن يتزوج الرجل بامرأة غير متدينة إذا كان يرجو أن يقومها ويحملها على الالتزام؟
الجواب
لا بأس بذلك إذا لم تكن مرتكبة للفاحشة، فالعفيف لا ينبغي له أن يتزوج فاجرة؛ لأنها قد تلوث فراشه، وقد يحصل منها أمور منكرة، لكن إذا كان هناك نقص وخلل وأراد أن يصلحها فلكل امرئٍ ما نوى، ولكن كونه يختار له امرأة دينة وسليمة لا شك أنَّه هو الذي أرشد إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
ثم أيضاً قد تكون النتيجة عكسية، فقد تجره إلى شر ويكون كمن يريد أن يصطاد فيُصاد، ولهذا كان الزواج بالمسلمات وعدم التزوج بالكتابيات هو الأولى وإن كان التزوج بالكتابيات جائزاً، إلا أن الزواج بالمسلمة أولى من الزواج بالكتابية؛ لأن الكتابية يمكن أن يفيدها ويمكن أن تضره، وقد يكون بينهما أولاد ثم تكون فرقة، فيترتب على ذلك أضرار وأخطار.(236/30)
قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة)(236/31)
شرح حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم مرثداً عن نكاح البغي عناق
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً} [النور:3].
حدثنا إبراهيم بن محمد التيمي حدثنا يحيى عن عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغي يقال لها: عناق، وكانت صديقته، قال: (جئت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله! أنكح عناقاً؟ قال: فسكت عني، فنزلت: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور:3]، فدعاني فقرأها علي وقال: لا تنكحها)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في قوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور:3]].
هذه الآية الكريمة تدل على أن الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، وقد ذكر أبو داود هذه الترجمة وأورد هذا الحديث تحتها لبيان أن الزواج بالزانية لا يجوز؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه.(236/32)
حكم الزواج بالزانية وأقوال العلماء فيه
وقد اختلف العلماء في حكم الزواج بالزانية: فمنهم من قال: إنه يجوز أن يتزوج العفيف بالزانية؛ لأنها من جملة إماء المسلمين وجملة الأيامى اللاتي قال الله تعالى فيهن: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32]، فيدخل في ذلك الزواني وغير الزواني.
وقال بعض أهل العلم: إن العفيف لا ينكح الزانية، وإنما ينكحها زانٍ مثلها، وقد جاء في الحديث الذي بعد هذا: (لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله)، فمعناه إذاً أن العفيف لا يتزوج الزانية، وأن الزاني له أن يتزوج الزانية؛ لأن اشتغالهما بالحلال خير من اشتغالهما بالحرام.
ومن العلماء من قال: إن هذه الآية الكريمة ليست في الزواج وإنما هي في الوطء، والمقصود بها أن الزاني لا يطأ زانية أو مشركة، أي: لا يزني إلا بزانية أو مشركة، فالمراد بالنكاح هنا الوطء؛ لأن الله قال: ((إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ)) قالوا: فقد جاء ذكر المشرك، والمشرك لا يمكن بحال أن يعقد على مسلمة، فلا يجوز للمشرك أن يتزوج مسلمة ولا يجوز للمسلمة أن ينكحها مشرك، فقالوا: فالنكاح هنا يراد به الوطء، وعلى هذا فالزاني لا يطأ إلا زانية، يعني: فاجرة مثله، أو مشركة لا تعترف بحلال ولا حرام، وكذلك العكس: ((وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ)) مثلها ((أَوْ مُشْرِكٌ)) لا يفرق بين الحلال والحرام، ويستحل الزنا.
قالوا: فذكر المشرك هنا يدل على أن المراد به الوطء.
ولكن الحديث الذي أورده المصنف هنا في سبب نزول الآية وهو: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تلاها عليه وقال: [(لا تنكحها)] يدل على أن المقصود بذلك الزواج.
وقد تكلم شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى على هذه الآية في (أضواء البيان) وقال: إن هذه من أصعب المسائل؛ لأن القرينة التي في الآية تدل على أن المراد بالنكاح الوطء، وسبب النزول يدل على أن المراد بالنكاح الزواج، قال: والتخلص -يعني: من هذا الإشكال- صعب ولا يتم إلا بنوع من التكلف والتعسف، ثم أشار إلى شيء من ذلك وقال: إن النكاح يحمل على أنه مشترك في المعنيين، فيطلق على الوطء وعلى النكاح، فيكون المراد به النكاح باعتبار والوطء باعتبار.
ومعنى ذلك أنه إن قصد به الوطء في الزنا فذلك لدلالة ذكر المشرك عليه، فيكون المراد به الوطء لقرينة ذكر المشرك، والحديث الذي ورد بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن أن يتزوجها يدل على أن المراد بذلك الزواج، فتكون الآية تفسر بالمعنيين، فتحمل على المعنيين الذين يدل عليهما اللفظ بالاشتراك، وهما: الوطء والزواج.
والحاصل أن الزواج بالزانية من العفيف لا يجوز كما يدل عليه الحديث، وأما زواج الزاني بالزانية فإنه سائغ، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله) في الحديث الآتي، وقوله: (المجلود) يعني: أنه ظهر زناه وتحقق لوجود الجلد فيه، فالزاني الذي تحقق زناه لا ينكح إلا مثله.
فالذي يظهر أن العفيف لا يتزوج الفاجرة الزانية، وأما الزاني فإنه يتزوجها بدلاً من أن يشتغلا بالحرام.
وأما الحديث ففيه أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يحمل الأسارى من مكة إلى المدينة، وكان هناك بغي بمكة يقال لها: عناق، وكانت صاحبته، فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في زواجها فتلا عليه الآية وقال له: [(لا تنكحها)]، فيدل على أن العفيف لا يجوز له أن ينكح الزانية، وأن الزاني له أن ينكح الزانية التي تكون مثله، وأما المشرك فإنه لا يجوز له أن ينكح المسلمة مطلقاً لما جاء من نصوص الكتاب والسنة في ذلك.
والمراد بكون العفيف لا يتزوج الزانية هو قبل توبتها، وأما إذا تابت فالتوبة تجب ما قبلها، والله تعالى يتوب على من تاب، وللعفيف أن يتزوجها.(236/33)
تراجم رجال إسناد حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم مرثداً عن نكاح البغي عناق
قوله: [حدثنا إبراهيم بن محمد التيمي].
إبراهيم بن محمد التيمي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن الأخنس].
عبيد الله بن الأخنس صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب].
هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو صدوق، أخرج له البخاري في (جزء القراءة) وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو شعيب، وهو صدوق أخرج له البخاري في (جزء القراءة) و (الأدب المفرد) وأصحاب السنن.
[عن جده].
هو جد شعيب، وهو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(236/34)
شرح حديث (لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد وأبو معمر قالا: حدثنا عبد الوارث عن حبيب حدثني عمرو بن شعيب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله).
أورد أبو داود حديث أبي هريرة: [(لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله)] وهذا يدل على أن الزاني ينكح الزانية، وذلك في حال كونهما غير تائبين، وأما إذا كانا قد تابا فإن التوبة تجب ما قبلها، فالعفيف له أن يتزوج الزانية إذا تابت، وكذلك العكس.
وقوله: (المجلود) أي: الذي أقيم عليه الحد وتحقق زناه، وليس له مفهوم من ناحية أن الذي لم يجلد لا يكون كذلك بل هو مثله، فالمجلود وغير المجلود سواء، لكنه ذكر المجلود لأن به تحقق وجود الزنا، والجلد كفارة له، لكن إذا لم يتب كان كفارة عن الذنب الذي حصل منه فحسب، أما إذا أصر فلا يكفر الجلد إصراره ولا يزوج بالعفيفة، ولكن إن حصل أن زانياً عقد له على عفيفة فإنه يصلح العقد ولا يقال: إن العقد باطل، وإن كان ليس كفؤاً لها.
وأما العفيف فقد أجاز له كثير من العلماء الزواج بالزانية استدلالاً بقوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32].(236/35)
تراجم رجال إسناد حديث (لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله)
قوله: [قال: حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[وأبو معمر].
هو عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الوارث].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حبيب].
هو حبيب المعلم، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب عن سعيد المقبري].
عمرو بن شعيب قد مر ذكره، وسعيد المقبري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
[وقال أبو معمر: حدثني حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب].
يعني: أن اللفظ الذي ساقه هو على لفظ الشيخ الأول وهو مسدد، ثم أخبر عن الشيخ الثاني، فالرواية عن أبي معمر جاءت بزيادة لفظ (المعلم) إضافة إلى حبيب، وأيضاً الأول بلفظ (عن) وهنا بلفظ التحديث.(236/36)
الرجل يعتق أمته ثم يتزوجها(236/37)
شرح حديث (من أعتق جاريته ثم تزوجها كان له أجران)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يعتق أمته ثم يتزوجها.
حدثنا هناد بن السري حدثنا عبثر عن مطرف عن عامر عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أعتق جاريته وتزوجها كان له أجران)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي [باب في الرجل يعتق أمته ويتزوجها] أي: أن ذلك صحيح وفيه أجر عظيم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أبي موسى: (كان له أجران) يعني: أجر على عتقه وأجر على إحسانه إليها بالعتق والزواج، حيث تزوجها وصار لها حق القسم بعد أن كانت لا قسم لها، فأحسن إليها بأن نقلها من حالة أنه لا قسم لها إلى حالة أنها من جملة الزوجات اللاتي يقسم لهن، فيكون له أجران: أجر على إعتاقه وإحسانه إليها بالعتق، وأجر على إحسانه إليها بالزواج، وكونها صارت من جملة زوجاته اللاتي لهن حق القسمة.(236/38)
تراجم رجال إسناد حديث (من أعتق جاريته ثم تزوجها كان له أجران)
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هو هناد بن السري أبو السري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في (خلق أفعال العباد) ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبثر].
عبثر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مطرف].
هو مطرف بن طريف، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عامر].
هو عامر بن شراحيل الشعبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بردة].
هو أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي موسى].
هو أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، فكل رجال هذا الإسناد أخرج لهم أصحاب الكتب الستة إلا هناداً فلم يخرج له البخاري في الصحيح، وإنما خرج له في (خلق أفعال العباد).(236/39)
شرح حديث إعتاق النبي صلى الله عليه وسلم صفية وجعله عتقها صداقها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن عون أخبرنا أبو عوانة عن قتادة وعبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعتق صفية رضي الله عنها، وجعل عتقها صداقها)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج صفية وجعل عتقها صداقها، وصفية هي بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها أم المؤمنين، وقد كانت أمة فاعتقها، فالنبي صلى الله عليه وسلم وجعل عتقها صداقها، فدل ذلك على ما ترجم له المصنف من الإعتاق والزواج، وأنه يكون قد أحسن بذلك إحسانين، وأنه يجوز أن يجعل العتق صداقاً؛ لأنه نعمة أنعم بها عليها، وقد اختلف العلماء في ذلك هل هو خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم أم أنه له ولغيره، والقول بالخصوصية يحتاج إلى دليل، فالصحيح أن ذلك سائغ وجائز، وأنه ليس من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله: (أعتق صفية وجعل عتقها صداقها).
يعني: أعتقها وتزوجها، وعتقها هو صداقها.(236/40)
تراجم رجال إسناد حديث إعتاق النبي صلى الله عليه وسلم صفية وجعله عتقها صداقها
قوله: [حدثنا عمرو بن عون].
عمرو بن عون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا أبو عوانة].
هو الوضاح بن عبد الله اليشكري، هو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعبد العزيز بن صهيب].
عبد العزيز بن صهيب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد رباعي، فـ قتادة وعبد العزيز في درجة واحدة، فهو إسناد رباعي، وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود.(236/41)
شرح سنن أبي داود [237]
لقد بيّن الشرع أنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، وأن أحكام الرضاعة كأحكام النسب، فالمرضعة تصير أماً للرضيع، وزوجها -وهو صاحب اللبن- يصير أباً للرضيع، وأولادها يصيرون إخواناً للرضيع، وهكذا تنتشر المحرمية في الأصول والفروع.(237/1)
يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب(237/2)
شرح حديث: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة)
قال رحمه الله تعالى: [باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الله بن دينار عن سليمان بن يسار عن عروة عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة)].
أورد أبو داود هنا باب [يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب] يعني: أن الرضاعة -وهي سبب من الأسباب- يحصل بها التحريم مثلما يحصل بالنسب، فإذا رضع طفل من امرأة خمس رضعات فأكثر فإنه يصير ابناً لها، وأخواتها خالات له، وأولادها إخواناً له، وهكذا، بل إن صاحب اللبن الذي هو الفحل يكون أباً له من الرضاع، وجميع أولاده من زوجات متعددة يكونون -أيضاً- إخواناً لهذا الرضيع، والتي أرضعته لو كان لها أولاد من أزواج متعددين فإنهم يكونون إخواناً له ولو كانوا من أزواج متعددين، وهو أيضاً أخ لأبناء صاحب اللبن ولو كانوا من زوجات متعددات.
وأوراد أبو داود هنا حديث عائشة رضي الله تعالى عنها [(يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولاة)].(237/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن دينار].
عبد الله بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن يسار].
سليمان بن يسار ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهذان الاثنان من فقهاء السبعة، وهنا يروي أحدهما عن الآخر.
[عن عائشة].
هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي أحد سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(237/4)
شرح حديث عرض أم حبيبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم الزواج بأختها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير عن هشام بن عروة عن عروة عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها (أن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله! هل لك في أختي؟ قال: فأفعل ماذا؟ قالت: فتنكحها، قال: أختك؟! قالت: نعم، قال: أوتحبين ذاك؟! قالت: لست بمخلية بك، وأَحبُّ من شركني في خير أختي، قال: فإنها لا تحل لي، قالت: فوالله! لقد أُخبرتُ أنك تخطب درة أو ذرة -شك زهير - بنت أبي سلمة، قال: بنت أم سلمة؟! قالت: نعم، قال: أما والله! لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة أرضعتنني وأباها ثويبة، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن)].
أورد أبو داود حديث أم سلمة رضي الله عنها في قصة أم حبيبة بنة أبي سفيان أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، وكل منهما من أمهات المؤمنين، وأم سلمة هي هند بنت أبي أمية، وأم حبيبة هي رملة بنت أبي سفيان رضي الله تعالى عن الجميع، قالت أم حبيبة للرسول صلى الله عليه وسلم: [(هل لك في أختي؟)] أي: تعرض عليه أختها، قال: [(فأفعل ماذا؟)] يعني: هذا العرض ما هو المقصود منه؟ [(قالت: فتنكحها، قال: أختك؟! قالت: نعم، قال: أو تحبين ذلك)] يعني: أن تكون ضرة لك، [(قالت: لست بمخلية بك)] أي: ما أنا بمنفردة بك فغيري قد شاركني فيك، وأَحبُّ من شاركني في خير أختي، فما دام أني لست منفردة بك وأن المشاركة حاصلة فأحب من شاركني في خير أختي، فهي تحب لها الخير، وهو أن تكون أماً للمؤمنين، وتكون زوجة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: [(فإنها لا تحل لي)]؛ لأن الجمع بين الأختين لا يجوز، فالله تعالى يقول: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] عطفاً على قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23].
فلما قال لها ذلك قالت: [(فوالله لقد أخبرت أنك تخطب درة -أو ذرة)] تعني بنت أبي سلمة، وهذا فيه أن الأخبار أحياناً قد تظهر وليس لها أساس ولا أصل، بل هي إشاعات فإن هذا لم يحصل ومع ذلك بلغها، وقد تكون هذه الإشاعة حصلت من المنافقين ومثل هذه الإشاعة التي ليس لها أساس ما حصل من الإشاعة بأن النبي طلق نساءه في قصة عمر المشهورة حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تأثر، فانتهر حفصة، ثم سأل عن الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبر عن مكانه، فذهب إليه وقال: يا رسول الله! أطلقت نساءك؟ فقال: لا، فكبر عمر، أي: فرح لكون ذلك الخبراً ليس له أساس.
وهنا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بقوله: إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري فإنها لا تحل لي من جهة أخرى، وهي جهة الأخوة من الرضاعة؛ لأن ثويبة مولاة أبي لهب أرضعتني وأباها، فهناك مانعان يمنعان من الزواج: أولاً: كونها ربيبة، والله تعالى يقول في ذكر المحرمات من النساء: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء:23]، ثانياً: الرضاع، فهي ابنة أخيه من الرضاع.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وجه كلاماً إليهن وإلى غيرهن فقال: [(لا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن)]، وهذا يتعلق بالذي حصل الإخبار والإشاعة عنه، فـ أم حبيبة عرضت أختها، وذكرت أنه يريد أن يخبط ربيبته، فقال: (لا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تعرضن علي بناتكن) يدل على أن الربيبة وبنات الربيبة لا تجوز، فبنات الربيبة ربائب لا يجوز لزوج المرأة أن يتزوجهن؛ لأنهن داخلات تحت قوله: (بناتكن)؛ لأن بنت ابن الزوج بنت للزوجة، وبنت بنت الزوجة بنت لها، فالبنوة موجودة في الجميع، فليس الأمر مقصوراً على البنت المباشرة، بل أيضاً بنات البنات وبنات الأبناء كلهن ربائب، وهن داخلات في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تعرضن علي بناتكن).
وأما القيد الوارد في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:2] فهو قيد أغلبي؛ إذ الغالب كونها في حجر الزوج، وإلا فإن بنت الزوجة -سواء أكانت في حجر الزوج أم لم تكن- داخلة تحت الربائب المحرم الزواج بهن، وذكر الحجور إنما جاء بناءً على الغالب، فلا مفهوم له.
وثويبة المذكورة في الحديث هي مولاة أبي لهب، وقد جاء في عقب حديث في صحيح البخاري أنه يخفف عنه العذاب يوماً؛ لاعتاقه لها حين بشرته بولادة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه أثر منقطع غير متصل.(237/5)
تراجم رجال إسناد حديث عرض أم حبيبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم الزواج بأختها
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة عن زينب بنت أم سلمة].
عروة مر ذكره، وزينب بنت أبي سلمة ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أم سلمة].
هي هند بنت أبي أمية أم المؤمنين رضي الله عنها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(237/6)
لبن الفحل(237/7)
شرح حديث عائشة في جواز دخول عمها من الرضاعة عليها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في لبن الفحل.
حدثنا محمد بن كثير العبدي أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: دخل علي أفلح بن أبي القعيس فاستترت منه، قال: تستترين مني وأنا عمك! قالت: قلت: من أين؟ قال: أرضعتك امرأة أخي.
قالت: إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل! فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحدثته فقال: (إنه عمك، فليلج عليك)].
أورد أبو داود رحمه الله تعالى [باب في لبن الفحل] يعني أنه ينشر الحرمة من جهة الرجل كما تنشر الحرمة من جهة المرأة المرضعة، فالمرضعة هي التي تحلل اللبن منها، وأما الرجل فلأنه هو السبب في وجود اللبن، لذا جاء الحكم الشرعي بأن التحريم يكون من جهة المرضعة ويكون -أيضاً- من جهة صاحب اللبن، فإذا رضع طفل من امرأة صار ابناً لها وأخاً لجميع أولادها ولو كانوا من أزواج متعددين، وأيضاً هو أخ لأولاد زوجها ولو كانوا من زوجات متعددات؛ لأن لبن الفحل معتبر.
وقد أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن أفلح بن أبي القعيس -أو أخا أبي القعيس كما جاء في الصحيحين وفي غيرهما- دخل على عائشة فاستترت منه، يعني: احتجبت منه وامتنعت منه، فقال: تفعلين ذلك وأنا عمك! قالت: من أين؟ قال: إن امرأة أخي أرضعتك، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ليلج عليك) يعني: ليدخل عليك فإنه محرم من محارمك، فدل هذا على اعتبار لبن الفحل، وأن الحرمة لا تكون مقصورة على جهة المرضعة وهي الزوجة، بل كذلك الزوج الذي هو السبب في وجود اللبن فإنه معتبر، وعلى هذا تكون الأخوة من الرضاعة كالأخوة من النسب، فيكون الرضيع أخاً شقيقاً من الرضاع، وأخاً لأب من الرضاع، وأخاً لأم من الرضاع.(237/8)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة في جواز دخول عمها من الرضاعة عليها
قوله: [حدثنا محمد بن كثير العبدي].
محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة].
قد مر ذكرهم جميعاً.(237/9)
شرح حديث: (انظرن من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في رضاعة الكبير.
حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة.
ح: وحدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن أشعث بن سليم عن أبيه عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها -المعنى واحد- أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل عليها وعندها رجل -قال حفص: فشق ذلك عليه وتغير وجهه، ثم اتفقا- قالت: يا رسول الله! إنه أخي من الرضاعة! فقال: (انظرن من إخوانكن؛ فإنما الرضاعة من المجاعة)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أنه دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندها رجل فتغير؛ لأنه لا يعرف بالصلة والقرابة لها، فقالت: (إنه أخي من الرضاعة! فقال: انظرن من إخوانكن من الرضاعة)] يعني: تحققن من هذه القرابة، فليس كل رضاعة تؤثر، فإنما الرضاعة من المجاعة، وهذا يدل على أن الرضاع الذي يحرم هو ما كان في الحولين، والذي يكون به تغذية الطفل وبناء جسمه، وأما إذا كان كبيراً لا يتغذى باللبن فإنه لا يحصل التحريم.
فإذاً الذي يفهم من قوله: [(فإنما الرضاعة من المجاعة)] أن رضاع الكبير لا يعتبر، وإنما الذي يعتبر هو رضاع الصغير الذي ينفعه الرضاع ويغذيه، أما من يتغذى باللحم والتمر وبالطعام وما إلى ذلك فهذا لا يكون غذاؤه اللبن الذي يكون من المرأة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالاحتياط في تحقق هذه القرابة وثبوت هذه القرابة، وأنه ليس كل قرابة تكون معتبرة، بل إنه سيأتي أنه ليس كل رضاعة معتبرة، بل لابد من وصول إلى عدد معين، وهو خمس رضعات فأكثر، وإذا نقص عن ذلك فإنه لا يحرم يعني، حتى في الحولين إذا كان الرضاع أقل من خمس فلا يعتبر، ورضاع الكبير قل أو كثر لا يعتبر، وإنما الذي يعتبر أن يكون في زمن الحولين ومن المجاعة وبرضعات خمس فأكثر.(237/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (انظرن من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا محمد بن كثير عن سفيان عن أشعث بن سليم].
هو أشعث بن سليم بن أبي الشعثاء، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسروق].
هو مسروق بن الأجدع، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة رضي الله تعالى عنها قد مر ذكرها.(237/11)
شرح حديث ابن مسعود: (لا رضاع إلا ما شد العظم، وأنبت اللحم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد السلام بن مطهر أن سليمان بن المغيرة حدثهم عن أبي موسى عن أبيه عن ابن لـ عبد الله بن مسعود عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لا رضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم.
فقال أبو موسى: لا تسألونا وهذا الحبر فيكم].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: [لا رضاع إلا ما شد العظم، وأنبت اللحم]، ومعنى (شد العظم): أي: قواه وحصلت به قوته، والمراد أن الرضاع يحصل به الغذاء، وذلك إنما يكون في الحولين، فهو مطابق لما تقدم من جهة أن الرضاعة من المجاعة، وهذا إنما يكون في الصغر، وأما في حال الكبر فالتغذي إنما يكون بغير حليب ولبن المرأة.
وهذا أثر موقوف على ابن مسعود رضي الله عنه، وقد جاء من طريق أخرى ذكرها المصنف بعد هذا، وهي مرفوعة ولكنها غير صحيحة؛ لأن فيها مجهولاً، وأما الطريق الأولى ففيها ما في الثانية، إلا أنه جاء من طريق أخرى عند البيهقي شاهد موقوف على ابن مسعود، فيكون الأثر قد صح موقوفاً على عبد الله بن مسعود ولم يصح مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشيخ الألباني ذكر الطريق الثانية وبين أنها ضعيفة من جهة أنها مرفوعة، وأثبت الطريق الأولى، وقد ذكر ذلك وأوضحه في (إرواء الغليل)، فقد ذكر الطريق التي تشهد للطريق الموقوفة.(237/12)
تراجم رجال إسناد حديث ابن مسعود: (لا رضاع إلا ما شد العظم، وأنبت اللحم)
قوله: [حدثنا عبد السلام بن مطهر].
عبد السلام بن مطهر صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود.
[أن سليمان بن المغيرة].
سليمان بن المغيرة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي موسى].
هو الهلالي، وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
ذكروا أنه مجهول وأن ابنه مجهول، وكذلك ابن عبد الله بن مسعود الذي يروي عنه أيضاً مجهول؛ لأنه غير مسمى وغير معروف.
[عن ابن مسعود].
هو عبد الله بن مسعود، وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وقوله: [فقال أبو موسى: لا تسألونا وهذا الحبر فيكم].
أبو موسى ليس الذي في الإسناد، وهو أبو موسى الأشعري.
وهذا والحديث فيه اختصار، وأصله -كما ذكر الشيخ الألباني في بعض الطرق- أن رجلاً كان عنده طفل لم يرضع، فمص أبوه من ثدي الأم ليرضعه فوجد طعمه في حلقه، فجاء إلى أبي موسى الأشعري فقال: حرمت عليك، ثم ذهب إلى ابن مسعود فقال: [لا رضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم]، فقال أبو موسى: [لا تسألونا وهذا الحبر فيكم].
فالأثر هنا فيه اختصار مخل؛ لأنه يوهم أن أبا موسى الأشعري هو الذي في الإسناد، مع أن أبا موسى الذي في الإسناد متأخر؛ فيكون الإسناد على هذا ثلاثياً؛ لأنه هو الثالث في الإسناد.(237/13)
شرح حديث ابن مسعود من طريق ثانية وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا وكيع عن سليمان بن المغيرة عن أبي موسى الهلالي عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعناه، وقال: (أنشز العظم)].
أورد أبو داود الأثر من طريق أخرى، ولكنه هنا مرفوع، وقال بدل قوله: (شد العظم) قال: (أنشز العظم)، وهو بمعناه.
قوله: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري].
محمد بن سليمان صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن المغيرة عن أبي موسى الهلالي عن أبيه عن ابن مسعود].
وقد مر ذكرهم.(237/14)
من رأى التحريم برضاع الكبير(237/15)
شرح حديث رضاع سالم مولى أبي حذيفة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من حرم به.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة حدثني يونس عن ابن شهاب حدثني عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأم سلمة رضي الله عنها أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس كان تبنى سالماً رضي الله عنهما وأنكحه ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زيداً، وكان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث ميراثه، حتى أنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} إلى قوله: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب:5]، فردوا إلى آبائهم، فمن لم يعلم له أب كان مولىً وأخاً في الدين، فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي ثم العامري، وهي امرأة أبي حذيفة، فقالت: يا رسول الله! إنا كنا نرى سالماً ولداً، وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد ويراني فضلى، وقد أنزل الله عز وجل فيهم ما قد علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أرضعيه)، فأرضعته خمس رضعات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة، فبذلك كانت عائشة رضي الله عنها تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيراً خمس رضعات ثم يدخل عليها، وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحداً من الناس حتى يرضع في المهد، وقلن لـ عائشة: والله! ما ندري لعلها كانت رخصة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـ سالم دون الناس].
أورد أبو داود [باب من حرم به] يعني: برضاع الكبير؛ لأن الضمير يرجع إلى ما جاء في الترجمة السابقة: [باب في رضاعة الكبير]، ثم قال بعد ذلك: [باب من حرم به] أي: برضاع الكبير، فرضاعة الكبير عنده يحصل بها التحريم إذا كانت بخمس رضعات فأكثر.
وأورد أبو داود حديث عائشة وأم سلمة في ذلك، وهو أن أبا حذيفة كان قد تبنى سالماً، وهو مولى لامرأة من الأنصار، وكان يقال له: مولى أبي حذيفة لا لأنه أعتقه، ولكن لكونه تبناه وكان يسكن معه، فقيل له: مولاه، وكان قبل ذلك ينسب إليه، وزوجه ابنة أخيه، ولما نزلت الآيات فيما يتعلق بمن يتبنون، وأن الأمر قد اختلف عما كان عليه من قبل، ونسخ ما كانوا يحصل من التبني ونسبة الرجل إلى من تبناه، وكذلك كونه يحصل توارث، وجاء الحكم بنسخ ذلك قالت سهلة بنت سهيل بن عمرو -وهي زوجة أبي حذيفة - كنا نرى سالماً ولداً لنا، وإنه كان يأوي معي ومع أبي حذيفة، وإنه يراني فضلى فماذا ترى؟ قال: [(أرضعيه)]، فأرضعته خمس رضعات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاع؛ لأنه رضع منها خمس رضعات، فكانت عائشة رضي الله عنها ترى أن الحكم عام، وأنه لا يختص بقصة سالم، وكانت تأمر من تريد أن يدخل عليها أن يرضع من قريباتها ولو كان كبيراً، فتكون خالته من الرضاع إذا رضع من أخواتها، أو من أحد من أقربائها بحيث تكون هي من محارمه بسبب تلك الرضاعة، وأبى ذلك سائر أمهات المؤمنين، وقلن: إن هذا خاص بـ سالم مولى أبي حذيفة، وأبين أن يدخلن عليهن أحد بمثل هذه الرضاعة.
وأما عائشة رضي الله تعالى عنها فقد روت هذا الحديث وروت الحديث السابق في كون الرضاعة من المجاعة، ولكنها أخذت بأحد الحديثين دون الآخر.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة -أي: في رضاع الكبير- فمنهم من أجازه استناداً إلى ما جاء في هذه المسألة، ومنهم من منعه استناداً إلى ما جاء في الأحاديث السابقة: (إنما الرضاعة من المجاعة)، ومن العلماء من قال: من كانت حاله كحالة سالم مولى أبي حذيفة فإنه يرضع، ويحصل التحريم بذلك، ومن ليس كذلك فالأمر على ما هو عليه من أنّ التحريم إنما يكون في زمن الحولين الذي فيه المجاعة والاستفادة.
والذي يظهر -والله أعلم- أن رضاع الكبير لا يعتبر ولا يعول عليه، وأنّ الرضاع إنما يكون في الصغر، وما حصل في قصة سالم فإنه يكون قصة عين خاصة به لا تتعداه إلى غيره.
ثم إن القول برضاع الكبير وكونه يسوغ ويكون عاماً يترتب عليه مفاسد وأمور خطيرة، وذلك لأن المرأة إذا أرادت التخلص من زوجها فإنها تحلب من ثديها في كأس وتسقيه عدة مرات، وبعد ذلك تقول: أنت ابني من الرضاع وتتخلص منه، فرضاع الكبير لا يعتبر.(237/16)
كيفية الرضعات المحرمات
وعلى القول برضاع الكبير فلا تلزم المباشرة في الرضاعة، بل يمكن أن يحلب له في إناء ويشربه عدة شربات أو في عدة مرات.
وأما كيفية حساب الرضعة الواحدة من الخمس فالرضعة فإنها تحسب بكونه يمسك الثدي ويرضع ثم يطلقه، فهذه رضعة، فقد تكون الخمس الرضعات في جلسة واحدة، وقد تكون في مجالس متعددة.
وأما كونهن مشبعات فما أعلم شيئاً يدل على أنها مشبعة، فالمهم أن تكون خمس رضعات، والمهم هو وصول اللبن، سواء كان عن طريق المص أم عن طريق الشرب من إناء.
وقوله: (كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً، وكان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه، وورث ميراثه حتى أنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5]، أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد تبنى زيد بن حارثة، فكان يقال له: زيد بن محمد، ولما أنزل الله عز وجل الآية: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب:5] ردوا إلى آبائهم في النسبة، فمن لم يعلم له أب كان مولىً وأخاً في الدين، كما قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ}.
قوله سهلة: (ويراني فضلى) أي: أنها في ثياب المهنة التي تكون في البيت.
قوله: (فبذلك كانت عائشة رضي الله عنها تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها أن يرضعن من أحبت أن يراها ويدخل عليها) أي: استناداً إلى هذا كانت عائشة ترى أن رضاع الكبير يحرم.(237/17)
تراجم رجال إسناد حديث رضاع سالم مولى أبي حذيفة
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في (الشمائل).
[حدثنا عنبسة].
هو عنبسة بن خالد الأيلي، وهو وهو صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود.
[حدثني يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة عن عائشة وأم سلمة].
عروة وعائشة وأم سلمة قد مر ذكرهم.(237/18)
الأسئلة(237/19)
حكم إرضاع الكبير الأجنبي ليحل له دخول البيت
السؤال
طالبا علم لهما مكتبة واحدة في بيت أحدهما، فوجدا الحرج في دخول كل منهما بيت صاحبه عند عدم وجوده، فأفتيا أنفسهما برضاعة كل منهما من زوجة الآخر، ليدخل متى شاء بيت صاحبه، وحين أنكر عليهما احتجا بحديث رضاعة سالم، فما الحكم في هذا؟
الجواب
هذا ليس بصحيح، فرضاع الكبير لا ينفع، والمكتبة إما أن يخرجاها إلى مكان خارج البيتين، أو أن الذي هي عنده يتفق مع الآخر على أوقات معينة بحيث يأتي ويستفيد منها، وأما أن يرضعا من الزوجتين من أجل أن يصيرا محارم لزوجتيهما فهذا ليس بصحيح.(237/20)
ما يفعله الأب تجاه ابنه التارك للصلاة
السؤال
ماذا يفعل الأب إذا وجد ابنه تاركاً للصلاة تكاسلاً وقد بلغ سن الزواج؟
الجواب
يجتهد في نصحه وتوجيهه ودعوته وأمره بالصلاة، ويسوقه إلى المسجد، ويدعوه ويرشده ويخوفه ويحذره من مغبة ذلك ومن العقوبة على ذلك.(237/21)
حكم سؤال الناس لأجل الزواج
السؤال
هل تحل المسألة لمن له راتب يكفيه في الطعام والملبس دون الزواج؟
الجواب
إذا كان مضطراً إلى الزواج ويجد نفسه في مشقة فله أن يسأل.(237/22)
حكم تساقط بعض شعر اللحية بسبب العبث بها
السؤال
بعض الإخوة يعبث بلحيته فيؤدي ذلك إلى تساقط بعض الشعر، فهل هو آثم على هذا الفعل؟
الجواب
إذا كان يقصد تساقط الشعر فإنه يأثم، وأما إذا كان لا يقصد هذا ولكنه حصل منه شيء من غير قصد ومن غير إرادة فلا يأثم.(237/23)
ما يفعله القريب مع قريبته الزانية
السؤال
أختي رفضت الزواج، والآن لها ولدان من الزنا، فماذا أفعل، هل أبعدها عني؟
الجواب
اجتهد في حثها على الزواج، ولتبحث عن أحد يتزوجها ويعفها ويبعدها عن الوقوع في المحرم.(237/24)
وجه ترك النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الحد على البغي عناق
السؤال
لماذا لم يقم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الحد على عناق؛ فإنه يفهم من الحديث أنها كانت مسلمة؛ إذ ليس للمسلم أن يتزوج الكافرة؟
الجواب
مجيء مرثد الذي كان يأتي بالأسارى يبدو أنه كان قبل الفتح، ومعنى ذلك أنها كانت في مكة ولم تكن تحت سلطته وولايته.(237/25)
حكم الدعاء بقوله: (اللهم كن معي حيّاً وميتاً)
السؤال
هل يجوز أن أقول في الدعاء: اللهم! كن معي حياً وميتاً؟
الجواب
على المرء أن يدعو بالأدعية المأثورة ويحرص على الأدعية التي جاءت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والأدعية التي يأتي بها الناس من عند أنفسهم وتكون سليمة ليس فيها بأس، وعلى الداعي أن يحرص على أن يكون دعاؤه بالشيء المأثور، أو بشيء ليس فيه إشكال.(237/26)
حكم زواج الزاني بمن زنى بها
السؤال
رجل زنى بامرأة وحملت منه، وأراد ذلك الزاني أن يتزوجها، فهل ذلك جائز؟
الجواب
يجوز، ولكن بعد الولادة، ولا يتزوجها وفي بطنها حمل؛ لأن هذا الحمل زنا وليس بنكاح، وإنما يتزوجها بعدما تضع.(237/27)
الأفضل في توبة الزاني حين لا يُعلم بفعله
السؤال
إذا زنى الشخص ولم يعلم أحد، ولم تكن هناك سلطة شرعية تقيم الحدود، فهل من الأحسن أن يتوب فيما بينه وبين ربه، أو يعلن؟ الجوب: يتوب ويحرص على أن يبتعد عن هذا العمل القبيح، ويندم على ما قد حصل، ويعزم على ألا يعود إليه، والله تعالى قد ستره فعليه أن يستتر وأن يتوب إلى الله عز وجل، فالتوبة تجب ما قبلها، ولا يفضح نفسه.(237/28)
حكم تحريض المرأة على زوجها حتى يطلقها ثم الزواج بها
السؤال
رجل حرض امرأة على زوجها فطلقت منه، ثم تزوجها هذا الرجل، فما حكم هذا الزواج؟
الجواب
هذا العمل منكر، وأما الزواج فلا أعلم دليلاً يمنعه، لكن العمل هذا منكر ومحرم.(237/29)
حكم إيقاع الطلقة الأخرى على الرجعية المعتدة
السؤال
رجل طلق زوجته طلقة رجعية، وفي أثناء العدة طلقها طلقة ثانية، فهل يقع الطلاق؟
الجواب
نعم يقع.(237/30)
حكم نكاح المسلم البوذية
السؤال
ما حكم نكاح المسلم للمرأة البوذية؟
الجواب
المرأة البوذية كافرة ومشركة، فليس لمسلم أن يتزوج مشركة، قال تعالى: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221].(237/31)
حكم جعل المهر من غير المنافع المالية
السؤال
هل يجوز أن يجعل غير العتق وغير المال صداقاً للمرأة؟
الجواب
يجوز، مثل التعليم الذي جاء في حديث: (أنكحتها بما معك من القرآن) في قصة الواهبة التي وهبت نفسها للرسول صلى الله عليه وسلم فلم يرد زواجها، فقال رجل: زوجنيها، وليس معه شيء، فقال له: ابحث، فبحث فلم يجد شيئاً، فسأله عما يحفظ من القرآن فزوجه على أن يعلمها شيئاً من القرآن.(237/32)
إدخال الزوجة أشياء بيت زوجها بغير إذنه
السؤال
هل للمرأة أن تحضر بعض الأشياء البسيطة من بيت أهلها إلى بيت زوجها من غير إذنه؟
الجواب
لا بأس بذلك.(237/33)
التفضيل بين الذكر وحضور حلقة العلم بعد عصر الجمعة
السؤال
هل الأفضل للإنسان أن يصلي عصر الجمعة ويبقى في مصلاه حتى المغرب أو أن يحضر مجلس علم؟
الجواب
كل ذلك خير، فمجلس العلم فيه خير، وإذا جلس في مصلاه يذكر الله عز وجل فذلك خير أيضاً.(237/34)
المقصود بقول المعلق على سنن أبي داود: قال الشيخ
السؤال
نرى المعلق على سنن أبي داود عزت عبيد الدعاس يقول في بعض الأحيان: قال الشيخ.
فمن يريد؟
الجواب
يقصد الخطابي.(237/35)
هل يحرم ما دون خمس رضعات(237/36)
شرح حديث: (كان فيما أنزل الله عز وجل من القرآن عشر رضعات يحرمن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب هل يحرم ما دون خمس رضعات.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان فيما أنزل الله عز وجل من القرآن عشر رضعات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات يحرمن، فتوفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهن مما يقرأ من القرآن].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب هل يحرم ما دون خمس رضعات، وقد اختلف العلماء في الرضاع المحرم على ثلاثة أقوال: القول الأول: هو ما بلغ خمس رضعات فأكثر، والدليل على ذلك هذا الحديث الذي أورده أبو داود عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان فيما أنزل الله عز وجل من القرآن عشر رضعات يحرمن فنسخن بخمس معلومات يحرمن فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن].
واحتجوا أيضاً بالحديث الذي سبق أن مر في رضاع الكبير حيث قال فيه: (أرضعيه خمس رضعات)، وهو حديث صحيح، ولكنه -كما عرف- خاص بـ سالم مولى أبي حذيفة، وقد جاء فيه ذكر الخمس، فهو دليل على أن المعتبر في الرضاع هو ما بلغ الخمس رضعات.
القول الثاني: أن المحرم هي ثلاث رضعات فأكثر، ويستدل على ذلك بالحديث الذي سيأتي، وهو قوله: (لا تحرم المصة ولا المصتان)، قالوا: فمفهومه يدل على أنه إذا زاد على ذلك فإنه يحرم.
القول الثالث: أن الرضاع قليله وكثيره يحرم؛ لأنه جاء مطلقاً في بعض النصوص، كقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:23]، فجاء مطلقاً، قالوا: فيحرم القليل والكثير.
والقول الصحيح والراجح من هذه الأقوال هو القول بأن المحرم هي خمس رضعات؛ لأنه قد جاء ما يدل عليه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث الذي أورده أبو داود، والحديث الذي سبق أن تقدم في رضاع الكبير.
وأورد أبو داود هنا حديث عائشة [كان فيما أنزل الله عز وجل من القرآن عشر رضعات يحرمن، فنسخن بخمس معلومات يحرمن، فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن].
قوله: (وهن) أي: الخمس؛ لأن الإشارة إلى الخمس، وليس في القرآن خمس رضعات يحرمن، لكن هذا فيه إشارة إلى قرب التحريم من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن بعض الناس الذين لم يبلغهم النسخ استمروا على القراءة حتى بلغهم النسخ، وذلك لقربه من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالنسخ جاء متأخراً.(237/37)
أنواع النسخ في القرآن الكريم
هذا الحديث دليل على أن التحريم إنما يكون بخمس رضعات، وهو أيضاً دليل لنوعين من أنواع النسخ في القرآن الكريم؛ لأن النسخ بالنسبة للتلاوة والحكم ثلاثة أقسام: الأول: نسخ التلاوة والحكم جميعاً.
الثاني: نسخ الحكم مع بقاء التلاوة.
الثالث: نسخ التلاوة مع بقاء الحكم.
وهذا الحديث فيه مثال لقسمين هما: نسخ التلاوة والحكم في مسألة عشر رضعات معلومات يحرمن؛ لأنه نسخ الحكم والتلاوة، فالحكم منسوخ والتلاوة منسوخة.
وخمس رضعات يحرمن نسخت فيها التلاوة وبقي الحكم.
ومثال القسم الثالث -نسخ الحكم مع بقاء التلاوة- آية اعتداد المتوفى عنها بسنة كاملة، وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240] فهذه منسوخة الحكم باقية التلاوة، والذي نسخها هو الآية التي قبلها، وهي تربص أربعة أشهر وعشراً، فعلى هذا تكون أقسام النسخ بالنسبة للتلاوة والحكم ثلاثة: نسخ تلاوة وحكم، ونسخ تلاوة مع بقاء الحكم، والحديث الذي معنا شاهد للاثنين.
والقسم الثالث: نسخ الحكم مع بقاء التلاوة آية.(237/38)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان فيما أنزل الله عز وجل من القرآن عشر رضعات يحرمن)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم].
عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرة].
هي عمرة بنت عبد الرحمن، وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي أحد سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(237/39)
شرح حديث: (لا تحرم المصة ولا المصتان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا إسماعيل عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تحرم المصة ولا المصتان)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحرم المصة ولا المصتان) يعني الرضعة والرضعتين، وهذا منصوص عليه هنا، ولكن قولها: (فنسخن بخمس معلومات يحرمن) دل على أن ما دونها لا يحرم، سواءٌ الواحدة أو الثنتان المنصوصتان عليهما في هذا الحديث، أو الثالثة والرابعة اللتان لم ينص عليهما في الحديث، ولكنها دون الخمس التي جاء في الحديث أنها تحرم.(237/40)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تحرم المصة ولا المصتان)
قوله: [حدثنا مسدد بن مسرهد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا إسماعيل].
هو إسماعيل بن علية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي مليكة].
هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن الزبير].
هو عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله علية وسلم، وهم: عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين.
[عن عائشة].
قد مر ذكرها.(237/41)
الرضخ عند الفصال(237/42)
شرح حديث بيان إذهاب مذمة الرضاعة بالغرة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرضخ عند الفصال.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا أبو معاوية.
ح: وحدثنا ابن العلاء حدثنا ابن إدريس عن هشام بن عروة عن أبيه عن حجاج بن حجاج عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: قلت: يا رسول الله! ما يذهب عني مذمة الرضاعة؟ قال: (الغرة العبد أو الأمة).
قال النفيلي: حجاج بن حجاج الأسلمي.
وهذا لفظه].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي [باب الرضخ عند الفصال]، والرضخ هو ما تعطاه المرضعة عند تمام الإرضاع، حيث تنتهي مهمتها وتنتهي علاقتها بمن أرضعت لهم، فيعطونها أجرتها ويرضخون لها شيئاً غير متفق عليه، فمن تمام الإحسان وتمام المعاملة أنهم يكرمونها ويتحفونها بشيء غير الأجرة التي اتفقوا معها عليها، فهذا هو المقصود بالرضخ، أي أنها تعطى شيئاً غير الذي اتفق عليه على أنه أجرة لها.
وقد جاء في هذا حديث حجاج بن حجاج الأسلمي عن أبيه أنه قال: [يا رسول الله! ما يذهب عني مذمة الرضاعة؟]، ومذمة الرضاع حقه وذمامه، والمقصود به الحق والمعروف الذي حصل من المرضعة، فما الذي يذهبه عني إذا فعلته؟ وهو إحسان في مقابل إحسان؟ قال: (غرة) يعني: عبداً؛ لأنه كما أنها قامت بالإحسان إلى الطفل في حال صغره وقامت بإرضاعه فإنها تعطى شيئاً يذهب ذلك الحق، ويكون الإنسان قد أدى الحق الذي عليه.
فإذا كان المقصود به الطفل الذي أرضع فهذا لا يكون عند الفصال، بل لا يكون إلا متأخراً، أعني إذا أراد الرضيع أن يحسن فهو لن يحسن إلا بعد زمن متأخر، فالرضخ عند الفصال يقصد به أنه من المستأجر الذي هو والد الطفل أو أم الطفل أو عم الطفل أو قريب الطفل، وهنا كأنه يشعر بأن المقصود بذلك أن الذي أرضع يريد أن يحسن إلى أمه من الرضاعة، ويؤدي لها الحق الذي عليه، وذلك بأن يعطيها عبداً أو أمة تخدمها؛ لأنها قامت بالإحسان إليه في حال صغره، وقد بلغت من الكبر ما بلغت، فكونه يعطيها من يخدمها ويقوم بالإحسان إليها مكافأة لها على ذلك هو المقصود من الحديث.
وهذا الحديث ضعيف؛ لأن في إسناده حجاج بن الحجاج، وهو مقبول لا يحتج بحديثه إلا إذا توبع، وليس له هنا متابع، فالحديث غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(237/43)
تراجم رجال إسناد حديث بيان إذهاب مذمة الرضاعة بالغرة
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
هو عبد الله بن محمد بن نفيل النفيلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو معاوية].
هو محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح: وحدثنا ابن العلاء].
قوله: [ح] للتحول من إسناد إلى إسناد، وابن العلاء هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب البصري، وهو ثقة، أخرج أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن إدريس].
هو عبد الله بن إدريس الأودي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة].
هو هشام بن عروة بن الزبير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حجاج بن حجاج].
حجاج بن حجاج مقبول، أخرج حديثه أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبيه].
أبوه صحابي، أُخرج له هذا الحديث الواحد فقط، وقد أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
قوله: [قال النفيلي: حجاج بن حجاج الأسلمي].
النفيلي هو شيخه الأول، يعني: أنه نسبه فقال: الأسلمي، ثم قال أبو داود: [وهذا لفظه] أي: هذا الحديث هو سياق الشيخ الأول وهو النفيلي.
فيمكن أن يكون المراد بالحديث كلَّه، أو أن المقصود أنَّ هذه الزيادة هي لفظه.(237/44)
شرح سنن أبي داود [238]
لقد منع الشرع من الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها؛ لما في ذلك من وجود الشحناء والبغضاء التي تؤدي إلى القطيعة والتدابر بين الأقارب، وهذا من حكمة الشرع في سد أبواب الفساد والشر.
وقد جاء أن علياً أراد أن ينكح بنت أبي جهل، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً وبين أن فاطمة بضعة منه، وأنه يخاف عليها من ذلك أن تفتن في دينها، وهذا فيه أيضاً سد أبواب الفتن والفساد على العباد بلْهَ عن الأقارب.(238/1)
ما يكره أن يجمع بينهن من النساء(238/2)
شرح حديث: (لا تنكح المرأة على عمتها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا داود بن أبي هند عن عامر عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تنكح المرأة على عمتها، ولا العمة على بنت أخيها، ولا المرأة على خالتها، ولا الخالة على بنت أختها، ولا تنكح الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكبرى)].
أورد أبو داود ما يكره من أن يجمع بينه من النساء، يعني: ما يحرم؛ لأن الكراهة عند المتقدمين بمعنى التحريم، كما قال تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38] بعد ذكر عدد من المحرمات.
فقوله تعالى (مَكْرُوهًا) أي: محرماً.
وأما في اصطلاح الفقهاء فإنهم يجعلون المكروه هو الذي جاء النهي عنه على وجه لا جزم فيه، وهو ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، وطلب الشارع تركه طلباً غير جازم، والمحرم هو ما يثاب تاركه ويعاقب فاعله، وطلب الشارع تركه طلباً جازماً، فالكراهة هنا بمعنى التحريم؛ لأن الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها محرم وليس مكروهاً تنزيهاً بمعنى أنه يجوز أن يفعل مع الكراهة، وإنما هو ممنوع فلا يجوز الجمع، ولو حصل وجب التفريق، ولو أنه وجد ثم تبين أن هذه عمة أو خالة أو حصل جهل بذلك فإنه يجب التفريق بينهما، فتترك الأخيرة التي جاءت أخيراً؛ لأن العقد على الأولى صحيح، والعقد على الثانية غير صحيح، فتترك الأخيرة.
والمقصود من هذه الترجمة بيان ما يحرم أن يجمع بينه من النساء، والجمع المحرم إنما هو بين النساء القريبات المحرم الجمع بينهن، كأن تكونا أختين، كما جاء في القرآن: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:23] سواءٌ أكان في الزواج أم في ملك اليمين، فلا يُجمع بين الأختين في الزواج فإذا تزوج إحدى الأختين فلا تحل له أختها إلا إذا طلقها وانتهت من العدة، حتى في حال عدتها لا يجوز له أن يتزوجها؛ لأن المطلقة الرجعية زوجة، فلو تزوج أختها في حال عدتها فإنه يكون بذلك قد جمع بين الأختين، وإنما يتزوج بالثانية عندما تخرج الأولى من العدة، ومعلوم أن العدة على النساء، والرجال يعتدون في حالتين يطلق عليهما عدة على سبيل الإلغاز، فالرجل يعتد إذا كانت عنده امرأة فيريد أن يتزوج أختها، فليس له أن يتزوج أختها حتى تفرغ من العدة، فهو نفسه يتربص هذه المدة فلا يتزوج بأختها.
والمسألة الثانية: إذا كان عنده أربع وأراد أن يتخلص من واحدة وينكح مكانها أخرى، فليس له أن يتزوج بدل الرابعة إلا إذا فرغت الرابعة من العدة؛ لأنه لو تزوج بدلها وهي في العدة فقد جمع بين خمس، فالرجعية زوجة، فهاتان الصورتان يلغزون بهما ويقولون: الرجل يعتد.
وكذلك في ملك اليمين لا يجمع بين أختين في الوطء، وأما أن يجمع بينهما في الملك فجائز، لكن الوطء ليس له أن يجمع فيه بينهما.
وقوله تعالى بعدما ذكر المحرمات من النسب ومن الرضاعة ومن المصاهرة: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] يشمل إباحة الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، فجاءت السنة واستثنت من ذلك الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها.(238/3)
قاعدة ما يحرم فيه الجمع بين النساء
القاعدة عند العلماء فيما يحرم من الجمع هي أنه لو فرض أن إحداهما ذكر لم يكن له أن يتزوج الأخرى، فهذه القاعدة توضح من لا يجوز له الجمع بينهن من النساء، فالمرأة وعمتها لو فرض أن العمة كانت رجلاً فإنها تصير بنت أخيه، فليس له أن يتزوجها.
وكذلك لو كانت بنت الأخ ابناً فليس له أن يتزوج عمته أخت أبيه؛ إذ هو ابن أخيها فليس له أن يتزوجها.
فالقاعدة هي أنه إذا فرض أن إحدى المرأتين اللتين لا يصح الجمع بينهما ذكرٌ لم يكن له أن يتزوج بالمرأة الأخرى، فهذه هي ضابط ما لا يجوز.
ويستثنى من ذلك الجمع بين ابنة الرجل ومطلقته غير أمها، فإن الجمع بينهما جائز، فالجمع بين امرأة وضرة أمها التي طلقها أبوها أو مات عنها جائز؛ لأنه ليس هناك قرابة نسبية بين هذه وهذه، مع أنه لو فرض أن البنت ذكراً لم يكن له أن يتزوج زوجة أبيه، فلو فرض أن إحداهما ذكر فإنه لم يكن له أن يتزوج الأخرى، فهذه مستثناة من القاعدة.
وأورد أبو داود حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنكح المرأة على عمتها) يعني: إذا كانت العمة موجودة فلا تنكح ابنة أخيها عليها.
قوله: (ولا العمة على بنت أخيها)، يعني: أنه إذا كان متزوجاً ببنت الأخ أولاً فليس له أن يضيف إليها العمة.
قوله: [(ولا المرأة على خالتها)].
فإذا كانت الخالة أخت الأم عند الرجل فليس له أن يتزوج ببنت أختها، أو العكس، بأن تكون بنت الأخت موجودة عنده فليس له أن يتزوج عليها خالتها، فالأولى التي عنده لا يضيف إليها الثانية، سواءٌ أعنده الكبرى أو الصغرى، فإن كانت عنده الكبرى فلا يضف إليها الصغرى، وإن كانت عنده الصغرى فلا يضف إليها الكبرى، ثم أتى بعد ذلك بكلام يرجع إلى الاثنين، فلا الكبرى تنكح على الصغرى ولا الصغرى تنكح على الكبرى.
قوله: [(ولا تنكح الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكبرى)].
فقوله: [(لا تنكح الكبرى على الصغرى)] سواءٌ من العمات أو الخالات، أي: من جانب الأم أو من جانب الأب، [(ولا الصغرى على الكبرى)] كذلك من الجانبين.(238/4)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تنكح المرأة على عمتها)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي عن زهير].
زهير هو ابن معاوية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا داود بن أبي هند].
داود بن أبي هند ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عامر].
هو عامر بن شراحيل الشعبي، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(238/5)
شرح حديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين المرأة وخالتها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني قبيصة بن ذؤيب رضي الله عنه أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجمع بين المرأة وخالتها، وبين المرأة وعمتها)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وفيه النهي عن أن يجمع الرجل بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها، والعمة هنا هي أي عمة سواءٌ أكانت عمة قريبة أم بعيدة، كأن تكون أخت الأب أو أخت الجد، أخت أبيها أو أخت جدها؛ لأن عمة أبيها عمة لها، فلا يجمع بينها وبين عمتها، ولا بينها وبين خالتها، سواءٌ أكانت أخت أمها أم أخت جدتها التي هي خالة أمها.(238/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين المرأة وخالتها)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عنبسة].
هو عنبسة بن خالد، وهو صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود.
[أخبرني يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني قبيصة بن ذؤيب].
قبيصة بن ذؤيب له رؤية، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[أنه سمع أبا هريرة].
أبو هريرة قد مر ذكره.(238/7)
شرح حديث: (كره أن يجمع بين العمة والخالة، وبين الخالتين والعمتين)
قال رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا خطاب بن القاسم عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كره أن يجمع بين العمة والخالة، وبين الخالتين والعمتين].
أورد أبو داود حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كره أن يجمع بين العمة والخالة، وبين العمتين والخالتين، والمقصود من الجمع -كما عرفنا- هو نسبة المرأة إلى المرأة، وعلى هذا فإن هذا الحديث مثل الذي سبق من الأحاديث، فمعناه مع ما قبله من الأحاديث أنه لا يجمع بين المرأة وعمتها أو عمتيها، ولا بينها وبين خالتها أو خالتيها.
فقوله: [(بين العمة)] يعني: بين المرأة وعمتها، [(والخالة)] أي: بين المرأة وخالتها، وليس المقصود من ذلك أنه يجمع عمة امرأة وخالتها؛ لأنه قد تكون هذه أجنبية عن هذه؛ لأن أمها من قبيلة وعمتها من قبيلة، فيمكن أن يأتي رجل أجنبي ويأخذ عمتها ويأخذ خالتها؛ لأن خالة المرأة من جهة وعمتها من جهة، فالجمع بينهما لا مانع منه.
فالمقصود بالنسبة إلى المرأة التي يجمع بينها وبين امرأة أخرى، أي: بين المرأة ومن هي عمة لها، وبين المرأة ومن هي خالة لها، أو بين المرأة ومن هما خالتان لها، أو المرأة ومن هما عمتان لها، والخالتان هما خالة المرأة وخالة أمها، فخالة أمها خالتها، أي: أخت أمها وأخت جدتها، فلا يجمع بين المرأة وخالتيها.
وكذلك لا يجمع بين المرأة وعمتيها، سواء بين عمة واحدة أو عمتين، وهما العمة القريبة والعمة البعيدة، هذا هو الذي يظهر في معنى الحديث، وأن الجمع إنما يكون بين المرأة وبين نساء ينسبن إليها.
إذاً فالحديث معناه متوافق مع القاعدة المعروفة والأحاديث التي تقدمت أنه لا يجمع بين المرأة وعمتها إذا كانت عمتها واحدة، ولا مع عمتيها حيث يكون لها عمتان: أخت أبيها وأخت جدها، ولا بين المرأة وخالتها حيث يكون لها خالة واحدة، ولا بينها وبين خالتيها حيث يكون لها خالتان: أخت أمها وأخت جدتها أم أمها.
ويتضح الأمر بأن تنسب المرأة إلى المرأة، فالمرأة التي كانت عنده لا يضيف إليها واحدة قريبة لها، سواءٌ أكانت عمة أم عمتين، وخالة أم خالتين، أو عمة وخالة بأن يجمع إليها عمتها وخالتها، فكل واحدة منهما على انفرادها لا تجوز، فكذلك عند اجتماعهما من باب أولى لا يجوز ذلك؛ لأنه فعل المحرم من جهتين: من جهة العمة ومن جهة الخالة.
وأما مسألة الأجنبية فليس فيها إشكال، فيجوز لأخيك من أبيك أن يتزوج أختك من أمك، وذلك في مثل امرأة تزوجها رجل وولدت له بنتاً، ثم مات عنها أو طلقها فتزوجها رجل آخر وجاءت منه بولد، فيكون أخاً لأولاد أمه من الأم وأخاً لأولا أبيه من الأب، فأخوه من أبيه يجوز أن يتزوج أخته من أمه، وأخوه من أمه يجوز أن يتزوج أخته من أبيه؛ لأنهم أجانب فيما بينهم، فأخوك من أبيك يجوز له أن يتزوج أختك من أمك، وتصير أنت عمّاً وخالاً في آن واحد، عماً من جهة الأب وخالاً من جهة الأم، أي أن الزوج أخوك من أبيك، والمرأة أختك من أمك.(238/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (كره أن يجمع بين العمة والخالة, وبين الخالتين والعمتين)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا خطاب بن القاسم].
خطاب بن قاسم ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن خصيف].
هو خصيف بن عبد الرحمن، وهو صدوق سيئ الحفظ، أخرج له أصحاب السنن.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث ضعفه الألباني ولعله من جهة خصيف بن عبد الرحمن، وقد عرفنا معنى الحديث والمراد به.(238/9)
شرح تفسير عائشة لقوله تعالى: ((وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى))
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح المصري حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] قالت: يا ابن أختي! هي اليتيمة تكون في حجر وليها فتشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثلما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.
قال عروة: قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ} [النساء:127]، قالت: والذي ذكر الله أنه يتلى عليهم في الكتاب الآية الأولى التي قال الله سبحانه فيها: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3]، قالت عائشة: وقول الله عز وجل في الآية الآخرة: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ} [النساء:127] هي رغبة أحدكم من يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن.
قال يونس: وقال ربيعة في قول الله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:3] قال: يقول: اتركوهن إن خفتم؛ فقد أحللت لكم أربعاً].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها في نزول قول الله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3]، وأنهم كانوا إذا كان الرجل عنده ابنة عم وهي ذات جمال ومال فهو لا يريد أن يزوجها غيره رغبة في مالها وأن يتزوجها، ويكون هو الذي يستفيد من مالها، ولا يعطونهن ما يستحققن من المهر، فيرغب فيها من أجل مالها ولا يعطيها حقها، فأنزل الله هذه الآية فقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:3] يعني: بأن لا تعطوهن ما يستحققن من المهر فاتركوهن وانكحوا ما طاب لكم من النساء سواهن مثنى وثلاث ورباع، فجواب الشرط: (إن خفتم) محذوف دل عليه ما قبله، وقد جاءت الإشارة إليه في الحديث: (اتركوهن وانكحوا ما طاب لكم) أي: اتركوهن لا تتزوجوهن، وكما أنكم إذا كن قليلات المال لا ترغبون فيهن فكذلك إذا كن كثيرات المال لا تتزوجوهن إلا إذا أعطيتموهن ما يستحققن، ثم أيضاً لابد من أن ترضى به أن يتزوجها ويعطيها ما تستحق من المهر.
وعلى هذا فمعنى الآية الأولى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء:3] إذا كان عند الواحد منكم امرأة هو وليها أو هو ابن عمها ولها مال وهي جميلة وأراد أن يتزوجها ولا يريد أن يتزوجها غيره فإنه إذا تزوجها وكان ذلك بموافقتها أن يعطيها المهر كاملاً ولا ينقصها، وكما أنها لو كانت غير ذات مال وغير ذات جمال يرغب عنها فكذلك إذا رغب فيها عليه أن يعطيها ما تستحق، وفي الآية الثانية: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ} [النساء:127]، ومعناها محتمل أن يكون المراد به: (ترغبون عنهن) أو (ترغبون فيهن)، فهم يرغبون فيهن إذا كن ذات مال وجمال، ويرغبون عنهن إذا كن مقلات وغير جميلات، فكما أنكم لا ترغبون فيهن إذا كن مقلات وغير جميلات فكذلك إذا كن ذات أموال وجميلات إن تزوجتموهن فأعطوهن ما يستحققن من المهر، وإلا فاتركوهن وتزوجوا ما طاب لكم من النساء اثنتين اثنتين، أو ثلاثاً ثلاثاً، أو أربعاً أربعاً.
والحديث ليس واضحاً في الدلالة على الترجمة.(238/10)
تراجم رجال إسناد تفسير عائشة لقوله تعالى: ((وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى))
قوله: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح المصري].
أحمد بن عمرو بن السرح المصري ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير].
مر ذكرهم.
[أنه سأل عائشة].
عائشة رضي الله تعالى عنها مر ذكرها.(238/11)
شرح خُطبته صلى الله عليه وسلم حين أراد علي نكاح بنت أبي جهل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثني أبي عن أبي الوليد بن كثير حدثنا محمد بن عمرو بن حلحلة الدؤلي أن ابن شهاب حدثه أن علي بن الحسين رضي الله عنهما حدثه أنهم حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما لقيه المسور بن مخرمة رضي الله عنهما فقال له: هل لك إلي من حاجة تأمرني بها؟ قال: فقلت له: لا، قال: هل أنت معطي سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فإني أخاف أن يغلبك القوم عليه، وايم الله! لئن أعطيتنيه لا يخلص إليه أبداً حتى يبلغ إلى نفسي، إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خطب بنت أبي جهل على فاطمة رضي الله عنها، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخطب الناس في ذلك على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم، فقال: (إن فاطمة مني، وأنا أتخوف أن تفتن في دينها)، قال: ثم ذكر صهراً له من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه فأحسن، قال: (حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي، وإني لست أحرم حلالاً ولا أحل حراماً، ولكن والله! لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبنت عدو الله مكاناً واحداً أبداً)].
أورد أبو داود حديث مسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنهما أن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لما قدم المدينة بعد مقتل الحسين لقيه المسور وقال: [هل لك إلي من حاجة؟] أي: أنه يعرض عليه، وهذا مثلما يعرضون اليوم فيقولون: أي خدمة، أي: هل من خدمة تريد أن أقوم بها؟ فقال المسور: هل لك من حاجة تكلها إلي؟ فقال: لا، فقال: [هل أنت معطيَّ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟] يعني: حتى أحافظ عليه، فأنا أخشى أن يخلص إليه وأنك لا تستطيع الإبقاء عليه، فأنا أحفظه وأخفيه فلا يصل إليه أحد، ثم إنه أتى بقصة كون علي بن أبي طالب رضي الله عنه خطب ابنة أبي جهل، فقال: [إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خطب بنت أبي جهل على فاطمة رضي الله عنها، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخطب الناس في ذلك على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم فقال: (إن فاطمة مني، وأنا أتخوف أن تفتن في دينها)].
فأخبر المسور أن علياً رضي الله عنه خطب ابنة أبي جهل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب وقال: (إن فاطمة مني، وأنا أتخوف أن تفتن في دينها)، وذلك أنها إذا تزوج عليها علي ابنة أبي جهل فقد يحصل لها الغيرة ويحصل لها شيء من الضرر، وقد يحصل لها فتنة في دينها، وهي بضعة منه يريبه ما رابها، ويسره ما سرها، وأنها لا تجتمع هي وبنت عدو الله، وعدو الله هو أبو جهل، وهذا فيه بيان أن السوء الذي يحصل من الآباء فإنه مذمة وإن كان الابن أو البنت في حالة الاستقامة وفي حالة السلامة، إلا أن ذلك فيه ضرر، والنسبة إليه نسبة مذمومة؛ لأنه شخص مذموم، فلا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله في واحد.
ومعنى: [(أن تفتن في دينها)] أي: أن يحصل لها من الغيرة وغيرها ما يؤثر عليها في دينها ودنياها.
قال: [ثم ذكر صهراً له من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه فأحسن، قال: (حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي)].
وهذا الصهر هو أبو العاص بن الربيع زوج زينب رضي الله عنها، وهو الذي أثنى عليه، وكان من بني عبد شمس، وكان قد أسر يوم بدر وأطلق، وطلب منه النبي أن يرسل ابنته فأرسلها إليه؛ لأنه وعده وصدقه في وعده، ثم إنه جاء مسلماً وأعادها إليه بالزواج الأول، فأثنى على ذلك الصهر الذي عامله معاملة طيبة.
قوله: [(وإني لست أحرم حلالاً ولا أحل حراماً)].
يعني: أن زواج علي سائغ، ولكن فاطمة بضعة منه يريبه ما أرابها.
قوله: [(ولا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله مكاناً واحداً أبداً)]، وقد كانت بنت أبي جهل مسلمة، فخطبها وهي مسلمة.(238/12)
تراجم رجال إسناد خُطبته صلى الله عليه وسلم حين أراد علي نكاح بنت أبي جهل
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد].
يعقوب بن إبراهيم بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبي].
أبوه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الوليد بن كثير].
حدثنا الوليد بن كثير صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن عمرو بن حلحلة].
محمد بن عمرو بن حلحلة ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[أن ابن شهاب حدثه].
ابن شهاب مر ذكره.
[أن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما حدثه] هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والمسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنهما صحابي ابن صحابي، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(238/13)
إسناد آخر لحديث خطبة علي لبنت أبي جهل، وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة، وعن أيوب عن ابن أبي مليكة بهذا الخبر، قال: فسكت علي عن ذلك النكاح].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى، وفيه زيادة: [فسكت علي عن ذلك النكاح] أي: الذي كان يفكر فيه، وأعرض عن ذلك.
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، وهوثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن عروة، وعن أيوب عن ابن أبي مليكة].
الزهري وعروة مر ذكرهما، وأيوب هو ابن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قوله: [بهذا الخبر، قال: فسكت علي عن ذلك النكاح].
أي: بالخبر الذي مر ذكره في السياق السابق، وفيه الزيادة: [فسكت علي عن ذلك النكاح] يعني: أنه أعرض عنه لما سمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.(238/14)
طريق أخرى لقصة خطبة علي السابقة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن يونس وقتيبة بن سعيد المعنى، قال أحمد: حدثنا الليث حدثني عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة القرشي التيمي أن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما حدثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر يقول: (إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها) والإخبار في حديث أحمد].
أورد أبو داود حديث مسور بن مخرمة من طريق أخرى، وفيه أن مما قاله النبي صلى الله عليه وسلم أن بني هشام بن المغيرة استأذنوه، وهم آل تلك المرأة التي خطبها علي، فقد جاءوا يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم في أن يزوجوا علياً، فالنبي صلى الله عليه وسلم خطب وقال: [(لا آذن، ثم لا آذان، ثم لا آذن، إلا إذا أراد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها)].
وقول المصنف: [الإخبار في حديث أحمد]، يعني به: قوله أحمد بن يونس: [حدثنا الليث]، أي أنه رواه بلفظ التحديث، ومعنى هذا أن حديث قتيبة إنما هو بالعنعنة، فالإخبار موجود في رواية أحمد بن يونس، وهو شيخه الأول.
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وقتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال أحمد: حدثنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري، هو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة أن المسور بن مخرمة].
قد مر ذكرهما.(238/15)
شرح سنن أبي داود [239]
جعل الله تبارك وتعالى الزواج مودة ورحمة بين الزوجين، ولذا كان المقصود من النكاح الدوام والبقاء، ولتحقيق هذا الغرض حرم الشرع أنواعاً من الأنكحة تفضي إلى النزاع وتنتهي بالفراق غالباً، فلا تحقق المقصد الشرعي من الزواج، ومن ذلك: نكاح المتعة، ونكاح الشغار، ونكاح التحليل، وقد حث الشرع الخاطب على النظر إلى المخطوبة؛ لأن ذلك أحرى أن يؤدم بينهما.(239/1)
نكاح المتعة(239/2)
شرح حديث سبرة في تحريم متعة النساء
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في نكاح المتعة.
حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا عبد الوارث عن إسماعيل بن أمية عن الزهري قال: كنا عند عمر بن عبد العزيز فتذاكرنا متعة النساء، فقال له رجل يقال له: ربيع بن سبرة: أشهد على أبي أنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنها في حجة الوداع].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في نكاح المتعة] أي: في تحريمه، ونكاح المتعة هو النكاح إلى أجل، فإذا جاء الأجل انتهى العقد، وقد كان ذلك سائغاً ثم نسخ وصار محرماً لا يجوز فعله.
والنكاح المشروع هو النكاح غير المؤقت الذي يدخل فيه على التأبيد دون أن يكون له أجل ينتهي إليه، وإنما يبقى إلى أن يحصل طلاق أو تحصل وفاة، وأما أن يكون له أجل ينتهي إليه فهذا هو نكاح المتعة الذي كان حلالاً ثم حرم.
وأورد أبو داود حديث الزهري أنهم كانوا عند عمر بن عبد العزيز فتذاكروا نكاح المتعة، قال: [فقال له رجل يقال له: ربيع بن سبرة: أشهد على أبي أنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها في حجة الوداع]، والمعروف والمشهور أن تحريم المتعة إنما كان عام الفتح، والشيخ الألباني رحمه الله قال: إن هذا شاذ، والمحفوظ أن ذلك عام الفتح؛ لأن هذا جاء من رواية إسماعيل بن أمية عن الزهري، وقد خالفه غيره عن الزهري، فذكرو أن ذلك كان عام الفتح وليس في عام حجة الوداع.
وهذا الحديث دليل على تحريمها وأنها كانت مباحة أولاً ثم حرمت، أي: المتعة.(239/3)
حكم النكاح بنية الطلاق
وهناك نكاح آخر هو النكاح بنية الطلاق، وهو ليس من قبيل نكاح المتعة؛ لأن نكاح المتعة يتفق فيه بين الطرفين على أن ينتهي الزواج بالأجل، وأما النكاح بنية الطلاق فهو أن الزوج قد يتزوج وهو ينوي أن يطلق، فهذا ليس من قبيل المتعة، ولكنه لا يليق ولا ينبغي، وكثيرٌ من العلماء أجازوه؛ لأنه ليس نكاح متعة، ولكن الأولى عدم فعله وعدم الإقدام عليه، فالإنسان يتزوج بنية الدوام وإذا بدا له أن يتخلص منها لأمر من الأمور فيمكنه ذلك بالطلاق.
فالإنسان -كما هو معلوم- لا يرضى النكاح بنية الطلاق لبنته ولا لأخته، فعليه أن يعامل الناس كما يحب أن يعاملوه به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)، فالإنسان إذا أراد أن يتزوج فليتزوج، لكن لا يضمر في نفسه عند الزواج أنه سيطلق، وإنما يكون في نفسه أنه يتزوج، ثم إن رأى أن الأمر يحتاج إلى الاستمرار لما وجده فيها من أمور تقتضي ذلك استمر وإلا طلق، وأما كونه عند العقد يضمر بأنه سيطلق، فهذا ليس من نكاح المتعة، ولكنه لا يليق بالرجل، وهو خلاف الأولى.(239/4)
تراجم رجال إسناد حديث سبرة في تحريم متعة النساء
قوله: [حدثنا مسدد بن مسرهد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الوارث].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسماعيل بن أمية].
إسماعيل بن أمية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[فقال له رجل يقال له: ربيع بن سبرة].
ربيع بن سبرة ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[أشهد على أبي أنه حدث].
أبوه هو سبرة بن معبد، وهو صحابي، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.(239/5)
شرح حديث سبرة في تحريم متعة النساء من طريق ثانية وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن ربيع بن سبرة عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرم متعة النساء].
أورد هنا حديث سبرة بن معبد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم متعة النساء، وهذا اللفظ مطلق وليس فيه تقييد بالزمن الذي حصل فيه التحريم.
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن ربيع بن سبرة عن أبيه].
قد مر ذكر الثلاثة.(239/6)
الشغار(239/7)
شرح حديث نهيه صلى الله عليه وسلم عن الشغار
قال رحمه الله تعالى: [باب في الشغار.
حدثنا القعنبي عن مالك.
ح: وحدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا يحيى عن عبيد الله كلاهما عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الشغار).
زاد مسدد في حديثه: قلت لـ نافع: ما الشغار؟ قال: ينكح ابنة الرجل وينكحه ابنته بغير صداق، وينكح أخت الرجل وينكحه أخته بغير صداق].
أورد أبو داود [باب في الشغار] أي: في نكاح الشغار، وهو الذي يكون فيه التزويج بشرط التزويج، أي: لا يُزوَّج إلا إذا زَوَّج، كأن يزوج هذا بنته على أن يزوجه الآخر بنته، فهناك شرط بين الطرفين أنه لا يُزوَّج إلا إذا وافق على أن يُزوِّج، فهو مبادلة، وهذا لا يجوز، ومن العلماء من قال: إذا كان بدون صداق فهو حرام، وأما إذا كان بصداق فإنه لا بأس به.
والذي يظهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت عنه ما يدل على أن ذلك مقيد بالصداق، ومجيء التقييد بالصداق هو من تفسير نافع مولى ابن عمر أحد رواة الحديث، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فما جاء عنه في الأحاديث ما يدل على أنه مقيد بالصداق، وما جاء في الأحاديث فهو لفظ مطلق، فيشمل ما كان بصداق وما كان بدون صداق، ولو وجد الصداق فإن هذا فيه الإضرار بالنساء، وهو أن الإنسان يزوج من أجل رغبته لا رغبة موليته، ومن أجل مصلحته لا مصلحتها، فالولي ينظر إلى مصلحته لا إلى مصلحة موليته، فيضعها في محل غير مناسب من أجل مصلحته.
ثم -أيضاً- قد يترتب على ذلك الخلاف في الزواج من أحد الطرفين، فيترتب على ذلك بالمقابل التخلص من الزواج الثاني بناءً على المشاكل التي حصلت في أحد الزواجين، كل ذلك يترتب على هذا الاشتراط، فكون الإنسان يزوج بدون أن يشترط، وبدون أن يكون هناك ربط زواج بزواج هو الذي يظهر جوازه، وأما تقييده بالصداق وأنه إذا وجد صداق فإنه لا بأس به فإنه ليس بصحيح؛ لأن الحديث الذي سيأتي فيه: أن معاوية رضي الله عنه أمر بالتفريق وقد جعلوا صداقاً، وهو يدل على أنه إذا كان هناك صداق فالحكم واحد فيما يبدو ويظهر.
ولشيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه رسالة في مسائل في النكاح مخالفة للشرع ومنها مسألة الشغار، وقد تكلم فيها على هذه المسألة، وبين أن الأدلة لم يأت فيها ما يدل على قصره على عدم الصداق، بل قد جاء فيها ما يدل على أنه ولو وجد الصداق فإنه يكون شغاراً، وأنه يمنع منه، وأنه يفرق بسببه الزواج وإن وجد كما جاء في حديث معاوية رضي الله تعالى عنه وأرضاه الذي سيأتي.
قوله: [ينكح ابنة الرجل وينكحه ابنته بغير صداق، وينكح أخت الرجل وينكحه أخته بغير صداق].
هذه أمثلة لزواج لشغار، وسواءٌ أكانت المقابلة بين أخت وأخت، أم بين بنت وبنت، أم بين أخت وبنت، فالمهم أن يكون فيه اشتراط زواج بزواج، وأنه لا يُزوِّج إلا إذا زُوِّج.
وأما إذا خطب أناس من غيرهم وأعطوهم المهر، ثم جاء أولئك وخطبوا منهم وأعطوهم المهر دون اشتراط فهذا لا بأس به.(239/8)
تراجم رجال إسناد حديث نهيه صلى الله عليه وسلم عن الشغار
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ح: وحدثنا مسدد بن مسرهد].
قوله: [ح] للتحول من إسناد إلى إسناد.
ومسدد بن مسرهد مر ذكره.
[عن يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر العمري المصغر، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(239/9)
شرح حديث إبطال معاوية رضي الله تعالى عنه نكاح الشغار
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد الرحمن بن هرمز الأعرج أن العباس بن عبد الله بن العباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته، وكانا جعلا صداقاً، فكتب معاوية رضي الله عنه إلى مروان يأمره بالتفريق بينهما، وقال في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم].
أورد أبو داود حديث معاوية رضي الله عنه أنه لما حصل التزويج بين طرفين كل منهما قد زوج الآخر ابنته وقد جعلوا صداقاً كتب معاوية إلى مروان للتفريق بينهما، وقال: [هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم] فدل هذا على أنه ولو وجد الصداق فإن المحاذير موجودة.
ثم إن الصداق قد يقل فيه، وقد تبخس النساء حقوقهن بسبب ذلك، فهو وإن وجد الصداق لكنه مربوط ومقيد بشرط وهو: أنه لا زواج إلا بزواج، فإنه لا يصح ولو وجد الصداق، وهذا الحديث يدل على ذلك.(239/10)
تراجم رجال إسناد حديث إبطال معاوية رضي الله تعالى عنه نكاح الشغار
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا يعقوب بن إبراهيم].
هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبي].
هو إبراهيم بن سعد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني عبد الرحمن بن هرمز الأعرج].
عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وذكر هنا باسمه ولقبه.
والصحابي راوي الحديث هو معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(239/11)
التحليل(239/12)
شرح حديث: (لعن الله المحلل والمحلل له)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التحليل.
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثني إسماعيل عن عامر عن الحارث عن علي رضي الله عنه -قال إسماعيل: وأراه قد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لعن الله المحلَّل والمحلَّل له)].
أورد أبو داود [باب في التحليل]، وهو تحليل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول، وذلك بأن ينكحها شخص لا يريد الزواج ولكن يريد أن يرجعها أو يحللها للزوج الأول الذي طلقها ثلاثاً وحرم عليه الزواج منها حتى تنكح زوجاً غيره، فهذا هو التحليل، وقد جاءت السنة بتحريمه وأنه لا يجوز، فالزوج الثاني الذي يتزوجها لا يتزوجها للتحليل وإنما يتزوجها زواج رغبة، ثم إن بدا له أن يطلق طلق، وأما أن يتزوج من أجل التحليل -سواءٌ أكان متفقاً مع الزوج الأول أم لم يكن متفقاً معه ولكنه أراد أن يتزوج من أجل أن يحللها له - فإن هذا لا يجوز، وهو محرم، وقد جاء حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لعن الله المحلل والمحلل له)]، والمحلل والمحلل له إذا كانا متفقين على التحليل فكل منهما ملعون؛ لأن هذا أقدم على هذا العمل المحرم، وذاك سعى إلى أن يوجد هذا العمل المحرم، أعني الزوج الأول الذي اتفق مع الثاني على التحليل.
وأما إذا كان الزوج الأول لا يعلم بذلك وأن النية كانت مضمرة عند الزوج الثاني فإنه لم يحصل من الزوج الأول شيء يقتضي لعنه؛ لأنه لا يعرف شيئاً، وما اتفق مع الثاني ولا طلب منه ولا أشار إليه، وإنما حصل أن شخصاً تزوج ثم طلقها وهو لا يعرف أنه قصد التحليل، فلا يكون ملعوناً، وإذا علم وعرف بأنه تزوجها من أجل التحليل فلا يتزوجها، أعني الزوج الأول.
وهناك مسألة أخرى في هذا الباب وهي: إذا تزوجها الزوج الثاني ليحللها للأول ثم أعجبته فأراد أن يمسكها فإن عليه أن يعيد العقد؛ لأن عقده الأول وزواجه الأول بها محرم لا يجوز، فيعقد عليها من جديد.(239/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (لعن الله المحلل والمحلل له)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني إسماعيل].
هو إسماعيل بن أبي خالد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عامر].
هو عامر بن شراحييل الشعبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحارث].
هو الحارث بن عبد الله الهمداني الأعور، وفي حديثه ضعف، وحديثه أخرجه أصحاب السنن.
[عن علي].
هو علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة، والحديث جاء من طريق أخرى ليست من طريق الحارث.(239/14)
طريق أخرى لحديث: (لعن الله المحلل والمحلل له)، وتراجم رجالها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن حصين عن عامر عن الحارث الأعور عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم -قال: فرأينا أنه علي عليه السلام- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعناه].
أورد المصنف الحديث السابق من طريق أخرى وهي بمعنى الحديث الذي قبله: (لعن الله المحلل والمحلل له).
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
هو وهب بن بقية الواسطي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن خالد] هو خالد بن عبد الله الواسطي الطحان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حصين].
هو حصين بن عبد الرحمن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عامر عن الحارث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم].
الرجل هو علي، ولذلك قال: [فرأينا أنه علي].(239/15)
نكاح العبد بغير إذن مواليه(239/16)
شرح حديث: (أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في نكاح العبد بغير إذن مواليه.
حدثنا أحمد بن حنبل وعثمان بن أبي شيبة وهذا لفظ إسناده، وكلاهما عن وكيع حدثنا الحسن بن صالح عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر)].
أورد أبو داود [باب في نكاح العبد بغير إذن مواليه] يعني أن ذلك لا يجوز؛ لأن العبد ملك لسيده، ومنافعه مملوكة لسيده، فرقبته مملوكة، ومنافعه مملوكة، فليس له أن يتصرف في نفسه بزواج ولا بغيره، وإذا حصل منه الزواج بغير إذن سيده فإنه عاهر، أي: زان، فحكمه حكم الزاني، أي أن ذلك لا يجوز.(239/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[وعثمان بن أبي شيبة].
هو عثمان بن أبي شيبة الكوفي، ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في (عمل اليوم والليلة) وابن ماجة.
[كلاهما عن وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن بن صالح].
هو الحسن بن صالح بن حي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن محمد بن عقيل].
عبد الله بن محمد بن عقيل صدوق في حديثه لين، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(239/18)
شرح حديث: (إذا نكح العبد بغير إذن مواليه فنكاحه باطل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا أبو قتيبة عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا نكح العبد بغير إذن مواليه فنكاحه باطل).
قال أبو داود: هذا الحديث ضعيف، وهو موقوف، وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما].
أورد حديث أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما رجل نكح بغير إذن مواليه فنكاحه باطل)]، وقال أبو داود: إنه ضعيف، وهو أيضاً موقوف، والضعف فيه من جهة عبد الله بن عمر العمري المكبر أخو عبيد الله، فهو ضعيف.(239/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا نكح العبد بغير إذن مواليه فنكاحه باطل)
قوله: [حدثنا عقبة بن مكرم].
عقبة بن مكرم ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا أبو قتيبة].
هو سالم بن قتيبة الشعري، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عمر].
هو عبد الله بن عمر العمري المكبر، وهو ضعيف، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.
[عن نافع عن ابن عمر].
قد مر ذكرهما.(239/20)
كراهية أن يخطب الرجل على خطبة أخيه(239/21)
شرح حديث أبي هريرة: (لا يخطب الرجل على خطبة أخيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كراهية أن يخطب الرجل على خطبة أخيه.
حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يخطب الرجل على خطبة أخيه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: كراهية وهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه؛ وذلك أن يتقدم شخص لخطبة امرأة ولا يردونه، وإنما يمهلونه أو يعدونه على أن يخبروه برأيهم، فإذا علم أحد بأنه تقدم للخطبة لا يجوز له أن يتقدم حتى يعرف أنه تَرك أو أنه تُرِك، فإذا لم يكن كذلك فإنه لا يجوز؛ لأن فيه سعياً للحيلولة بينه وبين ما أقدم عليه، فهم لم يرفضوه، فيكون في ذلك إفساد لما بينهم وبين ذلك الرجل، فلا يجوز لأحد علم تقدمه بالخطبة أن يخطب تلك المرأة، وأما إذا كان لا يعلم فليس هناك محذور؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل، وإنما المحذور فيما إذا كان عن علم.(239/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يخطب الرجل على خطبة أخيه)
قوله: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح].
أحمد بن عمرو بن السرح ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان ابن عيينة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري مر ذكره.
[عن سعيد بن المسيب] سعيد بن المسيب ثقة فقيه، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله صلى الله علي وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(239/23)
شرح حديث ابن عمر: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الله بن نمير عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه، ولا يبع على بيع أخيه إلا بإذنه)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر قال: قال عليه الصلاة والسلام: (لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يبع على بيع أخيه إلا بإذنه)].
قوله: [(لا يخطب على خطبة أخيه)] عرفنا معناه سابقاً وهو محل الشاهد في الترجمة.
ثم قال: (ولا يبع على بيع أخيه)] وهذا يتعلق بالبيوع، والبيع على بيع أخيه يكون فيما إذا كان هناك بيع فيه شرط خيار بينهما على أن كلاً منهما له الخيار لمدة ثلاثة أيام أو خمسة أيام وما إلى ذلك، فيأتي شخص إلى المشتري ويقول له: افسخ العقد وأنا أبيعك سلعة أخرى مثلها بأرخص منها، فهذا هو البيع على بيع الأخ، وهذا لا يجوز.
قوله: [(إلا بإذنه)].
يعني: إذا كان البائع الذي له مدة خيار قال: أنا لا أرغب في البيع وترك البيع وأراد الآخر أن يبيع للمشتري فلا بأس بذلك، ولا يعتبر أنه قد باع على بيعه؛ لأنه قد ترك وأذن له.(239/24)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا عبد الله بن نمير].
عبد الله بن نمير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
هو عبيد الله بن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن ابن عمر].
قد مر ذكرهما.(239/25)
الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد أن يتزوجها(239/26)
شرح حديث: (إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد تزويجها.
حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا محمد بن إسحاق عن داود بن حصين عن واقد بن عبد الرحمن -يعني ابن سعد بن معاذ - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)، قال: فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجها فتزوجتها].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وهي [باب في الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد تزويجها]، والمقصود من ذلك أن الخاطب له أن ينظر إلى المخطوبة إلى وجهها ويديها، فوجهها يعرف منه جمالها، ويداها يعرف منهما خصوبة جسمها، وسواءٌ أكان ذلك بعلمها أم بدون علمها، فكل ذلك سائغ، وقصة جابر التي أوردها المصنف فيها أنه اختبأ لها، فصار ينظر إليها وهي لا تعلم، ولكن سواءٌ أكان بعلمها أم بدون علمها فكل ذلك جائز، فلو جاء بها وليها ودخلت ورآها الخاطب فإنه يحصل المقصود، وإذا لم يحصل هذا ولكنه نظر إليها من ثقب أو من مكان معين فإنه لا بأس بذلك؛ لأن مثل هذا العمل فيه مصلحة، ولأنه قد يكون فيها شيء يقتضي التخلص منها قبل الدخول وقبل الزواج، ولا شك أن هذا أسهل وأخف من أن يكون هناك نكاح وإعلان له ثم يحصل طلاق، فهذا أهون وأخف، والشريعة جاءت بجواز ذلك.
وقد أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(إذا خطب أحدكم امرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)]، وقوله: [(فإن استطاع)] يدل على أن الأمر للإرشاد والتوجيه وليس بلازم، فليس المعنى أنه لابد من أن ينظر إليها، بل يمكن أن يتزوجها دون أن ينظر إليها قال جابر: فخطبت امرأة فكنت أختبئ لها، فرأيتها ورأيت منها ما يدعو إلى تزوجها فتزوجتها، أي أنه نفذ ما أرشد إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.(239/27)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)
قوله: [حدثنا مسدد عن عبد الواحد بن زياد].
عبد الواحد بن زياد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق مر ذكره.
[عن داود بن حصين].
داود بن حصين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن واقد بن عبد الرحمن].
هو واقد بن عبد الرحمن بن سعد بن معاذ، وقال في (تحفة الأشراف): المعروف أنه واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ.
قال الحافظ: ورجاله ثقات، وأعله ابن القطان بـ واقد بن عبد الرحمن، وقال: المعروف واقد بن عمرو، ورواية الحاكم فيها: واقد بن عمرو، وكذا رواية الشافعي وعبد الرزاق.
وفي (تحفة الأشراف): كذا قال، واقد بن عبد الرحمن، والمعروف واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، ويؤيده سياق الحاكم في المستدرك، لكن المزي فرق بينهما في تهذيبه، وزاد التفرقة بينهما وأكدها الحافظ في (تهذيب التهذيب) أيضاً.
قاله الشيخ الألباني.
وواقد بن عمرو بن سعد بن معاذ ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما] قد مر ذكره.(239/28)
الأسئلة(239/29)
اختباء جابر رضي الله عنه لرؤية من أراد خطبتها هل هو في زواجه الأول
في الحديث أن جابراً كان يختبئ ليرى التي يريد الزواج بها، فهل هي التي سأله النبي صلى الله عليه وسلم عنها عندما قال: (تزوجت؟ قال: نعم، قال: بكراً أم ثيباً؟ قال: ثيباً يا رسول الله!)، أم أنها قصة زواج آخر لـ جابر؟
الجواب
ليس هناك شيء يدل على أنها هي، فيمكن أن تكون هي أو غيرها.(239/30)
ما ينظر إليه من بدن المخطوبة
السؤال
ما هو الذي ينظر إليه من المخطوبة؟ وهل يجوز النظر إلى غير الوجه والكفين؟
الجواب
ينظر إلى الكفين والوجه فقط ولا يزيد على ذلك، وهناك خلاف، فبعض العلماء يقول: ينظر إلى شعرها، وبعضهم يرى النظر إلى أكثر من ذلك، وهو المنقول عن ابن حزم.(239/31)
حكم استئذان أبناء عم المرأة عند قصد نكاحها
السؤال
عند بعض القبائل أن من أراد أن يتزوج امرأة فيجب عليه أن يستأذن أبناء عمومتها، فما حكم هذا؟
الجواب
هذا من أمور الجاهلية، فأبناء عمومتها لا يملكونها، وليس لهم أن يمنعوها من الزواج ممن تريد.(239/32)
حكم كتابة بعض الآيات في إناء لتسقى بمائه من تعسرت ولادتها
السؤال
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ويجوز أن يكتب للمصاب وغيره من المرضى شيء من كتاب الله وذكره بالمداد المباح، ويغسل ويسقى كما نص على ذلك أحمد وغيره، قال عبد الله ابن الإمام أحمد: قرأت على أبي: حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا سفيان عن محمد بن أبي ليلى عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا عسر على المرأة ولادتها فليكتب: (باسم الله، لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات:46]، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:35].
قال أبي: حدثنا أسود بن عامر بإسناده بمعناه، وقال: يكتب في إناء نظيف فيسقى.
قال أبي: وزاد فيه وكيع: فتسقى، وينضح ما دون سرتها.
قال عبد الله: رأيت أبي يكتب للمرأة في إجان أو شيء نظيف إلى آخره.
نقل هذا الكلام شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى).
فعلم مما نقله أنه يكتب للمرأة في إناء نظيف فتسقى وينضح به ما دون سرتها؛ لأجل تيسير الولادة، ونقله عن أحمد، فهل يصح هذا الفعل؟
الجواب
هذا الإسناد غير صحيح عن ابن عباس ما دام أن فيه محمد بن أبي ليلى، وأما ما جاء عن بعض السلف كما ذكر ابن تيمية وكذلك ابن القيم في كتاب (زاد المعاد) في كتابة آيات في مناسبات وفي أحوال متعددة فيبدو -والله أعلم- أن ترك ذلك هو الأولى؛ لأنه لا دليل عليه.(239/33)
مراد الحافظ ابن حجر باشتراطه الصحة أو الحسن فيما نقله من أمهات المسانيد والجوامع وغيرها في الفتح
السؤال
قال الحافظ رحمه الله تعالى في مقدمة (هدي الساري): ثم أستخرج ثانياً ما يتعلق به غرض صحيح في ذلك الحديث من الفوائد المتنية والإسنادية من تتمات وزيادات، وكشف غامض، وتصريح مدلس بسماع، ومتابعة سامع من شيخ اختلط قبل ذلك، منتزعاً كل ذلك من أمهات المسانيد والجوامع والمستخرجات والأجزاء والفوائد بشرط الصحة أو الحسن فيما أورده من ذلك.
اهـ.
فما مراد الحافظ بقوله: بشرط الصحة أو الحسن، فهل كل ما أورده الحافظ في الفتح يحكم عليه بهذا الحكم كما هو مشتهر بين طلبة العلم أم أن الحكم مقتصر على ما فصله رحمه الله من فوائد وتتمات وزيادات متعلقة بالحديث المشروح والمتكلم عليه؟
الجواب
هذا الكلام يفهم منه أنه إذا تكلم عليه بضعف أو بصحة فقد حصل المقصود بكلامه المحدد، ولكنه إذا سكت عنه ولم يذكر شيئاً فمقتضى هذا الكلام أنه يكون صحيحاً أو حسناً على حسب كلامه رحمه الله تعالى.(239/34)
حكم ترك المسنون لتأليف القلوب
السؤال
هل يجوز ترك المسنون لمصلحة الدعوة، ولتأليف القلوب؟
الجواب
تأليف القلوب يكون باتباع السنة والدعوة إليها، وليس بترك السنن من أجل أن يحصَّل شيئاً وقد لا يحصله، فيكون بذلك قد خسر هذا وهذا.(239/35)
حكم السلام على المرأة حال الحاجة إلى تكليمها
السؤال
الرجل قد يضطر إلى أن يتكلم مع المرأة الشابة لأمر من الأمور من وراء حجاب، فهل يبدأ الحديث بالسلام ويختمه بالسلام؟
الجواب
بداية الكلام هو السلام، لكن الكلام مع الشابة أو مع غير الشابة إنما يكون في حدود المقصود والمطلوب، مثل أن يتصل بالهاتف فترد امرأة، فأولاً يسلم، ثم يسأل عن الشخص هل هو موجود أو غير موجود؟ وينتهي عند هذا الحد، ولا يكون هناك استرسال في الكلام أخذاً وعطاءً.(239/36)
توضيح القاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف)
السؤال
ما قولكم فيمن يقول بأنه لا إنكار في مسألة الغناء بالموسيقى، وكذلك مسألة التمثيل بحجة أن اختلاف الأمة رحمة وبالقاعدة الفقهية: لا إنكار في مسائل الخلاف؟
الجواب
ليس كل خلاف يكون معتبراً، والمعول عليه هي الأدلة، وإذا اتضح الدليل وكان موجوداً فلا تجوز مخالفته، ولا يجوز ترك الإنكار من أجل أن هناك من خالف في ذلك؛ لأن المعتبر هو ثبوت الدليل وظهور الحق ولو قال بخلافه من قال، فإنه لا يترك الحق من أجل أن فيه خلافاً، ولو كان الأمر أن كل شيء فيه خلاف لا يتكلم فيه لما كان هناك بيان للحق، بل المسائل الخلافية منها ما يكون القول الآخر ليس عليه دليل، أو هو اجتهاد في مقابل نص، أو قياس في مقابل نص واضح جلي، فلابد من الإيضاح والبيان.(239/37)
حكم ضرب الدف في الأعراس للرجال
السؤال
هل يجوز ضرب الدفوف في حفل الزواج للرجال؟
الجواب
لا يجوز ذلك للرجال، وإنما يجوز للنساء فقط؛ لأنه ورد في حق النساء ولم يرد في حق الرجال.(239/38)
حكم الولائم قبل العرس
السؤال
ما يفعله بعض الناس من الولائم قبل النكاح مما يسمى الشَّبْكة وغيرها هل يعتبر من الإسراف؟
الجواب
لا شك أنها من التكلف ومن الأشياء التي تثقل كاهل الزوج، وعدم فعل هذه الأشياء والاكتفاء بوليمة واحدة مع عدم المبالغة فيها هو الذي ينبغي.(239/39)
مدى صحة القول بدفن عيسى عليه السلام بجوار النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
يقول بعض الناس: إن عيسى عليه الصلاة والسلام يدفن بجوار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فما مدى صحة هذا الكلام؟
الجواب
لا أعرف شيئاً عن صحته.(239/40)
معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (وأنا أمنة لأصحابي)
السؤال
جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي) فما المقصود بقوله: (أنا أمنة لأصحابي)؟
الجواب
معناه أن وجوده بينهم أمنة لهم من الخلاف الذي حصل بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، والحديث صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(239/41)
الجواب عن حديث تمتع بعض الصحابة إلى عهد عمر رضي الله عنه
السؤال
جاء في الحديث: (كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى نهى عنه عمر)، فما الجواب عن هذا الحديث؛ إذ إنه يدل على أن المتعة تأخر النهي عنها؟
الجواب
قال ابن القيم في (زاد المعاد في هدي خير العباد رحمه الله تعالى: فإن قيل: فما تصنعون بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر رضي الله عنه حتى نهى عنها عمر رضي الله عنه في شأن عمرو بن حريث، وفيما ثبت عن عمر أنه قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا أنهى عنهما: متعة النساء، ومتعة الحج.
قيل: الناس في هذا طائفتان: طائفة تقول: إن عمر هو الذي حرمها ونهى عنها، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باتباع ما سنه الخلفاء الراشدون، ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح، فإنه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده، وقد تكلم فيه ابن معين، ولم ير البخاري إخراج حديثه في صحيحه مع شدة الحاجة إليه، وكونه أصلاً من أصول الإسلام، ولو صح عنده لم يصبر عن إخراجه والاحتجاج به.
قالوا: ولو صح حديث سبرة لم يخف على ابن مسعود رضي الله عنه حتى يروي أنهم فعلوها ويحتج بالآية، وأيضاً ولو صح لم يقل عمر: إنها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهى عنها وأعاقب عليها، بل كان يقول: إنه صلى الله عليه وآله وسلم حرمها ونهى عنها، قالوا: ولو صح لم تفعل على عهد الصديق وهو عهد خلافة النبوة حقاً.
والطائفة الثانية رأت صحة حديث سبرة، ولو لم يصح فقد صح حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرم متعة النساء، فوجب حمل حديث جابر على أن الذي أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريم، ولم يكن قد اشتهر حتى كان زمن عمر رضي الله عنه، فلما وقع فيها النزاع ظهر تحريمها واشتهر، وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة فيها، وبالله التوفيق.
وهذا يوضح المقصود، وأنه يبلغهم، وبعد ذلك اشتهر وظهر في عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه، ويشبه هذا حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن) مع أنهن منسوخة، ولكن لقرب العهد كان بعض الناس بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم يقرءونها ولم يعلموا بالنسخ، فهذا من هذا القبيل كما قال ابن القيم.(239/42)
حكم اشتراط الولي على الزوج ترك الزواج على موليته
السؤال
هل لولي المرأة أن يشترط في العقد ألا يتزوج الزوج على ابنته؟
الجواب
لا بأس بذلك؛ لأنه يريد أن بنته لا تضار ولا يحصل لها يضرها، والإنسان الذي لا يريد هذا الشيء عليه أن يبحث عن غيرها، والأمر فيه سعة، ولكن المحذور هو أن تكون المرأة موجودة ثم تأتي امرأة وتشترط طلاق الموجودة التي حصل لها رزق وخير، وأما ما ذكر في السؤال فلا بأس به.(239/43)
حكم منع الخاطب من النظر إلى مخطوبته
السؤال
عندنا عادة وهي أننا لا نسمح للخاطب أن ينظر إلى المخطوبة، وإذا طلب نمنعه، فهل علينا شيء من الإثم؟
الجواب
حصول الإثم لا أعلم به، والنظر ليس بلازم، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن استطعت أن تنظر) يدل على أنه يمكن أن يكون زواج بدون نظر.(239/44)
كلمة توجيهية لطلبة العلم في أيام الإجازة
السؤال
نظراً لانتهاء الدراسة لهذا العام وكون كل الطلبة يرجعون إلى بلدانهم نرجو توجيهكم للطلبة في الدعوة إلى الله جل وعلا؟
الجواب
إن هذه الإجازة فرصة على الإنسان أن يغتنمها ويستفيد منها، وألا تضيع عليه بدون فائدة، وذلك بأن يفعل ما يمكنه فعله مما يعود عليه بالخير ومما يعود على غيره بالخير، وذلك بالقراءة والمطالعة وقراءة بعض الكتب النافعة المفيدة، أو القيام بالدعوة إلى الله عز وجل والدعوة إلى الخير، أو تدريس بعض الناس الذين هم بحاجة إلى تدريسه، فيعلمهم أمور دينهم ويفقههم فيها، وهذا من الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأن الدعوة إلى الله تكون بالتعليم وتكون بالتذكير، وتكون لأناس يعلمهم ولأناس يذكرهم، فكل ذلك من الدعوة إلى الله عز وجل، فالمهم في الأمر أن الإنسان يستفيد من الإجازة، وألا يضيع الفرصة على نفسه دون أن يستغلها فيما يعود عليه وعلى غيره بالخير.
وإذا كان الإنسان ليس عنده إمكانٌ أن يقوم بالدعوة إلى الله عز وجل وأن يعلم غيره فلا أقل من أن يقرأ بعض الكتب النافعة والمفيدة مثل كتاب (إعلام الموقعين) لـ ابن القيم، وهو كتاب نفيس مشتمل على علم عظيم، وعلى ذكر قواعد في الشريعة، وعلى حكم الأحكام الشرعية، وهو مشتمل على أصول وعلى فروع، وكذلك أيضاً كتاب (زاد المعاد في هدي خير العباد)، فهو كتاب عظيم، فإذا قرأ مثل هذه الكتب وخرج من الإجازة وقد قرأ مثل هذه الكتب فإنه يكون قد خرج بربح وفائدة، وإذا لم يوطن نفسه على أن يعمل مثل هذا العمل فإن الإجازة ستنتهي ولم يربح فيها شيئاً ولم يحصَّل فيها طائلاً؛ لأنه فوت الفرصة على نفسه، ولكنه إذا عقد العزم من أول الأمر على أن يجتهد ويستفيد من العطلة فإنه سيحصل وسيستفيد دون أن تضيع عليه سدىً بلا فائدة، هذه نصيحة مختصرة أحب أن أقولها في هذه المناسبة.(239/45)
الموقف من كتاب الأساس في التفسير ومؤلفه
السؤال
ما رأيكم في كتاب الأساس في التفسير لـ سعيد حوى، وما رأيكم في مؤلفه؟
الجواب
لا أعرف الكتاب، لكن أعرف أن صاحب الكتاب مخلط، وأنه لا يصلح أن يقرأ شيء من كتبه لما فيها من التخليط، وعلى الإنسان أن يقرأ الكتب المأمونة والكتب النافعة التي يخرج منها بفائدة، مثل الكتابين اللذين أشرت إليهما: كتاب (إعلام الموقعين) و (زاد المعاد)، ومثل تفسير الشيخ ابن سعدي، فالإنسان إذا أراد أن يقرأ تفسيراً مأموناً وتفسيراً واضحاً يمكنه أن يقرأه ويكمله وهو بعبارات واضحة، جلية فعليه بتفسير الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله، فهو تفسير قيم وعظيم يصلح للعامة والخاصة؛ لأنه بعبارات واضحة يفهمها الخاص والعام، فليس فيه: (قيل كذا وقيل كذا وقيل كذا)، فهذه أشياء قد تشوش على العامة، فإن عباراته واضحة جلية، فهو يحلل الآيات ويبين معانيها بعبارات واضحة جلية مفهومة، فعلى القارئ أن يقرأ لأناس عندهم سلامة من التخليط، ويكونون أهل علم وليسوا أهل مناهج جديدة منحرفة عن الجادة.(239/46)
ما يصنع بعد زواج الشغار مع الجهل
السؤال
إذا تزوج اثنان عن طريق الشغار مع الجهل بالحكم فهل يفرق بينهما؟
الجواب
إذا حصل التراضي والوفاق فإن العقد يجدد.(239/47)
وقت النظر إلى المخطوبة
السؤال
هل النظر إلى المخطوبة يكون قبل الخطبة أم بعدها؟
الجواب
قال بعض أهل العلم: إنه يكون قبل الخطبة، فإذا عزم على أن يخطبها فإنه ينظر إليها قبل أن يخطبها، وقالوا: إنه لو خطبها ثم رآها بعد ذلك فقد لا يرغب فيها، وهذا لا يكون إلا عن طريق الاختباء، وأما عن طريق الطلب فلا سبيل إلى رؤيتها إلا أن يكون خاطباً.(239/48)
شرح سنن أبي داود [240]
الزواج من أعظم الأمور التي ضبطها الإسلام، وجعلها حصناً لحفظ الأعراض والحد من انتشار الفواحش، وقد اشترط الشرع في الزواج أن يصدر من ولي المرأة، وأبطل النكاح إذا كان بغير إذن الولي.(240/1)
الولاية في النكاح(240/2)
شرح حديث (أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الولي.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان أخبرنا ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل -ثلاث مرات- فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في الولي].
أي: الولي الذي يتولى عقد النكاح للزوج على امرأة، فإنه لابد من وجود ولي لها يتولى ذلك، ولا تتولى هي ذلك بنفسها، ولا يتولاه أجنبي عنها ليس من مواليها إلا بتوكيل من الولي، والولاية في النكاح كانت موجودة في الجاهلية، كما جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنهم كانوا في الجاهلية يأتي الرجل إلى الرجل فيخطب وليته منه فيزوجها إياه، فكان هذا الحكم الذي هو لزوم الولي في النكاح من الأمور التي كانت في الجاهلية وأقرها الإسلام.(240/3)
الحكمة في اعتبار الولي في النكاح وأدلة اشتراطه في الكتاب والسنة
ومعلوم أن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تكون بالقول والفعل والتقرير، وقد جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم باشتراط الولي كما في الحديث الذي أورده أبو داود وغيره، وجاء ذلك في القرآن الكريم أيضاً، وجاء أيضاً التقرير لهذا الحكم الذي كان في الجاهلية، وأنه من الأحكام التي كانت موجودة وأقرها الإسلام.
وهو شيء محمود؛ لأن في ذلك إبعاد المرأة عن الظهور بالاشتغال بالزواج والحياء يغلب عليهن، فكان أن جاء الكتاب والسنة باشتراط الولي في النكاح، وأنه لابد من ولي للمرأة يعقد النكاح لها على من يتزوجها، وقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على ذلك، وذلك في قول الله عز وجل: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232]، وهو خطاب للأولياء، فلو كانت المرأة يمكنها أن تعقد لنفسها أو يقوم بذلك أحد من غير أوليائها لما كان هناك حاجة إلى أن ينهى الأولياء عن العضل، حين يعضلونهن أن ينكحن أزواجهن، وذلك أن الآية نزلت في معقل بن يسار رضي الله عنه، وكان له أخت زوجها من قريب لها ثم طلقها، ولما انتهت عدتها جاء يخطبها، فحلف معقل أن لا يزوجها إياه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} أي: الذين طلقوهن وانتهت عدتهن.
أما إذا كان طلقها وهي باقية في العدة فالأمر إلى الزوج؛ لأن له حق الرجعة، ولكنه إذا خرجت المرأة من العدة صار خاطباً من الخطاب إن شاءت أن تعود إليه فوليها لا يمنعها من ذلك، وإن شاءت أن لا تقبله ورغبت في شخص آخر سواه فإن لها ذلك.
فهذه الآية الكريمة فيها نهي الأولياء عن العضل، وهو امتناعهم عن أن يزوجوا الأزواج المطلقين إذا رضيت النساء بهؤلاء الأزواج الذين طلقوهن، فيلزم الولي بأن يعقد لها على زوجها الذي طلقها وانتهت عدتها وأراد أن يتزوجها مرة أخرى، فالآية واضحة الدلالة على أن الولاية لازمة؛ لأنها لو لم تكن لازمة لما كان هناك حاجة إلى أن ينهوا، بل هي تتصرف في نفسها لو كان الأمر إليها، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم جاء فيها من الأحاديث ما أورده أبو داود في هذا الباب، فقد أورد أحاديث تدل على أنه لابد من الولي في النكاح.
فأورد أولاً حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل -ثلاث مرات-)] أي أنه قال: باطل، باطل، باطل.
كرر ذلك للتأكيد، قال: (فإن دخل بها فلها المهر بما أصاب منها، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له)].
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل)] يدل على أن الولاية شرط في النكاح، وأن العقد إذا عقد من غير ولي فإنه يكون باطلاً، وكون المرأة تعقد لنفسها أو توكل أحداً يعقد لها وهي التي تتولى ذلك بغير إذن الموالي فإنه يكون باطلاً كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يدل على العموم، والمعنى أن أي امرأة حصل لها ذلك بغير ولي فإن النكاح يكون باطلاً، ويكون لاغياً كأنه لم يكن؛ لأنه فقد هذا الشرط الذي هو الولي في النكاح.
والمقصود بقوله: [(إذن مواليها)] كونهم يعقدون أو يأذنون لأحد أن يعقد، أي: إما أن يعقد الولي بنفسه أو يأذن لأحد أن يعقد نيابة عنه.
فالمقصود به أن النكاح لا يصح إذا لم يكن من ولي أو وكيل لولي، وليس المقصود به أن المرأة لها أن تزوج نفسها بإذن وليها؛ لأنها ليست لها الولاية في عقد الزواج لنفسها.
والولي هو الذي يكون من عصبتها الأولى فالأولى، أي: الأب، ثم الجد، ثم الابن، ثم ابن الابن، ثم الأخ الشقيق، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق، ثم ابن الأخ لأب، ثم العم الشقيق، ثم العم لأب، ثم ابن العم الشقيق، ثم ابن العم لأب، وهكذا على حسب الترتيب، وغير العصبة لا يكونون أولياء، لا ذوو الأرحام ولا الذين يرثون بالفرض كالإخوة لأم.
ولابد في الولي الذي يتولى العقد من البلوغ، ويقدم الأصول على غيرهم، ويقدم الفروع على الحواشي، ولو عقد الولي الأدنى مع وجود الأعلى صح إذا أقره، فإذا تنازل من له الحق لمن هو دونه صح العقد.(240/4)
إبطال العقد الخالي عن الولي
ثم قال: [(فإن دخل بها)] يعني: إن دخل عليها بهذا العقد الذي هو غير صحيح [(فلها المهر بما أصاب منها)] يعني: هذا الذي دفعه لها مهراً لا يرجع إليه ما دام أنه أصابها وجامعها؛ لأن لها ذلك بما استحل من فرجها.
وإذا اشتجر الأولياء -بمعنى أنهم اختلفوا أو عضلوا- فإن الولاية تنتقل إلى السلطان [(فالسلطان ولي من لا ولي له)]، وهذا يدلنا -أيضاً- على أن المرأة لا حق لها في عقد النكاح؛ إذ جعل الشرع الحق في ذلك للأولياء، ثم تنتقل للسلطان ولا تنتقل إليها، فالأمر يرجع إلى الأولياء، ثم إن كانوا لا يوجدون أو يوجدون ولكنهم عاضلون وممتنعون من تحقيق رغبتها وتزويجها بمن هو أهل للزواج منها فإن ذلك الأمر ينتقل إلى السلطان، لقوله: [(فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له)].(240/5)
تراجم رجال إسناد حديث (أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن موسى].
سليمان بن موسى صدوق، أخرج له مسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن الزهري].
وهو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، والفقهاء السبعة هم: عروة بن الزبير وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وخارجة بن زيد بن ثابت وسليمان بن يسار وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب؛ لأن الستة الأولين متفق على عدهم في الفقهاء السبعة، والسابع فيه ثلاثة أقوال: قيل: هو سالم بن عبد الله بن عمر.
وقيل: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
وقيل: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
فـ عروة بن الزبير أحد فقهاء المدينة السبعة الذين اشتهروا بهذا الاصطلاح، ويأتي ذكرهم به للاختصار إذا كانوا متفقين، وذلك بدلاً من قولهم: فلان وفلان إلخ.
كما ذكروا في زكاة العروض، حيث قالوا فيها: قال بها الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة.
أي: قال بوجوب الزكاة في عروض التجارة الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة، وكلمة (الفقهاء السبعة) تطلق على هؤلاء السبعة لتغني عن سرد أسمائهم.
[عن عائشة].
عائشة هي أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله الأنصاري وأم المؤمنين عائشة، ستة رجال وامرأة واحدة، هؤلاء هم الذين عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(240/6)
شرح حديث (أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي حدثنا ابن لهيعة عن جعفر -يعني ابن ربيعة - عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه.
قال أبو داود: جعفر لم يسمع من الزهري، كتب إليه].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وقال: [بمعناه] يعني: بمعنى اللفظ السابق؛ لأن كلمة (بمعناه) تعني أنه موافق في المعنى وليس مطابقاً في الألفاظ، بخلاف ما إذا قيل: (مثله) أو (بمثله) فإنه مطابق في اللفظ والمعنى، فأحال إلى المتن السابق ولكن قال: [بمعناه]، أي: بمعنى المتن السابق وليس بألفاظه.
ويعتبر هذا الإسناد مقوياً للأول ومسانداً له.(240/7)
تراجم رجال إسناد حديث (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا ابن لهيعة].
هو عبد الله بن لهيعة المصري، وهو صدوق، اختلط لما احترقت كتبه، ولكن ذكر العلماء أن من الرواة من سمع منه قبل الاختلاط، ومنهم العبادلة الأربعة: عبد الله بن مسلمة وعبد الله بن وهب وعبد الله بن المبارك وعبد الله بن يزيد المقرئ المكي، هؤلاء الأربعة سماعهم منه أو روايتهم عنه صحيحة؛ لأنهم سمعوا منه قبل الاختلاط، وهنا الرواية لأحد هؤلاء الأربعة، ومن الذين صح سماعهم عنه قتيبة بن سعيد أيضاً.
وابن لهيعة صدوق اختلط لما احترقت كتبه، وحديثه أخرجه مسلم مقروناً وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
وأما النسائي فإنه لا يخرج له مستقلاً، بل ولا يسميه عندما يكون موجوداً في إسناد مقروناً بغيره، فيبهمه فيقول: (حدثنا فلان حدثنا فلان عن فلان ورجل آخر) فهو لم يخرج له مستقلاً، وإذا ذكر إسناداً فيه ابن لهيعة لا يسمي ابن لهيعة، بل يقول: (ورجل آخر).
[عن جعفر].
هو جعفر بن ربيعة، وهو المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وزيادة: (يعني ابن ربيعة) -كما هو معلوم- زادها من دون تلميذ جعفر هذا؛ لأن تلميذه الذي هو ابن لهيعة قال: (جعفر)، وما زاد، لكن الذي دونه والذي قبله -وهو عبد الله بن مسلمة أو أبو داود أو من دون أبي داود - هو الذي أتى بزيادة (يعني ابن ربيعة) لأن كلمة (يعني) فعل مضارع له فاعل وله قائل، ففاعله ضمير مستتر يرجع إلى ابن لهيعة التلميذ، وقائله من دون ابن لهيعة.
وهذا من دقة المحدثين وعنايتهم واهتمامهم بالمحافظة على الألفاظ وعلى الصيغ التي تأتي؛ لأن من دون ابن لهيعة لو قال: (جعفر بن ربيعة) لظن أن هذا كلام ابن لهيعة، وابن لهيعة ما قال: (جعفر بن ربيعة) بل قال: (جعفر) فقط، فمن دون ابن لهيعة أراد أن يوضح هذا المهمل، وهذا يسمى في علم المصطلح (المهمل) حيث يذكر اسمه ولا يذكر اسم أبيه، أو اسمه واسم أبيه ولا يذكر اسم جده، أو نسبته إذا كان ملتبساً بغيره، فهذا يسمونه (المهمل)، وهذا -كما قلت- من عناية العلماء ودقتهم، وأنهم يحافظون على الألفاظ، وإذا أراد من دون التلميذ أن يوضح ذلك الشخص المهمل فإنه يأتي بكلمة (يعني) حتى يعرف أنها ليست من التلميذ.
قوله: [عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم].
ابن شهاب وعروة وعائشة قد مر ذكرهم جميعاً.(240/8)
الكتابة واعتبارها في التحمل عند علماء الحديث
قوله: [قال أبو داود: جعفر لم يسمع من الزهري، كتب إليه].
معلوم أن هذا الإسناد يقوي ويؤيد الإسناد الأول السابق الذي قبل هذا، وقوله: [لم يسمع من الزهري، كتب إليه] لا يؤثر؛ لأن الكتابة معتبرة؛ لأنه وإن لم يسمع فيكفي أن يكون كتب إليه، والكتابة كانت معتبرة عند المحدثين، وقد كان ذلك موجوداً عند الصحابة، كما في حديث المغيرة بن شعبة ومعاوية في قصة كاتبه وراد في الذكر بعد الصلاة، فإنه قال: (كتب إليه).
وكذلك البخاري استعملها في موضع واحد عن شيخه محمد بن بشار حيث قال: (كتب إلي محمد بن بشار)، فالكتابة طريق معتمدة للرواية لكنها ليست سماعاً.
فهذا الكلام ليس فيه قدح في الرواية، ولكن فيه بيان للواقع، وأن الرواية ليست عن طريق السماع وإنما هي عن طريق الكتابة.(240/9)
شرح حديث (لا نكاح إلا بولي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن قدامة بن أعين حدثنا أبو عبيدة الحداد عن يونس وإسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي).
قال أبو داود: وهو يونس عن أبي بردة، وإسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة].
أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي)] يعني: لا يعتبر النكاح ولا يصح النكاح إلا بولي.
وهذا نفي للصحة، وأنه لا يعتبر ولا يعتد به إلا إذا كان من ولي، وهو دليل من جملة الأدلة على اعتبار الولي، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، وهذا من أدلة السنة على اعتبار الولي في النكاح، وأنه لا يصح إلا بولي، ولا ينعقد النكاح إلا بولي للمرأة يتولى عقد نكاحها.
والولاية في النكاح يعتبرها الجمهور، وبعض الفقهاء يقول بجواز تزويج المرأة نفسها، لكن هذا مخالف لهذه الأحاديث، ومخالف -أيضاً- لما جاء في القرآن في آية {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232].(240/10)
تراجم رجال إسناد حديث (لا نكاح إلا بولي)
قوله: [حدثنا محمد بن قدامة بن أعين].
محمد بن قدامة بن أعين ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا أبو عبيدة الحداد].
عبد الواحد بن واصل، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن يونس].
هو يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو صدوق يهم قليلاً، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[وإسرائيل].
هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق].
هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بردة].
هو أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، وهو مشهور بكنيته، قيل: اسمه عامر.
وقيل غير ذلك، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي موسى].
هو عبد الله بن قيس الأشعري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مشهور بكنيته، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
قوله: [قال أبو داود: وهو يونس عن أبي بردة، وإسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة].
معناه أن يونس يروي عن أبي بردة من غير واسطة أبي إسحاق، وأما إسرائيل فهو يروي عن أبي إسحاق عن أبي بردة، وهذا لا يؤثر، فقد قالوا: إن يونس سمع من أبي بردة.
ومعنى هذا أنه متصل، فالطريق الأولى فيها علو والطريق الثانية فيها نزول، والطريق النازلة أقوى من الطريق العالية؛ لأن إسرائيل في روايته عن جده أبي إسحاق مقدم على أبيه، إذ إنه ثقة وأبوه صدوق يهم قليلاً.(240/11)
شرح حديث تزويج النجاشي أم حبيبة رضي الله عنها الرسول صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن أم حبيبة رضي الله عنها أنها كانت عند ابن جحش فهلك عنها، وكان فيمن هاجر إلى أرض الحبشة، فزوجها النجاشي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي عندهم].
أورد أبو داود حديث أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما: أن النجاشي زوجها للرسول صلى الله عليه وسلم وكانت عندهم بأرض الحبشة.
ومحل الشاهد من إيراد الحديث في باب الولي قوله: [وزوجها النجاشي] يعني أنه كان هو ملك الحبشة وكان هو السلطان، وليس لها ولي، فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل عمرو بن أمية الضمري، وهو الذي وكله في قبول الزواج عنه صلى الله عليه وسلم، فيكون النجاشي هو الولي، ويكون الذي قبل الزواج للرسول صلى الله عليه وسلم هو عمرو بن أمية الضمري، فمحل الشاهد منه قوله: [فزوجها النجاشي] وهذا يدل على اعتبار الولي، وأيضاً هو مثل ما تقدم (فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له).
وقوله: [عن أم حبيبة أنها كانت عند ابن جحش فهلك عنها].
يعني: كانت مع عبيد الله بن جحش، وكان مسلماً كما كانت هي مسلمة، وهاجر إلى أرض الحبشة، ثم تنصر زوجها وهلك نصرانياً -والعياذ بالله- بعد أن ارتد عن الإسلام، وبقيت هناك، فزوجها النجاشي للنبي صلى الله عليه وسلم.(240/12)
تراجم رجال إسناد حديث تزويج النجاشي أم حبيبة رضي الله عنها الرسول صلى الله عليه وسلم
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن عروة].
مر ذكرهما.
[عن أم حبيبة].
هي أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، واسمها رملة بنت أبي سفيان، حديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(240/13)
بيان وتوضيح لحديث طلب أبي سفيان زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنته أم حبيبة
وقد جاء حديث في صحيح مسلم فيه أن أبا سفيان طلب من النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، قال: تؤمرني أن أقاتل الكفار كما قاتلت المسلمين، وتجعل معاوية كاتباً بين يديك، وتتزوج أم حبيبة.
وهذا يخالف ما جاء في الحديث الذي بين أيدينا.
فإن النجاشي زوجها برسول الله صلى الله عليه وسلم لأن أبا سفيان كان مشركاً، وليس له حق الولاية، والكافر ليس له حق الولاية على المسلمة، فالمرأة إذا كان أبوها كافراً فليس له أن يعقد النكاح لابنته المسلمة، فولاية المسلمة هي للمسلم، ولا يليها كافر ويعقد نكاحها وهو كافر.
وهذا الحديث الذي ذكر فيه قول أبي سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم تكلم فيه العلماء، وأوضح الكلام فيه ابن القيم وقال: إن هذا خطأ، وإن الرواية فيها غلط؛ لأن أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها وأرضاها تزوجت إما سنة ست وإما سنة سبع، وأبو سفيان لم يسلم إلا عام الفتح في السنة الثامنة، فهو غير مستقيم، ولهذا اعتبروه من الأحاديث التي هي خطأ في صحيح مسلم.
والصحيح أن الذي زوجها النجاشي، وأنها تزوجت قبل أن يسلم أبوها، وتكلم العلماء كلاماً كثيراً ذكره ابن القيم ورده، وقال: إن هذا ليس بصحيح، وإنما الذي يظهر أنه يقال: الأقرب فيه أنه خطأ.
وذكر أوجهاً لتأويله وقال: إنها بعيدة جداً لا تصح، وقد ذكر ذلك ابن القيم في كتابه (جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام)؛ لأنه ذكر عند ذكر الآل في قوله: (اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد) تراجم مختصرة لأمهات المؤمنين؛ لأنهن من جملة الآل، وعند كلامه على أم حبيبة وترجمته لها ذكر هذا الحديث الذي في صحيح مسلم، وذكر كلام العلماء فيه، وكذلك -أيضاً- ذكره في تهذيب السنن.(240/14)
العضل(240/15)
شرح حديث معقل بن يسار في قصة عضله أخته
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في العضل.
حدثنا محمد بن المثنى حدثني أبو عامر حدثنا عباد بن راشد عن الحسن حدثني معقل بن يسار رضي الله عنه قال: كانت لي أخت تخطب إلي، فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه، ثم طلقها طلاقاً له رجعة، ثم تركها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إلي أتاني يخطبها فقلت: لا والله لا أنكحها أبداً.
قال: ففي نزلت هذه الآية: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232] الآية.
قال: فكفرت عن يميني فأنكحتها إياه].
أورد أبو داود باب العضل، يعني عضل الأولياء، وعضل الأولياء هو منع الأولياء مولياتهم من الزواج، حين يتقدم لهن كفؤ فيمتنع لأي غرض من الأغراض، إما لأنه يريد أن يضارها، أو يريد أن يحصل مالاً، أو يريد أن يختارها لمن يريد خلاف رغبتها وخلاف رأيها، هذا هو العضل، فهو منع الولي المرأة من الزواج، وهو يكون من الأولياء كما هو معلوم.
وقد أورد أبو داود فيه حديث معقل بن يسار رضي الله عنه أنه كان له أخت، وكانت تخطب، فخطبها ابن عم لها فزوجها إياه، ثم إنه طلقها ابن عمها طلاقاً رجعياً فتركها حتى خرجت من العدة، ولما خرجت من عدتها تقدم من تقدم لخطبتها، وكان من جملة الخطاب زوجها الأول ابن عمها فحلف أن لا يزوجها إياه، كأنه غضب عليه لكونه يزوجها إياه ثم يطلقها ثم يرجع إليها، فأراد أن لا يزوجها إياه، فنزلت الآية في ذلك: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232].
فقوله تعالى: ((فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ)) يعني: خرجن من العدة، لأنه إذا كانت المطلقة في العدة فمن حق الزوج أن يراجعها، ولكنها تخرج من عصمته إلى أن يكون أمرها بيدها إذا خرجت من العدة.
وقوله تعالى: ((فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ)) يعني: إذا رغبن أن يعدن إلى أزواجهن إذا خطبوهن.
وقوله: ((أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ)) هو باعتبار ما كان، أي: أزاوجهن الذين طلقوهن.
فكفر معقل بن يسار عن يمينه التي حلف أن لا يزوجها ابن عمها هذا وزوجها إياه، وانتهى عن هذا الذي كان مصراً عليه وحالفاً عليه.
وهذا يدلنا على ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاستسلام والانقياد لحكم الله، وأنه إذا جاءهم النص وجاءتهم السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتعدونها ولا يتجاوزونها، ولو كانت تخالف ما يرغبون وما يشتهون؛ لأن هذا الذي جاء به القرآن مخالف لرغبته التي حلف عليها، وهي أن لا يزوجها؛ لأنه غضب على ذلك القريب لها، ولكنه لما جاء النص وجاء الحكم الشرعي استسلم وانقاد لحكم الله، فهذا دال على فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبلهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن أوضح دليل على اشتراط الولي، أو من أوضح الأدلة على اشتراط الولي هذه الآية؛ لأنه لو كان الأمر بيدها وهي ترغب في الزواج وأخوها يمنعها لما احتاجت إلى أخيها، بل ستزوج نفسها أو تعمل عملاً يوصلها إلى زوجها، ولكن المسألة صارت مرتبطة بهذا الولي، ولا سبيل إلى الوصول إلا عن طريق الولي، فنزل القرآن في نهي الأولياء عن العضل.
ومن عضل الأولياء مولياتهم ما يفعله بعض الآباء اليوم من المغالاة في المهور فيرجع الخطاب بسبب هذه المغالاة، وإذا لم تجد المرأة استجابة لرغبتها في زواجها من قبل وليها جاز لها أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي ليصبح هو وليها وتنتقل الولاية من أبيها، وللحاكم أن يزوجها.(240/16)
تراجم رجال إسناد حديث معقل بن يسار في قصة عضله أخته
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
هو محمد بن المثنى أبو موسى الزمن البصري العنزي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، رووا عنه مباشرة وبدون واسطة.
[حدثني أبو عامر].
هو أبو عامر العقدي، وهو عبد الملك بن عمرو، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عباد بن راشد].
عباد بن راشد صدوق له أوهام، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن الحسن].
هو الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني معقل بن يسار].
هو معقل بن يسار صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(240/17)
إنكاح الوليين(240/18)
شرح حديث (أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما)
قال رحمه الله تعالى: [باب إذا أنكح الوليان.
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام.
ح: وحدثنا محمد بن كثير أخبرنا همام.
ح: وحدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد -المعنى- عن قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما، وأيما رجل باع بيعاً من رجلين فهو للأول منهما)].
أورد أبو داود [باب إذا أنكح الوليان].
أي: إذا أنكح وليان فما الحكم؟ هل يفسخ النكاح مطلقاً أو يبطل نكاح أحدهما دون الآخر؟ هذا هو المقصود من الترجمة.
وأورد أبو داود حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه: [(أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما)] لأنه ما دام حصل العقد عليها فإنها صارت زوجة بذلك، فإذا حصل عقد آخر بعد ذلك فمعناه أنه جاء في غير محله، فتكون للأول منهما، لكن إذا حصل التزويج ولم يكن فيه متقدم ولا متأخر فإنه يكون لاغياً، ولكن حيث يكون أحدهما متقدماً والآخر متأخراً فإن الحكم يكون للمتقدم والآخر يكون عقده لاغياً.
والحديث في إسناده الحسن عن سمرة، ورواية الحسن عن سمرة فيها خلاف بين أهل العلم، والصحيح فيها أن حديث العقيقة ثابت سماعه منه، وأما غير ذلك فهو غير ثابت.
فالشيخ الألباني رحمه الله ضعف الحديث بسبب هذا، ولكن معناه صحيح، قال الترمذي: لا نعلم أحداً من أهل العلم قال بخلاف ذلك.
أي أنه متفق عليه، وهو كون العقد للأول.
وقوله: [(وأيما رجل باع بيعاً من رجلين فهو للأول منهما)].
معناه أنه إذا كان عند إنسان سلعة فباعها لرجل ثم باعها للثاني فهي للأول؛ لأن بيعها للثاني لم يكن في محله، فهي لم تعد في ملك البائع، وحينها باع ما لا يملك؛ فهي للأول منهما، لأن العقد تم فاستحقه الأول، والثاني جاء والعقد في غير محله.
ومعنى قوله: [(من رجلين)] أي: على رجلين.(240/19)
تراجم رجال إسناد حديث (أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا محمد بن كثير].
[ح] هي للتحول من إسناد إلى إسناد.
ومحمد بن كثير العبدي ثقة، مر ذكره.
[أخبرنا همام].
هو همام بن يحيى العوذي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة؛ لأن حماداً إذا جاء موسى بن إسماعيل يروي عنه فالمراد به حماد بن سلمة، وهذا الذي يسمونه (المهمل) في علم المصطلح، يذكر الشخص باسمه ولا يذكر معه اسم أبيه فيلتبس بغيره.
ويطلق اسم حماد على حماد بن زيد وحماد بن سلمة، وهما في زمن واحد وفي بلد واحد، ومتماثلان في الشيوخ والتلاميذ، ولكن حيث جاء موسى بن إسماعيل يروي عن حماد فإنه يحمل على حماد بن سلمة وليس على حماد بن زيد.
وحماد بن سلمة ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
وقوله: [المعنى] معناه أن هؤلاء الرواة ليسوا متفقين في الألفاظ، وإنما روايتهم متفقة في المعنى؛ لأنها ثلاث طرق، وهذه الطرق الثلاث متفقة في المعنى.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
هو الحسن بن أبي الحسن البصري، مر ذكره.
[عن سمرة].
هو سمرة بن جندب رضي الله عنه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(240/20)
قوله تعالى: (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن)(240/21)
شرح حديث تفسير ابن عباس لآية إرث النساء كرهاً وعضلهن
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [النساء:19].
حدثنا أحمد بن منيع حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما -قال الشيباني: وذكره عطاء أبو الحسن السوائي، ولا أظنه إلا عن ابن عباس - في هذه الآية: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} قال: كان الرجل إذا مات كان أولياؤه أحق بامرأته من ولي نفسها، إن شاء بعضهم زوجها أو زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، فنزلت هذه الآية في ذلك].
أورد أبو داود [باب قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}] والمقصود من ذلك بيان تفسير هذه الآية وبيان سبب نزولها، وأنه كان من عادات الجاهلية أن من تزوج امرأة ثم مات عنها فإن ورثته أحق بها من نفسها، وكانوا يمسكونها فيتزوجها من أراد منهم أو يزوجونها، فجاء الإسلام وأبطل ذلك، فإذا مات زوجها رجع الأمر إلى وليها، فيرجع الأمر إلى ما كان عليه قبل الزواج الأول، لا أن تنتقل الولاية إلى أهل الزوج فيرثون بضعها بأن يتزوجها أحدهم أو يزوجها، وإنما يرجع إلى أوليائها وإليها هي حيث تختار من ترضاه فيزوجها وليها.
فهذا من عادات الجاهلية التي أبطلها الإسلام، والجاهلية كان فيها أمور أقرها الإسلام، ومنها أن الولي كان معتبراً في الجاهلية وجاء الإسلام واعتبره، كما جاء في حديث عائشة في صحيح البخاري.
وفي هذا الحديث يذكر بعض الأمور التي كانت في الجاهلية في مسألة الولاية فألغاها الإسلام وأبطلها، حيث حرم عليهم أن يرثوا بضعها ويرثوا الولاية عليها، بل عندما يموت زوجها يرجع الأمر إلى ما كان عليه قبل الزواج، حيث تكون الولاية لوليها، وليس لأولياء الزوج تسلط عليها.
قوله: [كان الرجل إذا مات كان أولياؤه أحق بامرأته من ولي نفسها].
ولي نفسها هو أبوها أو أخوها أو الذي يزوجها.
قوله: [إن شاء بعضهم زوجها أو زوجوها].
أي: إن شاء بعضهم زوجها غيره أو تزوجها هو، أو هم يتولون تزويجها.
فمعناه أن الأمر يرجع إلى ورثته، وهم الذين يتولون التصرف فيها إما بتزوجها وإما بتزويجها من يشاءون ويأخذون مهرها.
وقوله: [وإن شاءوا لم يزوجوها].
أي: إن شاءوا عضلوها ومنعوها من الزواج.(240/22)
تراجم رجال إسناد حديث تفسير ابن عباس لآية إرث النساء كرهاً وعضلهن
قوله: [حدثنا أحمد بن منيع].
أحمد بن منيع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أسباط بن محمد].
هو أسباط بن محمد القرشي، ثقة ضعف في الثوري، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الشيباني].
هو سليمان بن أبي سليمان الشيباني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحابه الكرام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [قال الشيباني: وذكره عطاء أبو الحسن السوائي].
هذه طريق أخرى، عطاء أبو الحسن السوائي مقبول أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.(240/23)
شرح حديث ابن عباس في تفسير آية إرث النساء كرهاً وعضلهن من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن ثابت المروزي حدثني علي بن حسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء:19] وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها، فأحكم الله عن ذلك ونهى عن ذلك].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى عن ابن عباس، وفيه أنه كان في الجاهلية يرث الرجل امرأة قريبه، فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه المهر، ومعناه أنهم كانوا يتصرفون فيها وأمرها إليهم وليس إلى ولي نفسها.
قوله: [فأحكم الله عن ذلك ونهى عن ذلك].
معناه أنه أحكم هذا الأمر وأنزل الشيء الذي فيه القضاء عليه والنهي عنه، وأن الأمر يرجع إلى ما كان عليه قبل التزويج، حيث ترجع الولاية إلى الذين لهم حق تزويجها شرعاً.(240/24)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في تفسير آية إرث النساء كرهاً وعضلهن من طريق ثانية
قوله: [حدثنا أحمد بن ثابت المروزي].
هو أحمد بن محمد بن ثابت المروزي، وهو ابن شبويه الذي سيأتي في الإسناد الذي بعد هذا، وهو ثقة أخرج له أبو داود.
[حدثني علي بن حسين بن واقد].
علي بن حسين بن واقد صدوق، يهم أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه ثقة له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد النحوي].
هو يزيد بن أبي سعيد، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عكرمة عن ابن عباس].
وقد مر ذكرهما.(240/25)
شرح حديث ابن عباس في تفسير آية إرث النساء من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن شبويه المروزي حدثنا عبد الله بن عثمان عن عيسى بن عبيد عن عبيد الله مولى عمر عن الضحاك بمعناه، قال: فوعظ الله ذلك].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه قال: [فوعظ الله ذلك] أي: وعظ في ذلك، يعني: أنزل شيئاً فيه وعظ الناس وتذكيرهم وإخبارهم بما يجب عليهم أن يسلكوه، حيث قال تعالى: ((لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا)) هذا هو المقصود بقوله: [فوعظ الله ذلك] أي: وعظ في ذلك.
وقد تكون كلمة (وعظ) قد ضمنت معنى (منع).(240/26)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في تفسير آية إرث النساء من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا أحمد بن شبويه المروزي].
هو أحمد بن محمد بن ثابت المروزي الذي مر في الإسناد السابق، وهو منسوب إلى جده ثابت في الإسناد الأول؛ لأنه قال: أحمد بن ثابت وهو: [أحمد بن محمد بن ثابت].
وإذا رجع المتأمل إلى التقريب للبحث عن أحمد بن ثابت لا يجد أحداً روى له أبو داود بهذا الاسم، وإنما يجد شخصاً واحداً روى له ابن ماجة هو أحمد بن ثابت.
فالشخص قد يكون منسوباً إلى جده كما حصل هنا، لأنه منسوب إلى جده، فإذا بحث عنه وحصل اسم أبيه فإنه يجد الترجمة عند ذكر اسم أبيه.
ويقال له: أحمد بن شبويه كما جاء في الإسناد الثاني؛ لأن أحمد بن ثابت هو أحمد بن شبويه فهو شخص واحد عبر عنه في الإسناد بـ أحمد بن ثابت منسوباً إلى جده وعبر عنه بـ ابن شبويه بهذا الذي اشتهر به، وهو ثقة أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الله بن عثمان].
هو عبد الله بن عثمان المروزي، ولقبه عبدان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن عيسى بن عبيد].
عيسى بن عبيد صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عبيد الله مولى عمر].
هو عبيد الله مولى عمر بن مسلم الباهلي، وهو مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن الضحاك بن مزاحم].
الضحاك بن مزاحم صدوق كثير الإرسال، أخرج له أصحاب السنن.
ولكن هذه الطريق هي بمعنى الطرق السابقة، فكونها فيها مجهول أو فيها صدوق كثير الإرسال لا يؤثر فيها؛ لأن معناها مطابق لما جاء في الروايات السابقة، فالذي فيها موجود في الروايات السابقة الثابتة.(240/27)
الأسئلة(240/28)
الإذن في الوكالة عن الولي في الزواج
السؤال
هل يلزم الوكيل عن الولي أن يحصل على الإذن من الولي في التوكيل؟
الجواب
الوكيل لا يكون وكيلاً إلا بإذن من الولي، والوكالة العامة هنا لا تكفي، فتولي العقد للمرأة يحتاج إلى توكيل خاص.(240/29)
حكم الدخول بالمعقود عليها دون ولي
السؤال
إذا أصاب رجل امرأة قد عقد عليها بدون ولي فهل يفسخ العقد ويعيده مرة أخرى مع وجود الولي، أو إن رضي الولي كفى العقد الأول؟
الجواب
لا يكفي العقد الأول، بل لو تزوجت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل، فهي لو زوجت نفسها فلا يصح لها ذلك؛ لأن هذا مخالف لما جاءت به السنة ولما جاء في القرآن الكريم، ولكنه يكون -كما هو معلوم- نكاح شبهة، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (فإن دخل بها فلها المهر بما أصاب منها).(240/30)
حكم ولاية الابن لأمه في الزواج
السؤال
هل الابن يكون ولياً لأمه؟
الجواب
نعم يكون ولياً إذا كان بالغاً؛ لأنه من عصبتها.(240/31)
استواء الولاية على البكر والولاية على الثيب
السؤال
هل يفرق في الولاية بين البكر والثيب؟
الجواب
ولي البكر هو ولي الثيب، والولاية على الثيب والولاية على البكر واحدة.(240/32)
حكم ولاية تارك الصلاة
السؤال
إذا كان أبو المرأة تاركاً للصلاة فهل يكون ولياً؟
الجواب
لا يكون ولياً إذا كان تاركاً للصلاة، بل تنتقل الولاية إلى غيره.(240/33)
حكم عقد الرجل النكاح لأخت زوجته وما يصنع فيه
السؤال
لي عمة في جِدَّة لم يعقد لها وليها، وإنما عقد لها زوج أختها، وهو أجنبي عنها، ولها الآن بنت عمرها ثمان سنوات، وإخوانها خارج المملكة، وقد مات أبوها ولا ابن لها، فمن يعقد لها؟ وهل يجوز لي أن أعقد لها؟
الجواب
يرجع الأمر في هذا إلى المحكمة، وهي التي تتخذ ما تراه حول الزواج السابق وحول الذي حصل وحول ما يستقبل.(240/34)
حكم تزويج القاضي المرأة لرجل رفضه وليها
السؤال
تزوج رجل من امرأة بغير إذن وليها، وكان القاضي هو وليها، والسبب أن وليها رفض الزواج بسبب التزامه وأنه ذو لحية، فهل يصح هذا النكاح؟
الجواب
إذا كان القاضي قد زوجها فالزواج صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فالسلطان ولي من لا ولي له) وإذا كان العضل قد حصل من الأب لأشياء معينة في الزوج فليراجع في ذلك القاضي، وإذا كان هناك اعتراض على هذا فليراجع من فوق القاضي.(240/35)
الترتيب في ولاية الأولياء
السؤال
قوله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما)، أليس فيه اعتبار الترتيب بين الأولياء كالأب والأخ مثلاً؟
الجواب
الأصل هو اعتبار الترتيب، فليس لأحد أن يتعدى، لكن من حيث العموم فالأخ يعتبر ولياً، ولكن ولايته متأخرة.(240/36)
شرح سنن أبي داود [241]
حفظ الإسلام حق المرأة في اختيار الزوج والرضا به، فلا يجوز إجبارها على أن تنكح رجلاً لا ترضاه، بل يجب على الولي أن يستأذنها في أمر نكاحها، ويكفي للدلالة على رضا البكر سكوتها.(241/1)
استئمار الثيب والبكر في النكاح(241/2)
شرح حديث (لا تنكح الثيب حتى تستأمر ولا البكر إلا بإذنها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الاستئمار.
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان حدثنا يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا البكر إلا بإذنها.
قالوا: يا رسول الله! وما إذنها؟ قال: أن تسكت)].
يقول الإمام أبو داود رحمه الله: [باب في الاستئمار].
والاستئمار هو طلب الأمر من المرأة حين يعرض عليها الأزواج بأن توافق أو ترفض.
والاستئمار غالباً يأتي مع الثيبات؛ لأنهن اللاتي لابد لهن من أن ينطقن وأن يتكلمن بما يردنه من الرغبة فيمن يعرض عليهن أو الرفض، وأما الأبكار فقد جاء كثيراً التعبير في حقهن بالاستئذان، وجاء في بعض الأحاديث الاستئمار، لكن لا يلزم في حق البكر أنها تنطق كما هو مطلوب من الثيب، وإنما يكفي أن تصمت وأن تسكت؛ لأن الأبكار يغلب عليهن الحياء؛ لأن هذا شيء جديد عليهن، بخلاف الثيبات، فقد سبق لهن أن عاشرن الأزواج واتصلن بالأزواج فصارت الثيب يعبر عن طلب رأيها بالاستئمار، وأنه لابد من نطقها بما تريد، وأما الأبكار فيعبر في حقهن بالاستئذان، ويعبر بالاستئمار، لكنه لا يلزمها ما يلزم الثيب من النطق، بل إن نطقت فقد تبين مرادها بنطقها، وإن لم تنطق ولكنها سكتت لما يغلب عليها من الحياء فإن ذلك يكون كافياً، كما جاء بيان ذلك في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد الإمام أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا البكر إلا بإذنها.
قالوا: يا رسول الله! وما أذنها؟ قال: أن تسكت)، فهذا الحديث فيه الحكم المتعلق بالثيبات والحكم المتعلق بالأبكار، وفيه التفريق بين الثيبات والأبكار؛ لأن الثيبات مطلوب نطقهن وإفصاحهن بما يردن من الرغبة أو الامتناع، وأما الأبكار فإن حصل منهن النطق فقد اتضح مرادهن بنطقهن، وإن لم يحصل منهن وسكتن فسكوتهن يعتبر دليلاً على رضاهن.
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن إذنها أن تصمت، وأنه لا يلزم أن تنطق كما يلزم في حق الثيب، وعلى هذا فالحديث واضح في التفريق بين الثيبات والأبكار؛ لأن الثيبات لابد لهن من النطق، ولهذا يأتي التعبير بالاستئمار أو بالأمر بأنها تستأمر، وأما الأبكار فإنه يأتي التعبير في حقهن بالإذن والتعبير بالاستئمار أو بالأمر، ولكن نطقهن ليس بلازم، بل يكفي السكوت والصمت، فهو دليل على موافقتها وعدم امتناعها، وأما إن رفضت وتكلمت وقالت: إنها لا تريد فإنها لا تجبر ولا تلزم.(241/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تنكح الثيب حتى تستأمر ولا البكر إلا بإذنها)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبان].
هو أبان بن يزيد العطار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن يحيى].
هو يحيى بن أبي كثير اليمامي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو مدني ثقة، من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة] هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(241/4)
شرح حديث (تستأمر اليتيمة في نفسها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو كامل حدثنا يزيد -يعني ابن زريع -.
ح: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد -المعنى- حدثني محمد بن عمرو حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها) والإخبار في حديث يزيد].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(تستأمر اليتيمة في نفسها)]، والمقصود باليتيمة التي مات أبوها ووليها غيره، فإنه يستأمرها، يعني: يطلب منها أن تخبر بالرغبة فيمن يعرض عليها من الأزواج أو الرفض، والمقصود باليتيمة باعتبار ما كان؛ لأنها لا تستأذن وهي في حال يتمها، ولكنه باعتبار ما كان لها من اليتم، وإنما يكون ذلك بعد البلوغ، فبعد بلوغها تستأمر وتستأذن، ولا يلزم أن تنطق، بل يكفي أن تصمت، وعبر عنها باليتم باعتبار ما كان، وهو ما قبل البلوغ؛ لأن هذا الوصف كان معها، فعوملت بعد بلوغها معاملة ما كان قبل البلوغ من إطلاق اليتم عليها.
وهذا نظير قول الله عز وجل: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2]، ومعلوم أن اليتيم لا يعطى ماله إلا بعد أن يبلغ ويرشد، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]، ومعناه أنه بعد البلوغ، ولكنه أطلق اليتم باعتبار ما كان لا باعتبار الحال، أي أنه كان يتيماً فيما مضى فاستعمل معه هذا الوصف بعد البلوغ.
قوله: [(تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فهو إذنها)].
هذا يدل على أن سكوت الأبكار إذن منهن، وأنه لا يلزم النطق، وهذا فيه -كما أشرت- أن الاستئمار يطلق أيضاً في حق من لا يلزمه النطق.
قوله: [(وإن أبت فلا جواز عليها)].
يعني: لا تجبر على الزواج، فما دام أنها رفضت وأنها لم توافق وامتنعت عن الزواج بمن عرض عليها فإنه لا جواز عليها، فلا يجوز أن تجبر على تزويجها.(241/5)
تراجم رجال إسناد حديث (تستأمر اليتيمة في نفسها)
قوله: [حدثنا أبو كامل].
هو فضيل بن حسين، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن يزيد -يعني ابن زريع -].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح: وحدثنا موسى بن إسماعيل].
قوله: [ح] هي للتحول من إسناد إلى إسناد.
وموسى بن إسماعيل هو التبوذكي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن بن سلمة بن دينار البصري، ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
وحماد هنا مهمل غير منسوب، والشخص إذا ذكر باسمه دون اسم أبيه يقال له: (مهمل) أو ذكر باسمه واسم أبيه ولكنه لم يؤت بما يزيد توضيحه فإنه -كذلك- يقال له: (مهمل)، أي أنه أهمل من أن يتميز عن غيره ممن يشابهه ويماثله.
وموسى بن إسماعيل إذا جاء يروي عن حماد وهو غير منسوب فالمراد به حماد بن سلمة وليس حماد بن زيد.
والمزي في تحفة الأشراف لما ذكر ترجمة حماد بن سلمة بعد ترجمة حماد بن زيد وهما متجاورتان في تهذيب الكمال ذكر فصلاً في تمييز هذا من هذا، وذلك بمعرفة الرواة الذين يروون عنه، فإذا روى فلان وفلان عن فلان فهو حماد بن زيد، وإذا روى فلان وفلان وفلان عن حماد غير منسوب فهو حماد بن سلمة.
قوله: [المعنى].
أي: المعنى واحد.
يعني: الطريق التي فيها أبو كامل عن يزيد بن زريع والطريق الثانية التي فيها موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة المعنى فيهما واحد، فهاتان طريقان متفقتان في المعنى مع الاختلاف في الألفاظ.
[حدثني محمد بن عمرو].
هو محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، وهو صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة].
وقد مر ذكرهما في الإسناد الذي قبل هذا.(241/6)
شرح قوله (والإخبار في حديث يزيد)
قوله: [والإخبار في حديث يزيد].
يعني أن لفظ الإخبار -وهو قوله: حدثني محمد بن عمرو - جاء في الطريق الأولى طريق يزيد بن زريع الذي هو شيخ شيخ أبي داود في الإسناد الأول.
والطريق الثانية التي لم يسق لفظها هي بالعنعنة، والعنعنة -كما هو معلوم- لا تؤثر في رواية الأشخاص الذين لا يعرفون بالتدليس.
ولكن هذا من دقة المحدثين وعنايتهم ببيان كون راو قال: (حدثني) أو (أخبرني) وآخر قال: (عن)، والمقصود من ذلك بيان الواقع والحقيقة.
ولهذا نجد في بعض الأحاديث أنه إذا كان الفرق بين الراويين بأن قال أحدهما: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) والثاني قال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم) فإنهم يميزون بين هذا وهذا، وهذا كله من العناية بالضبط والتحديث بما سمعوه، وأنهم يتقيدون بالألفاظ حتى في التفريق بين كون هذا عبر بالرسول وهذا عبر بالنبي، مع أن التعبير بالنبي والتعبير بالرسول واحد، فيستوي قوله: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا)، وقوله: (قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا)، ولا فرق، لكن هذا من العناية والدقة منهم رحمة الله عليهم.(241/7)
شرح حديث استئمار اليتيمة من طريق ثانية وتراجم رجاله
[قال أبو داود: وكذلك رواه أبو خالد سليمان بن حيان ومعاذ بن معاذ عن محمد بن عمرو].
أبو خالد سليمان بن حيان هو أبو خالد الأحمر، وهو صدوق يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومعاذ بن معاذ].
هو معاذ بن معاذ العنبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عمرو].
مر ذكره.(241/8)
شرح حديث استئمار اليتيمة من طريق ثالثة وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء حدثنا ابن إدريس عن محمد بن عمرو بهذا الحديث بإسناده، زاد فيه قال: (فإن بكت أو سكتت)، زاد (بكت).
قال أبو داود: وليس (بكت) بمحفوظ، وهو وهم في الحديث، والوهم من ابن إدريس أو من محمد بن العلاء].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله إلا أن فيه ذكر البكاء، حيث قال: [(فإن بكت)]، وهذا لم يرد في الروايات الأخرى، ولهذا قال أبو داود: إنه غير محفوظ.
والمحفوظ ذكر الصمت والسكوت، وأما البكاء فلم يأت إلا في هذه الرواية، وقال: إنه وهم.
وقال: إن الوهم من محمد بن العلاء أو من شيخه عبد الله بن إدريس.
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إدريس].
هو عبد الله بن إدريس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عمرو بهذا الحديث بإسناده].
محمد بن عمرو مر ذكره.(241/9)
شرح حديث (سكاتها إقرارها)
[قال أبو داود: ورواه أبو عمرو ذكوان عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله! إن البكر تستحيي أن تتكلم! قال: (سكاتها إقرارها)].
هذا موافق لما تقدم من أن البكر إذنها صماتها كما سبق أن مر في الحديث الأول، حيث قالوا: وما إذنها؟ قال: (أن تسكت)، وأنه لا يلزم نطقها.(241/10)
تراجم رجال إسناد حديث (سكاتها إقرارها)
قوله: [ورواه أبو عمرو ذكوان].
أبو عمرو ذكوان هو مولى عائشة، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وإسناد هذا الحديث معلق.(241/11)
شرح حديث (آمروا النساء في بناتهن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا معاوية بن هشام عن سفيان عن إسماعيل بن أمية حدثني الثقة عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (آمروا النساء في بناتهن)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آمروا النساء في بناتهن)].
أي: أمهات البنات اللاتي يراد تزويجهن يرجع إلى أمهاتهن ويؤخذ رأيهن في المتقدمين للخطبة وهل يوافقن أو لا يوافقن.
هذا هو المقصود من الحديث، والحديث غير ثابت؛ لأن فيه هذا المبهم الذي قال عنه إسماعيل بن أمية: [حدثني الثقة].
وما ذكر في الحديث من أخذ رأي الأمهات هو من حسن العشرة ومن تطييب النفس، فهذا لا بأس به، لكن ليس بلازم مثل لزومه في حق البنات حيث يستأمرن ويستأذنَّ ويطلب منهن الموافقة.
فلا يلزم أن توافق الأمهات، ولكن كونهن يستشرن وكونهن يذكر لهن ذلك ويؤخذ رأيهن لا بأس به، فإن وافقت الأم فذاك، وإن كانت المصلحة في التزويج فإنه لا يلزم لو امتنعت أن يحصل الامتناع عن التزويج بسبب امتناعها، لكنه من تطييب الخاطر والمعاملة الطيبة فهذا أمر مطلوب، ولكن لا يكون متعيناً ولازماً بحيث لو رفضت لا يكون زواج ولا يَتِمُّ، وأن الأمر معها كالأمر مع البنت في أنها تستأمر.
والحديث -كما عرفنا- فيه مبهم، والرواية ولو كانت بلفظ التوثيق في المبهم فإنها لا تعتبر؛ لأنه قد يكون ثقة عنده مجروحاً عند غيره، ولو ذكره وبينه فإنه قد يعرف أنه غير ثقة، فالتوثيق مع الإبهام غير معتبر، والسر في ذلك أنه قد يكون ثقة عنده ومجروحاً عند غيره.(241/12)
تراجم رجال إسناد حديث (آمروا النساء في بناتهن)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
هو عثمان بن أبي شيبة الكوفي، ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي، وأخرج له النسائي في (عمل اليوم والليلة).
[حدثنا معاوية بن هشام].
معاوية بن هشام صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سفيان].
هو الثوري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسماعيل بن أمية].
إسماعيل بن أمية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني الثقة عن ابن عمر].
ابن عمر هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم: عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وهو -أيضاً- أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(241/13)
البكر يزوجها أبوها ولا يستأمرها(241/14)
شرح حديث تخيير النبي صلى الله عليه وسلم للجارية التي زوجها أبوها كرهاً
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في البكر يزوجها أبوها ولا يستأمرها: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا حسين بن محمد حدثنا جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن جارية بكراً أتت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي [باب في البكر يزوجها أبوها ولا يستأمرها] يعني: ما حكمه؟ هل ذلك سائغ أو غير سائغ؟ ومطابقته للترجمة من جهة أن الأب زوجها دون أن يستأمرها، ولكن خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل هذا على أن الأمر يحتاج إلى استئمار حتى من الأب، فإنه يستأذنها، وإن زوجها من غير استئمار ورفعت الأمر إلى القاضي فإن لها الخيار كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أورد أبو داود حديث ابن عباس: (أن جارية بكراً أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم)]، فجعل الأمر إليها، أي: إن أرادت أن تبقى على نكاحها بقيت، وإن أرادت أن تتخلص منه فإنه لها التخلص منه.
وهذا يدلنا على أن الأبكار يستأذن ولو كان الولي هو الأب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خير هذه الجارية في البقاء من عدمه، فدل على أنه يحتاج إلى استئمار حتى لا يحتاج إلى التخلص بهذه الطريقة التي هي تخييرها فيما بعد.
والتقييد بالبكر لا يعني أن الثيب تزوج بغير رضاها، بل الثيب لابد في حقها من الاستئمار، وعرفنا فيما مضى أنه لابد من أن تنطق أيضاً، ولا يكفي أن تسكت.
وإنما المقصود أن البكر هي التي قد يكون أمرها مختلفاً باعتبار أنها تستحي وأنه قد يتساهل في أمرها ويتهاون في أمرها، بخلاف الثيب فإنه لابد من استئذانها ولابد من نطقها أيضاً، ولكن هنا لبيان أن البكر التي يغلب عليها الحياء والتي يكفي في حقها أن تصمت لابد من استئذانها، وأنها لو زوجت من غير موافقتها فإنها مخيرة فيما بعد.(241/15)